مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

الأمر وقالا : هي بلاد طيبة كثيرة النعم وقلوب القوم الذين فيها ضعيفة ، وإن كانت أجسامهم عظيمة ، وأما العشرة من النقباء فقد أوقعوا الجبن في قلوب الناس حتى أظهروا الامتناع من غزوهم ورفعوا أصواتهم بالبكاء. (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها) أي في الطور ، أو أريحا أو دمشق وفلسطين كما روى كل واحد من هذه الثلاثة عن ابن عباس (قَوْماً جَبَّارِينَ) أي طوالا عظماء أقوياء فلا تصل أيدي قوم موسى إليهم فسموهم جبارين لهذا المعنى (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) من غير صنع منافاته لا طاقة لنا بإخراجهم منها (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها) بسبب ليس منا (فَإِنَّا داخِلُونَ) (٢٢) قالوا هذا على سبيل الاستبعاد (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) أي يخافون الله تعالى في مخالفة أمره ونهيه (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بالهداية والثقة بعون الله والاعتماد على نصرة الله وهما يوشع بن نون وهو الذي نبىء بعد موسى وهو ابن أخت موسى وكالب بن يوقنا ، ختن موسى وهو بفتح اللام وكسرها. وقيل : هما رجلان من الجبابرة أسلما واجتمعا مع موسى والموصول عبارة عن الجبابرة وإليهم يعود العائد المحذوف. والتقدير : قال رجلان من الجبابرة الذين يخافهم بنو إسرائيل وهما رجلان منهم أنعم الله عليهما بالإيمان فآمنا ويشهد لهذا الوجه قراءة من قرأ «يخافون» على صيغة المبني للمفعول. (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) أي باب بلدهم. أي باغتوهم وضاغطوهم في المضيق وامنعوهم من البروز إلى الصحراء لئلا يجدوا للحرب مجالا (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ) أي باب بلدهم (فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) من غير حاجة إلى القتال فإنا شاهدنا أن قلوبهم ضعيفة وإن كانت أجسامهم عظيمة وإنما جزم هذان الرجلان بالغلبة لأنهما كانا جازمين بنبوة موسى ، فلما أخبرهم موسى بأن الله تعالى أمرهم بالدخول في تلك الأرض قطعا بأن النصرة لهم والغلبة حاصلة في جهتهم (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا) في حصول هذا النصر لكم بعد ترتيب الأسباب ولا تعتمدوا عليها فإنها غير مؤثرة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢٣) بصحة نبوة موسى ومقرين بوجود الإله القادر مصدقين لوعده (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها) أي أرض الجبارين (أَبَداً ما دامُوا فِيها) أي أرضهم (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) إنما قالوا هذه المقالة على وجه التمرد عن الطاعة أي على وجه مخالفة أمر الله فهم فسقة (فَقاتِلا) هم (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (٢٤) عن القتال. (قالَ) عليه‌السلام لما رأى منهم عنادا على طريق الحزن والشكوى إلى الله تعالى : (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) هارون أي لا أملك التصرف. ولا ينفذ أمري إلا في نفسي وأخي. وإنما قال ذلك تقليلا لمن يوافقه ويجوز أن يكون المعنى إلا نفسي ومن يواخيني في الدين (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٢٥) أي احكم لنا بما نستحقه واحكم على القوم الخارجين عن طاعتك بما يستحقونه وهو في معنى الدعاء عليهم. (قالَ) الله : يا موسى (فَإِنَّها) أي الأرض المقدسة (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) أي ممنوع عليهم الدخول فيها (أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) أي يتحيرون في البرية. وكان طول البرية تسعين فرسخا وقد تاهوا في تسعة فراسخ عرضا في ثلاثين

٢٦١

فرسخا طولا ، وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه‌السلام : «بي حلفت لأحرمن عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبديّ يوشع وكالب ولأتيهنهم في هذه البرية أربعين سنة مكان كل يوم من الأيام التي تجسسوا سنة» ـ أي كانت مدة غيبة النقباء للتجسس أربعين ـ يوما «ولألقين جيفهم في هذه القفار» ـ أي مات أولئك العصاة فيها ـ «وأهلك النقباء العشرة فيها بعقوبات غليظة وأما بنوهم الذين لم يعملوا الشر فيدخلون تلك الأرض المقدسة» اه.

قال ابن عباس : وكلهم ستمائة ألف مقاتل وكانوا يسيرون كل يوم جادين فإذا أمسوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا عنه ، وكان الغمام يظللهم من الشمس وكان عمود نور يطلع بالليل فيضيء لهم ، وكان طعامهم المن والسلوى وماؤهم من الحجر الذي يحملون ولا تطول شعورهم. وهذه الإنعامات عليهم مع أنهم معاقبون لما أن عقابهم كان بطريق التأديب.

وروي أن موسى وهارون كانا معهم ولكن كان ذلك لهما راحة وسلامة كالنار لإبراهيم ولملائكة العذاب عليهم‌السلام وزيادة في درجتهما وعقوبة لهم ومشاهدتهم لهما حال العقوبة أبلغ (فَلا تَأْسَ) أي لا تحزن (عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٢٦).

قال مقاتل : إن موسى لما دعا عليهم أخبره الله تعالى بأحوال التيه ، ثم إن موسى عليه‌السلام أخبر قومه بذلك فقالوا له : لم دعوت علينا؟ وندم موسى على ما عمل فأوحى الله إليه لا تأس على القوم الفاسقين فإنهم أحقاء بذلك لفسقهم (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِ) أي اذكر يا أكرم الخلق لقومك وأخبرهم خبر ابني آدم قابيل وهابيل ملتبسا بالصدق ليعتبروا به وهذه القصة دالة على أن كل ذي نعمة محسود فلما كانت نعم الله سيدنا محمد أعظم النعم كان أهل الكتاب استخرجوا أنواع المكر في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسدا منهم ، فكان ذكر هذه القصة تسلية من الله تعالى لرسوله. قال محمد بن إسحاق : إن آدم كان يغشي حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت بقابيل وأخته ، فلم تجد عليهما وحما ولا وصبا ولا طلقا ولم تر دما وقت الولادة فلما هبطا إلى الأرض تغشاها ، فحملت بهابيل وتوأمته فوجدت عليهما الوحم والصب والطلق والدم.

وقال بعضهم : غشي آدم حواء بعد مهبطهما إلى الأرض بمائة سنة فولدت له قابيل وأقليما في بطن ، ثم هابيل ولبودا في بطن. فإن حواء كانت تلد لآدم في كل بطن غلاما وجارية إلا شيئا فإنها وضعته مفردا عوضا عن هابيل ، وجملة أولاد آدم تسعة وثلاثون في عشرين بطنا أولهم قابيل وتوأمته أقليما وآخرهم عبد المغيث وتوأمته أم المغيث ، ويتزوج كل من الذكور غير توأمته. وأمر الله آدم أن يزوج قابيل لبودا أخت هابيل وينكح هابيل أقليما أخت قابيل ـ وهي أحسن من لبودا ـ

