مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

هو الله تعالى فدعهم يكونوا عندك ، ولا تطردهم فتكون من الظالمين لنفسك بهذا الطرد ولهم ، لأنهم استحقوا مزيد التقريب. وقيل : إن الكفار طعنوا في إيمان أولئك الفقراء وقالوا : يا محمد إنهم إنما اجتمعوا عندك وقبلوا دينك لأنهم يجدون بهذا السبب مأكولا وملبوسا عندك ، وإلا فهم فارغون عن دينك فقال الله تعالى : إن كان الأمر كما يقولون فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر ، وإن كان لهم باطن غير مرضي عند الله فحسابهم عليه لازم لهم لا يتعدى إليك ، كما أن حسابك عليك لا يتعدى إليهم (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي ومثل ذلك الفتون المتقدم فتنا بعض هذه الأمة ببعض وكل أحد مبتلى بضده فأولئك الكفار الرؤساء الأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة على كونهم سابقين في الإسلام مسارعين إلى قبوله فقالوا : لو دخلنا في الإسلام لوجب علينا أن ننقاد لهؤلاء الفقراء المساكين وأن نعترف لهم بالتبعية فامتنعوا من الدخول في الإسلام لذلك ، واعترضوا على الله في جعل أولئك الفقراء رؤساء في الدين ، وأما فقراء الصحابة فكانوا يرون أولئك الكفار في الراحات والمسرات والطيبات والخصب والسعة ، فكانوا يقولون : كيف حصلت هذه الأحوال لهؤلاء الكفار وبالجملة؟ فصفات الكمال مختلفة متفاوتة محبوبة لذاتها موزعة على الخلق فلا تجتمع في إنسان واحد ألبتة فكل أحد بحسد صاحبه على ما آتاه من الله من صفات الكمال (لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) بالإيمان بالله ومتابعة الرسول وغرضهم بذلك إنكار وقوع المن رأسا وهذه اللام لام كي والتقدير ومثل ذلك الفتون فتنا ليقولوا : هذه المقالة امتحانا منا ، وقيل : إنها لام الصيرورة والمعنى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليصيروا أو ليشكروا فكان عاقبة أمرهم أن قالوا : أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟ قال : تعالى ردا عليهم : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (٥٣) لنعمه حتى تستبعدوا إنعامه عليهم. وفي هذا الاستفهام التقريري إشارة إلى أن الضعفاء عارفون بحق نعم الله تعالى في تنزيل القرآن وفي التوفيق للإيمان شاكرون له تعالى على ذلك وتعريض بأن القائلين بتلك المقالة بمعزل من ذلك كله (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) قيل : نزلت هذه الآية في أهل الصفة الذين سأل المشركون رسول الله عليه‌السلام طردهم فأكرمهم الله تعالى بهذا الإكرام فإن الله تعالى نهى رسوله أولا عن إبعادهم ، ثم أمره بتبشيرهم بالسلامة عن كل مكروه في الدنيا والرحمة في الآخرة (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي أوجب على ذاته المقدسة الرحمة بطريق الفضل والكرم تبشيرا لهم بسعة رحمته تعالى وبنيل المطالب (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً) أي ذنبا (بِجَهالَةٍ) بتعمد بسبب الشهوة وكان جاهلا بمقدار ما يستحقه من العقاب وما يفوته من الثواب (ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ) أي ندم من بعد عمل المعصية (وَأَصْلَحَ) عمله بالتوبة منه تداركا وعزما على أن لا يعود إليه أبدا (فَأَنَّهُ) أي الله (غَفُورٌ) بسبب إزالة العقاب (رَحِيمٌ) (٥٤) بسبب إيصال الثواب الذي هو النهاية في الرحمة (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي كما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا على صحة التوحيد

٣٢١

والنبوة والقضاء والقدر فكذلك نفصل لك حجتنا في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (٥٥).

قرأ نافع «لتستبين» بالتاء خطاب للنبي و «سبيل» بالنصب. أي ولتستوضح أنت يا محمد سبيل المشركين فتعاملهم بما يليق بهم. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «ليستبين» بالياء و «سبيل» بالرفع. والباقون بالتاء و «سبيل» بالرفع. وقوله و «ليستبين» عطف على المعنى كأنه قيل : ليظهر الحق وليتضح سبيلهم نفعل ما نفعل من التفصيل. (قُلْ) يا أشرف الخلق للمصرّين على الشرك (إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي إني نهيت في القرآن عن عبادة ما تعبدونه من دون الله وهو الأصنام (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) في عبادة الأحجار وهي أخس مرتبة من الإنسان بكثير فإنهم كانوا ينحتون تلك الأصنام وإنما يعبدونها بناء على محض الهوى لا على سبيل الحجة فإن اشتغال الأشرف بعبادة الأخس أمر يدفعه صريح العقل (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) أي إن اتبعت أهواءكم (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (٥٦) أي ما أنا في شيء من الهدى حين أكون في عدادهم (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ) أي حجة واضحة تفصل بين الحق والباطل وهي الوحي (مِنْ رَبِّي) في أنه لا معبود سواه (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أي بربي حيث أشركتم به غيره (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أي من العذاب أي ليس أمره بمفوض إلى فـ «ما» الأولى نافية ، و «ما» الثانية موصولة ، وسبب نزول هذه الآية أن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك ، وكان النضر بن الحرث وأصحابه يستعجلونه بقولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين بطريق الاستهزاء أو بطريق الإلزام على زعمهم فقال تعالى : قل يا أشرف الخلق ليس ما تستحلونه من العذاب الموعود في القرآن وتجعلون تأخره ذريعة إلى تكذيبه في حكمي وقدرتي حتى أجيء به وأظهر لكم صدقه (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي ما الحكم في نزول العذاب تعجيلا وتأخيرا إلا الله (يَقُصُّ الْحَقَ).

قرأ ابن كثير ونافع وعاصم «يقص» بالصاد المشددة ، وضم القاف ، أي ينبئ الحق ويقول الحق لأن كل ما أخبر الله به فهو حق. وقرأ الباقون «يقض» بسكون القاف وكسر الضاد بغير ياء لسقوطها في اللفظ. أي يقضي القضاء الحق أو يصنع الحق لأن كل شيء صنعه الله فهو حق (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (٥٧) أي أفضل القاضين (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي قل يا أكرم الرسل لو أن في قدرتي ما تطلبون به قبل وقته من العذاب الذي ورد به الوعيد بأن يكون أمره مفوضا إلي من الله تعالى لفصل ما بيني وبينكم بأن نزل عليكم ذلك عقب استعجالكم بقولكم : متى هذا الوعد واسترحت (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) (٥٨) أي أعلم بحال المشركين وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج فوقع بالنضر بن الحرث العذاب الذي سأل فقتل صبرا يوم بدر (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) أي علم الغيب لأن المفاتيح هي التي يتوصل بها إلى ما في الخزائن فمن علم كيف يفتح بها ويتوصل بها إلى ما فيها فهو عالم. أو المعنى وعنده

٣٢٢

تعالى خاصة خزائن الغيب أي قدرة كاملة على كل الممكنات من المطر والنبات ، والثمار ونزول العذاب (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) أي لا يعلم مفاتح الغيب بنزول العذاب الذي تستعجلون به إلا هو فالعذاب ليس مقدورا لي حتى أعجله لكم ولا معلوما لدي حتى أخبركم بوقت نزوله بل هو مما يختص به تعالى قدرة وعلما (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) من الموجودات مفصلة على اختلاف أجناسها وأنواعها وتكثر أفرادها ، وإنما قدم ذكر البر لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر وكثرة ما فيه من المدن والقرى والمفاوز ، والجبال والتلال ، والحيوان والنبات والمعادن ، وأما البحر فإنما أخر ذكره لأن إحاطة العقل بأحواله أقل لكن الحس يدل على أن عجائب البحر أكثر ، وأجناس المخلوقات أعجب وأن طول البحر وعرضه أعظم (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ) من الشجر والنجم (إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٥٩) أي وما حبة ملقاة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس من كل شيء إلا في علم الله تعالى ، فإذا سمع الإنسان أن الحبة الصغيرة الملقاة في مواضع متسعة يبقى أكبر الأجسام مخفيا فيها وأن الماء والنابت والحي وخلافها لا تخرج عن علم الله تعالى ، صارت هذه الأمثلة منبهة على معنى قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ).

