مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

والمعنى لا يهديهم إلى الجنة (فَيَقُولُ) لهم مشيرا إلى خروجهم عن عهدة الرسالة (ما ذا أُجِبْتُمْ) أي أيّ إجابة أجابكم بها أممكم حين دعوتموهم في دار الدنيا إلى توحيدي وطاعتي أهي إجابة قبول أو إجابة رد؟ (قالُوا) تفويضا للأمر إلى العدل الحكيم العالم وعلما منهم أن الأدب في السكوت والتفويض وأن قولهم لا يفيد خيرا ولا يدفع شرا : (لا عِلْمَ لَنا) أي لأنك تعلم ما أظهروا وما أضمروا ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا لنا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا ولأن الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن وهو معتبر في الدنيا لأن الأحكام في الدنيا مبنية على الظن ، وأما الأحكام في الآخرة فهي مبنية على حقائق الأشياء وبواطن الأمور ولا عبرة بالظن في القيامة فلهذا السبب قالوا : «لا علم لنا» (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (١٠٩) أي فإنك تعلم ما أجابوا وأظهروا لنا وما لم نعلمه مما أضمروه في قلوبهم.

وقرئ «شاذا علّام الغيوب» بالنصب إما على الاختصاص أو على النداء ، أو على أنه بدل من اسم «إن». والكلام قد تم بقوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ) أي أنت متصف بصفاتك السنية (قالَ اللهُ) بدل من يوم يجمع الله ويجوز أن يكون موضع إذ رفعا بالابتداء على معنى ذاك إذ قال الله (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي اذكر إنعامي عليكما إذ طهرت أمك واصطفيتها على نساء العالمين وقويتك بجبريل لتثبت الحجة (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) أي طفلا بقولك : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) [مريم : ٣٠] الآية (وَكَهْلاً) أي إذا أنزله الله تعالى إلى الأرض أنزله وهو في صورة ابن ثلاث وثلاثين سنة وهو الكهل فيقول لهم : إني عبد الله كما قال في المهد (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) أي الكتابة وهي الخط (وَالْحِكْمَةَ) أي العلوم النظرية والعلوم العملية (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) وذكر الكتابين إشارة إلى الأسرار التي لا يطلع عليها أحد إلا أكابر الأنبياء عليهم‌السلام فإن الاطلاع على أسرار الكتب الإلهية يحصل إلا لمن صار ربانيا في أصناف العلوم الشرعية والعقلية الظاهرة التي يبحث عنها العلماء (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أي تصور منه هيئة مماثلة لهيئة الطير (بِإِذْنِي) أي بأمري (فَتَنْفُخُ فِيها) أي في الهيئة المصورة فالضمير راجع للكاف وهي دالة على الهيئة التي هي مثل هيئة الطير (فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) أي فتصير تلك الصورة خفاشا تطير بين السماء والأرض بإرادتي (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) أي الأعمى المطموس البصر (وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) أي بأمري وإرادتي وقدرتي (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) من قبورهم أحياء (بِإِذْنِي) أي بفعلي ذلك عند دعائك وعند قولك للميت : اخرج بإذن الله من قبرك (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) أي منعت اليهود الذين أرادوا قتلك عن مطلوبهم بك (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بما ذكر وما لم يذكر كالإخبار بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم ونحو ذلك فأل للجنس (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (١١٠).

٣٠١

قرأ حمزة والكسائي هنا وفي هود والصف ويونس «ساحر» بالألف أي ما هذا الرجل وهو عيسى إلا ساحر ظاهر.

وقرأ ابن عامر وعاصم في يونس فقط بالألف. والباقون «سحر» بكسر السين وسكون الحاء أي ما هذا الذي جاء به عيسى من الخوارق أو ما هذا أي عيسى (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) وهذا على سبيل المبالغة أو على حذف مضاف.

روي أن عيسى عليه‌السلام لما أظهر هذه المعجزات العجيبة قصد اليهود قتله فخلصه الله تعالى منهم حيث رفعه إلى السماء (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) أي الأنصار أي ألهمت القصارين وهم اثنا عشر رجلا في قلوبهم وأمرتهم في الإنجيل على لسانك (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي). والمعنى أي آمنوا بوحدانيتي في الألوهية وبرسالة رسولي عيسى (قالُوا آمَنَّا) بوحدانيته تعالى وبرسالة رسوله (وَاشْهَدْ) أنت يا عيسى (بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) (١١١) أي مخلصون في إيماننا (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ).

قرأ الجمهور بالياء على الغيبة أي هل يفعل ربك. والمقصود من هذا السؤال تقرير أن ذلك المطلوب في غاية الظهور كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول : هل يقدر السلطان على إشباع هذا؟ ويكون غرضه منه أن ذلك أمر جلي لا يجوز لعاقل أن يشك فيه ، فكذا هاهنا.

وقرأ الكسائي «تستطيع» بتاء الخطاب لعيسى و «ربك» بالنصب على التعظيم وبإدغام اللام في التاء وهذه القراءة مروية عن علي وابن عباس ، وعن عائشة. أي هل تستطيع أن تسأل ربك (أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ) عيسى لشمعون قل لهم : (اتَّقُوا اللهَ) في اقتراح معجزة لم يسبق لها مثال بعد تقدم معجزات كثيرة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١١٢) بكونه تعالى قادرا على إنزال المائدة فلعلكم تتركون شكرها فيعذبكم فقال لهم ذلك شمعون (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) أكل تبرك أو أكل حاجة وتمتع (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) بكمال قدرته تعالى لحصول علم المشاهدة مع علم الاستدلال (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) أي ونعلم علما يقينيا أنه صدقتنا في دعوى النبوة وأن الله يجيب دعوتنا وفي قولك : إنا إذا صمنا ثلاثين يوما لا نسأل الله تعالى إلا أعطانا (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) (١١٣) لله بكمال القدرة ولك بالنبوة وهذه المعجزة سماوية وهي أعظم وأعجب فإذا شاهدناها كنا عليها من الشاهدين نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل ليزداد المؤمنون منهم بشهادتنا طمأنينة ويقينا ويؤمن بسببها كفارهم (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أي لما رأى أن لهم غرضا صحيحا في ذلك فقام واغتسل ولبس المسح وصلّى ركعتين فطأطأ رأسه وغض بصره وقال : (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً) أي طعاما (مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) أي نتخذ

٣٠٢

اليوم الذي تنزل فيه المائدة عيدا نعظمه نحن ومن يأتي بعدنا ونزلت يوم الأحد فاتخذه النصارى عيدا وإنما أسند العيد إلى المائدة لأن شرف اليوم مستعار من شرفها.

والمعنى يكون يوم نزولها لها عيدا لأهل زماننا ولمن بعدهم لكي نعبدك فيه (وَآيَةً مِنْكَ) أي دلالة على وحدانيتك وكمال قدرتك وصحة نبوة رسولك (وَارْزُقْنا) أي أعطنا ما سألناك (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (١١٤) (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها) أي المائدة (عَلَيْكُمْ).

وقرأ ابن عامر وعاصم ونافع «منزلها» بالتشديد. والباقون بالتخفيف (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ) أي بعد نزولها (مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ) أي إني أعذب من يكفر تعذيبا لا أعذب مثل ذلك التعذيب (أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (١١٥).

