مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

والمواعيد والدعوة إلى التوحيد والعدل بين الناس ، والنهي عن المعاصي والفواحش (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) أي فنجعلها على هيئة أقفائها (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) فهم ملعونون بكل لسان. وضمير الغائب راجع إلى الذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات فلما لعنهم الله ذكرهم بعبارة الغيبة (وَكانَ أَمْرُ اللهِ) بإيقاع شيء ما (مَفْعُولاً) (٤٧) أي نافذا. وهذا إخبار عن جريان عادة الله في الأنبياء المتقدمين أنه تعالى مهما أخبرهم بإنزال العذاب على الكفار فعل ذلك لا محالة (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ) أي لا يغفر الكفر لمن اتصف (بِهِ) بلا توبة وإيمان (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) أي الشرك في القبح من المعاصي صغيرة كانت أو كبيرة من غير توبة عنها (لِمَنْ يَشاءُ).

روي عن ابن عباس أنه قال : لما قتل وحشي حمزة يوم أحد وكانوا قد وعدوه بالإعتاق إن هو فعل ذلك ، ثم إنهم ما وفوا له بذلك فعند ذلك ندم هو وأصحابه فكتبوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذنبهم وأنه لا يمنعهم عن الدخول إلى الإسلام إلا قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [الفرقان : ٦٨]. فقالوا : قد ارتكبنا كل ما في هذه الآية. فنزل قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) [الفرقان : ٧٠] فقالوا : هذا شرط شديد نخاف أن لا نقوم به فنزل تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) فقالوا : نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته تعالى.فنزل : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] فدخلوا عند ذلك في الإسلام (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (٤٨) أي فقد فعل ذنبا غير مغفور (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) أي يمدحونها.

قال قتادة والضحاك والسدي : هم اليهود. أخرجه ابن جرير ، وذلك لما هدد الله تعالى اليهود بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فعند هذا قالوا : لسنا من المشركين بل نحن من خواص الله تعالى. وهذا استفهام تعجيب وهو أمر المخاطب على التعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند الله تعالى مع ما هم عليه من الكفر والإثم العظيم. وفي هذه الآية تحذير من إعجاب المرء بنفسه وعمله (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) عطف على مقدر. أي هم لا يزكون أنفسهم في الحقيقة لكذبهم وبطلان اعتقادهم بل الله يزكي من يشاء تزكيته ممن يستحقها من المؤمنين (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٤٩) أي إن الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تلك التزكية حق جزائهم من غير ظلم. أي فلا يظلمون في ذلك العقاب قدر فتيل وهو الخيط الذي في شق النواة طولا. والنقير النقطة التي في ظهر النواة تنبت منها النخلة والقمطير والقشرة الرقيقة على النواة. (انْظُرْ) يا أشرف الخلق متعجبا (كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) لقولهم ما نعمل بالنهار من الذنوب يغفره الله لنا بالليل ، وما نعمل بالليل يغفره بالنهار فـ «الكذب» مفعول به أو مفعول مطلق لأنه يلاقي العامل

٢٠١

في المعنى. لأن الافتراء والكذب متقاربان معنى ، أو معناهما واحد (وَكَفى بِهِ) أي افترائهم هذا (إِثْماً مُبِيناً) (٥٠) في استحقاقهم لأشد العقوبات (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) فكل معبود دون الله فهو جبت وطاغوت ، وكل من دعا إلى المعاصي الكبار فهو طاغوت.

روي أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة مع جماعة من اليهود بعد قتال أحد ليحالفوا قريشا على محاربة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : أنتم أهل كتاب ، وأنتم أقرب إلى محمد منهم إلينا فلا نأمن مكركم ، فاسجدوا لآلهتنا حتى تطمئن قلوبنا ففعلوا ذلك. فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس. فقال أبو سفيان : أنحن أهدى سبيلا أم محمد؟. فقال كعب : ماذا يقول محمد؟ قالوا : يأمر بعبادة الله وحده وينهى عن عبادة الأصنام. قال : وما دينكم؟ قالوا : نحن ولاة البيت نسقي الحاج ونقري الضيف ونفك العاني. فقال : أنتم أهدى سبيلا وذلك قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي في حق كفار مكة (هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) (٥١) أي كفار مكة أبو سفيان وأصحابه أصوب دينا من محمد وأصحابه وذكرهم بلفظ الإيمان ليس من قبل القائلين بل من جهة الله تعالى تعريفا لهم بالوصف الجميل ، وتخطئة لمن رجح عليهم المتصفين بأقبح القبائح (أُولئِكَ الَّذِينَ) أي القائلون : إن عبادة الأوثان أفضل من عبادة الله تعالى (لَعَنَهُمُ اللهُ) أي أبعدهم عن رحمته (وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) (٥٢) أي ومن يطرده الله عن رحمته فلن تجد أيها المخاطب من يدفع عنه العذاب دنيويا كان أو أخرويا (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) (٥٣) وأم منقطعة عما قبلها. وهذا الاستفهام استفهام إنكاري إبطال على اليهود في قولهم نحن أولى بالملك والنبوة فكيف نتبع العرب؟ وتكذيب لهم في زعمهم إن الملك يعود إليهم في آخر الزمان فيخرج من اليهود من يجدد ملكهم ودولتهم ، ويدعو إلى دينهم. و «إذن» حرف جواب وجزاء لشرط مقدر ورفع الفعل بعدها وإن كان مرجوحا في النحو لأن القراءة سنة متبعة.

وقرئ شاذا على الأرجح بحذف النون. والمعنى ليس لهم من الملك شيء ألبتة ولو كان لليهود نصيب منه فيتسبب عن ذلك أنهم لا يعطون واحدا من الناس قدر ما يملأ النقير. وهو النقرة التي على ظهر النواة التي تنبت منها النخلة وهذا بيان لعدم استحقاقهم له بل لاستحقاقهم الحرمان منه بسبب أنهم من البخل والدناءة بحيث لو أوتوا شيئا من ذلك لما أعطوا الناس من أقل قليل ومن حق من أوتي الملك أن يؤثر الغير بشيء منه (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي بل يحسدون محمدا ومن معه على ما أعطاهم الله من النبوة والكتاب وازدياد العز والنصر يوما فيوما ، وكثرة النساء له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت له يومئذ تسع نسوة. فقالت اليهود : لو كان محمد نبيا لشغله أمر النبوة

٢٠٢

عن الاهتمام بأمر النساء فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم بقوله (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ) الذين هم أسلاف محمد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي النبوة أو المراد بالكتاب ظواهر الشريعة وبالحكمة أسرار الحقيقة (وَآتَيْناهُمْ) أي أعطينا بعضهم كداود وسليمان ويوسف (مُلْكاً عَظِيماً) (٥٤) لا يقادر قدره فكان لداود مائة امرأة مهرية ، ولسليمان سبعمائة سرية ، وثلاثمائة امرأة مهرية. وهؤلاء الثلاثة كانوا في بني إسرائيل ولم يشغلهم أمر النبوة عن أمر الملك والنساء فكيف يستبعدون نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحسدونه على إيتائها (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) أي فمن جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم من آمن بما أوتي آل إبراهيم ، ومنهم من أعرض عن الإيمان به فأنت يا محمد لا تتعجب مما عليه هؤلاء القوم؟ فإن أحوال جميع الأمم مع جميع الأنبياء هكذا كانت وذلك تسلية من الله لرسوله ليكون أشد صبرا على ما يناله من قبلهم (وَكَفى بِجَهَنَّمَ) في عذاب هؤلاء الكفار المتقدمين والمتأخرين (سَعِيراً) (٥٥) أي نارا وقودا (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) أي الدالة على ذات الله وأفعاله وصفاته وأسمائه والملائكة والكتب والرسل (سَوْفَ نُصْلِيهِمْ) أي ندخلهم (ناراً) أي عظيمة هائلة (كُلَّما نَضِجَتْ) أي احترقت (جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) بأن يجعل النضيج غير النضيج فالذات واحدة والمتبدل هو الصفة (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) أي لكي يجدوا ألم العذاب على الدوام من غير انقطاع بهذه الحالة الجديدة.

