مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

للاختلاف بالذات بين التفضيلين على أن المراد بالتفضيل الأول ما أعطاهم الله تعالى عاجلا في الدنيا من الغنيمة والظفر ، والذكر الجميل الحقيق بكونه درجة واحدة وبالتفضيل الثاني ما أنعم به في الآخرة من الدرجات العالية كأنه قيل : وفضلهم عليهم في الدنيا درجة واحدة وفي الآخرة درجات لا تحصى. أما أولو الضرر فهم مساوون للمجاهدين ويدل على المساواة النقل والعقل. أما النقل : فقوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [التين : ٥ ، ٦] وذكر بعض المفسرين في تفسير ذلك أن من صار هرما كتب الله له أجر ما كان يعمله قبل هرمه ، غير منقوص من ذلك شيئا. وأما العقل : فالمقصود من جميع الطاعات استنارة القلب بنور معرفة الله تعالى فإن حصل الاستواء فيه للمجاهد والقاعد فقد حصل الاستواء في الثواب ، وإن كان القاعد أكثر خطأ من هذا الاستغراق كان هو أكثر ثوابا.

وقال بعضهم : والمراد بقوله : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ) لدفع التكرار هو من كان مجاهدا في كل الأمور بالظاهر والقلب. وهو أشرف أنواع المجاهدة ، وحاصل هذا الجهاد صرف القلب من الالتفات إلى غير الله إلى الاستغراق في طاعة الله ولما كان هذا المقام أعلى جعل فضيلته درجات. (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي ملك الموت وأعوانه وهم ستة : ثلاثة منهم يلون قبض أرواح المؤمنين. وثلاثة يلون قبض أرواح الكفار. (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بترك الهجرة واختيار مجاورة الكفرة الموجبة للإخلال بأمور الدين فإن هذه الآية نزلت في ناس من مكة قد أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة ، فقتلوا يوم بدر مع الكفار منهم : علي بن أمية بن خلف ، والحرث بن زمعة ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو العاص بن منبه بن الحجاج ، وأبو قيس بن الفاكه (قالُوا) أي الملائكة لهم حين القبض : (فِيمَ كُنْتُمْ) أي في أيّ شيء كنتم من أمر دينكم أي أكننتم في أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم كنتم مشركين أو فيم كنتم في حرب محمد أو في حرب أعدائه. (قالُوا) معتذرين اعتذارا غير صحيح : (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) أي كنا مقهورين في أرض مكة في أيدي الكفار (قالُوا) أي الملائكة لهم توبيخا مع ضرب وجوههم وأدبارهم (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) أي إنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم فبقيتم بين الكفار.

وقال ابن عباس : أي ألم تكن المدينة آمنة فتهاجروا إليها (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ) في الآخرة (جَهَنَّمُ) كما أن مأواهم في الدنيا دار الكفر لتركهم الفريضة فـ «مأواهم» مبتدأ ، و «جهنم» خبره ، والجملة خبر لـ «أولئك». وهذه الجملة خبران وقوله تعالى : «قالوا فيم كنتم» حال من «الملائكة» أو هو الخبر والعائد منه محذوف أي قالوا لهم : (وَساءَتْ مَصِيراً) (٩٧) أي بئس مصيرهم جهنم (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) أي الصبيان أو المماليك (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) أي لا

٢٢١

يقدرون على حيلة الخروج ولا نفقة أو كان بهم مرض ، أو كانوا تحت قهر قاهر يمنعهم من تلك المهاجرة (وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) (٩٨) أي لا يعرفون طريقا ولا يجدون من يدلهم على الطريق. كعياش بن أبي ربيعة بن هشام ، وسيدنا عبد الله بن عباس وأمه ـ اسمها لبابة ـ كما قال : كنت أنا وأمي ممن عفا الله عنه بهذه الآية (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) وذكر العفو بكلمة «عسى» لا بالكلمة الدالة على القطع ، لأن الإنسان لشدة نفرته عن مفارقة الوطن ربما ظن نفسه عاجزا عنها ، مع أنه لا يكون كذلك في الحقيقة فكانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام (وَكانَ اللهُ عَفُوًّا) لما كان منهم (غَفُوراً) (٩٩) لمن تاب منهم (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) في المعيشة أي ومن يهاجر في طاعة الله إلى بلد آخر يجد في أرض ذلك البلد من الخير والنعمة ما يكون سببا لرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه في بلدته الأصلية ، وذلك لأن من ذهب إلى بلدة أجنبية فإذا استقام أمره في تلك البلدة ووصل ذلك الخبر إلى أهل بلدته خجلوا من سوء معاملتهم معه ورغمت أنوفهم بسبب ذلك (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) أي إلى موضع أمر الله ورسوله (ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) قبل أن يصل لي المقصد وإن كان خارج بابه (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي فقد وجب أجر هجرته عند الله بإيجابه على نفسه بحكم الوعد والتفضل والكرم ، لا بحكم الاستحقاق الذي لو لم يفعل لخرج عن الإلهية (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما كان منه من القعود إلى وقت الخروج (رَحِيماً) (١٠٠) بإكمال أجر الهجرة ، فكذلك كل من قصد فعل طاعة ولم يقدر على إتمامها كتب الله له ثوابها كاملا.

روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل عليه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) إلى آخر الآيات. بعث بها إلى مكة فتليت على المسلمين الذين كانوا فيها إذ ذاك فسمعها رجل من بني ليث ـ شيخ مريض كبير يقال له : جندع بن ضمرة ـ فقال لبنيه : احملوني فإني لست من المستضعفين وإني لأهتدي الطريق والله لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة فلما بلغ التنعيم أشرف على الموت فصفق بيمينه على شماله ، ثم قال : اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك فمات ، فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : توفى بالمدينة لكان أتم أجرا ، وضحك المشركون وقالوا : ما أدرك ما طلب فأنزل الله تعالى قوله : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ) الآية. قالوا : كل هجرة في غرض ديني من طلب علم أو حج أو جهاد أو نحو ذلك فهي هجرة إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) أي إذا سافرتم ـ أيّ مسافرة كانت ـ فليس عليكم مأثم في أن تردوا الصلاة من أربع ركعات إلى ركعتين إذا كان السفر طويلا لغير معصية. وهو عند الشافعي ومالك أربعة برد وهي مرحلتان ، وعند أبي حنيفة ثلاثة أيام بلياليهن.

وروي عن عمر أنه قال : يقصر في يوم تام وبه قال الزهريّ والأوزاعي وقال أنس بن مالك :