وقيل : المراد بالكتاب المبين هو اللوح المحفوظ إنما كتب هذه الأحوال في اللوح المحفوظ ، لتقف الملائكة على نفاذ علم الله تعالى في المعلومات فيكون في ذلك عبرة تامة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث في صحيفة هذا العالم فيجدونه موافقا له (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) أي ينيمكم في الليل وإنما صح إطلاق لفظ الوفاة على النوم لأن ظاهر الجسد صار معطلا عن بعض الأعمال عند النوم كما أن جملة البدن صارت معطلة عن كل الأعمال عند الموت فحصل بين النوم والموت مشابهة من هذا الاعتبار (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) أي يعلم ما كسبتم من أعمال الجوارح في النهار (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أي يوقظكم في النهار (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) أي لكي يتم أجل معين عند الله لكل فرد فرد بحيث لا يكاد يتجاوز أحد ما لا عين له طرفة عين (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) أي رجوعكم بالموت (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٦٠) أي يخبركم بمجازاة أعمالكم التي كنتم تعملونها في الليل والنهار من الخير والشر (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) أي وهو الغالب المتصرف في أمور عباده يفعل بهم ما يشاء إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة وإثابة وتعذيبا إلى غير ذلك فالممكنات كلها مقهورة تحت قهر الله تعالى مسخرة تحت تسخير الله تعالى (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) أي ملائكة يحفظون أعمالكم ويكتبونها في صحائف تقرأ عليكم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) أي حتى إذا انتهت مدة أحدكم وانتهى حفظ الحفظة وجاءه أسباب الموت قبضه ملك الموت وأعوانه (وَهُمْ) أي هؤلاء الرسل (لا يُفَرِّطُونَ) (٦١) أي لا يؤخرون الميت طرفة عين.

٣٢٣

وقرئ بسكون الفاء أي لا يجاوزون ما حدّ لهم بزيادة أو نقصان (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ) أي ثم رد جميع البشر بعد البعث بالحشر إلى حكم الله وجزائه في موقف الحساب. وقيل : المعنى ثم يرد أولئك الملائكة فإنهم يموتون كما يموت بنو آدم (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) أي مالكهم الذي لا يقضي إلا بالعدل (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) يومئذ صورة ومعنى (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) (٦٢) يحاسب جميع الخلائق في أقصر زمان لا يشغله كلام عن كلام ولا حساب عن حساب وفي الحديث : «إن الله تعالى يحاسب الكل في مقدار حلب شاة» (١) أي وذلك لأنه تعالى لا يحتاج إلى فكر وعد. (قُلْ) يا أكرم الخلق لكفار مكة : (مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي من شدائدهما الهائلة التي تبطل الحواس وتدهش العقول (تَدْعُونَهُ) والضمير عائد لمن وهذه الجملة في محل نصب على الحال إما من مفعول ينجيكم أي من ينجيكم منها داعين إياه ، وإما من فاعله أي من ينجيكم منها مدعوا من جهتكم (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) أي تدعونه دعاء إعلان وإخفاء ، أو تدعونه متضرعين ومخلصين بقلوبكم قائلين (لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ) أي الأهوال والشدائد (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٦٣) أي من المؤمنين المداومين على الشكر لأجل هذه النعمة.

وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «خفية» بكسر الخاء. والباقون بالضم وعلى هذا الاختلاف في سورة الأعراف. وقرأ الأعمش و «خيفة» بكسر الخاء فبعده الياء الساكنة من الخوف أي مستكينا أو دعاء خوف والآية تدل على أن الإنسان يأتي عند حصول الشدائد بأمور.

أحدها : الدعاء.

وثانيها : التضرع.

وثالثها : الإخلاص بالقلب وهو المراد من قوله وخفية.

ورابعها : التزام الشدائد بالشكر وهو المراد من قوله : (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ).

وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «لئن أنجانا» على المغايبة وينجيكم بالتشديد في الموضعين. والباقون «لئن أنجيتنا» على الخطاب و «ينجيكم» بالتشديد والتخفيف وحجة من قرأ على المغايبة أن ما قبل لفظ أنجانا وهو «تدعونه» وما بعده وهو «قل الله ينجيكم منها» مذكور بلفظ المغايبة ولا يحتاج في هذه القراءة إلى إضمار نحو تقولون ، فالإضمار خلاف الأصل وحجة من قرأ على المخاطبة قوله تعالى في آية أخرى لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها)

__________________

(١) رواه القرطبي في التفسير (٢ : ٤٣٥).

٣٢٤

أي الله وحده ينجيكم من شدائد البر والبحر (وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) أي غم سوى ذلك (ثُمَّ أَنْتُمْ) يا أهل مكة بعد ما تشاهدون هذه النعم الجليلة (تُشْرِكُونَ) (٦٤) بعبادته تعالى غيره الذي عرفتم أنه لا يضر ولا ينفع ولا تفون بعهدكم (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) كالمطر كما فعل بقوم نوح ، والحجارة كما رمى أصحاب الفيل وقوم لوط ، والصيحة أي صرخة جبريل التي صرخها على ثمود قوم صالح والريح كما في قوم هود (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) كالرجفة وغرق فرعون وخسف قارون (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) أي يخلط أمركم خلط اضطراب فيجعلكم فرقا مختلفين على أهواء شتى كل فرقة متابعة لإمام فإذا كنتم مختلفين قاتل بعضكم بعضا (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي نكررها متغيرة من حال إلى حال (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (٦٥) أي كي يقفوا على جلية الأمر فيرجعوا عمّا هم عليه من العناد (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ) أي وكذبوا بالعذاب والحال أنه لواقع لا بدّ وأن ينزل بهم. أو المعنى وكذب قريش بالقرآن وهو الكتاب الصادق في كل ما نطق به وفي كونه منزلا من عند الله (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (٦٦) أي قل يا أكرم الرسل لهؤلاء المكذبين لست عليكم بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الدلائل إنما أنا منذر والله هو المجازي لكم بأعمالكم (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) أي لكل خبر يخبره الله تعالى وقت يحصل فيه من غير تأخير. أو المعنى لكل قول من الله من الوعد والوعيد استقرار وحقيقة منه ما يكون في الدنيا ومنه ما يكون في الآخرة (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٦٧) أي ولا بد أن يعلموا أن الأمر كما أخبر الله تعالى عنه عند ظهوره (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أي وإذا رأيت أيها السامع الذين يستهزئون بآياتنا فاترك مجالسهم كي يشرعوا في حديثهم في غير آياتنا أي في غير الاستهزاء بالقرآن. ونقل الواحدي أن المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن فشتموا واستهزءوا فأمرهم الله بترك مجالسة المشركين (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٦٨) أي وإن يشغلك الشيطان فتنسى النهي فتجالسهم فلا تقعد معهم بعد تذكر النهى (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٦٩).

