مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

فيدخل في هذا الذم كل من كان قادرا على النهي عن المنكر من العلماء وغيرهم وتركه ، ولذلك قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : هذه الآية أشد آية في القرآن. وقال الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها والله أعلم (وَقالَتِ الْيَهُودُ).

قال ابن عباس وعكرمة والضحاك : إن الله تعالى قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالا فلما بعث الله محمدا وكذبوا به ضيّق الله عليهم المعيشة ، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء وأخرج الطبراني عن ابن عباس : أنه قال النباش بن قيس : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) أي مقبوضة عن العطاء على جهة الصفة بالبخل (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) وهذه الكلمات دعاء عليهم. والمعنى أنه تعالى يعلمنا أن ندعو عليهم بهذا الدعاء كما علمنا الاستثناء في قوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [الفتح : ٢٧] ، وكما علمنا الدعاء على المنافقين في قوله تعالى : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) [البقرة : ١٠] وعلى أبي لهب في قوله تعالى (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) [المسد : ١] فحينئذ يكون المعنى دعاء عليهم بالبخل ، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله تعالى وبغل الأيدي حقيقة بأن يغلوا في الدنيا أسارى وتشد أيديهم إلى أعناقهم في نار جهنم ، ويسحبوا إلى النار بأغلالها وقوله : ولعنوا بما قالوا أي عذبوا في الدنيا بالجزية ، وفي الآخرة بالنار بسبب قولهم ذلك (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) عطف على مقدر ، أي ليس الأمر على ما وصفتموه تعالى به من البخل بل هو تعالى جواد كريم على سبيل الكمال فإن من أعطى بيديه من الإنسان فقد أعطى على أكمل الوجوه ، فتثنية اليد مبالغة في الوصف بالجود ، وأيضا إن المراد بالتثنية المبالغة في وصف النعمة ، فالمعنى أن نعمة الله متتابعة ليست كما ادعى من أنها مقبوضة ممتنعة.

وقيل : التثنية للتنبيه على منحه تعالى لنعمتي الدنيا والآخرة. وقيل : على إعطائه إكراما وعلى إعطائه استدراجا. فقيل : نعمتاه تعالى : نعمة الدين ، ونعمة الدنيا. أو نعمة الباطن ونعمة الظاهر. أو نعمة النفع ، ونعمة الدفع. أو نعمة الشدة ونعمة الرخاء (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) أي يرزق خلقه كائنا على أي حال يشاء إن شاء قتر وإن شاء وسع (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) أي والله ليزيدن القرآن علماء اليهود غلوا في الإنكار وشدة في الكفر إذ كلما نزلت آية كفروا بها كما أن الطعام الصالح للأصحاء يزيد المرضى مرضا (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فكل فرقة من اليهود تخالف الأخرى فلا يكاد تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أقوالهم فإن اليهود فرق فإن بعضهم جبرية وبعضهم قدرية ، وبعضهم مرجئة ، وبعضهم مشبهة ، وكذا النصارى فرق كالملكانية ، والنسطورية ، واليعقوبية ، والماردانية (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) أي كلما هموا بمحاربة أحد رجعوا خائبين مقهورين وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلّط الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم

٢٨١

فطرس الرومي ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين وكلما أرادوا محاربة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورتبوا أسبابها وركبوا في ذلك متن كل صعب ردهم الله تعالى وقهرهم وذلك لعدم ائتلافهم (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أي ويجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وإثارة الفتنة بينهم وفي تعويق الناس عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (٦٤) أي والله يعاقب المفسدين في الأرض كاليهود وغيرهم (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ) أي أن اليهود والنصارى (آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما جاء به (وَاتَّقَوْا) مخالفة كتابهم (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٦٥) فالكتابي لا يدخل الجنة ولا يرفع عنه العقاب ما لم يسلم والإسلام يجب ما قبله (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي أقاموا أحكامهما وحدودهما (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) من الكتب ككتاب شعياء وكتاب حيقوق ، وكتاب دانيال ، وكتاب أرمياء ، وزبور داود لأنهم مكلفون بالإيمان بجميعها فكأنها أنزلت إليهم وأيضا في هذه الكتب ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون المراد بإقامة هذه الكتب الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : المراد بما أنزل إليهم من ربهم القرآن لأنهم مأمورون بالإيمان به فكأنه نزل إليهم من ربهم (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) وهذه مبالغة في السعة والخصب لا أن هناك فوقا وتحتا. والمعنى لأكلوا أكلا متصلا كثيرا. وقيل : من نزول القطر ومن حصول النبات. وقيل : من الأشجار المثمرة ومن الزروع المغلة. وقيل : المراد أن يرزقهم الله الجنان اليانعة الثمار فيجتنون ما تهدل من رؤوس الشجر ، ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم هذا في القائلين : يد الله مغلولة الذين ضيق عليهم عقوبة لهم (مِنْهُمْ) أي من أهل الكتاب (أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) أي طائفة معتدلة. وهم المؤمنون منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه ، وبحيرا الراهب وأصحابه ، والنجاشي وأصحابه ، وسلمان الفارسي وأصحابه (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) (٦٦) من العناد وتحريف الحق والإفراط في العداوة وكتمان صفة محمد ككعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، ومالك بن الصيف ، وسعيد بن عمرو ، وأبي ياسر ، وجدي بن أخطب (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) أي يا محمد (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) من غير مبالاة باليهود والنصارى ومن غير خوف من أن ينالك مكروه أبدا (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) ما أمرت به من تبليغ جميع ما أنزل إليك من الأحكام وما يتعلق بها (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) أي رسالة ربك.

وقرأ ابن عامر ونافع وشعبة رسالاته بجمع تأنيث سالم. وقرئ فما بلغت رسالاتي وهذا تنبيه على غاية التهديد (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي الكفار أي يؤمنك من مكر اليهود والنصارى من قتلهم. وعن أنس رضي‌الله‌عنه : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرسه سعد وحذيفة حتى نزلت هذه الآية فأخرج رأسه من قبة آدم وقال : «انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من

٢٨٢

الناس» (١). (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٦٧) أي إنه تعالى لا يمكّنهم مما يريدون بك من القتل. روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل تحت شجرة في بعض أسفاره وعلّق سيفه عليها فأتاه أعرابي وهو نائم فأخذ سيفه واخترطه وقال : يا محمد من يمنعك مني؟ فقال : «الله» (٢) فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه.(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) من الدين ولا في أيديكم من الصواب (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي تحافظوا على ما فيهما من دلائل رسالة الرسول وشواهد نبوته فإن إقامتهما إنما تكون بذلك. وأما مراعاة أحكامهما المنسوخة فليست من إقامتهما في شيء (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي حتى تراعوا على ما في القرآن بالإيمان به فإن إقامة الجميع لا تحصل بغير ذلك (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وهو القرآن (طُغْياناً) أي تماديا في الجحود (وَكُفْراً) أي ثباتا على الكفر (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٦٨) أي لا تتأسف عليهم بسبب زيادة طغيانهم وكفرهم ولا بسبب نزول اللعن والعذاب عليهم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إيمانا حقا بموسى وبجملة الأنبياء والكتب وماتوا على ذلك فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. (وَالَّذِينَ هادُوا) أي دخلوا في اليهودية (وَالصَّابِئُونَ) هم قوم من النصارى وهم ألين قولا من النصارى (وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ) من هؤلاء الثلاثة (بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) أي خالصا فيما بينه وبين ربه وتاب اليهودي من اليهودية ، والصابئ من الصابئة ، والنصارى من النصرانية (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) إذا ذبح الموت (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٩) إذا أطبقت النار ، فقوله : (وَالَّذِينَ هادُوا) مبتدأ «قالوا» ولعطف الجمل أو للاستئناف. وقوله : (وَالصَّابِئُونَ) عطف على هذا المبتدأ كقوله : (وَالنَّصارى) وقوله : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) إلخ خبر عن هذه المبتدءات الثلاثة. وقوله : (مَنْ آمَنَ) بدل بعض من هذه الثلاثة فهو مخصص. فالإخبار عن اليهود ومن بعدهم بما ذكر بشرط الإيمان بما ذكر وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ) خبر إن محذوف دل عليه المذكور من خبر هذه الثلاثة.