٢٢٢

المعتبر خمس فراسخ (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي إن خفتم أن يتعرضوا لكم بما تكرهونه من القتال وغيره. وقال ابن عباس : أي إن علمتم أن يقتلوكم في الصلاة. وهذا الشرط بيان للواقع إذ ذاك ، وهو أن غالب أسفار نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه لم تخل من خوف العدو لكثرة المشركين ، وأهل الحرب إذ ذاك فحينئذ لا يشترط الخوف بل للمسافر القصر مع الأمن لما في الصحيحين أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سافر بين مكة والمدينة ، لا يخاف إلا الله عزوجل فكان يصلي ركعتين.قال يعلى بن أمية : قلت لعمر : إنما قال الله تعالى : (إِنْ خِفْتُمْ) وقد أمن الناس. قال عمر : قد عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» (١) رواه مسلم. (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) (١٠١) أي إن العداوة الحاصلة بينكم وبين الكافرين قديمة ، والآن قد أظهرتم خلافهم في الدين ، وازدادت عداوتهم بسبب شدة العداوة وقصدوا إتلافكم إن قدروا ، فإن طالت صلاتكم فربما وجدوا الفرصة في قتلكم فعلى هذا رخصت لكم في قصر الصلاة. (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) أي إذا كنت يا أشرف الخلق مع المؤمنين في خوفهم فأردت أن تقيم بهم الصلاة فاجعلهم طائفتين ، فلتقم منهم طائفة معك فصل بهم ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدو ليحرسوكم منهم (وَلْيَأْخُذُوا) أي الطائفة الذين يصلون معك (أَسْلِحَتَهُمْ) من التي لا تشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر فإن ذلك أقرب إلى الاحتياط وأمنع للعدو من الإقدام عليهم (فَإِذا سَجَدُوا) أي القائمون معك وأتموا صلاتهم بعد نية المفارقة (فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) أي فلينصرفوا من ورائكم إلى مصاف أصحابهم بإزاء العدو للحراسة ، ثم يبقى الإمام قائما في الركعة الثانية (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) في الركعة الثانية ثم يجلس الإمام في التشهد إلى أن يصلوا ركعة ثانية ، ثم يسلم الإمام بهم وهذا قول سهل بن أبي حثمة ومذهب الشافعي. (وَلْيَأْخُذُوا) أي هذه الطائفة (حِذْرَهُمْ) من العدو (وَأَسْلِحَتَهُمْ) معهم وإنما ذكر الحذر هنا لأن العدو لم يتنبه للمسلمين في أول الصلاة بل يظنون كونهم قائمين لأجل المحاربة فإذ قاموا في الركعة الثانية ظهر للكفار كونهم في الصلاة فحينئذ ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم. فخص الله تعالى هذا الوضع بزيادة الحذر من الكفار (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) أي تمنوا نسيانكم عن الأسلحة وما تستمتع بها في الحرب إذا قمتم إلى الصلاة فينالوا منكم غرة وينتهزوا فرصة فيشدوا عليكم واحدة في الصلاة (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) أي لا وزر عليكم في وضع الأسلحة إن تعذر حملها إما لثقلها بسبب مطر أو مرض أو لإيذاء من في الجنب. (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) أي احترزوا من العدو ما استطعتم لئلا يهجموا

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب : صلاة المسافر ، ومسلم في كتاب الصلاة ، باب : ١.

٢٢٣

عليكم. وهذه الآية تدل على وجوب الحذر عن جميع المضار المظنونة ، وبهذا الطريق كان الإقدام على العلاج بالدواء والاحتراز عن الوباء وعن الجلوس تحت الجدار المائل واجبا والله أعلم. (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (١٠٢) في الدنيا بأن يخذلهم وينصركم عليهم فاهتموا بأموركم ولا تهملوا في مباشرة الأسباب كي يحل بهم عذابه تعالى بأيديكم بالقتل والأسر والنهب (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي فإذا فرغتم من صلاة الخوف فداوموا على ذكر الله في جميع الأحوال حتى في حال المسايفة والقتال ، فإن ما أنتم عليه من الخوف والحذر مع العدو جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه ، فإذا سكنت قلوبكم من الخوف فأدوا الصلاة التي دخل وقتها حينئذ على الحالة التي كنتم تعرفونها ولا تغيروا شيئا من أحوالها وهيئاتها.

وقيل : معنى الآية فإذا أردتم الصلاة فصلوا قياما حال اشتغالكم بالمسايفة والمقارعة ، وقعودا جاثين على الركب حال اشتغالكم بالمراماة ، وعلى جنوبكم حال ما تكثر الجراحات فيكم فتسقطون على الأرض ، فإذا زال الخوف عنكم بانقضاء الحرب فأفضوا ما صليتم في تلك الأحوال. وهذا ظاهر على مذهب الشافعي من إيجاب الصلاة على المحارب في حال المسايفة إذا حضر وقتها وإذا اطمأنوا فعليهم القضاء.

وقال ابن عباس : أي فإذا فرغتم من صلاة الخوف فصلوا لله قياما للصحيح وقعودا للمريض وعلى الجنوب للجريح والمريض فإذا ذهب منكم الخوف ورجعتم إلى منازلكم فأتموا الصلاة أربعا (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (١٠٣) أي فرضا موقتا (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) أي لا تعجزوا ولا تتوانوا في طلب الكفار بالقتال. نزلت هذه الآية في شأن بدر الصغرى وذلك لما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طائفة في طلب أبي سفيان وأصحابه فشكوا الجراحات حين رجعوا من أحد (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) أي إن كنتم تتوجعون بالجراح فإنهم يتوجعون بالجراح. فحصول الألم قدر مشترك بينكم وبينهم ، فلم يصر خوف الألم مانعا عن قتالكم فكيف صار مانعا لكم عن قتالهم (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) أي وأنتم ترجون من الله ثوابه وتخافون عذبه لأنكم تعبدون الله تعالى ، والمشركون يعبدون الأصنام فلا يصح منهم أن يرجوا منها ثوابا أو يخافوا منها عقابا فيجب أن تكونوا أرغب منهم في الحرب وأصبر عليها.

وقرأ الأعرج «أن تكونوا» بفتح الهمزة أي لأن تكونوا. (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١٠٤) أي لا يكلفكم شيئا إلا بما هو عالم بأنه سبب لصلاحكم في دينكم ودنياكم (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) أي بين طعمة وزيد بن سمين (بِما أَراكَ اللهُ) أي بما علمك الله في القرآن. وسمي العلم الذي بمعنى الاعتقاد بالرؤية لأن العلم اليقيني المبرأ عن الريب يكون جاريا

٢٢٤

مجرى الرؤية في القوة والظهور ، وكان عمر يقول : لا يقولن أحدكم : قضيت بما أراني الله تعالى فإن الله تعالى لم يجعل ذلك إلا لنبيه ، والرأي منا يكون ظنا لا علما. نزلت هذه الآية في شأن رجل من الأنصار يقال له : طعمة ابن أبيرق من بني ظفر سرق درعا من جاره قتادة بن النعمان وهي في جراب دقيق ، فصار الدقيق يتناثر من خرق فيه ، فخبأها عند زيد بن سمين اليهودي ، فالتمست الدرع عند طعمة ، فلم توجد ، فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها. فقال : دفعها إليّ طعمة وشهد له ناس من اليهود. فقالت بنو ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نشهد إن اليهودي هو السارق لئلا نفتضح بل عزموا على الحلف فذهبوا وشهدوا زورا ، ولم يظهر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم قادح فيهم فهمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بضرب اليهودي أو بقطع يده لثبوت المال عنده. فأعلمه الله الحال بالوحي فهمّ أن يقضي على طعمة فهرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا ليسرق متاع أهله فوقع عليه فقتله ومات مرتدا في مكة. (وَلا تَكُنْ) يا أشرف الخلق (لِلْخائِنِينَ) أي لأجل المنافقين وللذب عنهم وهم طعمة وقومه بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر. كما أخرجه الترمذي من حديث قتادة بن النعمان (خَصِيماً) (١٠٥) أي مخاصما لمن كان بريئا عن الذنب وهو اليهودي (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) من همك بضرب اليهودي زيد بن سمين تعويلا على شهادتهم لأنهم كانوا في الظاهر مسلمين. فاستغفاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب ذلك الهمّ بالحكم الذي لو وقع لكان خطأ في نفسه وإن كان معذورا عند الله فيه فأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستغفار لهذا القدر فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (١٠٦) أي مبالغا في المغفرة والرحمة لمن يستغفره. (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) طعمة ومن عاونه من قومه من علم كونه سارقا (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً) (١٠٧) فإن طعمة خان في الدرع وأثم في نسبة اليهودي إلى تلك السرقة ، وطلب من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدفع السرقة عنه ويلحقها باليهودي. وهذا يبطل رسالة الرسول ومن حاول إبطاله ذلك وإظهار كذبه فهو كافر. وقيل : إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات.

وروي عن عمر أنه أمر بقطع يد السارق فجاءت أمه تبكي وتقول : هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه. فقال عمر : كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول الأمر. (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) أي يستترون منهم حياء وخوفا من ضرر (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) أي ولا يستحيون منه تعالى ولا يخافون من عذابه تعالى (وَهُوَ مَعَهُمْ) بعلمه ورؤيته وقدرته (إِذْ يُبَيِّتُونَ) أي يقدرون في أذهانهم (ما لا يَرْضى) أي الله (مِنَ الْقَوْلِ) وهو أن طعمة قال : أرمي اليهودي بأنه هو الذي سرق الدرع ، وأحلف أني لم أسرقها فيقبل الرسول يميني لأني على دينه ولا يقبل يمين اليهودي. (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) (١٠٨) لا يعزب عنه تعالى شيء ولا يفوت (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) أي أنتم يا قوم طعمة (جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وأمثاله في الدنيا.