قال ابن عباس : قال المسلمون لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا عنهم لما قدرنا على أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت ، فنزلت هذه الآية. أي ما على الذين يتقون قبائح الخائضين مما يحاسبون عليه من آثامهم شيء ولكن تذكرة لهم عما هم عليه من القبائح بما أمكن من التذكير لعلهم يجتنبون الخوض حياء أو نحوه. وقوله تعالى : (ذِكْرى) معطوف على محل (شَيْءٍ) وهو رفع على أنه مبتدأ مؤخر أو اسم «ما» ومن مزيدة للاستغراق ومن حسابهم حال (مِنْ شَيْءٍ). (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي أعرض عن الذين نصروا الدين ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرياسة ، وغلبة الخصم وجمع الأموال ولا

٣٢٥

تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تقم لهم في نظرك وزنا وإنما نصروا الدين للدنيا لأجل أنهم غرتهم الحياة الدنيا أي اطمأنوا بها فلأجل استيلاء حب الدنيا على قلوبهم أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر يتوسلوا بها إلى حطام الدنيا ، وإذا تأملت في حال أكثر الخلق وجدتهم موصوفين بهذه الصفة وداخلين تحت هذه الحالة والله أعلم والمحقق في الدين هو الذي ينصر الدين لأجل أنه قام الدليل على أنه صواب (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) أي ذكرهم بمقتضى الدين مخافة احتباسهم في نار جهنم بسبب جناياتهم لعلهم يخافون (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) أي ليس للنفس من غير الله ناصر ولا شفيع يمنع عنها العذاب (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) أي وإن تفد تلك النفس بكل فداء لا يقبل منها حتى لو جعلت الدنيا بأسرها فدية من عذاب الله لم تنفع (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٧٠) أي أولئك المتخذون دينهم لعبا ولهوا المغترون بالحياة الدنيا هم الذين حبسوا في جهنم بما كسبوا في الدنيا لهم شراب من ماء مغلي يتجرجر في بطونهم وتتقطع به أمعاؤهم وعذاب أليم بنار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم المستمر في الدنيا (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) أي قل يا أكرم الرسل لهؤلاء المشركين الذين دعوك إلى دين آبائهم كعيينة وأصحابه أنعبد متجاوزين عبادة الله الجامع لجميع صفات الألوهية ما لا يقدر على نفعنا في الدنيا والآخرة إن عبدناه ، ولا على ضرنا فيهما إذا تركناه ونرد إلى الشرك بعد إذ هدانا الله إلى الإسلام وأنقذنا من الشرك ، وإنما يقال لكل من أعرض عن الحق إلى الباطل : إنه رجع إلى خلف ورجع على عقبيه لأن الأصل في الإنسان هو الجهل ثم إذا تكامل حصل له العلم فإذا يرجع من العلم إلى الجهل مرة أخرى فكأنه رجع إلى أول مرة (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا) أي فيكون مثلنا كالذي استنزلته الشياطين من الموضع العالي إلى الوهدة السافلة العميقة في قعر الأرض تائها عن الجادة لا يدري ما يصنع وللنازل إلى الوهدة المظلمة عينية وأصحابه رفقة وهم أصحاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعونه إلى الطريق المستقيم يقولون : ائتنا إلى الجادة والغيلان ينزلونه إلى السافلة المظلمة فبقي متحيرا أين يذهب. وهذا المثل في غاية الحسن وذلك لأن الذي يهوي من المكان العالي إلى الوهدة العميقة يهوي إليها مع الاستدارة على نفسه كما أن الحجر حال نزوله من الأعلى إلى الأسفل ينزل على الاستدارة ، وذلك يدل على كمال التردد والتحير فعند نزوله لا يعرف أنه يسقط على موضع يكثر بلاؤه بسبب سقوطه أو يقل فإذا اعتبرت مجموع هذه الأحوال علمت أنك لا تجد مثالا للمتحير المتردد الخائف أحسن ولا أكمل من هذا المثال (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ) الذي هدانا إليه هو الإسلام (هُوَ الْهُدى) الكامل النافع الشريف وما عداه ضلال محض ، وغي بحت (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٧١) (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ) أي قل وأمرنا بأن نخلص العبادة لرب العالمين لأنه

٣٢٦

المستحق للعبادة وقل أقيموا الصلاة واتقوا الله تعالى في مخالفة أمره المقصود من ذكر هذين النوعين من الخطاب تنبيه على الفرق بين حالتي الكفر والإيمان. فإن الكافر بعيد غائب والمؤمن قريب حاضر ، فيخاطب الكافر بخطاب الغائبين لأنه كالأجنبي الغائب ، فيقال له : وأمرنا لنسلم لرب العالمين وإذا أسلم وآمن صار كالقريب الحاضر فيخاطب بخطاب الحاضرين ويقال له : (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٧٢) أي تجمعون يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وما فيهما (بِالْحَقِ) أي قائما بالحق لا عابثا (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ) أي وأمره المتعلق بكل شيء يريد خلقه حين تعلقه به هو المعروف بالحقية. والمراد من هذا الأمر التنبيه على نفاذ قدرته ومشيئته في تكوين الكائنات وهذا بيان أن خلقه تعالى للسموات والأرض ليس مما يتوقف على مادة ولا مدة بل يتم بمحض الأمر التكويني من غير توقف على شيء آخر أصلا. والمراد بالقول كلمة «كن» تمثيل لأن سرعة قدرته تعالى أقل زمنا من زمن النطق بكن (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) إنما أخبر الله عن ملكه يومئذ لأنه لا منازع له يومئذ فإن الملوك اعترفوا بأن الملك لله الواحد القهار ، والصور قرن ينفخ فيه إسرافيل نفختين نفخة الصعق أي الموت ، ونفخة البعث للحساب (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي عالم ما غاب عن العباد وما عمله العباد وقوله تعالى : (وَلَهُ الْمُلْكُ) يدل على كمال القدرة وقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) يدل على كمال العلم (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (٧٣) فالحكيم هو المصيب في أفعاله والخبير هو العالم بحقائق الأشياء من غير اشتباه (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) وهو في التوراة تارح فلأبي إبراهيم اسمان آزر وتارح بن ناحور.

واعلم أن جميع نسب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطهر من عبادة الأصنام ما دام النور المحمدي في أصلابهم أما بعد انتقاله منهم فتجوز عليهم عبادة الأصنام وغيرها من سائر أنواع الكفر (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) أي أتجعل لنفسك أصناما آلهة فتعبد أصناما شتى صغيرا وكبيرا ذكرا وأنثى (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٧٤) أي إني أراك يا أبت وقومك في ضلال عن الحق بين في الاتفاق على عبادة الأصنام (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٧٥) أي كما أرينا إبراهيم البصيرة في دينه والحق في خلاف ما كان قومه عليه من عبادة الأصنام نريه ملكوت السماوات والأرض من وقت طفوليته ليراها فيتوسل بها إلى معرفة جلال الله تعالى وقدسه ، وعلوه وعظمته وليصير زمان بلوغه من البالغين درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى ، لأن مخلوقات الله وإن كانت متناهية في الذوات والصفات فهي غير متناهية من جهات دلالتها على الذوات والصفات كما نقل عن إمام الحرمين أنه يقول معلومات الله تعالى غير متناهية ومعلوماته في كل واحد من تلك المعلومات غير متناهية أيضا وذلك لأن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل ، ويمكن اتصافه بصفات لا نهاية لها على البدل ، وكل تلك

٣٢٧

الأحوال التقديرية دالة على حكمة الله وقدرته ، وإذا كان الجوهر الفرد وهو الجزء الذي لا يتجزأ كذلك فكيف القول في ملكوت الله تعالى فثبت أن دلالة ملك الله تعالى على سمات عظمته وعزته غير متناهية ، وحصول المعلومات التي لا نهاية لها دفعة واحدة في عقول الخلق محال فحينئذ لا طريق إلى تحصيل تلك المعارف إلا بأن يحصل بعضها عقب بعض وهذا هو المراد من قول المحققين السفر إلى الله له نهاية ، وأما السفر في الله فإنه لا نهاية له والله أعلم (فَلَمَّا جَنَ) أي أظلم (عَلَيْهِ اللَّيْلُ) في السرب (رَأى كَوْكَباً) وهي الزهرة وهي في السماء الثالثة (قالَ هذا رَبِّي) مجاراة مع أبيه وقومه الذين كانوا يعبدون الأصنام والكوكب (فَلَمَّا أَفَلَ) أي غرب (قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (٧٦) أي لا أحب الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان المتغيرين من حال إلى حال المحتجبين بالأستار (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) أي مبتدئا في الطلوع إثر غروب الكواكب (قالَ هذا رَبِّي) هذا أكبر من الأول حكاية لقول الخصم الذين يعبدون الكواكب (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) إلى حضرة الحق (لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (٧٧) فإن شيئا مما رأيته لا يليق بالربوبية (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً) أي مبتدئه في الطلوع (قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) من الأول والثاني (فَلَمَّا أَفَلَتْ) أي هي (قالَ) مخاطبا للكل صادعا بالحق بينهم (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (٧٨) بالله من الأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث.