٢٦٢

فذكر ذلك آدم فرضي هابيل وسخط قابيل وقال : هي أختي وأنا أحق بها ونحن من أولاد الجنة وهما من أولاد الأرض ، فقال له آدم : إنها لا تحل لك فأبى أن يقبل ذلك وقال : إن الله لم يأمرك بهذا وإنما هو من رأيك. فقال لهما آدم : قربا لله قربانا فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بإقليما ، وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت من السماء نار بيضاء فأكلتها ، وإن لم تكن مقبولة لم تنزل النار وأكلته الطير والسباع فخرجا من عند آدم ليقربا القربان ، وكان قابيل قرب صبرة من قمح رديء وهابيل قرب كبشا أحسن وقصد بذلك رضا الله تعالى ، فوضعا قربانهما على جبل ، ثم دعا آدم فنزلت نار من السماء فأكلت قربان هابيل. وقيل : رفع إلى الجنة فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدي به إسماعيل عليه‌السلام (إِذْ قَرَّبا) أي كل منهما (قُرْباناً) وهو اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو صدقة (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما) وهو هابيل (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) وهو قابيل فأضمر لأخيه الحسد إلى أن أتى آدم مكة لزيارة البيت وغاب فأتى قابيل لهابيل وهو في غنمه (قالَ) لهابيل : (لَأَقْتُلَنَّكَ) فقال هابيل : ولم تقتلني؟ قال قابيل : لأن الله تقبّل قربانك وردّ قرباني وتريد أن تنكح أختي الحسناء وأنكح أختك الدميمة فيتحدث الناس بأنك خير مني ويفتخر ولدك على ولدي فـ (قالَ) هابيل : وما ذنبي؟ (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٢٧) أي إن حصول التقوى شرط في قبول القربان (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) أي والله لئن باشرت قتلي حسب ما أوعدتني به وتحقق ذلك منك ما أنا بفاعل مثله لك في وقت من الأوقات (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) (٢٨) في قتلك كما قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمحمد بن مسلمة : «ألق كمك على وجهك وكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل» (١). (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أي أن تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي. كما قاله ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة رضي‌الله‌عنهم (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) أي فتصير من أهل النار (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) (٢٩).

وروي أن الظالم إذا لم يجد يوم القيامة ما يرضي خصمه أخذ من سيئات المظلوم وحمل على الظالم (فَطَوَّعَتْ لَهُ) أي سهلت له (نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ). قال ابن جريج : لما قصد قابيل قتل هابيل لم يدر كيف يقتله فتمثل له إبليس وقد أخذ طيرا فوضع رأسه على حجر ثم رضخه بحجر آخر وقابيل ينظر إليه فعلم منه القتل فوضع قابيل رأس هابيل بين حجرين وهو مستسلم صابر.

روي عن عمرو بن خير الشعياني قال : كنت مع كعب الأحبار على جبل دير متران فأراني لمعة حمراء سائلة في الجبل فقال : هاهنا قتل ابن آدم أخاه وهذا أثر دمه جعله الله آية للعالمين

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٥ / ص ١١٠).

٢٦٣

(فَأَصْبَحَ) أي صار (مِنَ الْخاسِرِينَ) (٣٠) بقتله دينا ودنيا لأنه أسخط والديه وبقي مذموما إلى يوم القيامة ، ولأن له عقابا عظيما في الآخرة ، ولما قتل قابيل هابيل تركه بالعراء ولم يدر ما يصنع به لأنه أول ميت من بني آدم على وجه الأرض فقصدته السباع لتأكله ، فحمله قابيل على ظهره في جراب أربعين يوما وقيل : سنة (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) أي يحفر الحفيرة بمنقاره ورجليه بعد قتل صاحبه ، ثم ألقاه فيها وأثار التراب عليه فتعلم قابيل ذلك من الغراب (لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) واللام إما متعلقة ببعث حتما والضمير المستكن عائد إلى الله تعالى أو متعلقة بـ «يبحث» أو بـ «بعث» ، والضمير راجع للغراب. و «كيف» حال من ضمير «يوارى» العائد إلى قابيل كالضميرين البارزين وهو معمول ليواري ، وجملته معلقة للرؤية البصرية أو العرفانية المتعدية لمفعول قبل تعديتها بهمزة النقل وبعده لاثنين ، وحينئذ فكيف في محل المفعول الثاني سادة مسده ، والمراد بالسوأة الجسد لقبحه بعد موته. (قالَ) أي قابيل : (يا وَيْلَتى) أي يا هلاكي تعال. وهي كلمة تستعمل عند وقوع الداهية العظيمة ولفظها لفظ النداء كأن الويل غير حاضر له فناداه ليحضره. أي أيها الويل احضر فهذا أوان حضورك (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) أي فأغطي جسد أخي بالتراب أي لما قتل قابيل أخاه تركه بالعراء استخفافا به ، ولما رأى الغراب يدفن غرابا ميتا رق قلبه وقال : إن هذا الغراب لما قتل ذلك الآخر أخفاه تحت الأرض أفأكون أقل شفقة من هذا الغراب (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (٣١) على حمله لهابيل على ظهره سنة لأنه لم يعلم الدفن إلا من الغراب وعلى قتله لأنه لم ينتفع بقتله ولأنه سخط عليه بسببه أبواه وإخوته فكان ندمه لأجل هذه الأسباب لا لكونه معصية وعلى استخفافه بهابيل بعد قتله لتركه في العراء. فلما رأى أن الغراب دفن غرابا ميتا ندم على قساوة قلبه وقال : هذا أخي لحمه مختلط بلحمي ودمه مختلط بدمي فإذا ظهرت الشفقة من الغراب على غراب ولم تظهر مني على أخي كنت دون الغراب في الرحمة والأخلاق الحميدة. فكان ندمه لهذه الأسباب لا لأجل الخوف من الله تعالى فلا ينفعه ذلك الندم. قيل : لما قتل قابيل هابيل هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس وقال : إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدم النار ويعبدها فإن عبدتها أيضا حصل مقصودك فبنى بيت نار فعبدها وهو أول من عبد النار.

وروي أنه لما قتله اسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال : ما كنت عليه وكيلا. قال : بل قتلته ولذلك اسود جسدك ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك قط (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) أي المذكور من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام وهي حصول خسارة الدين والدنيا ، وحصول الندم والحسرة والحزن في القلب. والجار والمجرور متعلق بـ «كتبنا» وهو ابتداء كلام فلا يوقف على اسم الإشارة فالوقف على قوله تعالى : (مِنَ النَّادِمِينَ) تام هذا عند جمهور المفسرين وأصحاب المعاني ويروى عن نافع أنه كان يقف على اسم الإشارة ويجعله من تمام

٢٦٤

الكلام الأول فحينئذ الجار والمجرور متعلق بما قبله ، واسم الإشارة عائد على القتل أي من أجل أن قابيل قتل هابيل ولم يواره بالتراب. (كَتَبْنا) أي أوجبنا في التوراة (عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ) أي الشأن (مَنْ قَتَلَ نَفْساً) واحدة من بني آدم (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص (أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) أي أو بغير فساد يوجب إهدار الدم من كفر أو زنا أو قطع طريق.

وقرأ الحسن بنصب فساد بإضمار فعل أي أو عمل فسادا (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) في تعظيم أمر القتل العمد العدوان كما أن قتل كل الخلق أمر مستعظم عند كل أحد. فالمقصود مشاركة الأمرين في الاستعظام وكيف لا يكون مستعظما وقد قال تعالى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) [النساء : ٩٣] (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ) أي ومن خلص نفسا واحدة من المهلكات كالحرق والغرق ، والجوع المفرط ، والبرد والحر المفرطين.

قال ابن عباس أي وجبت له الجنة بعفو عن نفس كما لو عفا عن الناس (جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ) أي بني إسرائيل (رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ) أي المعجزات (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ) أي بعد مجيء الرسل وبعد ما كتبنا عليهم تحريم القتل (لَمُسْرِفُونَ) (٣٢) في القتل لا يبالون بعظمته فإنهم كانوا أشد الناس جراءة على القتل حتى كانوا يقتلون الأنبياء (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي إنما جزاء الذين يخالفون أحكام الله وأحكام رسوله ، أو إنما مكافأة الذين يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله وهم المسلمون (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أي يعملون في الأرض مفسدين بالمعاصي وهو القتل وأخذ المال ظلما (أَنْ يُقَتَّلُوا) واحدا بعد واحد إن قتلوا (أَوْ يُصَلَّبُوا) ثلاثة أيام بعد القتل والصلاة عليهم. وقيل : يصلبون أحياء ثم يزج بطنهم برمح حتى يموتوا إن جمعوا بين أخذ المال والقتل. (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) أي تقطع مختلفة بأن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى إن اقتصروا على أخذ المال من مسلم أو ذمي وكان المقدار بحيث لو قسم عليهم أصاب كلا منهم نصاب السرقة (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) إن أخافوا السبل.