روي أن عيسى عليه‌السلام لما أراد الدعاء لبس صوفا ثم قال : اللهم أنزل علينا إلخ. فنزلت سفرة حمراء بين غما متين غمامة فوقها وأخرى تحتها وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه‌السلام وقال : «اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة وقال لهم : ليقم أحسنكم عملا يكشف عنها ويذكر اسم الله عليها ويأكل منها» فقال شمعون رأس الحواريين : أنت أولى بذلك فقام عيسى وتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل وقال : «باسم الله خير الرازقين» فإذا سمك ة مشوية بلا شوك ولا فلوس تسيل دسما وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل ، وحولها من الألوان ما خلا الكراث وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد. فقال شمعون : يا روح الله من طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال : «ليس منهما ولكنه شيء اخترعه الله بالقدرة العالية كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم من فضله» فقال الحواريون : لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى. فقال : «يا سمكة احيي بإذن الله فاضطربت» ثم قال لها : «عودي كما كنت فعادت مشوية» ثم طارت المائدة ثم عصوا وقالوا بعد النزول والأكل : هذا سحر مبين فمسخ الله منهم ثلاثمائة وثلاثين رجلا باتوا ليلتهم مع نسائهم ، ثم أصبحوا خنازير يسعون في الطرقات والكناسات ويأكلون العذرة في الحشوش ، ولما أبصرت الخنازير عيسى عليه‌السلام بكت وجعلت تطيف به وجعل يدعوهم بأسمائهم واحدا بعد واحد فيبكون ويشيرون برءوسهم ولا يقدرون على الكلام فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا (وَإِذْ قالَ اللهُ) يوم القيامة (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) في الدنيا (اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره أراد الله تعالى بهذا السؤال أن يقر عيسى على نفسه بالعبودية فيسمع قومه ويظهر كذبهم عليه أنه أمرهم بذلك فذكر هذا السؤال مع علمه تعالى أن عيسى لم يقل ذلك إنما لتوبيخ قومه. (قالَ) أي عيسى وهو يرعد : (سُبْحانَكَ) أي أنزهك تنزيها لائقا بك من أن أقول ذلك (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي

٣٠٣

بِحَقٍ) أي ما كان ينبغي أن أقول ما ليس بجائز لي (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ) لهم (فَقَدْ عَلِمْتَهُ) وهذا مبالغة في الأدب وفي إظهار الذل في حضرة ذي الجلال وتفويض الأمور بالكلية إلى الكبير المتعالي. (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي تعلم ما عندي ومعلومي ولا أعلم ما عندك ومعلومك (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (١١٦) عن العباد (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) و «أن» مفسرة للهاء الراجع للقول المأمور به. والمعنى ما قلت لهم في الدنيا إلا قولا أمرتني به وذلك القول هو أن أقول لهم : اعبدوا الله ربي وربكم (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) على ما يفعلون (ما دُمْتُ فِيهِمْ) أي مدة دوامي فيما بينهم (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) أي رفعتني من بينهم إلى السماء (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) أي الحافظ لأعمالهم المراقب لأحوالهم (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١١٧) وعالم بصير (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) وقد استحقوا ذلك حيث عبدوا غيرك (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) أي القادر على ما تريد (الْحَكِيمُ) (١١٨) في كل ما تفعل لا اعتراض لأحد عليك فإن عذبت فعدل ، وإن غفرت ففضل ، وعدم غفران الشرك إنما هو بمقتضى الوعيد فلا امتناع فيه لذاته.

ومقصود عيسى عليه‌السلام من هذا الكلام تفويض الأمور كلها إلى الله وترك الاعتراض عليه بالكلية لأنه يجوز في مذهبنا من الله تعالى أن يدخل الكفار الجنة وأن يدخل العباد النار ، لأن الملك ملكه ولا اعتراض لأحد عليه (قالَ اللهُ هذا) أي يوم القيامة (يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) في الدنيا في أمور الدين.

قرأ الجمهور «يوم» بالرفع. وقرأ نافع «يوم» بالنصب. أي هذا القول واقع يوم إلخ (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) أي عن الصادقين بطاعتهم له (وَرَضُوا عَنْهُ) بالثواب والكرامة (ذلِكَ) الرضوان (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١١٩) فالجنة بما فيها بالنسبة إلى رضوان الله كالعدم بالنسبة إلى الوجود وكيف لا والجنة مرغوب الشهوة والرضوان صفة الحق وأي مناسبة بينهما (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٢٠) أي إن كل ما سوى الله تعالى من الكائنات والأجساد والأرواح ممكن لذاته موجود بإيجاده وإذا كان الله موجدا كان مالكا له ، وإذا كان مالكا له كان له تعالى أن يتصرف في الكل بالأمر والنهي والثواب والعقاب كيف أراد فصح التكليف على أيّ وجه أراده الله تعالى ، ولما كان الله مالك الملك فله بحكم المالكية أن ينسخ شرع موسى ويضع موضعه شرع محمد فبطل قول اليهود بعدم نسخ شرع موسى ، ثم إن عيسى ومريم داخلان فيما سوى الله فهو كائن بتكوين الله تعالى فثبت كونهما عبدين لله مخلوقين له فظهر بهذا التقرير أن هذه الآية برهان قاطع في صحة جميع العلوم التي اشتملت هذه السورة عليها.

٣٠٤

سورة الأنعام

مكية ، إلا ست آيات فإنها مدنيات ، وهي قوله : (قُلْ تَعالَوْا) إلى آخر الآيات الثلاث وهو : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وقوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ) إلى قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) ، مائة وخمس وستون آية ، ثلاثة آلاف وخمس وخمسون كلمة ، اثنا عشر ألفا وسبعمائة وسبعة وعشرون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) والمدح أعم من الحمد لأن المدح للعاقل ولغير العاقل ، فكما يمدح العاقل على أنواع فضائله كذلك يمدح اللؤلؤ لحسن شكله والياقوت على نهاية صفائه وصقالته ، والحمد لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإحسان.

والحمد أعمّ من الشكر لأن الحمد تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام واصلا إليك أو إلى غيرك والشكر تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك وحصل عندك. والمقصود من هذه الآية ذكر الدلالة وعلى وجود الصانع والفرق بين الجعل والخلق أن كلا منهما هو الإنشاء والإبداع إلا أن الخلق : مختص بالإنشاء التكويني وفيه معنى التقدير والتسوية ، والجعل : عام له كما في هذه الآية الكريمة ، وللتشريعي أيضا كما في قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) [المائدة : ١٠٣] الآية وجمع الظلمات دون النور لكثرة محالها إذ ما من جرم إلا وله ظل ، والظل : (هو الظلمة) بخلاف النور فإنه من جنس واحد وهو النار ، وهذا إذا حملا على الكيفيتين المحسوستين بحس البصر وإن حمل النور على نور الإسلام والإيمان واليقين والنبوة ، والظلمات على ظلمة الشرك والكفر والنفاق فنقول : لأن الحق واحد والباطل كثير وتقديم الظلمات على النور لأن الظلمة عدم النور عن الجسم الذي يقبله وعدم المحدثات متقدم على وجودها (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١) أي يشركون به غيره وهذه الجملة إما معطوفة على قوله الحمد لله والباء متعلقة بكفروا فيكون يعدلون من العدول ولا مفعول له. والمعنى أن الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلقه لأنه تعالى ما خلقه إلا نعمة ، ثم الذين كفروا بربهم يميلون عنه فيكفرون نعمته أو متعلقة

٣٠٥

بيعدلون وهو من العدول ويوضع الرب موضع الضمير العائد إليه تعالى. والمعنى أنه مختص باستحقاق الحمد والعبادة باعتبار ذاته وباعتبار شؤونه العظيمة الخاصة به ثم هؤلاء الكفرة يسوون به غيره في العبادة التي هي أقصى غايات الشكر الذي رأسه الحمد ، وإما معطوف على قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ) والباء متعلقة بيعدلون وقدمت لأجل الفاصلة وهي إما بمعنى عن ويعدلون من العدول. والمعنى أن الله تعالى خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه ثم الذين كفروا يعدلون عن ربهم إلى غيره أو للتعدية ويعدلون من العدل وهو التسوية. والمعنى أنه تعالى خلق هذه الأشياء العظيمة التي لا يقدر عليها أحد سواه ثم إنهم يعدلون به جمادا لا يقدر على شيء أصلا فيكون المفعول محذوفا ، وكلمة «ثم» لاستبعاد الشرك بعد وضوح آيات قدرته تعالى. (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أي إن الله خلق جميع الإنسان من آدم وآدم كان مخلوقا من طين فلهذا السبب قال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أي من جميع أنواعه فلذلك اختلفت ألوان بني آدم وعجنت طينتهم بالماء العذب والملح والمر فلذلك اختلفت أخلاقهم وأيضا إن الإنسان مخلوق من المني ، والمني إنما يتولّد من الأغذية وهي إما حيوانية أو نباتية ، فحال الحيوانية كالحال في كيفية تولّد الإنسان فبقي أن تكون الأغذية نباتية فثبت أن الإنسان مخلوق من الأغذية النباتية ، ولا شك أنها متولدة من الطين فثبت أن كل إنسان متولد من الطين.