٢٢٥

وقرأ عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب عنه بالإفراد (فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) عند تعذيبهم (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) (١٠٩) أي أم من الذي يكون حافظا لهم من عذاب الله (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) أي قبيحا ويحزن به غيره كما فعل طعمة من سرقة الدرع لقتادة ومن رمي اليهودي بالسرقة. (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) كالحلف الكاذب (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) بالتوبة الصادقة (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً) لذنوبه (رَحِيماً) (١١٠) حيث قبل توبته (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً) أي ذنبا (فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) فلا يتعدى ضرره إلى غيره فليحترز عن إقبال نفسه للعقاب عاجلا وآجلا والكسب عبارة عما يفيد جر منفعة أو دفع مضرة ، ولذلك لم يجز وصف الله تعالى بذلك (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بما في قلب عبده عند إقدامه على التوبة (حَكِيماً) (١١١) تقتضي حكمته أن يتجاوز عن التائب وأن لا يحمل نفسا وازرة وزر نفس أخرى (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً) أي صغيرة أو قاصرة على الفاعل ، أو ما لا ينبغي فعله بالعمد أو بالخطإ (أَوْ إِثْماً) أي كبيرة أو ما يتعدى إلى الغير كالظلم والقتل أو ما يحصل بالعمد (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ) أي يقذف بذلك الذنب (بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (١١٢) أي فقد أوجب على نفسه عقوبة بهتان عظيم وعقوبة ذنب بيّن. فالبهتان أن ترمي أخاك بأمر منكم وهو بريء منه فصاحب البهتان مذموم في الدنيا أشد الذم ومعاقب في الآخرة أشد العقاب ، فقوله تعالى : (بُهْتاناً) إشارة إلى الذم العظيم في الدنيا. وقوله تعالى : (إِثْماً مُبِيناً) إشارة إلى العقاب العظيم في الآخرة (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ) بإعلامك ما همّ عليه بالوحي (وَرَحْمَتُهُ) بتنبيهك على الحق أو المعنى لو لا أن الله خصك بالفضل وهو النبوة ، وبالرحمة وهي العصمة (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) أي لأرادت طائفة من قوم طعمة أن يلقوك في الحكم الباطل وذلك لأن قوم طعمة قد عرفوا أنه سارق ، ثم سألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجادل عنه ويبرئه عن السرقة وينسب تلك السرقة إلى اليهودي (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) بسبب تعاونهم على الإثم والعدوان وشهادتهم بالزور والبهتان (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) أي إنهم وإن سعوا في إلقائك في الباطل فأنت ما وقعت فيه لأنه تعالى عاصمك ولأنك بنيت الأمر على ظاهر الحال وأنت ما أمرت إلا ببناء الأحكام على الظواهر (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن (وَالْحِكْمَةَ) أي علم الشرائع (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) من أمور الدين وأسرار الكتاب والحكمة وأخبار الأولين وحيل المنافقين (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (١١٣) وهذا من أعظم الدلائل على أن العلم أشرف المناقب والفضائل مع أن الله تعالى ما أعطى الخلق من العلم إلا القليل (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا) في نجوى (مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) واجبة أو مندوبة (أَوْ مَعْرُوفٍ) وهو أصناف أعمال البر كالقرض وإغاثة الملهوف (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) عند وقوع المعاداة بينهم من غير مجاوزة حدود الشرع في ذلك وذلك كما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلام ابن آدم عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف

٢٢٦

أو نهي عن منكر أو ذكر الله» (١). (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي هذا المذكور من الصدقة وفنون الجميل والإصلاح ، أو ذلك الأمر بهذه الأقسام الثلاثة كأنه قيل : ومن يأمر بذلك ويجوز أن يراد بالفعل الأمر ، فعبر عن الأمر بالفعل لأن الأمر فعل من الأفعال أي ومن يأمر بذلك (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي طلب رضوان الله (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (١١٤) أما إذا أتى بذلك للرياء والسمعة صار من أعظم المفاسد. وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلوب من الأعمال الظاهرة رعاية أحوال القلب في إخلاص النية وتصفية القلب عن داعية الالتفات إلى غرض سوى طلب رضوان الله.

وقرأ أبو عمرو وحمزة «يؤتيه» بالياء مناسبة للغيب في قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ). والباقون بنون العظمة مناسبة لقوله تعالى الآتي نوله ونصله (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (١١٥).

روي أن طعمة بن أبيرق لما رأى أن الله تعالى هتك ستره وبرأ اليهودي عن تهمة السرقة ارتد وذهب إلى مكة ، ونقب جدار إنسان لأجل السرقة ، فتهدم الجدار عليه ومات ، فنزلت هذه الآية ، ومعناها : ومن يخالف الرسول في الحكم من بعد ما ظهر له بالدليل صحة دين الإسلام ويتبع دينا غير دين الموحدين نتركه إلى ما اختار لنفسه ، ونخله إلى ما اعتمد عليه في الدنيا وندخله جهنم في الآخرة وبئس مصيره جهنم. وذلك أن طعمة قد تبين له بما أوحى الله تعالى من أمره ـ من أنه سارق ـ ما دله ذلك على صحة نبوة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعادى الرسول وأظهر الشقاق وترك دين الإسلام واتبع دين عبادة الأصنام (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) إذا مات على الشرك (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) أي الشرك (لِمَنْ يَشاءُ) سواء حصلت التوبة أو لم تحصل.

روي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أن شيخا من العرب جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ولم أواقع المعاصي جراءة على الله تعالى ، وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربا وأني لنادم تائب مستغفر فما ترى حالي عند الله تعالى؟ فنزلت هذه الآية. (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (١١٦) عن الحق فإن الشرك أعظم أنواع الضلالة أما من لم يشرك بالله لم يكن ضلاله بعيدا فلا يصير محروما عن الرحمة ، ثم بيّن الله تعالى كون الشرك ضلالا بعيدا فقال : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) أي ما يعبد المشركون من أهل مكة إلا أوثانا يسمونها باسم الإناث كقولهم : اللات ، والعزى ، ومناة. واللات : تأنيث العزيز. ومناة : تأنيث المنان. أو لأنهم كانوا يزينونها على هيآت النسوان.

__________________

(١) رواه ابن ماجة في المقدمة ، باب : كف اللسان في الفتنة.

٢٢٧

وقرأت عائشة رضي‌الله‌عنها «إلّا أوثانا». وابن عباس «إلّا إثنا». جمع وثن مثل أسد وأسد ، والهمزة بدل من الواو المضمومة. (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ) أي وما يعبدون إلّا شيطانا شديد البعد عن الطاعة طرده الله من كل خير لأن إبليس هو الذي أمرهم بعبادة الأوثان فكانت طاعته في ذلك عبادة له. (وَقالَ) أي الشيطان عند ذلك (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) (١١٨) أي لأجعلن لي من عبادك حظا مقدرا معينا وهم الذين يتبعون خطوات إبليس ويقبلون وساوسه.