قال أبو حنيفة : النفي من الأرض هو الحبس وهو اختيار أكثر أهل اللغة. قالوا : والمحبوس قد يسمى منفيا من الأرض لأنه لا ينتفع بشيء من طيبات الدنيا ولذاتها ولا يرى أحدا من أحبابه فصار منفيا عن جميع اللذات والشهوات والطيبات ، فكان كالمنفي في الحقيقة. وقال الشافعي : هذا النفي محمول على وجهين :

الأول : أن هؤلاء المحاربين إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام إن أخذهم أقام عليهم الحد ،

٢٦٥

وإن لم يأخذهم طلبهم أبدا فكونهم خائفين من الإمام هاربين من بلد إلى بلد هو المراد من النفي.

والثاني : القوم الذين يحضرون الواقعة ويكثرون جميع هؤلاء المحاربين ويخيفون المسلمين ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال فإن الإمام يأخذهم ويعزرهم ويحبسهم ، فالمراد بنفيهم من الأرض هو هذا الحبس لا غير.

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في قوم هلال بن عويمر لأنهم قتلوا قوما من بني كنانة أرادوا الهجرة إلى رسول الله ليسلموا فقتلوهم وأخذوا ما كان معهم من السلب. وقيل : نزلت في قوم من عرينة وكانوا ثمانية نزلوا المدينة مظهرين للإسلام فمرضت أبدانهم واصفرت ألوانهم ، فبعثهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى إبل الصدقة ليشربوا من أبوالها وألبانها فيصحوا فلما شربوا وصحوا قتلوا الراعي مولى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واسمه يسار النوبي وساقوا الإبل وكانت خمسة عشر ، فبعث النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرين فارسا أميرهم كرز بن جابر الفهري في طلبهم فجيء بهم وأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمّرت أعينهم بأن أحمى مسامير الحديد وكحل بها أعينهم حتى ذهب ضوءها ، وتركوا في الحرة حتى ماتوا (ذلِكَ) أي الحد (لَهُمْ خِزْيٌ) أي هوان وفضيحة (فِي الدُّنْيا) إذا لم تحصل التوبة. أما عند حصول التوبة فإن هذا الحد لا يكون على جهة الاستخفاف بل يكون على جهة الامتحان (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٣٣) أي أشد مما يكون في الدنيا لمن لم يتب (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٤) أي إن ما يتعلق من تلك الأحكام بحقوق الله تعالى يسقط بعد هذه التوبة ، وما يتعلق منها بحقوق الآدميين لا يسقط. فهؤلاء المحاربون إن قتلوا إنسانا ثم تابوا قبل القدرة عليهم كان ولي الدم على حقه في القصاص والعفو إلا أنه يزول وجوب القصاص بسبب هذه التوبة لا جوازه قصاصا ، وإن أخذوا مالا وجب عليهم رده ولم يكن عليهم قطع اليد والرجل ، وإن جمعوا بين القتل وأخذ المال فيسقط وجوب القتل ويجوز استيفاؤه ويجب ضمان المال. وعن علي رضي‌الله‌عنه : إن الحرث بن بدر جاءه تائبا بعد ما كان يقطع الطريق فقبل توبته ، ودرأ عنه العقوبة ، أما إذا تاب القاطع بعد القدرة فالتوبة لا تنفعه وتقام الحدود عليه.

وقال الشافعي رحمه‌الله : ويحتمل أن يسقط كل حد لله بالتوبة ، لأن ماعزا لما رجم أظهر توبته فلما تمّموا رجمه ذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «هلا تركتموه» (١) وذلك يدل على أن التوبة تسقط عن المكلف كل ما يتعلق بحق الله تعالى وهذا التفصيل إنما يكون للمسلم أما إن كان القاطع كافرا سقطت عنه الحدود مطلقا لأن توبته تدرأ عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها.

__________________

(١) رواه ابن ماجة في كتاب الحدود ، باب : الرجم.

٢٦٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) بترك المنهيات (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) بفعل المأمورات (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) أي في سبيل عبوديته وطريق الإخلاص في معرفته وخدمته (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣٥) نبيل مرضاته وبالفوز بكراماته.

اعلم أن مجامع التكليف محصورة في نوعين : أحدهما : ترك المنهيات وهو المشار إليه بقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ). وثانيهما : فعل المأمورات وهو المشار إليه بقوله تعالى : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ). والمراد بطلب الوسيلة إليه تعالى هو تحصيل مرضاته وذلك بالعبادات والطاعات. ولما أمر الله تعالى بترك ما لا ينبغي وبفعل ما ينبغي وكان الانقياد لذلك من أشق الأشياء على النفس وأشدها ثقلا على الطبع ، لأن النفس لا تدعو إلا إلى المشتهيات واللذات المحسوسة أردف ذلك التكليف بقوله : (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) أي بمحاربة أعدائه البارزة والكامنة ، ثم إن من يعبد الله تعالى فريقان : منهم من يعبد الله لا لغرض سوى الله وهو المشار إليه بقوله تعالى : (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) ومنهم من يعبده للثواب مثلا وهو المشار إليه بقوله : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي تفوزون بالمحبوب وتخلصون عن المكروه. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ) أي لو ثبت أن لكل واحد منهم (ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي من أصناف أموالها وسائر منافعها قاطبة (وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ) أي ليجعلوا كلا منهما فدية لأنفسهم (مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي من العذاب الواقع يومئذ (ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٣٦) تصريح بعدم قبول الفداء وتصوير للزوم العذاب فلا سبيل لهم إلى الخلاص منه. وعن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقال للكافر يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول : نعم ، فيقال له : قد سئلت أيسر من ذلك فأبيت» (١) (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ) بتحويل حال إلى حال. وقيل : يتمنون الخروج إذا رفعهم لهب النار إلى فوق ويقصدونه. وقيل : يكادون يخرجون منها لقوة النار ودفعها لهم. وقيل : يريدون الخروج بقلوبهم كما قرأ بعضهم «أن يخرجوا» بالبناء للمفعول (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ) أي الكافرين خاصة دون عصاة المؤمنين (عَذابٌ مُقِيمٌ) (٣٧) أي دائم لا ينقطع تارة بالبر وتارة بالحر وتارة بغيرهما. (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) أي أيمانهما من الكوع. كما يدل عليه قراءة ابن مسعود رضي‌الله‌عنه «والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم» لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بسارق وهو طعمة فأمر بقطع يمينه من الرسغ. (جَزاءً بِما كَسَبا) أي لجزاء فعلهما (نَكالاً) أي للإهانة والذم (مِنَ اللهِ) فجزاء مفعول من أجله وعامله فاقطعوا نكالا مفعول من أجله وعامله جزاء على طريقة الأحوال المتداخلة كما تقول : ضربت ابني تأديبا له ، إحسانا إليه ، فالتأديب علة للضرب والإحسان علة للتأديب (وَاللهُ عَزِيزٌ) في انتقامه

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٣ / ص ٢٩١).

٢٦٧

(حَكِيمٌ) (٣٨) في شرائعه وتكاليفه (فَمَنْ تابَ) إلى الله تعالى (مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) أي سرقته (وَأَصْلَحَ) بأن يتوب بنية صالحة صادقة وعزيمة صحيحة خالية عن سائر الأغراض (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) أي يقبل توبته تفضلا منه وإحسانا لا وجوبا عليه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٩) فلا يعذبه في الآخرة ولا يسقط عنه القطع بالتوبة بل يقطع على سبيل الامتحان عند الجمهور. وقيل : يسقط بها الحد. وقال الشافعي : إن عفا المستحق عنه قبل الرفع إلى الإمام سقط القطع (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والمالك له أن يتصرف في ملكه كيف شاء (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤٠) فيقدر على التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما بحسب ما تقتضيه مشيئته تعالى ونحن نعتقد أن المغفرة تابعة للمشيئة في حق غير التائب (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) أي لا تبال بمسارعة المنافقين في الكفر وذلك بسبب احتيالهم في استخراج وجوه المكر في حق المسلمين وفي مبالغتهم في موالاة المشركين فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم.