اعلم أن أكثر المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان وهو نمروذ بن كنعان رأى رؤيا كأن كوكبا قد طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ، وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه فأمر ذلك الملك بذبح كل غلام يولد في هذه السنة فحبلت أم إبراهيم به وما أظهرت حبلها للناس فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر ، فجاء جبريل عليه‌السلام ووضع إصبعه في فمه فمصه فخرج منه رزقه ، وكان يتعهده جبريل عليه‌السلام فكانت الأم تأتيه أحيانا وترضعه وبقي على هذه الصفة حتى كبر وعقل وعرف أن له ربا فسأل الأم فقال لها : من ربي؟ فقالت : أنا ، فقال : ومن ربك؟ قالت : أبوك ، فلما أتاه أبوه آزر فقال : يا أبتا من ربي؟ قال : أمك ، قال : فمن رب أمي؟ قال : أنا ، قال : فمن ربك؟ قال : ملك البلد نمروذ ، فعرف إبراهيم جهلهما بربهما فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من باب ذلك الغار ليرى شيئا يستدل به على وجود الرب تعالى فرأى النجم الذي هو أضوء النجوم في السماء فقال : هذا ربي إلى آخر القصة. ولما تبرأ إبراهيم من المشركين توجه إلى منشئ هذه المصنوعات فقال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي إني وجهت طاعتي وصرفت وجه قلبي للذي أخرج السموات والأرض إلى الوجود (حَنِيفاً) أي مائلا عن كل معبود دون الله تعالى (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٧٩) في شيء من الأفعال والأقوال (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) أي خاصموه في آلهتهم وخوفوه بها.

٣٢٨

روي أنه لما شبّ إبراهيم جعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها له ليبيعها فيذهب بها وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه فلا يشتريها أحد ، فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر وضرب فيه رؤوسها وقال لها : اشربي. استهزاء بقومه حتى فشا فيهم استهزاؤه بها فقالوا له : احذر الأصنام فإنا نخاف أن تمسك بخبل أو جنون بعيبك إياها فذلك قوله تعالى : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ). (قالَ) أي إبراهيم لهم : (أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ) أي أتخاصمونني في وحدانية الله (وَقَدْ هَدانِ) لدينه فكيف ألتفت إلى حجتكم العليلة وكلماتكم الباطلة (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) من الأصنام لأن الخوف إنما يحصل ممن يقدر على النفع والضر والأصنام جمادات لا قدرة لها على النفع والضر فكيف يحصل الخوف منها (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) أي لا أخاف معبوداتكم في وقت قط لأنها لا تقدر على منفعة ولا مضرة إلا أن يشاء ربي شيئا من المكروه يصيبني من جهتها كأن يحييها ويمكنها من إيصال المنفعة والمضرة إلي ، أو من نزع المعرفة من قلبي فأخاف ممن تخافون (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) فإنه علام الغيوب فلا يفعل إلا الصلاح والحكمة فبتقدير أن يحدث من مكاره الدنيا فذاك لأنه تعالى عرف وجه الصلاح والخير فيه لا لأجل أنه عقوبة على الطعن في إلهية الأصنام (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) (٨٠) أن نفي الشركاء عن الله تعالى لا يوجب نزول العذاب وإثبات التوحيد له تعالى لا يوجب استحقاق العقاب. أو المعنى أتعرضون عن التأمل في أن آلهتكم جمادات لا تضر ولا تنفع فلا تتذكرون أنها غير قادرة ولا تتعظون فيما أقول لكم من النهي (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) أي وكيف أخاف الأصنام التي لا قدرة لها على النفع والضر وأنتم لا تخافون من الله إشراككم بالله ما يمتنع حصول الحجة فيه ، أو ما لم يرد الأمر به أي وكيف أخاف أنا ما ليس في حيز الخوف أصلا ، وأنتم لا تخافون غائلة ما هو أعظم المخوّفات وهو إشراككم بالله الذي لا يماثل ذاته وصفاته شيء في الأرض ولا في السماء ما هو من جملة مخلوقاته (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) أي ما لكم تنكرون على الأمن في موضع الأمن ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف فأي الفريقين من الموحدين والمشركين أحق بالأمن من معبود أحد الفريقين (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٨١) من أحق بذلك فأخبروني فلم يجيبوا فأجاب الله ما سأل عنهم فقال (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) أي الفريق الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بشرك بأن لم يثبتوا لله شريكا في المعبودية أولئك لهم الأمن من العذاب (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٨٢) إلى الصواب ومن عداهم في ضلال ظاهر والله تعالى شرط في الإيمان الموجب للأمن عدم الظلم أي عدم النفاق بالإيمان. وأما الفاسق فهو مؤمن فوعيد الفاسق من أهل الصلاة يحتمل أن يعذبه الله وأن يعفو عنه فالأمن زائل والخوف حاصل فلم يلزم من عدم الأمن القطع بحصول العذاب والله أعلم (وَتِلْكَ) أي ما احتج به إبراهيم على قومه (حُجَّتُنا آتَيْناها) أي ألهمناها (إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) متعلق بحجتنا (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ).

٣٢٩

قرأ عاصم وحمزة والكسائي بغير إضافة أي نرفع من نشاء رفعه في رتب عظيمة عالية من العلم والحكمة والمنزلة. وقرأ الباقون بالإضافة (إِنَّ رَبَّكَ) يا أكرم الرسل (حَكِيمٌ) في كل ما فعل من رفع وخفض. (عَلِيمٌ) (٨٣) بحال من يرفعه أي إن الله يرفع درجات من يشاء بمقتضى حكمته وعلمه فإن أفعاله تعالى منزهة عن العبث (وَوَهَبْنا لَهُ) أي لإبراهيم لصلبه (إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) من إسحاق (كُلًّا هَدَيْنا) أي كل واحد من إبراهيم وإسحاق ويعقوب أرشدنا إلى النبوة والرسالة (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل إبراهيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) أي وهدينا من ذرية نوح (داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ) هو ابن أموص من أسباط عيص بن إسحاق (وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٨٤) أي ونجزي المحسنين المذكورين جزاء كائنا مثل ذلك الجزاء على إحسانهم وهو الإتيان بالأعمال الحسنة على حسنها الوصفي المقارن لحسنها الذاتي ، وقد فسره النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»(١). (وَزَكَرِيَّا) ابن أذن (وَيَحْيى) ابنه (وَعِيسى) ابن مريم بنت عمران (وَإِلْياسَ) بن ياسين بن فنحاص بن عيزار بن هارون بن عمران (كُلٌ) أي كل واحد من أولئك المذكورين (مِنَ الصَّالِحِينَ) (٨٥) أي من الكاملين في الصلاح. وهو الإتيان بما ينبغي والتحرز عمّا لا ينبغي (وَإِسْماعِيلَ) بن إبراهيم (وَالْيَسَعَ) بن أخطوب بن العجوز.

قرأ حمزة والكسائي واليسع بتشديد اللام وسكون الياء. والباقون واليسع بلام واحدة ساكنة وبفتح الياء (وَيُونُسَ) بن متى (وَلُوطاً) بن هاران أخي إبراهيم (وَكلًّا) من هؤلاء الأنبياء (فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) (٨٦) فهم يفضلون على الملائكة والأولياء.

واعلم أن الله تعالى خصّ كل طائفة من الأنبياء بنوع من الكرامة والفضل فمنهم أصول الأنبياء وإليهم يرجع حسبهم جميعا وهم نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ثم المراتب المعتبرة عند جمهور الخلق بعد النبوة الملك والسلطان والقدرة ، وقد أعطى الله داود وسليمان من هذا الباب نصيبا عظيما ، ثم المرتبة الثالثة البلاء الشديد ، والمحنة العظيمة ، وقد خصّ الله أيوب بهذه الخاصية ، والمرتبة الرابعة من كان مستجمعا لهاتين الحالتين وهو يوسف فإنه نال البلاء الكثير في أول الأمر ، ثم أعطاه الله النبوة مع ملك مصر ، والمرتبة الخامسة من فضائل الأنبياء : قوة المعجزات وكثرة البراهين والمهابة العظيمة والصولة الشديدة وذلك في حق موسى وهارون.