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من كل ألف واحد لله وسائره للناس ولإبليس».(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) عن الهدى (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) أي ألقين في قلوبهم الأماني وهي تورث شيئين :الحرص ، والأمل. وهما يستلزمان أكثر الأخلاق الذميمة ، ويلازمان للإنسان. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يهرم ابن آدم ويشب معه اثنان : الحرص والأمل»(١). اه. فالحرص يستلزم ركوب الأهوال فإذا اشتد حرصه على الشيء فقد لا يقدر على تحصيله إلّا بمعصية الله وإيذاء الخلق ، وإذا طال أمله نسي الآخرة وصار غريقا في الدنيا فلا يكاد يقدم على التوبة ولا يكاد يؤثر فيه الوعظ ، فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة (وَلَآمُرَنَّهُمْ) بالتبتيك أي شق آذان الناقة (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) فإن العرب كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها (وَلَآمُرَنَّهُمْ) بالتغيير (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) صورة أو صفة كإخصاء العبيد وفقء العيون وقطع الآذان والوشم والوشر ، ووصل الشعر. فإن المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفا عوروا عين فحلها. ويدخل في هذه الآية التخنث والسحاقات لأن التخنث عبارة عن ذكر يشبه الأنثى والسحق عبارة عن أنثى تشبه الذكر وعموم اللفظ يمنع الخصاء مطلقا ، لكن الفقهاء رخصوا في البهائم للحاجة فيجوز في المأكول الصغير وبحرم في غيره. (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ) بأن فعل ما أمره الشيطان به وترك ما أمره الرحمن به (فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) (١١٩) أي بتضييع أصل ماله وهو الدين الفطري كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة ـ أي دين الإسلام ـ ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» (٢). وذلك لأن طاعة الله تفيد المنافع العظيمة الدائمة وطاعة الشيطان تفيد

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٣ / ص ١١٥).

(٢) رواه البخاري في كتاب القدر ، باب : الله أعلم بما كانوا عاملين ، ومسلم في كتاب القدر ، باب : ٢٢ ، وأبو داود في كتاب السنّة ، باب : في ذراري المشركين ، والترمذي في كتاب القدر ، باب : ٥ ، والموطأ في كتاب الجنائز ، باب : جامع الجنائز ، وأحمد في (م ٢ / ص ٢٣٣).

٢٢٨

المنافع القليلة المنقطعة ويعقبها العذاب الأليم (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) بأن يلقي الشيطان في قلوبهم أنه ستطول أعمارهم وينالون من الدينا آمالهم ومقاصدهم ويقع في قلوبهم أن الدنيا دول فربما تيسرت لهم كما تيسرت لغيرهم ، وأيضا أن الشيطان يعدهم بأنه لا قيامة ولا جزاء فاجتهدوا في استيفاء اللذات الدنيوية (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) (١٢٠) وهو أن يظن الإنسان بالشيء أنه نافع ولذيذ ، ثم يتبين اشتماله على أعظم الآلام والمضار وجميع الدنيا كذلك (أُولئِكَ) أي أولياء الشيطان وهم الكفار (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها) أي جهنم (مَحِيصاً) (١٢١) أي معدلا ومهربا (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي أقروا بالإيمان (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الطاعات تصديقا لإقرارهم (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين في الجنة مكثا طويلا لا يخرجون منها (أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي وعدهم بذلك الإدخال وعدا لا خلف فيه وحق ذلك حقا.

فالأول : مؤكد لنفسه.

والثاني : مؤكد لغيره. (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (١٢٢) أي لا أحد أصدق من الله وعدا وهذا توكيد ثالث ، وفائدة هذه التوكيدات لمواعيد الشيطان الكاذبة وترغيب للعباد في تحصيل ما وعده الله (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) أي ليس الثواب الذي تقدم الوعد به في قوله تعالى : (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ بِأَمانِيِّكُمْ) يا معشر المؤمنين أن يغفر لكم وإن ارتكبتم الكبائر أي فإنكم تمنيتم أن لا تؤاخذوا بسوء بعد الإيمان ولا أماني اليهود والنصارى فإنهم قالوا : لن يدخل الجنة إلّا من كان هودا أو نصارى ، وقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه فلا يعذبنا ، وقالوا : لن تمسنا النار إلّا أياما معدودة وليس الأمر كذلك فإنه تعالى يخص بالعفو أو الرحمة من يشاء أي ليس يستحق ذلك الثواب بالأماني ، وأنّى يستحق بالإيمان والعمل الصالح. (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) فالمؤمن يجزى عند عدم التوبة إما في الدنيا بالمصيبة ، أو بعد الموت قبل دخول الجنة أو بإحباط ثواب طاعته بمقدار عقاب تلك المعصية ، والكافر يجزى في الدنيا بالمحن والبلاء وفي الآخرة دائما.

روي أنه لما نزلت هذه الآية؟ قال أبو بكر الصديق : كيف الصلاح بعد هذه الآية فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض! أليس يصيبك الأذى ـ أي البلاء ـ والحزن؟!» قال : بلى ، يا رسول الله. قال : «فهو ما تجزون»(١). وعن عائشة رضي‌الله‌عنها أن رجلا قرأ هذه الآية فقال : أنجزى بكل ما نعمل لقد هلكنا فبلغ كلامه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يجزى المؤمن في الدنيا بمصيبة في

__________________

(١) رواه أحمد في (م ١ / ص ١١).

٢٢٩

جسده وما يؤذيه»(١). وعن أبي هريرة قال : لما نزلت هذه الآية بكينا وحزنا وقلنا : يا رسول الله ما أبقت هذه الآية لنا شيئا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبشروا فإنه لا يصيب أحدا منكم مصيبة في الدنيا إلّا جعلها الله له كفارة ، حتى الشوكة التي تقع في قدمه»(٢). (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي مجاوزا عن حفظ الله ونصرته (وَلِيًّا) أي حافظا يحفظه (وَلا نَصِيراً) (١٢٣) ينصره فشفاعة الأنبياء والملائكة في حق العصاة إنما تكون بإذن الله تعالى وإذا كان الأمر كذلك فلا ولي لأحد ولا نصير لأحد إلّا الله تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) أي من يعمل بعض الصالحات كائنا (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (١٢٤) أي ولا ينقصون قدر منبت النواة من ثواب أعمالهم فإذا لم ينقص الله الثواب فجدير أن لا يزيد في العقاب.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة عن عاصم يدخلون الجنة بالبناء للمفعول وكذلك في سورة «مريم» وفي «حم المؤمن».

قال مسروق : لما نزل قوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ). وقال أهل الكتاب للمسلمين : نحن وأنتم سواء. فنزلت هذه الآية (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أي لا أحد أحسن دينا ممن عرف ربه بقلبه ، وأقر بربوبيته وبعبودية نفسه (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي والحال أنه آت بالحسنات تارك للسيئات (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) حال للمتبوع أو للتابع وإنما دعا سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخلق إلى دين إبراهيم لأنه اشتهر عند كل الخلق أن إبراهيم ما كان يدعو إلّا إلى الله تعالى وشرعه مقبول عند الكل ، لأن العرب لا يفتخرون بشيء كافتخارهم بالانتساب إلى إبراهيم. وأما اليهود والنصارى فلا شك في كونهم مفتخرين به (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) (١٢٥).

روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يسمى أبا الضيفان ، وكان منزله على ظهر الطريق ، يضيف من مر به من الناس. فأصحاب الناس أزمة فاجتمعوا في بابه فحشروا إلى بابه يطلبون الطعام ، وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر ، فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي بمصر ، فقال خليله لغلمانه : لو كان إبراهيم يطلب الميرة لنفسه لفعلت ولكن يريدها للأضياف وقد أصابنا ما أصاب الناس من الشدة ، فرجع غلمانه فمروا ببطحاء أي بأرض ذات حصى فملأوا منها الغرائر حياء من الناس حيث كانت إبلهم فارغة وجاءوا بها إلى منزل إبراهيم وألقوها فيه وتفرقوا وأخبره أحدهم بالقصة ، فاغتم لذلك غما شديدا ، فغلبته عيناه ، وعمدت سارة إلى الغرائر ففتحتها فإذا فيها أجود حوّارى بضم الحاء المهملة وتشديد الواو وفتح الراء ،

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٦ / ص ٦٦).

(٢) رواه الحميدي في المسند (١١٤٨).