وقرئ «والصابئين» ، وقرئ «يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون» ؛ «وهم من صبوا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي بالله لقد أخذنا ميثاقهم بالتوحيد وسائر الأحكام المكتوبة عليهم في التوراة (وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً) ذوى عدد كثير ليقرروهم على مراعاة حقوق الميثاق (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) أي كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تحبه أنفسهم المنهمكة في الغي من الشرائع ، ومشاق التكليف عصوه وعادوه (فَرِيقاً كَذَّبُوا) أي فريقا من الرسل كذبوهم كعيسى وموسى ومحمد

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب التفسير ، باب : تفسير سورة ٥.

(٢) رواه أحمد في (م ٣ / ص ٣٦٥).

٢٨٣

صلوات الله عليهم (وَفَرِيقاً) منهم (يَقْتُلُونَ) (٧٠) كزكريا ويحيى عليهما‌السلام وقصدوا أيضا قتل عيسى وإن كان الله منعهم عن مرادهم وهم يزعمون أنهم قتلوه ، فذكر التكذيب بلفظ الماضي إشارة إلى معاملتهم مع موسى عليه‌السلام فإنهم كذبوه في كل مقام ، وتمردوا على أوامره لأنه قد انقضى من ذلك الزمان أدوار كثيرة ، وذكر القتل بلفظ المضارع إشارة إلى معاملتهم مع زكريا ويحيى وعيسى عليهم‌السلام لكون ذلك الزمان قريبا فكان كالحاضر ومحافظة للفاصلة (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي ظن بنو إسرائيل أن لا يوحّد بلاء وعذاب بقتل الأنبياء وتكذيبهم لأنهم كانوا يعتقدون أن كل رسول جاءهم بشرع آخر غير شرعهم يجب عليهم تكذيبه وقتله لأنهم اعتقدوا أن النسخ ممتنع على شرع موسى وكانوا يعتقدون أن نبوة أسلافهم تدفع عنهم العقاب الذي يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب (فَعَمُوا) عن الهدى (وَصَمُّوا) عن الحق فخالفوا أحكام التوراة فقتلوا شعياء وحبسوا أرمياء عليهما‌السلام فسلط الله تعالى عليهم بختنصر عامل لهراسب على بابل ، فاستولى على بيت المقدس ، فقتل من أهله أربعين ألفا ممن يقرأ التوراة ، وذهب بالبقية إلى أرضه ، فبقوا هناك دهرا طويلا على أقصى الذل إلى أن أحدثوا توبة صحيحة (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) حين تابوا فوجه الله تعالى ملكا عظيما من ملوك فارس إلى بيت المقدس ليعمره ، ونجّى بقايا بني إسرائيل من أسر بختنصر وردّهم إلى وطنهم ، وتراجع من تفرّق منهم في الأكناف فعمره ثلاثين سنة فكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه.

وقيل : لما ورث بهمن الملك من جده ألقى الله تعالى في قلبه شفقة عليهم فردّهم إلى الشام ، وملّك عليهم دانيال عليه‌السلام ، فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر ، فقامت فيهم الأنبياء فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) فعادوا إلى الفساد واجترءوا على قتل زكريا ويحيى ، وقصدوا قتل عيسى فبعث الله تعالى عليهم الفرس فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف اسمه خيدرود ففعل بهم ما فعل. قيل : دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلي ، فسألهم فقالوا : دم قربان لم يقبل منا ، فقال : ما صدقوني فقتل عليه ألوفا منهم ، ثم قال : إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا. فقالوا : إنه دم يحيى عليه‌السلام ، فقال : بمثل هذا ينتقم الله تعالى منكم. ثم قال : يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقى أحدا منهم فهدأ (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (٧١) أي وإن دق فيجازيهم به وفق أعمالهم (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ).

قيل : هم الملكانية والمار يعقوبية منهم القائلون بالاتحاد. وقيل : هم اليعقوبية خاصة لأنهم يقولون : إن مريم ولدت إلها ، ولعل معنى هذا المذهب أنهم يقولون : إن الله تعالى حلّ في

٢٨٤

ذات عيسى واتحد بذات عيسى. (وَقالَ الْمَسِيحُ) أي والحال قد قال المسيح مخاطبا لهم (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي وحدوا الله في العبادة خالقي وخالقكم (إِنَّهُ) أي الشأن (مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) شيئا في عبادته أو فيما يختص به من صفات الألوهية (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) أي فقد منعه الله من دخولها (وَمَأْواهُ النَّارُ) فإنها هي المعدة للمشركين (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٧٢) أي وما لهم من أحد ينصرهم بإنقاذهم من النار إما بطريق المبالغة أو بطريق الشفاعة. فقوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ) إلى آخر الآية وارد من جهته تعالى لتأكيد مقالة عيسى عليه‌السلام ولتقرير مضمونها (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) وهم النسطورية والمرقوسية.

وفي تفسير قولهم طريقان :

الأولى : قال بعض المفسرين : إنهم أرادوا بذلك إن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة. فمعنى ثالث ثلاثة أي أحد ثلاثة آلهة ، فكل واحد من هؤلاء إله لأنهم يقولون : إن الآلهة مشتركة بين هؤلاء الثلاثة. قال الواحدي : ولا يكفر من يقول : إن الله ثالث ثلاثة إذا لم يرد به ثالث ثلاثة آلهة فإنه ما من شيئين إلا والله ثالثهما بالعلم اه. كما قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر : «ما ظنك باثنين الله ثالثهما»(١).

والثانية : حكى المتكلمون عن النصارى أنهم يقولون : إن الإله جوهر واحد مركب من ثلاثة أقانيم أب وابن وروح قدس. فهذه الثلاثة إله واحد ، كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة ، وعنوا بالأب : الذات. وبالابن : الكلمة. وبالروح : الحياة ، وقالوا : إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء باللبن واختلاط الماء بالخمر وزعموا أن الأب إله والابن إله والروح إله والكل إله واحد. (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي وما في الوجود من هذه الحقيقة إلا فرد واحد ، أو المعنى وما من إله لأهل السموات والأرض إلا إله لا ولد له ولا شريك له فهو إله واحد بالذات منزه عن شائبة التعدد بوجه من الوجوه (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) أي من هاتين المقالتين وما قرب منهما (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) أي ليصيبن الذين أقاموا على هذا الدين (عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٣) أي شديد الألم (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) أي ألا ينتهون عن تلك العقائد الزائغة والأقاويل الباطلة فلا يتوبون إلى الله عن تلك المقالة والعقيدة ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عن الاتحاد والحلول. أو المعنى أيسمعون هذه الشهادات المكررة والتشديدات المقررة فلا يتوبون عقب سماع تلك القوارع الهائلة؟ (وَاللهُ غَفُورٌ)

__________________

(١) رواه مسلم في فضائل الصحابة ، باب : ١ ، وأحمد في (م ١ / ص ٤).

