مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

وقال آخرون : بل هو هو. وقال بعضهم : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟! (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) (١٥٧) أي قتلا يقينا كما قالوا : إنا قتلنا المسيح (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) أي إلى موضع لا يجري فيه حكم غير الله تعالى ولا يصل إليه حكم آدمي وذلك الموضع هو السماء الثالثة (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) أي كامل القدرة (حَكِيماً) (١٥٨) أي كامل العلم فرفع عيسى من الأرض إلى السماء لا تعذر فيه بالنسبة إلى قدرة الله تعالى وحكمته (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي وما من اليهود والنصارى أحد إلّا ليؤمنن بعيسى قبل أن تزهق روحه بأنه عبد الله ورسوله فلا ينفعه إيمان لانقطاع وقت التكليف. كما نقل عن محمد بن علي بن أبي طالب من الحنيفة أن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره. وقالوا يا عدو الله أتاك عيسى نبيا فكذبت به فيقول : آمنت بأنه عبد الله ورسوله. ويقال للنصراني : أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه هو الله وابن الله فيقول : آمنت أنه عبد الله وابنه فأهل الكتاب يؤمنون به ولكن لا ينفعهم ذلك الإيمان (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ) أي عيسى عليه‌السلام (عَلَيْهِمْ) أي أهل الكتاب (شَهِيداً) (١٥٩) فيشهد على اليهود أنهم كذبوه وطعنوا فيه وعلى النصارى أنهم أشركوا به وكل نبي شاهد على أمته (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) أي فبسبب ظلم عظيم من الذين تابوا من عبادة العجل (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) فإن اليهود كانوا كلما فعلوا معصية من المعاصي يحرم الله عليهم نوع من الطيبات التي كانت محللة لهم ولمن قبلهم عقوبة لهم. (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) (١٦٠) أي وبمنعهم عن دين الله ناسا كثيرا (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) فإن الربا كان محرما عليهم كما هو محرّم علينا (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) أي بطريق الرشوة (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ) أي هيأنا للمصرّين على الكفر من اليهود (عَذاباً أَلِيماً) (١٦١) سيذوقونه في الآخرة كما ذاقوا في الدنيا عقوبة التحريم (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) أي لكن المتمكنون في علم التوراة من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه (وَالْمُؤْمِنُونَ) منهم ومن المهاجرين والأنصار (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) وهو القرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) على سائر الأنبياء من الكتب (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي وأعني المقيمين الصلاة ، وهم المؤتون الزكاة. فـ «المقيمين» نصب على المدح لبيان فضل الصلاة. وجاء في مصحف عبد الله بن مسعود و «المقيمون الصلاة» بالواو وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري ، وعيسى الثقفي ، وابن جبير ، وعاصم عن الأعمش وعمرو بن عبيد (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

قال أبو السعود : والمراد بالكل مؤمنو أهل الكتاب (أُولئِكَ) أي المتصفون بتلك الصفات الجميلة من أهل الكتاب (سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) (١٦٢) وجملة هذه خبر اسم الإشارة والجملة من المبتدأ والخبر خبر قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ) وما عطف عليه والسين لتأكيد الوعد (إِنَّا

٢٤١

أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد نوح (وَ) كما (أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) ابني إبراهيم (وَيَعْقُوبَ) ابن إسحاق (وَالْأَسْباطِ) أي أولاد يعقوب الاثني عشر فمنهم يوسف نبي رسول باتفاق وفي البقية خلاف (وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا) أي وكما أعطيناه أباه (داوُدَ زَبُوراً) (١٦٣) وكان فيه مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم من الأحكام وإنما هي حكم ومواعظ وتسبيح وتقديس ، وتحميد وتمجيد وثناء على الله تعالى. وكان داود عليه‌السلام يخرج إلى البرية فيقوم ويقرأ الزبور وتقوم علماء بني إسرائيل خلفه ويقوم الناس خلف العلماء وتقوم الجن خلف الناس والشياطين خلف الجن وتجيء الدواب التي في الجبال فيقمن بين يديه وترفرف الطيور على رؤوس الناس وهم يستمعون لقراءة داود ويتعجبون منها ، فلما قارف الخطيئة زال عنه ذلك (وَ) كما أرسلنا (رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ) أي سميناهم لك في القرآن وعرفناك أخبارهم وما حصل لهم من قومهم (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هذه السورة أو هذه الآية أو قبل هذا اليوم (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) أي لم نسمهم لك ولم نعرفك أخبارهم. والمعنى إنا أوحينا إليك إيحاء مثل ما أوحينا إلى نوح ومثل ما أوحينا إلى إبراهيم ومن بعده. وآتيناك الفرقان إيتاء مثل ما آتينا داود زبورا وأرسلنا رسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا آخرين لم نقصصهم عليك من غير تفاوت بينك وبينهم في حقيقة الإيحاء وأصل الإرسال فما للكفرة يسألونك شيئا لم يعطه أحد من هؤلاء الرسل عليهم‌السلام (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (١٦٤) أي كلمه على التدريج شيئا فشيئا بحسب المصالح بغير واسطة ملك أي أزال الله تعالى عنه الحجاب حتى سمع المعنى القائم بذاته تعالى ، لا أنه تعالى أحدث ذلك لأنه تعالى يتكلم أبدا. والمعنى أنه تعالى بعث هؤلاء الأنبياء والرسل ، وخصّ موسى عليه‌السلام بالتكلم معه ولم يلزم من تخصيص موسى بهذا التشريف الطعن في نبوة سائر الأنبياء عليهم‌السلام فكذلك لم يلزم من تخصيص موسى بإنزال التوراة عليه دفعة واحدة طعن فيمن أنزل الله عليه الكتاب متفرقا وقد فضل الله تعالى نبينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإعطائه مثل ما أعطي كل واحد منهم.

وقرأ إبراهيم ويحيى بن وثاب وكلم الله بالنصب (رُسُلاً) منصوب على المدح أو بإضمار أرسلنا أو على الحال الموطئة لما بعدها أو على البدلية من رسلا الأول (مُبَشِّرِينَ) لأهل الطاعة بالجنة (وَمُنْذِرِينَ) للعصاة بالنار (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ) أي معذرة يعتذرون بها (بَعْدَ الرُّسُلِ) أي بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب. والمعنى لئلا يحتج الناس يوم القيامة على الله في ترك التوحيد والطاعة بعدم الرسل فيقولوا : لم لم ترسل إلينا رسولا ولم لم تنزل علينا كتابا؟ فإن الله لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسل وإن قبول المعذرة عنده تعالى بمقتضى كرمه ورحمته لعباده وهي بمنزلة الحجة التي لا مرد لها ، وله تعالى أن يفعل ما يشاء كيف يشاء (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) لا يغالب في أمر من أموره (حَكِيماً) (١٦٥) في أفعاله فاختلاف الكتب في كيفية النزول وتغايرها في

٢٤٢

بعض الشرائع والأحكام إنما هو لتفاوت طبقات الأمم في الأحوال التي عليها يدور فلك التكليف فكلفهما الله بما يليق بشأنهم (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) بتخفيف النون ورفع الجلالة وبالبناء للفاعل أي لكن الله يشهد لك بحقية ما أنزل إليك من القرآن الناطق بنبوتك.