٢٣٠

وهو الدقيق الذي نخل مرة بعد أخرى. فأمرت الخبازين فخبروا فأطعمت الناس فاستيقظ إبراهيم فوجد رائحة الخبز ، فقال : من أين هذا لكم؟ فقالت سارة : من خليلك المصري. فقال بل من عند خليلي الله عزوجل فسماه الله تعالى خليلا. وقال شهر بن حوشب : هبط مالك في صورة رجل وذكر اسم الله بصوت رخيم شجي فقال إبراهيم عليه‌السلام : اذكره مرة أخرى ، فقال لا أذكره مجانا ، فقال : لك مالي كله فذكره الملك بصوت أشجى من الأول. فقال : اذكره مرة ثالثة ولك أولادي. فقال الملك : أبشر فإني ملك لا أحتاج إلى مالك وولدك وإنما كان المقصود امتحانك ، فلما بذل المال والأولاد على سماع ذكر الله فحقا اتخذه الله خليلا (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يختار منهما ما يشاء لمن يشاء (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ) من أهل السموات والأرض (مُحِيطاً) (١٢٦) بالقدرة والعلم (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) أي يسألك يا أشرف الخلق جماعة من الصحابة عن أحوال كثيرة مما يتعلق بحق النساء فالذي بين الله حكمه فيما سبق في أول هذه السورة أحال بيان الحكم في ذلك ، والذي لم يبين حكمه بين هنا وذلك قوله تعالى : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي قل يا أشرف الخلق لهم الله تعالى قد بيّن لكم أحوال النساء والمتلو (فِي الْكِتابِ) في أول هذه السورة قد بيّن لكم (فِي يَتامَى النِّساءِ) أي في شأنهن فـ «ما» معطوف على المبتدأ وهذا متعلق بـ «يتلى» وذلك المتلو في الكتاب هو قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) [النساء : ٣] (اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) أي اللاتي لا تعطونهن ما وجب لهن من الميراث أو الصداق وذلك لأنهم يورثون الرجال دون النساء والكبار دون الصغار (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) وهذا يحتمل الرغبة والنفرة فإن حمل على الرغبة كان المعنى ، وترغبون عن أن تنكحوهن لما لهن وجمالهن بأقل من صداقهن ، وإن حمل على النفرة كان المعنى : وترغبون في أن تنكحوهن لدمامتهن وتمسكوهن رغبة في مالهن. وهذه الجملة معطوف على الصلة عطف المثبتة على المنفية ويجوز أن تكون حالا من فاعل تؤتونهن والتأويل وأنتم ترغبون وهذا إذا أريد بقوله تعالى : (ما كُتِبَ لَهُنَ) صداقهن.

روى مسلم عن عائشة قالت : هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن ينكحها وينقص صداقها عن عادة نسائها فنهوا عن نكاحهن إلّا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن. قالت عائشة : فاستفتى الناس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) إلى قوله تعالى : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) فبين الله لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بعادتها في إكمال الصداق وإذا كانت مرغوبا عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها ، قال الله تعالى : فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يعطوها حقها إلّا وفي من الصداق ويقسطوا لها (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) معطوف على يتامى النساء وقد كانوا في الجاهلية لا يورثون الأطفال ولا النساء الذين تلي في حقهم قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم.

٢٣١

وروي أن عيينة بن حصن الفزاري جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أخبرنا بأنك تعطي الابنة النصف والأخت النصف وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويجوز الغنيمة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) عطف على المستضعفين وتقدير الآية : وما يتلى عليكم في الكتاب يفتيكم في يتامى النساء وفي المستضعفين في أن تقوموا لليتامى والذي تلي في حقهم قوله تعالى : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢] (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) (١٢٧) أي يجازيكم عليه ولا يضيع عند الله منه شيء (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً) أي إظهار الخشونة في القول أو الفعل أو فيهما (أَوْ إِعْراضاً) أي سكوتا عن الخير والشر (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) حينئذ في (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) بأن بذلت المرأة كل الصداق أو بعضه للزوج أو أسقطت عنه مؤنة النفقة أو القسم وكان غرضها من ذلك أن لا يطلقها زوجها. وهذا من جملة ما أخبر الله تعالى أنه يفتيهم به في النساء مما لم يتقدم ذكره في هذه السورة.

روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الآية نزلت في ابن أبي السائب كانت له زوجة وله منها أولاد وكانت شيخة فهمّ بطلاقها فقالت : لا تطلقني ودعني أشتغل بمصالح أولادي وأقسم في كل شهر ليالي قليلة. فقال الزوج : إن كان الأمر كذلك فهو أصلح لي فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية.

قرأ عاصم وحمزة والكسائي «يصلحا» بضم الياء وسكون الصاد ، والباقون «يصالحا» بفتح الياء والصاد المشددة الممدودة قالوا : معناه يتوافقا وهو أليق بهذا الموضع (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) أي والصلح بين الزوجين خير من سوء العشرة أو من الفرقة أو من الخصومة أو هو خير من الخيور (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) أي جعل الشح حاضرا للأنفس لا يغيب عنها ولا ينفك عنها أبدا فالمرأة تبخل ببذل حقها لزوجها وطمعها يجرها إلى أن ترضى ، والرجل يبخل بأن يقضي عمره معها مع دمامة وجهها وكبر سنها وعدم حصول اللذة بمعاشرتها (وَإِنْ تُحْسِنُوا) بالإقامة على نسائكم وإن كرهتموهن بأن تسووا بين الشابة والعجوز في القسمة والنفقة (وَتَتَّقُوا) ما يؤدي إلى الأذى والخصومة (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ) من الإحسان والتقوى (خَبِيراً) (١٢٨) وهو يثيبكم عليه.

وروي أن هذه الآية نزلت في عمرة بنت محمد بن مسلمة وزوجها سعد بن الربيع تزوجها وهي شابة فلما علاها الكبر تزوج شابة وآثرها عليها وجفاها فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشكت إليه ذلك (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) أي لن تقدروا على التسوية بينهن في ميل الطباع وإذا لم تقدروا عليه لم تكونوا مكلفين به (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) أي جهدتم على إقامة العدل في الحب (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) إلى التي تحبونها في القسم والنفقة أي إنكم لستم منهيين عن حصول

٢٣٢

التفاوت في الميل القلبي لأن ذلك خارج عن وسعكم ولكنكم منهيون عن إظهار ذلك التفاوت في القول والفعل (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) أي فتبقى الأخرى لا أيم ولا ذات بعل. كما أن الشيء المعلق لا يكون على الأرض ولا على السماء وفي قراءة أبي فتذروها كالمسجونة (وَإِنْ تُصْلِحُوا) ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة (وَتَتَّقُوا) في المستقبل عن مثله غفر الله لكم ذلك (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (١٢٩) فيغفر ما حصل في القلب من الميل إلى بعضهن دون البعض ويتفضل عليكم برحمته (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) أي وإن رغبا في المفارقة بأن لم يتفقا بصلح أو غيره يغن الله كل واحد منهما عن صاحبه بزوج خير من زوجه الأول يعيش أهنأ من عيشه الأول من غناه تعالى وقدرته (وَكانَ اللهُ واسِعاً) أي في العلم والقدرة والرحمة والفضل والجود (حَكِيماً) (١٣٠) أي متقنا في أفعاله وأحكامه (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من الموجودات من الخلائق والخزائن فيهما (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ) أي ولقد أمرنا اليهود والنصارى ومن قبلهم من الأمم وأمرناكم يا أمة محمد في كتابكم بطاعة الله وهي وصية الله في الأولين والآخرين فهي شريعة عامة لجميع الأمم لم يلحقها نسخ (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً) (١٣١) أي وقلنا لهم ولكم : إن تكفروا فاعملوا أن لله ما في سماواته وما في أرضه من أصناف المخلوقات من يعبده وكان مع ذلك غنيا عن خلقهم وعن عباداتهم ومستحقا لأن يحمد لكثرة نعمه ، وإن لم يحمده أحد منهم فهو تعالى في ذاته محمود سواء حمدوه أو لم يحمدوه فلا يتضرر بكفرهم ومعاصيهم ، كما لا ينتفع بشكرهم وتقواهم ، وإنما وصاهم بالتقوى لرحمته لا لحاجته ، فهو منزه عن طاعات المطيعين ، وعن ذنوب المذنبين فلا يزداد جلاله بالطاعات ولا ينقص بالمعاصي والسيئات (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من الخلائق قاطبة مفتقرون إليه في الوجود وسائر النعم المتفرعة عليه لا يستغنون عن فيضه طرفة عين. فحقه أن يطاع ولا يعصى ، ويتقى عقابه ويرجى ثوابه (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (١٣٢) في تدبير أمور الكل وكل الأمور فلا بد من أن يتوكل عليه لا على أحد سواه (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) أي إن يشأ إفناءكم بالكلية وإيجاد قوم آخرين يشتغلون بعبوديته وتعظيمه ، يفنكم بالمرة ويوجد مكانكم قوما خيرا منكم وأطوع لله. (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ) أي إهلاككم وتخليف غيركم (قَدِيراً) (١٣٣) أي إن إبقاءكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم ولعدم تعلق إرادته باستئصالكم لا لعجزه تعالى عن ذلك (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي من كان يريد بعمله منفعة الدنيا فلا يقتصر عليه وليطلب الثوابين فعند الله ثواب الدارين.

