مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

أسألك بالرحم وأما قراءة الأرحام بالنصب فمعناه واتقوا الله بالتزام طاعته واجتناب معاصيه واتقوا الأرحام بوصلها وعدم قطعها فيما يتصل بالبر والإحسان والإعطاء. أو يقال : والزموا الأرحام وصلوها. وقد دلت الآية على جواز المسألة فيما بيننا بالله كقوله : بالله أسألك. روى مجاهد عن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سألكم بالله فأعطوه» (١). (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (١) أي حافظا مطلعا على جميع ما يصدر عنكم من الأفعال والأقوال وعلى ما في ضمائركم من النيات مريدا لمجازاتكم على ذلك (وَآتُوا الْيَتامى) الذين بلغوا (أَمْوالَهُمْ) التي عندكم.

وقال أبو السعود : أي لا تتعرضوا لأموال اليتامى بسوء حتى تأتيهم وتصل إليهم سالمة سواء أريد باليتامى الصغار أو ما يعم الصغار والكبار. (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) أي لا تستبدلوا الحرام الذي هو مال اليتامى بالحلال الذي هو مالكم الذي أبيح لكم من المكاسب بأن لا تتركوا أموالكم وتأكلوا أموالهم (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) أي لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم حتى لا تفرقوا بين أموالهم وأموالكم في حل الانتفاع بها فلا يحل لكم من أموالهم ما زاد على قدر الأقل من أجرتكم ونفقتكم. (إِنَّهُ) أي أكل مال اليتيم (كانَ حُوباً كَبِيراً) (٢) أي ذنبا عظيما عند الله. نزلت هذه الآية في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فنزلت هذه الآية. فلما سمعها العم قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول ، نعوذ بالله من الحوب الكبير ودفع ماله إليه. (وَإِنْ خِفْتُمْ) يا أولياء اليتامى (أَلَّا تُقْسِطُوا) أي أن لا تعدلوا (فِي الْيَتامى) إذا نكحتموهن (فَانْكِحُوا) غيرهن من الغرائب.

روي عن عروة أنه قال : قلت لعائشة : ما معنى قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى). قالت : يا ابن أختي ، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ، ويريد أن ينكحها بأدنى من صداقها ، ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة رديئة لعلمه بأنه ليس لها من يذب عنها. فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا في إكمال الصداق وأمروا أن ينكحوا ما سواهن. وقال الحسن : كان الرجل من أهل المدينة تكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له نكاحها فيتزوجها لأجل مالها ، وهي لا تعجبه وإنما تزوجها كراهة أن يدخل غريب فيشاركه في مالها ، ثم يسيء صحبتها ويتربص بها إلى أن تموت فيرثها فعاب الله عليهم ذلك وأنزل هذه الآية.

وروي عن عكرمة أنه قال : كان الرجل عنده نسوة وأيتام فإذا أنفق مال نفسه على النسوة ولم يبق له مال وصار محتاجا أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهن فقيل لهم : لا تزيدوا على أربع

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الأدب ، باب : في الرجل يستعيذ بالرجل ، والنّسائي في كتاب الزكاة ، باب : من سأل بالله عزوجل ، وأحمد في (م ٢ / ص ٦٨).

١٨١

فإنهم كانوا يتزوجون من النساء ما شاؤوا تسعا أو عشرا ، وكان تحت قيس بن الحرث ثمان نسوة فحرم الله عليهم ما فوق الأربع. أي وإن خفتم ألا تعدلوا في حق اليتامى إذا تزوجتم بهن بإساءة العشرة أو بنقص الصداق فأنكحوا (ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) أي فتزوجوا من استطابتها نفوسكم ومالت إليها قلوبكم من الأجنبيات (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ولا تزيدوا على أربع (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) بين هذه الأعداد في القسمة والنفقة كما لم تعدلوا فيما فوق هذه الأعداد وكما لم تعدلوا في حق اليتامى (فَواحِدَةً) أي فالزموا أو فاختاروا واحدة وذروا الجمع.

وقرئ «فواحدة» بالرفع أي فكفت واحدة أو فحسبكم واحدة (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي من السراري فإنه لا قسمة لهن عليكم (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) (٣) أي اختيار الحرة الواحدة أو التسري أقرب إلى أن لا تميلوا ميلا محظورا بالنسبة إلى ما عداهما والأمر يدور مع عدم الجور لا مع تحقق العدل. (وَآتُوا النِّساءَ) اللاتي أمرتم بنكاحهن (صَدُقاتِهِنَ) أي مهورهن (نِحْلَةً) أي فريضة من الله تعالى كما قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد ، وإنما فسروا النحلة بالفريضة لأن النحلة في اللغة معناها الديانة والملة والشرعة والمذهب فقوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) أي أعطوهن مهورهن لأنها شريعة ودين ومذهب وما هو كذلك فهو فريضة وانتصاب نحلة على أنها مفعول له أو حال من الصدقات. (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) أي فإن وهبن لكم شيئا من الصداق بطيبة نفس من غير أن يكون السبب فيه شكاسة أخلاقكم معهن أو سوء معاشرتكم معهن (فَكُلُوهُ) أي فخذوا ذلك الشيء وتصرفوا فيه (هَنِيئاً) أي حلالا بلا إثم (مَرِيئاً) (٤) أي بلا ملامة وعن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أنه كتب إلى قضاته أن النساء يعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) أي ويا أيها الأولياء لا تؤتوا المبذرين من اليتامى الذين يكونون تحت ولايتكم أموالهم التي في أيديكم التي جعل الله الأموال معاشكم أي لا يحصل معاشكم إلا بهذا المال مخافة أن يضيعوها وأضاف الله المال إلى الأولياء من حيث إنهم ملكوا التصرف فيه لا لأنهم ملكوا المال ، ويكفي حسن الإضافة أدنى سبب (وَارْزُقُوهُمْ فِيها) أي أنفقوا عليهم (وَاكْسُوهُمْ) وإنما قال الله فيها ولم يقل منها لئلا يكون ذلك أمرا بجعل بعض أموالهم رزقا لهم بل أمرهم بأن يجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم وكسوتهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من أصول المال (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٥) أي جميلا وهو كل ما سكنت إليه النفس من قول لحسنه شرعا أو عقلا كأن يقول الولي للصبي : مالك عندي وأنا خازن له فإذا رشدت سلمت إليك أموالك (وَابْتَلُوا الْيَتامى) أي واختبروا من لا يتبين منهم السفه قبل البلوغ في دينهم وتصرفهم في أموالهم بما يليق بحالهم بأن تجربوا ولد التاجر بالبيع والشراء ، والمماسكة فيهما ، وولد الزراع بالزراعة والنفقة على القوام بها ، والأنثى فيما يتعلق بالغزل والقطن وصون الأطعمة عن الهرة ونحوها. وحفظ متاع البيت وولد الأمير ونحوه بالإنفاق مدة في خبز وماء ولحم ونحوها.