وقال المهدوي : إن الإنسان مخلوق ابتداء من طين لخبر : «ما من مولود يولد إلا ويذر على النطفة من تراب حفرته وأيا ما كان الإنسان» (١) ففيه من وضوح الدلالة على كمال قدرته تعالى على البعث ما لا يخفى فإن من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط كان على إحياء ما قارنها مدة أظهر قدرة (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أي خصص الله موت كل واحد بوقت معين وذلك التخصيص تعلق مشيئته تعالى بإيقاع ذلك الموت في ذلك الوقت (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) أي حد معين لبعثكم جميعا من البرزخ (عِنْدَهُ).

روي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : أن الله تعالى قضى لكل أحد أجلين ، أجلا من مولده إلى موته ، وأجلا من موته إلى مبعثه فإن كان برا تقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر ، وإن كان فاجرا قاطعا للرحم نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث. وقال حكماء الإسلام : إن لكل إنسان أجلين.

أحدهما : الآجال الطبيعية.

__________________

(١) رواه القرطبي في التفسير (١١ : ٢١٠) ، وأبي نعيم في حلية الأولياء (٢ : ٢٨٠) ، والسيوطي في اللئالئ المصنوعة (١ : ١٦٠).

٣٠٦

والثاني : الآجال الاختزامية : فالآجال الطبيعية : هي التي لو بقي ذلك المزاج مصونا عن الأعراض الخارجية لانتهت مدة بقائه إلى الوقت الفلاني. والآجال الاختزامية : هي التي تحصل بسبب من الأسباب الخارجية كالغرق والحرق ولدغ الحشرات وغيرها من الأمور المعضلة (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) (٢) أي ثم بعد ظهور مثل هذه الحجة الباهرة أنتم أيها الكفار تنكرون صحة التوحيد للصانع ، أو ثم بعد مشاهدتكم في أنفسكم من الشواهد ما يقطع الشك بالكلية أنتم أيها الكفار تستبعدون وقوع البعث ومن قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر. فالآية الأولى دليل التوحيد والثانية دليل البعث (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) أي وهو الذي اتصف بالخلق هو المعبود في السموات والأرض والمتصرف فيهما (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) في القلوب من الدواعي والصوارف (وَجَهْرَكُمْ) في الجوارح من الأعمال (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) (٣) أي مكتسبكم أي تستحقون على فعلكم من الثواب والعقاب (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) (٤) أي ما يظهر للكفار من آية من الآيات التكوينية التي يجب فيها النظر التي من جملتها جلائل شؤونه الدالة على وحدانيته تعالى إلا كانوا معرضين عن تأمل تلك الدلائل تاركين النظر المؤدي إلى الإيمان بمكونها ، وهذه الآية تدل على أن التقليد باطل والتأمل في الدلائل واجب ، ولو لا ذلك لما ذم الله المعرضين عن التفكّر في الدلائل. أو المعنى ما ينزل إلى أهل مكة آية من الآيات القرآنية إلا كانوا مكذبين بتلك الآية. ومن الأولى مزيدة لاستغراق الجنس الذي يقع في النفي ، والثانية للتبعيض وهي مع مجرورها صفة لآية (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) أي فقد كذب أهل مكة بالمعجزات كانشقاق القمر بمكة وانفلاقه فلقتين فذهبت فلقة وبقيت فلقة ، أو بالقرآن أو بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٥) أي سوف يأتيهم أخبار كونهم مستهزئين بذلك الحق يوم بدر ويوم أحد ويوم الأحزاب (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أي ألم يعرف أهل مكة بمعاينة الآثار في أسفارهم للتجارة إلى الشام في الصيف وإلى اليمن في الشتاء ، وبسماع الأخباركم أمة أهلكنا من قبل زمان أهل مكة كقوم نوح وعاد وثمود ، وقوم لوط وقوم شعيب وفرعون وغيرهم. (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) أي أعطينا أولئك الجماعة من البسطة في الأجساد والامتداد في الأعمار ، عليهم مدرارا والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا ما لم نعطكم يا أهل مكة (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ) أي المطر (عَلَيْهِمْ مِدْراراً) أي متتابعا كلما احتاجوا إليه (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) أي من تحت بساتينهم وزروعهم وشجرهم (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) بتكذيبهم الأنبياء وبكونهم باعوا الدين بالدنيا (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٦) أي أحدثنا من بعد إهلاك كل قرن قرنا آخرين بدلا من الهالكين ، وهذا تنبيه على أن إهلاك الأمم الكثيرة لم ينقص من ملكه شيئا ولا يتعاظم على الله هلاكهم وخلو بلاده منهم فإنه تعالى قادر على أن ينشئ مكانهم قوما آخرين يعمر بهم بلاده (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧) أي

٣٠٧

ولو نزل الكتاب من السماء دفعة واحدة عليك يا أشرف الخلق كما سألك عبد الله بن أبي أمية المخزومي وأصحابه في صحيفة واحدة فرأوه عيانا ولمسوه لطعنوا فيه وحملوه على أنه مخرفة وقالوا : إنه سحر.

وقال ابن إسحاق : والقائلون بالأقوال الآتية ، زمعة بن الأسود والنضر بن الحرث بن كلدة ، وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف ، والعاص بن وائل كما أخرجه ابن أبي حاتم.(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) أي هلا أنزل على محمد ملك يخبرنا بصدقه في دعوى النبوة ويشهد بما يقول. والمعنى أن منكري النبوات يقولون : لو بعث الله إلى الخلق رسولا لوجب أن يكون ذلك الرسول واحدا من الملائكة ، لأن علومهم أكثر وقدرتهم أشد ومهابتهم أعظم ، وامتيازهم عن الخلق أكمل ، ووقوع الشبهات في نبوتهم أقل. فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة من وجهين :

الأول : قوله تعالى : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي لفرغ من هلاكهم أي لو أنزل الملك على هؤلاء الكفار فربما لم يؤمنوا ، وإذا لم يؤمنوا وجب إهلاكهم بعذاب الاستئصال فحينئذ ما أنزل الله تعالى الملك إليهم لئلا يستحقوا هذا العذاب ، وأيضا إنهم إذا شاهدوا الملك زهقت روحهم من هول ما يشاهدون وذلك أن الآدمي إذا رأى الملك فإما أن يراه على صورته الأصلية أو على صورة البشر. فإن رآه على صورته الأصلية لم يبقى الآدمي حيا فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأى جبريل على صورته الأصلية غشي عليه وأن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم وأضياف لوط ، وخصم داود وغير ذلك. وحيث كان شأنهم كذلك وهم مؤيدون بالقوى القدسية فما ظنك بمن عداهم من العوام ، وأيضا إذا رآه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف فيجب إهلاكهم وذلك مخل بصحة التكليف ، وإن رآه على صورة البشر فلا يتفاوت الحال سواء كان هو في نفسه ملكا أو بشرا ، وأيضا إن إنزال الملك يقوي الشبهات لأن كل معجزة ظهرت عليه ردوها وقالوا : هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القوة والعلم لفعلنا مثل ما فعلته. (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) (٨) أي لا يمهلون بعد نزول الملك طرفة عين وكلمة ، «ثم» للتنبيه على أن عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة وأشق.