وقال الفخر الرازي : تقرير الكلام ، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده الله تعالى وعلى هذا التقدير يتعلق الجزاء بالشرط. وقال ابن عباس : من كان يريد منفعة الدنيا بعمله الذي

٢٣٣

افترضه الله عليه فليعمل لله فإن ثواب الدنيا والآخرة بيد الله ، أي فإن العاقل يطلب ثواب الآخرة حتى يحصل له ذلك ويحصل له ثواب الدنيا على سبيل التبع (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (١٣٤) أي عالما بجميع المسموعات والمبصرات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) أي كونوا مبالغين في اختيار العدل وفي الاحتراز عن الجور تقيمون شهادتكم لوجه الله كما أمرتم بإقامتها (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) أي ولو كانت وبالا على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) أي إن يكن المشهود عليه غنيا أو فقيرا فلا تكتموا الشهادة إما لطلب رضا الغني أو للترحم على الفقير أولى بأمورهما ومصالحهما وفي قراءة أبي فالله أولى بهم. وهو إما راجع إلى قوله «أو الوالدين والأقربين» ، أو راجع إلى جنس الغني وجنس الفقير.

وقرأ عبد الله «إن يكن غني أو فقير» على كان التامة (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) أي لأجل أن تعدلوا. والمعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفين بصفة العدل (وَإِنْ تَلْوُوا) بواوين على قراءة الجمهور أي وإن تحرفوا ألسنتكم عن شهادة الحق.

وقرأ ابن عامر وحمزة «وإن تلوا» بضم اللام وحذف الواو الأولى أي إن تتموا الشهادة وتقبلوا عليها (أَوْ تُعْرِضُوا) عن أداء الشهادة أصلا (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١٣٥) فيجازي المحسن المقبل والمسيء المعرض. نزلت هذه الآية في مقيس بن حبابة كانت عنده شهادة على أبيه. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في الماضي والحاضر (آمَنُوا) في المستقبل (بِاللهِ وَرَسُولِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) وهو القرآن (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) أي قبل القرآن. أو المعنى يا أيها الذين آمنوا على سبيل التقليد آمنوا على سبيل الاستدلال ، أو يا أيها الذين آمنوا بحسب الاستدلالات الجملية آمنوا بحسب الدلائل التفصيلية وهذا خطاب لكافة المسلمين. وقيل : هو خطاب لمؤمني أهل الكتاب لما أن عبد الله بن سلام وابن أخته سلامة ، وابن أخيه سلمة وأسدا وأسيدا بني كعب وثعلبة بن قيس ، ويامين بن يامين ، أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : يا رسول الله إنّا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل آمنوا بالله ورسوله محمد وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله» (١) فقالوا : لا نفعل فنزلت هذه الآية فآمنوا كلهم (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي ومن يكفر بواحد من ذلك المذكور (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (١٣٦) بحيث يعسر العود من الضلال إلى سواء الطريق (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) أي إن

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٢ : ٢٣٤) ، وابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (٥٠).

٢٣٤

الذين يتكرر منهم الكفر بعد الإيمان مرات ، ثم ماتوا على الكفر. أو المعنى إن الذين أظهروا الإسلام ثم كفروا بكون باطنهم على خلاف ظاهرهم ، ثم آمنوا بألسنتهم فكلما لقوا جمعا من المسلمين قالوا : إنا مؤمنون وإنما أظهروا الإيمان لتجري عليهم أحكام المؤمنين ، ثم كفروا فإذا دخلوا على شياطينهم قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزئون. ثم ازدادوا كفرا باجتهادهم في استخراج أنواع المكر في حق المسلمين وبموتهم على الكفر (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) (١٣٧) فإن كل من كان كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر لم يكن للإسلام في قلبه عظم فلا يتوب عن الكفر حتى يموت عليه (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ) أي أنذرهم (بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٣٨) (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي فإن المنافقين يوالون اليهود ويقول بعض المنافقين : لبعض لا يتم أمر محمد فتولوا اليهود فيقولون : إن العزة لهم (أَيَبْتَغُونَ) أي أيطلب المنافقون (عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) أي عند اليهود القوة (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (١٣٩) أي إن القدرة الكاملة لله وكل من سواه فبإقداره صار قادرا وبإعزازه صار عزيزا. فالعزة الحاصلة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين لم تحصل إلا من عند الله تعالى فكان الأمر عند التحقيق أن العزة جميعا لله (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ) يا معشر المنافقين (فِي الْكِتابِ) أي القرآن في سورة الأنعام قبل هذا بمكة (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) أي أنه إذا سمعتم آيات الله مكفورا بها ومستهزأ بها (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أي الكفر والاستهزاء. وذلك قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) [الأنعام : ٦٨] الآية وهذا نزل بمكة لأن المشركين كانوا يخوضون في القرآن ويستهزئون في مجالسهم ، ثم إن أحبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون مثل فعل المشركين والقاعدون معهم والموافقون لهم على ذلك الكلام المنافقون فقال تعالى مخاطبا للمنافقين : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) أي إذا سمعتم آيات الله حال ما يكفر بها ويستهزأ بها (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) أي إنكم أيها المنافقون مثل أولئك الأحبار في الكفر ، قال أهل العلم : هذا يدل على أن من رضي بالكفر فهو كافر ومن رضي بمنكر يراه وخالط أهله ، وإن لم يباشر كان في الإثم بمنزلة المباشرة أما إذا كان ساخطا لقولهم وإنما جلس على سبيل التقية والخوف فالأمر ليس كذلك. فالمنافقون الذين كانوا يجالسون اليهود وكانوا يطعنون في الرسول والقرآن هم كافرون مثل أولئك اليهود. أما المسلمون الذين كانوا بمكة يجالسون الكفار الذين كانوا يطعنون في القرآن فإنهم كانوا باقين على الإيمان فهم كانوا يجالسون الكفار عند الضرورة بخلاف المنافقين فإنهم كانوا يجالسون اليهود مع الاختيار (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ) أي منافقي أهل المدينة عبد الله بن أبي وأصحابه (وَالْكافِرِينَ) أي كفار أهل مكة أبي جهل وأصحابه وكفار أهل المدينة كعب وأصحابه (فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (١٤٠) أي كما أنهم اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله في الدنيا فكذلك يجتمعون في عذاب جهنم يوم القيامة (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ)

٢٣٥

أي المنافقين ينتظرون أمرهم وما يحدث لكم من خير أو شر (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ) أي ظهور على اليهود (قالُوا) أي المنافقون للمؤمنين : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) أي مظاهرين لكم فأعطونا قسما من الغنيمة (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ) أي اليهود (نَصِيبٌ) أي ظفر على المسلمين (قالُوا) أي المنافقون لليهود : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) أي ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم ثم لم نفعل شيئا من ذلك (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بأن ثبطناهم عنكم وإلا لكنتم نهبة للنوائب فهاتوا لنا نصيبا مما أصبتم. وقيل : إن أولئك الكفار كانوا قد هموا بالدخول في الإسلام والمنافقون حذروهم عن ذلك وأطمعوهم أنه سيضعف أمر محمد وسيقوى أمركم ، فإذا اتفقت لهم صولة على المسلمين قال المنافقون للكفار : ألسنا غلبناكم على رأيكم في الدخول في الإسلام ومنعناكم منه وقلنا لكم : سيضعف أمر محمد ويقوى أمركم. فلما شاهدتم صدق قولنا فادفعوا إلينا نصيبا مما وجدتم (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أي بين المؤمنين والمنافقين (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي فإن الله تعالى ما وضع السيف في الدنيا عن المنافقين إلّا أنه أخر عقابهم إلى يوم القيامة وأجرى عليهم حكم الإسلام في الدنيا (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (١٤١) أي بالشرع. فإن شريعة الإسلام ظاهرة إلى يوم القيامة ويتفرع على ذلك مسائل من أحكام الفقه. منها : أن الكافر لا يرث من المسلم. ومنها : أن الكافر إذا استولى على مال المسلم وأحرزه في دار الحرب لم يملكه. ومنها : أن الكافر ليس له أن يشتري عبدا مسلما. ومنها : أن المسلم لا يقتل بالذمي بدلالة هذه الآية. وقيل : المعنى ليس لأحد من الكافرين أن يغلب المسلمين بالحجة وأن يمحو دولة المؤمنين بالكلية.

