مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

والمعتزلة حيث قالوا : لا يحسن من الله تعالى خلق الكفر وتزيينه (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ) بالبعث بعد الموت (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٠٨) في الدنيا على الاستمرار من السيئات المزينة لهم فأعمال الكفرة قد برزت لهم في هذه النشأة بصورة مزينة يستحسنها الغواة ويستحبها الطغاة ، وستظهر في النشأة الآخرة بصورتها الحقيقية المنكرة الهائلة فعند ذلك يعرفون أن أعمالهم ماذا.فعبر عن إظهارها بصورها الحقيقية بالإخبار بها لما أن كلا منهما سبب للعلم بحقيقتها كما هي (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي قسم كفار مكة بالله غاية أيمانهم (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) أي معجزة كما طلبوا (لَيُؤْمِنُنَّ بِها) أي قالوا لسيدنا رسول الله : إن هذا القرآن كان أمره فليس من جنس المعجزات ألبتة ، ولو أنك يا محمد جئتنا بمعجزة قاهرة لآمنا بك وحلفوا على ذلك. وقال محمد بن كعب القرظي : قالت قريش : يا محمد إنك تخبرنا أن موسى ضرب الحجر بالعصا فانفجر الماء وأن عيسى أحيا الميت وأن صالحا أخرج الناقة من الجبل فأتنا بآية لنصدقك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما الذي تحبون؟» فقالوا : أن تجعل لنا الصفا ذهبا ، وحلفوا لئن فعل ليتبعونه أجمعون فقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو فجاءه جبريل فقال : إن شئت كان ذلك ولئن كان فلم يصدقوك ليعذبهم الله ، وإن تركتهم تاب الله على بعضهم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل يتوب على بعضهم» فأنزل الله تعالى هذه الآية (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) أي إنه تعالى هو مختص بالقدرة على أمثال هذه الآيات دون غيره (وَما يُشْعِرُكُمْ) أي أيّ شيء يعلمكم أيها المؤمنون بإيمانهم أي لا تعلمون ذلك (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠٩).

قرأ ابن كثير وأبو عمرو «إنها» بكسر الهمزة على الاستئناف. والباقون بالفتح فهي بمعنى لعل ويقوي هذا الوجه قراءة أبي لعلها إذا جاءتهم لا يؤمنون (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) أي وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يفهمونه ونقلب أبصارهم عن اجتلاء الحق فلا يبصرونه (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ) أي بما جاء صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات (أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي فلا يؤمنون عند نزول مقترحهم لو نزل كما لم يؤمنوا عند نزول الآيات السابقة على اقتراحهم كانشقاق القمر (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١٠) أي نتركهم في ضلالهم متحيرين لا نهديهم هداية المؤمنين (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) كما طلبوا فشهدوا على ما أنكروا (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) من القبور كما طلبوا بأن محمدا رسول الله والقرآن كلام الله (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً). قرأ عاصم وحمزة الكسائي بضمتين أي وجمعنا على المستهزئين زيادة على ما اقترحوه كل شيء من أصناف المخلوقات

__________________

والنار ، والترمذي في كتاب الجنّة ، باب : ٢١ ، والنسائي في كتاب الأيمان ، باب : الحلف بعزة الله تعالى ، والدارمي في كتاب الرقاق ، باب : في نفس جهنم ، وأحمد في (م ٢ / ص ٢٦٠).

٣٤١

كالسباع والطيور كفلاء بصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أو المعنى وحشرنا عليهم كل شيء نوعا من سائر المخلوقات.

وقرأ نافع وابن عامر «قبلا» بكسر القاف وفتح الباء أي حال كون الكفار معاينين للأصناف (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) بمحمد والقرآن (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) إيمانهم. أي ولو أظهر الله جميع تلك الأشياء العجيبة الغريبة لهؤلاء الكفار فإنهم لا يؤمنون في حال من الأحوال الداعية إلى الإيمان إلا في حال مشيئته تعالى لإيمانهم. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (١١١) أي إن الكفار لو أتوا بكل آية لم يؤمنوا ولكن أكثر المسلمين يجهلون عدم إيمانهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى لإيمانهم فيتمنون مجيئها طمعا فيما لا يكون.

قال ابن عباس : المستهزؤون بالقرآن كانوا خمسة : الوليد بن المغيرة المخزومي ، والعاص بن وائل السهمي ، والأسود بن عبد يغوث الزهري ، والأسود بن المطلب ، والحرث بن حنظلة ، ثم إنهم أتوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رهط من أهل مكة وقالوا له : أرنا الملائكة يشهدوا بأنك رسول الله وابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم أحق ما تقوله أم باطل؟ أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا أي كفيلا على صحة ما تدعيه فنزلت هذه الآية (وَكَذلِكَ) أي كما جعلنا المستهزئين عدوا لك (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) أي جعلنا لكل نبي تقدمك عدوا مردة من الإنس والجن. فشياطين الإنس أشد تمردا من شياطين الجن ، لأن شيطان الجن إذا عجز عن إغواء المؤمن الصالح استعان على إغوائه بشيطان الإنس ليفتنه ، وإضافة شياطين بمعنى من البيانية وهي بدل من «عدوا» وهو مفعول أول قدم على الثاني مسارعة إلى بيان العداوة (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) أي يلقي شياطين الجن إلى شياطين الإنس تزيين القول بالباطل لكي يغروا به الإنس (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) عدم تزيين القوم لأجل الغرور (ما فَعَلُوهُ) أي تزيين القول المتعلق بأمرك خاصة (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (١١٢) أي اترك الكفرة المستهزئين وافتراءهم بأنواع المكايد فإن لهم في ذلك عقوبات شديدة ولك عواقب حميدة (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي ولكي تميل إلى هذا الزخرف قلوب الذين لا يؤمنون بالبعث بعد الموت (وَلِيَرْضَوْهُ) أي هذا الزخرف لأنفسهم (وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) (١١٣) أي وليكتسبوا بسبب ارتضائهم له ما هم مكتسبون من الأيام فيعاقبوا عليها (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) أي قل لهم أأميل إلى زخارف الشياطين فأطلب حكما غير الله يحكم بيننا. والحال أنه تعالى هو الذي أنزل إليكم القرآن وأنتم أمة أمية لا تدرون ما تأتون وما تذرون مبينا فيه الحق والباطل فلم يبق في أمور الدين شيء من الإبهام ، فأي حاجة بعد ذلك إلى الحكم وهو والحاكم عند أهل اللغة واحد لكن بعض أهل التأويل قال : الحكم أكمل من الحاكم لأن

٣٤٢

الحكم لا يحكم إلا بالحق والحاكم قد يجوز ، ولأن الحكم من تكرر منه الحكم والحاكم يصدق بمرة (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي التوراة والإنجيل والزبور (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي القرآن (مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ) ملتبسا (بِالْحَقِ).

قرأ ابن عامر وحفص «منزل» بتشديد الزاي. والباقون بسكون النون (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (١١٤) أي من الشاكين في أن علماء أهل الكتاب يلعمون أن هذا القرآن حق وأنه منزل من عند الله (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) أي كفى القرآن من جهة صدقه في أخباره ومن جهة عدله في أحكامه ، وكفى في بيان ما يحتاج المكلفون إليه إلى قيام القيامة علما وعملا وفي كونها معجزة دالة على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قرأ عاصم وحمزة والكسائي «كلمت» على التوحيد دون ألف. والباقون بألف على الجمع و «ترسم» بالتاء المجرورة على كل من قراءة الجمع وقراءة الإفراد ، وكذا كل موضع اختلف فيه القراء جمعا وإفرادا (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي لا أحد يبدل شيئا من القرآن بما هو أصدق وأعدل ولا بما هو مثله (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١١٥) بالمقال والأعمال (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) أي وإن تطع يا أشرف الخلق كفار الناس فيما يعتقدونه من إحقاق الباطل وإبطال الحق (يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن الطريق الموصل إلى الله (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي ما يتبعون في إثبات مذهبهم إلا رجوعهم إلى تقليد أسلافهم وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق فهم على آثارهم مقتدون (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (١١٦) أي يكذبون فإن رؤساء أهل مكة ـ منهم أبو الأحوص مالك بن عوف الجشمي ، وبديل بن ورقاء الخزاعي وجليس بن ورقاء الخزاعي ـ قالوا للمؤمنين : إن ما ذبح الله خير مما تذبحون أنتم بسكاكينكم.