٢٨٥

لمن تاب وآمن (رَحِيمٌ) (٧٤) لمن مات على التوبة (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين مضوا من قبله ، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها فليس بإله كالرسل الخالية قبله فإنهم لم يكونوا آلهة فإن كان الله أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى على يد عيسى عليه‌السلام ، فقد فلق البحر وأحيا العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى عليه‌السلام وهو أعجب منه ، وإن كان الله خلقه من غير أب فقد خلق آدم من غير أب وأم وهو أغرب منه (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) أي وما أمه إلا صديقة أي تلازم الصدق وتصدق الأنبياء وتبالغ في بعدها عن المعاصي وفي إقامة مراسم العبودية كسائر النساء اللاتي يلازمن الاتصاف بذلك فما رتبة عيسى إلا رتبة نبي ، وما رتبة أمه إلا رتبة صحابي فمن أين لكم أن تصفوهما بما لا يوصف به سائر الأنبياء وخواص الناس؟ فإن أعظم صفات عيسى عليه‌السلام الرسالة ، وأكمل صفات أمه الصديقية وذلك لا يستلزم لهما الألوهية (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) كسائر أفراد البشر. (انْظُرْ) يا أشرف الخلق (كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) أي العلامات بأن عيسى ومريم لم يكونا بإلهين وببطلان ما تقولوا عليهما (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٧٥) أي كيف يصرفون عن استماع الآيات وعن التأمل فيها فالله بيّن لهم الآيات بيانا عجبا وإعراضهم عنها أعجب منها (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) وهو عيسى عليه‌السلام فإن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه ومزقوا أضلاعه ولما عطش وطلب الماء منهم صبوا الخل في منخريه ومن كان في الضعف هكذا كيف يعقل أن يكون إلها؟ فلو كان كذلك لامتنع كونه مشغولا بعبادة الله تعالى! ومن كان كذلك كان محتاجا إليه في تحصيل المنافع ودفع المضار ومن كان كذلك كيف يقدر على إيصال المنافع إلى العباد ودفع المضار عنهم؟ وإذا كان كذلك كان عبدا كسائر العبيد (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٧٦). والمراد من هذه الجملة التهديد أي سميع بكفرهم ولمقالتهم في عيسى وأمه عليم بضمائرهم وبعقوبتهم (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) أي يا معشر اليهود والنصارى (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ) أي لا تتجاوزوا الحد في دينكم تجاوزا باطلا فإن الغلو في الدين نوعان : غلو حق وهو أن يجتهد في تحصيل حججه وتقريرها كما يفعله المتكلمون وغلو باطل وهو أن يتكلف في تقرير الشبه ويتجاوز الحق ويعرض عن الأدلة وذلك الغلو هو رفع النصارى لعيسى فقالوا : إنه إله وخفص اليهود له فقالوا : إنه ابن زنا وإنه كذاب (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) أي لا تتبعوا مذاهب قوم قد ضلوا من قبلكم عن التوراة والإنجيل (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) من الناس بتماديهم في الباطل (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (٧٧) أي عن الدين الحق وعن القرآن بسبب اعتقادهم في ذلك الإضلال أنه إرشاد إلى الحق (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي لعن الله تعالى اليهود في الزبور والنصارى في الإنجيل (عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) فاليهود لعنوا على لسان

٢٨٦

داود ، والنصارى لعنوا على لسان عيسى ، والفريقان من بني إسرائيل وهم أصحاب السبت وأصحاب المائدة. أما أصحاب السبت فهم قوم داود وذلك أن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت بأخذ الحيتان دعا عليهم داود عليه‌السلام وقال : اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخهم الله قردة. وأما أصحاب المائدة فإنهم لما أكلوا من المائدة وادخروا ولم يؤمنوا ، قال عيسى عليه‌السلام : اللهم عذّب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين ، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت فمسخوا قردة وخنازير وكانوا خمسة آلاف ليس فيهم امرأة ولا صبي (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٧٨) أي ذلك اللعن الفظيع بسبب عصيانهم ومبالغتهم في العصيان (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) أي كانوا لا يمتنعون عن معاودة منكر فعلوه ولا يتركونه ولا يصدر من بعضهم نهي لبعض عن منكر أرادوا فعله.

روى ابن مسعود عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من رضي عمل قوم فهو منهم ومن كثّر سواد قوم فهو منهم» (١). (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٧٩) أي أقسم لبئس ما كانوا يفعلونه فعلهم هذا وهو ترك الإصرار على منكر فعلوه وترك النهي عنه (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) أي تبصر كثيرا من أهل الكتاب ككعب بن الأشرف وأصحابه (يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يصادقون كفار أهل مكة أبا سفيان وأصحابه بغضا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين ، أي فإن كعبا وأضرابه خرجوا إلى مشركي مكة ليتفقوا على محاربة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي لبئس شيئا قدموا من موالاتهم لعبدة الأوثان لزاد معادهم موجب سخطه تعالى عليهم (وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) (٨٠) أي وخلودهم أبد الآبدين في عذاب جهنم ، وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها فهي من جملة المخصوص بالذم (وَلَوْ كانُوا) أي أهل الكتاب الذين يوالون المشركين (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِ) أي نبيهم وهو موسى (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ) من التوراة كما يدعون (مَا اتَّخَذُوهُمْ) أي ما اتخذ اليهود المشركين (أَوْلِياءَ) لأن تحريم ذلك متأكد في التوراة في شرع موسى عليه‌السلام فلما فعلوا ذلك ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى بل مرادهم الرياسة فيسعون في تحصيله بأيّ طريق قدروا عليه فلهذا وصفهم الله تعالى بالفسق فقال : (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٨١) أي خارجون عن الدين والإيمان بالله ونبيهم وكتابهم أما البعض منهم فقد آمن وفي هذه الآية وجه آخر ذكره القفال وهو أن يكون المعنى ولو كان هؤلاء المتولون من المشركين يؤمنون بالله وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما اتخذهم هؤلاء اليهود أولياء وهذا الوجه حسن ليس في

__________________

(١) رواه ابن حجر في المطالب العالية (١٦٠٥) ، والزيلعي في نصب الراية (٤ : ٣٤٦) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٦ : ١٢٨) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٢٤٧٣٥) ، والعجلوني في كشف الخفاء (٢ : ٣٧٨).

٢٨٧

الكلام ما يدفعه (لَتَجِدَنَ) يا أكرم الخلق (أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) من أهل مكة لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى وقربهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق وعن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما خلا يهوديان بمسلم إلا همّا بقتله» (١).

وقد قال بعضهم : مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من خالفهم في الدين بأي طريق كان فإن قدروا على القتل فذاك وإلا فبغصب المال أو بالسرقة أو بنوع من الحيلة. وأما النصارى فليس مذهبهم ذلك بل الإيذاء حرام في دينهم فهذا وجه التفاوت وذكر الله تعالى أن النصارى ألين عريكة من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم (وَلَتَجِدَنَ) يا أشرف الخلق (أَقْرَبَهُمْ) أي الناس (مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) إنما أسند تسميتهم نصارى إليهم دون تسمية اليهود للأشعار بقرب مودتهم حيث يدعون أنهم أنصار الله وأوداء أهل الحق ، وإن لم يظهروا اعتقاد حقية الإسلام فتسميتهم نصارى ليست حقيقة بخلاف تسمية اليهود يهودا فإنها حقيقة سواء سموا بذلك لكونهم أولاد يهود بن يعقوب أو لكونهم تابوا عن عبادة العجل أو لتحركهم في دراستهم (ذلِكَ) أي كونهم أقرب مودة للمؤمنين (بِأَنَّ مِنْهُمْ) أي بسبب أن منهم (قِسِّيسِينَ) أي علماء (وَرُهْباناً) أي عبادا أصحاب الصوامع (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (٨٢) عن قبول الحق إذا فهموه كما استكبر اليهود والمشركون من أهل مكة (وَ) أنهم (إِذا سَمِعُوا) أي القسيسون والرهبان الذين آمنوا منهم (ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو القرآن (تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) أي تمتلئ من الدمع حتى تفيض أي تسيل (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) أي من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتابهم أو مما عرفوا بعض الحق الذي هو القرآن.