وروي أن هذه الآية قرئت عند عمر رضي الله تعالى عنه فقال للقارئ : أعدها فأعادها ـ وكان عنده معاذ بن جبل ـ فقال معاذ : عندي تفسيرها ، تبدل الجلود في ساعة مائة مرة. فقال عمر رضي‌الله‌عنه هكذا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً) أي قادرا غالبا لا يمتنع عليه ما يريده. (حَكِيماً) (٥٦) أي لا يفعل إلا الصواب فيعاقب من يعاقبه على وفق حكمته (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ) في الآخرة (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) فإن نعيم الجنة لا ينقطع كعذاب النار (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) من الحيض والنفاس وجميع أقذار الدنيا (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) (٥٧) أي عظيما في الراحة واللذاذة بخلاف المواضع في الدنيا فإنها إذا لم يصل نور الشمس فيها إليها في الدوام يكون هواؤها عفنا فاسدا مؤذيا (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) لما حكى الله عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق حيث قالوا للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور سواء كانت تلك الأمور من باب المذاهب والديانات أو من باب الدنيا والمعاملات ، وإن ورد الأمر على سبب خاص في شأن عثمان بن طلحة بن عبد الدار سادن الكعبة. وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب الكعبة وصعد السطح وأبى أن يدفع المفتاح إليه وقال : لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه ، فلوى علي بن أبي طالب يده وأخذه منه وفتح ودخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتين ، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية

٢٠٣

والسدانة. فنزلت هذه الآية ، فأمر عليا أن يرده إلى عثمان ويعتذر إليه فقال عثمان لعلي : أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق؟ فقال : لقد أنزل الله تعالى في شأنك قرآنا. وقرأ عليه الآية. فقال عثمان : أشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله فهبط جبريل عليه‌السلام وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن السدانة في أولاد عثمان أبدا ثم إن عثمان هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة فهو في ولده إلى اليوم (وَ) إن الله يأمركم (إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) وعن أنس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت : صدقت وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت» (١). (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) أي إن الله نعم شيء يعظكم به ذاك وهو المأمور به من أداء الأمانات والحكم بالعدل (إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً) لكل المسموعات يسمع ذلك الحكم إذا حكمتم بالعدل (بَصِيراً) (٥٨) لكل المبصرات يبصركم إذا أديتم الأمانة فيجازيكم على ما يصدر منكم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وهذه الآية مشتملة على أصول الشريعة الأربع : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس. فالكتاب : يدل على أمر الله ، ثم نعلم منه أمر الرسول لا محالة. والسنة : تدل على أمر الرسول ، ثم نعلم منه أمر الله لا محالة. فثبت أن قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) يدل على وجوب متابعة الكتاب والسنة. والمراد بأولي الأمر جميع العلماء من أهل العقد والحل ، وأمراء الحق وولاة العدل. وأما أمراء الجور فبمعزل من استحقاق وجوب الطاعة لهم.

قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في حق عبد الله بن حذافة السهمي إذ بعثه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أميرا على سرية. وعن ابن عباس أنها نزلت في شأن خالد بن الوليد بعثه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أميرا على سرية وفيها عمار بن ياسر ، فجرى بينهما اختلاف في شيء ، فنزلت هذه الآية ، وأمر بطاعة أولي الأمر فحينئذ فالمراد بهم أمراء السرايا قال بعضهم : طاعة الله ورسوله واجبة قطعا ، وطاعة أهل الإجماع واجبة قطعا ، وأما طاعة الأمراء والسلاطين فالأكثر أنها تكون محرمة لأنهم لا يأمرون إلّا بالظلم ، وقد تكون واجبة بحسب الظن الضعيف فحينئذ يحمل أولوا الأمر على الإجماع وأيضا إن أعمال الأمراء والسلاطين موقوفة على فتاوى العلماء والعلماء في الحقيقة أمراء الأمراء فهؤلاء أولوا الأمر (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) أي فإن اختلفتم أيها المجتهدون في شيء حكمه غير مذكور في الكتاب والسنة والإجماع فردوه إلى واقعة تشبهه في الصورة والصفة. وهذا المعنى يؤكد بالخبر والأثر. أما الخبر فهو أنهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قبلة الصائم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أ رأيت لو تمضمضت» (٢). والمعنى أخبرني هل تبطل المضمضة الصوم أم لا؟ أي فكما أن

__________________

(١) رواه ابن حجر في المطالب العالية (٤١٦٨) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٤٣٣٨٣).

(٢) رواه أبو داود في كتاب الصيام ، باب : القبلة للصائم ، والدارمي في كتاب الصوم ، باب :

٢٠٤

المضمضة مقدمة للأكل فكذا القبلة مقدمة للجماع فإذا كانت المضمضة لم تفسد الصيام فكذلك القبلة ولما سألته صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخثعمية عن الحج عن أبيها فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أ رأيت لو كان على أبيك دين فقضيته هل يجزئ» فقالت : نعم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فدين الله أحق بالقضاء» (١). وأما الأثر فما روي عن عمر رضي‌الله‌عنه أنه قال : أعرف الأشباه والنظائر ، وقس الأمور برأيك. فدل مجموع ما ذكر على أن قوله تعالى : (فَرُدُّوهُ) أمر برد الشيء إلى شبيهه وهذا هو الذي يسميه الشافعي رحمه‌الله تعالى : قياس الأشباه ، ويسميه أكثر الفقهاء : قياس الطرد (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وهذا محمول على التهديد فإن الإيمان بهما يوجب ذلك (ذلِكَ) أي الذي أمرتكم به في هذه الآيات (خَيْرٌ) لكم (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٥٩) أي عاقبة لكم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) أي يدعون (أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) وهو القرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) وهو التوراة (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) أي كثير الطغيان (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) أي والحال أنهم قد أمروا في القرآن أن يتبرءوا من الطاغوت (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ) بالتحاكم إليه (أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (٦٠) عن الحق والهدى.

قال كثير من المفسرين : خاصم رجل من المنافقين ـ يقال له : بشر ـ رجلا من اليهود. فقال اليهودي : بيني وبينك أبو القاسم. وقال المنافق : بيني وبينك كعب بن الأشرف. وسبب ذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقضي بالحق ولا يلتفت إلى الرشوة ، واليهودي كان محقا وأن كعبا شديد الرغبة في الرشوة ، والمنافق كان مبطلا. وأصرّ اليهودي على قوله بذلك. فذهبا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحكم لليهودي على المنافق فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال : لا أرضى ، انطلق بنا إلى أبي بكر فأتياه فحكم لليهودي فلم يرض المنافق وقال : بيني وبينك عمر. فذهبا إليه فأخبره اليهودي بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر حكما على المنافق فلم يرض بحكمهما ، فقال للمنافق : أهكذا؟ فقال : نعم ، قال : اصبر إن لي حاجة أدخل بيتي فأقضيها وأخرج إليكما فدخل وأخذ سيفه ثم خرج إليهما فضرب به عنق المنافق حتى برد أي مات وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله. وهرب اليهودي فجاء أهل المنافق فشكوا عمر إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأل صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر عن قصته فقال : إنه رد حكمك يا رسول الله. فجاء جبريل عليه‌السلام في الحال ونزلت هذه الآية ، وقال جبريل : إن عمر هو الفاروق فرق بين الحق والباطل. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر : «أنت

__________________

الرخصة في القبلة للصائم ، وأحمد في (م ١ / ص ٢١).

(١) رواه البخاري في كتاب الأيمان ، باب : من مات وعليه نذر ، «بما معناه» ، والنّسائي في كتاب الحج ، باب : تشبيه قضاء الحج بقضاء الدين ، والدارمي في كتاب المناسك ، باب : الحج عن الميت ، وأحمد في (م ١ / ص ٢١٢).