١٨٢

قال أبو حنيفة رضي‌الله‌عنه : تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة لأن قوله تعالى : (وَابْتَلُوا الْيَتامى) أمر للأولياء بأن يأذنوا لهم في البيع والشراء قبل البلوغ وذلك يقتضي صحة تصرفاتهم. وقال الشافعي ولا يصح عقد الصبي المميز بل يمتحن في المماسكة ، فإذا أراد العقد عقد الولي لأنه لا يجوز دفع المال إليه حال الصغر فثبت عدم جواز تصرفه حال الصغر (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) أي إذا بلغوا مبلغ الرجل الذي يلزمه الحدود. وذلك بأن يحتلموا وإنما سمي الاحتلام ببلوغ النكاح لأنه إنزال الماء الدافق الذي يكون في الجماع (فَإِنْ آنَسْتُمْ) أي عرفتم (مِنْهُمْ رُشْداً) أي اهتداء إلى وجوه التصرفات من غير تبذير وعجز عن خديعة الغير (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) التي عندكم من غير تأخر عن حد البلوغ.

وقرئ «رشدا» بفتحتين و «رشدا» بضمتين. وعند الشافعي الصلاح يعتبر مع مصلح للمال في الدين بأن لا يرتكب كبيرة ولا يصر على صغيرة وعند أبي حنيفة هو غير معتبر وفائدة هذا الخلاف أن الشافعي يرى الحجر على الفاسق وأبا حنيفة لا يراه (وَلا تَأْكُلُوها) أي أموال اليتامى أيها الأولياء (إِسْرافاً وَبِداراً) أي مسرفين بغير حق ومبادرين إلى إنفاقها (أَنْ يَكْبَرُوا) أي مخافة كبرهم فيمنعوكم عن ذلك وتقولون : ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينزعوها من أيدينا. (وَمَنْ كانَ) من الأولياء والأوصياء (غَنِيًّا) عن مال اليتيم (فَلْيَسْتَعْفِفْ) أي فليتنزه عن أكلها وليقنع بما آتاه الله تعالى من الرزق إشفاقا على اليتيم وإبقاء على ماله (وَمَنْ كانَ) من الأولياء والأوصياء (فَقِيراً) محتاجا (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) أي بقدر أجرة خدمته لليتيم وعمله في مال اليتيم. ويقال : فليأكل بالمعروف أي بالقرض ثم إذا أيسر قضاه وإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه. وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية وهذا القرض في أصول الأموال أما نحو ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب فمباح لنحو الوصي إذا كان غير مضر بالمال وهذا قول أبي العالية وغيره. (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) أي اليتامى (أَمْوالَهُمْ) بعد البلوغ والرشد (فَأَشْهِدُوا) ندبا (عَلَيْهِمْ) عند الدفع فإن الإشهاد أبعد من الخصومة ولو ادّعى الوصي بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع المال إليه. أو قال : أنفقت عليه في صغره فقال مالك والشافعي : لا يصدق. وقال أبو حنيفة : يصدق مع اليمين. وقال الشافعي : القيم غير مؤتمن من جهة اليتيم وإنما هو مؤمن من جهة الشرع (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) (٦) أي شهيدا.

روي أن رفاعة مات وترك ابنه ثابتا وهو صغير فجاء عمه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وقال ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله قوله تعالى : (وَابْتَلُوا الْيَتامى) إلى هنا. (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) أي للأولاد والأقرباء الذكور صغارا أو كبارا حظ. (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) المتوارثون منهم (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أي المتوفون (مِمَّا قَلَ

١٨٣

مِنْهُ) أي مما تركوه (أَوْ كَثُرَ) وأتى بهذه الجملة لتحقيق أن لكل من الفريقين حقا من كل ما جل ودق ولدفع توهم اختصاص بعض الأموال ببعض الورثة ، كالخيل وآلات الحرب للرجال. (نَصِيباً مَفْرُوضاً) (٧) أي أعني نصيبا مقدرا مقطوعا بتسليمه إليهم فالوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه بالإعراض. وهذا إبطال لحكم الجاهلية فإنهم لا يورثون النساء والأطفال ، ويقولون : إنما يرث من طاعن بالرماح وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة وذكر الله في هذه الآية أن الإرث أمر مشترك فيه بين الرجال والنساء ثم ذكر التفصيل في قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ). (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) أي قسمة التركة (أُولُوا الْقُرْبى) أي قرابة الميت الذي ليس بوارث (وَالْيَتامى) أي يتامى المؤمنين (وَالْمَساكِينُ) أي مساكين المؤمنين من الأجانب (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) أي أعطوهم من المال المقسوم شيئا قبل القسمة (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٨) وهذا الإعطاء مندوب إذا كانت الورثة كبارا ، أما إذا كانوا صغارا فليس على الولي إلا القول المعروف كأن يقول : إني لا أملك هذا المال إنما هو لهؤلاء الضعفاء الذين لا يعقلون وإن يكبروا فسيعرفون حقكم أو يقول : سأوصيهم ليعطوك شيئا (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) أي وليخف الذين يحضرون المريض على أولاد المريض إن تركوا بعد موتهم أولادا صغارا خافوا عليهم الضياع. وهذا خطاب مع الذين يجلسون عند المريض فيقولون : إن ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئا فأوص بمالك لفلان وفلان ولا يزالون يأمرونه بالوصية إلى الأجانب إلى أن لا يبقى من ماله للورثة شيء أصلا. وحاصل الكلام أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك فلا ترضى لأخيك المسلم عن أنس قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (١) (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) في أمر اليتامى (وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (٩) أي عدلا إذا أرادوا بعث غيرهم على فعل بأن يقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولادهم بالشفقة والتأديب ويخاطبون لهم بقولهم : يا ولدي يا بني. وبأن يقولوا للمريض : إذا أردت الوصية فلا تسرف في وصيتك ولا تجحف بأولادك ، ويذكروه التوبة وكلمة الشهادة وبأن يلطف الورثة القول للحاضرين الذين لا يرثون حال قسمة الميراث (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) أي وجه الغضب (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) أي حراما يؤدي إلى النار. أو يقال : يجعل الله في بطونهم

