مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

من عند الله تعالى فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب ، فأمره أن يجيء إلى الطور ويصوم فيه ذا القعدة وعشر ذي الحجة ، فذهب إليه واستخلف هارون على بني إسرائيل ومكث في الطور أربعين ليلة ، وأنزلت عليه التوراة في ألواح من زبرجد ، فلما ذهب موسى إلى الطور وكان قد بقي مع بني إسرائيل الثياب والحلي الذي استعاروه من القبط لعمل عرس. قال لهم هارون : إن هذه الثياب والحلي لا تحل لكم فاحرقوها ، فجمعوا نارا وأحرقوها ، وكان موسى السامري في مسيره مع موسى عليه‌السلام في البحر نظر إلى حافر دابة جبريل عليه‌السلام حين تقدّم على فرعون في دخول البحر ، فقبض قبضة من تراب حافر تلك الدابة ، ثم إن السامري أخذ ما كان معه من الذهب والفضة وصوّر منه عجلا في ثلاثة أيام مرصعا بالجواهر كأحسن ما يكون وألقى فيه ذلك التراب فخرج منه صوت ومشى. فقال للقوم : هذا إلهكم وإله موسى فتركه هاهنا وخرج يطلبه ، وكانت بنو إسرائيل قد أخلفوا الوعد ، فعدوا اليوم مع الليلة يومين ، فلما مضى عشرون يوما ولم يرجع موسى عليه‌السلام وقعوا في الفتنة ، فعبدوا كلهم العجل إلا هارون مع اثني عشر ألف رجل وكان موسى السامري رجلا صائغا من جماعة يقال لها : سامرة ، وكان منافقا يظهر الإسلام ، وكان من بني إسرائيل من قوم يعبدون البقر. (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) أي محونا ذنوبكم حين تبتم (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد عبادتكم العجل (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٥٢) أي لكي تشكروا نعمة عفوي وتستمروا بعد ذلك على طاعتي. (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) أي واذكروا إذ أعطينا موسى التوراة وبيّنا فيها الحلال والحرام. والأمر والنهي وغير ذلك. (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (٥٣) لكي تهتدوا بتدبر الكتاب من الضلال (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) الذين عبدوا العجل (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي إنكم نقصتم أنفسكم الثواب الواجب بالإقامة على عهد موسى عليه‌السلام (بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) أي بعبادتكم العجل. فقالوا لموسى : فماذا تأمرنا؟ فقال لهم : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) أي إلى خالقكم ولو أظهرتم التوبة بالبدن دون القلب فأنتم ما تبتم إلى الله وإنما تبتم إلى الناس. قالوا : كيف نتوب؟ فقال لهم : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي سلموا أنفسكم للقتل وارضوا به ، فأجابوا. فأخذ عليهم المواثيق ليصبروا على القتل فأصبحوا مجتمعين. فكل قبيلة على حدة ، وأتاهم بالاثني عشر ألفا الذين لم يعبدوا العجل ألبتة وبأيديهم السيوف. فقال التائبون : إن هؤلاء إخوانكم قد أتوكم شاهرين السيوف فاتقوا الله واصبروا. فلعن الله رجلا قام من مجلسه أو مدّ طرفه إليهم ، أو اتقاهم بيد أو رجل فيقولون : آمين. فجعلوا يقتلون من الصبح إلى المساء ، وقام موسى وهارون عليهما‌السلام يدعوان الله تعالى ويقولان : البقية البقية يا إلهنا ، فأوحى الله إليهما : «إني قد غفرت لمن قتل وتبت على من بقي» وكان القتلى سبعين ألفا. (ذلِكُمْ) أي القتل في التوبة (خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) لما فيه طهارة عن الشرك (فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي قبل توبة من قتل منكم وغفر لمن لم يقتل من بقية المجرمين ، وعفا عنم من غير قتل (إِنَّهُ هُوَ

٢١

التَّوَّابُ) أي المتجاوز لمن تاب (الرَّحِيمُ) (٥٤) على من مات على التوبة. (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) وذلك لما رجع موسى عليه‌السلام من الطور إلى قومه ، فرأى ما هم عليه من عبادة العجل حرق العجل وألقاه في البحر ، واختار من قومه سبعين رجلا من خيارهم فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى : سل ربك حتى يسمعنا كلامه. فسأل موسى عليه‌السلام ذلك ، فأجابه الله ولما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام ، وتغشى الجبل كله ، ودنا من موسى ذلك الغمام حتى دخل فيه ، فقال للقوم : ادخلوا. وكان موسى عليه‌السلام متى كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم النظر إليه ، وسمع القوم كلام الله مع موسى عليه‌السلام يقول له : «افعل كذا ، ولا تفعل كذا». فلما تمّ الكلام انكشف عن موسى الغمام الذي دخل فيه. فقال القوم بعد ذلك : لا نصدق لك بأن ما نسمعه كلام الله حتى نرى الله معاينة ، فأحرقتهم نار من السماء وماتوا جميعا ، وقام موسى رافعا يديه إلى السماء يدعو ويقول : يا إلهي اخترت من بني إسرائيل سبعين رجلا ليكونوا شهودي بقبول توبتهم فأرجع إليهم وليس معي منهم واحد فما الذي يقولون؟! فلم يزل موسى مشتغلا بالدعاء حتى ردّ الله أرواحهم وبطلت توبة بني إسرائيل من عبادة العجل. فقال : لا أقبل إلا أن يقتلوا أنفسهم (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (٥٥) إلى النار الواقعة من السماء (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) أي ثم أحييناكم بعد حرقكم بالنار وبعد موتكم يوما وليلة وذلك لإظهار آثار القدرة ، وليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم ولو ماتوا بانقضاء آجالهم لم يحيوا إلى يوم القيامة (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٥٦) أي لكي تشكروا إحيائي (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) أي جعلنا السحاب الرقيق يظلكم من حر الشمس أي وكان يسير بسيرهم وكانوا يسيرون ليلا ونهارا ، وينزل عليهم بالليل عمود من نور يسيرون في ضوئه وثيابهم لا تتسخ ولا تبلى ـ وذلك في التيه ـ وهو واد بين الشام ومصر ، وقدره تسعة فراسخ مكثوا فيه أربعين سنة متحيرين لا يهتدون إلى الخروج منه ، وسبب ذلك مخالفتهم أمر الله تعالى بقتال الجبارين الذين كانوا بالشام حيث امتنعوا من القتال. (وَأَنْزَلْنا) في التيه (عَلَيْكُمُ الْمَنَ) وهو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار ، طعمه كالشهد. وكان يقع على أشجارهم من الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع. (وَالسَّلْوى) فكان كل واحد منهم يأخذ ما يكفيه يوما وليلة ، وإذا كان يوم الجمعة يأخذ كل واحد منهم ما يكفيه ليومين لأنه لم يكن ينزل يوم السبت ، «والسلوى» وهو طائر ليس له ذنب ولا يطير إلا قليلا ويموت إذا سمع صوت الرعد ، كما أن «الخطاف» يقتله البرد فيلهمه الله أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون فيها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوان المطر والرعد ، فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض. وخاصيته أن أكل لحمه يلين القلوب القاسية. (كُلُوا) أي وقلنا لهم : كلوا (مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي من مستلذات ما رزقناكموه ولا تدخروا لغد فادخروا فقطع الله ذلك عنهم ودوّد ما ادّخروه. (وَما ظَلَمُونا) أي وما نقصونا بما

٢٢

ادخروا (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٥٧) أي يضرون ، لنقص أنفسهم حظها من النعيم. (وَإِذْ قُلْنَا) لهم بعد خروجهم من التيه على لسان موسى أو على لسان يوشع (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ).

روي أن موسى عليه‌السلام سار بعد انقضاء الأربعين سنة بمن بقي من بني إسرائيل ففتح أريحا ـ بفتح الهمزة وكسر الراء ـ قرية الجبارين وهي بين القدس وحوران ، وأقام فيها ما شاء الله ، ثم قبض فيها ، وقيل : إنه قبض في التيه ولما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبي وأن الله تعالى أمره بقتال الجبابرة ، فسار بهم يوشع وقتل الجبابرة ، وصار الشام كله لبني إسرائيل (فَكُلُوا مِنْها) أي تلك القرية (حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) أي موسعا عليكم (وَادْخُلُوا الْبابَ) أي باب القرية. أي من أيّ باب كان من أبوابها السبعة ، أو من باب يسمى «باب الحطة» ، أو «باب القبة» التي كانوا يصلون إليها ، فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه‌السلام (سُجَّداً) أي منحنين متواضعين كالراكع. (وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي إن القوم أمروا بأن يدخلوا الباب على وجه الخضوع وأن يذكروا بلسانهم التماس حط الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب وخضوع الجوارح ، والاستغفار باللسان. وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب. والمعنى حط عنا ذنوبنا حطة (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ).