روي أنه لما نزل قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قال اليهود : نحن لا نشهد لك بذلك ، فنزل (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ). والمعنى أن اليهود وإن شهدوا بأن القرآن لم ينزل عليك يا محمد من السماء لكن الله يشهد بأنه أنزل عليك ، وشهادة الله إنما عرفت بسبب أنه أنزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا القرآن البالغ في الفصاحة في اللفظ والشرف في المعنى إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضته ، فكان ذلك معجزا وإظهار المعجزة شهادة بكون المدعي بالرسالة صادقا ، ولما كانت شهادته تعالى عرفت بواسطة إنزال القرآن فقال : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) أي يشهد لك بالنبوة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله إليك (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) بأنه في غاية الحسن ونهاية الكمال وهذا مثل ما يقال في الرجل المشهور بكمال الفضل والعلم إذا صنف كتابا واستقصى في تحريره أنه إنما صنف هذا بكمال علمه وفضله. أي إنه اتخذ جملة علومه آلة ووسيلة إلى تصنيف هذا الكتاب ، فيدل ذلك القول على وصف ذلك التصنيف بغاية الجودة ونهاية الحسن فكذا هاهنا (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) بصدقة وإنما تعرف شهادة الملائكة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك لأن ظهور المعجز على يده صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدل على أنه تعالى شهد له بالنبوة وإذا شهد الله له بذلك فقد شهدت الملائكة بذلك بلا شك ، لأنه ثبت في القرآن إنهم لا يسبقونه تعالى بالقول. والمعنى يا محمد إن كذبك هؤلاء اليهود فلا تبال بهم فإن الله تعالى وهو إله العالمين يصدقك في ذلك وملائكة السموات السبع والعرش والكرسي يصدقونك في ذلك ومن صدقه الله والملائكة أجمعون لم يلتفت إلى تكذيب أخس الناس (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (١٦٦) على صحة نبوتك وإن لم يشهد غيره (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بما أنزل الله وشهد به (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي دين الإسلام من أراد سلوكه وهم اليهود حيث قالوا : ما نعرف صفة محمد في كتابنا وقالوا : لو كان رسولا لأتى بكتابه دفعة واحدة من السماء. وقالوا : إن الله ذكر في التوراة أن شريعة موسى لا تنسخ إلى يوم القيامة ، وقالوا : إن الأنبياء لا يكونون إلا من ولد هارون وداود (قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) (١٦٧) عن الحق والصواب لأن أشد الناس ضلالا من كان ضالا ويعتقد في نفسه أنه محق ، ثم يتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال والجاه ، ثم يبذل غاية ما في طاقته في إلقاء غيره في مثل ذلك الضلال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا) محمدا بكتمان ذكر بعثته وعوامهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم وماتوا على الشرك (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) (١٦٨) إلى الجنة يوم القيامة (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ) أي جعلهم خالدين في جهنم (عَلَى اللهِ يَسِيراً) (١٦٩) أي لا يتعذر عليه شيء فكان إيصال الألم إليهم شيئا بعد شيء إلى غير النهاية يسيرا عليه وإن كان متعذرا على غيره (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ

٢٤٣

بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) أي يا أهل مكة قد جاءكم الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن أو متكلما بالدعوة إلى عبادة الله والإعراض عن غيره من عند ربكم (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) أي فآمنوا بالرسول يكن ذلك الإيمان خيرا لكم بما أنتم فيه أي يكن أحمد عاقبة من الكفر (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وإن تكفروا بالرسول فإن الله غني عن إيمانكم ، لا يتضرر بكفركم ، ولا ينتفع بإيمانكم لأنه مالك السموات والأرض وخالقهما ، ومن كان كذلك كان قادرا على إنزال العذاب الشديد عليكم لو كفرتم أو فمن كان كذلك فله عبيد يعبدونه وينقادون لأمره وحكمه ، أو فمن كان كذلك لم يكن محتاجا إلى شيء (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) لا يخفى عليه من أعمال عباده المؤمنين والكافرين شيء (حَكِيماً) (١٧٠) لا يضيع عمل عامل منهم ولا يسوي بين المؤمن والكافر والمحسن والمسيء (يا أَهْلَ الْكِتابِ) أي الإنجيل من النصارى (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) أي لا تبالغوا في تعظيم عيسى فإنه ليس بحق كما أن اليهود بالغوا في طعنه حيث قالوا : إنه ابن زانية وكلا طرفي قصدهم ذميم (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) أي لا تصفوه بما يستحيل اتصافه تعالى به من الاتحاد والحلول في بدن الإنسان أو روحه ، واتخاذ الزوجة والولد بل نزهوه عن هذه الأحوال فإن نصارى أهل نجران أربعة أنواع :

ملكانية : وهم الذين قالوا : عيسى والرب شريكان.

ومرقوسية : وهم الذين قالوا : ثالث ثلاثة.

وماريعقوبية : وهم الذين قالوا : عيسى هو الله.

ونسطورية : وهم الذين قالوا : عيسى ابن الله ، فأنزل الله فيهم هذه الآيات (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ) فـ «المسيح» مبتدأ و «عيسى» بدل منه أو عطف بيان له و «ابن مريم» صفة له ورسول الله خبر المبتدأ (وَكَلِمَتُهُ) أي مكون بأمره من غير واسطة أب ولا نطفة (أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) أي أوصل الكلمة إليها بنفخ جبريل (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي وروح صادر من أمر الله فصار ولدا بلا أب وقد جرت عادة الناس أنهم إذا وصفوا شيئا بغاية الطهارة والنظافة قالوا : إنه روح فلما كان عيسى لم يتكون من نطفة الأب وإنما تكون من نفخة جبريل وصف بأنه روح وقوله تعالى : (مِنْهُ) متعلق بمحذوف وقع صفة لـ «روح». أي كائنة من عند الله وجعلت منه تعالى وإن كانت بنفخ جبريل لكون النفخ بأمره تعالى ، و «من» ابتدائية لا كما زعمت النصارى من أنها تبعيضية.

حكي أن طبيبا حاذقا نصرانيا جاء للرشيد فناظر علي بن الحسين المروزي ذات يوم فقال له : إن في كتابهم ما يدل على أن عيسى جزء من الله وتلا هذه الآية. فقرأ المروزي (وَسَخَّرَ لَكُمْ

٢٤٤

ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣] فقال إذا يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزاء منه تعالى فانقطع النصراني فأسلم وفرح الرشيد فرحا شديدا ، وأعطى للمروزي عطاء عظيما (فَآمِنُوا بِاللهِ) واعتقدوا ألوهيته وحده (وَرُسُلِهِ) أجمعين وصفوهم بالرسالة ولا تصفوا واحدا منهم بالألوهية (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) أي الآلهة ثلاثة : الله ، والمسيح ، ومريم. ولا تقولوا : إن الله واحد بالجوهر ثلاثة بالأقانيم (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) أي انتهوا عن مقالتكم بالتثليث يكن ذلك الانتهاء خيرا لكم (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) أي منفرد في ألوهيته (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) أي أسبحه تسبيحا من أن يكون له ولد أو سبحوه تسبيحا من ذلك.

وقرأ الحسن «إن يكون» بكسر الهمزة ورفع الفعل أي سبحانه ما يكون له ولد (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فمن كان مالكا لهما وما فيهما كان مالكا لعيسى ومريم وإذا كانا مملوكين له فكيف يتوهم كونهما له ولدا وزوجة (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (١٧١) أي ربا للخلق فإنه كاف في تدبير المخلوقات وفي حفظ المحدثات فلا حاجة معه إلى إثبات إله آخر (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) أي لن يترفع عن أن يكون عبدا له تعالى. أي مقرا بالعبودية لله مستمرا على عبادته وطاعته.

روي أن وفد نجران قالوا : يا محمد إنك تعيب صاحبنا فتقول : إنه عبدا لله فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه ليس بعار على عيسى أن يكون عبدا لله» قالوا : بلى ، فنزلت : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ).