والثاني : قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) أي ولو جعلنا الرسول ملكا لجعلنا الملك على صورة الرجل ، لأن البشر لا يستطيعون أن ينظروا إلى الملائكة في صورهم التي خلقوا عليها ولو نظر إلى الملك ناظر من الآدميين لصعق عند رؤيته (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٩) أي ولو صورنا الملك رجلا لصار فعلنا نظيرا لفعلهم في التلبيس وإنما كان ذلك تلبيسا لأن الناس لا يظنون أنه بشر مع أنه ليس بشرا ، وإنما كان فعلهم تلبيسا لأنهم يقولون

٣٠٨

لقومهم : إنه بشر مثلكم والبشر لا يكون رسولا من عند الله تعالى ، وإذا كان الأمر كذلك فلم يفدهم طلب نزول الملك ، لأنه لو نزل لهم الملك لنزل على صورة رجل لعدم استطاعتهم لمعاينة هيكله ولأن الجنس إلى الجنس أميل فيقولون له : ما أنت إلا بشر مثلنا ويقولون : إنا لا نرضى برسالة هذا الشخص فيعود سؤالهم ويستمرون يطلبون الملك فلا تنقطع شبهتهم فنزول الملك لا يفيدهم شيئا يزدادون في الحيرة والاشتباه ، وأيضا إن طاعات الملائكة قوية فيستحقرون طاعة البشر وربما لا يعذرونهم في الإقدام على المعاصي (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي وبالله لقد استهزئ برسل أولي شأن خطير وذوى عدد كثير كائنين من زمان قبل زمانك. وهذه الآية تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي تخفيف لضيق قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند سماعه من القوم الذين قالوا : إن رسول الله يجب أن يكون ملكا من الملائكة ووعيد أيضا لأهل مكة (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (١٠) أي فدار وأحاط بالذين سخروا من أولئك الرسل عليهم‌السلام العذاب الذي يستهزئون به وينكرونه ، فإن الكفار كانوا يستهزئون بالعذاب الذي كان يخوفهم الرسول بنزوله. أو المعنى فأحاط بمن استهزأ بالشرائع من الرسل عقوبة استهزائهم بالرسول المندرج في جملة الرسل (قُلْ) يا أكرم الرسل لأهل مكة : (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي قل لهم : لا تغتروا بما وجدتم من الدنيا وطيباتها ووصلتم إليه من لذاتها وشهواتها بل سيروا في الأرض لتعرفوا صحة ما أخبركم الرسول عنه من نزول العذاب على الذين كذبوا الرسل في الأزمنة السالفة. (ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (١١) أي ثم تكفروا في أنهم كيف أهلكوا بعذاب الاستئصال فإنكم عند السير في الأرض والسفر في البلاد لا بد وأن تشاهدوا تلك الآثار فيكمل الاعتبار ويقوى الاستبصار. (قُلْ) يا أشرف الخلق لأهل مكة : (لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي لمن الكائنات جميعا خلقا وملكا وتصرفا فإن أجابوك فذاك ، وإلا (قُلْ لِلَّهِ) لأنه لا جواب غيره (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي أوجب على نفسه إيجاب الفضل والكرم والرحمة لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتأخير العذاب وقبول التوبة (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي والله ليجمعنكم في القبور محشورين إلى يوم القيامة. فيجازيكم على شرككم وسائر معاصيكم ، أو ليجمعنكم إلى المحشر في يوم القيامة فإن الجمع يكون إلى المكان لا إلى الزمان (لا رَيْبَ فِيهِ) أي في الجمع (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٢) أي إن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد وترك النظر أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان ، وأن سبق قضاء الله بالخسران هو الذي حملهم على الامتناع من الإيمان بحيث لا سبيل لهم إليه أصلا (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي له تعالى كل ما حصل في الزمان سواء كان متحركا أو ساكنا (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٣) فيسمع نداء المحتاجين ويعلم حاجات المضطرين (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) أي قل يا أشرف الخلق أغير الله أجعله معبودا (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

٣٠٩

وعن ابن عباس قال : ما عرفت فاطر السموات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : إني فطرتها أي ابتدأتها.

وقرئ «فاطر السّموات» بالجر صفة لله أو بدل منه بدل المطابق. وبالرفع على إضمار هو ، والنصب على المدح. وقرأ الزهري «فطر السموات» (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) أي وهو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد. ويقال ولا يعان على الترزيق. (قُلْ) يا أكرم الخلق لكفار مكة : (إِنِّي أُمِرْتُ) أي من حضرة الله تعالى (أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سابق أمته في الإسلام. وقيل لي يا محمد (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٤) أي في أمر من أمور الدين (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بمخالفة أمره ونهيه أي عصيان كان (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٥) أي عذابا عظيما في يوم عظيم وهو يوم القيامة (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ).

قرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي «يصرف» بفتح الياء وكسر الراء ، والمفعول محذوف والتقدير من يصرف ربي عنه يومئذ العذاب فقد أنعم عليه.

والباقون «يصرف» بالبناء للمفعول. والمعنى أيّ شخص يصرف العذاب عنه ذلك اليوم العظيم فقد أدخله الله الجنة (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) (١٦) أي وذلك الرحمة هو الفوز الظاهر وهو الظفر بالمطلوب (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) أي وإن يصبك الله ببلية أيها الإنسان كمرض وفقر ونحو ذلك فلا رافع له إلا هو وحده (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) أي وإن ينزل الله بك خيرا من صحة وغنى ونحو ذلك فلا راد له غيره (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٧).

روي عن ابن عباس أنه قال : أهدي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغلة أهداها له كسرى فركبها بجبل من شعر ، ثم أردفني خلفه ثم سار بي ميلا ، ثم التفت إليّ فقال : «يا غلام» فقلت : لبيك يا رسول الله فقال : «احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، فقد مضى القلم بما هو كائن فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه ، ولو جهدوا أن يضروك بما لم يكتب الله عليك ما قدروا عليه ، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل ، فإن لم تستطع فاصبر ، فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا. واعلم أن النصر مع الصبر وإن مع الكرب فرجا وإن مع العسر يسرا» (١). (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) بالقدرة والقوة وهذا إشارة إلى كمال القدرة (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (١٨) فإن أفعاله تعالى محكمة آمنة من وجوه الخلل والفساد وإنه تعالى عالم بما يصح أن يخبر به. وهذا إشارة إلى كمال العلم اهـ.

__________________

(١) رواه أحمد في (م ١ / ص ٣٠٧).