وقرأ نافع بالتذكير وابن عامر بالتأنيث على البناء للمجهول. والباقون بالنون المفتوحة (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) (٥٨) بالطاعة في حسناتهم (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم (قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) أي أمر لهم ، أي فدخلوا الباب زاحفين على أدبارهم قائلين حنطة على شعيرة استخفافا بأمر الله تعالى. (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي غيروا الأمر (رِجْزاً) أي طاعونا مقدرا (مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٥٩) أي بسبب فسقهم أي خروجهم عن الطاعة. روي أنه مات بالطاعون في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا. فهذا الوباء غير الذي حلّ بهم في التيه (وَ) اذكروا (إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) في التيه (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) وكانت العصا من آس الجنة ، طولها عشرة أذرع على طول موسى ، ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نورا ، حملها آدم معه من الجنة فتوارثها الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب فأعطاها لموسى. وروي أن ذلك الحجر حجر طوري حمله معه وكان مربعا له أربعة جوانب ، وكان ذراعا في ذراع ، ينبع من كل وجه ثلاثة أعين ، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى ذلك السبط ، وكانوا ستمائة ألف وسبعة. المعسكر اثنا عشرة ميلا. وقيل : كان حجرا أعطاه الله عليه اثني عشر ثديا كثدي المرأة يخرج من كل ثدي نهر إذا ضرب عصاه عليه. (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) أي نهرا (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) أي سبط (مَشْرَبَهُمْ) أي موضع شربهم من نهرهم ؛ روي أنه كان لكل سبط عين من اثنتي عشرة عينا لا يشركه فيها غيره. وقلنا لهم : (كُلُوا) من المنّ والسلوى (وَاشْرَبُوا) من الأنهار

٢٣

كلها (مِنْ رِزْقِ اللهِ) أي كلوا واشربوا من رزق الله الذي يأتيكم بلا تعب (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٦٠) أي لا تتمادوا في الفساد في الأرض في حالة إفسادكم. ويقال : لا تمشوا في الأرض على خلاف أمر موسى. (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) أي على أكل طعام واحد وهو المن والسلوى (فَادْعُ لَنا) أي اسأل لأجلنا (رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها) أي من أطايبه التي تؤكل كالكرفس والكراث والنعناع (وَقِثَّائِها وَفُومِها) أي ثومها كما هو مروي عن ابن عباس ومجاهد وهو اختيار الكسائي ، لأن الثوم بالثاء في حرف عبد الله بن مسعود (وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ) أي موسى (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى) أي أخس وهو الثوم والبصل (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) أي أشرف وهو المن والسلوى فإنه خير في اللذة والنفع وعدم الحاجة إلى السعي. (اهْبِطُوا مِصْراً) أي اخرجوا من هذا المكان إلى المكان الذي خرجتم منه (فَإِنَّ لَكُمْ) هناك (ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) أي جعلت على فروع بني إسرائيل المذلة بالجزية. (وَالْمَسْكَنَةُ) أي زي الفقر (وَباؤُ بِغَضَبٍ) أي استحقوا الغضب أي استحقوا الغضب أي اللعنة (مِنَ اللهِ ذلِكَ) أي الذلة والمسكنة واللعنة. (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أي بسبب أنهم كانوا يجحدون على الاستمرار بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، وآية الرجم التي في التوراة وبالإنجيل (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي ظلما.

روي أن اليهود قتلت سبعين نبيا في أول النهار ، ولم يغتموا حتى قاموا في آخر النهار يتسوقون مصالحهم ، وقتلوا زكريا ويحيى وشعيبا وغيرهم من الأنبياء. (ذلِكَ) الغضب (بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٦١) أي يتجاوزون الحد بقتل الأنبياء واستحلال المعاصي ، وهذا الذل الذي أصابهم هو بسبب قتلهم عيسى في زعمهم. وقوله تعالى : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) [البقرة : ٦١] عدّه بعض العلماء من باب المعجزات ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر عن ضرب الذلة والمسكنة عليهم وقد وقع الأمر كذلك فكان هذا إخبارا عن الغيب فيكون معجزا ، وهذا الكلام إلى قوله : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ٦٢] معترض في خلال القصص المتعلقة بحكاية أحوال بني إسرائيل الذين كانوا في زمن موسى عليه‌السلام ، لأن قتل الأنبياء إنما كان من فروعهم وذريتهم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) أي الذين تهودوا (وَالنَّصارى) أي الذين تنصروا (وَالصَّابِئِينَ) أي الخارجين من دين إلى دين ، وهم قوم من النصارى يحلقون وسط رؤوسهم ويقرءون الزبور ويعبدون الملائكة. يقولون : صبأت قلوبنا أي رجعت قلوبنا إلى الله. (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) فيما بينهم وبين ربهم (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) بأن يدخلهم الجنة (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢) حين يخاف الكفار من العقاب ويحزن المقصرون على تفويت الثواب. والمعنى : أن الذين آمنوا قبل بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في زمن الفترة بعيسى عليه‌السلام ، مثل : قس بن ساعدة ، وبحيرة الراهب ، وحبيب النجار ، وزيد بن عمرو بن نفيل ،

٢٤

وورقة بن نوفل ، وسلمان الفارسي ، وأبي ذر الغفاري ، ووفد النجاشي والذين كانوا على الدين الباطل الذي لليهود والنصارى والصابئين كل من آمن منهم ببعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالله واليوم الآخر وبمحمد فلهم أجرهم عند ربهم ، أو المعنى إن الذين آمنوا باللسان دون القلب ، وهم المنافقون واليهود والنصارى والصابئين كل من أتى منهم بالإيمان الحقيقي صار من المؤمنين عند الله ، وهذا قول سفيان الثوري (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) أي إقراركم بقبول التوراة (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) أي رفعنا فوق رؤوسكم الجبل مقدار قامة كالظلة وكان فرسخا في فرسخ حتى أعطيتم الميثاق وقلنا : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) أي اعملوا بما أعطيناكموه من الكتاب (بِقُوَّةٍ) أي بجد (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) من الثواب والعقاب واحفظوا ما فيه من الحلال والحرام (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٦٣) أي لكي تتقوا المعاصي (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن الوفاء بالميثاق (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي رفع الطور وإيتاء التوراة (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) بتأخير العذاب (وَرَحْمَتُهُ) بإرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليكم (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٦٤) أي لصرتم من المغبونين بالعقوبة وبالانهماك في المعاصي (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) أي وبالله لقد عرفتم عقوبة الذين تجاوزوا الحد منكم يوم السبت في زمن داود عليه‌السلام ، روي أنهم أمروا بأن يتمحضوا يوم السبت للعبادة ويتركوا الصيد ، وهؤلاء القوم كانوا في زمن داود عليه‌السلام وكانوا يسكنون بأيلة على ساحل البحر بين المدينة والشام ، وهو مكان من البحر يجتمع إليه الحيتان من كل أرض في شهر من السنة حتى لا يرى الماء لكثرتها ، وفي غير ذلك الشهر في كل سبت خاصة فحفروا حياضا عند البحر وشرعوا إليها الجداول فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد ، فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم ، ثم إنهم أخذوا السمك وهم خائفون من العقوبة فلما طال الزمان استسنّ الأبناء بسنة الآباء فمشى إليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد يوم السبت ونهوهم. فلم ينتهوا ، وقالوا : نحن في هذا العمل منذ أزمان فما زادنا الله به إلا خيرا. فقيل لهم : لا تغتروا فربما نزل بكم العذاب ، فأصبح القوم قردة خاسئين فمكثوا كذلك ثلاثة أيام لم يأكلوا ولم يشربوا ولم يتوالدوا ، ثم هلكوا وذلك قوله تعالى : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا) أي صيروا (قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٦٥) أي ذليلين مبعدين عن الرحمة والشرف (فَجَعَلْناها) أي المسخة أو القردة أو قرية أصحاب السبت أو هذه الأمة (نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) أي عقوبة رادعة للأمم التي في زمانها وبعدها إلى يوم القيامة أو لما قرب من تلك القرية وما تباعد عنها أو عقوبة لأجل ما تقدّم على هذه الأمة من ذنوبهم وما تأخر منها. (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (٦٦) أي لكل متق سمع تلك الواقعة فإنه يخاف إن فعل مثل فعلهم أن ينزل به مثل ما نزل بهم. والمراد بقوله تعالى : كونوا سرعة التكوين ، وأنهم صاروا كذلك كما أراد الله بهم. (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) أي واذكروا وقت قول موسى عليه‌السلام لأصولكم (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً).