٢٠٥

الفاروق» (١) ، وعلى هذا القول الطاغوت هو كعب بن الأشرف سمي بذلك لشبهه بالشيطان في فرط طغيانه (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) أي أقبلوا إلى القرآن الذي فيه الحكم (وَإِلَى الرَّسُولِ) الذي تجب طاعته ليحكم بينكم (رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) (٦١) أي أبصرت المنافقين يعرضون عنك إلى غيرك إعراضا بالكلية (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) أي كيف يكون حالهم وقت إصابة المصيبة إياهم بقتل عمر صاحبهم بظهور نفاقهم (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بسبب ما عملوا من التحاكم إلى الطاغوت والإعراض عن حكمك (ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) (٦٢) أي ثم جاءك أهل المنافق مطالبين عمر بدمه وقد أهدره الله ويحلفون بالله كذبا للاعتذار ، فقالوا : ما أراد صاحبنا المقتول التحاكم إلى عمر إلّا أن يصلح ويجعل الاتفاق بينه وبين خصمه ويأمر كل واحد من الخصمين بتقريب مراده من مراد صاحبه حتى يحصل بينهما الموافقة ، وأنت يا رسول الله لا تحكم إلا بالحق المر ولا يقدر أحد على رفع الصوت عندك (أُولئِكَ) أي المنافقون (الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من النفاق والغيظ والعداوة (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي لا تقبل منهم ذلك العذر ولا تظهر لهم أنك عالم بكنه ما في بواطنهم ، فإن من هتك ستر عدوه فربما يجرئه ذلك على أن لا يبالي بإظهار العداوة فيزداد الشر ، وإذا تركه على حاله بقي في وجل فيقل الشر. (وَعِظْهُمْ) أي ازجرهم عن النفاق والكيد والحسد والكذب وخوفهم بعذاب الآخرة (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ) أي خاليا بهم ليس معهم غيرهم لأن النصيحة على الملأ تقريع في السر محض المنفعة (قَوْلاً بَلِيغاً) (٦٣) أي مؤثرا وهو التخويف بعقاب الدنيا بأن يقول لهم : إن ما في قلوبكم من النفاق والكيد معلوم عند الله ولا فرق بينكم وبين سائر الكفار ، وإنما رفع الله السيف عنكم لأنكم أظهرتم الإيمان فإن واظبتم على هذه الأفعال القبيحة ظهر لكل الناس بقاؤكم على الكفر وحينئذ يلزمكم السيف. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) أي وما أرسلنا من رسول إلا ليؤمر الناس بطاعته بتوفيقنا وإعانتنا فطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله تعالى وهذه الآية دالة على أنه لا رسول إلا ومعه شريعة ليكون مطاعا في تلك الشريعة ومتبوعا فيها ودالة على أن الأنبياء معصومون عن المعاصي والذنوب ، ودالة على أنه لا يوجد شيء من الخير والشر والكفر والإيمان ، والطاعة والعصيان إلا بإرادة الله تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بترك طاعتك (جاؤُكَ) وبالغوا في التضرع إليك لينصبوك شفيعا لهم (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) أي أظهروا الندم على ما فعلوه وتابوا عنه (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) بأن يسأل الله أن يغفر الذنوب لهم عند توبتهم (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً) أي

__________________

(١) رواه القرطبي في التفسير (٥ : ٢٦٤) ، وابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (٤٥).

٢٠٦

يقبل توبتهم (رَحِيماً) (٦٤) أي يرحم تضرعهم ولا يرد استغفارهم ، والفائدة في العدول في قوله تعالى : (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) عن لفظ الخطاب إلى لفظ المغايبة إجلال شأن رسول الله فإن شأنه أن يستغفر لمن عظم ذنبه وإنهم إذا جاءوه فقد جاءوا من خصه الله تعالى برسالته وأكرمه بوحيه وجعله سفيرا بينه وبين خلقه وذلك مثل قول الأمير : حكم الأمير بكذا بدل قوله : حكمت بكذا (فَلا وَرَبِّكَ) لا مزيد لتأكيد معنى القسم كما زيدت في لئلا يعلم لتأكيد وجوب العلم أو مفيدة لنفي أمر سبق. والتقدير ليس الأمر كما يزعمون من أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك فوربك (لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) أي حتى يجعلوك حاكما (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أي فيما اختلف بينهم من الأمور فتقضي بينهم (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي صدورهم (حَرَجاً) أي ضيقا (مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٦٥) أي وينقادوا لك انقيادا تاما بظواهرهم.

قال عطاء ومجاهد والشعبي : إن هذه الآية في قصة اليهودي والمنافق فهذه الآية متصلة بما قبلها ، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال : نزلت في الزبير ابن العوام وحاطب بن أبي بلتعة اختصما في ماء فقضى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم للزبير (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) أي ولو أوجبنا عليهم قتل أنفسهم أو الخروج عن أوطانهم في توبتهم كتوبة بني إسرائيل ما فعلوا أحد الأمرين بطيبة النفس إلّا قليل منهم وهم المخلصون من المؤمنين. والمعنى أنا لو شددنا التكليف على الناس لما فعله إلا الأقلون وحينئذ يظهر كفرهم وعنادهم بل اكتفينا منهم في توبتهم بالتسليم لحكمك فليقبلوه بالإخلاص حتى ينالوا خير الدارين.

روي أن ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ناظر يهوديا ، فقال اليهودي : إن موسى أمرنا بقتل أنفسنا فقبلنا ذلك وإن محمدا يأمركم بالقتال فتكرهونه فقال : يا أنت لو أن محمدا أمرني بقتل نفسي لفعلت ذلك.

وروي أن ابن مسعود وعمار بن ياسر فالأمثل ذلك فنزلت هذه الآية وعن عمر بن الخطاب أنه قال : والله لو أمرنا ربنا بقتل أنفسنا لفعلنا والحمد لله الذي لم يأمرنا بذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأشار إلى عبد الله بن رواحة : «لو أن الله كتب ذلك لكان هذا في أولئك القليل» (١). أخرجه ابن أبي حاتم.(وَلَوْ أَنَّهُمْ) أي المنافقين (فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) أي ما يكلفون به (لَكانَ) أي فعلهم ذلك (خَيْراً لَهُمْ) أي لحصل لهم خير الدنيا والآخرة (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) (٦٦) لهم على الإيمان وسميت أوامر الله مواعظ لاقترانها بالوعد والترغيب (وَإِذاً) لو فعلوا ما أمروا به (لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا) أي

__________________

(١) رواه ابن كثير في التفسير (٢ : ٣٠٩).

٢٠٧

لأعطيناهم من عندنا (أَجْراً عَظِيماً) (٦٧) أي ثوابا وافرا في الجنة وكيف لا يكون عظيما وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»(١). (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٦٨) أي طريقا من عرصة القيامة إلى الجنة وحمل لفظ الصراط في هذا الموضع على هذا المعنى أولى ، لأنه تعالى ذكره بعد ذكر الأجر والدين الحق مقدم على الأجر ، والطريق من عرصة القيامة إلى الجنة إنما يحتاج إليه بعد استحقاق الأجر (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) بأن يعرف أنه إله ويقر بجلاله وعزته واستغنائه عمن سواه (وَالرَّسُولَ) أي بأن ينقاد انقيادا تاما لجميع الأوامر والنواهي (فَأُولئِكَ) أي المطيعون (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي فإنهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بعد المكان لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا وإذا أرادوا الزيادة والتلاقي قدروا على الوصول إليهم بسهولة (مِنَ النَّبِيِّينَ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره (وَالصِّدِّيقِينَ) أي السابقين إلى تصديق الرسل فصاروا في ذلك قدوة لسائر الناس وهم أفاضل أصحاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (وَالشُّهَداءِ) أي الذين يشهدون بصحة دين الله تعالى تارة بالحجة والبيان وأخرى بالسيف والسنان فالشهداء هم القائمون بالقسط ، وأما كون الإنسان مقتول الكافر فليس فيه زيادة شرف لأن هذا القتل قد يحصل في الفساق ، ومن لا منزلة له عند الله والمؤمنون قد يقولون : اللهم ارزقنا الشهادة فلو كانت الشهادة عبارة عن قتل الكافر إياه لكانوا قد طلبوا من الله ذلك القتل فإنه غير جائز لأن طلب صدور ذلك القتل من الكافر كفر فكيف يجوز أن يطلب من الله ما هو كفر (وَالصَّالِحِينَ) في الاعتقاد والعمل فإن الجهل فساد في الاعتقاد والمعصية فساد في العمل وهم الصارفون أعمارهم في طاعة الله وأموالهم في مرضاته وكل من كان اعتقاده صوابا وعمله غير معصية فهو صالح ، ثم إن الصالح قد يكون بحيث يشهد لدين الله بأنه هو الحق وأن ما سواه هو الباطل وهذه الشهادة تارة تكون بالحجة والدليل ، وأخرى بالسيف ، وقد يكون الصالح غير موصوف بكونه قائما بهذه الشهادة فثبت أن كل من كان شهيدا كان صالحا ، ولا عكس فالشهيد أشرف أنواع الصالح ، ثم الشهيد قد يكون صديقا وقد لا. ومعنى الصديق هو الذي كان أسبق إيمانا من غيره وكان إيمانه قدوة لغيره فثبت أن كل من كان صديقا كان شهيدا ولا عكس فثبت أن أفضل الخلق الأنبياء وبعدهم الصديقون وبعدهم من ليس له درجة إلا محض درجة الشهادة وبعدهم من ليس له إلا محض درجة الصلاح (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٦٩) أي ما أحسن أولئك المذكورين صاحبا في الجنة وحسن لها حكم نعم والمخصوص بالمدح محذوف