وقرأ علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه عبيدا لله بصيغة التصغير (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) أي ولا يستنكف الملائكة المقربون كحملة العرش أن يقروا بالعبودية لله. أي لن يستنكف المسيح عن عبادة الله تعالى بسبب أنه قادر على الإتيان بخوارق العادات من الإحياء والإبراء وعالم بالمغيبات مخبر عنها وممتاز عن سائر أفراد البشر بالولادة من غير أب وبالرفع إلى السماء فإن الملائكة المقربين أعلى حالا منه في العلم بالمغيبات لأنهم مطلعون على اللوح المحفوظ وأعلى حالا منه في القدرة ، لأن أربعة منهم حملوا العرش على عظمته ، وأنهم مخلوقون من غير أب وأم ومقارهم السموات العلى ، ولا خلاف لأحد في علو درجتهم من هذه الحالات وإنما الخلاف في علوها من حيث كثرة الثواب على الطاعات ، ثم إن الملائكة مع كمال حالهم في العلوم والقدرة لن يستنكفوا عن عبودية الله فكيف يستنكف المسيح عن عبوديته بسبب هذا القدر القليل الذي كان معه من العلم والقدرة (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) (١٧٢) أي ومن يترفع عن طاعته تعالى ويعد نفسه كبيرا ، أي يعتقدها كذلك فإن الله يجمع المترفعين والمعتقدين أنفسهم كبيرة ومقابليهم ـ وهم غيرهم ـ إليه تعالى يوم القيامة حيث لا يملكون لأنفسهم شيئا

٢٤٥

فيجازيهم (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) من غير أن ينقص منها شيئا أصلا (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) بتضعيفها أضعافا كثيرة وبإعطاء ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، أي على وجه التفصيل وإنما يخطر نعيم الجنان على قلوبنا ، ونسمعه من ألسنة على وجه الإجمال. (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا) عن عبادته تعالى (وَاسْتَكْبَرُوا) أي عدوا أنفسهم كبيرة (فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) بما وجدوا من لذاذة الترفع والتكبر (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا) يلي مصالحهم (وَلا نَصِيراً) (١٧٣) ينجيهم من عذاب الله (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ) أي رسول (مِنْ رَبِّكُمْ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما سماه برهانا لأن حرفته إقامة البرهان على تحقيق الحق وإبطال الباطل (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (١٧٤) أي نيرا بنفسه منورا لغيره وهو القرآن وذلك بواسطة إنزاله على الرسول وسماه نورا لأنه سبب لوقوع نور الإيمان في القلب أي فمنهم من آمن ومنهم من كفر (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ) في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه (وَاعْتَصَمُوا بِهِ) أي بالله في أن يثبتهم على الإيمان ويصونهم عن نزغ الشيطان (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ) وهي الجنة ومنفعتها (وَفَضْلٍ) أي إحسان زائد كالنظر إلى وجهه الكريم والتعظيم وغير ذلك من مواهب الجنة (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (١٧٥) وهو الإسلام والطاعة والسعادة الروحانية. والجار والمجرور في محل نصب حال من «صراطا» ، والضمير المجرور عائد على «الله» بتقدير مضاف أي إلى ثوابه (يَسْتَفْتُونَكَ) أي يسألونك عن محمد عن الكلالة.

روى الشيخان عن جابر بن عبد الله قال : مرضت فأتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر يعوداني ماشيين فأغمي عليّ ، فتوضأ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم صبّ علي من وضوئه فأفقت ، فإذا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله كيف أصنع في مالي ، كيف أقضي في مالي؟ فلم يرد عليّ شيئا حتى نزلت آية الميراث (يَسْتَفْتُونَكَ) الآيات.

وروى الطبري عن قتادة أن الصحابة أهمهم شأن الكلالة فسألوا عنها النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله هذه الآيات (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) وهو اسم يقع على الوارث وعلى الموروث ، فإن وقع على الوارث فهو من سوى الوالد والولد ، وإن وقع على الموروث فهو الذي مات ولا يرثه أحد من الوالدين ولا أحد من الأولاد (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) أي إن مات امرؤ غير ذي ولد ووالد وله أخت شقيقة أو من الأب فللأخت نصف ما ترك بالفرض والباقي للعصبة أولها بالرد إن لم يكن له عصبة (وَهُوَ) أي المرء الكلالة (يَرِثُها) أي يرث أخته جميع ما تركت إن فرض موتها مع بقائه (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) ذكر أو أنثى فإن كان لها أو له ولد ذكر فلا شيء له أو لها أو ولد أنثى فله أو لها الباقي من نصيبها (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) أي فإن كان من يرث بالأخوة أختين شقيقتين ، أو من أب فصاعدا فلهما لأكثر الثلثان مما

٢٤٦

ترك الميت من المال (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أي وإن كان من يرث بطريق الأخوة أخوة مختلطة رجالا أشقاء ، أو من أب ونساء شقيقات ، أو لأب فللذكر منهم مثل نصيب الأنثيين يقتسمون التركة على طريقة التعصيب (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ) قسمة الميراث (أَنْ تَضِلُّوا) أي لكيلا تخطئوا في قسمة الميراث. وقيل : المعنى يبين الله ضلالكم لتعلموا أن غير هذا البيان ضلال فتجتنبوه (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء المتعلقة بمحياكم ومماتكم (عَلِيمٌ) (١٧٦) أي مبالغ في العلم فيبين لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم.

٢٤٧

سورة المائدة

مدنية ، مائة وعشرون آية ، ألفان وثمانمائة وسبع وثلاثون كلمة

اثنا عشر ألفا ومائتان وستة أحرف

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وهي جميع ما ألزمه الله تعالى عباده من التكاليف والأحكام الدينية ، وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به أو يحسن دينا (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) أي أحل لكم أحل البهيمة من الأنعام ، وهي الأزواج الثمانية المعدودة في سورة الأنعام. وقيل : المعنى أحلت لكم ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب ، وذلك كالظباء وبقر الوحش ونحوهما من صيد البرية كحمر الوحش فأضيفت البهيمة إلى الأنعام لحصول المشابهة أي أحلت لكم البهيمة الشبيهة بالأنعام. وقيل : المعنى أحلت لكم أجنة الأنعام. وهذان القولان مرويان عن ابن عباس ، وهذا الثالث مروي أيضا عن ابن عمر وهذا الوجه يدل على صحة مذهب الشافعي في أن الجنين مذكى بذكاة الأم (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) في هذه السورة (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي إلا إن كانت الأنعام ميتة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو افترسها السبع أو ذبحت على غير اسم الله فهي محرمة وإلا أن تحلوا الصيد في حال إحرامكم أو في حال كونكم في الحرم فإنه لا يحل لكم ذلك (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) (١) من التحليل وغيره لا اعتراض عليه ولا معقب لحكمه فموجب التكليف والحكم هو إرادته لا مراعاة المصالح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) أي يا أيها الذين آمنوا أقروا بالإيمان لا تحلوا معالم دين الله. أي لا تهاونوا شيئا من فرائضه تعالى ولا تحلوا الشهر الحرام : ذا القعدة ، وذا الحجة ، والمحرم ورجب بالقتال فيه والغارة.

قال أبو السعود : والمراد بالشهر الحرام شهر الحج. وقال عكرمة : هو ذو القعدة. واختار ابن جرير أنه رجب لأنه أكمل الأشهر الأربعة. ولا تحلوا الهدي بالعصب أو بالمنع عن بلوغ محله ، وهو ما أهدي إلى بيت الله من إبل أو بقر أو شاة. ولا تحلوا ذوات القلائد من الهدي

٢٤٨

وهي : البدن. ولا تحلوا قوما قاصدين زيادة المسجد الحرام بصدهم عن ذلك بأي وجه كان.