٢٥

روي عن ابن عباس وسائر المفسرين أن رجلا فقيرا في بني إسرائيل قتل ابن أخيه أو أخاه أو ابن عمه لكي يرثه ، ثم رماه في مجمع الطريق ، ثم شكا ذلك إلى موسى عليه‌السلام فاجتهد موسى في تعرف القاتل فلما لم يظهر قالوا له : سل لنا ربك حتى يبينه ، فسأله ، فأوحى الله إليه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فتعجبوا من ذلك ، ثم شددوا على أنفسهم بالاستفهام حالا بعد حال ، واستقصوا في طلب الوصف ، فلما تعينت البقرة لم يجدوها بذلك النعت إلا عند إنسان معين ، ولم يبعها إلا بأضعاف ثمنها ، فاشتروها فذبحوها ، وأمرهم موسى أن يأخذوا عضوا منها فيضربوا به القتيل ففعلوا فصار المقتول حيا وعين لهم قاتله ، وهو الذي ابتدأ بالشكاية فقتلوه قودا. (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) أي أتستهزئ بنا يا موسى فإن سؤالنا عن أمر القتيل وأنت تأمرنا بذبح بقرة ، وإنما قالوا ذلك لأنهم لم يعلموا أن الحكمة هي حياة القتيل بضربه ببعض البقرة وإخباره بقاتله. (قالَ) أي موسى : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٦٧) أي المستهزئين بالمؤمنين ، لأن الهزء في أثناء تبليغ أمر الله تعالى جهل فما علموا أن الأمر بالذبح حق. (قالُوا ادْعُ لَنا) أي لأجلنا (رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) أي ما سنها أصغيرة أو كبيرة. (قالَ إِنَّهُ) أي الله تعالى (يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ) أي كبيرة في السن (وَلا بِكْرٌ) أي صغيرة (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) أي وسط بين المسنة والفتية (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) (٦٨) به من ذبحها (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ) تعالى (يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) أي صاف لونها (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) (٦٩) إليها بسبب حسنها وتعجبهم من شدة صفرتها لغرابتها وخروجها عن المعتاد. (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) أعاملة هي أم لا؟ (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) (٧٠) إلى وصفها أو إلى القاتل (قالَ إِنَّهُ) تعالى (يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) أي غير مذللة (تُثِيرُ الْأَرْضَ) أي تقبلها للزراعة (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) أي الزرع (مُسَلَّمَةٌ) من كل عيب (لا شِيَةَ فِيها) أي لا خلط في لونها.

قال مجاهد : لا بياض فيها ولا سواد. (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) أي نطقت بالبيان المحقق ففتشوا عليها فوجدوها عند الفتى البار لأمه فاشتروها بملء جلدها (بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) (٧١) أي ما قاربوا أن يفعلوا حتى انتهت سؤالاتهم. ويقال : وما كادوا أن يذبحوها لأجل غلاء ثمنها أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل.

روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له ابن طفل وله عجلة ، فأتى بها إلى الغيضة. وقال : اللهم إني استودعتك هذه العجلة لابني حتى يكبر فكانت من أحسن البقر وأسمنها ، فلما كبر الابن كان بارا لوالدته فكان يقسّم الليل أثلاثا يصلي ثلثا ، وينام ثلثا ، ويجلس عند رأس أمه ثلثا ، فلما أصبح احتطب على ظهره فيبيع الحطب في السوق ، ثم يتصدق بثلثه ، ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثه ، ثم أمرته أمه أن يأخذ تلك العجلة من الغيضة. فلما أخذها قالت له أمه : إنك

٢٦

فقير يشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فبع هذه البقرة. فقال : بكم أبيعها؟ قالت : بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي ، وكان ثمن البقرة إذ ذاك ثلاثة دنانير فانطلق بها إلى السوق فبعث الله ملكا ليختبر الفتى كيف بره بوالدته ، فقال : الملك له بكم تبيع هذه البقرة؟ فقال : بثلاثة دنانير بشرط رضى والدتي ، فقال الملك : لك ستة دنانير ولا تستأذن أمك. فقال الفتى : لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذها إلا برضا أمي ، فردها إلى أمه وأخبرها بالثمن. فقالت : ارجع فبعها بستة دنانير على رضا مني ، فانطلق بها إلى السوق وأتى الملك فقال : استأذنت أمك؟ فقال الفتى : إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأذنها. فقال الملك : إني أعطيك اثني عشر دينارا على أن لا تستأذنها فأبى الفتى ورجع إلى أمه وأخبرها بذلك. فقالت : إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليختبرك فإذا أتاك فقل له : أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل فقال الملك له : اذهب إلى أمك وقل لها أمسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل فلا تبيعيها إلا بملء مسكها ذهبا دنانير فأمسكتها وقدر الله تعالى على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها مكافأة للفتى على بره بوالدته فضلا من الله تعالى (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) اسمه عاميل وقيل : نكار (فَادَّارَأْتُمْ فِيها) أي تخاصمتم في شأنها (وَاللهُ مُخْرِجٌ) أي مظهر (ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٧٢) من قتلها وهذه الجملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وهما فادارأتم وقوله : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ) أي القتيل (بِبَعْضِها) أي بعضو من أعضاء البقرة قيل : بذنبها. وقيل : بلسانها ، وقيل : بفخذها الأيمن ففعلوا ذلك فقام القتيل حيا بإذن الله تعالى ، وأوداجه تشخب دما وقال : قتلني فلان ثم سقط ومات مكانه فقتل قاتله فحرم الميراث. وفي الحديث : «ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة». (كَذلِكَ) أي كما أحيا الله عاميل في الدنيا (يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) في الآخرة من غير احتياج إلى آلة (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) أي يجعلكم مبصرين دلائل قدرته وإحيائه للميت (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٧٣) أي لكي تعلموا أن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء نفوس كثيرة ، فتصدقوا بالبعث بعد الموت (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) أيها اليهود فلم تقبل الحق (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي إحياء عاميل وإخباره بقاتله أو من بعد الأمور التي جرت على أجدادكم (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) في القساوة (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) منها (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ).

قال الحكماء : إن الأنهار إنما تنشأ عن أبخرة تجتمع في باطن الأرض فإن كان ظاهر الأرض رخوا انشقت تلك الأبخرة وانفصلت ، وإن كان ظاهر الأرض حجريا اجتمعت تلك الأبخرة حتى تكثر كثرة عظيمة فتنشق الأرض وتسيل تلك المياه أنهارا (وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) أي العيون الصغار التي هي دون الأنهار (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ) أي يتدحرج من أعلى الجبل إلى أسفله (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي من انقياد أمر الله وقلوبكم أيها اليهود لا تتحرك من خوف الله ، و «اللام» في «لما» لام الابتداء دخلت على اسم إن وهو ما بمعنى الذي والضمير منه ويشقق

٢٧

ويهبط يعود عليه (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٧٤) أي إن الله محافظ لأعمال القاسية قلوبهم حتى يجازيهم بها في الآخرة ، وقرأ ابن كثير بالياء على الغيبة (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٥) أي أفتطمعون أيها النبي والمؤمنون أن يؤمن هؤلاء اليهود بواسطتكم ويستجيبوا لكم ، والحال أن طائفة منهم وهم أحبارهم يسمعون كلام الله في التوراة ، ثم يغيرونه من بعد المعنى الذي فهموه بعقولهم وهم يعلمون أنهم مفترون ، وذلك كنعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانت صفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة ، أكحل العين ، ربعة ، جعد الشعر ، حسن الوجه فكتبوا بدلها طويلا ، أزرق العين سبط الشعر.