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان ، باب : ٧١ ، والبخاري في كتاب الإيمان ، باب : من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، والترمذي في كتاب القيامة ، باب : ٥٩ ، والنسائي في كتاب الإيمان ، باب : علامة الإيمان ، وابن ماجة في المقدّمة ، باب : في الإيمان ، والدارمي في كتاب الاستئذان ، باب : في حق المسلم على المسلم ، وأحمد في (م ١ / ص ٨٩).

١٨٤

نارا يوم القيامة بأن يخلق الله نارا يأكلونها في بطونهم (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (١٠) أي سيدخلون نارا وقودا لا يعرف غاية شدتها إلّا الله تعالى.

قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وسيصلون بضم الياء. والباقون بالفتح. وقرئ شاذة بضم الياء وتشديد اللام. نزلت هذه الآية في شأن حنظلة بن شمردل. وقيل في شأن رجل من غطفان يقال له : مرثد بن زيد : ولي مال يتيم ـ وكان اليتيم ابن أخيه ـ فأكله. (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) أي يبين الله لكم في ميراث أولادكم بعد موتكم.

روى عطاء قال : استشهد سعد بن الربيع وترك ابنتين ، وامرأة وأخا. فأخذ الأخ المال كله فأتت المرأة وقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد وإن سعدا قتل وإن عمهما أخذ مالهما فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ارجعي فلعل الله سيقضي فيه» ثم إنها عادت بعد مدة وبكت فنزلت هذه الآية فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمهما وقال : «أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك» (١) فهذا أول ميراث قسم في الإسلام (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أي فإذا خلف الميت ذكرا واحدا وأنثى واحدة فللذكر سهمان وللأنثى سهم ، وإذا كان الوارث جماعة من الذكور وجماعة من الإناث كان لكل ذكر سهمان ولكل أنثى سهم ، وإذا كان مع الأولاد أبوان وأحد الزوجين فالباقي بعد سهام الأبوين وأحد الزوجين بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) أي فإن كانت بنات الصلب نساء خلصا بنتين أو أكثر فلتلك النساء ثلثا ما ترك المتوفى (وَإِنْ كانَتْ) أي الوارثة بنتا (واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ). وقرأ نافع واحدة بالرفع فكان تامة (وَلِأَبَوَيْهِ) أي الميت (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ) أي الميت (إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) ذكر أو أنثى ، أي فإن كان مع الأبوين ولد ذكر فأكثر أو بنتان فأكثر فلكل واحد من الأب والأم السدس وإن كان معها بنت فلها النصف وللأم السدس وللأب السدس بحكم هذه الآية. والسدس الباقي للأب أيضا بحكم التعصيب (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ) أي الميت (وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ). وذلك فرض لها والباقي للأب فيأخذ السدس بالفريضة والنصف بالتعصيب ، وإذا انفرد أخذ كل المال كما هو شأن العصبة. وإذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين فللأم ثلث ما يبقى بعد فرضه ، والباقي للأب خلافا لابن عباس فإن للأم ثلث الكل عنده ، ووافقه ابن سيرين في الزوجة وخالفه في الزوج لأن الثلث فيه يفضي إلى كون نصيب الأنثى مثل نصيب الذكرين (فَإِنْ كانَ لَهُ) أي الميت (إِخْوَةٌ) اثنان فصاعدا من جهة الأبوين أو من جهة أحدهما ذكور أو إناث وارثون أو محجوبون بالأب (فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ). والباقي للأب ولا شيء للأخوة ، وأما السدس الذي حجبوها عنه فهو للأب عند

__________________

(١) رواه التبريزي في مشكاة المصابيح (٣٠٥٨).

١٨٥

وجوده ولهم عند عدمه (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) أي هذه الأنصباء للورثة من بعد إخراج وصية (يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) وذلك لأن أول ما يخرج من التركة الدين حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق فأما إذا لم يكن دين أو كان إلا أنه قضى وفضل بعده شيء ، فإن أوصى الميت بوصية أخرجت من ثلث ما فضل ، ثم قسم الباقي ميراثا على فرائض الله تعالى.

قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «يوصى» بفتح الصاد. وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر الصاد. (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) والمعنى أن قسمة الله لهذه المواريث أولى من القسمة التي تميل إليها طباعكم (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أي فرض ذلك فريضة وهذا إشارة إلى وجوب الانقياد لهذه القسمة التي قدرها الشرع وقضى بها (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) أي بالمصالح والرتب (حَكِيماً) (١١) في كل ما قضى وقدر.