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التفسير ، باب : تفسير سورة ٣١ ، ومسلم في كتاب الإيمان ، باب : ٥٧ ، وأبو داود في كتاب السنّة ، باب : في القدر ، والترمذي في كتاب الإيمان ، باب : ٤ ، وابن ماجة في المقدّمة ، باب : في الإيمان ، وأحمد في (م ١ / ص ٢٧).

٣٣٠

والمرتبة السادسة : الزهد الشديد والإعراض عن الدنيا وترك مخالطة الخلق وذلك كما في حق زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ، ولهذا السبب وصفهم الله بأنهم من الصالحين ، ثم ذكر الله بعد هؤلاء من لم يبق له فيما بين الخلق أتباع وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط والله أعلم. (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) وهذا إما عطف على «كلا» فالعامل فيه «فضلنا» ومن تبعيضية أو على «نوحا» فالعامل فيه «هدينا» و «من» ابتدائية والمفعول محذوف أي وهدينا بالنبوة والإسلام من آبائهم جماعات كثيرة آدم وشيث وإدريس وهود وصالح ومن ذرياتهم جماعات كثيرة أولاد يعقوب ومن إخوانهم جماعات إخوة يوسف (وَاجْتَبَيْناهُمْ) أي اصطفيناهم بالنبوة والرسالة (وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٨٧) أي إلى معرفة التوحيد وتنزيه الله تعالى عن الشرك (ذلِكَ) أي معرفة الله بوحدانيته (هُدَى اللهِ) أي دين الله فان الايمان لا يحصل الا بخلق الله تعالى (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهم المستعدون للهداية في الإرشاد (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨٨) أي ولو أشرك هؤلاء الأنبياء لحبط عنهم مع فضلهم وعلو درجاتهم أعمالهم المرضية وعبادتهم الصالحة فكيف بمن عداهم. والمقصود من هذا الكلام تقرير التوحيد وإبطال طريقة الشرك (أُولئِكَ) أي الأنبياء الثمانية عشر (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي أعطيناهم فهما تاما لما في الكتاب وعلما محيطا بأسراره (وَالْحُكْمَ) فإن الله تعالى جعلهم حكاما على الناس نافذي الحكم فيهم بحسب الظاهر (وَالنُّبُوَّةَ) فيقدرون بها على التصوف في ظواهر الخلق كالسلاطين ، وفي بواطنهم وأرواحهم كالعلماء (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) أي بهذه الثلاثة (هؤُلاءِ) أي كفار قريش (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها) أي وفقنا للإيمان بها والقيام بحقوقها (قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) (٨٩) أي بجاحدين في وقت من الأوقات وهم الأنصار وأهل المدينة (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) أي أولئك الذين قصصناهم من النبيين هداهم الله بالأخلاق الحسنى فبأخلاقهم الشريفة اقتده ، واستدل بهذه الآية بعض العلماء على أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من جميع الأنبياء ، وذلك لأن جميع الصفات الحميدة كانت متفرقة فيهم فأمر الله تعالى رسوله سيدنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقتدي بهم بأسرهم في جميع صفات الكمال التي كانت متفرقة فيهم فيلزم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حصّلها ، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يقال : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل منهم بكليتهم. فكان نوح صاحب تحمل الأذى من قومه. وكان إبراهيم صاحب كرم وبذل ومجاهدة في الله تعالى ، وكان إسحاق ويعقوب صاحبي صبر على البلاء والمحن. وكان داود وسليمان من أصحاب الشكر على النعمة ، وكان أيوب صاحب صبر على البلاء وكان يوسف جامعا بين الصبر والشكر ، وكان موسى صاحب الشريعة الظاهرة ، وكان زكريا ويحيى وعيسى وإلياس من أصحاب الزهد في الدنيا ، وكان إسماعيل صاحب صدق وكان يونس صاحب تضرع. (قُلْ) يا أشرف الخلق لأهل مكة : (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي القرآن (أَجْراً) من جهتكم (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) (٩٠) أي ما القرآن إلا عظة للجن والإنس من جهته تعالى

٣٣١

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عرفوه تعالى حق معرفته في اللطف بعباده والرحمة عليهم ولم يراعوا حقوقه تعالى في ذلك (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ).

روي أن مالك بن الصيف ـ وهو من أحبار اليهود ـ ورؤسائهم جاء في مكة يخاصم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان رجلا سمينا ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله تعالى يبغض الحبر السمين» فقال : نعم ـ وكان يحب إخفاء ذلك لكن أقر لإقسام النبي عليه ـ فقال له النبي : «أنت حبر سمين وقد سمنت من الأشياء التي تطعمك اليهود» (١). فضحك القوم ، فغضب مالك بن الصيف ثم التفت إلى عمر فقال : ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له أصحابه الذين معه : ويحك ، ولا على موسى. فقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء ، فلما سمع قومه تلك المقالة قالوا : ويلك. ما هذا الذي بلغنا عنك أليس الله أنزل التوراة على موسى فلم قلت هذا قال؟! : أغضبني محمد فقلته ، فقالوا : وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق. فعزلوه من الحبرية وعن رئاستهم لأجل هذا الكلام وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف. (قُلْ) لهم : (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) أي حال كون الكتاب ظاهرا جليا في نفسه وهاديا للناس من الضلالة (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) أي تضعون الكتاب في ورقات مفرقة فجعلوه أجزاء نحو نيف وثمانين جزءا ، وفعلوا ذلك ليتمكنوا من إخفاء ما أرادوا إخفاءه ، فيجعلون ما يريدون إخفاءه على حدى ليتمكنوا من إخفائه.

قرأ ابن كثير وأبو عمرو بياء الغيبة في الأفعال الثلاثة. والباقون بتاء الخطاب (وَعُلِّمْتُمْ) أيها اليهود من الأحكام وغيرها (ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) من قبل نزول التوراة. وقيل : المراد من قوله تعالى : (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) أن التوراة كانت مشتملة على البشارة بمقدم محمد واليهود قبل مقدمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يقرءون تلك الآيات وما كانوا يفهمون معانيها فلما بعث محمدا ظهر أن المراد من تلك الآيات هو مبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلِ اللهُ) أي قل يا أكرم الرسل المنزل لهذا الكتاب هو الله تعالى (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (٩١) أي ثم اتركهم في باطلهم الذين يخوضون فيه يسخرون فإنك إذا أقمت الحجة لم يبق عليك من أمرهم شيء ألبتة (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) أي وهذا القرآن كتاب أنزلناه بالوحي على لسان جبريل (مُبارَكٌ) أي كثير خيره دائم منفعته يبشر بالمغفرة يزجر عن المعصية (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي موافق للكتب التي قبله في التوحيد وتنزيه الله ، والدلالة على البشارة والنذارة (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى).

__________________

(١) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (٦٢) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٧ : ٣٨٨) ، والواحدي في أسباب النزول (١٤٧).

٣٣٢

قرأ شعبة «لينذر» على الغيبة أي لينذر الكتاب والباقون و «لتنذر» بالخطاب. أي ولتنذر يا أكرم الرسل أهل مكة سميت أم القرى لأنها قبلة أهل الدنيا ولأنها موضع الحج وهي من أصول عبادات أهل الدنيا فيجتمع الخلق إليها كما يجتمع الأولاد إلى الأم ، فلما اجتمع أهل الدنيا فيها بسبب الحج فيلزم أن يحصل فيها أنواع التجارات وهي من أصول المعيشة فلهذا السبب سميت مكة أم القرى (وَمَنْ حَوْلَها) أي من أهل جميع بلاد العالم (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي بالوعد والوعيد والثواب والعقاب (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالكتاب (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) (٩٢) فإن الإيمان بالآخرة يحمل على الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك يحمل على المحافظة على الصلاة وتخصيصها بالذكر لأنها أشرف العبادات بعد الإيمان بالله فلم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا على الصلاة. قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] أي صلاتكم. ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» (١) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) نزل هذا في مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة وفي الأسود العنسي صاحب صنعاء فإنهما كانا يدّعيان النبوة والرسالة من عند الله تعالى على سبيل الكذب (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ).