وقال ابن عباس : والمعنى أفترجو يا أشرف الخلق أن تؤمن بك اليهود. والحال أن أسلافهم وهم السبعون المختارون للميقات الذين كانوا مع موسى يسمعون كلام الله بلا واسطة ، ثم يغيرونه من بعد ما علموه يقينا وهم يعلمون أنهم يغيرونه ، وذلك أنهم قالوا : سمعنا الله يقول في آخر كلامه : «إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم أن لا تفعلوا فلا بأس» (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) أي إن منافقي أهل الكتاب كانوا إذا لقوا أصحاب سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا لهم : آمنا بالذي آمنتم به ، ونشهد أن صاحبكم صادق ، وأن قوله : حق ونجد نعته في كتابنا (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ) أي رجع الساكتون الذين لم ينافقوا (إِلى بَعْضٍ) آخر منهم وهو منافقوهم (قالُوا) أي الساكتون موبخين للمنافقين (أَتُحَدِّثُونَهُمْ) أي المؤمنين (بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي بما بيّن الله لكم في التوراة من صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي ليقيموا الحجة عليكم بما أنزل ربكم في كتابه في ترك اتباع محمد مع إقراركم بصدقه. وقوله تعالى : (لِيُحَاجُّوكُمْ) متعلق بالتحديث والمراد بهذا تشديد التوبيخ فإن التحديث بذلك لأجل هذا الغرض مما لا يكاد يصدر عن العاقل أي أتحدثونهم بذلك ليحتجوا عليكم بكتاب الله وحكمه ، ويقال : عند الله كذا معناه في كتابه وحكمه (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٧٦) إن ذلك لا يليق بما أنتم عليه. (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَ) أي اللائمون أو المنافقون أو كلاهما (اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) (٧٧) أي إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان وإخفاء ما فتح الله عليهم ، وإظهار غيره فيرعووا عن ذلك. (وَمِنْهُمْ) أي اليهود (أُمِّيُّونَ) أي جهلة (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) أي لا يعرفونه بقراءة ولا كتابة وطريقتهم التقليد (إِلَّا أَمانِيَ) أي إلّا ما هم عليه من أمانيهم في أن الله لا يؤاخذهم بخطاياهم ، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، ومما تحملهم أخبارهم على تمني قلوبهم من أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة ، ومن أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا ، وقال الأكثرون إلا بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه أو لا يقرءون إلا قراءة عارية عن معرفة المعنى (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٧٨) أي ما هم يعرفون إلا بأن يذكر لهم تأويله فظنوه (فَوَيْلٌ) أي عذاب أليم أو مسيل صديد أهل جهنم أو شدة الشر (لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا) في الكتاب الذي جاء (مِنْ عِنْدِ اللهِ

٢٨

لِيَشْتَرُوا بِهِ) أي ليأخذوا لأنفسهم بمقابلة الكتاب المحرف (ثَمَناً قَلِيلاً) أي عوضا يسيرا من الدنيا ـ وهم اليهود ـ غيّروا صفة النبي في التوراة وآية الرجم وغيرها ... فغيروا آية الرجم بالجلد والتحميم أي تسويد الوجه (فَوَيْلٌ لَهُمْ) أي فشدة العذاب لهم (مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) أي فيما غيرت أيديهم (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (٧٩) أي يصيبون من الحرام والرشوة (وَقالُوا) أي اليهود (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) أي قليلة. قال مجاهد : إن اليهود كانت تقول : عمر الدنيا سبعة آلاف سنة فالله تعالى يعذبهم مكان ألف سنة يوما فكانوا يقولون : الله تعالى يعذبنا سبعة أيام. وحكى الأصمعي عن بعض اليهود أنهم عبدوا العجل سبعة أيام فكانوا يقولون : الله تعالى يعذبنا سبعة أيام. وذلك كما أخرجه الطبراني وغيره بسند حسن عن ابن عباس وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير من طرق ضعيفة عنه أنها أربعون يوما (قُلْ) لهم يا أشرف الخلق (أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) أي خبرا فإن خبره تعالى أوكد من العهود المؤكدة منا بالقسم والنذر (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) أي فإن الله تعالى منزّه عن الكذب في وعده ووعيده لأن الكذب صفة نقص والنقص على الله محال (أَمْ تَقُولُونَ) مفترين (عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨٠) وقوعه أي أم لم تتخذوا من الله عهدا بل تتقوّلون عليه تعالى (بَلى) تمسكم النار أبدا (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) أي كفرا (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) أي كبيرته بأن مات على الكفر (فَأُولئِكَ) أي أهل هذه الصفة (أَصْحابُ النَّارِ) أي ملازموها في الآخرة (هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٨١) أي لا يخرجون منها. أما أصحاب الكبائر غير الكافرين فإنا نقطع بأنه تعالى يعفو عن بعض العصاة وعن بعض المعاصي ، ولكنا نتوقف في حق كل أحد على التعيين أنه هل يعفو عنه أم لا؟ ونقطع بأنه تعالى إذا عذّب أحدا منهم مدة فإنه لا يعذبه أبدا بل يقطع عذابه ، وهذا قول أكثر الصحابة والتابعين وأهل السنة والجماعة.

وقرأ نافع «خطيئاته» بالجمع ، والمراد بالخطيات أنواع الكفر المتجددة في كل وقت (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد والقرآن (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فيما بينهم وبين ربهم (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٨٢) لا يموتون فيها ولا يخرجون منها (وَإِذْ أَخَذْنا) في التوراة (مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) الذين كانوا في زمن موسى (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) أي لا تشركون به شيئا.

وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة ، وقرأ عبد الله وأبيّ «لا تعبدوا» بصريح النهي وهذه قراءة شاذة. (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وهو متعلق بمحذوف أي وتحسنون أو أحسنوا بالبر بهما وإن كانا كافرين بأن لا يؤذيهما ألبتة ، ويوصل إليهما من المنافع قدر ما يحتاجان إليه فيدخل فيه دعوتهما إلى الإيمان إن كانا كافرين ، وأمرهما بالمعروف على سبيل الرفق إن كانا فاسقين (وَذِي الْقُرْبى) أي أحسنوا بالأقارب بصلة الرحم (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً).

٢٩

وقرأ حمزة والكسائي بفتح الحاء والسين. وقرئ قراءة شاذة حسنا بضمتين وحسنى كبشرى ، والقول الحسن هو الذي يحصل انتفاعهم به. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) والمراد بالصلاة والزكاة ما فرض عليهم في ملتهم. فقبلتم ذلك الميثاق المذكور (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن الوفاء بالميثاق (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) أي آباءكم وهو من أقام اليهودية على طريقها قبل النسخ ويقال : إلا قليلا منكم وهم من أسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (٨٣) عن الطاعة كآبائكم (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) أي واذكروا يا أيها اليهود المعاصرون لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقت أن أخذنا الميثاق على آبائكم في التوراة (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) أي لا يقتل بعضكم بعضا (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي لا يخرج بعضكم بعضا من منازلكم يا بني قريظة والنضير (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) بوجوب المحافظة على الميثاق (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (٨٤) أي تعلمون ذلك (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) أي هؤلاء الحاضرون بعد ذلك (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي يقتل بعضكم بعضا (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) أي من منازلهم ذلك الفريق (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ).

قرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الظاء. والباقون بالتشديد أي يعاون بعضكم بعضا (بِالْإِثْمِ) أي المعصية (وَالْعُدْوانِ) أي التجاوز في الظلم (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى) أي أسارى أهل دينكم (تُفادُوهُمْ) بالمال أو غيره. أي وإن يقع ذلك الفريق الذي تخرجونه من دياره وقت الحرب حال كونه أسيرا في يد حلفائكم تفدوه. قرأ حمزة «أسرى» بفتح الهمزة وسكون السين مع الإمالة. وقرأ عاصم والكسائي «تفادوهم» بضم التاء وفتح الفاء. والباقون بفتح التاء وسكون الفاء. (وَهُوَ) أي الشأن (مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ).