قال ابن عباس : إن الله ليشفع المؤمنين بعضهم في بعض فأطوعكم لله تعالى من الأبناء والآباء أرفعكم درجة في الجنة ، وإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله إليه ولده بمسألته ليقرّ بذلك عينه ، وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله إليه والديه ولذا قال تعالى : (لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) لأن أحد المتوالدين لا يعرف أن انتفاعه في الجنة بهذا أكثر أم بذلك. (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) من المال (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) ذكر أو أنثى منكم أو من غيركم والباقي لورثتهن (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ) وارث واحد أو متعدد (فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) من المال والباقي لباقي الورثة (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) أي هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء إذا فضل عن وصية (يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) أي أو من بعد قضاء دين عليهن (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) من المال (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ) ذكر أو أنثى منهن أو من غيرهن ، والباقي لبقية ورثتكم من أصحاب الفروض والعصبات أو ذوي الأرحام ، أو لبيت المال إن لم يكن لكم وارث آخر أصلا. (فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) من المال والباقي للباقين (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) أي أو من بعد قضاء دين عليكم من المال (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ) أي ميت (يُورَثُ كَلالَةً) أي لا ولد له ولا والد (أَوِ امْرَأَةٌ) أي أو كانت امرأة تورث كلالة (وَلَهُ) أي الميت (أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) من أمه فقط (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا) أي الأخ والأخت (السُّدُسُ) من غير تفضيل للذكر على الأنثى لأن الإدلاء إلى الميت بمحض الأنوثة (فَإِنْ كانُوا) أي من يرث من الأخوة من الأم (أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ) أي من الواحد (فَهُمْ) أي الزائد على الواحد كيفما كانوا (شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) فالذكر والأنثى فيه سواء ، والباقي لبقية الورثة من أصحاب الفروض والعصبات (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) للورثة بأن يوصي بأكثر من الثلث أو يقرّ بكل ماله أو ببعضه لأجنبي ، أو يقر على نفسه

١٨٦

بدين لا حقيقة له أو يقر بأن الدين الذي له على الغير قد وصل إليه أو يبيع شيئا بثمن بخس أو يشتري شيئا بثمن غال ، أو يوصي بالثلث لغرض تنقيص حقوق الورثة (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) أي فريضة من الله عليكم في قسمة المواريث. وقيل : المعنى وصية من الله بالأولاد وأن لا يدعهم عالة يتكففون وجوه الناس بسبب الإسراف في الوصية ، وينصر هذا الوجه قراءة الحسن «غير مضار وصية» بالإضافة. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بمن جار أو عدل في وصيته (حَلِيمٌ) (١٢) على الجائر لا يعاجله بالعقوبة فلا يغتر بالإمهال (تِلْكَ) أي شؤون الأيتام وأحكام الأنكحة وأحوال المواريث (حُدُودُ اللهِ) أي أحكام الله (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في جميع الأوامر والنواهي (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ) نصب على الظرفية عند الجمهور وعلى المفعولية عند الأخفش (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) حال من الهاء في يدخله وهي عائدة على «من» وهو مفرد في اللفظ جمع في المعنى ، فلهذا صح الوجهان. (وَذلِكَ) أي دخول الجنات على وجه الخلود (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٣) الذي لا فوز وراءه (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) ولو في بعض الأوامر والنواهي (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) أي يتجاوز أحكامه بالجور.

وقال الكلبي : أي ومن يكفر بقسمة الله المواريث ويتعد حدوده استحلالا. وقال عكرمة عن ابن عباس : من لم يرض بقسم الله تعالى ويتعد ما قال الله تعالى (يُدْخِلْهُ ناراً) أي عظيمة هائلة (خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٤) أي وله مع عذاب الحريق الجسماني عذاب شديد روحاني.

وقرأ نافع وابن عامر «ندخله» بنون العظمة في الموضعين. والباقون بالياء. (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) أي اللاتي يفعلن الزنا كائنات من أزواجكم المحصنات فاطلبوا أن يشهد عليهن بفعله أربعة من رجال المؤمنين وأحرارهم.

وقرئ بالفاحشة (فَإِنْ شَهِدُوا) عليهن بذلك كما ينبغي (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) أي فخلدوهن محبوسات في بيوتكم (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) أي أن يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) (١٥) أي أو إلى أن يشرع لهن حكما خاصا بهن ثم قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا ، الثيب ترجم والبكر تجلد وتنفى»(١). (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) أي البكران اللذان يأتيان الفاحشة من أحراركم (فَآذُوهُما) بالتهديد والتعيير كأن يقال : بئس ما فعلتما وقد تعرضتما لعقاب الله وسخطه ، وأخرجتما أنفسكما عن اسم العدالة. ويخوفا بالرفع إلى الإمام وبالحد.

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الحدود ، باب : ١٤.

١٨٧

وقرأ ابن كثير «واللذان» بتشديد النون. (فَإِنْ تابا) عما فعلا من الفاحشة بعد زواجر الأذية (وَأَصْلَحا) أعمالهما فيما بينهما وبين الله (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) أي اتركوا إيذاءهما (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً) أي كثير القبول للتوبة ممن تاب (رَحِيماً) (١٦) أي واسع الرحمة. وقد نسخ الإيذاء باللسان للفتى والفتاة بجلد مائة. وقال أبو مسلم الأصفهاني والمراد بقوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) السحاقات حدّهن الحبس إلى الموت أو إلى أن يسهل الله لها قضاء الشهوة بطريق النكاح. والمراد بقوله تعالى : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) أهل اللواط وحدّهما الأذى بالقول والفعل. (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) أي إنما التوبة التي يجب على الله قبولها وجوب الكرم والفضل لا وجوب الاستحقاق للذين يعملون المعصية مع عدم علمه بأنها معصية لكن يمكنه تحصيل العلم بأنها معصية. (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) أي من زمان قريب وهو ما قبل معاينة سبب الموت وأهواله (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي يتجاوز الله عنهم (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بأنه إنما أتى بتلك المعصية لاستيلاء الشهوة والجهالة عليه. (حَكِيماً) (١٧) بأن العبد لما كان من صفته ذلك ، ثم تاب قبل سوق الروح فإنه يجب في الكرم والإحسان قبول توبته (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) أي وليس التوبة للذين يعملون الذنوب إلى حضور موتهم أي علامات قربه وقولهم حينئذ : (إِنِّي تُبْتُ الْآنَ). ولذلك لم ينفع إيمان فرعون حين أدركه الغرق.