وروي أن المشركين قالوا للنبيّ : أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال : «الله قتلها» (١). قالوا : أنت تزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتلها الكلب والصقر حلال وما قتله الله حرام (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١١٧) أي فإن هؤلاء الكفار كاذبون في ادعاء اليقين والله عالم بكونهم متحيرين في سبيل الضلال تائهين في أودية الجهل ، أي فإنك إذا عرفت ذلك ففوّض أمرهم إلى خالقهم لأنه عالم بالمهتدى والضلال فيجازي كل واحد بما يليق بعمله (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) (١١٨) وهذا أمر متفرع من النهي عن اتباع المضلين ، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين : إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتله الله أحق أن تأكلوه مما قتلتموه أنتم. فقال الله للمسلمين : إن كنتم متحققين بالإيمان فكلوا مما

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٣ : ٤٢) ، والطبري في التفسير (٨ : ١٣).

٣٤٣

ذكر اسم الله عليه وهو المذكى ببسم الله خاصة لا مما ذكر عليه اسم غيره فقط أو مع اسمه تعالى أو مات حتف أنفه. (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) أي وأيّ سبب حاصل لكم في أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وأن تأكلوا من غيره. والحال أنه قد بيّن لكم ما حرم عليكم بقوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) [الأنعام : ١٤٥] فهذا وإن كان متأخرا في التلاوة فلا يمنع أن يكون هو المراد لأن التأخر في هذا قليل. وأيضا التأخر في التلاوة لا يوجب التأخر في النزول ، أو بقوله تعالى في أول سورة المائدة : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] الآية. لأن الله تعالى علم أن سورة المائدة متقدمة على سورة الأنعام في الترتيب لا في النزول. (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) أي إلا ما دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة مما حرم عليكم فهو حلال لكم.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ببناء «فصل» و «حرم» للمفعول. ونافع وحفص عن عاصم ببنائهما للفاعل. وحمزة والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ببناء الفعل الأول للفاعل وبناء الثاني للمفعول (وَإِنَّ كَثِيراً) من الذين يناظرونكم في إحلال الميتة ويقولون لما حل ما تذبحونه أنتم فبأن يحل ما يذبحه الله أولى وهم أبو الأحوص وأصحابه ، أو ممن اتخذ البحائر والسوائب وهو عمرو بن لحي فمن دونه من أضرابه فإنه أول من غير دين إسماعيل (لَيُضِلُّونَ).

قرأ عاصم وحمزة والكسائي بضم الياء. والباقون بفتحها (بِأَهْوائِهِمْ) أي بسبب اتباعهم شهواتهم (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ملتبسين بغير علم مأخوذ من الشريعة (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) (١١٩) أي الذين تجاوزوا الحق إلى الباطل (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) أي اتركوا الإعلان بالزنا والاستسرار به وأهل الجاهلية يعتقدون حل السر منه.

وقال ابن الأنباري أي وذروا الإثم من جميع جهاته (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ) في الدنيا (سَيُجْزَوْنَ) في الآخرة (بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) (١٢٠) أي يكسبون إن لم يتوبوا وأراد الله عقابهم. أما إذا تاب المذنب من الذنب توبة صحيحة لم يعاقب وإذا لم يتب فهو في مشيئة الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه بفضله. (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وهو الميتة وما ذبح على ذكر الأصنام (وَإِنَّهُ) أي الأكل مما لم يذكر اسم الله بغير ضرورة أو إن ما ذكر عليه اسم غير الله (لَفِسْقٌ) أي خروج عما يحل وأجمع العلماء على أن أكل ذبيحة المسلم التي ترك التسمية عليها لا يفسق.

وروي عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه قال : «ذكر الله مع المسلم سواء قال : أو لم يقل ويحمل هذا الذكر على ذكر القلب». (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) أي إن إبليس وجنوده وسوسوا إلى المشركين. أو المعنى أن مردة المجوس من أهل فارس كتبوا إلى مشركي قريش ، وذلك لما نزل تحريم الميتة سمعه المجوس فكتبوا إلى قريش أن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله

٣٤٤

ثم يزعمون أن ما يذبحونه حلال وما يذبحه الله حرام فوقع في نفس ناس من المسلمين من ذلك شيء ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (لِيُجادِلُوكُمْ) في أكل الميتة (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) في استحلال الميتة (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (١٢١).

قال الزجاج : وهذا دليل على أن كل من أجل شيئا مما حرم الله تعالى أو حرم شيئا مما أحل الله تعالى فهو مشرك وإنما سمي مشركا لأنه أثبت حاكما سوى الله تعالى وهذا هو الشرك (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) أي أو من كان كافرا فهديناه إلى الإيمان (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً) عظيما وهو نور الوحي الإلهي (يَمْشِي بِهِ) أي بسببه (فِي النَّاسِ) أي فيما بين الناس آمنا من جهتهم (كَمَنْ مَثَلُهُ) أي صفته (فِي الظُّلُماتِ) أي ظلمات الكفر والطغيان وعمى البصيرة (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) أي من تلك الظلمات. فإذا دام الكافر في ظلمات الجهل والأخلاق الذميمة صارت تلك الظلمات كالصفة الذاتية يعسر إزالتها عنه ، وإنما جعل الكفر موتا لأنه جهل والجهل يوجب الحيرة ، فهو كالموت الذي يوجب السكون ، والكافر ميتا لأنه لا يهتدي إلى شيء كالجاهل (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢٢) أي مثل تزيين المؤمنين بالإيمان والنور زين من جهة الله بطريق الخلق ومن جهة الشياطين بطريق الزخرفة للكافرين ما استمروا على عمله.

قال زيد ابن أسلم والضحاك : نزلت هذه الآية في عمر بن الخطاب وأبي جهل. وقال عكرمة : نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل. وقال ابن عباس : إن أبا جهل رمى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بفرث فأخبر بذلك حمزة عند قدومه من صيد والقوس بيده وهو لم يؤمن يومئذ فعمد إلى أبي جهل وجعل يضرب رأسه بالقوس ، فقال له أبو جهل وقد تضرع إليه : يا أبا يعلى أما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا! فقال حمزة : أنتم أسفه الناس تعبدون الحجارة من دون الله. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله. فأسلم حمزة يومئذ فنزلت هذه الآية (وَكَذلِكَ) أي وكما جعلنا في مكة صناديدها رؤساء ليمكروا فيها (جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) من سائر القرى (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) و «أكابر» مفعول ثان و «مجرميها» مفعول أول والظرف لغو وهو متعلق بنفس الفعل قبله أي جعلنا في كل بدة فساقها عظماء (لِيَمْكُرُوا فِيها) أي ليفعلوا المكر فيها وهذا دليل على أن الخير والشر بإرادة الله ، وإنما جعل المجرمين أكابر لأنهم أقدر على الغدر والمكر وترويج الباطل على الناس من غيرهم ، وإنما حصل ذلك لأجل رئاستهم وذلك سنة الله أنه جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءهم وجعل فساقهم أكابرهم.