وقرأ عبد الله «ولا آميّ البيت الحرام» بالإضافة حال كونهم مبتغين فضلا من ربهم بالتجارة المباحة ، أو المعنى طالبين ثوابا من ربهم ورضوانا. وقرأ حميد بن قيس الأعرج «تبتغون» بالتاء على خطاب المؤمنين. فالجملة حينئذ حال من الضمير في «لا تحلوا» وإضافة الرب إلى ضمير «الآمين» للإشارة إلى اقتصار التشريف عليهم (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) والأمر للإباحة أي وإذا خرجتم من الإحرام والحرم فلا جناح عليكم في اصطياد حيوان البرية (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) أي ولا يحملنكم بغضكم لقوم من أهل مكة بمنعهم ، إياكم عن المسجد الحرام أي عن العمرة عام الحديبية على ظلمكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفي من البغض.

وقرأ أبو عمرو وابن كثير «إن صدوكم» بكسر الهمزة على أنه شرط معترض أغنى عن جوابه «لا يجرمنكم». والمعنى إن وقع صد مثل ذلك الصد الذي وقع عام الحديبية وهي سنة ست ، على أن نزول هذه الآية عام الفتح وهو سنة ثمان غير مجمع عليه (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) أي على متابعة الأمر ومجانبة الهوى (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ) أي المعصية للتشفي (وَالْعُدْوانِ) أي التعدي في حدود الله للانتقام. (وَاتَّقُوا اللهَ) في جميع الأمور ولا تستحلوا شيئا من محارمه (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢) لمن لا يتقيه فلا يطيق أحد عقابه (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) أي حرم عليكم أكل ما فارقته الروح من غير ذبح شرعي وكان أهل الجاهلية يقولون : إنكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله.

واعلم أن تحريم الميتة موافق لما في العقول ، لأن الدم جوهر لطيف جدا فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه ، وتعفن وفسد وحصل من أكله مضار عظيمة ، (وَالدَّمُ) أي السائل منه. فخرج الكبد والطحال وكان أهل الجاهلية يملؤون الأمعاء من الدم بصبه فيها ويشوونه ويطعمونه الضيف (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ).

قال أهل العلم الغذاء يصير جزءا من جوهر المغتذي فلا بد أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلا في الغذاء ، والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة في المشتهيات فحرم أكله على الإنسان لئلا يتكيف بتلك الكيفية ، ولذلك إن الفرنج لما واظبوا على أكل لحم الخنزير أورثهم الحرص العظيم والرغبة الشديدة في المشتهيات وأورثهم عدم الغيرة. فإن الخنزير يرى الذكر من الخنازير ينزو على الأنثى التي هي له ولا يتعرض له لعدم الغيرة. وأما الشاة فإنها حيوان في غاية السلامة فكأنها ذات عارية عن جميع الأخلاق فلذلك لا يحصل للإنسان بسبب أكل لحمها كيفية أجنبية عن أحوال الإنسان. (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي وما رفع

٢٤٩

الصوت لغير الله عند ذبحه وكانوا يقولون عند الذبح باسم اللات والعزى (وَالْمُنْخَنِقَةُ) أي التي ماتت بانعصار الحلق فالمنخنقة على وجوه : منها : إن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها. ومنها : ما يخنق بحبل الصائد. ومنها : ما يدخل رأسها بين عودين في شجرة فتختنق فتموت (وَالْمَوْقُوذَةُ) أي المضروبة إلى أن ماتت ويدخل في الموقوذة ما رمي بالبندق فمات ، وهي معنى الميتة وفي معنى المنخنقة ، لأنها ماتت ولم يسل دمها. (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) أي الساقطة من علو إلى سفل فماتت ويدخل فيها ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فتسقط على الأرض فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم هل مات بالتردي أو بالسهم ولو رمى صيدا في الهواء بسهم فأصابه فإن سقط على الأرض ومات حل لأن الوقوع على الأرض من ضرورته ، وإن سقط على شجر أو جبل ثم تردى منه فمات لم يحل لأنه من المتردية ، إلا أن يكون السهم ذبحه في الهواء فيحل كيفما وقع لأن الذبح قد حصل قبل التردية (وَالنَّطِيحَةُ) أي ماتت بنطح شاة أخرى ، وإنما دخلت «الهاء» في «النطيحة» لأنها صفة لمؤنث غير مذكور وهو الشاة كما تقول : رأيت قتيلة بني فلان بالهاء لأنك إن لم تدخل الهاء لم يعرف المقتول أرجل هو أم امرأة ، بخلاف ما إذا ذكر الموصوف فإنه تحذف الهاء حينئذ كقولهم : كف خضيب ، ولحية دهين وعين كحيل ، وخصت الشاة لأنها من أعم ما يأكله الناس والكلام يمشي على الأغلب ويكون المراد الكل. (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) منه فمات وهي ، فريسة السبع.

قال قتادة : كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئا فقتله وأكل بعضه أكلوا ما بقي فحرمه الله تعالى (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) أي إلا ما أدركتم ذكاته وقد بقيت فيه حياة مستقرة من هذه الأشياء الخمسة. وذلك بحيث يتحرك بالاختيار وإلا فلا يحل بتذكية لأن موته حينئذ يحال على السبب المتقدم على التذكية من الخنق وأكل السبع وغيرهما (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) أي على اعتقاد تعظيم النصب. وقال ابن جريج : النصب ليس بأصنام فإن الأصنام أحجار مصوّرة منقوشة وهذه النصب أحجار كانوا ينصبونها حول الكعبة وكانوا يذبحون عندها للأصنام ، وكانوا يلطخونها بتلك الدماء ، ويضعون اللحوم عليها ، ويعدون ذلك الذبح قربة فقال المسلمون : يا رسول الله كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم فنحن أحق أن نعظمه. وكان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ينكره فأنزل الله تعالى (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) [الحج : ٣٧] (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) أي وحرم عليكم طلب معرفة ما قسم لكم من الخير والشر بواسطة ضرب القداح ، وذلك أنهم إذا قصدوا سفرا أو غزوا أو تجارة ، أو نكاحا أو أمرا آخر من معاظم الأمور ضربوا ثلاثة أقداح ، مكتوب على أحدها : أمرني ربي. وعلى الثاني : نهاني ربي. والثالث : خال عن الكتابة. فإن خرج الأمر أقدم على الفعل ، وإن خرج النهي أمسك ، وإن خرج الغفل أعاد العمل مرة أخرى (ذلِكُمْ) أي الاستقسام بالأزلام (فِسْقٌ) أي خروج عن الطاعة لأنه طلب لمعرفة الغيب وذلك حرام.

٢٥٠

وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة وذلك ضلال باعتقاد أنه طريق إلى الدخول في علم الغيب ، وافتراء على الله تعالى إن كان مرادهم بربي هو الله تعالى. وقال قوم آخرون : إنهم كانوا يحملون تلك الأزلام عند الأصنام يعتقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام فبإرشاد الأصنام وإعانتهم ، فلهذا السبب كان ذلك فسقا أي شركا وجهالة ، وهذا القول أولى وأقرب كما قاله الفخر. (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) أي هذا الزمان انقطع رجاء كفار مكة من إبطال أمر دينكم (فَلا تَخْشَوْهُمْ) أي فلا تخافوا المشركين في خلافكم إياهم في الشرائع والأديان فإني أنعمت عليكم بالدولة القاهرة والقوة العظيمة ، وصاروا مقهورين لكم ذليلين عندكم (وَاخْشَوْنِ) أي ومحضوا الخشية لي وحدي في ترك أتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودينه (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) بالنصر والإظهار على الأديان كلها والحكم ببقائه إلى يوم القيامة (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بفتح مكة ودخولها آمنين وبانفراد المسلمين بالبلد الحرام وإجلاء المشركين عنه ، حتى حج المسلمون لا يخالطهم المشركون (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) أي اخترته لكم من بين الأديان وهو الدين المرضي عند الله تعالى لا غير (فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى تناول شيء من هذه المحرمات (فِي مَخْمَصَةٍ) أي مجاعة يخاف معها الموت (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) أي غير معتمد لإثم بأن يأكلها فوق الشبع تلذذا كما قاله أهل العراق أو بأن يكون عاصيا بسفره كما قاله أهل الحجاز (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن أكل المحرم عند ما اضطر إلى أكله (رَحِيمٌ) (٣) بعباده حيث أحل لهم ذلك المحرم عند احتياجهم إلى أكله (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) من الصيد. والسائلون عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة ، وعويمر بن ساعدة كذا قال عكرمة كما أخرجه ابن جرير.