٣١٠

روى ابن عباس أن رؤساء أهل مكة قالوا : يا محمد ما وجد الله غيرك رسولا وما ترى أحدا يصدقك ، وقد سألنا اليهود والنصارى عنك فزعموا أنه لا ذكر لك عندهم بالنبوة فأرنا من يشهد لك بالنبوة ، فأنزل الله تعالى قوله هذا : (قُلْ) يا أشرف الخلق لهم : (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) من الله كي يقروا بالنبوة وإن أكبر الأشياء شهادة هو الله تعالى فإن اعترفوا بذلك فذاك وإلا (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) بأني رسوله وهذا القرآن كلامه وهو معجز لأنكم فصحاء بلغاء وقد عجزتم عن معارضته فإذا كان معجزا كان إظهار الله إياه على وفق دعواي شهادة من الله على كوني صادقا في دعواي (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) أي أنزل الله إلى جبريل بهذا القرآن لأخوفكم يا أهل مكة بالقرآن ولأخوف به من بلغ إليه القرآن من الثقلين ممن يأتي بعدي إلى يوم القيامة (أَإِنَّكُمْ) يا أهل مكة (لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) وهي الأصنام التي كنتم تعبدونها وتقولون : إنها بنات الله فإن شهدوا على ذلك (قُلْ) لهم : (لا أَشْهَدُ) أي بما تذكرونه من إثبات الشركاء (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أي بل إنما أشهد أن لا إله إلا هو (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (١٩) أي من إشراككم بالله تعالى في العبادة الأصنام.

قال العلماء : المستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين ويتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام ، ونصّ الشافعي على استحباب ضم التبرؤ إلى الشهادة لأن الله تعالى لما صرح بالتوحيد قال : (إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ). (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) وهم علماء اليهود والنصارى الذين كانوا في زمن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَعْرِفُونَهُ) أي يعرفون محمدا من جهة الكتابين بصفته المذكورة فيهما (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) بصفاتهم فإنهم كذبوا في قولهم إنا لا نعرف محمدا لما روي أن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال له عمر : إن الله أنزل على نبيه بمكة هذه الآية فكيف هذه المعرفة ، قال عبد الله بن سلام : يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ، ولأنا أشد معرفة بمحمد مني بابني ، فقال عمر : كيف ذلك؟ فقال أشهد أنه رسول الله حقا ولا أدري ما تصنع النساء (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٠) ومعنى هذا الخسران كما قاله جمهور المفسرين أن الله تعالى جعل لكل إنسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار. فإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة ولأهل النار منازل أهل الجنة في النار. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي لا أحد أجرأ ممن اختلق على الله كذبا كقول كفار مكة هذه الأصنام شركاء لله والله تعالى أمرنا بعبادتها. وقولهم : إن الملائكة بنات الله ، ثم قولهم أمرنا الله بتحريم البحائر والسوائب وكقول اليهود والنصارى حصل في التوراة والإنجيل أن هاتين الشريعتين لا يتطرق إليهما النسخ ولا يجيء بعدهما نبي (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي قدح في معجزات محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنكر كون القرآن معجزة قاهرة بينة (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٢١) أي لا يظفرون بمطالبهم في الدنيا والآخرة بل يبقون في الحرمان والخذلان (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) أي كافة الناس وهو يوم القيامة (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا)

٣١١

خاصة على رؤوس الأشهاد للتوبيخ (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله تعالى (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٢٢) أي تزعمونها شركاء وإنها شفعاء لكم عند الله.

قال ابن عباس : وكل زعم في كتاب الله كذب (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) أي افتتانهم بالأوثان (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢٣) أي لم تكن عاقبة افتتانهم بشركهم إلا براءتهم منه فحلفهم أنهم ما كانوا مشركين. ومثاله أن ترى إنسانا يحب صاحبا مذموم الطريقة فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه. قرأ ابن عامر وابن كثير وحفص عن عاصم «ثم لم تكن» بالتاء الفوقية و «فتنتهم» بالرفع. وقرأ حمزة والكسائي «لم يكن» بالياء التحتية و «فتنتهم» بالنصب. وقرأ حمزة والكسائي «ربنا» بنصبه على النداء أو المدح. والباقون بالكسر (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) بإنكار صدور الإشراك عنهم في الدنيا (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٤) أي وكيف زال عنهم افتراؤهم بعبادة الأصنام فلم تغن عنهم شيئا وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها لهم (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) أي وبعض من أهل مكة من يستمع إلى كلامك حين تتلو القرآن (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي وقد ألقينا على قلوبهم أغطية كثيرة كراهة أن يفقهوا ما يستمعونه من القرآن وفي آذانهم صمما وثقلا مانعا من سماعه ، فمحل «أن يفقهوه» مفعول معه بحذف المضاف أو مفعول لفعل مقدر أي منعناهم أن يفقهوه مجموع القدرة على الإيمان مع الداعي إليه يوجب الفعل. فالكفر من الله تعالى وتكون تلك الداعية الجارة إلى الكفر كنانا للقلب عن الإيمان ووقرا للسمع عن استماع دلائل الإيمان (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أي وأن يشاهدوا كل آية من الآيات القرآنية بسماعها كفروا بكل واحدة منها لأجل أن الله تعالى جعل على قلوبهم أكنة (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بلغوا بتكذيبهم الآيات إلى أنهم إذا جاءوا إليك يجادلونك (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٢٥) أي ما هذا الذي يقول محمد إلا خرافات الأولين وكذبهم أي إن هذا الكلام من جنس سائر الحكايات المكتوبة للأولين وإذا كان هذا كذلك فلا يكون معجزا خارقا للعادة وجملة قوله تعالى : (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) تفسير لقوله : (يُجادِلُونَكَ) أي يناكرونك.

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : حضر عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأمية وأبيّ ابنا خلف والحرث بن عامر ، وأبو جهل واستمعوا إلى القرآن فقالوا للنضر وكان كثير الأخبار للقرون الماضية : يا أبا قتيبة ما يقول محمد؟ قال : ما أدري ما يقول ، لكني أراه يحرك شفتيه ويتكلم بأساطير الأولين كالذي كنت أحدثكم به عن أخبار القرون الأولى. فقال أبو سفيان : إني أرى بعض ما يقول حقا ، فقال أبو جهل : كلا أي لا تقرّ بشيء من هذا فأنزل الله تعالى هذه الآية (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) وأولئك الكفار ينهون الناس عن استماع القرآن لئلا يقفوا على حقيته فيؤمنوا به (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) أي ويتباعدون عنه

٣١٢

بأنفسهم تأكيدا لنهيهم (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أي وما يهلكون بما فعلوا من النهي والنأي إلا أنفسهم بإقبالها لأشد العذاب (وَما يَشْعُرُونَ) (٢٦) أنهم يهلكون أنفسهم ويذهبونها إلى النار بما يفعلون من الكفر والمعصية (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) أي ولو تبصر حالهم حين يوقفون على النار وهم يعاينونها لرأيت سوء حالهم. أو المعنى ولو تبصرهم حين يحسبون فوق النار على الصراط وهي تحتهم لرأيت سوء منقلبهم. أو المعنى ولو صرفت فكرك الصحيح لأن تتدبر حالهم حين يدخلونها لازددت يقينا.

وقرئ «إذ وقفوا» بالبناء للفاعل أي لو تراهم حين يكونون في جوف النار وتكون النار محيطة بهم ويكونون غائصين فيها لعرفوا مقدار عذابها ، وإنما صح على هذا التقدير أن يقال : وقفوا على النار لأنها دركات وطبقات بعضها فوق بعض فيصح هناك معنى الاستعلاء (فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ) إلى الدنيا لنؤمن (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) أي بآياته الناطقة بأحوال النار وأهوالها الآمرة باتقائها (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٧) بها كي لا نرى هذا الموقف.