وقال مجاهد : جلس على كل طريق من طرق مكة أربعة نفر يصرفون الناس عن الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون لكل من يقدم : هو كذاب ساحر كاهن ، فكان هذا مكرهم (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) أي وما يحيق شر مكرهم إلا بهم (وَما يَشْعُرُونَ) (١٢٣) بذلك أصلا بل يزعمون أنهم

٣٤٥

يمكرون بغيرهم. (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) أي وإذا جاءت مشركي العرب ـ الوليد بن المغيرة وعبد يا ليل ، وأبا مسعود الثقفي ـ آية من القرآن تأمرهم باتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتخبرهم بصنيعهم قالوا : لن نصدقك حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل فيخبرنا أنك رسول الله صادق. قال تعالى ردا عليهم : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) أي الله أعلم من يليق بإرسال جبريل إليه لأمر من الأمور ، وهذا إعلام بأنهم لا يستحقون ذلك التشريف. وهذا المعنى قول الحسن ومنقول عن ابن عباس. وقيل : معنى الآية وإذا جاءتهم آية على صدق النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : لن نؤمن برسالته أصلا حتى نؤتى نحن من الوحي والنبوة مثل إيتاء رسل الله. قال تعالى : إنه تعالى يعلم من يستحق الرسالة فيشرفه بها ، ويعلم من لا يستحقها وأنتم لستم أهلا لها ، ولأن النبوة لا تحصل لمن يطلبها خصوصا لمن عنده حسد ومكر وغدر.

وقرأ حفص وابن كثير رسالته على التوحيد. والباقون على الجمع ويستجاب الدعاء بين هاتين الجلالتين ، وهذا دعاء عظيم يدعى به بينهما وهو : «اللهم من الذي دعاك فلم تجبه ، ومن الذي استجارك فلم تجره ومن الذي استعان بك فلم تعنه ومن الذي توكل عليك فلم تكفه ، يا غوثاه يا غوثاه يا غوثاه ، بك أستغيث أغثني يا مغيث ، واهدني هداية من عندك ، واقض حوائجنا واشف مرضانا ، واقض ديوننا ، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا بحق القرآن العظيم والرسول الكريم برحمتك يا أرحم الراحمين» (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أي أشركوا. وليدا أو أصحابه بقولهم : لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله (صَغارٌ) أي حقارة (عِنْدَ اللهِ) أي في الآخرة فلا حاكم فيها ينفذ حكمه سواه (وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) (١٢٤) أي بسبب مكرهم بقولهم ذلك وحسدهم للنبي وتكذيبهم له (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) أي يرشده لدينه (يَشْرَحْ صَدْرَهُ) أي قلبه (لِلْإِسْلامِ) أي لقبول الإسلام (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) أي يتركه كافرا (يَجْعَلْ صَدْرَهُ) أي قلبه (ضَيِّقاً) كضيق الزج في الرمح.

قرأه ابن كثير ساكنة الياء. والباقون مشددة الياء مكسورة (حَرَجاً). قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم بكسر الراء أي شديد الضيق. والباقون بفتحها أي مثل المواضع الكثيرة الأشجار المشتبكة التي لا طريق فيها فلا يصل إليها راعية ولا وحشية (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) أي كأنه يكلف الصعود إلى السماء. قرأه ابن كثير ساكنة الصاد ، وقرأه أبو بكر عن عاصم بتشديد الصاد وبالألف. والباقون بتشديد الصاد والعين بغير ألف ومعنى الآية فمن يرد الله أن يهديه قوّى قلبه في ما يدعوه إلى الإيمان ، بأن اعتقد أن نفعه زائد وخيره راجح وربحه ظاهر ، فمال طبعه إليه وقويت رغبته في حصوله ، وحصل في القلب استعداد شديد لتحصيله ، ومن يرد أن يضله ألقى في قلبه ما يصرفه عن الإيمان ويدعوه إلى الكفر ، بأن اعتقد أن شر الإيمان زائد وضرره راجح فعظمت النفرة

٣٤٦

عنه فإن الكافر إذا دعي إلى الإسلام شق عليه جدا كأنه قد كلف أن يصعد إلى السماء ولا يقدر على ذلك. أو المعنى كأن قلب الكافر يصعد إلى السماء تكبرا عن قبول الإسلام (كَذلِكَ) أي مثل جعل الله صدرهم ضيقا (يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ) أي يسلط الله الشيطان (عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (١٢٥) أي في قلوبهم (وَهذا) أي كون الفعل متوقفا على الداعي الحاصل من الله تعالى (صِراطُ رَبِّكَ) أي لأن العلم بذلك يؤدي إلى العلم بتوحيد الله (مُسْتَقِيماً) فكل فعل العباد بقضاء الله تعالى وقدره (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أي قد ذكرناها فصلا فصلا بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (١٢٦) فيعلمون أن كل ما يحدث من الحوادث خيرا كان أو شرا بقضاء الله تعالى لأنه لا يترجح أحد طرفي الممكن على الآخر إلا المرجح وهو الله تعالى (لَهُمْ دارُ السَّلامِ) أي للمتذكرين دار الله المنزه عن النقائص وهي الجنة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي أنها معدة عنده تعالى موصوفة بالشرف إلى حيث لا يعرف كنهها غيره تعالى (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) أي متكفل لهم بجميع مصالحهم في الدين والدنيا (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢٧) أي بسبب أعمالهم الصالحة (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) قلنا (يا مَعْشَرَ الْجِنِ).

وقرأ حفص بالياء أي يوم يحشر الله الخلق جميعا يقول : يا جماعة الشياطين (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي قد أكثرتم من إغواء الإنس (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي وقال الذين أطاعوا الشياطين الذين هم الإنس : (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) فاستمتاع الإنس بالشياطين هو أن الشياطين كانوا يدلون الإنس على أنواع الشهوات واللذات والطيبات ، ويسهّلون تلك الأمور عليهم واستمتاع الشياطين بالإنس هو أن الإنس كانوا يطيعون الشياطين فيما يأمرونهم به وينقادون لحكمهم (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) أي أدركنا وقت موتنا الذي عينته لنا (قالَ) تعالى : (النَّارُ مَثْواكُمْ) أي منزلكم يا جماعة الجن والإنس (خالِدِينَ فِيها) أي في النار منذ تبعثون (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) من مقدار حشرهم من قبورهم ومن مقدار محاسبتهم (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (١٢٨) أي فيما يفعله من ثواب وعقاب وسائر وجوه المجازاة (وَكَذلِكَ) أي مثل تمكين الشياطين من إضلال الإنس (نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ) من الإنس (بَعْضاً) آخر منهم (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٢٩) أي بسبب كون ذلك البعض مكتسبا للظلم.

قال علي رضي‌الله‌عنه : لا يصلح للناس إلا أمير عادل أو جائر فأنكروا قوله : أو جائز. فقال : نعم ، يؤمن السبيل ويمكن من إقامة الصلوات وحج البيت.

وروي عن ابن عباس أنه قال : إن الله تعالى إذا أراد بقوم خيرا ولى أمرهم خيارهم وإذا أراد بقوم شر ولّى أمرهم شرارهم. وروي أن أبا ذر سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإمارة فقال له : إنك ضعيف وإنها لأمانة وهي في القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها. (يا مَعْشَرَ

٣٤٧

الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) والصحيح أن الرسل إنما كانت من الإنس خاصة وقد قام الإجماع على أن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسل للإنس والجن. والمراد برسل الجن هم الذين سمعوا القرآن من النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ولوا إلى قومهم منذرين. فالمراد بالرسل ما يعم رسل الرسل ، فالله تعالى إنما بكت الكفار بهذه الآية لأنه تعالى أزال العذر وأزاح العلة بسبب أنه أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين ، فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق فقد حصل ما هو المقصود من إزاحة العذر وإزالة العلة (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) أي يتلونها عليكم مع التوضيح (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي ويخوفونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وهو يوم الحشر الذي عاينوا فيه ما أعد لهم من أفانين العقوبات الهائلة (قالُوا) عند ذلك التوبيخ الشديد (شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) أن الرسل أتونا قد بلغوا الرسالة وأنذرونا عذاب يومنا هذا (وَ) إنما وقعوا في ذلك الكفر بسبب أنهم (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي اغتروا من الدنيا بما في الزهرة والنعيم (وَشَهِدُوا) في الآخرة (عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا) في الدنيا (كافِرِينَ) (١٣٠) فيهم وإن بالغوا في عداوة الأنبياء والطعن في شرائعهم ومعجزاتهم أقروا على أنفسهم بالكفر في عاقبة أمرهم (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) (١٣١) أي شهادتهم على أنفسهم بالكفر ثابت لانتفاء كون ربك مهلك القرى بسبب ظلم فعلوه قبل أن ينبهوا على بطلانه برسول وكتاب. أو المعنى إرسال الرسل ثابت لأن الشأن لم يكن ربك مهلك أهل القرى ملتبسين بظلم وهم غافلون عن تبليغ الرسل وعن أمرهم ونهيهم (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي ولكل عامل من الجن والإنس مراتب من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (١٣٢) أي فلا يترك شيئا مما يستحق كل عامل من الفريقين من الجزاء فيجزي كلا بما يليق به من ثواب أو عقاب.