وقال ابن عباس : والسائل بذلك زيد بن مهلهل الطائي وعدي بن حاتم الطائي وكانا صيادين ، وكذا قال سعيد بن جبير أخرجه ابن أبي حاتم (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) وهو كل ما يشتهى عند أهل المروءة والأخلاق الجميلة ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر عنه مما لم يرد نص بتحريمه من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس مجتهد (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) أي وأحل لكم صيد ما علمتموه من الكواسب من سباع البهائم والطير كالكلب والباز (مُكَلِّبِينَ) أي معلمين الجوارح الصيد (تُعَلِّمُونَهُنَ) حال ثانية من ضمير علمتم. والمقصود من التكرار المبالغة في اشتراط التعليم وأن تكون من يعلم الجوارح نحريرا في علمه موصوفا بالتأديب (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) من طرق التعليم ومن الحيل في الاصطياد (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) أي كلوا بعض ما أمسكنه لكم وهو الذي لم يأكلن منه.

روي أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعدي بن حاتم : «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أدركته ولم

٢٥١

يقتل فاذبح واذكر اسم الله عليه ، وإن أدركته وقد قتل ولم يأكل فكل فقد أمسك عليك ، وإن وجدته قد أكل فلا تطعم منه شيئا فإنما أمسك على نفسه» (١). (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) أي سموا على ما علمتم من الجوارح عند إرساله على الصيد كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعدي بن حاتم : «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل» (٢) أو سموا على ما أمسكن عند ذبحه. وقيل : المعنى سموا على أكل الصيد.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمر بن أبي سلمة : «سمّ الله وكل مما يليك» (٣). (وَاتَّقُوا اللهَ) أي واحذروا مخالفة أمر الله في تحليل وتحريم ما حرمه (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤) فإنه تعالى يؤاخذكم سريعا في كل ما جل ودق (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) أي المستلذات المشتهيات لأهل المروءة والأخلاق الجميلة (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) فيحل لنا أكل ذبائح من تمسكوا بالتوراة والإنجيل إذا حلت المناكحة بيننا وبينهم فحل الذبيحة تابع لحل المناكحة ولو ذبح يهودي أو نصراني على اسم غير الله تعالى كالنصراني يذبح على اسم المسيح لم تحل ذبيحته بخلاف من تمسكوا بغير التوراة والإنجيل ، كصحف إبراهيم فلا تحل ذبائحهم واتفق العلماء على أن المجوس قد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم.

وروي عن ابن المسيب أنه قال إذا كان المسلم مريضا فأمر المجوسي أن يذكر الله ويذبح فلا بأس ، وقال أبو ثور : إن أمره بذلك في الصحة فلا بأس (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) فيحل لكم أن تطعموهم من طعامكم وتبيعوه منهم (وَالْمُحْصَناتُ) أي الحرائر العفائف (مِنَ الْمُؤْمِناتِ) أي حل لكم وذكرهن للحمل ما هو الأولى لا لنفي ما عداهن فإن نكاح الإماء المسلمات صحيح بالاتفاق ، وكذا نكاح غير العفائف ، وأما الإماء الكتابيات فهن كالمسلمات عند أبي حنيفة خلافا للشافعي (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي هن حل لكم أيضا وإن كنّ حربيات.

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب الصيد ، باب : الأمر بالتسمية عند الصيد ، وأحمد في (م ٤ / ص ١٩٥).

(٢) رواه البخاري في كتاب الذبائح ، باب : إذا أكل الكلب ، ومسلم في كتاب الصيد ، باب : ١ ، والترمذي في كتاب الصيد ، باب : ١ ، والنسائي في كتاب الصيد ، باب : إذا قتل الكلب ، وابن ماجة في كتاب الصيد ، باب : صيد الكلب ، وأحمد في (م ١ / ص ٢٣١).

(٣) رواه البخاري في كتاب الأطعمة ، باب : الأكل وما يليه ، ومسلم في كتاب الأشربة ، باب : ١٠٨ ، والترمذي في كتاب الأطعمة ، باب : ٤٧ ، وابن ماجة في كتاب الأطعمة ، باب : الأكل باليمين ، والدارمي في كتاب الأطعمة ، باب : التسمية على الطعام ، والموطأ في كتاب صفة النبي ، باب : ما جاء في الطعام والشراب.

٢٥٢

قال الكثير من الفقهاء : إنما يحل نكاح الكتابية التي دانت بالتوراة والإنجيل قبل نزول القرآن فمن دان بذلك الكتاب بعد نزول القرآن خرج عن حكم الكتاب ، وهذا مذهب الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه. وأما أهل المذاهب الثلاثة فلم يقولوا بهذا التفصيل بل أطلقوا القول بحل أكل ذبائح أهل الكتاب وحل التزويج من نسائهم ولو دخلوا في دين أهل الكتاب بعد نسخه (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) وتقييد التحليل بإعطاء المهور يدل على تأكد وجوبها وعلى أن الأكمل بيانها لا هو شرط لصحة العقد إذ لا تتوقف على دفع المهر ولا على التزامه ومن تزوج امرأة وعزم على أن لا يعطيها صداقها كان في صورة الزاني وتسمية المهر بالأجر يدل على أن أقل الصداق لا يتقدر كما أن أقل الأجر لا يتقدر في الإجارات (مُحْصِنِينَ) أي متزوجين (غَيْرَ مُسافِحِينَ) أي غير معلنين بالزنا (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) أي ولا مسرين بالزنا بمن لها حليل (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) أي ومن يكفر بشرائع الله وبتكاليفه فقد بطل ثواب عمله الصالح سواء عاد إلى الإسلام أولا (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٥) إذا لم يعد إلى الإيمان بما نزل في القرآن حتى يموت على الكفر. أما إذا عاد إلى الإيمان بذلك قبل الموت فإن عمله لا يبطل فلا يجب إعادة صلاة وحج قد أتاهما قبل الردة. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أي إذا أردتم الاشتغال بإقامة الصلاة وأنتم على غير وضوء (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) فإن صب الماء على المرفق حتى سال الماء إلى الكف فلا يجوز لأنه تعالى جعل المرافق غاية الغسل فجعله مبدأ الغسل خلاف الآية ، كذا قال بعضهم.

وقال جمهور الفقهاء : إن ذلك لا يخل بصحة الوضوء إلا أنه يكون تركا للسنة (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) قيل : الباء فارقة بين حمل المسح بالكل والبعض كما في قولك : مسحت المنديل ومسحت يدي بالمنديل. فقولك : مسحت المنديل لا يصدق إلا عند مسحه بالكلية. وقولك : مسحت بالمنديل يكفي في صدقه مسح اليدين بجزء من أجزاء ذلك المنديل وتحقيق هذه الباء أنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق فكأنه قيل : وألصقوا المسح برءوسكم وذلك لا يقتضي الاستيعاب (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ).

قرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه بالجر. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه بالنصب أما القراءة بالجر فهي معطوفة على الرؤوس فكما يجب المسح في الرؤوس كذلك في الأرجل ، وإنما عطفت الأرجل على الممسوح للتنبيه على الإسراف في استعمال الماء فيها لأنها موضع صب الماء كثيرا. والمراد غسلها أو مجرورة بحرف جر محذوف متعلق بفعل محذوف تقديره وافعلوا بأرجلكم غسلا ، وحذف حرف الجر وإبقاء الجر جائز ولا يجوز هذا الكسر على الجوار على أنه منصوب في المعنى عطف على المغسول لأنه

٢٥٣

معدود في اللحن الذي قد يحمل لأجل الضرورة في الشعر ويجب تنزيه كلام الله عنه ولأنه يرجع إليه عند حصول الأمن من الالتباس كما في قول الشاعر :

كبير أناس في بجاد مزمل

وفي هذه الآية لا يحصل الأمن من الالتباس ، ولأنه إنما يكون بدون حرف العطف. وأما القراءة بالنصب فهي إما معطوفة على الرؤوس لأنه في محل نصب والعطف على الظاهر وعلى المحل جائز كما هو مذهب مشهور للنحاة وإما معطوفة على وجوهكم فظهر أنه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله تعالى : (وَأَرْجُلَكُمْ) هو قوله تعالى : (وَامْسَحُوا) وقوله تعالى : (فَاغْسِلُوا) فإذا اجتمع العاملان على معمول واحد كان الأولى إعمال الأقرب حتى إن بعضهم لا يجوز أن يكون العامل فاغسلوا لما يلزم عليه من الفصل بين المتعاطفين بجملة مبينة حكما جديدا ليس فيها تأكيد للأول وليست هي اعتراضية فوجب أن يكون عامل النصب في قوله : (وَأَرْجُلَكُمْ) هو قوله : (وَامْسَحُوا) فتدل هذه الآية على وجوب مسح الأرجل ، لكن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل وهو مشتمل على المسح ولا ينعكس فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط فوجب الرجوع إليه ويجب القطع بأن غسل الرجل يقوم مقام مسحها ، وأيضا إن فرض الرجلين محدود إلى الكعبين والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح وهذا جواب لقولهم ولا يجوز دفع وجوب مسح الرجل بالأخبار لأنها بأسرها من باب الآحاد ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) أي فاغتسلوا ولحصول الجنابة سببان : نزول المني ، والتقاء الختانين. فختان الرجل هو الموضع الذي يقطع منه جلدة القلفة وشفر المرأة محيطان بثلاثة أشياء : ثقبة في أسفل الفرج وهي مدخل الذكر ومخرج الحيض والولد. وثقبة أخرى فوق هذه مثل إحليل الذكر وهي مخرج البول لا غير ، وموضع ختانها وهو فوق ثقبة البول. وهناك جلدة قائمة مثل عرف الديك وقطع هذه الجلدة هو ختانها فإذا غابت الحشفة حاذى ختانها ختانة (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) مرضا يضره الماء كجراحة أو جدري (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أي مستقرين عليه (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) أي الموضع الذي يقضي فيه حاجة الإنسان التي لا بد منها (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) بذكر أو غيره (فَلَمْ تَجِدُوا) يا معشر المسافرين والمحدثين حدثا أصغر أو أكبر (ماءً) بعد طلبه (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) أي فاقصدوا ترابا نظيفا (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ) بالضربة الأولى (وَأَيْدِيَكُمْ) بالضربة الثانية (مِنْهُ) أي التراب (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) أي ضيق بما فرض عليكم من الطهارة للصلاة (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) أي ليطهر قلوبكم عن صفة التمرد عن طاعة الله تعالى لأن الكفر والمعاصي نجاسات للأرواح ، وذلك لأنه تعالى لما أمر العبد بإيصال الماء إلى هذه الأعضاء المخصوصة وكانت طاهرة لم يعرف العبد في هذا التكليف فائدة معقولة فلما انقاد لهذا التكليف كان ذلك الانقياد لمحض إظهار العبودية فأزال هذا الانقياد عن

٢٥٤

قلبه آثار التمرد فكان ذلك طهارة (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) ببيان كيفية الطهارة وهي نعمة الدين بعد ذكر نعمة الدنيا وهي إباحة الطيبات من المطاعم والمناكح أو بالترخص في التيمم والتخفيف في حال السفر والمرض فاستدلوا بذلك على أنه تعالى يخفف عنكم يوم القيامة بأن يعفو عن ذنوبكم ويتجاوز عن سيئاتكم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٦) نعمته (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي تأملوا في جنس نعم الله عليكم وهو إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل ، والهداية والصون عن الآفات والإيصال إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة فجنس نعمة الله جنس لا يقدر عليه غير الله فمتى كانت النعمة على هذا الوجه كان وجوب الاشتغال بشكرها أتم (وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) بواسطة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) وهو المواثيق التي جرت بين رسول الله والمسلمين في أن يكونوا على السمع والطاعة في المحبوب والمكروه مثل مبايعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الأنصار في أول الأمر ليلة العقبة ومبايعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع عامة المؤمنين بيعة الرضوان تحت الشجرة في الحديبية وغيرهما.

وقال السدي : المراد بالميثاق الدلائل العقلية والشرعية التي نصبها الله تعالى على التوحيد والشرائع وهو اختيار أكثر المتكلمين (وَاتَّقُوا اللهَ) في نسيان نعمته ونقض ميثاقه (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٧) فلا تعزموا بقلوبكم على نقض تلك العهود فإنه إن خطر ببالكم فالله يعلم ذلك وكفى بالله مجازيا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ) بأن تقوموا لله بالحق في كل ما يلزمكم القيام به من العمل بطاعته واجتناب نواهيه (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) فلا تشهدوا بأمر مخالف للواقع بل اشهدوا بما في نفس الأمر والتكاليف محصورة في نوعين تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله فقوله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ) إشارة إلى النوع الأول وهو حقوق الله ، وقوله تعالى : (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) إشارة إلى الثاني وهو حقوق الخلق (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) أي لا يحملنكم بغض قوم على أن تجوزوا عليهم وتجاوزوا الحد فيهم بل اعدلوا فيهم وإن أساؤوا عليكم. والمعنى إن الله تعالى أمر جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحدا إلا على سبيل الإنصاف وترك الاعتساف (اعْدِلُوا) في عدوكم ووليكم (هُوَ) أي العدل (أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أي إلى الاتقاء من معاصي الله تعالى أو إلى الاتقاء من عذاب الله (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما أمركم ونهاكم (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٨) فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم فيجازيكم على ذلك (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بالعدل والتقوى (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي إسقاط السيئات (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (٩) وهو إيصال الثواب وجملة قوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) بيان للوعد لا محل لها فكأنه قيل : وأي شيء وعده؟ فقال المجيب : لهم مغفرة وأجر عظيم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١٠) أي ملازموها وهذه الجملة مستأنفة أتى بها جمعا بين الترغيب والترهيب إيفاء لحق الدعوة بالتبشير والإنذار(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ

٢٥٥

عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ) أي كونوا مواظبين على طاعة الله ولا تخافوا أحدا في إقامة طاعات الله تعالى (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١١) وسبب نزول هذه الآية وجهان : الأول : أنها نزلت في واقعة عامة وذلك أن المشركين في أول الأمر ـ وهو في ضعف المسلمين ـ يريدون إيقاع البلاء والقتل والنهب بالمسلمين والله تعالى كان يمنعهم عن مطلوبهم إلى أن قوي الإسلام وعظمت شوكة المسلمين. الثاني : أنها نزلت في واقعة خاصة. وفي هذا ثلاثة أوجه :

الأول : أنها نزلت في شأن يهود من بني قريظة أو بني النضير ، وذلك أن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعليا دخلوا عليهم وقد كانوا عاهدوا النبي على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات فطلب منهم مالا قرضا لدية رجلين مسلمين أو معاهدين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين أو حربيين ، فقالوا : اجلس حتى نطعمك ونعطيك ما تريد ، ثم همّوا بالفتك برسول الله وبأصحابه فجاء عمرو بن جحاش برحى عظيمة ليطرحها عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموافقتهم ، فأمسك الله تعالى يده ، فنزل جبريل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبره بذلك فقام في الحال مع أصحابه وخرجوا إلى المدينة.