قال السدي : إن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة الميثاق أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه وأعتقوه. وكان قريظة والنضير أخوين كالأوس والخزرج ، فافترقوا فكانت قريظة حلفاء الأوس ، والنضير حلفاء الخزرج حين كان بينهما ما كان من العداوة ، فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه فإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها ، ثم إذا أسر رجل من الفريقين فدوه كما لو أسر واحد من النضير ووقع في يد الأوس افتدته قريظة منهم بالمال ، وهكذا يقال في عكس ذلك فعيّرتهم العرب وقالت : كيف تقاتلونهم ثم تفدوهم. فيقولون : أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ولكن نستحي أن تذل حلفاؤنا فذمهم الله تعالى بقوله : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) أي تفعلون بعض الواجبات وهو المفاداة (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) أي فلم تتركوا المحرم وهو القتال والإخراج والمعاونة (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ) أي ذمّ عظيم وتحقير بالغ (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فكان خزي قريظة القتل والسبي وقد قتل صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم سبعمائة في يوم واحد ، وخزي بني

٣٠

النضير بالإجلاء إلى أذرعات وأريحا. وقيل : هو ضرب الجزية على النضير في الشام وعلى من بقي من قريظة الذين سكنوا خيبر. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) أي عذاب جهنم لما أن معصيتهم أشد المعاصي (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٨٥).

قرأ ابن كثير ونافع وعاصم بتاء الخطاب في «يعملون» وأما في «يردون» فالسبعة بالغيبة فقط وأما بتاء الخطاب فشاذة وهذه الجملة زجر عظيم عن المعصية وبشارة عظيمة على الطاعة. (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا) أي استبدلوها (بِالْآخِرَةِ) بأن اختاروا الكفر على الإيمان (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) لا بالانقطاع ولا بالقلة في كل وقت أو في بعض الأوقات (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٨٦) فلا يدفع أحد هذا العذاب عنهم. (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) أي أتبعناهم إياه مترتبين وهم يوشع وشمويل ، وشمعون ، وداود ، وسليمان ، وشعيا وأرميا ، وعزير ، وحزقيل ، والياس ، واليسع ، ويونس ، وزكريا ، ويحيى وغيرهم وجميع الأنبياء بين موسى وعيسى على شريعة موسى. قيل : هم سبعون ألفا. وقيل : أربعة آلاف ، ومدة ما بينهما ألف وتسعمائة سنة وخمسة وعشرون سنة (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) أي المعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه ـ سواء كان كمهه خلقيا أو طارئا ـ وإبراء الأبرص ، وكالإخبار بالمغيبات ، وكالإنجيل. ثم عيسى بالسريانية أيشوع ومعناه : المبارك. ومريم بالسريانية بمعنى الخادم. وفي كتاب لسان العرب : هي المرأة التي تكره مخالطة الرجال. (وَأَيَّدْناهُ) قرأه ابن كثير بمد الهمزة وتخفيف الياء أي قويناه (بِرُوحِ الْقُدُسِ) وهو جبريل وهو الذي بشر مريم بولادتها وإنما ولد عيسى عليه‌السلام من نفخة جبريل وهو الذي رباه في جميع الأحوال وكان يسير معه حيث سار ، وكان معه حين صعد إلى السماء. (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ) يا معشر اليهود (رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ) أي بما لا يوافق قلوبكم من الحق (اسْتَكْبَرْتُمْ) أي تعظمتم عن الإيمان به والاتباع له (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (٨٧) أي كذّبت طائفة محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعيسى عليه‌السلام ، وقتل فريق يحيى وزكريا (وَقالُوا) أي اليهود : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي مغشاة بأغطية عن قولك يا محمد ، أو قلوبنا أوعية لكل علم وهي لا تعي علمك وكلامك (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أي ليس عدم قبولهم للحق لخلل في قلوبهم ولكن الله أبعدهم عن رحمته بسبب كفرهم فأبطل استعدادهم عن القبول (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) (٨٨) أي لا يؤمنون إلا بالقليل مما كلفوا به لأنهم كانوا يؤمنون بالله ، إلا أنهم كانوا يكفرون بالرسل.

وقال قتادة والأصم وأبو مسلم : أي لا يؤمن منهم إلا القليل وذلك نظير قوله تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ١٥٥] (وَلَمَّا جاءَهُمْ) أي اليهود المعاصرين له صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وهو القرآن (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) أي موافق لكتابهم التوراة بالتوحيد

٣١

وصفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذبوه (وَكانُوا) أي اليهود (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل مبعث محمد ونزول القرآن (يَسْتَفْتِحُونَ) أي يسألون الفتح أي النصرة (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي مشركي العرب أسد وغطفان ومزينة وجهينة وهم عدوهم يقولون : إذا دهمهم عدو : اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي الأمي. (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) من بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كَفَرُوا بِهِ) حسدا وخوفا على الرياسة. وقال ابن عباس وقتادة والسدي : نزلت هذه الآية في شأن نبي قريظة والنضير ، كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل بعثه يقولون لمخالفيهم عند القتال : هذا نبي قد قرب زمانه ينصرنا عليكم (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٨٩) أي إبعاد الله من خيرات الآخرة عليهم (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) أي بئس الشيء شيئا اشتروا به أنفسهم ، كفرهم بالقرآن المصدق للتوراة ، أي إن هؤلاء اليهود لما اعتقدوا أنهم بما فعلوه خلصوا أنفسهم من العقاب وأوصلوها إلى الثواب فقد اشتروا أنفسهم به في زعمهم.

وقال الأكثرون : الاشتراء هاهنا بمعنى البيع لأن المذموم لا يكون إلا لما كان حاصلا لهم ، لا لما كان زائلا عنهم ، والمعنى باعوا أنفسهم بكفرهم ، لأن الذي حصلوه على منافع أنفسهم هو الكفر فصاروا بائعين أنفسهم بذلك ، لكن لما كان الغرض بالبيع والشراء إبدال ملك بملك ، صلح أن يوصف كل واحد من المتبادلين بأنه بائع ومشتر لوقوع هذا المعنى من كل واحد منهما. (بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي حسدا على أن ينزل الله النبوة بفضله على محمد وطلبا لما ليس لهم أي فإنهم ظنوا أن هذا الفضل العظيم بالنبوة المنتظرة يحصل في قومهم ، فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على الحسد ، وقد أجاز العلماء أن يكون بغيا مفعولا له ناصبه «أن يكفروا» ، وأن ينزل الله مفعولا له وناصبه «بغيا» ، (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) أي فاستحقوا لعنة بعد لعنة لأمور صدرت عنهم (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) (٩٠) أي يهانون بالعذاب الشديد بخلاف عذاب العاصي فإنه طهرة لذنوبه (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي وإذا قال المؤمنون لليهود الموجودين في زمن نبينا : (آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) أي بكل ما أنزل الله من الكتب الإلهية جميعا (قالُوا) في جواب هذا القيل : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) أي بما أنزل على أنبيائنا من التوراة وكتب سائر الأنبياء الذين أتوا بتقرير شرع موسى عليه‌السلام (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) فأخبر الله تعالى عنهم بأنهم يكفرون بما بعده وهو الإنجيل والقرآن (وَهُوَ) أي ما وراء ما أنزل على نبيهم من الإنجيل والقرآن (الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) أي موافقا بالتوحيد لكتبهم (قُلْ) لهم يا أشرف الخلق إلزاما وبيانا لكفرهم بالتوراة التي ادعوا الإيمان بها (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٩١) والمعنى إن كنتم مؤمنين بالتوراة كما زعمتهم فلأي شيء كنتم تقتلون أنبياء الله من قبل لأن في التوراة تحريم القتل وذلك لأن التوراة دلّت على أن المعجزة تدل على الصدق ، ودلّت على أن من كان صادقا في ادعاء النبوة فإن قتله كفر ، وإذا كان الأمر كذلك كان السعي في قتل