وقرأ نافع «يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي. وقرئ «يسرعون» من أسرع والباء متعلقة بقالوا لا بآمنا. قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في حق عبد الله بن أبي وأصحابه. وقيل : نزلت في عبد الله بن صوريا (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) أي إن هؤلاء القوم من اليهود لهم صفتان سماع الكذب في دين الله وفي طعن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحبارهم ونقله إلى عوامهم وسماع الحق منك ، ونقله لأحبارهم ليحرفوه. أي فيكونوا وسائط بينك وبين قوم آخرين ، والوسائط هم يهود بني قريظة كعب وأصحابه. والقوم الآخرون هم يهود خيبر فهم لا يقربون مجلسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبغضهم إياه وتكبرهم. (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أي يضع هؤلاء الأحبار الجلد مكان الرجم ، والطعن في محمد مكان المدح في التوراة (يَقُولُونَ) أي المحرفون وهم القوم الآخرون للسماعين لهم عند إلقائهم إليهم أقاويلهم الباطلة مشيرين إلى كلامهم الباطل : (إِنْ أُوتِيتُمْ) من جهة محمد (هذا) المحرف من جلد المحصن (فَخُذُوهُ) أي فاقبلوا منه (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) ولا تقبلوا منه.

قال المفسرون : إن رجلا وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا وهما محصنان وكان حد الزنا في التوراة الرجم ، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما فأرسلوهما مع قوم منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حكمه في الزنيين. وقالوا : إن أمركم بالجلد وتسويد الوجه فاقبلوا ، وإن أمركم بالرجم فاحذروا ولا تقبلوا. فلما سألوا رسول الله عن ذلك نزل جبريل بالرجم فأبوا أن يأخذوا به. فقال له جبريل عليه‌السلام : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا. فقال الرسول : «هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له : ابن صوريا؟». قالوا : نعم. فقال : «هو أيّ

٢٦٨

رجل فيكم؟» فقالوا : هو أعلم يهودي على وجه الأرض بما في التوراة. فقال : «فأرسلوا إليه» فأتاهم ، فقال له النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنت ابن صوريا؟» قال : نعم. قال : «وأنت أعلم اليهود؟». قال : كذلك يزعمون ، فقال لهم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أ ترضون به حكما؟» قالوا : نعم. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنشدك الله الذي لا إله إلا هو ، الذي فلق البحر لموسى ، ورفع فوقكم الطور وأنجاكم ، وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟». قال ابن صوريا : نعم. فوثب عليه سفلة اليهود ، فقال : خفت إن كذبت أن ينزل علينا العذاب ثم سأل رسول الله عن أشياء كان يعرفها من علاماته فأجابه عنها ، فقال ابن صوريا : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله النبيّ الأمي العربي الذي بشّر به المرسلون ، ثم أمر رسول الله بالزانيين فرجما عند باب مسجده (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) أي ضلالته كفره (فَلَنْ تَمْلِكَ) أي تستطيع (لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) على دفعها (أُولئِكَ) أي اليهود والمنافقون (الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) أي من رجس الكفر وخبث الضلالة لانهماكهم فيهما (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أي ذل بالفضيحة للمنافقين بظهور نفاقهم بين المسلمين وخوفهم من قتل المسلمين إياهم والجزية والافتضاح لليهود بظهور كذبهم في كتمان التوراة (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١)) وهو الخلود في النار (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) الذين كانوا ينسبونه إلى التوراة (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) أي الحرام الذي يصل إليهم من الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسيب الفحل ، وكسب الحجام ، وثمن الكلب ، وثمن الخمر ، وثمن الميتة وحلوان الكاهن ، والاستئجار في المعصية.

روي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد (فَإِنْ جاؤُكَ) متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) ومذهب الشافعي أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم ذلالهم. فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم بل يخيّر في ذلك. وهذا التخيير الذي في هذه الآية مخصوص بالمعاهدين ولو ترافع إلينا ذميان في شرب خمر لم نحدهما ، وإن رضيا بحكمنا لأنهما لا يعتقدان تحريمهما ولو ترافع إلينا مسلم وذمي وجب الحكم بينهما إجماعا. وكذا الذمي مع المعاهدين (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) أي فإنهم كانوا لا يتحاكمون إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا لطلب الأخف ، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة لهم شق عليهم إعراضه عنهم وصاروا أعداء له فلا تضره عداوتهم له فإن الله يعصمه من الناس (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل الذي أمرت به (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٤٢) أي يثيب العادلين في الحكم (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) استفهام تعجيب من الله لنبيه من تحكيمهم إياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن لا يؤمنون به وبكتابه. والحال أن الحكم منصوص عليه في كتابهم الذين يدعون الإيمان به وتنبيه على أنهم ما

٢٦٩

قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع ، وإنما طلبوا ما هو أهون عليهم وإن لم يكن ذلك حكم الله على زعمهم ثم يعرضون عن حكمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الموافق لكتابهم من بعد التحكيم ، والرضا بحكمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقوله تعالى : (وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ) حال من فاعل (يُحَكِّمُونَكَ). وقوله تعالى : (فِيها حُكْمُ اللهِ) حال من التوراة. وقوله تعالى : (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ) معطوف على (يُحَكِّمُونَكَ). (وَما أُولئِكَ) أي البعداء من الله (بِالْمُؤْمِنِينَ) (٤٣) بالتوراة وإن كانوا يظهرون الإيمان بها ولا بك ولا بمعتقدين في صحة حكمك وإن طلبوا الحكم منك وذلك دليل على أنه لا إيمان لهم بشيء وأن مقصودهم تحصيل منافع الدنيا فقط (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً) أي بيان الأحكام والشرائع والتكاليف (وَنُورٌ) أي بيان للتوحيد والنبوة والمعاد (يَحْكُمُ بِهَا) أي انقادوا لحكم التوراة (النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) أي انقادوا لحكم التوراة فإن من الأنبياء من لم تكن شريعته شريعة التوراة والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما‌السلام وبينهما ألف نبي وكلهم بعثوا بإقامة التوراة حتى يحدوا حدودها ويقوموا بفرائضها ، ويحلوا حلالها ويحرموا حرامها.

وقال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي : يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو سيدنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه حكم على اليهوديين بالرجم ، وكان هذا حكم التوراة وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له ، ولأنه قد اجتمع فيه من خصال الخير ما كان حاصلا لأكثر الأنبياء. وقال ابن الأنباري هذا رد على اليهود والنصارى لأن بعضهم كانوا يقولون : الأنبياء كلهم يهود أو نصارى. فردّ الله عليهم بذلك. أي فإن الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية بل كانوا مسلمين أي منقادين لتكاليف الله تعالى. وفي ذلك تنبيه على قبح طريقة هؤلاء اليهود المتأخرين فإن غرضهم من ادعاء الحكم بالتوراة أخذ الرشوة واستتباع العوام ، وتعريض بهم بأنهم بعدوا عن الإسلام الذي هو دين الأنبياء عليهم‌السلام (لِلَّذِينَ هادُوا) متعلق بيحكم أي يحكمون بها فيما بين اليهود (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) أي ويحكم بها العلماء المجتهدون الذين انسلخوا عن الدنيا وسائر العلماء من ولد هارون الذين التزموا طريقة النبيين (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) أي بسبب الذي استحفظوا من جهة النبيين (مِنْ كِتابِ اللهِ) وهو التوراة. فإن الأنبياء سألوا الربانيين والأحبار أن يحفظوا التوراة من التغيير والتبديل وذلك منهم عليهم‌السلام استخلاف لهم في إجراء أحكامها من غير إخلال بشيء منها (وَكانُوا عَلَيْهِ) أي ذلك الكتاب (شُهَداءَ) أي كان هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق وأنه من عند الله ، فحقا كانوا يمضون أحكام التوراة ويحفظونها عن التحريف والتغيير. (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) أيها اليهود (وَاخْشَوْنِ) أي إياكم وأن تحرفوا كتابي للخوف من الناس والملوك والأشراف فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم وتستخرجوا الحيل في سقوط تكاليف الله تعالى عنهم فلا تكونوا خائفين

٢٧٠

من الناس بل كانوا خائفين مني ومن عقابي في كتمان الأحكام ونعوت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) أي ولا تستبدلوا بآياتي التي في التوراة عرضا قليلا من الدنيا أي كما نهيتكم عن تغيير أحكامي لأجل الخوف فكذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في المال والجاه وأخذ الرشوة فإن كل متاع الدنيا قليل (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٤٤).