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب بدء الخلق ، باب : ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة ، ومسلم في كتاب الجنّة ، باب : ٢ ، وابن ماجة في كتاب الزهد ، باب : صفة الجنّة ، وأحمد في (م ٥ / ص ٣٣٤).

٢٠٨

تقديره «وحسن أولئك» من جهة الرفيق الممدوحون (ذلِكَ) أي مرافقة هؤلاء المنعم عليهم هو (الْفَضْلُ مِنَ اللهِ) وما سواه ليس بشيء (وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) (٧٠) بجزاء من أطاعه وبمقادير الفضل واستحقاق أهله.

روى جمع من المفسرين أن ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان شديد الحب لرسول الله قليل الصبر عنه فأتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه وعرف الحزن في وجهه فسأله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حاله. فقال : يا رسول الله ما بي وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك فذكرت الآخرة فخفت أن لا أراك هناك لأني إن دخلت الجنة فأنت تكون في درجات النبيين وأنا في درجات العبيد فلا أراك ، وإن أنا لم أدخل الجنة فحينئذ لا أراك أبدا ، فنزلت هذه الآية.

وقال الشعبي جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يبكي فقال : «ما يبكيك يا فلان؟» فقال : يا رسول الله بالله الذي لا إله إلا هو لأنت أحب إليّ من نفسي وأهلي ومالي وولدي ، وإني لأذكرك وأنا في أهلي فيأخذني مثل الجنون حتى أراك وذكرت موتي وأنك ترفع مع النبيين وإني إن أدخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك فلم يرد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) أي خذوا سلاحكم واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم (فَانْفِرُوا ثُباتٍ) أي انهضوا إلى قتال عدوكم واخرجوا للحرب جماعات متفرقة سرية بعد سرية (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) (٧١) أي مجتمعين كوكبة واحدة (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) أي وإن من عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن يتثاقلن وليتخلفن عن القتال وهم ضعفة المؤمنين والمنافقون (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ) يا معشر المجاهدين (مُصِيبَةٌ) كقتل وهزيمة وجهد من العيش. (قالَ) أي من يبطئ فرحا شديدا بتخلفه وحامدا لرأيه (قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَ) بالقعود (إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) (٧٢) أي حاضرا في المعركة فيصيبني ما أصابهم (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ) كفتح وغنيمة (مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَ) أي من يبطئ ندامة على قعوده (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) وهذه الجملة اعتراض بين الفعل ومفعوله. والمراد التعجب كأنه تعالى يقول : انظروا إلى ما يقول هذا المنافق كأنه ليس بينكم أيها المؤمنون وبين المنافق صلة في الدين ومعرفة في الصحبة ولا مخالطة أصلا (يا لَيْتَنِي كُنْتُ) غازيا (مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) (٧٣) أي فأصيب غنائم كثيرة وآخذ حظا وافرا. وقيل : الجملة التشبيهية حال من ضمير ليقولن أي ليقولن مشبها بمن لا معرفة بينكم وبينه.

وقيل : هي داخلة في المقول أي ليقولن المثبط للمثبطين من المنافقين ، وضعفه المؤمنين : كأن لم تكن بينكم وبين محمد معرفة في الصحة حيث لم يستصحبكم في الغزو حتى تفوزوا بما فاز محمد يا ليتني كنت معهم وغرض المثبط إلقاء العداوة بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٠٩

(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لإعلاء دين الله (الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) وهم المنافقون الذين تخلفوا عن أحد فأمروا أن يغيروا ما بهم من النفاق ويخلصوا الإيمان بالله ورسوله ويجاهدوا في سبيل الله فلم تدخل الباء إلا على المتروك ، لأن المنافقين تاركون للآخرة آخذون للدنيا أي فليقاتل الذين يختارون الحياة الدنيا على الآخرة. وعلى هذا فلا بد من حذف تقديره آمنوا ثم قاتلوا. أو المراد بـ «الذين» يشرون هم المؤمنون الذين تخلفوا عن الجهاد. وعلى هذا فيشرون بمعنى يبيعون أي فليقاتل في طاعة الله الذين يبيعون الدنيا بالآخرة أي يختارون الآخرة على الدنيا (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعة الله (فَيُقْتَلْ) أي يمت شهيدا (أَوْ يَغْلِبْ) أي يظفر على العدو (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ) أي نعطيه في كلا الوجهين (أَجْراً عَظِيماً) (٧٤) وهو المنفعة الخالصة الدائمة المقرونة بالتعظيم وإذا كان الأجر حاصلا على كلا التقديرين لم يكن عمل أشرف من الجهاد (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ) أي أيّ شيء لكم يا معشر المؤمنين غير مقاتلين مع أهل مكة أي لا عذر لكم في ترك المقاتلة (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لأجل طاعة الله (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) أي ولأجل المستضعفين (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) أي الصبيان. وقيل : المراد بالولدان العبيد والإماء أي وهم قوم من المسلمين الذين بقوا بمكة وعجزوا عن الهجرة إلى المدينة وكانوا يلقون من كفار مكة أذى شديدا.

قال ابن عباس : كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان (الَّذِينَ يَقُولُونَ) في مكة (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) وهي مكة وكون أهلها موصوفين بالظلم لأنهم كانوا مشركين وكانوا يؤذون المسلمين ويوصلون إليهم أنواع المكاره (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) (٧٥) أي ولّ علينا واليا من المؤمنين يقوم بمصالحنا ويحفظ علينا ديننا ، وانصرنا على أعدائنا برجل يمنعنا من الظالمين. فأجاب الله دعاءهم واستنقذهم من أيدي الكفار لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فتح مكة جعل عتاب بن أسيد أميرا لهم. وكان الولي هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والنصير عتاب بن أسيد ، وكان ابن ثماني عشرة سنة فكان ينصر المظلومين على الظالمين ، وينصف الضعيف من القوي والذليل من العزيز. (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لغرض نصرة دين الله وإعلاء كلمته (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) أي في سبيل غير رضا الله (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) أي جند الشيطان (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ) أي إن صنع الشيطان في فساد الحال على جهة الحيلة (كانَ ضَعِيفاً) (٧٦) لأن الله ينصر أولياءه والشيطان ينصر أولياءه ولا شك أن نصرة الشيطان لأوليائه. أضعف من نصرة الله لأوليائه ألا ترى أن أهل الخير والدين يبقى ذكرهم الجميل على وجه الدهر ، وإن كانوا حال حياتهم في غاية الفقر! وأما الملوك والجبابرة فإذا ماتوا انقرض أثرهم ولا يبقى في الدنيا رسمهم؟! (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) نزلت هذه الآية في جماعة من الصحابة : عبد الرحمن بن عوف الزهري ، وسعد بن أبي وقاص