روي أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب الوحي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما نزل قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] أملاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما بلغ قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون : ١٤] عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال : فتبارك الله أحسن الخالقين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هكذا نزلت الآية اكتبها كذلك» (٢) فشك عبد الله وقال : إن كان محمدا صادقا فقد أوحي إليّ مثل ما أوحي إليه فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ، ثم رجع بعد ذلك إلى الإسلام فأسلم قبل فتح مكة حين نزول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمر الظهران (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) كما ادعى النضر بن الحرث معارضة القرآن فإنه قال في شأن القرآن : إنه من أساطير الأولين وكل أحد يمكنه الإتيان بمثله ، وقال : لو نشاء لقلنا مثل هذا.

قال العلماء : وقد دخل في حكم هذه الآية كل من افترى على الله كذبا في ذلك الزمان وبعده لأن خصوص السبب لا يمنع عموم الحكم (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (٩٣) أي ولو ترى يا أشرف الخلق الظالمين وقت كونهم في شدائد الموت

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٦ / ص ٤٢١) ، «بما معناه».

(٢) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (٦٢).

٣٣٣

في الدنيا والملائكة باسطوا أيديهم لقبض أرواحهم قائلين لهم : أخرجوا أنفسكم من هذه الشدائد ، وخلّصوها من هذه الآلام ، هذا الوقت تجزون العذاب الذي يقع به الهوان الشديد بسبب الافتراء على الله والتكبر على آيات الله ، لرأيت أمرا فظيعا. أو المعنى ولو ترى الظالمين إذا صاروا إلى أنواع الشدائد والتعذيبات في الآخرة فأدخلوا جهنم والملائكة باسطوا أيديهم عليهم بالعذاب مبكتين لهم قائلين : أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب الشديد هذا الوقت تجزون العذاب المشتمل على الإهانة بسبب كونكم قائلين قولا غير الحق ، وكونكم مستكبرين عن الإيمان بآيات الله لرأيت أمرا عظيما. (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا) للحساب (فُرادى) عن الأهل والمال والجاه (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي مشبهين ابتداء خلقكم حفاة عراة غرلا بهما أي ليس معهم شيء (وَتَرَكْتُمْ) بغير اختياركم (ما خَوَّلْناكُمْ) أي أعطيناكم من الأموال (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) في الدنيا أما إذا صرف الأموال إلى الجهات الموجبة لتعظيم أمر الله وللشفقة على خلق الله فما تركها وراء ظهره بل قدمها تلقاء وجهه (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) أي وما نرى معكم أصنامكم التي زعمتم أنها شركاء لله في استحقاق عبادتكم (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ).

قرأ نافع وحفص عن عاصم والكسائي بالنصب. أي لقد تقطعت الشركة بينكم. والباقون بالرفع أي لقد تقطع وصلكم فـ «البين» اسم يستعمل للوصل والفراق فهو مشترك بينهما كالجون للأسود والأبيض (وَضَلَ) أي ضاع (عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٩٤) إن الأصنام شفعاؤكم (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِ) أي شاق جميع الحبوب من الحنطة وغيرها (وَالنَّوى) وهي التي في داخل الثمار أي فإذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة ثم مرّ عليها مدة أظهر الله تعالى في تلك الحبة أو النواة من أعلاها شقا ومن أسفلها شقا آخر فيخرج من الحبة ورق أخضر ومن النواة شجرة صاعدة في الهواء ويخرج منها عروق هابطة في الأرض (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) أي يخرج من النطفة بشرا حيا ، ومن البيضة فروخا حية ، ومن الحب اليابس نباتا غضا ، ومن الكافر مؤمنا ، ومن العاصي مطيعا وبالعكس (ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٩٥) أي ذلكم الله المدبر الخالق ، النافع الضار ، المحيي المميت فمن أين تكذبون في إثبات القول بعبادة الأصنام؟ وقيل : المراد الإنكار على تكذيبهم بالحشر والنشر. فالمعنى إنكم لما شاهدتم أنه تعالى يخرج الحي ، من الميت ومخرج الميت من الحي ثم شاهدتم أنه تعالى أخرج البدن الحي من النطفة الميتة مرة واحدة فكيف تستبعدون أن يخرج البدن الحي من ميت التراب الرميم مرة أخرى (فالِقُ الْإِصْباحِ) أي فالق ظلمة الإصباح بنور الإصباح وذلك لأن الأفق من الجانب الغربي والشمالي والجنوبي مملوء من الظلمة ، وإنما ظهر النور في الجانب الشرقي فكأن الأفق كان بحرا مملوءا من الظلمة ، ثم إنه تعالى شق ذلك البحر المظلم بأن أجرى جدولا من النور فيه (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) أي يستريح فيه الخلق من التعب الحاصل في النهار.

٣٣٤

قرأ عاصم وحمزة والكسائي على صيغة الماضي. والباقون على صيغة اسم الفاعل (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) أي قدّر الله تعالى حركة بمقدار معين من السرعة والبطء بحيث تتم الدورة في سنة ، وقدّر حركة القمر بحيث تتم الدورة في شهر وبهذه المقادير تنتظم مصالح العالم في الفصول الأربعة وبسببها يحصل ما يحتاج إليه من نضج الثمار وحصول الغلات (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) أي حصول هذه الأحوال لا يمكن إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات وبعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات فليس حصول حركات أجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة بالطبع وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي وهو الذي خلق لكم النجوم لاهتدائكم بها في مشتبهات الطرق إذا سافرتم في بر أو بحر ، ولاستدلالكم بها على معرفة القبلة وعلى معرفة أوقات الصلاة (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٩٧) أي قد بينّا العلامات الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا لقوم يتأملون فيستدلون بالمحسوس على المعقول وينتقلون من الشاهد إلى الغائب ، أي فإن هذه النجوم كما يستدل بها على الطرقات في ظلمات البر والبحر فكذلك يستدل بها على معرفة الصانع الحكيم وكمال قدرته وعلمه (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي الذي خلقكم مع كثرتكم من نفس آدم عليه‌السلام (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ).

قرأ ابن كثير وأبو عمرو «فمستقر» بكسر القاف. والباقون بفتحها وأما مستودع فهو بفتح الدال لا غير بالمعنى على الأول فمنكم مستقر ومنكم شيء مودع في الصلب وهو النطفة وعلى الثاني فلكم مكان استقرار وهو الأرحام ، ومكان استيداع وهو نفس الأصلاب. والفرق بين المستقر والمستودع أن المستقر ما لم يكن على قرب الزوال والمستودع ما كان على قرب الزوال فإن النطفة تبقى في صلب الأب زمانا قصيرا والجنين يبقى في رحم الأم زمانا طويلا ولما كان المكث في بطن الأم أكثر من المكث في صلب الأب حمل المستقر على الرحم والمستودع على الصلب.

وقيل : إن المستقر صلب الأب والمستودع : رحم الأم ، لأن النطفة حصلت في صلب الأب قبل حصولها في رحم الأم. فحصول النطفة في الرحم من فعل الرجل مشبه بالوديعة وحصولها في الصلب لا من جهة الغير.

وقال أبو مسلم الأصبهاني : إن تقدير الآية هو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمنكم ذكر ومنكم أنثى ، وإنما عبر عن الذكر بالمستقر لأن النطفة إنما تنشأ في صلبه وتستقر فيه. وإنما عبر عن الأنثى بالمستودع لأن رحمها شبيه بالمستودع لتلك النطفة (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أي قد بينا العلامات الدالة على قدرتنا من تفاصيل خلق البشر (لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) (٩٨) أي يدققون النظر فإن

٣٣٥

إنشاء الأنس من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف صنعة وإن الاستدلال بالأنفس أدق من الاستدلال بالنجوم في الآفاق لظهورها (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي وهو الله الذي خلق هذه الأجسام في السماء ثم ينزلها إلى السحاب ثم من السحاب إلى الأرض (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي بسبب الماء (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء التي تنمو من أنواع النجم والشجر (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ) أي النبات (خَضِراً) أي زرعا. والمراد من هذا الخضر العود الأخضر الذي يخرج أولا في القمح والشعير والذرة والأرز ويكون السنبل في أعلاه (نُخْرِجُ مِنْهُ) أي من ذلك الخضر (حَبًّا مُتَراكِباً) بعضه على بعض في سنبله واحدة (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها) أي كيزانها قبل أن ينشق عن الإغريض (قِنْوانٌ) أي عراجين تدلت من الطلع (دانِيَةٌ) أي قريبة من القاطف يناله القائم والقاعد (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ).