٣٢

زكريا ويحيى وعيسى كفرا! فلم سعيتم في ذلك إن صدقتم في ادعائكم كونكم مؤمنين بالتوراة؟ والمعنى أنهم لو آمنوا بالتوراة لما قتلوا الأنبياء فآل أمرهم إلى كفرهم بجميع ما أنزل الله تعالى لا بالبعض كما ادعوا. فإن قيل قوله تعالى : (آمِنُوا) خطاب لهؤلاء الموجودين. وقوله : فلم تقتلون حكاية فعل أسلافهم. فكيف وجه الجمع بينهما؟ قلنا : معناه إنكم بهذا التكذيب للإنجيل والقرآن خرجتم من الإيمان بما آمنتم كما خرج أسلافكم بقتل بعض الأنبياء عن الإيمان بالباقين (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) أي بالآيات التسع وهي : العصا واليد ، والسنون ، ونقص الثمرات ، والدم ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، وفلق البحر (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) أي عبدتم العجل (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد انطلاقه إلى الجبل (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) (٩٢) أي كافرون بعبادته (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) أي إقراركم (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) أي رفعنا فوق رؤوسكم الجبل حين امتنعتم من قبول التوراة وقلنا : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي اعملوا بما أعطيناكم من الكتاب بجد (وَاسْمَعُوا) أي أطيعوا ما تؤمرون (قالُوا سَمِعْنا) قولك بآذاننا (وَعَصَيْنا) أمرك بقلوبنا وغيرها (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) أي وادخلوا في قلوبهم حب عبادة العجل بسبب كفرهم السابق الموجب لذلك (قُلْ) لهم يا أشرف الخلق (بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) بما أنزل عليكم من التوراة قولهم سمعنا وعصينا وعبادتهم العجل (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٩٣) بالتوراة كما زعمتم فـ «إن» يجوز فيها الوجهان من كونها نافية وشرطية وجوابها محذوف تقديره فبئسما يأمركم. (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) أي نعيم الدار الآخرة (عِنْدَ اللهِ) وهو الجنة (خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ) أي خاصة بكم ليس لأحد سواكم فيها حق بأن صح قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) كأن تقولوا ليتنا نموت (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٩٤) في مقالتكم لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) أي لن يسألوا الموت (أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بسبب ما عملوا من المعاصي الموجبة لدخول النار ، كالكفر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبالقرآن ، وكتحريف التوراة (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٩٥) أي الكافرين فيجازيهم (وَلَتَجِدَنَّهُمْ) أي والله لتجدن اليهود يا محمد (أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) أي بقاء في الدنيا (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي وأحرص من مشركي العرب المنكرين للبعث لعلمهم بأن مصيرهم النار دون المشركين لإنكارهم له. (يَوَدُّ) أي يتمنى (أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) والمراد بألف سنة التكثير لا خصوص هذا العدد ، وليس المراد بها قول الأعاجم : عش ألف سنة. «لو» مصدرية ، وهي مع صلتها في تأويل مصدر مفعول «يود» (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) فاعل لمزحزح أي وما أحدهم بمن يبعده من النار تعميره ألف سنة (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (٩٦) فيجازيهم به. قرأ السبعة بالياء التحتية ويعقوب من العشرة بالفوقية.

٣٣

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم المدينة أتاه عبد الله بن صوريا فقال : يا محمد ، كيف نومك فقد أخبرنا عن نوم الذي يجيء في آخر الزمان؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تنام عيناي ولا ينام قلبي» قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني عن الولد أمن الرجل يكون أم من المرأة؟ فقال : «أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل ، وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة». فقال : صدقت ، فما بال الرجل يشبه أعمامه دون أخواله ، ويشبه أخواله دون أعمامه. فقال : «أيهما غلب ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له». قال : صدقت ، أخبرني أي الطعام حرّم إسرائيل على نفسه ، وفي التوراة أن النبي الأمي يخبر عنه؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا فطال سقمه ، فنذر الله نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن على نفسه أحب الطعام والشراب وهو لحمان : الإبل وألبانها». فقالوا : نعم ، فقال له : بقيت خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك أيّ ملك يأتيك بما تقول عن الله. قال : «جبريل» (١) قال : إن ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدة ، ورسولنا ميكائيل يأتي بالبشر والرخاء فلو كان هو الذي يأتيك آمنا بك ، فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) لأنه ينزل القرآن على محمد فقد خلع ربقة الإنصاف (فَإِنَّهُ) أي جبريل (نَزَّلَهُ) أي القرآن (عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) أي بأمره وخصّ القلب بالذكر لأنه خزانة الحفظ وبيت الرب (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي لما قبل القرآن من الكتب الإلهية لأن الشرائع التي تشتمل عليها سائر الكتب كانت مقدرة بالأوقات ومنتهية في هذا الوقت فإن النسخ بيان انتهاء مدة العبادة وحينئذ لا يكون بين القرآن وسائر الكتب اختلاف في الشرائع (وَهُدىً) أي بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأعمال الجوارح (وَبُشْرى) أي بيان ثواب تلك الأعمال (لِلْمُؤْمِنِينَ) (٩٧) (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) (٩٨) وخصّ الله جبريل بالذكر ردا على اليهود في دعوى عداوته وضمّ إليه ميكائيل لأنه ملك الرزق الذي هو حياة الأجساد كما أن جبريل ملك الوحي الذي هو حياة القلوب والأرواح ، وقدّم جبريل لشرفه لأن العلم أشرف من الأغذية ، وقدّم الملائكة على الرسل كما قدّم الله على الجميع ، لأن عداوة الرسل بسبب نزول الكتب ونزولها بتنزيل الملائكة وتنزيلهم لها بأمر الله فذكر الله ومن بعده على هذا الترتيب. «وجبريل» قرأ حمزة والكسائي بفتح الجيم والراء وهمزة بعد الراء مكسورة ، وقرأ شعبة كذلك إلا أنه حذف الياء بعد الهمزة وكسر الراء. والباقون بكسر الجيم والراء من غير همز بعد الراء إلا أن ابن كثير فتح الجيم. «وميكائيل» قرأ أبو عمرو وحفص ميكال بغير همزة ولا ياء بين الألف واللام ، وقرأ نافع بهمزة بعد الألف ولا ياء بعد الهمزة ، والباقون بهمزة بعد الألف وياء.

__________________

(١) رواه أحمد في (م ١ / ص ٢٧٣ ، ٢٧٨).

٣٤

قال ابن عباس : إن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مبعثه ، فلما بعث من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. فقال لهم معاذ بن جبل : يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك ، وتخبروننا أنه مبعوث وتصفون لنا صفته فقال بعضهم : ما جاءنا بشيء من البينات ، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله تعالى هذه الآية : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يا أشرف الخلق (آياتٍ بَيِّناتٍ) أي آيات القرآن الذي لا يأتي بمثله الجن والإنس (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) (٩٩) وهم أهل الكتاب المحرفون لكتابهم الخارجون عن دينهم. قال ابن عباس : لما ذكرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أخذ الله عليهم من العهود في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يؤمنوا به. قال مالك بن الصيف : والله ما عهد إلينا في محمد عهدا فأنزل الله هذه الآية : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي أكفروا بالآيات وكلما عاهدوا الله عهدا كقولهم قبل مبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لئن خرج النبي لنؤمنن به ولنخرجن المشركين من ديارهم وككونهم عاهدوا الله على أن لا يعينوا عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدا من المشركين ثم أعانوا عليه قريشا يوم الخندق نبذه فريق منهم (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠٠) أي لا يصدقون بك أبدا لحسدهم ، وقيل : لا يصدقون بكتابهم لأنهم كانوا في قومهم كالمنافقين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يظهرون لهم الإيمان بكتابهم ورسولهم ثم لا يعملون بمقتضاه (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) من التوراة (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي أعطوه وتمسكوا به (كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٠١) أي أنه كتاب الله أي فكفروا عنادا والكتاب مفعول ثان لـ «أوتوا» وكتاب الله مفعول «نبذ».