وقرأ ابن عامر وحده «تعملون» على الخطاب (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) أي إن تخصيص الله المطيعين بالثواب والمذنبين بالعذاب ليس لأجل أنه تعالى محتاج إلى طاعة المطيعين أو ناقص بمعصية المذنبين فإنه تعالى غني لذاته عن جميع العالمين ومع كونه تعالى غنيا فإن رحمته عامة كاملة. ومن رحمته تعالى على الخلق ترتيب الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. ومن رحمته تعالى إرسال الرسل وعدم استئصالهم بالهلاك بذنوبهم في وقت واحد (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أيها العصاة (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) أي ويوجد من بعد إذهابكم خلقا آخر مخالفا للجن والإنس فتخصيص الرحمة بهؤلاء ليس لأجل أنه لا يمكنه إظهار رحمته إلا بخلق هؤلاء (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) (١٣٣) أي وينشئ الله إنشاء كائنا كإنشائكم من نسل قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم في العصيان. أي فكما أن الله تعالى قادر على تصوير هذه الأجسام بهذه الصورة الخاصة كذلك قادر على تصويرهم بصورة مخالفة لها (إِنَّ ما تُوعَدُونَ) من مجيء الساعة (لَآتٍ) أي لواقع لا بد لأنهم كانوا ينكرون القيامة

٣٤٨

وكل ما تعلق بالوعد من الثواب والعقاب فهو آت لا محالة (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (١٣٤) أي لستم بخارجين عن قدرتنا وحكمنا. (قُلْ) يا أشرف الخلق لكفار قريش : (يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي على أقصى إمكانكم واستطاعتكم واثبتوا على حالتكم من الكفر والعداوة (إِنِّي عامِلٌ) بما أمرت به من الثبات على حالتي من الإسلام والمصابرة (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي فسوف تعرفون أي أحد الفريقين له العاقبة المحمودة وهي الاستراحة واطمئنان الخاطر أنحن أم أنتم وذلك حاصلة في الجنة.

وقرأ حمزة والكسائي «من يكون» بالياء (إِنَّهُ) أي الشأن (لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (١٣٥) أي لا يفوز الكافرون بمطالبهم ألبتة فلا ينجون من عذاب الله تعالى (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) أي عين كفار مكة لله مما خلقه من الحرث والأنعام ، وكذا من الثمار وسائر أموالهم نصيبا يصرفونه إلى الضيفان والمساكين ونصيبا من ذلك لآلهتهم وينفقونه على سدنتها ويذبحون ذبائح عندها فقالوا : هذا لله بكذبهم في جهة أنه تعالى يستحق ذلك من جهتهم لا في وجه التقرب به إليه وهذا لآلهتنا ، ثم إن رأوا ما عينوه لله أزكى بدلوه بما لآلهتهم فأعطوا نصيب الله لسدنة الأصنام ، وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها فلم يصرفوه للمساكين بل يصرفونه للسدنة وكان إذا أصابهم قحط استعانوا بما جعلوه وأكلوا منه ووفروا ما جعلوه لآلهتهم ولم يأكلوا منه فإذا هلك ما جعلوه لها أخذوا بدله مما جعلوه لله ولا يفعلون كذلك فيما جعلوه لها وإن سقط مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا : إن الله غني عن هذا وإن سقط مما جعلوه للأوثان في نصيب الله أخذوه وردوه إلى نصيب الصنم وقالوا : إنه فقير (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (١٣٦) أي بئس الذي يحكمون حكمهم من أنهم رجحوا جانب الأصنام على جانب الله ومن أنهم جعلوا شيئا لغير الله تعالى مع أن الله تعالى الخالق للجميع ومن أنهم أحدثوا الحكم من قبل أنفسهم ولم يشهد بصحته عقل ولا شرع (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة الأموال بين الله والآلهة (زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ) بوأد إناثهم ونحر ذكورهم (شُرَكاؤُهُمْ) أي أولياؤهم من الشياطين ومن السدنة.

قرأ العامة زين مبنيا للفاعل. وقتل نصبا على المفعولية وأولادهم خفضا بالإضافة وشركاؤهم رفعا على الفاعل. أي وهكذا زين لهم شياطينهم قتل أولادهم فأمروا بأن يئدوا بناتهم خشية الفقر والسبي وبأن ينحروا ذكورهم لآلهتهم ، فكان الرجل في الجاهلية يقوم فيحلف بالله لئن ولد له كذا من الذكور لينحرن أحدهم. كما حلف عبد المطلب لينحرن عبد الله. وقرأ ابن

٣٤٩

عامر وحده «زين» مبنيا للمفعول و «قتل» رفعا على الفاعلية ، وأولادهم نصبا على المفعولية وشركائهم خفضا على إضافة المصدر إلى فاعله أي زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم وهذه القراءة متواترة صحيحة ، فقد قرأ ابن عامر على أبي الدرداء ، وواثلة بن الأسقع ، وفضالة بن عبيد ، ومعاوية بن أبي سفيان ، والمغيرة المخزومي. وقرأ أيضا على عثمان وولد هو في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِيُرْدُوهُمْ) أي يهلكوهم بالإغواء (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ) أي وليخلطوا عليهم من دين إسماعيل عليه‌السلام أي ليدخلوا عليهم الشك في (دِينَهُمْ) لأنهم كانوا على دين إسماعيل فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق ، واللام للتعليل إن كان التزيين من الشياطين وللعاقبة إن كان من السدنة (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) أي ما فعل كثير من المشركين قتل الأولاد بدفن البنات في حياتها وبنحر الأولاد الذكور للأصنام (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (١٣٧) أي فاتركهم وكذبهم في قولهم : إن الله يأمرهم بقتل أولادهم فإن في ما شاء الله تعالى حكما بالغة وذلك دليل على أن كل ما فعله المشركون فهو بمشيئة الله تعالى (وَقالُوا) أي المشركون الذين قسموا نصيب آلهتهم أقساما ثلاثة (هذِهِ) أي التي جعلناها للآلهة (أَنْعامٌ وَحَرْثٌ) أي زروع (حِجْرٌ) أي محرمة (لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ) أي لا يأكل هذه الأنعام والحرث إلا خدمة الأوثان والرجال دون النساء (بِزَعْمِهِمْ) أي قالوا : ما ذكر ملتبسين بكذبهم ومن غير حجة (وَ) هذه (أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) وهي البحائر والسوائب والحوامي والوصائل (وَ) هذه (أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) إذا ركبت وإذا حملت ، وإذا ذبحت ونسبوا ذلك التقسيم إلى الله تعالى (افْتِراءً عَلَيْهِ) وهذا إما مفعول له وعامله قالوا أو حال من ضميره أو مصدر مؤكد له لأن قولهم ذلك هو الافتراء (سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) (١٣٨) أي إن الله سيكافئهم بسبب تقولهم عليه (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) أي ما ولد من البحائر والسوائب حيا حلال للذكور خاصة ومحرم على جنس أزواجنا وهي الإناث وما ولد منها ميتا أكله الرجال والنساء جميعا (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) أي سيوصل الله لهم جزاء ذنوبهم وهو وصفهم بالتحليل والتحريم. فالواصف بذلك عمرو بن لحي وقدر رآه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جهنم يجر قصبه من دبره وكان يعلمهم تحريم الأنعام (إِنَّهُ حَكِيمٌ) في التحليل والتحريم (عَلِيمٌ) (١٣٩) في وصفهم بذلك (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ) بالوأد للبنات وبالنحر للذكور (سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) وهم ربيعة ومضر وأمثالهم من العرب وبنو كنانة لا يفعلون ذلك وسبب هذا الخسران لأن الولد نعمة عظيمة من الله على العبد فإذا سعى في إبطاله استحق الذم العظيم في الدنيا ، لأن الناس يقولون : قتل ولده خوفا من أن يأكل طعامه والعقاب العظيم في الآخرة وسببه خفة العقل لأن قتل الولد إنما يكون للخوف من الفقر والقتل أعظم ضررا منه ، والقتل ناجز والفقر موهوم وهذه السفاهة إنما نشأت من الجهل الذي هو أعظم المنكرات.