قال ابن عباس : ومن لم يبين ما بيّن الله في التوراة من نعت محمد وآية الرجم فأولئك هم الكافرون بالله والرسول والكتاب. وقال عكرمة : أي ومن لم يحكم بما أنزل الله منكرا له بقلبه وجاحدا له بلسانه فقد كفر ، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه ذلك إلا أنه حكم بضده فهو ظالم فاسق لتركه حكم الله تعالى (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها) أي فرضنا على نبي إسرائيل في التوراة (أَنَّ النَّفْسَ) مقتولة (بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ) مفقوءة (بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ) مجدوع (بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ) مقطوعة (بِالْأُذُنِ وَالسِّنَ) مقلوعة (بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) أي ذات قصاص إذا كانت بحيث تعرف المساواة كالشفتين ، والذكر والأنثيين ، والقدمين واليدين. فأما ما لا يمكن القصاص فيه من رض في لحم أو كسر في عظم ، أو جراحة في بطن يخاف منها التلف ففيه أرش وحكومة.

قرأ الكسائي «العين والأنف والأذن والسن والجروح» كلها بالرفع. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بنصب الكل غير «الجروح» فإنه بالرفع. وقرأ نافع وعاصم وحمزة بنصب الكل وخبر الجميع قصاص (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) أي بالقصاص من المستحقين (فَهُوَ) أي التصدق (كَفَّارَةٌ لَهُ) أي للمتصدق. يكفر الله تعالى بها ذنوبه أي إذا عفا المجروح أو ولي المقتول كان ذلك العفو كفارة للعافي كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أ يعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته تصدق بعرضه على الناس»(١).

وروى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من تصدق من جسده بشيء كفّر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه». وقيل : إن المجني عليه إذا عفا عن الجاني صار ذلك العفو كفارة للجاني وسقط عنه ما لزمه فلا يؤاخذه الله تعالى بعد ذلك العفو ، وأما المجني عليه الذي عفا فأجره على الله تعالى ، ثم القاتل يتعلق به ثلاثة حقوق : حق لله تعالى ، وحق للمقتول ، وحق للولي فإذا سلم القاتل نفسه طوعا واختيارا إلى الولي ندما على ما فعل خوفا من الله تعالى وتوبة نصوحا ، سقط حق الله تعالى بالتوبة وحق الأولياء بالاستيفاء أو الصلح أو العفو وبقي حق للمقتول يعوضه الله عنه

__________________

(١) رواه البغدادي في موضع أوهام الجمع والتفريق (١ : ٢٧) ، والألباني في إرواء الغليل (٨ : ٣٢).

٢٧١

يوم القيامة عن عبده التائب ، ويصلح بينه وبينه ولو سلم القاتل نفسه اختيارا من غير ندم وتوبة أو لم يمكن من نفسه بل قتل كرها فيسقط حق الوارث فقط ويبقى حق الله تعالى ، لأنه لا يسقطه إلا التوبة ويبقى حق المقتول أيضا ويطالبه به في الآخرة ، لأن القاتل لم يسلم نفسه تائبا ولم يصل منه للمقتول شيء (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٤٥) بالتقصير في حق النفس لإبقاء النفس في العقاب الشديد والتدين بترك حكم الله نهاية الظلم وهو الكفر لإنكار نعمة الله تعالى وجحدها (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ) أي أتبعنا على آثار النبيين الذين يحكمون بالتوراة (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي لما قبل عيسى مما أتى به موسى (مِنَ التَّوْراةِ) ومعنى كون عيسى مصدقا للتوراة أنه أقر بأنه كتاب منزل من عند الله تعالى وأقر بأنه كان حقا واجب العمل به قبل ورود النسخ (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً) لاشتماله على الدلائل الدالة على التوحيد والتنزيه وبراءة الله تعالى عن الزوجة والولد والمثل والضد وعلى النبوة وعلى المعاد (وَنُورٌ) لأنه بيان للأحكام الشرعية ولتفاصيل التكاليف (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي قبل الإنجيل (مِنَ التَّوْراةِ) وهذا المنصوب معطوف على محل فيه هدى وهو النصب على الحال ، أي موافقا لما في التوراة من أصول الدين ومن بعض الشرائع ومن كون الإنجيل مبشرا بمبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَهُدىً) لاشتماله على البشارة بمجيء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو سبب لاهتداء الناس إلى النبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهذه المسألة أشد المسائل احتياجا إلى البيان فالإنجيل يدل دلالة ظاهرة عليها لكثرة المنازعة بين المسلمين واليهود والنصارى في ذلك (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (٤٦) لاشتماله على النصائح والزواجر وإنما خص الموعظة بالمتقين لأنهم الذين ينتفعون بها (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن الأحكام التي لم تنسخ بالقرآن فإن الحكم بالأحكام المنسوخة ليس حكما بما أنزل الله فيه بل هو تعطيل له إذ هو شاهد بنسخها لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة شهادة بنسخها.

وقرأ حمزة «وليحكم» بكسر اللام ونصب الفعل بأن مضمرة بعد لام كي وهو متعلق بمقدر. أي وآتيناه الإنجيل ليحكموا به. وقرأ الباقون «وليحكم» بسكون اللام وجزم الفعل بلام الأمر (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٤٧) أي الخارجون عن الإيمان إن كان مستهينا به وعن طاعة الله إن كان لاتباع الشهوات (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن (بِالْحَقِ) أي ملتبسا بالصدق والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الكتاب أو من فاعل أنزلنا أو من الكاف في إليك (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي لم تقدمه (مِنَ الْكِتابِ) أي من كل كتاب نزل من السماء سوى القرآن (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) أي شاهدا على الكتب كلها ، لأن القرآن هو الذي لا ينسخ ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف وإذا كان كذلك كانت شهادة القرآن على سائر الكتب بالصدق باقية.