قرأ عاصم بالرفع وهي قراءة علي ، أي ومن الكرم جنات من أعناب. والباقون بالنصب والتقدير وأخرجنا بالماء بساتين من أعناب (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) أي شجرهما والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم (مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أي إن هذه الفواكه قد تكون متشابهة في اللون والشكل مع أنها تكون مختلفة في الطعم واللذة ، وقد تكون مختلفة في اللون والشكل مع أنها تكون متشابهة في الطعم واللذة ، وأيضا بعض حبات العنقود من العنب متشابهة وبعضها غير متشابه فإنك إذا أخذت العنقود ترى حباته نضجة حلوة طيبة إلا حبات مخصوصة منها بقيت على أول حالها من الخضرة والحموضة والعفوصة. (انْظُرُوا) أيها المخاطبون. نظر اعتبار (إِلى ثَمَرِهِ) أي ثمر كل واحد مما ذكر.

قرأ حمزة والكسائي بضم الثاء والميم. وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وسكون الميم. والباقون بفتح الثاء والميم (إِذا أَثْمَرَ) أي إذا خرج ثمره فتجدوه ضئيلا لا يكاد ينتفع به. (وَيَنْعِهِ) أي وانظروا إلى حال نضجه وكماله فتجدوه قد صار قويا جامعا لمنافع جمة (إِنَّ فِي ذلِكُمْ) أي في اختلاف الألوان وهو ما أمر بالنظر إليه (لَآياتٍ) أي عظيمة دالة على وجود القادر الحكيم ووحدته (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٩٩) أي لمن سبق في حقه قضاء الله بالإيمان ، فأما من سبق له قضاء الله بالكفر لم ينتفع بهذه الدلالة ألبتة أصلا. (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) أي قال المجوس : إن الله تعالى وإبليس أخوان شريكان فالله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام ، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب ، وقالوا : كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان وجميع ما فيه من الشرور فهو من أهرمن ، وهو المسمى بإبليس في شرعنا. (وَخَلَقَهُمْ) أي وقد علموا أن الله خلقهم فإن أكثر المجوس معترفون بأن إبليس ليس بقديم بل هو حادث ، وإنما كان إبليس أصلا لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح وقد سلموا أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل

٣٣٦

الشرور والقبائح والمفاسد ، ثم إن في المجوس من يقول : إنه تعالى تفكّر في مملكة نفسه واستعظمها فحصل نوع من العجب فنشأ الشيطان عن ذلك العجب ومنهم من يقول شك في قدرة نفسه فنشأ من شكه الشيطان فهؤلاء معترفون بأن أهرمن محدث وأن محدثه هو الله تعالى فقوله تعالى : (وَخَلَقَهُمْ) إشارة إلى هذا المعنى والضمير عائد إلى الجن (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ).

قرأ نافع و «خرقوا» بتشديد الراء والجمهور بتخفيفها ، وقرأه ابن عباس بالحاء المهملة والفاء وتخفيف الراء ، وابن عمر كذلك إلا أنه شدد الراء أي كذبوا في الله حيث وصفوه تعالى بثبوت البنين والبنات مصاحبين لجهل حقيقة ما وصفوه فالذين أثبتوا لبنين النصارى وقوم من اليهود حيث قال النصارى : المسيح ابن الله ، واليهود : عزير ابن الله والذين أثبتوا البنات العرب الذين يقولون : الملائكة بنات الله ، فلو عرفوا أن الإله يجب أن يكون واجب الوجود لذاته لامتنعوا أن يثبتوا له تعالى البنين والبنات ، فإن الولد دال على كونه منفصلا من جزء من أجزاء الوالد وذلك إنما يكون في مركب يمكن انفصال بعض أجزائه وذلك في حق الفرد الواجب لذاته محال فمن عرف حقيقة الإله استحال أن يقول له تعالى ولد (سُبْحانَهُ) نزه الله ذاته بنفسه عمّا لا يليق به (وَتَعالى) أي تقدس (عَمَّا يَصِفُونَ) (١٠٠) بأن له تعالى شريكا وولدا. فالتسبيح يرجع إلى ذات المسبح والتعالي يرجع إلى صفته الذاتية التي حصلت له تعالى سواء سبحه تعالى مسبح أم لا؟ (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). والمعنى أن الله تعالى أخرج عيسى إلى الوجود من غير سبق الأب والنطفة كما أنه تعالى خلق السموات والأرض من غير سبق مادة ومدة ، فلو لزم من مجرد كونه تعالى مبدعا لإحداث عيسى كونه تعالى والدا له عليه‌السلام لزم من كونه تعالى مبدعا للسموات والأرض كونه تعالى والدا لهما وذلك باطل بالاتفاق ، فثبت أن مجرد كونه تعالى مبدعا لعيسى لا يقتضي كونه والدا له (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) أي من أين يكون له تعالى ولد والحال ليس له زوجة؟ أي لأن الولد لا يصح إلا ممن كانت له زوجة وشهوة وينفصل عنه جزء ويحتبس ذلك الجزء في باطن تلك الزوجة ، وهذه الأحوال إنما تثبت في حق الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق والحركة والسكون والشهوة واللذة وكل ذلك محال على خالق العالم (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي من أين يكون له ولد والحال أنه تعالى خلق جميع الأشياء؟ فإن تحصيل الولد بطريق الولادة إنما يصح في حق من لا يقدر على التكوين دفعة واحدة فمن كان قادرا على تكوين المحدثات فإذا أراد إحداث شيء قال له : كن ، فيكون. ومن كان صفته هكذا امتنع إحداث شخص منه بطريق الولادة (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٠١) أي فإن علم الله أن في تحصيل الولد نفعا له تعالى وكمالا وجب حصول الولد قبل ذلك ، وهذا يوجب كون ذلك الولد أزليا وهو محال. وإن علم أنه ليس له تعالى في تحصيل الولد ازدياد مرتبة في الإلهية ولا كمال حال فيها

٣٣٧

وجب أن لا يحدثه ألبتة في وقت من الأوقات ، وأيضا الولد المعتاد إنما يحدث بقضاء الشهوة وهو يوجب اللذة وهي مطلوبة لذاتها فوجب أن يعلم الله أن تحصيل تلك اللذة يدعوه إلى تحصيلها قبل ذلك الوقت فوجب أن تحصل تلك اللذة في الأزل فلزم كون الولد أزليا ، وذلك محال فثبت عدم صحة الولد عليه تعالى (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) واسم الإشارة راجع إلى الإله الموصوف بما تقدم من الصفات. واسم الجلالة خبر أول و (رَبُّكُمْ) خبر ثان و (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) خبر ثالث ، و (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) خبر رابع والفاء في قوله (فَاعْبُدُوهُ) لمجرد السببية من غير عطف ، أي ثبت أن إله العالم فرد صمد منزه عن الشريك والنظير والضد والأولاد وذلك الجامع لهذه الصفات العظيمة هو الله المستحق للعبادة مالك أمركم لا شريك له في ذلك خالق ما كان وما يكون فاعبدوه ولا تعبدوا أحدا غيره ، وللعلماء في إثبات التوحيد طرق كثيرة ومن جملتها هذه الطريقة وتقريرها من وجوه :

الأول : أن يقال الصانع الواحد كاف في كونه إلها للعالم ومدبرا له ، وما زاد على الواحد فالقول فيه متكافئ لأنه لم يدل الدليل على ثبوته لأنه يلزم إما إثبات آلهة لا نهاية لها وهو محال ، أو إثبات عدد معين مع أنه ليس ذلك العدد أولى من سائر الأعداد وهو محال أيضا ، وإذا كان القسمان باطلين لم يبق إلا القول بالتوحيد.

والثاني : أن يقال إن الإله القادر على كل الممكنات ، العالم بكل المعلومات كاف في تدبير العالم. فلو قدرنا إلها ثانيا فإما أن يكون فاعلا أو لا ، فإن كان فاعلا صار مانعا للآخر عن تحصيل مقدوره وذلك يوجب كون كل واحد منهما سببا لعجز الآخر وهو محال ، وإن لم يكن فاعلا كان ناقصا معطلا وذلك لا يصلح للإلهية.