٣٥٠

وقرأ أبو عمرو وابن عامر بتشديد التاء (وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١٤٠) فإن تحريم الحلال من أعظم أنواع الحماقة لأنه يمنع نفسه تلك المنافع ويستحق ذلك المنع أعظم أنواع العقاب أو أن الجراءة على الله أعظم الذنوب وهم قد ضلوا عن الرشد في مصالح الدين ومنافع الدنيا ولم يحصل لهم الاهتداء قط (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) أي وهو الذي خلق بساتين مرفوعات على ما يحملها من العروش والساق وملقيات على وجه الأرض ويقال : معروشات أي وهو ما غرسه الناس في البساتين وغير معروشات وهو ما أنبته الله في الجبال والبراري (وَ) أنشأ (النَّخْلَ وَالزَّرْعَ) أي جميع الحبوب التي يقتات بها (مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) أي مختلف المأكول من كل منهما في الهيئة والطعم (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) أي أنشأ شجرهما (مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) في اللون أو الطعم (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) أي ثمر كل واحد من ذلك (إِذا أَثْمَرَ) ولو قبل النضج.

وقرأ حمزة والكسائي برفع الثاء والميم من ثمره (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وعاصم بفتح الحاء أي اعزموا على إيتاء الزكاة لكل من الزروع والثمار يوم الحصاد ، ولا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء وإنما يجب إخراج الزكاة بعد التصفية والجفاف والأمر بإيتائها يوم الحصاد لئلا يؤخر عن وقت إمكان الأداء وليعلم أن وجوبها بالإدراك ولو في البعض لا بالتصفية. والمعنى آتوا حق كل ما وجب يوم الحصاد بعد التصفية وفائدة ذكر الحصاد أن الحق لا يجب بنفس الزرع وإدراكه وإنما يجب يوم حصاده وحصوله في يد مالكه لا فيما يتلف من الزرع قبل حصوله في يد مالكه وهذا يقتضي وجوب الزكاة في الثمار كما قاله أبو حنيفة ويقتضي ثبوت حق في القليل والكثير فالعشر واجب في القليل والكثير كما قاله أبو حنيفة (وَلا تُسْرِفُوا) أي لا تجاوزوا الحد في الإعطاء والبخل حتى تمنعوا الواجب من الصدقة وتعطوا كله.

وروي أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فجذها ثم قسمها في يوم واحد ولم يدخل منها إلى منزله شيئا فأنزل الله هذه الآية ولا تسرفوا وقد جاء في الخبر : «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» (١) (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (١٤١) فكل مكلف لا يحبه الله تعالى فهو من أهل النار (وَ) أنشأ (مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً) أي ما يحمل الأثقال (وَفَرْشاً) أي ما يفرش للذبح أو ما ينسج من وبره وصوفه وشعره للفرش (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي كلوا بعض ما رزقكم الله وهو

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب الزكاة ، باب : أيّ الصدقة أفضل ، ومسلم في كتاب الزكاة ، باب : ٤١.

٣٥١

ما أحل الله لكم من الحرث والأنعام (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي ولا تسلكوا الطريق الذي يسوله لكم الشيطان بتحريم الحرث والأنعام (إِنَّهُ) أي الشيطان (لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (١٤٢) أي ظاهر العداوة فقد أخرج آدم من الجنة. وقال : لأحتنكن ذريته إلا قليلا (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أي أصناف أربعة ذكور من كل من الإبل والبقر والغنم ، وأربعة إناث كذلك وهذا بدل من حمولة وفرشا (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) بدل من ثمانية أزواج أي أنشأ من الضأن زوجين الكبش والنعجة (وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) أي من المعز زوجين التيس والعنز (قُلْ) لهم إظهارا لانقطاعهم عن الجواب (آلذَّكَرَيْنِ) من ذينك النوعين وهما الكبش والتيس (حَرَّمَ) أي الله تعالى كما تزعمون أنه هو المحرم (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) وهما النعجة والعنز (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) أي أم ما حملت به إناث النوعين حرم الله تعالى ذكرا كان أو أنثى (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) أي أخبروني بعلم ناشئ عن طريق الإخبار من الله بأنه حرم ما ذكر (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٤٣) في دعواكم إن الله حرم بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو حاما (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ) أي وأنشأ من الإبل اثنين الجمل والناقة (وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) ذكرا وأنثى (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) من ذينك النوعين (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) أي بل أكنتم حاضرين حين أمركم الله بهذا التحريم. والمراد هل شاهدتم الله حرم هذا إن كنتم لا تؤمنون برسول فإنكم لا تقرون بنبوة أحد من الأنبياء فكيف تثبتون هذه الأحكام وتنسبونها إلى الله تعالى (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي لا أحد أظلم ممن تعمد على الله كذبا بنسبة التحريم إليه.

قال المحققون : إذا ثبت أن من افترى على الله الكذب في تحريم مباح استحقّ هذا الوعيد الشديد فمن افترى على الله الكذب في مسائل التوحيد ومعرفة الذات والصفات والنبوات والملائكة ومباحث المعاد كان وعيده أشد وأشق (لِيُضِلَّ النَّاسَ) عن دين الله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حال من فاعل يضل أي ملتبسا بغير علم بما يؤدي بهم إليه أو حال من فاعل افترى. أي افترى عليه تعالى جاهلا بصدور التحريم عنه تعالى. أي فمن افترى عليه تعالى جاهلا بصدور التحريم عنه تعالى مع احتمال الصدور عنه كان أظلم ظالم فما ظنك بمن افترى عليه تعالى وهو يعلم أنه لم يصدر عنه (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٤٤) أي لا يهدي أولئك المشركين أي لا ينقلهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) أي قل يا أشرف الخلق لهؤلاء الجهلة الذين يحكمون بالحلال والحرام من عند أنفسهم لا أجد في القرآن طعاما محرما من المطاعم التي حرمتموها على آكل بأكله من ذكر أو أنثى (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً).

قرأ ابن كثير وحمزة «تكون» بالتأنيث «ميتة» بالنصب على تقدير إلا أن تكون المحرمة ميتة. وقرأ ابن عامر «تكون» بالتأنيث «ميتة» بالرفع على معنى إلا أن توجد ميتة أو إلا أن تكون