روي أن قريشا تشاورت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثب كل قبيلة على من آمن منهم ، فآذوهم وعذبوهم ، ومنع الله تعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعمه أبي طالب ، فلما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما نزل بأصحابه أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة وقال : «إن بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا». فخرج إليها سرا أحد عشر رجلا وأربع نسوة ، منهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والزبير بن العوام ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة ، ومصعب بن عمير ، وأبو سلمة بن عبد الأسد وزوجته أم سلمة بنت أمية ، وعثمان بن مظعون ، وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى ، وحاطب بن عمرو وسهيل بن بيضاء فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة بنصف دينار ، وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم خرج بعدهم جعفر بن أبي طالب

__________________

(١) رواه العجلوني في كشف الخفاء (٢ : ٢٦٦).

٢٨٨

وتتابع المسلمون فكان جميع من هاجر إلى أرض الحبشة اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان ، فلما كانت وقعة بدر وقتل الله فيها صناديد الكفار. قال كفار قريش : إن ثاركم بأرض الحبشة فاهدوا إلى النجاشي واسمه أصحمة وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر ، فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعة بهدايا إلى النجاشي وبطارقته ليردهم إليهم فدخلا إليه فقالا له : أيها الملك إنه قد خرج فينا رجل زعم أنه نبي وهو قد بعث إليك برهط من أصحابه ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نخبرك خبرهم وأن قومنا يسألونك أن تردهم إليهم فقال : حتى نسألهم ، فأمر بهم فأحضروا فلما أتوا باب النجاشي قالوا : يستأذن أولياء الله. فقال : ائذنوا لهم فمرحبا بأولياء الله. فلما دخلوا عليه سلموا ، فقال الرهط من المشركين : أيها الملك ألا ترى أنهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها؟ فقال لهم الملك : ما منعكم أن تحيوني بتحيتي؟ قالوا : إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة. فقال لهم النجاشي : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ فقال جعفر بن أبي طالب : يقول هو عبد الله ورسوله وكلمة الله وروح منه ألقاها إلى مريم العذراء ، ويقول في مريم إنها العذراء البتول. فأخذ النجاشي عودا من الأرض وقال : والله ما زاد صاحبكم على ما قال عيسى قدر هذه العود. فكره المشركون قوله وتغيرت وجوههم. فقال : هل تعرفون شيئا مما أنزل على صاحبكم؟ قالوا : نعم. قال : اقرءوا. فقرأ جعفر سورة مريم وهناك قسيسون ورهابين وسائر النصارى ، فعرفوا ما قرأ فانحدرت دموعهم وما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر الطيار من القراءة ، فقال النجاشي لجعفر وأصحابه : اذهبوا فأنتم بأرضي آمنون. فرجع عمرو ومن معه خائبين وأقام المسلمون عند النجاشي بخير دار وخير جوار إلى أن علا أمر رسول الله وقهر أعداءه في سنة ست من الهجرة وكتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وكانت قد هاجرت إليه مع زوجها ومات عنها ، فأرسل النجاشي إليها جارية اسمها أبرهة تخبرها بخطبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسرت أم حبيبة بذلك وأذنت لخالد بن سعيد أن يزوجها فأنفذ النجاشي إليها أربعمائة دينار صداقها على يد أبرهة ، وقالت أبرهة : قد صدقت بمحمد وآمنت به وحاجتي إليك أن تقرئيه مني السلام ، قالت : نعم وقالت : فخرجنا إلى المدينة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخيبر وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخلت عليه فقرأت عليه‌السلام من أبرهة جارية الملك فرد الرسول عليها‌السلام ووافى جعفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بخيبر ومع جعفر سبعون رجلا عليهم ثياب الصوف ، منهم اثنان وستون رجلا من الحبشة ، وثمانية نفر من رهبان الشام : بحيرا الراهب وأصحابه أبرهة وأشرف وإدريس ، وتميم وتمام ودريد وأيمن وكلهم من أصحاب النجاشي ، فقرأ عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة يس إلى آخرها فبكوا وآمنوا وأسلموا. وقالوا : ما أشبه هذا بما

٢٨٩

كان ينزل على عيسى عليه‌السلام (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا) بما سمعنا مما أنزل على رسولك وشهدنا أنه حق (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٨٣) أي فاجعلنا من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين آمنوا فلما لامهم قومهم بالإسلام فقالوا تحقيقا لإيمانهم (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) (٨٤) من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجملة قوله تعالى : (لا نُؤْمِنُ) حال من الضمير في «لنا» وجملة «لا نطمع» حال ثانية منه بتقدير مبتدأ. أي أيّ شيء حصل لنا غير مؤمنين بالله وبما جاءنا من القرآن والرسول ونحن نطمع في صحبة الصالحين ويجوز أن يكون قوله : (وَنَطْمَعُ) حالا من الضمير في (لا نُؤْمِنُ) على معنى أنهم أنكروا على أنفسهم عدم إيمانهم مع أنهم يطمعون في صحبة المؤمنين (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا) أي جعل الله ثوابهم على قولهم : ربنا آمنا مع إخلاص النية ومعرفة الحق ، أو بسبب ما سألوا بقولهم : فاكتبنا مع الشاهدين كما رواه عطاء عن ابن عباس.

وقرئ فآتاهم الله (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ) أي الجنات (جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) (٨٥) بالإيمان. أو المعنى جزاء الذين اعتادوا الإحسان في الأمور.

روي أن هذه الآيات الأربع نزلت في النجاشي وأصحابه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (٨٦) أي ملازمون لها لا ينفكون عنها دون غيرهم من عصاة المؤمنين وإن كثرت كبائرهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) أي لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله لكم ، ولا تظهروا باللسان تحريمه ، ولا تجتنبوا الطيبات اجتنابا شبيه الاجتناب من المحرمات ، ولا تلتزموا تحريم الطيبات بنذر أو يمين (وَلا تَعْتَدُوا) أي لا تسرفوا في تناول الطيبات ولا تتجاوزوا أمر الله بقطع المذاكير (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٨٧) من الحلال إلى الحرام كالمثلة فمن اعتقد تحريم شيء أحله الله فقد كفر ، أما ترك لذات الدنيا والتفرغ لعبادة الله تعالى من غير إضرار بالنفس ولا تفويت حق الغير ففضيلة مأمور بها. نزلت هذه الآية في عشرة نفر من أصحاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم : أبو بكر الصديق ، وعمر وعلي وعبد الله بن مسعود ، وعثمان بن مظعون الجمحي ، ومقداد بن الأسود الكندي ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر وذلك لما وصف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم القيامة لأصحابه يوما فبالغ الكلام في الإنذار فبكوا واجتمع هؤلاء العشرة في بيت عثمان بن مظعون وتشاوروا واتفقوا على عزمهم أن يرفضوا الدنيا ويحرموا على أنفسهم المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة ، وأن يصوموا النهار ويقوموا الليل ، وأن لا يناموا على الفرش ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح ، ويسيحوا في الأرض ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهم : «إني لم أومر بذلك» ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا ، وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم

٢٩٠

والدسم وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (١).

وروي أن عثمان بن مظعون أتى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ائذن لي في الاختصاء. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس منا من خصي ولا من اختصي. إن خصاء أمتي الصيام». فقال يا رسول الله ائذن لي بالسياحة فقال : «إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله» قال : يا رسول الله ائذن لي في الترهب قال : «إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة» (٢) (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) أي كلوا بعض رزقكم من الله الذي يكون حلالا مستلذا واصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (٨٨) في تحريم ما أحل الله لكم وفي المثلة (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) قد تقدم أن قوما من الصحابة حرموا على أنفسهم المطاعم والملابس واختاروا الرهبانية وحلفوا على ذلك على ظن أنه قربة ، فلما نهاهم الله تعالى عنها قالوا : يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) أي بتعقيدكم الأيمان بالقصد إذا حنثتم.

قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم «عقّدتم» بتشديد القاف. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «عقدتم» بتخفيف القاف. وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر «عاقدتم» بالألف والتخفيف (فَكَفَّارَتُهُ) أي فكفارة نكث الأيمان التي ليست بلغو (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) في قدر الطعام وهو ثلثا منّ لكل مسكين فإن الإنسان قد يكون قليل الأكل جدا يكفيه الرغيف الواحد ، وقد يكون كثير الأكل فلا يكفيه المنوان والمتوسط الغالب يكفيه من الخبز ما يقرب من المن ، فثلثا منّ من الحنطة إذا جعل دقيقا أو خبزا فإنه يصير قريبا من المنّ وذلك كاف في قوت اليوم الواحد (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) بأقل ما يطلق عليه اسم الكسوة كإزار أو رداء ، وقميص أو سراويل أو عمامة لكل مسكين ثوب واحد (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) وتقديم الإطعام على العتق لأن المقصود تنبيه على أن هذه الكفارة وجبت على التخيير بين هذه الثلاثة ، ولأن الإطعام أسهل لكون الطعام أعم وجودا ولأن الإطعام أفضل لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) واحدا من هذه الثلاثة (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) ولو متفرقة لما روي أن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أيام من رمضان : أفأقضيها متفرقات فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أ رأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم فالدرهم أما كان يجزيك؟» قال : بلى :

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب النكاح ، باب : الترغيب في النكاح ، ومسلم في كتاب النكاح باب : ٥ ، والنسائي في كتاب النكاح ، باب : النهي عن التبتل ، والدارمي في كتاب النكاح باب : النهي عن التبتل ، وأحمد في (م ٢ / ص ١٥٨).

(٢) رواه أحمد في (م ٢ / ص ١٧٣).

٢٩١

قال : «فالله أحق أن يعفو ويصفح» (١) والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (ذلِكَ) المذكور (كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) وحنثتم (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) أي قللوا الأيمان وضنوا بها (كَذلِكَ) أي مثل ذلك التبيين لحكم الأيمان (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي أعلام شريعته (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٨٩) نعمته فيما يعلمكم. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ) أي المسكر (وَالْمَيْسِرُ) أي القمار (وَالْأَنْصابُ) أي الأصنام التي نصبها المشركون ويعبدونها (وَالْأَزْلامُ) سهام مكتوب عليها خير وشر (رِجْسٌ) أي قذر تعاف عنه العقول عنه العقول (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي من الأمور التي يزينها للنفس (فَاجْتَنِبُوهُ) أي الرجس (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٩٠) أي لكي تنجوا من العذاب (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ) إذا صرتم نشاوى كما فعل الأنصاري الذي شجّ رأس سعد بن أبي وقاص بلحى الجمل (وَالْمَيْسِرِ) إذا ذهب مالكم (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) لأن شرب الخمر يورث اللذة الجسمانية والنفس إذا استغرقت فيها غفلت عن ذكر الله وعن الصلاة ، ولأن الشخص إذا كان غالبا في القمار صار استغراقه في لذة الغلبة مانعا من أن يخطر بباله شيء سواه (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (٩١) أي قد بينت لكم مفاسد الخمر والميسر فهل تنتهون عنهما أم أنتم مقيمون عليهما كأنكم لم توعظوا بهذه المواعظ؟ (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في أمرهما بالاجتناب عن الخمر والميسر (وَاحْذَرُوا) عن مخالفتهما في التكاليف (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن طاعتهما وعن الاحتراز عن مخالفتهما (فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٩٢) أي فالحجة قامت عليكم والعلل انقطعت لأن الرسول قد خرج عن عهدة التبليغ كمال الخروج ، وما بقي بعد ذلك إلا العقاب وهذا تهديد شديد (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) أي إثم (فِيما طَعِمُوا) من الخمر ومن مال اللعب بالملاهي (إِذا مَا اتَّقَوْا) أن يكون في ذلك الشيء من المحرمات أي إذا عملوا الاتقاء (وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي واستمروا على الإيمان والأعمال الصالحة (ثُمَّ اتَّقَوْا) ما حرم عليهم بعد ذلك (وَآمَنُوا) بتحريمه (ثُمَّ اتَّقَوْا) أي استمروا على اتقاء المعاصي (وَأَحْسَنُوا) أي اتجروا الأعمال الجميلة واشتغلوا بها (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٩٣).

روي أنه لما نزلت آية تحريم الخمر قالت الصحابة : إن إخواننا كانوا قد شربوا الخمر يوم أحد ثم قتلوا فكيف حالهم؟ فنزلت هذه الآية.

وروى أبو بكر الأصم : أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار؟ وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون أن الله حرم الخمر وهم يطعمونها؟ فأنزل الله هذه الآيات. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ) أي ليختبرن الله طاعتكم من معصيتكم (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) أي من صيد البر (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ).

__________________

(١) رواه أحمد في (م ١ / ص ٢١٢).

٢٩٢

قال مقاتل بن حبان : ابتلاهم الله بصيد البر وهم محرمون عام الحديبية حتى كانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم فيقدرون على أخذ الطير بالأيدي ، والوحش بالرماح وما رأوا مثل ذلك قط فنهاهم الله عنها ابتلاء (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) أي ليعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم من يخافه حال كون الله تعالى غير مرئي له غائبا عن رؤيته أو يخافه بإخلاص القلب فيترك الصيد (فَمَنِ اعْتَدى) بالتعرض للصيد (بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد بيان أن ما وقع من الصيد ابتلاء من عند الله تعالى لتمييز المطيع من العاصي (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٩٤) وهو العذاب في الآخرة والتعزير في الدنيا.

قال ابن عباس : هذا العذاب هو أن يضرب بطنه وظهره ضربا وجيعا وينزع ثيابه. ولما قتل أبو اليسر بن عمرو صيدا متعمدا بقتله ناسيا لإحرامه أنزل الله تعالى قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي محرمون أو داخلون في الحرم (وَمَنْ قَتَلَهُ) أي الصيد (مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) أي بقتله مع نسيان الإحرام كما قاله مجاهد والحسن (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) أي شبهه في الخلقة والتقييد بالتعمد ، لأن الآية نزلت في المتعمد حيث قتل أبو اليسر حمار وحش وهو محرم عمدا ولأن الأصل فعل المتعمد ، والخطأ ملحق بالعمد فيستوي في محظورات الإحرام العمد والخطأ في جزاء الإتلافات (يَحْكُمُ بِهِ) أي بمثل ما قتل (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي رجلان صالحان من أهل دينكم فقيهان عدلان فينظران إلى أشبه الأشياء بالمقتول من النعم فيحكمان به.