٢٧٢

وقرأ ابن محيصن ومجاهد «مهيمنا» بفتح الميم الثانية ، فإن القرآن يصان عن التحريف والتبديل والحافظ هو الله تعالى (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) أي بين جميع أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك (بِما أَنْزَلَ اللهُ) فإن ما أنزل الله إليك وهو القرآن مشتمل على جميع الأحكام الشرعية (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) و «عن» متعلقة «بلا تتبع» على تضمين معنى تتزحزح ونحوه أي لا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) أي لكل واحد من الأمم الثلاثة أمة موسى وأمة عيسى ، وأمة محمد جعلنا منكم أيها الأمم شريعة وهي العبادة التي أمر الله بها عباده ، ومنهاجا أي طريقا واضحا يؤدي إلى الشريعة ، فالتوراة شريعة للأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى. والإنجيل شريعة من مبعث عيسى إلى مبعث سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن شريعة للموجودين من سائر المخلوقات في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يوم القيامة ليس إلا والدين واحد وهو التوحيد (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي جماعة متفقة على شريعة واحدة في جميع الأعصار من غير اختلاف ولا نسخ ولا تحويل. أو المعنى لجعلكم ذوي أمة واحدة أي دين واحد (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي ولكن لم يشأ الله أن يجعلكم أمة واحدة بل شاء أن يختبركم فيما أعطاكم من الشرائع المختلفة المناسبة للأزمنة والجماعة. هل تعملون بها منقادين لله معتقدين أن اختلافها مبني على الحكم اللطيفة والمصالح النافعة لكم أم تتبعون الهوى وتقصرون في العمل؟ (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أي إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا يا أمة محمد إلى ما هو خير لكم في الدارين وابتدروه انتهازا للفرصة وحيازة لفضل السبق (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٤٨) في الدنيا من أمر الدين أي فيخبركم بما لا تشكون فيه من الجزاء الفاصل بين المحق والمبطل ، والموفى والمقصر في العمل فإن الأمر سوف يرجع إلى ما يحصل معه اليقين ، وذلك عنده مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ) أي بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليك (بِما أَنْزَلَ اللهُ) وهذه الجملة معطوفة على الكتاب أي أنزلنا إليك الكتاب والحكم بينهم وذكر إنزال الحكم لتأكيد وجوب امتثال الأمر ، أو على قوله بالحق أي أنزلنا إليك الكتاب بالحق وبالحكم وذكر إنزال الأمر بالحكم بعد الأمر الصريح به تأكيد للأمر وتفريش لما بعده ، ولأن الآيتين حكمان أمر الله بهما جميعا لأنهم احتكموا إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في زنا المحصن ، ثم احتكموا في قتيل كان فيهم (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) في عدم الشريف بالوضيع وعدم قتل الرجل بالمرأة (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) أي يميلوك (عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) ويردوك إلى أهوائهم وكان بنو النضير إذا قتلوا من قريظة أدوا إليهم نصف الدية ، وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا إليهم الدية كاملة ، ويقتلون النفسين بالنفس ويفقئون العينين بالعين فغيروا حكم الله الذي أنزله في التوراة فما لهم يخالفون.

٢٧٣

قال ابن عباس : إن كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا ، وشاش بن قيس قال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه ، أي نصرفه عن دينه فأتوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا أبا القاسم قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فاقض لنا عليهم نؤمن بك فأتى ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية فقوله تعالى : (أَنْ يَفْتِنُوكَ) بدل اشتمال من المفعول أي واحذرهم فتنتهم أو مضاف إليه لمفعول من أجله أي احذرهم مخافة أن يفتنوك أي يصرفوك عن الحق ويلقوك في الباطل (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن الحكم بما أنزل الله تعالى وأرادوا غيره (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) أي أن يبتليهم بجزاء بعض ذنوبهم في الدنيا وهو أن يسلطك عليهم ويعذبهم في الدنيا بالقتل والجلاء والسبي فالقوم جوزوا في الدنيا ببعض ذنوبهم وذلك كاف في إهلاكهم (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) أهل الكتاب وغيرهم (لَفاسِقُونَ) (٤٩) أي خارجون عن دائرة الطاعات ومعادن السعادات (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ).

قرأ ابن عامر «تبغون» بالتاء على الخطاب. وقرأ السلمي برفع «حكم» على أنه مبتدأ. وقرأ قتادة «أ بحكم» بالباء الجارة بدل الفاء. وقرئ «فحكم» بفتح الفاء والكاف. أي أفيطلبون حاكما كحكام الجاهلية. وهي إما الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى الموجبة للمداهنة في الأحكام. وإما أهل الجاهلية.

قال مقاتل : كانت بين قريظة والنضير دماء قبل أن يبعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما بعث وهاجر إلى المدينة تحاكموا إليه ، فقالت بنو قريظة : بنو النضير إخواننا ، أبونا واحد ، وديننا واحد وكتابنا واحد فإن قتل بنو النضير منا قتيلا أعطونا سبعين وسقا من تمر ، وإن قتلنا واحدا منهم أخذوا منا مائة وأربعين وسقا من تمر ، وأروش جراحاتنا على النصف من أروش جروحاتهم فاقص بيننا وبينهم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا أحكم أن دم القرظي كدم النضيري ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم ولا عقل ولا جراحة». فغضب بنو النضير وقالوا : لا نرضى بحكمك فإنك عدوّ لنا فأنزل الله تعالى هذه الآية (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٥٠) فإنهم هم الذين يعرفون أنه لا أحد أعدل من الله حكما ولا أحسن منه بيانا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) أي لا تعتمدوا على الاستنصار بهم ولا تعاشروهم معاشرة الأحباب.

روي أن عبادة بن الصامت جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتبرأ عنده من موالاة اليهود ، فقال عبد الله بن أبي رئيس المنافقين : لكني لا أتبرأ منهم لأني أخاف الدوائر. فنزلت هذه الآية. وقال السدي لما كانت واقعة أحد اشتد الأمر على طائفة من الناس وتخوفوا أن تدال عليهم الكفار فقال رجل من المسلمين : أنا ألحق بفلان اليهودي وآخذ منه أمانا إني أخاف أن تدال علينا اليهود.

٢٧٤

وقال رجل آخر : أنا ألحق بفلان النصراني من أهل الشام وآخذ منه أمانا فأنزل الله هذه الآية. وقال عكرمة : نزلت في أبي لبابة بن المنذر بعثه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بني قريظة حين حاصرهم فاستشاروه في النزول وقالوا : ماذا يصنع بنا إذا نزلنا؟ فجعل إصبعه في حلقه ، أي إنه يقتلكم (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي بعض كل فريق من ذينك الفريقين أولياء بعض آخر من ذلك الفريق لا من الفريق الآخر (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ) يا معشر المؤمنين (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي فهو من أهل دينهم فإنه لا يوالي أحد أحدا إلا وهو عنه راض فإذا رضي عنه رضي دينه فصار من أهل دينه. وهذا على سبيل المبالغة في الزجر عن إظهار صور الموالاة لهم وإن لم تكن موالاة في الحقيقة ، أو لأن الموالين كانوا منافقين (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥١) بموالاة الكفار.

روي عن أبي موسى الأشعري أنه قال : قلت لعمر بن الخطاب : إن لي كاتبا نصرانيا ، فقال مالك : قاتلك الله ألا اتخذت حنيفا أما سمعت قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) قلت له دينه ولي كتابته. فقال : لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله. قلت : لا يتم أمر البصرة إلا به ، فقال : مات النصراني والسلام. والمعنى اجعله في ظنك أنه قد مات فما تعمل بعد موته؟ أي فاعمله الآن ميتا واستغن عنه بغيره (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) بالنفاق ورخاوة العقل في الدين كعبد الله بن أبي وأصحابه (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) أي في موادة يهود بني قينقاع ونصارى نجران لأنهم كانوا أهل ثروة يقرضونهم ويعينونهم على مهماتهم (يَقُولُونَ) معتذرين عنها إلى المؤمنين (نَخْشى) أي نخاف خوفا شديدا (أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) من دوائر الدهر كالهزيمة والحوادث المخوفة وتكون الدولة للكفار وتقال الدائرة في المكروه كالجدب والقحط. وتقال الدولة في المحبوب. وقال الزجاج : أي نخشى أن لا يتم الأمر لمحمد فيدور الأمر كما كان قبل ذلك (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) لرسول الله على أعدائه وللمسلمين على أعدائهم وبإظهار الدين (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) بقطع أصل اليهود وبإخراجهم عن بلادهم. و «عسى» بمنزلة الوعد وهو من الله تعالى واجب (فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) (٥٢) أي فيصير هؤلاء المنافقون نادمين على ما حدّثوا به أنفسهم من أن الدولة أي الغلبة لأعداء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم كانوا يشكّون في أمر الرسول ويقولون : لا نظن أنه يتم له أمره (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا).