٣٥٢

هناك ميتة. وقرأ الباقون «يكون» بالتذكير «ميتة» بالنصب أي إلا أن يكون ذلك المحرم ميتة. وعلى قراءة ابن عامر يكون ما بعد هذا معطوفا على أن يكون الواقعة مستثناة أي إلا حدوث ميتة (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) أي جاريا كالدماء التي في العروق لا كالطحال والكبد (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ) أي الخنزير (رِجْسٌ) أي نجس فكل نجس يحرم أكله (أَوْ فِسْقاً) أي ذبيحة خارجة عن الحلال (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي ذبح على اسم الأصنام (فَمَنِ اضْطُرَّ) أي فمن أصابه الضرورة الداعية إلى أكل الميتة (غَيْرَ باغٍ) في ذلك على مضطر مثله (وَلا عادٍ) أي متجاوز قدر الضرورة وهو الذي يسد الرمق (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٤٥) أي فلا يؤاخذه ربك بالأكل من ذلك لأنه مبالغ في المغفرة والرحمة (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) أي وحرمنا على اليهود كل ذي مخلب وبرثن (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) وهو شحم الكرش والكلى (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) أي إلا الشحم الذي حملته ظهورهما (أَوِ الْحَوايا) أي أو إلا الشحم الذي حملته المباعر (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) أي أو إلا شحما مختلطا بعظم مثل شحم الألية فإنه متصل بالعصعص فتلخص أن الذي حرم عليهم من الشحوم هو شحم الكرش والكلى وأن ما عدا ذلك حلال لهم (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) أي ذلك التحريم عاقبناهم بسبب ظلمهم وهو قتلهم الأنبياء وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (١٤٦) في الإخبار عن تخصيصهم بهذا التحريم بسبب بغيهم وهم كاذبون في قولهم حرم ذلك إسرائيل على نفسه بلا ذنب منا فنحن مقتدون به (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) أي فإن كذبك اليهود في الحكم المذكور ، أو كذبك المشركون في ادعاء النبوة والرسالة وفي تبليغ هذه الأحكام (فَقُلْ) لهم : (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) فلذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا بذلك فإنه إمهال لا إهمال (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ) أي عقابه إذا جاء وقته (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (١٤٧) الذين كذبوك فيما تقول. وقيل : المعنى ذو رحمة واسعة للمطيعين وذو بأس شديد للمجرمين (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) عنادا لا اعتذارا عن ارتكاب هذه القبائح (لَوْ شاءَ اللهُ) عدم إشراكنا وعدم تحريمنا (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) ففعلنا حق مرضى عند الله تعالى ولولا أنه تعالى رضي ما نحن فيه لحال بيننا وبينه (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي مثل ما كذبك هؤلاء في أن الله منع من الشرك ولم يحرم ما حرموه كذب كفار الأمم الماضية أنبياءهم ، فكل من كذب نبيا قال الكل بمشيئة الله تعالى فهذا الذي أنا فيه من الكفر إنما حصل بمشيئة الله تعالى فلم يمنعني منه ، وفي قراءة بتخفيف كذب أي مثل كذبهم في قولهم : إن ما فعلوه حق مرضي عند الله تعالى كذب من قبلهم في ذلك (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) أي عذابنا الذي أنزلنا عليهم بتكذيبهم الرسل وبكذبهم في قولهم إن الله أمرنا بالشرك (قُلْ) لهؤلاء المشركين : (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ) أي بيان على ما تقولون من تحريم ما حرمتم ومن أن الله راض بشرككم (فَتُخْرِجُوهُ) أي فتظهروه (لَنا) كما بينا لكم خطأ قولكم وفعلكم

٣٥٣

(إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي ما تتبعون فيما أنتم عليه إلا الظن الباطل الذي لا يغني من الحق شيئا (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (١٤٨) أي وما أنتم في ذلك إلا تكذبون على الله تعالى (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) أي قل لهم إن لم تكن لكم حجة فلله الحجة الواضحة التي تقطع عذر المحجوج وتزيل الشك عمن نظر فيها وهي إنزال الكتب وإرسال الرسل (فَلَوْ شاءَ) هدايتكم جميعا إلى الحجة البالغة (لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٤٩) ولكن لم يشأ هداية الكل بل هداية البعض. (قُلْ) يا أكرم الرسل لهم : (هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) أي أحضروا قدوتكم الذين ينصرون قولكم إن الله حرم الذي حرمتموه (فَإِنْ شَهِدُوا) بعد حضوهم بأن الله حرم ذلك (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي فلا تصدقهم فيما يقولون بل بيّن لهم فساده لأن السكوت قد يشعر بالرضا (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١٥٠) أي إن وقع منهم شهادة فإنما هي باتباع الهوى فلا تتبع أنت أهواءهم فهم كذبوا بالقرآن ولا يؤمنون بالبعث بعد الموت ويجعلون لله تعالى عديلا. (قُلْ) يا أكرم الرسل لمن سألك أي شيء حرم الله وهم مالك بن عوف وأصحابه : (تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) في الكتاب الذي أنزل ، «على» مفسرة لفعل التلاوة (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ) أي بربكم (شَيْئاً) من الإشراك (وَبِالْوالِدَيْنِ) أي وأحسنوا بهما (إِحْساناً) ولم يقل الله ولا تسيئوا الوالدين لأن مجرد عدم تلك الإساءة إليهما غير كاف في قضاء حقوقهما (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) أي من خوف الفقر وكانوا يدفنون البنات أحياء فبعضهم للغيرة وبعضهم لخوف الفقر وهذا هو السبب الغالب فبين تعالى فساد هذه العلة بقوله : (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) أي أولادكم (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) أي الزنا (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي ما يفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأب أراذلهم وما يفعل سرا باتخاذ الأخدان كما هو عادة أشرافهم ، وجمع الفواحش للنهي عن أنواعها ولذلك ذكر ما أبدل عنها بدل اشتمال ، وتوسيط النهي عن الزنا بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن القتل مطلقا ، لأنه في حكم قتل الأولاد فإن أولاد الزنا في حكم الأموات. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حق العزل : «ذاك وأد خفي» (١). (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) قتلها بكونها معصومة بالإسلام أو بالعهد (إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلا قتلا ملتبسا بالحق وهو أن يكون القتل للقصاص أو للردة أو للزنا بشرطه (ذلِكُمْ) أي التكاليف الخمسة (وَصَّاكُمْ بِهِ) أي أمركم به ربكم أمرا مؤكدا (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١٥١) أي لكي تعقلوا فوائد هذه التكاليف في الدين والدنيا (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي إلا بالخصلة التي هي أحسن لليتيم كحفظه وتحصيل الربح به (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أي قوته مع الرشد

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب النكاح ، باب : ١٤١ ، وابن ماجة في كتاب النكاح ، باب : الغيل ، وأحمد في (م ٦ / ص ٣٦١).

٣٥٤

ومبدؤه من البلوغ وانتهاؤه إلى الثلاثة والثلاثين (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أي أتموا الكيل بالمكيال والوزن بالميزان بالعدل من غير نقصان من المعطي ومن غير طلب الزيادة من صاحب الحق (لا نُكَلِّفُ نَفْساً) عند الكيل والوزن (إِلَّا وُسْعَها) أي إلا طاقتها في الإيفاء والعدل فإن الواجب في إيفاء الكيل والوزن هو القدر الممكن في إيفائهما أما التحقيق فغير واجب (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي ولو كان القول على ذي قرابة منكم فإذا دعا شخص إلى الدين وأقام الدليل عليه ذكر الدليل ملخصا عن الزيادة بألفاظ معتادة ، وإذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فلا ينقص عن القدر الواجب ولا يزيد في الإيذاء والإيحاش ، وإذا حكى الحكايات فلا يزيد فيها ولا ينقص عنها ، وإذا بلغ الرسالات عن الناس فيجب أن يؤديها من غير زيادة ولا نقصان ، وإذا حكم فيجب أن يحكم بالعدل وأن يسوى في القول بين القريب والبعيد وذلك لطلب رضا الله تعالى (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) أي أتموا ما عاهدتم الله عليه من الأيمان والنذور وغيرهما (ذلِكُمْ) أي التكاليف الأربعة (وَصَّاكُمْ بِهِ) أي أمركم به أمرا مؤكدا (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١٥٢) ولما كانت التكاليف الخمسة في الآية الأولى أمورا ظاهرة مما يجب تفهمها ختمت بقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ولما كانت هذه التكاليف الأربعة غامضة لا بدّ فيها من الاجتهاد في الفكر حتى يقف على موضع الاعتدال ختمت بقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) وحصل ما ذكر في هاتين الآيتين من المحرمات تسعة أشياء خمسة بصيغ النهي وأربعة بصيغ الأمر وتؤول الأوامر بالنهي لأجل التناسب وهذه الأحكام لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار (وَأَنَّ هذا) أي الذي بيّنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من دين الإسلام (صِراطِي) أي ديني (مُسْتَقِيماً) أي لا اعوجاج فيه.