قرأ ابن عامر وأبو بكر برفع «نكذب» ونصب «نكون» أي ولا يكون منا تكذيب مع كوننا من المؤمنين. وقرأ حمزة وحفص عن عاصم بنصبهما والتقدير يا ليتنا لنا رد وانتفاء تكذيب بآيات ربنا ، وكون من المؤمنين فهذه الأشياء الثلاثة متمناة بقيد الاجتماع. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير والكسائي برفعهما واتفقوا على الرفع في قوله «نرد». والمعنى أنهم تمنوا الرد إلى دار الدنيا وعدم تكذيبهم بآيات ربهم وكونهم من المؤمنين. أو المعنى يا ليتنا نرد غير مكذبين وكائنين من المؤمنين فيكون تمني الرد مقيدا بهاتين الحالتين (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) أي ليس التمني الواقع منهم لأجل كونهم راغبين في الإيمان بل لأنه ظهر لهم في موقفهم ما كانوا يخفونه في الدنيا من تكذيبهم بالنار فإن التكذيب بالشيء إخفاء له بلا شك أي فلخوفهم منها ومن العقاب الذي عاينوه قالوا ما قالوا (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) أي ولو ردهم الله تعالى من موقفهم ذلك إلى الدنيا كما سألوا وغاب عنهم ما شاهدوه من الأهوال لم يحصل منهم فعل الإيمان وترك التكذيب بل كانوا يستمرون على الكفر والتكذيب (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٢٨) في تمنيهم ووعدهم بفعل الإيمان وترك التكذيب فإن دينهم الكذب ، لأنه قد جرى عليهم قضاء الله تعالى في الأزل بالشرك (وَقالُوا) أي كفار مكة (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أي ما حياتنا إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (٢٩) بعد أن فارقنا هذه الحياة وليس لنا بعد هذه الحياة ثواب وعقاب (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) أي حبسوا عند ربهم لأجل السؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده للعقاب لرأيت أمرا عظيما ، والمعنى وقفوا على جزاء ربهم أي على ما وعدهم ربهم من عذاب الكافرين وثواب المؤمنين ، وعلى ما أخبرهم به من أمر الآخرة (قالَ أَلَيْسَ هذا) أي البعث بعد الموت

٣١٣

والثواب والعقاب (بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا) إنه لحق. وذلك إقرار مؤكد باليمين لانجلاء الأمر غاية الانجلاء وهم يطمعون في نفع ذلك الإقرار وينكرون الإشراك فيقولون والله ربنا ما كنا مشركين (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٣٠) أي بسبب كفركم وجحدكم في الدنيا بالبعث بعد الموت (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) أي أنكروا البعث والقيامة (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أي أنهم كذبوا ذلك إلى أن ظهرت القيامة باغتة فلا يعلم أحد متى يكون مجيئها وفي أي وقت يكون حصولها (قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) أي يا ندامتنا على تفريطنا في تحصيل الزاد للساعة في الدنيا (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) أي والحال أنهم يحملون ثقل ذنوبهم عليهم أي إنهم يقاسون عذاب ذنوبهم مقاساة ثقل عليهم فلا تفارقهم ذنوبهم.

وقال قتادة والسدي : إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أحسن الأشياء صورة وأطيبها ريحا ويقول : أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني فذلك قوله تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) [مريم : ٨٥] أي ركبانا. وأن الكافر إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أقبح الأشياء صورة وأخبثها ريحا فيقول : أنا عملك الفاسد طالما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم ، فذلك قوله تعالى : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ). (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) (٣١) أي بئس شيئا يحملونه آثامهم (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي وما اللذات والمستحسنات الحاصلة في هذه الدنيا إلا فرح يشغل النفس عمّا تنتفع به ، وباطل يصرف النفس عن الجد في الأمور إلى الهزل (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) أي الجنة أو التمسك بعمل الآخرة أو نعيم الآخرة (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) من المعاصي والكبائر.

وقرأ ابن عامر «ولدار الآخرة» بإضافة دار إلى الآخرة. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٣٢). وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب أي قل لهم ألا تتفكرون أيها المخاطبون فلا تعقلون أن الدنيا فانية والآخرة باقية. وقرأ الباقون بالباء على الغيبة أي أيغفل الذين يتقون فلا يعقلون أن الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار فيعملون لما ينالون به الدرجة الرفيعة والنعيم الدائم فلا يفترون في طلب ما يوصل إلى ذلك (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) إنهم لا يؤمنون بك ولا يقبلون دينك وشريعتك أو يقولون إنك ساحر وشاعر وكاهن ومجنون. قرأ نافع «ليحزنك» بضم الياء وكسر الزاي. والباقون بفتح الياء وضم الزاي (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) قرأ نافع والكسائي بسكون الكاف. والباقون بفتحها وتشديد الذال أي لا يجدونك كاذبا لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة ولا ينسبونك إلى الكذب بالاعتقاد واللسان (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٣٣) أي ولكن جحدوا صحة نبوتك ورسالتك أو المعنى أنهم يقولون في كل معجزة أنها سحر وينكرون دلالة المعجزة على الصدق على الإطلاق. أو المعنى إن القوم ما كذبوك وإنما كذبوني لأنك رسولي

٣١٤

كقول السيد لعبده وقد أهانه بعض الناس أيها العبد إنه ما أهانك وإنما أهانني. والمقصود تعظيم الشأن لا نفي الإهانة عن العبد ونظيره قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠].

روي أن الحرث بن عامر من قريش قال : يا محمد والله ما كذبتنا قط ولكنا إن اتبعناك نتخطف من أرضنا فنحن لا نؤمن بك لهذا السبب.

وروي أن الأخنس بن شريق قال لأبي جهل : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس عندنا أحد غيرنا؟ فقال له : والله إن محمدا لصادق وما كذب قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا لسائر قريش ، فنزلت هذه الآية. وعن علي بن أبي طالب أن أبا جهل قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا لا نكذبك فإنك عندنا لصادق ولكنا نكذب ما جئتنا به ، فنزلت هذه الآية : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) أي ولقد كذب الرسل قومهم كما كذبك قومك فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم لهم حتى أتاهم النصر بهلاك قومهم ، فاصبر يا أشرف الخلق كما صبروا تظفر كما ظفروا ، بل أنت أولى بالتزام الصبر لأنك مبعوث إلى جميع العالمين (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) بالنصرة فإن وعد الله إياك بالنصر حق وصدق ولا يمكن تطرق الخلف والتبديل إليه (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) (٣٤) أي خبرهم في القرآن كيف كذبهم قومهم وكيف أنجيناهم ودمرنا قومهم (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) أي وإن كان شق عليك إعراضهم عن الإيمان بما جئت به من القرآن ، وأحببت أن تجيبهم إلى ما سألوه فإن قدرت أن تتخذ منفذا فيه إلى جوف الأرض ، أو مصعدا ترتقي فيه إلى السماء فتأتيهم بآية مما اقترحوه عليك من تحت الأرض أو من فوق السماء فلتفعل.

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أن الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أتى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفر من قريش فقالوا : يا محمد ائتنا بآية من عند الله كما كانت الأنبياء تفعل فإنا نصدق بك. فأبى الله أن يأتيهم بآية مما اقترحوه فأعرضوا عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشق ذلك عليه لشدة حرصه على إيمان قومه ، فنزلت هذه الآية. والمقصود من هذا الكلام أن يقطع الرسول طمعه عن إيمانهم وأن لا يتأذى بسبب إعراضهم عن الإيمان وإقبالهم على الكفر وهذا دليل على مبالغة حرصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إسلام قومه إلى حيث لو قدر على أن يأتي بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لفعل رجاء لإيمانهم (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) أي ولو شاء الله تعالى جمعهم على الهدى لجمعهم عليه بأن يوفقهم للإيمان فيؤمنوا معكم ولكن لم يشأ لعدم صرف اختيارهم إلى جانب الهدى مع تمكنهم التام منه في مشاهدتهم للآيات الداعية إليه (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٣٥) أي فلا تكونن