وقال السدي : لما جاءهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصموه بالتوراة فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة لموافقة القرآن لها وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن (وَاتَّبَعُوا) أي اليهود وهو معطوف على نبذ (ما تَتْلُوا) أي تكذيب (الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) من السحر وكانت الشياطين دفنته تحت كرسيه لما نزع ملكه فلم يشعر لذلك سليمان ، فلما مات استخرجوه وقالوا للناس : إنما ملككم سليمان بهذا فتعلموه ، وأقبلوا على تعلمه ورفضوا كتب أنبيائهم ، وفشت الملامة على سليمان فلم تزل هذه حالهم حتى بعث الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنزل الله عليه براءة سليمان ومدة نزع ملكه أربعون يوما ، وسبب ذلك أن إحدى زوجاته عبدت صنما أربعين يوما وهو لا يشعر بها فعاتبه الله تعالى بنزع ملكه أربعين يوما ، وذلك أن ملكه كان في خاتمه وهو من الجنة ، وكان إذا دخل الخلاء نزعه ووضعه عند زوجة له تسمى الأمينة ففعل ذلك يوما فجاء جني اسمه صخر ، وتصوّر بصورة سليمان ودخل على الأمينة. وقال : أعطيني خاتمي فدفعته له فسخرت له الجن والإنس والطير والريح ، وجلس على كرسي سليمان فجاء سليمان

٣٥

للأمينة وطلب الخاتم فرأت صورته غير الصورة التي تعرفها منه. فقالت له : ما أنت سليمان وهو قد أخذ الخاتم. فلما تم الأربعون طار الجني من فوق الكرسي ومر على البحر وألقى الخاتم فيه فابتلعته سمكة فوقعت في يد سليمان فأخذه من بطنها ولبسه ، ورجع له الملك فأمر الجن بإحضار صخر فأتوا به فحبسه في صخرة وسد عليه بالرصاص والحديد ورماها في قعر البحر. (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) أي ما كتب سليمان السحر وما عمل به لأن العمل بالسحر كفر في شريعته وأما في شرعنا فإن اعتقد فاعله حل استعماله كفر وإلا فلا. وأما تعلمه فإن كان ليعمل به فحرام أو ليتوقاه فمباح أو لا ولا فمكروه (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) أي كتبوا واستعملوا السحر.

وقرأ «لكن» ابن عامر وحمزة والكسائي بتخفيف النون مع الكسر ورفع الشياطين (يُعَلِّمُونَ) أي الشياطين (النَّاسَ السِّحْرَ) ويقصدون به إضلالهم (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) عطف على السحر أي ويعلمونهم ما ألهماه من السحر. وقيل : عطف على ما «تتلو» واختار أبو مسلم أن «ما» في محل جر عطف على «ملك سليمان». وذلك أن الملكين أنزلا لتعليم السحر امتحانا من الله للناس هل يتعلمونه أو لا كما امتحن قوم طالوت بالشرب من النهر. وقيل : إنما أنزلا لتعليمه للتمييز بينه وبين المعجزة لئلا يغتر به الناس لأن السحرة كثروا في ذلك الزمن واستنبطوا أبوابا غريبة من السحر وكانوا يدّعون النبوة فبعث الله تعالى هذين الملكين ليعلما الناس أبواب السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الكذابين وإظهار أمرهم على الناس (بِبابِلَ) وهو بلد في سواد العراق (هارُوتَ وَمارُوتَ) عطف بيان للملكين لأنهما ملكان نزلا من السماء كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس. وقيل : «ما أنزل» نفي معطوف على قوله تعالى : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) كأنه تعالى قال : لم يكفر سليمان ولم ينزل على الملكين سحر لأن السحرة كانوا يسندون السحر إلى سليمان وزعموا أنه مما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت فكذبهم الله تعالى على ذلك. وقيل : إن الملكين هما جبريل وميكائيل أخرجه البخاري في تاريخه ، وابن المنذر عن ابن عباس ، وابن أبي حاتم عن عطية. وحينئذ يكون هاروت وماروت مرفوعين بدل من الشياطين بدل من البعض كما هو قراءة الزهري وعلى هذا كما قاله الحسن والضحّاك فهما علجان من بابل يعلمان السحر.

وقرأ الحسن «على الملكين» بكسر اللام فهما داود وسليمان كما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن أبزي. وقيل : كانا رجلين صالحين من الملوك. (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) أي وما يعلم الملكان أحدا السحر (حَتَّى يَقُولا) أولا (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) أي امتحان من الله تعالى للناس (فَلا تَكْفُرْ) أي فلا تتعلم ولا تعمل به أي لا يصفان السحر لأحد إلا أن يقولا ـ يبذلا النصيحة له ـ فيقولان له : هذا الذي نصه لك وإن كان الغرض منه أن يتميز به الفرق بين السحر والمعجزة

٣٦

ولكنه يمكنك أن تتوصل به إلى المفاسد والمعاصي فإياك بعد وقوفك عليه أن تستعمله فيما نهيت عنه أو تتوصل به إلى شيء من الأغراض العاجلة (فَيَتَعَلَّمُونَ) أي الأحد. والمراد به السحرة (مِنْهُما) أي الملكين أو السحر والمنزل على الملكين أو الفتنة والكفر (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) إما بأن يعتقد أن ذلك السحر مؤثر في هذا التفريق فيصير كافرا وإذا صار كافرا بانت منه امرأته فيحصل تفرق بينهما ، وإما بالتمويه والحيل فيبغض كل منهما في الآخر. (وَما هُمْ) أي السحرة أو اليهود أو الشياطين (بِضارِّينَ بِهِ) أي باستعمال السحر (مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بإيجاد الله وإرادته وعلمه (وَيَتَعَلَّمُونَ) أي الشياطين واليهود والسحرة بعضهم من بعض (ما يَضُرُّهُمْ) في الآخرة (وَلا يَنْفَعُهُمْ) في الدنيا ولا في الآخرة وهو السحر (وَلَقَدْ عَلِمُوا) أي اليهود (لَمَنِ اشْتَراهُ) أي استبدل ما تتلوا الشياطين (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ) أي في الجنة (مِنْ خَلاقٍ) أي نصيب أو ما له في النار من خلاص أي أن اليهود لما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وأقبلوا على التمسك بما تتلوا الشياطين فكأنهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أي وبالله لبئس شيئا باعوا به حظ أنفسهم في الآخرة الكفر أو تعلم السحر (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (١٠٢) قبحه على اليقين (وَلَوْ أَنَّهُمْ) أي اليهود (آمَنُوا) بمحمد المشار إليه في قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [البقرة : ٨٩] إلخ. وبما أنزل إليه من الآيات المذكورة بقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) [البقرة : ٩٩] أو بالتوراة التي أريدت بقوله تعالى : (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) [البقرة : ١٠١] (وَاتَّقَوْا) بأن تابوا من اليهودية واستعمال السحر (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) أي لشيء من ثواب الله خير لهم (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (١٠٣) ذلك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (راعِنا) وكان المسلمون يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا تلا عليهم شيئا من العلم : راعنا يا رسول الله أي تأن بنا حتى نفهم كلامك واليهود كانت لهم كلمة عبرانية يتسابون بها فيما بينهم فلما سمعوا المؤمنين يقولون : راعنا ، خاطبوا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يعنون بها تلك المسبة ويضحكون فيما بينهم ، فسمعها سعد بن معاذ منهم وكان يعرف لغتهم. فقال لليهود : يا أعداء الله عليكم لعنة الله ، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من أحد منكم يقولها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأضربن عنقه ، قالوا : أولستم تقولونها؟ فنهي المؤمنون عنها وأمروا بلفظة أخرى لئلا يجد اليهود بذلك سبيلا إلى شتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وذلك قوله تعالى : (وَقُولُوا انْظُرْنا) أي انظر إلينا والمقصود منه أن المعلم إذا نظر إلى المتعلم كان إتيانه للكلام على نعت الأفهام أقوى ، وقيل : لا تعجل علينا قاله ابن زيد (وَاسْمَعُوا) أي أحسنوا سماع ما يقوله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بآذان واعية وأذهان حاضرة حتى لا تحتاجون إلى الاستعادة (وَلِلْكافِرِينَ) أي اليهود الذين سبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٠٤) هو النار (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) وهم اليهود (وَلَا الْمُشْرِكِينَ) من العرب (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ

٣٧

مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي ما يحب اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه ومشركو العرب أبو جهل وأصحابه أن ينزل عليكم وحي من ربكم لأنهم يحسدونكم به (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ) أي بوحيه (مَنْ يَشاءُ) أي من كان أهلا لذلك وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (١٠٥) بالوحي على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير علة ولما قال الكفار : إن محمدا يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه وما يقوله : إلا من تلقاء نفسه نزل قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها).