قال ميمون بن مهران : جاء أعرابي إلى أبي بكر رضي‌الله‌عنه فقال : إني أصبت من الصيد كذا وكذا. فسأل أبو بكر رضي‌الله‌عنه أبي ابن كعب فقال الأعرابي : أتيتك أسألك وأنت تسأل غيرك؟ فقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : وما أنكرت من ذلك ، قال الله تعالى : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فشاورت صاحبي فإذا اتفقنا على شيء أمرناك به. وعن قبيصة بن جابر أنه حين كان محرما ضرب ظبيا فمات ، فسأل عمر بن الخطاب وكان بجنبه عبد الرحمن بن عوف فقال عمر لعبد الرحمن : ما ترى؟ قال : عليه شاة ، قال : وأنا أرى ذلك ، فقال : اذهب فاهد شاة ، قال قبيصة : فخرجت إلى صاحبي وقلت له : إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره قال : ففاجأني عمر وعلاني بالدرة وقال : أتقتل في الحرم وتسفه الحكم؟ قال الله تعالى : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فأنا عمر وهذا عبد الرحمن بن عوف وقد حكم ابن عباس وعمر وغيرهما بشاة في الحمام وهو كل ما عب وهدر من الطير كالقمري والدبسي (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) فهديا منصوب على التمييز والمعنى يحكمان بالمثل هديا يساق إلى الكعبة أي إلى أرض الحرم فينحر هناك (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) فقوله كفارة عطف على قوله فجزاء أي فعليه جزاء أو كفارة إلخ أو عطف على محل قوله من النعم وقوله : طعام مساكين عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ) أي أو مثل ذلك الطعام (صِياماً) فقوله : أو عدل عطف على طعام إلخ كأنه قيل : فعليه جزاء

٢٩٣

مماثل للمقتول هو من النعم أو طعام مساكين ، أو صيام أيام بعددهم فحينئذ تكون المماثلة وصفا لازما للجزاء يقدر به الهدي والطعام والصيام. أما الأولان فبلا واسطة ، وأما الثالث فبواسطة الثالث فيختار الجاني كلا من هذه الثلاثة (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) أي جزاء ذنبه. والوبال في اللغة الثقل ، وإنما سمى الله ذلك وبالا لأن أحد هذه الثلاثة ثقيل على الطبع لأن في الجزاء بالمثل والإطعام تنقيص المال ، وفي الصوم إنهاك البدن. والمعنى أنه تعالى أوجب على قاتل الصيد أحد هذه الأشياء التي كل واحد منها ثقيل على الطبع حتى يحترز عن قتل الصيد في الحرم وفي حال الإحرام (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) أي لم يؤاخذ بقتل الصيد قبل هذا النهي والتحريم لأن قتله إذ ذاك مباح (وَمَنْ عادَ) إلى قتل الصيد بعد النهي عنه (فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) أي فهو ينتقم الله منه في الآخرة مع لزوم الكفارة (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي غالب لا يغالب (ذُو انْتِقامٍ) (٩٥) أي ذو عقوبة شديدة (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) أي أحل لكم أيها الناس صيد جميع المياه العذبة والملحة بحرا كان أو نهرا ، أو غديرا أي اصطياد صيد الماء والانتفاع به بأكله ولأجل عظامه وأسنانه ، وأحل لكم طعام البحر أي أكله. فالصيد كما قاله أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ما صيد بالحيلة حال حياته ، والطعام ما يوجد مما لفظه البحر أو نضب عنه الماء من غير معالجة في أخذه.

قال الشافعي رحمه‌الله : السمكة الطافية في البحر محللة والسمك عنده ما لا يعيش في الماء ولو كان على صورة غير المأكول من حيوان البر كالآدمي والكلب والخنزير ، فهذا كله حلال عنده بخلاف ما يعيش في الماء والبر كالسرطان والضفدع والتمساح ، والسلحفاة وطير الماء.

وحجة الشافعي القرآن والخبر : أما القرآن : فهو قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) فما يمكن أكله يكون طعاما فيحل. وأما الخبر : فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حق البحر : «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» (١) نزلت هذه الآية في قوم من بني مدلج كانوا أهل صيد البحر سألوا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طعام البحر وعمّا حسر البحر عنه ومعنى قوله : (وَطَعامُهُ) أي ما حسر عنه البحر وألقاه (مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) أي أحل لكم ذلك لأجل انتفاعكم وللمسافرين منكم يتزودونه قديدا ، فالطري للمقيم والمالح للمسافر (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) أي محرمين أو في الحرم فمذهب أبي حنيفة يحل للمحرم أكل ما صاده الحلال وإن صاده لأجله إذا لم يشر إليه ولم يدل عليه ، وكذا ما ذبحه قبل إحرامه لأن الخطاب للمحرمين فكأنه قيل : وحرم عليكم ما صدتم في البر فيخرج منه مصيد غيرهم.

وعند مالك والشافعي وأحمد : لا يباح ما صيد له فإن لحم الصيد عندهم مباح للمحرم

__________________

(١) رواه الدارمي في كتاب الوضوء ، باب : الوضوء في ماء البحر.

٢٩٤

بشرط أن لا يصطاده المحرم ولا يصطاد له والحجة فيه ما روى أبو داود في سننه عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصطد لكم» (١) (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٩٦) لا إلى غيره حتى يتوهم الخلاص من أخذه تعالى بالالتجاء إلى غيره فاخشوه تعالى في جميع المعاصي (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) أي صيّر الله الكعبة سببا لحصول الخيرات في الدنيا والآخرة ، وخلق الدواعي في قلوب الناس لتعظيمها حتى صار أهل الدنيا يأتون إليها من كل فج عميق لأجل التجارة فصار ذلك لإسباغ النعم على أهل مكة ، وكان العرب يتقاتلون ويغيرون إلا في الحرم فكان أهل الحرم آمنين على أنفسهم وعلى أموالهم وجعل الله في الكعبة الطاعات الشريفة والمناسك العظيمة وهي سبب لحط الخطيئات ورفع الدرجات ، وكثرة الكرامات ، وصار أهل مكة بسبب الكعبة أهل الله وخاصته وسادة الخلق إلى يوم القيامة وكل أحد يعظمهم (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) أي وجعل الله الشهر الحرام سببا لقوام معيشتهم فإن العرب كان يقتل بعضهم بعضا في سائر الأشهر ، ويغير بعضهم على بعض فإذا دخل الشهر الحرام الذي هو ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب زال الخوف وقدروا على الأسفار والتجارات وصاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم (وَالْهَدْيَ) أي وجعل الهدي سببا لقيام الناس ، وهو ما يهدى إلى البيت ويذبح هناك ويفرق لحمه على الفقراء فيكون ذلك نسكا للمهدي وقواما لمعيشة الفقراء. (وَالْقَلائِدَ) أي وجعل الله الأشخاص الذين يتقلدون بلحاء شجر الحرم سببا لأمنهم من العدو فإنهم كانوا إذا رأوا شخصا جعل في عنقه تلك القلادة عرفوا أنه راجع من الحرم فلا يتعرضون له (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي ذلك التدبير اللطيف من الجعل المذكور لأجل أن تتفكروا فيه أنه تدبير لطيف فتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، فإن جعل ذلك لأجل جلب المصالح لكم ودفع المضار عنكم قبل الوقوع دليل على علمه بما هو في الوجود وما هو كائن ، ثم إذا عرفتم أن علمه تعالى صفة قديمة واجبة الوجود فوجب كونه متعلقا بجميع المعلومات فلذلك قال تعالى : (وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٩٧) فلا يخرج شيء عن علمه المحيط (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لما ذكر الله تعالى أنواع الرحمة ذكر بعده شدة عذابه تعالى لأن الإيمان لا يتم إلا بالرجاء والخوف كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا» (٢) ثم ذكر عقبه ما يدل على الرحمة دلالة على أنها أغلب فقال

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب المناسك ، باب : لحم الصيد للمحرم ، والترمذي في كتاب الحج ، باب : ٢٥ ، والنسائي في كتاب المناسك ، باب : إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال ، وأحمد في (م ٣ / ص ٣٦٢).

(٢) رواه السيوطي في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة (١٣٣).