روى أبو أيوب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» (١) أي ما لم تتردد الروح في حلقه. وقال عطاء : ولو قبل موته بفواق الناقة. وعن الحسن أن إبليس قال حين أهبط إلى الأرض : وعزّتك لا أفارق ابن آدم ما دامت روحه في جسده فقال الله : «وعزّتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر» (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) أي وليس قبول التوبة للذين يموتون على الكفر إذا تابوا في الآخرة عند معاينة العذاب (أُولئِكَ) أي الكفار (أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٨) بيان لكونهم مختصين بسبب كفرهم بمزيد العقوبة والإذلال نزلت هذه الآية في حق طعمة وأصحابه الذين ارتدوا. قاله ابن عباس. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ) أي عين النساء (كَرْهاً) أي لا يحل لكم أن تأخذوهن بطريق الإرث وهن كارهات لذلك أو مكروهات عليه. نزلت هذه الآية في حق أهل المدينة كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا مات الرجل وكانت له زوجة جاء ابنه من غيرها أو بعض أقاربه فألقى ثوبه على المرأة وقال :

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الدعوات ، باب : ٩٨ ، وابن ماجة في كتاب الزهد ، باب : ذكر التوبة ، وأحمد في (م ٢ / ص ١٣٢).

١٨٨

ورثت امرأته كما ورثت ماله فصار أحق بها من سائر الناس ومن نفسها فإن شاء تزوّجها بغير صداق وإن شاء زوجها من إنسان آخر ، وأخذ صداقها ولم يعطها منه شيئا. فأنزل الله تعالى هذه الآية.

قرأ حمزة والكسائي «كرها» بضم الكاف هنا. وكذا في التوبة وفي الأحقاف. وقرأ عاصم وابن ذكوان عن ابن عامر في الأحقاف بالضم. والباقون بالفتح. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالفتح في جميع ذلك. قال الفراء : الكره بالفتح الإكراه ، وبالضم المشقة فما أكره عليه فهو كره بالفتح ، وما كان من قبل نفسه فهو كره بالضم (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) أي وكذلك لا يحل لكم بعد التزويج بهن الحبس والتضييق (لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) من المهر (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ). وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بفتح الباء. والباقون بالكسر أي بينة القبح من النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء والسلاطة ، ويدل عليه قراءة أبي بن كعب إلا أن يفحشن عليكم. والمعنى لا يحل لكم أن تضيقوا الأمر عليهن لعلة من العلل إلا لإتيانهن بالنشوز فإن السبب حينئذ يكون من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي النصفة في المبيت والنفقة والإجمال في القول (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (١٩) أي فإن كرهتم صحبتهن فأمسكوهن بالمعروف ولا تفارقوهن بمجرد كراهة النفس من غير أن يكون من قبلهن ما يوجب ذلك فقد قربت كراهتكم شيئا أي معهن مع كون الله جعل في صحبتهن خيرا كثيرا ، كحصول ولد فتنقلب الكراهة محبة. وكاستحقاق الثواب الجزيل في العقبى والثناء الجميل في الدنيا للإنفاق عليهن والإحسان إليهن على خلاف الطبع (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ) أي وإن أردتم تزوج امرأة ترغبون فيها بدل امرأة تنفرون عنها بأن أردتم أن تطلقوها (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) أي وقد أعطيتم إحدى الزوجات التي تريدون أن تطلقوها مالا كثيرا من الصداق (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ) أي من ذلك القنطار (شَيْئاً) أي يسيرا. أي إن كان سوء العشرة من قبل الزوج كره له أن يأخذ شيئا من مهرها ، ثم إن وقعت المخالعة ملك الزوج بدل الخلع ، وإن كان من قبل المرأة فيحل أخذ بدل الخلع (أَتَأْخُذُونَهُ) أي المهر (بُهْتاناً) أي ظلما (وَإِثْماً مُبِيناً) (٢٠) أي حراما بينا أي إن أخذ المال طعن في ذاتها وأخذ لمالها فهو بهتان من وجه وظلم من وجه آخر فكان ذلك معصية عظيمة من أمهات الكبائر.

روي أن الرجل إذا مال إلى التزوج بامرأة أخرى رمى زوجة نفسه بالفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج المرأة التي يريدها (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) أي ولأي وجه تأخذون المهر وقد اجتمعتم في لحاف واحد فإنها قد بذلت نفسها لك ، وجعلت ذاتها لذّتك وتمتعك. وحصلت الألفة التامة بينكما فكيف يليق بالعاقل أن

١٨٩

يسترد منها شيئا؟ فهذا لا يليق بمن له طبع سليم وذوق مستقيم! (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٢١).

قال ابن عباس ومجاهد : وهو كلمة النكاح المعقودة على الصداق وتلك الكلمة كلمة تستحل بها فروج النساء قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله» (١). وهذا الإسناد مجاز عقلي من الإسناد للسبب لأن الآخذ للعهد حقيقة هو الله لكن بولغ فيه حتى جعل كأنهن الآخذات له أي وقد أخذ الله عليكم العهد بسببهن (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) أي لا تنكحوا التي نكحها آباؤكم من النساء فإنه موجب للعقاب إلا ما قد مضى قبل نزول آية التحريم فإنه معفو عنه ويقال : ولا تنكحوا نكاح آبائكم فإن أنكحتهم كانت بغير ولي شهود وكانت موقتة ، وعلى سبيل القهر. وهذا الوجه منقول عن محمد بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية. وقيل : المعنى لا تزوجوا امرأة وطئها آباؤكم بالزنا إلا ما قد سلف من الأب في الجاهلية من الزنا بامرأة فإنه يجوز للابن تزوجها كما نقل هذا المعنى عن ابن زيد ، وكما قال أبو حنيفة : يحرّم على الرجل أن يتزوج بمزنية أبيه لهذه الآية.