قرأه عاصم وحمزة والكسائي بالرفع مع إثبات الواو كما في مصاحف أهل العراق على الاستئناف. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بالرفع مع حذف الواو كما في مصاحف أهل الحجاز والشام. على أن الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا في جواب سؤال نشأ من قوله تعالى : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) كأن القائل يقول : فما ذا يقول المؤمنون حينئذ؟ فقيل : (يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ.

٢٧٥

وقرأ أبو عمرو بالنصب مع الواو عطفا على «يصبحوا» لا على «يأتي» لأن ذلك القول إنما يصدر عن المؤمنين عند ظهور ندامة المنافقين لا عند إتيان الفتح فقط. والمعنى يقول المؤمنون مخاطبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يولونهم ويرجون دولتهم عند مشاهدتهم لانعكاس رجائهم تعريضا بالمخاطبين (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي غاية أيمانهم (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) بالمعونة فإن المنافقين حلفوا لليهود بالمعاضدة كما حكى الله تعالى عنهم بقوله : (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) أو المعنى يقول المؤمنون بعضهم لبعض مشيرين للمنافقين متعجبين من حالهم متبجحين بما منّ الله عليهم من إخلاص الإيمان عند مشاهدتهم لإظهارهم الميل إلى موالاة اليهود والنصارى أنهم كانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم أنهم معنا في ديننا في السر ومن أنصارنا فالآن كيف صاروا موالين لأعدائنا محبين للاختلاط بهم والاعتضاد بهم ، وهذا أنسب لقراءة الرفع مع إثبات الواو على الاستئناف ، أما المعنى الأول فهو أنسب لقراءة النصب ولقراءة الرفع مع حذف الواو ، ولقراءة الرفع مع الواو بجعل عطف جملة على جملة والله أعلم. (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي بطل ما أظهروه من الإيمان وبطل كل خير عملوه لأجل أنهم الآن أظهروا موالاة اليهود والنصارى (فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) (٥٣) في الدنيا والآخرة فاستحقوا اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ).

قرأ ابن عامر ونافع «يرتدد» بدالين من غير إدغام وهذا من الكائنات التي أخبر عنها القرآن قبل وقوعها. روي أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشر فرقة ثلاثة في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

الأولى : بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار ـ ويلقب بالأسود ـ كان له حمار يقول له : قف ، فيقف! وسر ، فيسير! وكانت نساء أصحابه يتعطرن بروث حماره وكان كاهنا ادعى النبوة. فكتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن وأمرهم بالنهوض إلى حراب الأسود ، فقتله فيروز الديلمي على فراشه. والثانية : بنو حنيفة باليمامة ورئيسهم مسيلمة الكذاب ادّعى النبوة في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما توفي بعث أبو بكر خالد بن الوليد في جيش كبير وقتل على يد وحشي الذي قتل حمزة رضي‌الله‌عنه. والثالثة : بنو أسد ورئيسهم طليحة بن خويلد ادّعى النبوة فبعث أبو بكر خالدا فهزمهم وأفلت طليحة فهرب نحو الشام ، ثم أسلم أيام عمر وحسن إسلامه وسبع في عهد أبي بكر.

الأولى : فزارة قوم عيينة بن حصن.

والثانية : غطفان قوم قرة بن سلمة القشيري.

والثالثة : بنو سليم قوم الفجأة بن عبد ياليل.

٢٧٦

والرابعة : بنو يربوع قوم مالك بن نويرة.

والخامسة : بعض تميم قوم سجاح بنت المنذر وهي ادّعت النبوة وزوجت نفسها لمسيلمة الكذاب.

والسادسة : كندة قوم الأشعث بن قيس :

والسابعة : بنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد فكفى الله أمرهم على يد أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه. وفرقة واحدة في عهد عمر وهي : غسان قوم جبلة بن الأيهم وذلك أن جبلة أسلم على يد عمر وكان يطوف ، فوطئ رجل طرف ردائه فغضب فلطمه ، فاشتكى الرجل إلى عمر فقضى له بالقصاص عليه إلا أن يعفو عنه. فقال : أنا أشتريها بألف ، فأبى الرجل ، فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة آلاف ، فأبى الرجل إلا القصاص فاستنظر عمر فأنظره ، فهرب جبلة إلى الروم وارتد ، والمراد (بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) كما قال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة والضحاك وابن جريج : هم أبو بكر وأصحابه لأنهم الذين قاتلوا أهل الردة. ومعنى (يُحِبُّهُمْ) أي يلهمهم الطاعة ويثيبهم عليها. ومعنى (وَيُحِبُّونَهُ) أي يطيعون لأوامره تعالى ونواهيه (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي عاطفين عليهم (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) أي شداد عليهم كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر» (١). وكان أبو بكر في أول الأمر حين كان رسول الله في مكة يذب عنه ويلازمه ويخدمه ، ولا يبالي بأحد من جبابرة الكفار وشياطينهم ، وفي وقت خلافته كان يبعث العسكر إلى المرتدين وإلى مانعي الزكاة حتى انهزموا وجعل الله ذلك مبدأ لدولة الإسلام (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لنصرة دين الله (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) فالواو للحال أي بخلاف المنافقين فإنهم كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم ، فمن كان قويا في الدين فلا يخاف في نصرة دين الله بيده ولسانه ولومة لائم وهذا الجهاد مشترك فيه بين أبي بكر وعلي ، إلا أن حظ أبي بكر في الجهاد أتم ، لأن مجاهدة أبي بكر مع الكفار في أول البعث. وفي ذلك الوقت كان الإسلام في غاية الضعف والكفر في غاية القوة وكان يجاهد الكفار ويذب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغاية وسعه. وأما علي فإنه كان جهاده في بدر وأحد وفي ذلك الوقت كان الإسلام قويا وكانت العساكر مجتمعة فثبت أن جهاد أبي بكر كان أكمل من جهاد علي لوجهين : لتقدمه على جهاد علي في الزمان ولأنه كان وقت ضعف الإسلام (ذلِكَ) أي وصف القوم بالمحبة والشفقة والقوة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة الواحدة (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ) أي كامل القدرة فلا يعجز عن هذا

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٣ / ص ٢٨١) ، وابن ماجة في المقدمة ، باب : في فضائل أصحاب رسول الله.

٢٧٧

الموعود (عَلِيمٌ) (٥٤) أي كامل العلم فيمتنع دخول الحق في أخباره ومواعيده (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) أي إنما ناصركم ومؤنسكم الله (وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٥٥) أي منقادون لجميع أوامر الله ونواهيه.

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في عبادة بن الصامت حين تبرأ من موالاة اليهود ، وقال : أنا بريء إلى الله من حلف قريظة والنضير ، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين. وقال جابر بن عبد الله : نزلت في عبد الله بن سلام وذلك أنه جاء إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إن قومنا قريظة والنضير قد هجرونا وأقسموا أن لا يجالسونا ، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل. فنزلت هذه الآية فقرأها النّبيّ عليه فقال : رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين أولياء. والمراد بالمؤمنين المذكورين عامة المؤمنين. والمراد بذكر هذه الصفات تمييز المؤمنين عن المنافقين. وقيل : المراد أبو بكر. وقيل : علي لما روي أن عبد الله بن سلام قال : لما نزلت هذه الآية قلت : يا رسول الله أنا رأيت عليا تصدق بخاتمه على محتاج وهو راكع فنحن نتولاه (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٥٦) أي ومن يتخذهم أولياء في النصرة فإنهم جند الله وجند الله هم الغالبون على أعدائهم بالحجة فإنها مستمرة أبدا ، أما بالصولة والدولة فقد يغلبون (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً) أي سخرية (وَلَعِباً) أي ضحكة (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي اليهود والنصارى (وَالْكُفَّارَ) أي المشركين كعبدة الأوثان (أَوْلِياءَ) في العون. والمعنى أن القوم لما اتخذوا دينكم هزوا وسخرية فلا تتخذوهم أحبابا وأنصارا فإن ذلك كالأمر الخارج عن العقل والمروءة.