قرأ ابن عامر و «أن هذا» بفتح الهمزة وسكون النون ، فأصلها وأنه هذا فالهاء ضمير الشأن والحديث وهو اسم إن والجملة التي بعده خبره. وقرأ حمزة والكسائي و «إن» بكسر الهمزة وتشديد النون فالتقدير اتل ما حرم واتل إن هذا بمعنى قل. وقرأ الباقون بفتح الهمزة وتشديد النون والتقدير واتل عليهم إن هذا صراطي مستقيما (فَاتَّبِعُوهُ) أي هذا الصراط (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) المخالفة لدين الإسلام (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أي فتميل بكم هذه السبل عن سبيل الله الذي لا اعوجاج فيه وهو دين الإسلام. وعن ابن مسعود قال : خط لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما خطا ثم قال : «هذا سبيل الله» ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال : «هذه سبل على كل منها شيطان يدعو إليها» (١) (ذلِكُمْ) أي اتباع دين الله (وَصَّاكُمْ بِهِ) في الكتاب (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٥٣) اتباع الكفر والضلالات (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي ثم بعد تعديد المحرمات وغيرها من

__________________

(١) رواه الدارمي في المقدمة ، باب : في كراهية أخذ الرأي ، وأحمد في (م ١ / ص ٤٣٥).

٣٥٥

الأحكام إني أخبركم أنا أعطينا موسى التوراة (تَماماً) أي لأجل تمام نعمتنا (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) أي على من أحسن العمل بأحكامه كما يدل عليه قراءة عبد الله على الذين أحسنوا. وقرأ يحيى بن يعمر بالرفع بحذف المبتدأ أي على الذي هو أحسن دينا كقراءة من قرأ مثلا ما بعوضة بالرفع (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي ولبيان كل ما يحتاج إليه في الدين فيدخل في ذلك بيان نبوة سيدنا محمد ودينه (وَهُدىً) من الضلالة (وَرَحْمَةً) من العذاب (لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) (١٥٤) أي لكي يؤمن بنو إسرائيل بلقاء ما وعدهم الله به من ثواب وعقاب (وَهذا) أي الذي تلوت عليكم (كِتابٌ) أي قرآن (أَنْزَلْناهُ) إليكم بلسانكم (مُبارَكٌ) أي كثير المنافع دينا ودنيا لا يتطرق إليه النسخ (فَاتَّبِعُوهُ) أي فاتبعوا يا أهل مكة ما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام (وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٥٥) أي اتقوا مخالفته على رجاء الرحمة (أَنْ تَقُولُوا) أي أنزلناه كراهة أن تقولوا يوم القيامة (إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ) وهو التوراة والإنجيل (عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) وهم اليهود والنصارى (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) (١٥٦) أي وإنه كنا عن قراءتهم لجاهلين فلا ندري ما في كتابهم إذا لم يكن بلغتنا. والمراد بهذه الآيات إثبات الحجة على أهل مكة بإنزال القرآن على سيدنا محمد كي لا يقولوا يوم القيامة : إن التوراة والإنجيل أنزلا على اليهود والنصارى ولا نعلم ما فيهما ، فقطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم بلغتهم (أَوْ تَقُولُوا) أي لا عذر لكم في القيامة بقولكم (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ) كما أنزل على اليهود والنصارى (لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) أي أصوب دينا منهم وأسرع إجابة للرسول منهم (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم قرآن من ربكم فإنه بيان فيما يعلم سمعا وهو هدى فيما يعلم سمعا وعقلا وهو نعمة في الدين (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها) أي لا أحد أجرأ على الله ممن كذب بالقرآن ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومال عن (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) أي شدته (بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) (١٥٧) أي بسبب إعراضهم (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي ما ينتظر أهل مكة إلا أحد هذه الأمور الثلاثة أي فلا يؤمنون بك إلا إذا جاءهم أحد هذه الأمور.

وقرأ حمزة والكسائي على التذكير (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) أي بحسب ما اقترحوا بقولهم لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا. وهم كانوا كفارا ، واعتقاد الكافر ليس بحجة. وقيل : المراد بالملائكة ملائكة الموت لقبض أرواحهم وبإتيان الله تعالى إتيان كل آياته بمعنى آيات القيامة كلها. وقيل : أو يأتي ربك يوم القيامة بلا كيف (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) أي بعض علامات ربك الدالة على قرب الساعة وهي عشرة وهي العلامات الكبرى وهي الدجّال ، والدابة ، وخسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، والدخان ، وطلوع الشمس من مغربها ، ويأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى ، ونار تخرج مني عدن تسوق إلى المحشر (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) وهو طلوع الشمس من مغربها (لا يَنْفَعُ نَفْساً) كافرة (إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) أي قبل

٣٥٦

إتيان بعض الآيات (أَوْ) نفسا مؤمنة عاصية توبتها لم تكن (كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) فحكم الإيمان والعمل الصالح حين طلوع الشمس من المغرب حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة وذلك لا يفيد شيئا ، أما من كان يومئذ مذنبا فتاب ، أو صغيرا أو مولودا بعد ذلك فإنه ينفع توبتهم وإيمانهم وعملهم كما قاله ابن عباس.

روي عن ابن عباس أنه قال : لا تزال الشمس تجري من مطلعها إلى مغربها حتى يأتي الوقت الذي جعله الله غاية لتوبة عباده ، فتستأذن الشمس من أين تطلع ويستأذن القمر من أين يطلع ، فلا يؤذن لهما ، فيحبسان مقدار ثلاث ليال للشمس وليلتين للقمر فلا يعرف مقدار حبسهما إلا قليل من الناس ، وهم أهل الأوراد وحملة القرآن فينادي بعضهم بعضا فيجتمعون في مساجدهم بالتضرع والبكاء والصراخ بقية تلك الليلة ، فبينما الناس كذلك إذ نادى مناد ألا أن باب التوبة قد أغلق والشمس والقمر قد طلعا من مغاربهما ويتصايح أهل الدنيا وتذهل الأمهات عن أولادها ، وتضع كل ذات حمل حملها ، فأما الصالحون والأبرار فإنهم ينفعهم بكاؤهم يومئذ ويكتب لهم عبادة وأما الفاسقون والفجار فلا ينفعهم بكاؤهم يومئذ ويكتب عليهم حسرة.

قال عمر بن الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما باب التوبة يا رسول الله؟ فقال : «يا عمر خلق الله بابا للتوبة جهة المغرب فهو من أبواب الجنة له مصراعان من ذهب مكللان بالدر والجواهر ما بين المصراع إلى المصراع مسيرة أربعين عاما للراكب المسرع فذلك الباب مفتوح منذ خلقه الله تعالى إلى صبيحة تلك الليلة عند طلوع الشمس والقمر من مغاربهما ولم يتب عبد من عباد الله توبة نصوحا من لدن آدم إلى ذلك اليوم إلا ولجت تلك التوبة في ذلك الباب». قال أبي بن كعب : يا رسول الله فكيف بالشمس والقمر بعد ذلك! وكيف بالناس والدنيا؟ فقال : «يا أبي إن الشمس والقمر يكسيان بعد ذلك ضوء النار ، ثم يطلعان على الناس ويغربان كما كانا قبل ذلك ، وأما الناس بعد ذلك فيحلون على الدنيا ويعمرونها ويجرون فيها الأنهار ويغرسون فيها الأشجار ، ويبنون فيها البنيان ، ثم تمكث الدنيا بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة السنة منها بقدر شهر ، والشهر بقدر جمعة ، والجمعة بقدر يوم واليوم بقدر ساعة. ويتمتع المؤمنون بعد ذلك أربعين سنة لا يتمنون شيئا إلا أعطوه حتى تتم أربعون سنة بعد الدابة ، ثم يعود فيهم الموت ويسرع فلا يبقى مؤمن ويبقى الكفار يتهارجون في الطرق كالبهائم حتى ينكح الرجل المرأة في وسط الطريق يقوم واحد عنها وينزل واحد وأفضلهم من يقول لو تنحيتم عن الطريق لكان أحسن» (١).

وروي عن أنس أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صبيحة تطلع الشمس من مغربها يصير في

__________________

(١) رواه الطبري في التاريخ (١ : ٧٣).