٢٩٥

(وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩٨) وهذا تنبيه على دقيقة وهي أن ابتداء الإيجاد كان لأجل الرحمة والظاهر أن الختم لا يكون إلا على الرحمة (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) (٩٩) أي إن الرسول كان مكلفا بالتبليغ فلما بلغ خرج عن عهدة التكليف وبقي الأمر من جانبكم وقد قامت عليكم الحجة فلا عذر لكم من بعد في التفريط ، وأنا عالم بما تبدون وبما تكتمون فإن خالفتم فاعلموا أن الله شديد العقاب فيؤاخذكم بذلك نقيرا وقطميرا وإن أطعتم فاعلموا أن الله غفور رحيم (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) فإن المحمود القليل من الأعمال والأموال خير من المذموم الكثير منهما والخطاب لكل معتبر.

قيل : نزلت هذه الآية في رجل قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الخمر كانت تجارتي وإني اعتنقت من بيعها مالا فهل ينفعني من ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله تعالى؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدل جناح بعوضة. إن الله لا يقبل إلا الطيب» (١) (فَاتَّقُوا اللهَ) بأن تتحروا ترك الخبيث من الأعمال والأموال ظاهرا وباطنا ولا تحتالوا في تركه بالتأويل (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي أصحاب العقول السليمة (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٠٠) أي لعلكم تصيرون فائزين بالمطالب الدنيوية والدينية العاجلة والآجلة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أي إن تظهر لكم تلك الأشياء تحزنكم والمعنى اتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أحوال مخفية (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) وما بلغه الرسول إليكم فكونوا منقادين له وما لم يبلغه إليكم فلا تسألوا عنه فإن خضتم فيما لا يكلف عليكم فربما جاءكم بسبب ذلك الخوض ما يشق عليكم.

روى أنس أنهم سألوا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكثروا المسألة فقام على المنبر فقال : «سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا حدثتكم به» فقام عبد الله بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه فقال : يا نبي الله من أبي؟ فقال : «أبوك حذافة بن قيس!». وقام آخر فقال : يا رسول الله أين أبي؟ فقال : «في النار» وقال سراقة بن مالك أو عكاشة بن محصن : يا رسول الله الحج علينا في كل عام؟ فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أعاد مرتين أو ثلاثة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم والله لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الزكاة ، باب : الصدقة من كسب طيب ، ومسلم في كتاب الزكاة ، باب : ٦٣ ، والترمذي في كتاب الزكاة ، باب : ٢٨ ، والنسائي في كتاب الزكاة ، باب : الصدقة من غلول ، وابن ماجة في كتاب الزكاة ، باب : فضل الصدقة ، والدارمي في كتاب الرقاق ، باب : في أكل الطيب ، وأحمد في (م ٢ / ص ٣٢٨).

٢٩٦

استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» (١) ولما اشتد غضب الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام عمر وقال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ، نعوذ بالله من الفتن. أنا حديث عهد بجاهلية فاعف عنا يا رسول الله ، فسكن غضبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) أي وإن تسألوا عن أشياء مست حاجتكم إلى التفسير في زمن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينزل جبريل بالقرآن ويظهرها حينئذ ، فالسؤال عن قسمين سؤال عن شيء لم يجرد ذكره في الكتاب والسنة بوجه من الوجوه فهذا السؤال منهي عنه بقوله تعالى : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) وسؤال عن شيء نزل به القرآن لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي. فههنا السؤال واجب وهو المراد بقوله تعالى : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) فالضمير في عنها يرجع إلى أشياء أخر كقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) [المؤمنون : ١٢ ، ١٣] فالمراد بالإنسان آدم عليه‌السلام ، والمراد بالضمير ابن آدم ، لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين (عَفَا اللهُ عَنْها) أي أمسك الله عن أشياء أي عن ذكرها ولم يكلف فيها بشيء وهذا كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق» (٢) أي خففت عنكم بإسقاطها أو المعنى عفا الله عما سلف من مسائلكم التي تغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا تعودوا لمثلها (وَاللهُ غَفُورٌ) لمن تاب (حَلِيمٌ) (١٠١) عن جهلكم (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) (١٠٢) أي قد سأل أشياء قوم من قبلكم ثم صاروا كافرين بها فإن قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها. وقوم موسى قالوا : أرنا الله جهرة فصار ذلك وبالا عليهم. وبني إسرائيل قالوا لنبي لهم : ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ثم كفروا. وقوم عيسى سألوا المائدة ثم كفروا بها.

والمعنى أن قوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السؤال عن أحوال الأشياء مشابهون لأولئك المتقدمين في سؤال ذوات تلك الأشياء في كون كل واحد من السؤالين فضولا وخوضا فيما لا فائدة فيه ، فإن المتقدمين إنما سألوا من الله إخراج الناقة من الصخرة وإنزال المائدة من السماء فهم سألوا نفس الشيء ، وأما أصحاب محمد فهم سألوا عن صفات الأشياء فلما اختلف السؤالان في النوع اختلفت العبارة لكن يشتركان في وصف واحد وهو خوض في الفضول وشروع فيما لا حاجة إليه وفي ذلك خطر المفسدة (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) أي ما أمر الله بذلك فالبحيرة هي الناقة التي تنتج خمسة أبطن في آخرها ذكر فتشق أذنها ولا تذبح ولا تركب ، ولا

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٢ / ص ٥٠٣).

(٢) رواه ابن ماجة في كتاب الزكاة ، باب : زكاة الورق والذهب ، وأبو داود في كتاب الزكاة ، باب : صدقة الرقيق ، والموطأ في كتاب الزكاة ، باب : ما جاء في صدقة الخيل والرقيق والعسل ، وأحمد في (م ١ / ص ١٨).

٢٩٧

تحلب ولا تطرد عن ماء ومرعى ولا يجزّ لها وبر ، ولا يحمل على ظهرها بل تسيب لآلهتهم. والسائبة : هي البعير المسيبة وكان الرجل إذا شفي من مرض ، أو قدم من سفر أو نذر نذرا أو شكر نعمة سيّب بعيرا وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها والوصيلة هي الشاة الموصلة وذلك أن الشاة إذا ولدت سبعة أبطن عمدوا إلى البطن السابع فإذا كان ذكرا ذبحوه فأكله الرجال والنساء جميعا ، وإن كان أنثى لم تنتفع النساء منها بشيء حتى تموت فإذا ماتت كان الرجال والنساء يأكلونها جميعا وإن كان ذكرا وأنثى قيل : وصلت أخاها فيتركان مع إخوتها فلا يذبحان ، وكان للرجال دون النساء حتى يموتا فإذا ماتا اشترك في أكلهما الرجال والنساء والحام (هو الفحل) إذا ركب ولد ولده قيل : حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ومرعى إلى أن يموت فحينئذ تأكله الرجال والنساء (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي إن رؤساءهم عمرو بن لحي وأصحابه يختلقون على الله الكذب ويقولون : أمرنا الله بهذا (وَأَكْثَرُهُمْ) أي الأتباع (لا يَعْقِلُونَ) (١٠٣) أن ذلك افتراء باطل.

قال المفسرون : إن عمرو بن لحي الخزاعي كان قد ملك مكة وكان أول من غير دين إسماعيل ، فاتخذ الأصنام ونصب الأوثان ، وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه» (١) أي معاه (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي للأكثر الذي هم الأتباع (تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) من الكتاب المبين للحلال والحرام (وَإِلَى الرَّسُولِ) الذي أنزل الكتاب عليه لتميزوا الحرام من الحلال (قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) من الدين (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (١٠٤) والواو واو الحال دخلت عليها همزة الإنكار والتقدير أكافيهم دين آبائهم وقد كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الدين ولا يهتدون للصواب ولسنة النبي فكيف يقتدون بهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي احفظوا أنفسكم من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) أي لا يضركم ضلالة من ضل إذا اهتديتم إلى الإيمان وبينتم ضلالتهم كما قاله ابن عباس. وقال عبد الله بن المبارك : والمعنى عليكم أهل دينكم ولا يضركم من ضل من الكفار وهذا كقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي أهل دينكم فقوله تعالى : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي أقبلوا على أهل دينكم وذلك بأن يعظ بعضكم بعضا ، ويرغب بعضكم بعضا في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات ، وهذه الآية أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقوله : (لا يَضُرُّكُمْ) إما مجزوم على أنه جواب للأمر وهو «عليكم» أو نهي مؤكد له وإنما ضمت الراء اتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة فإن

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب المناقب ، باب : ذكر أسلم وغفار إلخ ، ومسلم في كتاب الكسوف ، باب : ٩ ، وأحمد في (م ٢ / ص ٢٧٥).