روي أن رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث أظهرا الإيمان ثم نافقا ، وكان رجال من المسلمين يوادونهما فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وقرأ أبو عمرو والكسائي «والكفار» بالجر ويعضده قراءة أبي «ومن الكفار». وقراءة عبد الله «ومن الّذين أشركوا» فهم من جملة المستهزئين أيضا بخلاف قراءة الباقين بالنصب فلا يفيد أنهم منهم وإنما يستفاد ذلك من آية أخرى (وَاتَّقُوا اللهَ) في موالاتهم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٥٧) أي حقا فإن قضية الإيمان توجب الاتقاء بلا شك (وَ) أولئك الذين اتخذوا دين المسلمين هزوا ولعبا هم الذين (إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) بالآذان والإقامة (اتَّخَذُوها) أي الصلاة والمناداة (هُزُواً وَلَعِباً) أي لما اعتدوا أنه ليس فيها فائدة ومنفعة في الدين والدنيا قالوا : إنها لعب.

روى الطبراني أن نصرانيا بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمدا رسول الله قال : أحرق الله الكاذب ، فدخل خادمه ذات ليلة بنار وأهله نيام فتطاير شرره في البيت فأحرقه وأهله. وقيل : كان المنافقون من اليهود يتضاحكون عند القيام إلى الصلاة تنفيرا للناس عنها.

٢٧٨

وقيل : إن الكفار والمنافقين كانوا إذا سمعوا الآذان دخلوا على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : يا محمد لقد ابتدعت شيئا لم يسمع بمثله فيما مضى! فإن كنت نبيا فقد خالفت الأنبياء قبلك فمن أين لك صياح كصياح العير؟ فما أقبح هذا الصوت وهذا الأمر فأنزل الله (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) [فصلت : ٣٣] الآية. وأنزل : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) الآية وقد دلّت هذه الآية على ثبوت الأذان بنص الكتاب العزيز لا بمنام الصحابة وحده وجملة وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها من الشرط ، والجواب : صلة ثانية للموصول المجرور بمن البيانية وفي الحقيقة إن قوله : (اتَّخَذُوها) معطوف على (أُوتُوا) وإن قوله : (إِذا نادَيْتُمْ) ظرف له كأنه قيل : ومن الذين اتخذوها هزوا ولعبا وقت أذانكم والله أعلم. (ذلِكَ) أي الاستهزاء المذكور (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (٥٨) أي لو كان لهم عقل كامل لعلموا أن خدمة الخالق المنعم بغاية التعظيم لا تكون مهزوءا بها فإنه أحسن أعمال العباد وأشرف أفعالهم ، ولذلك قال بعض الحكماء : أشرف الحركات الصلاة ، وأنفع السكنات الصيام. (قُلْ) بل أشرف الخلق لليهود : (يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) أي ما تكرهون من أحوالنا إلا الإيمان بالله (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) أي بالقرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) أي بما أنزل من قبل إنزال القرآن من التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) (٥٩).

وقرأ الجمهور «أن» بفتح الهمزة أي وما تكرهون من أوصافنا إلا إيماننا بما ذكر واعتقادنا بأن أكثركم خارجون عن الإيمان بما ذكر فإن الكفر بالقرآن مستلزم للكفر بما يصدقه بلا شك. وقرأ نعيم بن ميسرة «إن» بالكسر على الاستئناف (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) أي مما قلتم لمحمد وأصحابه.

روي أنه أتى نفر من اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألوه عن دينه فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نؤمن بالله وما أنزل إلينا ـ إلى قوله ـ ونحن مسلمون» فحين سمعوا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر عيسى عليه‌السلام قالوا : لا نعلم شرا من دينكم. فنزلت هذه الآية أي هل أخبركم بما هو شر مما تعتقدونه شرا. (مَثُوبَةً) أي عقوبة (عِنْدَ اللهِ) فـ «مثوبة» تمييز لـ «شر» بمعنى عقوبة للتهكم (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) فـ «من» موصولة بدل من «شر» أي من أبعده الله من رحمته (وَغَضِبَ عَلَيْهِ) أي سخط عليهم بانهماكهم بعد سنوح البينات (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ) في زمن داود عليه‌السلام وهم أصحاب السبت (وَالْخَنازِيرَ) في زمن عيسى عليه‌السلام بعد أكلهم من المائدة فكفروا.

وروي أيضا أن المسخين كانا في أصحاب السبت لأن شبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) أي من أطاع أحدا في معصية الله كالكهنة وهو معطوف على صلة من كقراءة أبي و «عبدوا الطاغوت» كما أفصح عن ذلك قراءة ابن مسعود «ومن عبدوا الطاغوت» ، وكقراءة الأعمش والنخعي وعبد مبنيا للمفعول. وكذا على قراءة عبد بفتح العين

٢٧٩

وضم الباء على وزن كرم أي صار الطاغوت معبودا من دون الله تعالى ورفع الطاغوت على هاتين القراءتين فالراجع إلى الموصول محذوف فيها أي عبد الطاغوت فيهم أو بينهم.

وقرأ حمزة وعبد الطاغوت بفتح العين وضم الباء ونصب الدال ، وجر الطاغوت وهو مفرد يراد به الكثرة أي بالغ الغاية في طاعة الشيطان وهو معطوف على القردة كقراءة عابد الطاغوت ، وعابدي ، وعبادة ، وعبيد ، وعبد بضمتين ، وعبدة بوزن كفرة وعبد بفتحتين جمع عابد كخدم جمع خادم وقرئ وعبد الطاغوت بجر عبد عطفا على من بناء على أنه مجرور على أنه بدل من شر والسبعية اثنتان.

أولاهما : عبد الطاغوت على أن عبد فعل ماض مبني للفاعل وفيه ضمير عائد على من وهذه قراءة غير حمزة.

وثانيهما : قراءته وغيرهما قراءات شاذة (أُولئِكَ) الملعونون الممسوخون (شَرٌّ مَكاناً) من المؤمنين لأن مكانهم سقر ولا مكان أشد شرا منه. أو المعنى أولئك الملعونون المغضوب عليهم المجعول منهم القردة والخنازير العابدون الطاغوت شر مكانا من غيرهم من الكفرة الذين لم يجمعوا بين هذه الخصال الذميمة (وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (٦٠) أي أكثرهم ضلالا عن الطريق المستقيم.

قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية عيّر المسلمون أهل الكتاب وقالوا : يا إخوان القردة والخنازير فينكسون رؤوسهم (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) نزلت هذه الآية في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويظهرون له الإيمان نفاقا ، فأخبره الله تعالى بشأنهم أنهم يخرجون من مجلسك ملتبسين بالكفر كما دخلوا لم يتعلق بقلبهم شيء مما سمعوا منك من نصائحك (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) (٦١) من الكفر وغرضهم من هذا النفاق المبالغة فيما في قلوبهم من الجلد في المكر بالمسلمين والعداوة لهم (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) أي اليهود (يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ) أي الكذب وكلمة الشرك (وَالْعُدْوانِ) أي الظلم على الناس (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أي الحرام كالرشا (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٦٢) أي لبئس شيئا كانوا يعملونه عملهم هذا (لَوْ لا) أي هلا (يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ) أي العباد (وَالْأَحْبارُ) أي العلماء (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) مع علمهم بقبحهما ومشاهدتهم لمباشرتهم لهما (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) (٦٣) أي لبئس شيئا كانوا يصنعونه تركهم للنهي عن ذلك ، والصنع أقوى من العمل لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار راسخا. فجعل جرم العاملين ذنبا غير راسخ وذنب التاركين للنهي عن المنكر ذنبا راسخا ولذلك ذم بهذا خواصهم ولأن ترك الإنكار على المعصية أقبح من مواقعة المعصية ، لأن النفس تلتذ بها لأنها مرض الروح وهو صعب شديد لا يكاد يزول ولا كذلك ترك الإنكار عليها

٢٨٠