٣٥٧

هذه الأمة قردة وخنازير وتطوى الدواوين وتجف الأقلام لا يزاد في حسنة ولا ينقص من حسنة ، ولا ينفع نفسا إيمانها ، لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» (١) (قُلِ انْتَظِرُوا) ما تنتظرونه من إتيان أحد الأمور الثلاثة (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (١٥٨) لذلك لنشاهد ما يحل بكم من سوء العاقبة. والمراد بهذا إن المشركين إنما يمهلون قدر مدة الدنيا فإذا ماتوا أو ظهرت الآيات لم ينفعهم الإيمان وحلّت بهم العقوبة اللازمة أبدا (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) أي أحزابا في الضلالة (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي لست من البحث في تفريقهم فأنت منهم بريء وهم منك برآء ، ولست من قتالهم في هذا الوقت في شيء (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) أي يدبره كيف يشاء يؤاخذهم في الدنيا متى شاء ويأمركم بقتالهم إذا أراد (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (١٥٩) أي ثم يظهر الله لهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ويعلمهم أيّ شيء شنيع كانوا يفعلونه في الدنيا ، ويرتب عليه ما يليق به من الجزاء. والمراد بهؤلاء المفرقين الخوارج كما أخرجه ابن أبي حاتم من حديث أبي أمامة : «أو هم أصحاب البدع والأهواء» كما أخرجه الطبراني من حديث عائشة.

وقال قتادة : هم اليهود والنصارى كما أخرجه عبد الرزاق وكما أخرج ابن أبي حاتم عن السدي وقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة ، وافترقت النصارى اثنين وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة واستثناء الواحدة من فرق أهل الكتابين إنما هو باعتبار ما قبل النسخ وأما بعده فالكل في الهاوية وإن اختلفت أسباب دخولهم وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة» (٢). رواه أبو داود والترمذي والحاكم.

وقرأ حمزة والكسائي «فارقوا» بالألف أي باينوا بأن تركوا بعض دين آبائهم. والباقون فرقوا بالتشديد أي اختلفوا في دينهم كما اختلف المشركون بعضهم يعبدون الملائكة ويزعمون أنهم بنات الله وبعضهم يعبدون الأصنام ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله وبعضهم يعبدون الكواكب (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) أي من جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة من المؤمنين (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) أي فله جزاء عشر أمثالها وهذا أقل ما وعد من الأضعاف فالمراد بالعشرة الأضعاف. مطلقا لا بالتحديد وقد جاء الوعد بسبعين وبسبعمائة وبغير حساب ولذلك قيل : المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) أي بالأعمال السيئة (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) أي الأجزاء السيئة الواحدة إن جوزي (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٦٠) أي لا ينقصون من ثواب

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٣ : ٥٩).

(٢) رواه أبو داود في كتاب السنّة ، باب : شرح السنّة ، والترمذي في كتاب الإيمان ، باب : ١٨ ، وابن ماجة في كتاب الفتن ، باب : افتراق الأمم ، وأحمد في (م ٢ / ص ٣٣٢).

٣٥٨

طاعتهم ولا يزادون في عقاب سيئاتهم (قُلْ) يا أشرف الخلق للمشركين الذين يدعون أنهم على ملة إبراهيم من أهل مكة واليهود والنصارى : (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي أرشدني ربي بالوحي وبما نصب من الآيات التكوينية في الأنفس وفي السموات والأرض إلى طريق حق (دِيناً قِيَماً) أي لا عوج فيه.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح القاف وكسر الياء مشددة. والباقون بكسر القاف وفتح الياء مخففة ، وهو مصدر كالصغر والكبر والحول والشبع أي دينا ذا قيم أي صدق (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أي مائلا عن الضلالة إلى الاستقامة (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٦١) وقوله تعالى : (دِيناً) بدل من محل صراط لأن محله النصب على أنه مفعول ثان أو مفعول لفعل مقدر والتقدير ألزموا دينا وقوله تعالى : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) عطف بيان لـ «دينا» و (حَنِيفاً) حال من «إبراهيم» وكذا «وما كان» فهو عطف حال على أخرى (قُلْ إِنَّ صَلاتِي) أي الصلوات الخمس (وَنُسُكِي) أي ذبيحتي وجمع بين الصلاة والذبح كما في قوله تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر : ٢]. أو المعنى وكل ما تقربت به إلى الله تعالى فإن معنى الناسك من صفّا نفسه من دنس الآثام (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) أي وما أنا عليه في حياتي وما أكون عليه عند موتي من الإيمان والطاعة (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٦٢) أي إن صلاتي وسائر عبادتي وحياتي ومماتي كلها واقعة بخلق الله تعالى وتقديره وقضائه وحكمه (لا شَرِيكَ لَهُ) في الخلق والتقدير (وَبِذلِكَ) أي وبهذا التوحيد (أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (١٦٣) أي المستسلمين لقضاء الله وقدره فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول من أجاب ببلى يوم العهد لسؤال الله تعالى ألست بربكم ، أو المعنى وأنا أول المنقادين لله من أهل ملتي وهذا بيان لمسارعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الامتثال بأمر الله. (قُلْ) يا أشرف الرسل للكفار الذين قالوا لك ارجع إلى ديننا (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) أي أأعبد ربا غير الله (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) أي والحال أن الله رب كل شيء مع أن الذين اتخذوا ربا غير الله أقروا بأن الله خالق الأشياء كما قال تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [الزمر : ٦٤] وأصناف المشركين أربعة عبدة الأصنام فهم معترفون بأن الله هو الخالق للسموات والأرض وللأصنام بأسرها وعبدة الكواكب فهم معترفون بأن الله خالقها ، والقائلون بيزدان وأهرمن فهم معترفون بأن الشيطان محدث وأن محدثه هو الله والقائلون : بأن المسيح ابن الله والملائكة بناته فهم معترفون بأن الله خالق الكل ، وإذا ثبت هذا فنقول : العقل الخالص يشهد بأنه لا يجوز جعل المربوب شريكا للرب وجعل المخلوق شريكا للخالق (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) ذنبا (إِلَّا عَلَيْها) أي الإحالة كونه مستعليا عليها بالمضرة أو حالة كونه مكتوبا عليها لا على غيرها (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي ولا تحمل نفس آثمة ولا غير آثمة إثم نفس أخرى ، فلا تحمل نفس طائعة أو عاصية ذنب غيرها ، وإنما قيد في الآيات بالوازرة موافقة لسبب النزول وهو أن الوليد بن المغيرة كان يقول للمؤمنين : اتبعوا سبيلي أحمل عنكم أوزاركم (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ) أي إلى مالك أموركم

٣٥٩

(مَرْجِعُكُمْ) أي رجوعكم يوم القيامة (فَيُنَبِّئُكُمْ) يومئذ (بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (١٦٤) من الأديان في الدنيا (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) أي جعلكم يخلف بعضكم بعضا في الأرض (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ) في الشرف والرزق (فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) كثرة متفاوتة فجعل الله منهم الحسن والقبيح ، والغني والفقير ، والشريف والوضيع ، والعالم والجاهل ، والقوي والضعيف ، وإظهار هذا التفاوت ليس لأجل العجز والجهل والبخل فإنه تعالى منزه عن ذلك وإنما هو لأجل الامتحان وهو المراد من قوله (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي ليعاملكم معاملة المختبر فيما أعطاكم من الجاه والمال والفقر أيكم يشكر وأيكم يصبر وهو أعلم بأحوال عباده منهم. والمراد من الابتلاء هو التكليف ، ثم إن المكلف إما أن يكون مقصرا فيما كلف به أو موفرا فيه فإن كان مقصرا كان نصيبه من التخويف قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) لمن كفر به ولا يشكره ووصف العقاب بالسرعة لأن ما هو آت قريب ، وإن كان المكلف موفرا في الطاعات كان نصيبه من الترغيب قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦٥) لمن راعى حقوق ما أعطاه الله تعالى كما ينبغي.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة يتبعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ الأنعام صلّى عليه واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوما وليلة» (١).

__________________

(١) رواه الطبراني في المعجم الصغير (١ : ٨١) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٧ : ١٩) ، والسيوطي في الدر المنثور (٣ : ٢).

٣٦٠