٢١٠

الزهري ، وقدامة بن مظعون الجمحي ، ومقداد بن الأسود الكندي ، وطلحة بن عبيد الله التيمي كانوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة يلقون من المشركين أذى شديدا فيشكون ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون : ائذن لنا في قتالهم ويقول لهم رسول الله : «كفوا أيديكم عن القتل والضرب فإني لم أومر بقتالهم واشتغلوا بإقامة دينكم من الصلوات الخمس وزكاة أموالكم» (١). فلما هاجروا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة وأمروا بقتالهم في وقعة بدر كرهه بعضهم لا شكا في الدين بل نفورا عن الأخطار بالأرواح ، وخوفا من الموت بموجب الجبلة البشرية وذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا كُتِبَ) أي فرض (عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) أي الجهاد في سبيل الله (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) كطلحة بن عبيد الله التيمي (يَخْشَوْنَ النَّاسَ) أي أهل مكة (كَخَشْيَةِ اللهِ) أي كخوفهم من الله (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) أي بل أكثر خوفا لما كان من طبع البشر من الجبن لا للاعتقاد. ثم باتوا وأهل الإيمان يتفاضلون فيه (وَقالُوا) خوفا من الموت لا لكراهتهم أمر الله بالقتال وهذا عطف على جواب «لما» وهو «إذا» فإنها فجائية مكانية (رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) في هذا الوقت (لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي هلا عافيتنا من بلاء القتال إلى موتنا بآجالنا. وهذا القول استزادة في مدة الكف ويجوز أن يكون هذا مما نطقت به ألسنة حالهم من غير أن يتفوهوا به صريحا (قُلْ) جوابا لهذا السؤال عن حكمة فرض القتال عليهم من غير توبيخ لأنه لا للاعتراض لحكمه تعالى وترغيبا فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي (مَتاعُ الدُّنْيا) أي منفعة الدنيا (قَلِيلٌ) لأنه سريع التقضي وشيك الانصرام وإن أخرتم إلى ذلك لأجل (وَالْآخِرَةُ) أي ثواب الآخرة لا سيما المنوط بالقتال (خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) الكفر والفواحش. لأن نعم الآخرة كثيرة ومؤبدة وصافية عن كدورات القلوب ويقينية بخلاف نعم الدنيا فإنها مشكوكة عاقبتها في اليوم الثاني ومشوبة بالمكاره (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٧٧).

وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالغيبة. والباقون بالخطاب أي لا تنقصون من أجور أعمالكم قدر خيط في شق النواة. أو المعنى لا ينقصون من ثواب حسناتهم أدنى شيء (أَيْنَما تَكُونُوا) في الحضر أو السفر في البر أو البحر (يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) الذي تكرهون القتال لأجله زعما منكم أنه من محاله (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) أي حصون مرتفعة قوية بالجص (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) أي اليهود والمنافقين (حَسَنَةٌ) أي خصب ورخص السعر وتتابع الأمطار (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

قال المفسرون : كانت المدينة مملوءة من النعم وقت مقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما ظهر عناد اليهود والمنافقين على دعائه إياهم إلى الإيمان أمسك الله عنهم بعض الإمساك ، كما جرت عادته تعالى في جميع الأمم. فعند هذا قالوا : ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرجل نقصت ثمارنا ومزارعنا

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب الجهاد باب : وجوب الجهاد.

٢١١

وغلت أسعارنا منذ قدم. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي جدوبة وشدة وغلاء سعر (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) أي هذه من شؤم محمد وأصحابه. أي وإن تصبهم نعمة نسبوها إلى الله تعالى. وإن تصبهم بلية أضافوها إليك كما حكى الله عن قوم موسى بقوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١] وعن قوم صالح بقوله تعالى : (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) [النمل : ٤٧]. (قُلْ) لهم ردا لزعمهم الباطل وإرشادا لهم إلى الحق (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي كل واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى وخلقا وإيجادا من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء منهما بوجه من الوجوه كما تزعمون ، بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلا ، ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلى بها عقوبة (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (٧٨) أي وحيث كان الأمر كذلك فأي شيء حصل لهؤلاء المنافقين واليهود حال كونهم بمعزل من أن يفقهوا حديثا من الأحاديث أصلا فقالوا ما قالوه. إذ لو فهموا شيئا من ذلك لفهموا أن الكل من عند الله تعالى. فالنعمة منه تعالى بطريق التفضل ، والبلية منه تعالى بطريق العقوبة على ذنوب العباد عدلا منه تعالى. (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) أي ما أصابك أيها الإنسان من نعمة من النعم فهي منه تعالى بالذات تفضلا وإحسانا من غير استيجاب لها من قبلك (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) أي أيّ شيء أصابك من بلية من البلايا فهي منها بسبب اقترافها المعاصي الموجبة لها. وعن عائشة رضي‌الله‌عنها ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها ، وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) أي ليس لك إلا الرسالة والتبليغ وقد فعلت ذلك وما قصرت (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٧٩) على جدك وعدم تقصيرك في أداء الرسالة وتبليغ الوحي فأما حصول الهداية فليس إليك بل إلى الله (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ). وهذه الآية تدل على أنه لا طاعة إلّا لله ألبتة لأن طاعة الرسول لا تكون إلا طاعة لله. وقال الشافعي رضي‌الله‌عنه : وهذه الآية تدل على أن كل تكليف كلف الله به عباده في باب الوضوء والصلاة والزكاة ، والصوم والحج وسائر الأبواب في القرآن ولم يكن ذلك التكليف مبينا في القرآن فحينئذ لا سبيل لنا إلى القيام بتلك التكاليف إلا ببيان الرسول وإذا كان الأمر كذلك لزم القول بأن طاعة الرسول عين طاعة الله.

قال مقاتل : إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله» (١). فقال المنافقون : لقد قارب هذا الرجل الشرك وهو ينهى أن نعبد غير الله ويريد أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى فأنزل الله هذه الآية (وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (٨٠)

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الجهاد ، باب : يقاتل من وراء الإمام ويتقى به ، ومسلم في كتاب الإمارة ، باب : ٣٢ ، والنسائي في كتاب البيعة ، باب : الترغيب في طاعة الإمام ، وابن ماجة في المقدمة ، باب : اتباع سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأحمد في (م ٢ / ص ٩٣).

٢١٢

وجواب الشرط محذوف والمذكور تعليل له. أي ومن أعرض بقلبه عن حكمك يا محمد فأعرض عنه. أو المعنى ومن أعرض عن طاعة الله بظاهرهم فلا ينبغي أن تغتم بسبب ذلك الإعراض وأن تحزن ، فما أرسلناك لتحفظ الناس عن المعاصي. أو المعنى فما أرسلناك لتشتغل بزجرهم عن ذلك التولي. ثم نسخ هذا بآية الجهاد فالله تعالى ذكر هذا الكلام تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحزن ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يشتد حزنه بسبب كفرهم وإعراضهم. (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ) أي يقول المنافقون ـ عبد الله ابن أبي وأصحابه ـ إذا أمرتهم بشيء : شأننا طاعة أو منا طاعة أو أمرك يا محمد طاعة مر بما شئت نفعله. (فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ) أي خرجوا من مجلسك (بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) أي تفكر ليلا فريق من المنافقين وهم رؤساؤهم غير الذي تأمر وتكلموا فيما بينهم بعصيانك وتوافقوا عليه (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) أي ينزل إليك ما يتدبرونه ليلا في جملة ما يوحي إليك فيطلعك على أسرارهم أو يثبت ذلك في صحائف أعمالهم ليجازوا به (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي لا تهتك سترهم ولا تفضحهم إلى أن يستقيم أمر الإسلام (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في شأنهم فإن الله يكفيك شرهم وينتقم منهم (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٨١) أي مفوضا إليه لمن توكل عليه (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) أي أيعرضون عن القرآن فلا يتأملون فيه ليعلموا كونه من عند الله تعالى بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحي الناطق بنفاقهم (وَلَوْ كانَ) أي القرآن (مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ) كما يزعمون (لَوَجَدُوا فِيهِ) أي القرآن (اخْتِلافاً كَثِيراً) (٨٢) بأن يكون بعض أخباره غير مطابق للواقع إذ لا علم بالأمور الغيبية ماضية كانت أو مستقبلة لغيره تعالى ، وحيث كانت كلها مطابقة للواقع تعين كونه من عنده تعالى. (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) أي وإذا جاء المنافقين خبر بأمر من الأمور سواء كان من باب الأمن أو من باب الخوف أفشوه وكان ذلك سبب الضرر ، لأن هذه الارجافات لا تنفك عن الكذب الكثير ، ولأن العداوة الشديدة صارت قائمة بين المسلمين والكفار وذلك أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يبعث السرايا ، فإذا غلبوا أو بادر المنافقون يستخبرون عن حالهم ثم يتحدثون به قبل أن يحدث به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيضعفون به قلوب المؤمنين فأنزل الله هذه الآية. (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي ولو ردوا الخبر الذي تحدثوا به إلى الرسول وإلى ذوي العقل والرأي من المؤمنين وهم كبار الصحابة ـ كأبي بكر ، وعمر وعثمان ، وعلي ـ بأن لم يحدّثوا به حتى يكون هؤلاء هم الذين يظهرونه لعلم ذلك الخبر من يستخرجونه من جهة هؤلاء. أي ولو أن هؤلاء المنافقين المذيعين ردوا أمر الأمن والخوف إلى الرسول وإلى أولي الأمر وطلبوا معرفة الحال فيه من جهتهم لعلمه هؤلاء المنافقون المذيعون من جانب الرسول ومن جانب أولي الأمر (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) ببعثه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنزال القرآن (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) وكفرتم بالله (إِلَّا قَلِيلاً) (٨٣) منكم فإن ذلك القليل بتقدير عدم بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعدم إنزال القرآن ما كان يتبع الشيطان وما كان يكفر بالله وهم مثل قس بن ساعدة وورقة بن نوفل ، وزيد بن عمرو بن نفيل وأضرابهم (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعة الله.