٣١٥

بالميل إلى إتيان اقتراحاتهم من الجاهلين بعدم تعلق مشيئته تعالى بإيمانهم لعدم توجههم إليه لخروج الإيمان عن الحكمة المؤسسة على الاختيار. أو المعنى ولا تجزع على إعراضهم عنك ولا يشتد تحزنك على تكذيبهم بك فإن فعلت ذلك فتقارب حالك من حال الجاهلين الذين لا صبر لهم (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) أي إنما يقبل دعوتك إلى الإيمان الذين يسمعون ما يلقى إليهم سماع تفهم ، وإنما يطيعك من يعقلون الموعظة دون الموتى الذين هؤلاء منهم. (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٣٦) أي والموتى يبعثهم الله بعد الموت ثم يوقفون بين يديه للحساب والجزاء. فالله تعالى هو القادر على إحياء قلوب هؤلاء الكفار بحياة الإيمان وأنت لا تقدر عليه (وَقالُوا) أي كفار مكة الحرث بن عامر وأصحابه وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة وأمية وأبي ابنا خلف والنضر بن الحرث (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي هلا أنزل على محمد من ربه معجزة دالة على نبوته مثل فلق البحر وإظلال الجبل وإحياء الموتى ، وإنزال الملائكة وإسقاط السماء كسفا. (قُلْ) لهم يا أكرم الرسل : (إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) أي أن يوجد خوارق للعادة كما طلبوا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٣٧) أي لا يدرون أن في تنزيلها قلعا لأساس التكليف المبني على قاعدة الاختيار ، وأن الله تعالى لو أعطاهم ما طلبوه من المعجزات القاهرة فإن لم يؤمنوا عند ظهورها لاستحقوا عذاب الاستئصال ولم يبق لهم عذر ولا علة كما هو سنة الله فاقتضت رحمة الله صونهم عن هذا البلاء فما أعطاهم هذا المطلوب رحمة منه تعالى عليهم وإن كانوا لا يعلمون كيفية هذه الرحمة. (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أي وما من دابة تمشي في الأرض أو تسبح في الماء ولا طائر من الطيور يطير في ناحية من نواحي الجو إلا طوائف أمثالكم في ابتغاء الرزق وتوقي المهالك ، وفي أنها تعرف ربها وتوحده وفي أنها يفهم بعضها عن بعض ، وفي أنها تبعث بعد الموت للحساب.

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قتل عصفورا عبثا جاء يوم القيامة يعج إلى الله يقول : يا رب إن هذا قتلني عبثا لم ينتفع بي ولم يدعني آكل من خشاش الأرض» (١) وروي عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يقتص للجماء من القرناء»(٢). والمقصود من هذه الآية الدلالة على كمال قدرته تعالى وشمول علمه وسعة تدبيره ليكون كالدليل على أنه تعالى قادر على أن ينزل آية (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) أي ما تركنا في القرآن شيئا من الأشياء المهمة أي أن القرآن واف ببيان جميع الأحكام فليس لله على الخلق بعد ذلك تكليف آخر وأن القرآن دل على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب الضحايا ، باب : من قتل عصفورا بغير حقها ، والدارمي في كتاب الأضاحي ، باب : من قتل شيئا من الدواب عبثا ، وأحمد في (م ٢ / ص ١٦٦).

(٢) رواه أحمد في (م ٢ / ص ٢٣٥).

٣١٦

وحجة في الشريعة فكل ما دل عليه أحد هذه الأصول الثلاثة كان ذلك في الحقيقة موجودا في القرآن.

روي أن ابن مسعود كان يقول : ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه! فقرأت امرأة جميع القرآن فأتته فقالت : يا ابن أم عبد تلوت البارحة ما بين الدفتين فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة ، فقال : لو تلوتيه لوجدتيه ، قال الله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) [الحشر : ٧] وإن مما أتانا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لعن الله الواشمة والمستوشمة» (١). وذكر أن الشافعي كان جالسا في المسجد الحرام فقال : لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى ، فقال رجل : ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور؟ فقال : لا شيء عليه ، فقال : أين هذا من كتاب الله؟ فقال : قال الله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) [الحشر : ٧] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» (٢). وقال عمر رضي‌الله‌عنه : للمحرم وقتل الزنبور.

وروي أن أبا العسيف قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اقض بيننا بكتاب الله فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله» (٣) ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف وبالرجم على المرأة ، وهذا يدل على أن كل ما حكم به النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو عين كتاب الله لأنه ليس في نص الكتاب ذكر الجلد والتغريب (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٣٨) فإن الله تعالى يحشر الدواب والطيور يوم القيامة بمجرد الإرادة ومقتضى الإلهية. وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب اللباس ، باب : الواشمة ، ومسلم في كتاب اللباس ، باب : ١١٩ ، وأبو داود في كتاب الترجّل ، باب : في صلة الشعر ، والترمذي في كتاب اللباس ، باب : ٢٥ ، والنسائي في كتاب الطلاق ، باب : إحلال المطلقة ثلاثا وما فيه من التغليظ ، وابن ماجة في كتاب النكاح ، باب : الواصلة والواشمة ، والدارمي في كتاب الاستئذان ، باب : الواصلة والمستوصلة ، وأحمد في (م ١ / ص ٨٣).

(٢) رواه ابن ماجة في المقدمة ، باب : اتباع سنّة الخلفاء الراشدين المهديين ، والدارمي في المقدمة ، باب : اتباع السنّة ، وأبو داود في كتاب السنّة ، باب : في لزوم السنّة ، والترمذي في كتاب العلم ، باب : ١٦ ، وأحمد في (م ٤ / ص ١٢٦).

(٣) رواه البخاري في كتاب الصلح ، باب : إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود ، ومسلم في كتاب الحدود ، باب : ٢٥ ، وأبو داود في كتاب الأقضية ، باب : اجتهاد الرأي في القضاء ، والترمذي في كتاب الأحكام ، باب : ٣ ، والنسائي في كتاب القضاة ، باب : صون النساء عن مجلس الحكم ، وابن ماجة في كتاب الحدود ، باب : حدّ الزنا ، والدارمي في المقدمة ، باب : الفتية وما فيه من الشدة ، والموطأ في كتاب الحدود ، باب : ما جاء في الرجم ، وأحمد في (م ٤ / ص ١١٥).

٣١٧

حتى يقاد للشاة الجماء من القرناء» (١). قال المفسرون : إنه تعالى بعد توفير العوض عليها يجعلها ترابا وعند هذا (يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [النبأ : ٤٠]. (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) التي هي من القرآن (صُمٌ) لا يسمعونها سمع تدبر وفهم فلذلك يسمونها أساطير الأولين (وَبُكْمٌ) لا يقدرون على أن ينطقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون دعوة الرسول بها (فِي الظُّلُماتِ) أي في ضلالات الكفر والجهل والعناد فلا يهتدون سبيلا (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) أي من يشاء الله إضلاله يخلق الله الضلال فيه ويمته على الكفر فيضل يوم القيامة عن طريق الجنة وعن وجدان الثواب (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣٩) أي ومن يشأ أن يجعله على طريق يرضاه وهو الإسلام يجعله عليه ويهده إليه ويمته عليه فلا يضل من مشى إليه ولا يزل من ثبت قدمه عليه (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤٠) أي قل يا أكرم الرسل لكفار مكة : يا أهل مكة أخبروني إن أتاكم عذاب الله في الدنيا كالغرق أو الخسف أو المسخ ، أو نحو ذلك أو أتاكم العذاب عند قيام الساعة أترجعون إلى غير الله في دفع ذلك البلاء؟ أو ترجعون فيه إلى الله تعالى إن كنتم صادقين في أن أصنامكم آلهة فأجيبوا سؤالي؟ أو المعنى إن كنتم قوما صادقين فأخبروني أإلها غير الله تدعون إلخ (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) أي إنكم لا ترجعون في طلب دفع البلية إلا إلى الله تعالى فيكشف الضر الذي من أجله دعوتم بمحض مشيئته (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) (٤١) أي وتتركون الأصنام ولا تدعونهم لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) أي وبالله لقد أرسلنا إلى أمم كثيرة كائنة من زمان قبل زمانك رسلا فخالفوهم فعاقبناهم بشدة الفقر والخوف من بعضهم والأمراض والأوجاع (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) (٤٢) أي لكي يدعوا الله تعالى في كشفها بالتذلل ويتوبوا إليه من كفرهم ومعاصيهم (فَلَوْ لا) أي فهلا (إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٤٣) من الكفر والمعاصي أي فلم يؤمنوا حين جاءهم عذابنا ولكن ظهر منهم الكفر ووسوس لهم الشيطان إن حال الدنيا هكذا تكون شدة ثم نعمة فلم يخطروا ببالهم أن ما أصابهم من الشدائد ما أصابهم إلا لأجل عملهم الفاسد (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) أي فلما انهمكوا في المعاصي وتركوا ما وعظوا به من الشدائد فتحنا عليهم فنون النعماء على منهاج الاستدراج (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) أي حتى إذا اطمأنوا بما فتح لهم وبطروا بأن ظنوا أن الذي نزل بهم من الشدائد ليس على سبيل الانتقام من الله وأن تلك الخيرات باستحقاقهم نزل بهم عذابنا فجأة ليكون عليهم أشد وقعا (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) (٤٤) أي متحزنون غاية الحزن منقطع رجاؤهم من كل خير (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي قطع غابر المشركين أي