وقال ابن عباس : ولن يجعل الله لليهود على المؤمنين دولة دائما (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) أي يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطال الكفر ليدفعوا عنهم أحكامه تعالى الدنيوية. والله فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع حيث تركهم في الدنيا ، وأعدّ لهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار. قال جرير : نزلت هذه الآية في حق عبد الله بن أبي ، وأبي عامر بن النعمان.

وقال الزجاج : أي يخادعون رسول الله فيبطنون له الكفر ويظهرون له الإيمان والله مجازيهم بالعقاب على خداعهم. وقال ابن عباس : إنه تعالى خادعهم في الآخرة عند الصراط وذلك أنه تعالى يعطيهم نورا كما يعطي المؤمنين فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم ، وبقوا في الظلمة ويبقى نور المؤمنين ، فينادون المؤمنين : أنظرونا نقتبس من نوركم. ويقول المؤمنون : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ودليل ذلك قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) [البقرة : ١٧] (وَإِذا قامُوا إِلَى

٢٣٦

الصَّلاةِ) أي أتوا إلى الصلاة مع المؤمنين (قامُوا كُسالى) أي متثاقلين متباطئين لأنهم لا يرجعون بها ثوابا ولا يخافون من تركها عقابا (يُراؤُنَ النَّاسَ) ليحسبوهم مؤمنين فإنهم لا يقومون إليها إلّا لأجل الرياء والسمعة لا لأجل الدين (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) (١٤٢) أي لا يصلون إلا بمرأى من الناس ، وإذا لم يكن معهم أحد لم يصلوا ولا يذكرون الله إلا باللسان فقط (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) أي مترددين بين كفر السر وإيمان العلانية (لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) أي ليسوا مع المؤمنين في السر فيجب لهم ما يجب للمؤمنين ، وليسوا مع اليهود في العلانية فيجب عليهم ما يجب على اليهود (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (١٤٣) موصلا إلى الصواب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالسر والعلانية (لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ) أي المجاهرين بالكفر (أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) المخلصين (أَتُرِيدُونَ) يا معشر المؤمنين الخلص (أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) (١٤٤) أي أتريدون بذلك أن تجعلوا لأهل دين الله ـ وهم الرسول وأمته ـ حجة بينة على كونكم منافقين؟ فإن موالاتهم أوضح أدلة النفاق. وقيل : المعنى يا أيها الذين آمنوا بالعلانية ـ عبد الله بن أبي وأصحابه ـ لا تتخذوا اليهود أولياء في التعذر من دون المخلصين أتريدون يا معشر المنافقين أن تجعلوا لرسول الله عليكم عذرا بينا بالقتل؟ أو المعنى أتريدون أن تجعلوا الله عليكم في عقابكم حجة بسبب موالاتكم لليهود (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) وهو الطبقة التي في قعر جهنم لأنهم أخبث الكفرة حيث ضموا إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وأهله وخداعهم ، ولأنهم لما أظهروا الإسلام يمكنهم الاطلاع على أسرار المسلمين ، ثم يخبرون الكفار بذلك ، فكانت المحنة تتضاعف من هؤلاء المنافقين لهذه الأسباب جعل الله عذابهم أزيد من عذاب الكفار الخلص (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ) أي المنافقين (نَصِيراً) (١٤٥) يخلصهم من عذاب الله ، ثم استثنى الله من الضمير المجرور أو من الضمير المستكن في خبر إن بقوله (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) عن النفاق والقبيح (وَأَصْلَحُوا) أي أقدموا على الحسن (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) بأن يكون غرضهم من التوبة وإصلاح الأعمال طلب مرضاة الله تعالى لا طلب مصلحة الوقت (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) بأن يكون ذلك الغرض خالصا لا يمتزج به غرض آخر (فَأُولئِكَ) المتصفون بهذه الشروط الأربعة من المنافقين (مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أي المخلصين الذين لم يصدر عنهم نفاق أصلا منذ آمنوا أي معهم في الدرجات العالية من الجنة (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ) أي يعطي الله الخلص (أَجْراً عَظِيماً) (١٤٦) أي ثوابا وافرا في الجنة (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) فـ «ما» استفهامية مفيدة للنفي. أي أيعذبكم الله لأجل التشفي من الغيظ أم لطلب النفع أم لدفع الضرر كما هو شأن الملوك؟ وكل ذلك محال في حقه تعالى : وإنما التعذيب أمر يقتضيه كفركم فإذا زال ذلك بالإيمان والشكر انتفى التعذيب وتقديم الشكر على الإيمان لأن الإنسان إذا نظر في نفسه رأى النعمة العظيمة حاصلة في تخليقها وترتيبها فيشكر شكرا مجملا ، ثم إذا تمم النظر في معرفة

٢٣٧

المنعم آمن به ، ثم شكر شكرا مفصلا فكان ذلك الشكر المجمل مقدما على الإيمان (وَكانَ اللهُ شاكِراً) أي مثيبا على الشكر (عَلِيماً) (١٤٧) أي بجميع الجزئيات فلا يقع الغلط له تعالى ألبتة فيوصل الثواب إلى الشاكر والعقاب إلى المعرض (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) أي لا يحب الله تعالى أن يجهر أحد بالسوء كائنا من القول إلّا جهر من ظلم فهو غير مسخوط عنده تعالى وذلك بأن يقول : سرق فلان مالي أو غصبني ، أو سبني ، أو قذفني ويدعو عليه دعاء جائزا بأن يكون بقدر ظلمه فلا يدعو عليه بخراب دياره لأجل أخذ ماله منه ولا يسب والده وإن كان هو فعل كذلك ولا يدعو عليه لأجل ذلك بالهلاك بل يقول : اللهم خلّص حقي منه أو اللهم جازه أو كافئه ولا يجوز أن يدعو عليه بسوء الخاتمة أو الفتنة في الدين فالدعاء بغير قدر ما ظلم به حرام كالدعاء بمستحيل عادة أو عقلا ومثل المظلوم ما إذا أريد اجتماع على شخص فيجب على من علم عيوبه به بذل النصيحة له ، وإن لم يستشره لأن الدين النصيحة فيذكر له ما يندفع به فإن زاد حرم الزائد فالله تعالى لا يحب إظهار القبائح إلا في حق من عظم ضرره وكثر مكره فعند ذلك يجوز إظهار فضائحه ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اذكروا الفاسد بما فيه كي تحذره الناس». وقرأ الضحاك وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير إلّا من ظلم بالبناء للفاعل. والمعنى لكن من ظلم فاتركوه. وقال الفراء والزجاج : لكن من ظلم نفسه فإنه يجهر بالسوء من القول ويفعل ما لا يحبه الله تعالى هذا إن جعل الاستثناء كلاما منقطعا عما قبله أما إن جعل متصلا فيكون التقدير إلّا من ظلم فإنه يجوز الجهر بالسوء من القول معه (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً) لقول الظالم أو المظلوم ولفعلهما (عَلِيماً) (١٤٨) لفعل الظالم والمظلوم ولقولهما فليتق الله ولا يقل إلا الحق ولا يقذف بسوء لمستور فإنه يصير عاصيا لله بذلك وهو تعالى سميع لما يقوله عليم بما يضمره (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ) في إيصال النفع إلى الخلق (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) كأن تدفعوا الضرر عنهم (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا) عن المذنبين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى كما قاله الحسن (قَدِيراً) (١٤٩) أي فهو أقدر على عفو ذنوبك منك على عفو ذنوب من ظلمك كما قاله الكلبي. وقيل : المعنى إن الله كان عفوا لمن عفا وهو المظلوم قديرا على إيصال الثواب إليه وعقوبة الظالم. وقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ) الآية تعليل لجواب الشرط المقدر والتقدير فذلك أولى لكم من تركه لأن الله إلخ.