٢١٣

قيل : وهذا متصل بقوله تعالى : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [النساء : ٧٥]. وقيل : هذا معطوف على قوله تعالى : (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) [النساء : ٧٦]. (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) أي إلا فعل نفسك فلا يضرك مخالفتهم فتقدم أنت إلى الجهاد وإن لم يساعدك أحد فإن الله ناصرك. واعلم أن الجهاد في حق غير الرسول من فروض الكفايات فما لم يغلب على الظن أنه يفيد لم يجب بخلاف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه على ثقة من النصر والظفر. (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أي على الخروج معك بذلا للنصيحة فإنهم آثمون بالتخلف لأن القتال كان مفروضا عليهم إذ ذاك ، فإن فرضه في السنة الثانية وهذه القضية في الرابعة ، كما روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واعد أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم. فنزلت هذه الآية (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي أن يمنع صولة كفار مكة ، وعسى وعد من الله تعالى واجب الإنجاز (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) أي قوة من قريش (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) (٨٤) أي تعذيبا (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) أي من ثوابها ويندرج فيها الدعاء للمسلم فإنه شفاعة إلى الله تعالى (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) أي نصيب من وزرها مساو لها في المقدار. والغرض من هذه الآية بيان أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما حرضهم على الجهاد فقد استحق بذلك التحريض أجرا عظيما. ولو لم يقبلوا أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يرجع إليه من عصيانهم شيء من الوزر ، وذلك لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذل الجهد في ترغيبهم في الطاعة ولم يرغبهم في المعصية ألبتة فحقا يرجع إليه من طاعتهم أجر ولا يرجع إليه من معصيتهم وزر (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) (٨٥) أي قادرا على إيصال الجزاء إلى الشافع مثل ما يوصله إلى المشفوع فيه وحافظا للأشياء شاهدا عليها فهو عالم بأن الشافع يشفع في حق أو في باطل فيجازي كلا بما علم منه (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) أي إذا سلم عليكم فردوا على المسلم ردا أحسن من ابتدائه أو أجيبوا التحية بمثلها ومنتهى الأمر في السلام أن يقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، بدليل أن هذا القدر هو الوارد في التشهد فالأحسن هو أن المسلم إذا قال : السلام عليك زيد في جوابه الرحمة ، وإن ذكر السلام والرحمة في الابتداء زيد في جوابه البركة ، وإن ذكر الثلاثة في الابتداء أعيدت في الجواب ، ورد الجواب واجب على الفور وهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين والأولى للكل أن يذكروا الجواب إظهارا للإكرام ومبالغة فيه وترك الجواب إهانة ، والإهانة ضرر ، والضرر حرام. وإذا استقبلك واحد فقل : سلام عليكم واقصد الرجل والملكين فإنك إذا سلمت عليهما ردا السلام عليك ومن سلم الملك عليه فقد سلم من عذاب الله. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم»(١). وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تبدأ

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الاستئذان ، باب : كيف يردّ على أهل الذمّة بالسلام ، ومسلم في

٢١٤

اليهودي بالسلام وإذا بدأك فقل وعليك» (١). وعن أبي حنيفة أنه قال : لا يبدأ اليهود بالسلام في كتاب ولا في غيره. وعن أبي يوسف قال : لا تسلم عليهم ولا تصافحهم ، وإذا دخلت عليهم فقل : السلام على من اتّبع الهدى. ورخص بعض العلماء في ابتداء السلام عليهم إذا دعت إلى ذلك حاجة وأما إذا سلموا علينا فقال أكثر العلماء : ينبغي أن يقال : وعليك. ثم هاهنا تفريع وهو أنا إذا قلنا لهم : وعليكم السلام فهل يجوز ذكر الرحمة؟ فقال الحسن : يجوز أن يقال للكافر : وعليكم السلام ، لكن لا يقال : ورحمة الله لأنها استغفار. وعن الشعبي أنه قال لنصراني وعليكم السلام ورحمة الله ، فقيل له في ذلك ، فقال : أليس في رحمة الله يعيش. وقيل : التحية بالأحسن عند كون المسلم مسلما ورد مثلها عند كونه كافرا. والمقصود من هذه الآية : الوعيد ، فإن الواحد من جنس الكفار قد يسلم على الرجل المسلم ، ثم إن ذلك المسلم يتفحص عن حاله بل ربما قتله طمعا منه في سلبه فالله تعالى زجر عن ذلك فإياكم أن تتعرضوا له بالقتل (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) (٨٦) أي محاسبا على كل أعمالكم وكافيا في إيصال جزاء أعمالكم إليكم فكونوا على حذر من مخالفة هذا التكليف. وهذا يدل على شدة الاعتناء بحفظ الدماء (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) مبتدأ وخبر. قال بعضهم : كأنه تعالى يقول من سلم عليكم فاقبلوا سلامه وأكرموه بناء على الظاهر فإن البواطن إنما يعرفها الله الذي لا إله إلّا هو وإنما ينكشف بواطن الخلق للخلق في يوم القيامة. (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي والله ليحشرنكم من قبوركم إلى حساب يوم القيامة (لا رَيْبَ فِيهِ) أي يوم القيامة (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) (٨٧) وهذا استفهام على سبيل الإنكار. والمقصود منه بيان أنه يجب كونه تعالى صادقا ، وأن الكذب والخلف في قوله تعالى محال (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) أي ما لكم يا معشر المؤمنين صرتم في أمر المنافقين فرقتين وهو استفهام على سبيل الإنكار. أي لم تختلفون في كفرهم مع أن دلائل كفرهم ونفاقهم ظاهرة جلية. فليس لكم أن تختلفوا في كفرهم بل يجب أن تقطعوا به. نزلت هذه الآية في عشرة نفر قدموا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسلمين فأقاموا بالمدينة ما شاء الله ثم قالوا : يا رسول الله نريد أن نخرج إلى الصحراء فائذن لنا فيه ، فأذن لهم. فلما خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين فتكلم المؤمنون فيهم. فقال بعضهم : لو كانوا مسلمين مثلنا لبقوا معنا وصبروا كما

__________________

كتاب السلام ، باب : ٩ ، والدارمي في كتاب الاستئذان ، باب : في رد السلام على أهل الكتاب ، وأحمد في (م ٢ / ص ٩).

(١) رواه أبو داود في كتاب الأدب ، باب : في السلام على أهل الذمة ، ومسلم في كتاب السلام ، باب : ١٤ ، والترمذي في كتاب الاستئذان ، باب : ١٢ ، وابن ماجة في كتاب الأدب ، باب : السلام على أهل الذمة ، وأحمد في (م ٢ / ص ٢٦٣).