٢٩٨

الأصل لا يضرركم ويؤيده قراءة «يضركم» بفتح الراء وهو مجزوم وإنما فتحت الراء لأجل الخفة. وقراءة من قرأ «لا يضركم» بسكون الراء مع كسر الضاد وضمها من ضار يضير ويضورا ما مرفوع على أنه كلام مستأنف في موضع التعليل لما قبله ويعضده قراءة من قرأ «لا يضيركم» بالرفع وبالياء بعد الضاد أي ليس يضركم ضلال من ضل إذا كنتم ثابتين في دينكم (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) أي رجوعكم ورجوع من خالفكم يوم القيامة (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥) في الدنيا من الخير والشر فيجازيكم عليه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) أي شهادة ما بينكم من التنازع (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي إذا ظهر لأحدكم أمارات وقوع الموت (حِينَ الْوَصِيَّةِ) وهذا بدل من قوله «إذا حضر» لأن حضور الموت هو زمان حضور الوصية فعرف ذلك الزمان بهذين الأمرين الواقعين فيه أي الشهادة المحتاج إليها عند مشارفة الموت (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي من أهل دينكم يا معشر المؤمنين (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أي غير عادلين من غير أهل دينكم (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ) أي سافرتم (فِي الْأَرْضِ) فالعدلان المسلمان صالحان للشهادة في الحضر والسفر وشهادة غير المسلمين لا تجوز إلا في السفر (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أي فحضرت عندكم علامات نزول الموت وهذا بيان محل جواز الاستشهاد بغير المسلمين (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) أي تقفونهما للتحليف من بعد صلاة العصر كما استحلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها وجميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله فيه ويحترزون عن الحلف الكاذب (فَيُقْسِمانِ) أي يحلفان (بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي إن شككتم في شأن آخرين بقولهما والله (لا نَشْتَرِي بِهِ) أي بالقسم بالله (ثَمَناً) أي عوضا يسيرا من الدنيا أي لا تأخذ لأنفسنا بدلا من القسم بالله عوضا من الدنيا (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي ولو كان ذلك العوض اليسير حياة ذي قربى منا أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) أي لا نكتم الشهادة التي أمرنا الله تعالى بإقامتها وإظهارها (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) (١٠٦) أي إنا إن كتمناها حينئذ كنا من العاصين (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) أي فإن حصل الاطلاع بعد ما حلف الوصيان عن أنهما استحقا حنثا في اليمين بكذب في قول وخيانة في مال (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) أي مقام الشاهدين اللذين هما من غير ملتهما (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) أي باليمين وبالمال أو الأقربان إلى الميت الوارثان له والأوليان إما بدل من آخران ، أو من الضمير الذي في يقومان أو صفة لآخران عند الأخفش ، لأن النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد عليها الذكر صارت معرفة أو خبر لمبتدأ محذوف وهذا على القراءة المشهورة للجمهور وهو استحق بضم التاء وكسر الحاء بالبناء للمجهول وإنما وصف الورثة بكونهم استحق عليهم ، لأنه لما أخذ مالهم فقد استحق عليهم مالهم ، أو لكونهم جني عليهم.

أما على قراءة حفص وحده وهي استحق بفتح التاء والحاء بالبناء للفاعل فقوله : الأوليان فاعل له. والمعنى أن الوصيين اللذين ظهرت خيانتهما هما أولى من غيرهما بسبب أن الميت

٢٩٩

عينهما للوصاية ، ولما خاناه في مال الورثة صح أن يقال : إن الورثة قد استحق عليهم الأوليان أي خان في مالهم الأوليان بالوصية (فَيُقْسِمانِ) أي هذان الآخران (بِاللهِ) بقولهما (لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) أي والله ليمين المسلمين أصدق وأحق بالقبول من يمين النصرانيين (وَمَا اعْتَدَيْنا) أي ما تجاوزنا الحق فيما ادعينا وفي طلب المال وفي نسبتهما إلى الخيانة (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (١٠٧) أي إنا إن اعتدينا في ذلك كنا من الظالمين أنفسهم بإقبالها لسخط الله تعالى وعذابه واتفق المفسرون على أن سبب نزول هذه الآيات أن تميم بن أوس الداري وعدي بن نداء وكانا نصرانيين ومعهما بديل بن أبي مارية مولى عمرو بن العاص ، وكان مسلما مهاجرا خرجوا إلى الشام للتجارة ، فلما قدموا الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه نسخة جميع ما معه ، وألقاه فيما بين الأقمشة ولم يخبر صاحبيه بذلك. ثم أوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ومات بديل ، فأخذا من متاعه إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب ، ولما رجعا دفعا باقي المتاع إلى أهله ففتشوا فوجدوا الصحيفة وفيها ذكر الإناء. فقالوا لتميم وعدي : أين الإناء؟فقالا : لا ندري والذي دفع إلينا دفعناه إليكم فرفعوا الواقعة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية. ولما نزلت هذه الآية صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العصر ودعا تميما وعديا فاستحلفهما عند المنبر ولما حلفا خلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبيلهما ، ولما طالت المدة أظهرا الإناء فبلغ ذلك بني سهم فطالبوهما فقالا : كنا قد اشتريناه منه. فقالوا : ألم نقل لكم هل باع صاحبنا شيئا فقلتما لا!؟ فقالا : لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نقر لكم فكتمنا لذلك فرفعوا القصة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى قوله : (فَإِنْ عُثِرَ) الآية فقام عمرو بن العاص والمطلب أبو رفيعة السهميان فحلفا بالله بعد العصر ، فدفع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإناء إليهما وإلى أولياء الميت وكان تميم الداري يقول بعد إسلامه : صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء فأتوب إلى الله تعالى (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) أي ذلك الطريق الذي بيناه أقرب إلى أن يؤدي الشهود الشهادة على طريقها الذي تحملوها عليه من غير تحريف ولا خيانة خوفا من العذاب الأخروي (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) أي أو أقرب إلى أن يخافوا أن ترد أيمانهم بعد أيمان المدعيين لانقلاب الدعوى بأن صار المدعى عليه مدعيا للملك ، وصار المدعى مدّعى عليه فلذا لزمته اليمين.

والمعنى أولم يخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة؟ بل يأتوا الشهادة على غير وجهها ولكنهم يخافون الافتضاح على رؤوس الإشهاد بإبطال أيمانهم والعمل بأيمان الورثة ، فينزجروا عن الخيانة المؤدية إليه فأي الخوفين وقع ، حصل المقصود الذي هو الإتيان بالشهادة على وجهها (وَاتَّقُوا اللهَ) في أن تخونوا في الأمانات (وَاسْمَعُوا) مواعظ الله أي اعملوا بها وأطيعوا الله فيها (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (١٠٨) أي الخارجين عن الطاعة إلى ما ينفعهم في الآخرة (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) وهو يوم القيامة فيوم بدل اشتمال من مفعول «اتقوا» أو ظرف لـ «يهدي».

٣٠٠