والثاني : عن قتادة أنها نزلت في قوم من العرب وهم بنو ثعلبة وبنو محارب أرادوا الفتك به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في غزوته فأرسلوا له أعرابيا ليقتله ببطن نخل ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل منزلا وتفرق أصحابه عنه يستظلون في شجر العضاه وعلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيفه بشجرة ، فجاء أعرابي وسلّ سيف رسول الله ثم أقبل عليه وقال : يا محمد من يمنعك مني؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله» قالها ثلاثا فأسقطه جبريل من يده فأخذه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «من يمنعك مني؟» (١) فقال : لا أحد ثم صاح رسول الله بأصحابه فأخبرهم ولم يعاقبه. وفي رواية أن الأعرابي قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، وعلى هذين القولين ، فالمراد من قوله تعالى : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ). تذكير نعمة الله عليهم بدفع الشر عن نبيهم فإنه لو حصل ذلك لكان من أعظم المحن.

والثالث : أنها نزلت في شأن المشركين أنهم رأوا رسول الله وأصحابه بعسفان في غزوة ذي أنمار ، وهي غزوة ذات الرقاع وهي السابعة من مغازيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أن المسلمين قاموا إلى صلاة الظهر بالجماعة فلما صلوا ندم المشركون في عدم إكبابهم عليهم وقالوا : ليتنا أوقعنا بهم في أثناء صلاتهم. فقيل لهم : إن للمسلمين بعد هذه الصلاة صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وآبائهم. فهموا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إلى صلاة العصر فرد الله تعالى كيدهم بأن أنزل جبريل بصلاة

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٣ / ص ٣٦٥).

٢٥٦

الخوف (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي إقرارهم أن لا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) وهو المسند إليه أمور القوم وتدبير مصالحهم.

روي أن بني إسرائيل لما استقروا بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله تعالى بالسير إلى أريحاء أرض الشام وقد سكنها الجبابرة الكنعانيون وقال لهم : «إني كتبتها لكم دارا فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها وإني ناصركم». وكان بنو إسرائيل اثني عشر سبطا فاختار الله تعالى من كل سبط رجلا يكون نقيبا لهم وحاكما فيهم والنقباء الاثنا عشر كما قال ابن إسحاق هم شموع وشوقط ، وكالب ، وبعورك ، ويوشع ، ويعلى ، وكرابيل ، وكدي ، وعمابيل ، وستور ، ويحيى ، وآل. ثم إن هؤلاء النقباء بعثوا إلى مدينة الجبارين الذين أمر موسى عليه‌السلام بالقتال معهم ليقفوا على أحوالهم ويرجعوا بذلك إلى نبيهم موسى عليه‌السلام ، فلما ذهبوا إليهم رأوا أجراما عظيمة وقوة وشوكة فهابوهم ورجعوا ، فحدّثوا قومهم وقد نهاهم موسى عليه‌السلام أن يحدثوهم فنكثوا الميثاق إلا كالب ويوشع وهما اللذان قال الله تعالى في حقهما : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) [المائدة : ٢٣] الآية (وَقالَ اللهُ) لهؤلاء النقباء (إِنِّي مَعَكُمْ) بالعلم والقدرة فأسمع كلامكم وأرى أفعالكم وأعلم ضمائركم وأقدر على إيصال الجزاء إليكم (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) أي التي فرضت عليكم (وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) أي زكاة أموالكم (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) أي بجميعهم (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أي نصرتموهم بالسيف على الأعداء (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي صادقا من قلوبكم. والمراد بهذا الإقراض : الصدقات المندوبة ، وخصها بالذكر تنبيها على شرفها وعلو مرتبتها. (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) وهذا إشارة إلى إزالة العقاب (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وهذا إشارة إلى إيصال الثواب (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد أخذ الميثاق (مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) (١٢) أي أخطأ الطريق المستقيم الذي هو الدين الذي شرعه الله تعالى لهم (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) أي بسبب نقضهم ميثاقهم بتكذيب الرسل وقتل الأنبياء وكتمان صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعناهم أخرجناهم من رحمتنا (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) أي منصرفة عن الانقياد للدلائل.

وقرأ حمزة والكسائي قسية بغير ألف بعد القاف وتشديد الياء أي رديئة يابسة بلا نور (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) يغيرون نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحكم الرجم بعد بيانه أي في التوراة (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أي تركوا بعضا مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا تَزالُ) يا أشرف الخلق (تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) أي تظهر على خيانة صادرة من بني قريظة (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وهم الذين آمنوا كعبد الله بن سلام وأصحابه أو الذين بقوا على الكفر لكنهم بقوا على العهد ولم يخونوا فيه (فَاعْفُ عَنْهُمْ) أي لا تعاقبهم (وَاصْفَحْ) أي أعرض عن صغائر زلاتهم ما داموا باقين على العهد (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٣) إلى الناس.

٢٥٧

قال ابن عباس : إذا عفوت فأنت محسن ، وإذا كنت محسنا فقد أحبك الله (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) في الإنجيل باتباع محمد وبيان صفته وأن لا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا ، كما أخذنا الميثاق على بني إسرائيل اليهود (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أي اتركوا نصيبا عظيما مما أمروا به في الإنجيل من الإيمان ونقضوا الميثاق (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي ألصقنا بين نصارى أهل نجران العداوة بالقتل والبغضاء في القلب بعد أن جعلناهم فرقا أربعة : نسطورية ، والملكانية ، واليعقوبية ، والمرقوسية ، فإن بعضهم يكفر بعضا إلى يوم القيامة (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ) أي يخبرهم في الآخرة (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١٤) من المخالفة والخيانة والكتمان فيجازيهم عليه (يا أَهْلَ الْكِتابِ) أي يا معشر اليهود والنصارى (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) محمد أفضل الخلق (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) أي تكتمون من التوراة والإنجيل كنعت محمد وآية الرجم في التوراة وبشارة عيسى بأحمد في الإنجيل (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي لا يظهر كثيرا مما تكتمونه إذا لم تدع حاجة دينية إلى إظهاره (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) أي رسول وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكِتابٌ مُبِينٌ) (١٥) وهو القرآن لما فيه من إبانة ما خفي على الناس من الحق (يَهْدِي بِهِ) أي بذلك الكتاب (اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) وهو من كان مطلوبه من طلب الدين اتباع الدين الذي يرتضيه الله تعالى (سُبُلَ السَّلامِ) أي إلى طرق السلامة من العذاب وهو دين الإسلام ، وهذا منصوب بنزع الخافض لأن «يهدي» يتعدى إلى الثاني بـ «إلى» أو بـ «اللام». (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ) أي ظلمات فنون الكفر (إِلَى النُّورِ) أي نور الإيمان (بِإِذْنِهِ) أي بتوفيقه والباء تتعلق باتبع ولا يجوز أن تتعلق بيهدي ولا بيخرج إذ لا معنى لها حينئذ ، فدلت الآية على أنه لا يتبع رضوان الله إلا من أراد الله منه ذلك (وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٦) أي يثبتهم على ذلك الدين بعد إجابة دعوة الرسول (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا) وهم نصارى نجران (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) وهذه المقالة لليعقوبية فإنهم قالوا : إن الله قد يحل في بدن إنسان معين أو في روحه. وقيل : لم يصرح به أحد منهم ولكن مذهبهم يؤدي إليه حيث اعتقدوا اتصاف عيسى بصفاته الخاصة أي بأنه يخلق ويحيي ويميت ويدبر أمر العالم. (قُلْ) لهم يا أكرم الخلق : (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي فمن الذي يقدر على دفع شيء من أفعال الله تعالى ومنع شيء من مراده (إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي إن عيسى مماثل لمن في الأرض في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وتغيير الصفات والأحوال ، فلما سلمتم كونه تعالى خالقا للكل مدبرا للكل وجب أن يكون أيضا خالقا لعيسى (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ) فتارة يخلق من غير أصل كخلق السموات والأرض ، وتارة أخرى يخلق من أصل كخلق ما بينهما فينشئ من أصل ليس من جنسه كخلق آدم وكثير من الحيوانات ومن أصل من جنسه إما من ذكر وحده كخلق