اعلم أن مواضع الخيرات على كثرتها محصورة في أمرين صدق مع الحق وخلق مع الخلق ، فالذي يتعلق بالخلق محصور في قسمين : إيصال نفع إليهم وهو المشار إليه بقوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ). ودفع ضرر عنهم وهو المشار إليه بقوله تعالى : (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) فدخل في هذين القسمين جميع أنواع الخير وأعمال البر (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) كاليهود فإنهم آمنوا بموسى والتوراة وعزير ، وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن. وكالنصارى فإنهم آمنوا بعيسى والإنجيل وكفروا بمحمد والقرآن (وَيُرِيدُونَ أَنْ

٢٣٨

يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) بأن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) أي نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض (وَيُرِيدُونَ) بقولهم ذلك (أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ) أي بين الإيمان بالكل أو الكفر بالكل (سَبِيلاً) (١٥٠) أي دينا وسطا وهو الإيمان بالبعض دون البعض (أُولئِكَ) الموصوفون بالصفات القبيحة (هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) أي كفرا كاملا ثابتا يقينا لأنه تعالى قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما من نبي من الأنبياء إلا وقد أخبر قومه بحقيقة دين نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) اليهود وغيرهم (عَذاباً مُهِيناً) (١٥١) أي شديدا يهانون به (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) في الإيمان به (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ).

وقرأ عاصم في رواية حفص بالياء ، والضمير راجع إلى اسم الله. والباقون بالنون (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما فرط منهم (رَحِيماً) (١٥٢) أي مبالغا في الرحمة عليهم بتضعيف حسناتهم (يَسْئَلُكَ) يا أشرف الخلق (أَهْلُ الْكِتابِ) أي أحبار اليهود (أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ).

روي أن كعبا وأصحابه وفنحاص قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن كنت رسولا من عند الله فإننا بكتاب من السماء جملة كما جاء موسى بالألواح أي فلا تبال يا أشرف الخلق بسؤالهم فإنه عادتهم (فَقَدْ سَأَلُوا) أي اليهود (مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) أي أعظم مما سألوك (فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) أي أرناه نره معاينة (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) أي فأحرقتهم النار التي جاءت من السماء (بِظُلْمِهِمْ) وهو سؤالهم لما يستحيل وقوعه في ذلك الوقت (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) أي عبدوه (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أي الصاعقة وإحياؤهم بعد موتهم ومعجزات موسى التي أظهرها لفرعون من العصا واليد البيضاء وفلق البحر وغيرها. (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) أي تركنا عبدة العجل ولم نستأصلهم (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) (١٥٣) أي قهرا ظاهرا عليهم فإنه أمرهم بقتل أنفسهم توبة من عبادة العجل فبادروا إلى الامتثال فقتل منهم سبعون ألفا في يوم واحد (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ) أي بسبب ميثاقهم على أن لا يرجعوا عن الدين ليخالفوا فلا ينقضوه فإنهم هموا بنقضه (وَقُلْنا) على لسان موسى أو على لسان يوشع (لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ) أي باب بيت المقدس أو أريحا (سُجَّداً) أي مطأطئين الرؤوس (وَقُلْنا لَهُمُ) على لسان داود (لا تَعْدُوا) أي لا تظلموا باصطياد الحيتان (فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ) على الامتثال بما كلفوه (مِيثاقاً غَلِيظاً) (١٥٤) أي مؤكدا.

وقال ابن عباس : وهو ميثاق وثيق في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَبِما نَقْضِهِمْ) فـ «ما» مقحمة والباء للسببية متعلقة بمحذوف أي فعلناهم بسبب نقضهم (مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) أي بالمعجزات فمن أنكر معجزة رسول واحد فقد أنكر جميع معجزات الرسل (وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) أي بلا

٢٣٩

جرم فإنهم معصومون من كل نقيصة لا يتوجه عليهم حق (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى علم سوى ما عندنا فكذبوا الأنبياء بهذا القول. أو المعنى قلوبنا في أغطية جبلية فهي لا تفقه ما تقولون (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) أي بل أحدث الله عليها صورة مانعة عن وصول الحق إليها. أو بل ختم الله على قلوبهم بكفرهم (فَلا يُؤْمِنُونَ) أي اليهود (إِلَّا قَلِيلاً) (١٥٥) أي إلّا فريقا منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه ، أو فلا يؤمنون. أي المطبوع على قلوبهم إلّا إيمانا قليلا ، وهو الإيمان بموسى والتوراة بحسب زعمهم فإن من يكفر برسول واحد وبمعجزة واحدة لا يمكنه الإيمان بأحد من الرسل ألبتة (وَبِكُفْرِهِمْ) لإنكارهم قدرة الله تعالى عن خلق الولد من دون الأب (وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) (١٥٦) أي نسبتهم مريم إلى الزنا بعد ما ظهر منها من الكرامات الدالة على براءتها من كل عيب ، فإنها ملازمة للعبادة بأنواع الطاعات وعيسى تكلم حال كونه طفلا منفصلا عن أمه (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) وصلبناه (رَسُولَ اللهِ) أي في زعم عيسى نفسه فإن وصفهم له بوصف الرسالة استهزاء به أوان الله وضع الذكر الحسن بقوله رسول الله مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم فإنهم قالوا : هو ساحر ابن ساحرة. أو إن رسول الله وصف له من عند الله تعالى مدحا له وتنزيها له عن مقالتهم التي لا تليق به. قال الله تعالى إبطالا لافتخارهم بقتل النبي والاستهزاء به : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ). قال كثير من المتكلمين : إن اليهود لما قصدوا قتله رفعه الله تعالى إلى السماء فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة من عوامهم لما أنهم اجتمعوا على قتله ، لأن الله مسخ من سبوه وسبوا أمه قردة وخنازير بدعائه عليهم فأخذوا إنسانا يقال له : ططيانوس اليهودي وقتلوه وصلبوه ، ولبسوا على الناس أنه المسيح والناس ما كانوا يعرفونه إلّا بالاسم لأنه كان قليل المخالطة للناس ، ثم إن تواتر النصارى ينتهي إلى أقوام قليلين لا يبعد اتفاقهم على الكذب. وقال الضحاك : لما أرادوا قتل عيسى اجتمع الحواريون في غرفة وهم اثنا عشر رجلا فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر إبليس جميع اليهود فركب أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة فقال المسيح للحواريين : «أيكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة؟». فقال رجل يقال له سرجس : أنا يا نبي الله. فألقى إليه مدرعته من صوف وعمامته من صوف وناوله عكازه ، وألقى الله عليه شبه عيسى فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه وأما المسيح فكساه الله تعالى الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فصار مع الملائكة. (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي في شأن عيسى (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي من قتله (ما لَهُمْ بِهِ) أي بقتله (مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) أي لكنهم يتبعون الظن فإن فسر الشك بالجهل والعلم بالاعتقاد الذي تسكن إليه النفس فالاستثناء متصل ، أي لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس فقال بعض اليهود : إنه كان كاذبا فقتلناه حقا. وقال بعضهم : الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا فليس هذا المقتول بعيسى.

٢٤٠