٢١٥

صبرنا. وقال قوم : هم مسلمون وليس لنا أن ننسبهم إلى الكفر إلى أن يظهر أمرهم. فبيّن الله تعالى نفاقهم في هذه الآية (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ) أي ردهم إلى أحكام الكفار من الذل والسبي والقتل (بِما كَسَبُوا) من إظهار الكفر بعد ما كانوا على النفاق. وذلك أن المنافق ما دام يكون متمسكا في الظاهر بالشهادتين لم يكن لنا سبيل إلى قتله فإذا أظهر الكفر فحينئذ يجري الله تعالى عليه أحكام الكفار (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) عن الإيمان (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) عن دينه (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (٨٨) إلى إدخاله في الإيمان (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا) أي تمنوا كفركم بمحمد والقرآن كفرا مثل كفركم (فَتَكُونُونَ) أنتم وهم (سَواءً) في الكفر (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي إذا كان حالهم ودادة كفركم فلا توالوهم حتى ينتقلوا من أعمال الكفار إلى أعمال المسلمين لأجل أمر الله تعالى.

اعلم أن الهجرة تارة تحصل بالانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان ، وأخرى تحصل بالانتقال عن أعمال الكفار إلى أعمال المسلمين. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه».

وقال المحققون : الهجرة في سبيل الله عبارة عن ترك منهيات الله وفعل مأموراته وذلك يشمل مهاجرة دار الكفر ، ومهاجرة شعار الكفر وإنما قيد الله تعالى الهجرة بكونها في سبيل الله لإخراج الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ومن شعار الكفر إلى شعار الإسلام لغرض من أغراض الدنيا. فإنما المعتبر وقوع تلك الهجرة لأجل أمر الله تعالى (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن الإيمان والهجرة ولزموا مواضعهم خارجا عن المدينة (فَخُذُوهُمْ) أي فأسروهم إذا قدرتم عليهم (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) أي في الحل والحرم فإن حكمهم حكم سائر المشركين أسرا وقتلا (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ) في هذه الحالة (وَلِيًّا) يتولى شيئا من مهماتكم (وَلا نَصِيراً) (٨٩) ينصركم على أعدائكم (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ) أي ينتهون (إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي إلا من دخل في عهد من كان داخلا في عهدكم فهم أيضا داخلون في عهدكم.

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في حق هلال بن عويمر الأسلمي ، وسراقة بن مالك المدلجي وبني خزيمة بن عامر بن عبد مناف. وفي هذه الآية بشارة عظيمة لأهل الإيمان لأنه تعالى لما رفع السيف عمن التجأ إلى من التجأ إلى المسلمين فبأن يرفع العذاب في الآخرة عمن التجأ إلى محبة الله ومحبة رسوله كان أولى. (أَوْ) إلا الذين (جاؤُكُمْ حَصِرَتْ) أي ضاقت (صُدُورُهُمْ) عن المقاتلة فلا يريدون (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ) لأنكم مسلمون وللعهد (أَوْ) لا يريدون أن (يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) لأنهم أقاربهم فهم لا عليكم ولا لكم. أي لما أمر الله بأخذ الكفار وقتلهم استثنى من المأمور فريقين أحدهما من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين والآخر من أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) ببسط صدورهم

٢١٦

وتقوية قلوبهم وإزالة الرعب عنها. والمعنى أن ضيق صدورهم عن قتالكم إنما هو بقذف الله الرعب في قلوبهم ولو قوّى قلوبهم على قتال المسلمين لتسلطوا عليهم. والمقصود من هذا الكلام أن الله تعالى منّ على المسلمين بكف بأس المعاهدين (فَلَقاتَلُوكُمْ) وهذا في الحقيقة جواب «لو» وما قبله توطئة له ، وأعيدت اللام توكيدا (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) أي تركوكم (فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أي الانقياد للصلح والأمان (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) (٩٠) أي طريقا بالأسر أو بالقتل (سَتَجِدُونَ) عن قريب (آخَرِينَ) أي قوما من المنافقين غير من سبق وهم قوم من أسد وغطفان كانوا مقيمين حول المدينة فإذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا. وقالوا لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا على دينكم ـ ليأمنوا من قتال المسلمين ـ وإذا رجعوا إلى قومهم كفروا أو نكثوا عهودهم ـ ليأمنوا من قومهم ـ حتى كان الرجل منهم يقول له قومه : بما ذا أسلمت؟ فيقول : آمنت بهذا القرد وبهذا العقرب والخنفساء ، كما قال تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ) أي يأمنوا من قتالكم بإظهار الإسلام عندكم (وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) أي من بأسهم بإظهار الكفر إذا رجعوا إليهم (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) أي كلما دعوا إلى قتال المسلمين (أُرْكِسُوا فِيها) أي قلبوا في الفتنة أقبح قلب وكانوا فيها شرا من كل عدو شرير. أي كلما دعاهم قومهم إلى الكفر وقتال المسلمين رجعوا إليه وهذا استعارة لشدة إصرارهم على الكفر وعداوة المسلمين لأن من وقع في شيء منكوسا يتعذر خروجه منه (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي فإن لم يتركوا قتالكم ولم يطلبوا الصلح منكم ولم يكفروا أيديهم عن قتالكم فخذوهم أي وأسروهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم أي وجدتموهم في الحل والحرم (وَأُولئِكُمْ) أي أهل هذه الصفة (جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) (٩١) أي جعلنا لكم على جواز قتل هؤلاء حجة واضحة وهي ظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر وإضرارهم بأهل الإسلام أو جعلنا لكم عليهم تسلطا ظاهرا حيث أذنا لكم في أخذهم وقتلهم (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) أي ليس لمؤمن أن يقتل مؤمنا ألبتة إلا عند الخطأ وهو ما إذا رأى عليه شعار الكفار أو وجده في عسكرهم فظنه مشركا فههنا يجوز قتله ولا شك أن هذا خطأ فإنه ظن أنه كافر مع أنه غير كافر.

روي أن عياش بن أبي ربيعة أسلم في مكة وهاجر إلى المدينة قبل هجرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها ، وتحصن في أطم من آطامها خوفا من قومه ، فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس تحت سقف حتى يرجع فخرج أبو جهل بن هشام ، والحرث بن زيد بن أبي أنيسة فأتياه ، فقال أبو جهل : أليس إن محمدا يأمرك ببر الأم؟ فانصرف وأحسن إلى أمك وأنت على دينك. فرجع إلى مكة فلما دنوا من مكة قيدا يديه ورجليه وجلده كل واحد منهما مائة جلدة ، فلما دخل على أمه حلفت لا يزول عنه القيد حتى يرجع إلى دينه الأول فتركوه موثوقا مطروحا في الشمس ما شاء

٢١٧

الله ، ففعل بلسانه فأتاه الحرث ابن زيد فقال : يا عياش إن كان دينك الأول هدى فقد تركته ، وإن كان ضلالا فقد دخلت الآن فيه. فغضب عياش من مقالته وقال : والله لا ألقاك خاليا أبدا إلا قتلتك ثم هاجر بعد ذلك وأسلم الحرث بعد ذلك ، وهاجر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلقيه عياش في ظهر قباء خاليا ولم يشعر بإسلامه فقتله ، فلما أخبره الناس بأنه كان مسلما ندم على فعله وأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : قتلته ولم أشعر بإسلامه فنزلت هذه الآية (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) بأن يقصد رمي المشرك فأصاب مسلما ، أو يظن الشخص مشركا فقتله فبان مسلما أو يضرب المسلم بضربة لا تقتل غالبا فيموت منها.

فالأول : خطأ في الفعل.

والثاني : خطأ في القصد.