__________________

(١) رواه أحمد في (م ١ / ص ٧٢).

٣١٨

استؤصلوا بالهلاك بسبب ظلمهم بإقامة المعاصي مقام الطاعات (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٥) على استئصالهم بالنكال فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم الفاسدة وأعمالهم الخبيثة نعمة جليلة مستحقة للحمد (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) أي قل يا أكرم الخلق لأهل مكة : يا أهل مكة أخبروني إن أزال الله سمعكم وأبصاركم وعقولكم أي فرد من الآلهة الثابتة بزعمكم غير الله يأتيكم بذلك الذي أزيل؟ (انْظُرْ) يا أكرم الرسل (كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي كيف نكررها متغيرة من نوع إلى نوع آخر فتارة بترتيب المقدمات العقلية ، وتارة بطريق الترغيب والترهيب ، وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين فكل واحد يقوّي ما قبله في الإيصال إلى المطلوب (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) (٤٦) أي يعرضون عن تلك الآيات وثم لاستبعاد إعراضهم عنها بعد ذكرها على الوجوه المختلفة (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) أي أخبروني يا أهل مكة (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) أي عذابه الخاص بكم (بَغْتَةً) أي فجأة بأن يجيئهم من غير سبق علامة تدلهم على مجيء ذلك العذاب (أَوْ جَهْرَةً) بأن يجيئهم مع سبق علامة تدل عليه فالعذاب وقع بهم وقد عرفوه حتى لو أمكنهم الاحتراز عنه لتحرزوا منه (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) (٤٧) أي هل يهلك بذلك العذاب غيركم ممن لا يستحقه (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ) بالثواب على الطاعات (وَمُنْذِرِينَ) بالعقاب على المعاصي ولا قدرة لهم على إظهار المعجزات بل ذلك مفوض إلى مشيئة الله تعالى (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٤٨) أي فمن قبل قول المرسلين وأتى بعمل القلب الذي هو الإيمان وبعمل الجسد الذي هو الإصلاح فلا خوف عليهم من العذاب الذي أنذروه دنيويا كان أو أخرويا ولا هم يحزنون بفوات ما بشروا به من الثواب العاجل والآجل (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وهي ما ينطق به الرسل عند التبشير والإنذار ويبلغونه إلى الأمم (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) أي يصيبهم العذاب الذي أنذروه (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٤٩) أي بسبب فسقهم وخروجهم عن الطاعة (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ).

واعلم أن الكفار طلبوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوسع خيرات الدنيا وأن يخبر عما يقع في المستقبل من المصالح والمضار ، وطعنوا فيه في أكل الطعام والمشي في السوق ، وفي تزوجه للنساء فأمر الله تعالى أن ينفي عن نفسه أمورا ثلاثة تواضعا لله تعالى واعترافا له بالعبودية وأن يقول لهم : إنما بعثت مبشرا ومنذرا ولا أدعي كوني موصوفا بالقدرة اللائقة بالله تعالى ، وأن خزائن الله مفوّضة إليّ أتصرف فيها كيفما أشاء ، وأعطيكم منها ما تريدون. ولا أدعي كوني موصوفا بعلم الله تعالى فأخبركم بما تريدون ، ولا أدعي أني ملك حتى تكلفوني من الخوارق للعادات ما لا يطيق به البشر وحتى تعدوا عدم اتصافي بصفات الملائكة قادحا في أمري فتنكرون قولي ، وتجحدون أمري ، وما أخبركم من غيب إلا بوحي من الله أنزله علي (قُلْ) لهم : (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى

٣١٩

وَالْبَصِيرُ) أي هل يكونان سواء من غير مزية فإن قالوا : نعم ، كابروا الحس وإن قالوا : لا ، قيل : فمن تبع هذه الآيات الجليات فهو البصير ومن أعرض فهو الأعمى (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) (٥٠) أي ألا تسمعون هذا الكلام الحق فلا تتفكرون فيه ، نزلت هذه الآية من قوله : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ) في أبي جهل وأصحابه الحرث وعيينة (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٥١) أي وأنذر يا أشرف الرسل بما أوحي إليك من يجوزون الحشر ويرجى منهم التأثر بالتخويف غير منصورين بقريب ولا مشفوعا لهم من جهة أنصارهم على زعمهم من غير الله تعالى سواء كانوا جازمين بأصل الحشر كالمؤمنين العاصين وأهل الكتاب المترددين في شفاعة آبائهم الأنبياء وبعض المشركين المعترفين بالبعث المترددين في شفاعة الأصنام ، أو مترددين في أصل الحشر وفي شفاعة الآباء والأصنام معا كبعض الكفرة الذين يعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديث البعث يخافون أن يكون حقا فيهلكوا لكي ينتهوا عن الكفر والمعاصي ، وأما المنكرون للحشر بالكلية والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام فهم خارجون ممن أمر بإنذارهم (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) أي الذين يعبدون ربهم بالصلوات الخمس أو يذكرون ربهم طرفي النهار (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي يريدون بذلك محبة الله تعالى ورضاه أي مخلصين في ذلك.

روي أنه جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري ، وعباس بن مرداس وهم من المؤلفة قلوبهم فوجدوا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا مع ناس من ضعفاء المؤمنين كعمار بن ياسر وصهيب ، وبلال وخباب وابن مسعود ، وسلمان الفارسي ومهجع ، وعامر بن فهيرة فلما رأوهم حوله حقروهم وقالوا : يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس وأبعدت عنك هؤلاء ورائحة جبابهم لجالسناك وأخذنا عنك ، فقال النبي : «ما أنا بطارد المؤمنين» ، قالوا : فإنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف به العرب فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا مع هؤلاء الأعبد ، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا ، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال : «نعم» ، قالوا فاكتب لنا عليك بذلك كتابا فأتى بالصحيفة ودعا عليا ليكتب ، فنزل جبريل بهذه الآية فألقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصحيفة ، وقال مجاهد : قالت قريش : لو لا بلال وابن أم عبد لبايعنا محمدا فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وروي أن ناسا من الفقراء كانوا مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ناس من الأشراف له صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلينا فأخر هؤلاء فليصلوا خلفنا؟ فنزلت هذه الآية : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٥٢) أي ما عليك من حساب رزق هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي شيء فتملهم وتبعدهم ، ولا من حساب رزقك عليهم شيء وإنما الرازق لهم ولك

٣٢٠