وقال الشافعي : لا يحرم (إِنَّهُ) أي نكاح نساء الآباء (كانَ فاحِشَةً) أي قبيحا لأن زوجة الأب تشبه الأم فكانت مباشرتها من أفحش الفواحش (وَمَقْتاً) أي ممقوتا عند ذوي المروءات من الجاهلية وغيرهم وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه مقتى. (وَساءَ سَبِيلاً) (٢٢) أي بئس مسلكا. نزلت هذه الآية في حق محصن بن قيس الأنصاري. واعلم أن مراتب القبح ثلاثة : القبح في العقول ، وفي الشرائع ، وفي العادات. فقوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) إشارة إلى القبح العقلي. وقوله تعالى : (وَمَقْتاً) إشارة إلى القبح الشرعي. وقوله : (وَساءَ سَبِيلاً) إشارة إلى القبح العادي. ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) من النسب (وَبَناتُكُمْ) من النسب (وَأَخَواتُكُمْ) من النسب من أي وجه يكن (وَعَمَّاتُكُمْ) أي أخوات آبائكم (وَخالاتُكُمْ) أي أخوات أمهاتكم (وَبَناتُ الْأَخِ) من النسب من أي وجه يكن (وَبَناتُ الْأُخْتِ) من النسب من أي وجه يكن (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) في الحولين خمس رضعات متفرقات عند الشافعي وابن حنبل. وقال أبو حنيفة ومالك : يحصل التحريم بمصة واحدة وفاقا للأوزاعي ولسفيان الثوري ،

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الحج ، باب : ١٤٧ ، وأبو داود في كتاب المناسك ، باب : صفة حجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وابن ماجة في كتاب المناسك ، باب : حجة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والدارمي في كتاب المناسك ، باب : في سنة الحاج ، وأحمد في (م ٥ / ص ٧٣).

١٩٠

وعبد الله بن المبارك كقول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) وهي من أرضعتها أمك أو ارتضعت بلبن أبيك أو ولدتها مرضعتك أو ولدها الفحل (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) من نسب أو رضاع سواء دخل بزوجته أم لا؟ (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) أي بنات نسائكم اللاتي ربيتم في بيوتكم (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) أي جامعتموهن سواء كان ذلك بعقد صحيح أو فاسد (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) في نكاح الربائب بعد طلاق أمها أو موتها (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) أي ونساء أبنائكم الذين من أولاد فراشكم دون نساء الأولاد الأدعياء.

قال الشافعي : لا يجوز للأب أن يتزوج بجارية ابنه لأنها حليلته.

وقال أبو حنيفة : يجوز واتفقوا على أن حرمة التزوج بحليلة الابن تحصل بنفس العقد ، كما أن حرمة التزوج بحليلة الأب تحصل بذلك (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) بالنكاح وبالوطء في ملك اليمين لا في نفس ملك اليمين. قال الشافعي : نكاح الأخت في عدة البائن جائز لأنه لم يوجد الجمع. وقال أبو حنيفة : لا يجوز (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) أي قد مضى في الجاهلية فإنه مغفور لكم (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) فيما كان منكم في الجاهلية (رَحِيماً) (٢٣) أي فيما يكون منكم في الإسلام إذا تبتم. (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي وحرّم عليكم نكاح ذوات الأزواج كائنات من جميع النساء إلا ما ملكت أيمانكم من السبايا فإنهن حلال لكم بعد ما استبرأتم أرحامهن بحيضة ، وإن كان أزواجهن في دار الحرب واختلف القراء في كلمة المحصنات سواء كانت معرّفة بال أم نكرة. فقرأ الجمهور بفتح الصاد ، والكسائي بكسرها في جميع القرآن إلّا التي في هذه الآية فإنهم أجمعوا فيها على الفتح. والمعنى أحصنهن الأزواج بالتزوج ، أي أعفوهن عن الوقوع في الحرام والأولياء أعفوهن عن الفساد بالتزويج وهن يحصن أزواجهن عن الزنا ويحصن فروجهن عن غير أزواجهن بعفافهن (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي كتب عليكم تحريم ما تقدم ذكره من المحرمات كتابا من الله. أو المعنى الزموا كتاب الله (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ).

قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «وأحل لكم» بالبناء للمفعول عطفا على قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) والباقون «وأحل» بالبناء للفاعل عطفا على «كتاب الله» أي كتب الله عليكم تحريم هذه الأشياء وأحل لكم ما وراءها. ومحل أن تبتغوا رفع على البدل من ما على القراءة الأولى ، ونصب على القراءة الثانية. وقوله : (مُحْصِنِينَ) حال. وقيل : خبر كان الناقصة. والمعنى وأحل لكم ما سوى المحرمات المعدودة أن تطلبوا النساء بصرف أموالكم المهور أو الأثمان على طريق النكاح إلى الأربع أو التسري للإماء حال كونكم متعففين عن الزنا وغير زانين وهذا تكرير للتأكيد.

١٩١

وقيل : المعنى كونوا مع النساء متزوجين أو متسرين (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي فأي فعل استنفعتم به من جهة المنكوحات مكن جماع أو عقد فأعطوهن مهورهن لأجله. بالتمام إن استنفعتم بالدخول ولو مرة ، وبالنصف إن استنفعتم بعقد النكاح. (فَرِيضَةً) أي حال كون أجورهن مفروضة من الله عليكم (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ) أي لا إثم عليكم في أن تهب المرأة للزوج مهرها أو يهب الزوج للمرأة المطلقة قبل الدخول تمام المهر أو فيما تراضيا به من نفقة ونحوها (مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) أي من بعد ذكر المقدار المعين (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بمصالح العباد (حَكِيماً) (٢٤) فلا يشرع الأحكام إلّا على وفق الحكمة وذلك يوجب التسليم لأوامره والانقياد لأحكامه. (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ) أيها الأحرار (طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) أي الحرائر (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) أي من إمائكم المؤمنات فقوله تعالى : (أَنْ يَنْكِحَ) إما مفعول لطولا ، وإما بدل منه ، وإما مفعول ليستطع وطولا مصدر مؤكد له ، لأنه بمعناه إذ الاستطاعة هي الطول ـ أي الفضل ـ والزيادة في المال أو تمييز. أي ومن لم يستطع منكم زيادة في المال يبلغ بها نكاح الحرائر فلينكح الإماء. أو المعنى ومن لم يستطع منكم استطاعة نكاحهن. أو المعنى من لم يستطع منكم من جهة سعة المال لا من جهة الطبيعة نكاح الحرة فلينكح الأمة لأنها في العادة تخف مهورها ونفقتها لاشتغالها بخدمة السيد ، بخلاف الحرة الفقيرة. ويقال للمرأة الحديثة السن : فتاة. وللغلام : فتى. والأمة : تسمى فتاة ، سواء كانت عجوزا أم شابة لأنها كالشابة في أنها لا توقر توقير الكبير.