٢٥٨

حواء أو من أنثى وحدها كخلق عيسى عليه‌السلام ، أو منهما كخلق سائر الناس ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات كخلق عامة المخلوقات وقد يخلق بتوسط مخلوق آخر كخلق الطير على يد عيسى عليه‌السلام معجزة له وكإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص على يده أيضا فيجب أن ينسب كله إليه تعالى لا إلى من أجرى ذلك على يده (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٧) وإظهار الاسم الجليل للتعليل وتقوية استقلال الجملة (وَقالَتِ الْيَهُودُ) أي إن يهود أهل المدينة (وَالنَّصارى) أي نصارى أهل نجران (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) أي إن اليهود لما زعموا أن عزيزا ابن الله. والنصارى زعموا أن المسيح ابن الله ، ثم زعموا أن عزيرا والمسيح كانا منهم صار ذلك كأنهم قالوا : نحن أبناء الله كما يقول أقارب الملوك عند المفاخرة : نحن الملوك. فالمراد بأبناء الله خاصته

وقال ابن عباس : إن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوّفهم بعقاب الله تعالى فقالوا : تخوّفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله وأحباؤه. والذي قال تلك الكلمة من اليهود : نعمان ويحرى وشاس. (قُلْ) أي لهم يا أكرم الخلق إلزاما وتبكيتا : (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) أي إن صح ما زعمتم فلأي شيء يعذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ وقد اعترفتم بأنه تعالى سيعذبكم في الآخرة أياما بعدد أيام عبادتكم العجل ، ولو كان الأمر كما زعمتم لما صدر عنكم ما صدر ولما وقع عليكم ما وقع ، فأنتم كاذبون لأن الأدب لا يعذب ولده والحبيب لا يعذب حبيبه (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) أي لستم كذلك بل أنتم بشر من جنس من خلقه الله تعالى من غير مزية لكم عليهم (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) أن يغفر له من أولئك المخلوقين وهم الذين آمنوا به تعالى وبرسله وتابوا من اليهودية والنصرانية (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أن يعذبه منهم. وهم الذين كفروا به تعالى وبرسله وماتوا على اليهودية والنصرانية (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) فمن كان ملكه هكذا وقدرته هكذا فكيف يستحق البشر الضعيف عليه تعالى حقا واجبا (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١٨) في الآخرة فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته (يا أَهْلَ الْكِتابِ) أي يا أهل التوراة والإنجيل (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُبَيِّنُ لَكُمْ) أي مبينا لكم الشرائع (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أي على حين انقطاع من الأنبياء.

فروي عن سلمان أنه قال : فترة ما بين عيسى ومحمد ستمائة سنة. أخرجه البخاري. وكان بينهما أربعة من الأنبياء ثلاثة من بني إسرائيل كما قال تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) [يس : ١٤] وواحد من العرب وهو خالد بن سنان وقال في حقه نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نبي ضيعه قومه» (١) (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) أي إنما بعثنا إليكم الرسول في وقت فترة من

__________________

(١) رواه الألباني في السلسلة الضعيفة (٢٧٩) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (١ : ٤٢) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٢ : ٣٢٠) ، وابن كثير في البداية والنهاية (٢ : ٢٧١).

٢٥٩

إرسال الرسل كراهة أن تقولوا إذا سئلتم عن أعمالكم يوم القيامة : ما جاءنا بشير بالجنة ولا نذير بالنار ، وقد انقمست آثار الشرائع السابقة وانقطعت أخبارها فلا تعتذروا بذلك (فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ) كامل البشارة (وَنَذِيرٌ) كامل النذارة (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٩) فكان قادرا على الإرسال تترى كما أرسل الرسل بين موسى وعيسى وكان بينهما ألف وسبعمائة سنة وألف نبي (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) لأنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء فمنهم السبعون الذين اختارهم موسى من قومه فانطلقوا معه إلى الجبل ومنهم أولاد يعقوب فإنهم كانوا على قول الأكثرين أنبياء (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) فقد تكاثر فيهم الملوك ، ثم إن أقارب الملوك يقولون عند المفاخرة نحن الملوك.

قال السدي : أي وجعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد ما كنتم في أيدي القبط يستعبدونكم. وقيل : كل من كان مستقلا بأمر نفسه ومعيشته ولم يكن محتاجا في مصالحه إلى أحد فهو ملك. وقال الضحاك : كانت منازلهم واسعة وفيها مياه جارية وكانت لهم أموال كثيرة فمن كان كذلك كان ملكا. وعن أبي سعيد الخدري عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكا». وقال قتادة : سموا ملوكا لأنهم كانوا أول من ملك الخدم ولم يكن قبلهم خدم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص : من كان له امرأة يأوي إليها ومسكن يسكنه فهو غني ، ثم إن كان له خادم بعد ذلك فهو من الملوك. (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (٢٠) من فلق البحر وإغراق العدو وإيراث أموالهم وإنزال المن والسلوى ، وإخراج المياه العذبة من الحجر وتظليل الغمام فإن ذلك لم يوجد في غير بني إسرائيل (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) أي المباركة (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي وهبها الله لكم ميراثا من أبيكم إبراهيم عليه‌السلام.

روي أن سيدنا إبراهيم عليه‌السلام لما صعد جبل لبنان قال له الله تعالى : انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس وهو ميراث لذريتك. وكان بنو إسرائيل يسمون أرض الشام الموعد. قال ابن عباس : والأرض هي الطور وما حوله (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) أي لا ترجعوا إلى خلفكم أي إلى مصر خوف العدو (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) (٢١) في الدين والدنيا لأنهم صاروا شاكين في صدق موسى عليه‌السلام فيصيروا كافرين بالإلهية والنبوة : فإن موسى قد أخبر أن الله تعالى جعل تلك الأرض لهم فكان ذلك وعدا بأن الله تعالى ينصرهم على العدو ، ولأن الله تعالى منعهم عن المن والسلوى ثم بعث موسى عليه‌السلام اثني عشر نقيبا ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأراضي فلما دخلوا تلك البلاد رأوا أجساما عظيمة هائلة ، ثم انصرفوا إلى موسى عليه‌السلام فأخبروه بالواقعة فأمرهم أن يكتموا ما شاهدوه فلم يقبلوا قوله إلا رجلان منهم وهما يوشع وكالب فإنهما سهلا

٢٦٠