والثالث : أن يقال أن الإله الواحد لا بدّ وأن يكون كاملا في صفات الإلهية فلو فرضنا إلها ثانيا فإما أن يكون مشاركا للأول في جميع صفات الكمال أو لا فإن كان مشاركا في ذلك فإما أن يكون متميزا عن الأول أو لا ، فإن لم يكن متميزا عنه بأمر من الأمور لم تحصل الإثنينية ، وإن امتاز بصفات الكمال لم تكن جميع صفاته مشتركة بينهما وإن امتاز بغير صفات الكمال ، فلذلك نقصان. فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الإله الواحد كاف في تدبير العالم وإيجاده وأن الزائد يجب نفيه (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (١٠٢) أي حافظ فيجب أن يعلم كل مكلف أنه لا حافظ إلا الله ولا مصلح للمهمات إلا الله فحينئذ ينقطع طمعه عن كل ما سواه ولا يرجع في مهم من المهمات إلا إليه ويقال : أي كفيل بأرزاق خلقه (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) أي لا تراه الأبصار في الدنيا وهو تعالى يراه المؤمنون في الآخرة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في

٣٣٨

رؤيته» (١) فالتشبيه واقع في تشبيه الرؤية بالرؤية في الوضوح لا في تشبيه المرئي بالمرئي ، واتفق الجمهور أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ قوله تعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة فقال : «الحسنى هي الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله».

وروي أن الصحابة اختلفوا في أن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل رأى الله تعالى ليلة المعراج أو لا ، ولم يكفر بعضهم بعضا بهذا السبب وما نسبه إلى الضلالة وهذا يدل على أنهم كانوا مجمعين على أنه لا امتناع عقلا في رؤية الله تعالى. وقيل : المعنى لا تحيط به تعالى الأبصار في الدنيا ولا في الآخرة لعدم انحصاره (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) أي والله تعالى مدرك لحقيقة الأبصار (وَهُوَ اللَّطِيفُ) فيلطف عن أن تدركه الأبصار (الْخَبِيرُ) (١٠٣) أي العالم بكل لطيف فلا يلطف شيء عن إدراكه. وقيل : إنه تعالى لطيف بعباده حيث يثني عليهم عند الطاعة ويأمرهم بالتوبة عند المعصية ، ولا يقطع عنهم كثرة رحمته سواء كانوا مطيعين أو عصاة. وقيل : إنه تعالى لطيف بهم بحيث لا يأمرهم فوق طاقتهم وينعم عليهم بما هو فوق استحقاقهم (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) أي جاءكم آيات القرآن كائنة من ربكم وسميت تلك الآيات بصائر لأنها أسباب لحصول الأنوار للقلوب. وقوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ) الآية استئناف وارد على لسان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) أي فمن اهتدى بآيات القرآن فآمن فنفع إهدائه لنفسه (وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) أي ومن ضل عنها بأن كفر بها فمضرة ضلالته وكفره على نفسه (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (١٠٤) أي لأعمالكم وإنما أنا منذر والله تعالى هو الذي يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي مثل ذلك الإتيان البديع نأتي بالآيات متواترة حالا بعد حال لتلزمهم الحجة (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) قرأه ابن كثير وأبو عمرو بالألف وفتح التاء. أي ليقول بعضهم ذاكرت يا محمد أهل الأخبار الماضية فيزداد كفرا على كفر وتثبيتا لبعضهم فيزداد إيمانا على إيمان. وذلك لأن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يظهر آيات القرآن نجما نجما ، والكفار كانوا يقولون : إن محمدا يضم هذه الآيات بعضها إلى بعض يتفكر فيها ويصلحها آية فآية ، ثم يظهرها ولو كان هذا بوحي نازل إليه من السماء فلم لم يأت بهذا القرآن دفعة واحدة. كما أن موسى عليه‌السلام أتى بالتوراة دفعة واحدة أي فإن تكرير هذه الآيات حالا بعد حال هي التي أوقعت الشك للقوم في أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما يأتي بهذا القرآن على سبيل المدارسة مع التفكر والمذاكرة مع أقوام آخرين.

وقرأ ابن عامر «درست» بفتح السين وسكون التاء أي هذه الأخبار التي تلوتها علينا قديمة قد انمحت وتكررت على الأسماع ، كقولهم : أساطير الأولين. وقرأ الباقون «درست» بدون

__________________

(١) رواه أبو عوانة في المسند (١ : ٣٧٦) ، وأبي حنيفة في المسند (١٩).

٣٣٩

الألف وسكون السين وفتح التاء أي حفظت وأتقنت بالدرس أخبار الأولين كقولهم : أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا (وَلِنُبَيِّنَهُ) أي الآيات (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١٠٥) وهم أولياء الله الذين هداهم إلى سبيل الرشاد (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي لزم العمل بما أنزل إليك من ربك ولا يصر ذلك القول سببا لفتورك في تبليغ الرسالة والدعوة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) يجب طاعته ولا يجوز الإعراض عن تكاليفه (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (١٠٦) أي اترك في الحال مقابلتهم فيما يأتونه من سفه واعدل إلى الطريق الذي يكون أقرب إلى القبول وأبعد عن التغليظ والتنفير (وَلَوْ شاءَ اللهُ) عدم إشراكهم (ما أَشْرَكُوا) أي لا تلتفت يا أشرف الخلق إلى سفاهات هؤلاء الكفار الذين قالوا لك : إنما جمعت هذا القرآن من مذاكرة الناس ولا يثقلن عليك كفرهم ، فإنا لو أردنا إزالة الكفر عنهم لقدرنا ولكنا تركناهم مع كفرهم فلا ينبغي أن تشغل قلبك بكلماتهم (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي رقيبا من جهتنا تحفظ أعمالهم عليهم (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (١٠٧) أي وما أنت يا أكرم الرسل حافظ عليهم من جهتهم فتدبر مصالحهم وتقوم بأمورهم وتكفل أرزاقهم. (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ولا تسبوا أيها المؤمنون من يعبدون الأصنام من حيث عبادتهم لآلهتهم كأن تقولوا : تبا لكم ولما تعبدون من الأصنام مثلا فيسبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تجاوزا عن الحق إلى الباطل بجهالة منهم بما يجب عليهم ، فإن الصحابة متى شتموهم كانوا يشتمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالله تعالى أجرى شتم الرسول مجرى الله تعالى ، لأن الكفار كانوا مقربين بالله تعالى وكانوا يقولون : إنما حسنت عبادة الأصنام لتصير شفعاء لهم عند الله تعالى. أو المعنى ولا تسبوا الأصنام الذين كان المشركون يعبدونهم فيسبوا الله للظلم بغير علم لأنهم جهلة بالله تعالى لأن بعضهم كان قائلا بالدهر ونفي الصانع.

قال قتادة : كان المؤمنون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم فنهاهم الله عن ذلك لئلا يسبوا الله فإنهم قوم جهلة لا علم لهم بالله عزوجل اه. وإنما نهوا عن سب الأصنام ، وإن كان مباحا لما ينشأ عن ذلك من المفاسد وهو سب الله وسب رسوله. فظاهر الآية كان نهيا عن سب الأصنام وحقيقتها النهي عن سب الله تعالى لأنه سبب لذلك وفي ذلك دلالة على أن الطاعة إذا أدّت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شرّ (كَذلِكَ) أي مثل تزيين عبادة الأصنام للمشركين (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ) أي لأمم الكفرة (عَمَلَهُمْ) أي شرّهم وفسادهم بإحداث ما يحملهم عليه فإن المعاصي سموم قاتلة قد برزت في الدنيا بصورة تستحسنها نفوس العصاة ، وكذا الطاعات فإنها مع كونها أحسن الأحاسن قد ظهرت عندهم بصورة مكروهة ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات» (١) وفي هذه الآية دلالة على تكذيب القدرية

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الجنّة ، باب : ١ ، وأبو داود في كتاب السنّة ، باب : في خلق الجنّة

٣٤٠