وقال مجاهد وسعيد والحسن ومالك والشافعي : لا يجوز التزوج بالأمة الكتابية سواء كان الزوج حرا أو عبدا. وقال أبو حنيفة : يجوز. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) أي إنه تعالى أعلم منكم بمراتبكم في الإيمان فربّ أمة يفوق إيمانها إيمان الحرائر. فاعلموا على الظاهر في الإيمان فإنكم مكلفون بظواهر الأمور والله يتولى السرائر والحقائق (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي كلكم مشتركون في الإيمان وهو أعظم الفضائل فإذا حصل الاشتراك في ذلك كان التفاوت فيما وراءه غير معتبر.

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ثلاث من أمر الجاهلية : الطعن في الأنساب. والفخر بالأحساب. والاستسقاء بالأنواء» (١). (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) أي سيدهن (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي أعطوهن مهورهن على العادة الجميلة عند المطالبة من غير مطل (مُحْصَناتٍ) أي عفائف عن الزنا وهي حال مفعول فأنكحوهن (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) أي غير مؤجرة

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الجنائز ، باب : ٢٩ ، وأبو داود في كتاب الأدب ، باب : التفاخر بالأحساب ، وأحمد في (م ٥ / ص ٣٤٢).

١٩٢

نفسها مع أي رجل أرادها (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) أي غير متخذات أخلاء معينين يزنون بهن سرا (فَإِذا أُحْصِنَ) أي زوجهن. وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر بالبناء للفاعل أي «أسلمن» ، كما قال عمر وابن مسعود والشعبي والنخعي والسدي. (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ) أي فإن فعلن زنا (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ) أي فثابت عليهن شرعا نصف ما على الحرائر الأبكار (مِنَ الْعَذابِ) أي الحد فيجلدن خمسين ويغرين نصف سنة كما هو كذلك قبل الإحصان. وهذه الآية بيان عدم تفاوت حدّهن بالإحصان كتفاوت حد الحرائر. فتخفيف الحد للرق (ذلِكَ) أي نكاح الإماء حلال (لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) أي الضرر الشديد في العزوبة بالشبق الشديد فإنه قد يحمل على الزنا ، وقد يؤدي بالإنسان إلى الأمراض الشديدة (وَأَنْ تَصْبِرُوا) عن نكاح الإماء (خَيْرٌ لَكُمْ) لما في نكاحهن من تعريض الولد للرق (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٥) بإباحته لكم في نكاح الإماء وإن كان يؤدي إلى إرقاق الولد مع أن هذا يقتضي المنع منه لاحتياجكم إليه ، فكان ذلك من باب المغفرة والرحمة (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ما هو خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي يرشدكم طرائق الأنبياء والصالحين لتقتدوا بهم فكل ما بين الله تحريمه وتحليله لنا من النساء كان الحكم كذلك في جميع الشرائع والملل (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) إذا تبتم إليه تعالى عما يقع منكم من التقصير في مراعاة الشرائع (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوالكم (حَكِيمٌ) (٢٦) في كل ما يفعله بكم ويحكم عليكم. (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أي أن يتجاوز عنكم حين حرّم عليكم الزنا ونكاح الأخوات من الأب (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) في نكاح الأخوات من الأب ، وهم : اليهود. وفي الزنا ، وهم : الفجرة. (أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) (٢٧) بموافقتهم على استحلال المحرمات في قول اليهود : إن نكاح الأخوات من الأب حلال في كتابنا وعلى اتباع الشهوات. فإن الزاني يحب أن يشركه في الزنا غيره ليفرق اللوم عليه وعلى غيره. (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) في جميع أحكام الشرع كإباحة نكاح الأمة عند الضرورة (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) (٢٨) أي عاجزا عن مخالفة هواه غير قادر على مقابلة دواعيه حيث لا يصبر عن النساء وعن اتباع الشهوات ولا يستخدم قواه في مشاق الطاعات ولذلك خفف الله تكليفه.

وقرأ ابن عباس «وخلق الإنسان» على البناء للفاعل والضمير لله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) أي بما يخالف الشرع كالغصب والسرقة والخيانة والقمار وعقود الربا ، وشهادة الزور ، والحلف الكاذب ، وجحد الحق (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ).

قرأ عاصم وحمزة والكسائي «تجارة» بالنصب أي لا يأكل بعضكم أموالا بغير طريق شرعي بل كلوا بأن تكون الأموال تجارة صادرة عن تراض منكم. والباقون بالرفع أي لكن بأن توجد

١٩٣

تجارة عن طيب نفس (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا تفعلوا ما تستحقون به القتل من قتل المؤمن بغير حق والردة والزنا بعد الإحصان (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) (٢٩) حيث نهاكم عن كل ما تستوجبون به مشقة (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي ما نهى عنه من قتل النفس وغيره من المحرمات (عُدْواناً) أي إفراطا في مجاوزة حد الحلال (وَظُلْماً) أي إتيانا بما لا يستحقه (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ) أي ندخله (ناراً) هائلة شديدة العذاب (وَكانَ ذلِكَ) أي إصلاؤه النار (عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٣٠) أي هينا (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) في هذه السورة (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي صغائركم من جماعة إلى جماعة ومن جمعة إلى جمعة ومن شهر رمضان إلى شهر رمضان (وَنُدْخِلْكُمْ) في الآخرة (مُدْخَلاً كَرِيماً) (٣١). قرأ نافع بفتح الميم والباقون بالضم أي موضعا حسنا وهو الجنة (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ).