والثالث : خطأ في القتل وإن كان عمدا في الضرب ولذلك سمي شبه العمد (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) أي فعليه إعتاق نسمة محكوم بإسلامها وإن كانت صغيرة ودية مؤداة إلى ورثة المقتول يقتسمونها كسائر المواريث (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أي إلا أن يعفو أهل المقتول عن الدية ويتركوها وسمي العفو عنها صدقة حثا عليه وتنبيها على فضله. وفي الحديث «كل معروف صدقة» (١). (فَإِنْ كانَ) أي المقتول خطأ (مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) أي من سكان دار الحرب (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ولم يعلم القاتل بكونه مؤمنا (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي فالواجب على القاتل بسبب قتله الواقع على سبيل الخطأ هو تحرير الرقبة ، وأما الدية فلا تجب إذ لا وراثة بين المقتول وبين أهله لأنهم محاربون كالحرث بن زيد فإنه من قوم محاربين لرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما الكفارة فإنها حق الله تعالى ليقوم المعتوق به مقام المقتول في المواظبة على العبادات (وَإِنْ كانَ) أي المقتول خطأ (مِنْ قَوْمٍ) كفرة (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي عهد مؤقت أو مؤبد (فَدِيَةٌ) أي فعلى قاتله دية (مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) أي المقتول. وهي ثلث دية المؤمن إن كان نصرانيا أو يهوديا تحل مناكحته ، وثلثا عشرها إن كان مجوسيا أو كتابيا لا تحل مناكحته (وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) على القاتل (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) أي فمن كان فقيرا فعليه ذلك الصيام بدلا عن الرقبة. وقال مسروق : بدلا عن مجموع الكفارة والدية والتتابع واجب حتى لو أفطر يوما وجب الاستئناف إلا أن يكون الفطر بحيض أو نفاس (تَوْبَةً مِنَ اللهِ)

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأدب ، باب : كل معروف صدقة ، ومسلم في كتاب الزكاة ، باب : ٥٢ ، وأبو داود في كتاب الأدب ، باب : في المعونة لمسلم ، والترمذي في كتاب البرّ ، باب : ٤٥ ، وأحمد في (م ٣ / ص ٣٤٤).

٢١٨

أي شرع ذلك تجاوزا من الله على تقصيره في ترك الاحتياط لأنه لو بالغ في الاحتياط لم يصدر عنه ذلك الفعل (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بأن القاتل لم يتعمد (حَكِيماً) (٩٢) في أنه تعالى ما يؤاخذه بذلك الخطأ (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ).

روي أن مقيس بن ضبابة الكناني كان قد أسلم هو وأخوه هشام ، فوجد مقيس أخاه هشاما قتيلا في بني النجار فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر له القصة فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه زبير ابن عياض ـ الفهري وكان من أصحاب بدر ـ إلى بني النجار يأمرهم بتسليم القاتل إلى مقيس ليقتص منه إن علموه وبأداء الدية إن لم يعلموه. فقالوا : سمعا وطاعة ، فأتوه بمائة من الإبل فانصرفا راجعين إلى المدينة حتى إذا كانا ببعض الطريق تغفل مقيس الكناني رسول سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفهري فرماه بصخرة فشدخه ، ثم ركب بعيرا من الإبل واستاق بقيتها راجعا إلى مكة كافرا ، فنزلت هذه الآية وهو الذي استثناه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الفتح ممن أمنه فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة (خالِداً فِيها) حال مقدرة من فاعل فعل مقدر يقتضيه المقام. كأنه قيل : فجزاؤه أن يدخل جهنم خالدا فيها (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ) أي انتقم منه عطف على مقدر كأنه قيل بطريق الاستئناف : حكم الله بأن جزاءه ذلك وغضب عليه (وَلَعَنَهُ) أي أبعده عن الرحمة بجعل جزائه ما ذكر (وَأَعَدَّ لَهُ) في جهنم (عَذاباً عَظِيماً) (٩٣) لا يقدر قدره.

وقال ابن عباس : ومن يقتل مؤمنا رسول سيدنا رسول الله متعمدا بقتله ـ أي بأن يقصد قتله بالسبب الذي يعلم إفضاءه إلى الموت سواء كان ذلك جارحا أو لم يكن ـ فجزاؤه جهنم بقتله عامدا عالما بكونه مؤمنا خالدا فيها بشركه وارتداده وغضب الله عليه بأخذه الدية ، ولعنه بقتله غير قاتل أخيه ، وأعدّ له عذابا عظيما أي شديدا بجراءته على الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي سافرتم في الغزو (فَتَبَيَّنُوا) أي تحققوا حتى يتبين لكم المؤمن من الكافر. قرأ حمزة والكسائي هنا في الموضعين. وفي الحجرات : (فَتَبَيَّنُوا) أي اطلبوا التثبت. والمراد في الآية فتأنوا واتركوا العجلة واحتاطوا (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) أي لا تقولوا بغير تأمل لمن حياكم بتحية الإسلام أو لمن ألقى إليكم الانقياد بقول : لا إله إلّا الله محمد رسول الله (لَسْتَ مُؤْمِناً) فتقتلونه (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي حال كونكم طالبين لماله الذي هو سريع النفاد (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) أي ثواب كثير (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) أي مثل ذلك الذي ألقى إليكم السلام كنتم أنتم أيضا في أول إسلامكم لا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم من تحية الإسلام ونحوها. (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بأن قيل منكم تلك المرتبة وعصم بها دماءكم وأموالكم ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم (فَتَبَيَّنُوا) أي إذا كان الأمر كذلك أي فقيسوا حاله بحالكم وافعلوا به ما فعل بكم في أوائل أموركم من قبول ظاهر الحال من غير

٢١٩

وقوف على تواطئ الظاهر والباطن (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ) من الأعمال الظاهرة والخفية (خَبِيراً) (٩٤) فيجازيكم بحسبها إن خير فخير وإن شرا فشر. فلا تتهاونوا في القتل واحتاطوا فيه.نزلت هذه الآية في شأن مرداس بن نهيك رجل من أهل فدك وكان قد أسلم هو ولم يسلم غيره من قومه فذهبت سرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قومه مع أميرهم غالب بن فضالة فهربوا وبقي مرداس لثقته بإسلامه ، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل ، فلما تلاحقوا وكبروا ، كبر ونزل وقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم. فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه.فأخبروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجد وجدا شديدا وقال : «قتلتموه إرادة ما معه» فقال : أسامة إنه قال بلسانه دون قلبه. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هلا شققت عن قلبه» ثم قرأ هذه الآية على أسامة فقال : يا رسول الله استغفر لي. فقال : «فكيف وقد تلا لا إله إلا الله؟» قال أسامة : فما زال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعيدها حتى وددت إن لم أكن أسلمت إلا يومئذ ثم استغفر لي ثلاث مرات وقال : «أعتق رقبة»(١). (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) الذين أذن لهم في القعود عن الجهاد اكتفاء بغيرهم الذين هم (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) من مرض أو عاهة ، من عمي أو عرج أو زمانة أو نحوها. وفي معناه العجز عن الأهبة.

قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم بالرفع بدل من «القاعدون» ، ونافع وابن عامر والكسائي. والباقون بالنصب على الحال من «القاعدون». والأعمش بالجر على الصفة للمؤمنين (وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ).

قال ابن عباس : أي لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها. (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ) أولي الضرر (دَرَجَةً) أي فضيلة في الآخرة لأن المجاهد باشر الجهاد بنفسه وماله مع النية وأولو الضرر كانت لهم نية ولم يباشروا الجهاد ، فنزلوا عن المجاهدين درجة (وَكُلًّا) من المجاهدين والقاعدين (وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي الجنة بإيمانهم (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ) في سبيل الله (عَلَى الْقاعِدِينَ) الذين لا عذر لهم ولا ضرر (أَجْراً عَظِيماً) (٩٥) (دَرَجاتٍ مِنْهُ) أي من الله تعالى (وَمَغْفِرَةً) للذنوب (وَرَحْمَةً) من العذاب (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لمن خرج إلى الجهاد (رَحِيماً) (٩٦) لمن مات على التوبة. وقيل : هذا التفضيل بين المجاهدين والقاعدين غير أولي الضرر فقط. وذلك إما لتنزيل الاختلاف بين التفضيلين منزلة الاختلاف الذاتي ، كأنه قيل : فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة لا يقادر قدرها ولا يبلغ كنهها وإما

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان ، باب : ١٥٨ ، وأبو داود في كتاب الجهاد ، باب : على ما يقاتل المشركون ، وابن ماجة في كتاب الفتن ، باب : الكف عمن قال : لا إله إلا الله ، وأحمد في (م ٤ / ص ٤٣٩).

٢٢٠