قرأ ابن عامر «ننسخ» بضم النون الأولى وكسر السين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ننسأ» بفتح النون الأولى والسين وبهمزة ساكنة بعد السين أي ما نبدل آية إما بأن نبدل حكمها فقط أو تلاوتها فقط أو نبدلهما معا ، أو نتركها كما كانت فلا نبدلها ، نأت بأنفع من المنسوخ وأخف في العمل بها ، أو نأت بمثلها في الثواب والنفع والعمل أو يقال : ما نمحو من آية قد عمل بها ، أو نؤخر نسخها فلا نرفع تلاوتها ولا نزيل حكمها ، نأت بما هو أنفع للعباد في السهولة كنسخ وجوب مصابرة الواحد لعشرة من الأعداء بوجوب مصابرته لاثنين أو في كثرة الأجر كنسخ التخيير بين الصوم والفدية بتعيين الصوم أو نأت بمثلها في التكليف والثواب كنسخ وجوب استقبال صخرة بيت المقدس بوجوب استقبال الكعبة فهما متساويان في الأجر (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٠٦) وهذا تنبيه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره على قدرته تعالى على تصريف المكلف تحت مشيئته وحكمه وحكمته وإنه لا دافع لما أراد ولا مانع لما اختار. (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهذا هو التنبيه على أنه تعالى إنما حسن منه التكليف لمحض كونه مالكا للخلق مستوليا عليهم لا لثواب يحصل ولا لعقاب يندفع. (وَما لَكُمْ) يا معشر اليهود (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (مِنْ وَلِيٍ) أي قريب ينفعكم (وَلا نَصِيرٍ) (١٠٧) يمنع عنكم عذابه. وفرق بين الوليد والنصير بأن الولي قد يعجز عن النصرة والنصير قد يكون أجنبيا عن المنصور ولما قالت اليهود : يا محمد ائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة نزل قوله تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ) أي أتريدون (أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) أي الرسول الذي جاءكم (كَما سُئِلَ مُوسى) أي سأله بنو إسرائيل رؤية الرب وغير ذلك (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هذا الرسول (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) (١٠٨) أي ومن يختر الكفر على الإيمان أي بأن يأخذ الكفر بدل الإيمان فقد أخطأ الطريق المستوي أي الحق (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي من أحبار اليهود كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) يا عمار ويا حذيفة ويا معاذ بن جبل (مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ) بمحمد والقرآن (كُفَّاراً) أي تمنى كثير من اليهود أن يصيّروكم من بعد إيمانكم مرتدين.

٣٨

روي أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا لحذيفة وعمّار بن ياسر بعد وقعة أحد : ألم تروا ما أصابكم ولو كنتم على الحق ما هزمتم! فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلا ، فقال عمّار : كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا : أمر شديد. قال : فإني قد عاهدت الله تعالى أني لا أكفر بمحمد ما عشت ، فقالت اليهود : أما هذا فقد صبا. وقال حذيفة : أما أنا فقد رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا ، وبالقرآن إماما ، وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا. ثم أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبراه بذلك فقال : «أصبتما خيرا وأفلحتما». فنزلت هذه الآية : (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) في كتابهم أن محمدا هو الحق. وقالت صفية بنت حيي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : جاء أبي وعمي من عندك ، فقال أبي لعمي : ما تقول فيه؟ قال : أقول إنه النبي الذي بشّر به موسى عليه‌السلام. قال : فما ترى؟ قال : أرى معاداته أيام الحياة فهذا حكم الحسد. (فَاعْفُوا) أي اتركوهم فلا تؤاخذوهم (وَاصْفَحُوا) أي أعرضوا عنهم فلا تلوموهم (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) فيهم أي بقتل بني قريظة وسبيهم ، وإجلاء بني النضير وإذلالهم بضرب الجزية عليهم أو بإذنه في القتال (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٠٩) فهو يقدر على الانتقام منهم من القتل والإجلاء (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) والواجبتين عليكم ولما أمر الله المؤمنين بالعفو والصفح عن اليهود أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم فقال : أقيموا الصلاة. (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي عمل صالح أي أيّ شيء من التطوعات تقدموه لمصلحة أنفسكم (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) أي تجدوا ثوابه مدخرا عند الله (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١٠) فلا يضيع عنده عمل (وَقالُوا) عطف على ود (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) أي قالت يهود المدينة : لن يدخل الجنة إلا اليهود ولا دين إلا دين اليهودية. وقالت نصارى نجران : لن يدخل الجنة إلا النصارى ولا دين إلا دين النصرانية. وقرأ أبيّ ابن كعب إلا من كان يهوديا أو نصرانيا أي قالوا ذلك لما تناظروا بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (تِلْكَ) أي الأماني الباطلة وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأمنيتهم أن يروا المؤمنين كفارا وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم (أَمانِيُّهُمْ) أي متمنياتهم على الله ما ليس في كتابهم (قُلْ) يا أشرف الخلق (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي أحضروا حجتكم من كتابكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١١١) في مقالتكم (بَلى) يدخل الجنة غيرهم (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ) أي من أخلص نفسه (لِلَّهِ) لا يشرك به شيئا (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في جميع أعماله (فَلَهُ أَجْرُهُ) الذي وعد له على عمله (عِنْدَ رَبِّهِ) أي في الجنة (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في الدارين من لحوق مكروه (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١١٢) من فوات مطلوب ولما قدم نصارى نجران على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاهم أحبار اليهود فتخاصموا في الدين حتى ارتفعت أصواتهم ، فقالت لهم اليهود : ما أنتم على شيء من الدين. وقالت النصارى لليهود : ما أنتم على شيء من الدين. أنزل الله تعالى هذه الآية (وَقالَتِ الْيَهُودُ) أي يهود المدينة (لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) أي أمر يعتد به

٣٩

من الدين. قاله رافع بن حرملة فكفر بعيسى والإنجيل (وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) قاله رجل من أهل نجران فكفر بموسى والتوراة كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس. (وَهُمْ) أي الفريقان (يَتْلُونَ الْكِتابَ) المنزّل عليهم ويقولون ما ليس فيه وكان حق كل منهم أن يقر بحقيقة دين خصمه بحسب ما ينطق به كتابه فإن في كتاب اليهود تصديق عيسى وفي كتاب النصارى تصديق موسى (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الذي سمعت به (قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) كتاب الله.

قال السدي : هم العرب. وقال عطاء : هم أمم كانت قبل اليهود والنصارى كما أخرجهما ابن جرير (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) بدل من كذلك بيان للكاف أي لأهل كل دين أنهم ليسوا على شيء يصح (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ) من الدين (يَخْتَلِفُونَ) (١١٣) فيقسم لكل فريق منهم من العقاب الذي استحقه. وقال الحسن : أي فالله يكذبهم جميعا ويدخلهم النار (وَمَنْ أَظْلَمُ) أي لا أحد أظلم (مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) بالصلاة والتسبيح (وَسَعى) أي عمل (فِي خَرابِها) بالهدم أو التعطيل بانقطاع الذكر (أُولئِكَ) المانعون الساعون في خرابها (ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) أي ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا المساجد إلا بخشية وخضوع ، وقيل : معنى هذه الجملة النهي عن تمكين الكفار من الدخول في المسجد. واختلف الأئمة في ذلك فجوزه أبو حنيفة مطلقا ، ومنعه مالك مطلقا ، وفرّق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم قريش كما قيل : إن هذه الآية نزلت في شأن مشركي العرب الذين منعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الدعاء إلى الله بمكة وألجأوه إلى الهجرة فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام. وقد كان الصديق رضي‌الله‌عنه كان له موضع صلاة فخربته قريش لما هاجر ، ومن طريق الغنوي عن ابن عباس أنهم النصارى كما نقل عن ابن عباس أن طيطيوس بن اسبيانوس الرومي ـ ملك النصارى ـ وأصحابه غزوا بني إسرائيل وقتلوا مقاتلتهم وسبوا ذراريهم ، وأحرقوا التوراة ، وخربوا بيت المقدس ، وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير ، ولم يزل بيت المقدس خرابا حتى بناه المسلمون في زمن عمر رضي‌الله‌عنه. ومعنى هذه الآية حينئذ ولا أحد أظلم في كفره ممن خرب بيت المقدس لكيلا يذكر فيه اسمه بالتوحيد والأذان وعمل في خرابه من إلقاء الجيف فيه. أولئك ـ أي أهل الروم ـ ما كان لهم أمن في دخوله إلا مستخفين من المؤمنين مخافة القتل وهذا الحكم عام لكل من فعل ذلك في أي مسجد كان (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أي هوان بالقتل والسبي وضرب الجزية عليهم (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١١٤) وهو عذاب النار (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي له تعالى كل الأرض فإن منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو المسجد الأقصى فقد جعلت لكم الأرض مسجدا (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) وجوهكم في الصلاة بأمره (فَثَمَ) أي هناك (وَجْهُ اللهِ) أي قبلته كما قاله مجاهد. وقرئ بفتح التاء واللام

٤٠