قال ابن عباس : لا يتمنى الرجل مال غيره ودابته وامرأته ولا شيئا من الذي ثبت له كالجاه وغير ذلك مما يجري فيه التنافس ، وذلك هو الحسد المذموم لأن ذلك التفضيل قسمة من الله تعالى صادرة عن حكمة وتدبير لائق بأحوال العباد متفرع على العلم بجلائل شؤونهم ودقائقها ، واسألوا الله من فضله وقولوا : اللهم ارزقنا مثله أو خيرا منه مع التفويض. ويقال : نزلت هذه الآية في حق أم سلمة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقولها للنبيّ : ليت الله كتب علينا ما كتب على الرجال لكي نؤجر كما يؤجر الرجال فنهى الله عن ذلك وقال : ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم ـ أي الرجال ـ على بعض ـ أي النساء ـ من الجماعة والجمعة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم بيّن الله تعالى ثواب الرجال والنساء باكتسابهم فقال (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) أي ثواب (مِمَّا اكْتَسَبُوا) أي الخير كالجهاد والنفقة على النساء (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ) أي ثواب (مِمَّا اكْتَسَبْنَ) من الخير في بيوتهن كحفظ فروجهن وطاعة الله وأزواجهن وقيامهن بمصالح البيت من الطبخ والخبز وحفظ الثياب ومصالح المعاش وكالطلق والإرضاع (وَسْئَلُوا اللهَ). قرأ ابن كثير والكسائي وسلوا الله بغير همز (مِنْ فَضْلِهِ) أي واسألوا الله ما احتجتم إليه يعطكم من خزائنه التي لا تنفد.

قال الفخر الرازي : قوله تعالى : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) تنبيه على أن الإنسان لا يجوز له أن يعين شيئا في الطلب والدعاء ولكن يطلب من فضل الله ما يكون سببا لصلاحه في دينه ودنياه على سبيل الإطلاق اه. وقد جاء في الحديث : «لا يتمنين أحدكم مال أخيه ، ولكن ليقل اللهم ارزقني اللهم أعطني مثله». وعن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سلوا الله من فضله فإنه يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج» (١) (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٣٢) ولذلك

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الدعوات ، باب : ١١٥.

١٩٤

جعل الناس على طبقات فرفع بعضهم على بعض درجات. أي فإنه تعالى هو العالم بما يكون صلاحا للسائلين فليقصر السائل على المجمل وليحترز في دعائه عن التعيين. فربما كان ذلك محض المفسدة والضرر (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أي ولكل تركة جعلنا ورثة متفاوتة في الدرجة يلونها ويحرزون منها أنصباءهم بحسب استحقاقهم ومما ترك بيان لكل (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) أي ومما ترك الزوج والزوجة فالنكاح يسمى عقدا. وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني ويصح أن تكون جملة «جعلنا موالي» صفة «لكل» ، والضمير الراجع إليه محذوف ، والكلام مبتدأ أو خبر. والمعنى حينئذ ولكل قوم جعلناهم وراثا نصيب معين مغاير لنصيب قوم آخرين مما ترك المورثون (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من الميراث. قيل : إن هذه الآية نزلت في شأن أبي بكر الصديق لأنه حلف أن لا ينفق على ابنه عبد الرحمن ولا يورثه شيئا من ماله فلما أسلم عبد الرحمن أمر الله أبا بكر أن يؤتيه نصيبه. وقيل : المراد من قوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) الحلفاء. وبقوله : (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) النصرة والنصيحة والمصافاة في العشرة ، وحينئذ فقوله : (وَالَّذِينَ) مبتدأ متضمن لمعنى الشرط ولذلك صدر الخبر بالفاء أو منصوب بمضمر يفسره قوله : (فَآتُوهُمْ) وعلى هذه الوجوه فهذه الآية غير منسوخة بخلاف ما لو حمل قوله : (الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) على الحلفاء في الجاهلية. وقوله : (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) على الميراث ـ وهو السدس ـ فهذه الآية حينئذ منسوخة بقوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [الأنفال : ٧٥] وبقوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ). وكذا لو حمل قوله : (الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) على الأبناء الأدعياء أو على من واخاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لرجل آخر فإنه وأخي بين كل رجلين من أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من أعمالكم (شَهِيداً) (٣٣) أي مطلعا (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) أي الرجال مسلطون على أدب النساء بسبب تفضيل الله تعالى إياهم عليهن بكمال العقل وحسن التدبير ورزانة الرأي ، ومزيد القوة في الأعمال والطاعات. ولذلك خصوا بالنبوة والإمامة والولاية ، وإقامة الشعائر والشهادة في جميع القضايا ، ووجوب الجهاد والجمعة وغير ذلك وبسبب إنفاقهم من أموالهم للمهر والنفقة (فَالصَّالِحاتُ) أي المحسنات إلى أزواجهن (قانِتاتٌ) أي مطيعات لأزواجهن (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) أي لما يجب عليهن حفظه في حال غيبة أزواجهن من الفروج والأموال (بِما حَفِظَ اللهُ) أي بالذي حفظه الله لهن أي فإن حفظ حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن حيث أمرهم بالعدل عليهن وإمساكهن بالمعروف وإعطائهن أجورهن. أو المعنى بحفظ الله إياهن بالأمر بحفظ الغيب والتوفيق له.

وقرئ بما حفظ الله بالنصب على حذف المضاف أي بسبب حفظهن حدود الله وأوامره

١٩٥

(وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) أي والنساء اللاتي تظنون عصيانهن لكم (فَعِظُوهُنَ) أي فانصحوهن بالترغيب والترهيب (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) أي حولوا عنهن وجوهكم في المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحاف إن علمتم النشوز ولم تنفعهن النصيحة (وَاضْرِبُوهُنَ) إن لم ينجع الهجران ضربا غير مبرح ولا شائن ، والأولى ترك الضرب ، فإن ضرب فالواجب أن يكون الضرب بحيث لا يكون مفضيا إلى الهلاك بأن يكون مفرقا على البدن بأن لا يكون في موضع واحد وأن لا يوالي به وأن يتقي الوجه وأن يكون بمنديل ملفوف (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) أي رجعن عن النشوز إلى الطاعة عند هذا التأديب (فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) أي فلا تطلبوا عليهن طريقا في الحب ولا في الأذية ، واكتفوا بظاهر حال المرأة ولا تفتشوا عما في قلبها من الحب والبغض. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) (٣٤) أي إن الله تعالى مع علوه وكبريائه لا يكلفكم ما لا تطيقون فكذلك لا تكلفوهن ما لا طاقة لهن من المحبة. وإنه تعالى مع ذلك يتجاوز عن سيئاتكم فأنتم أحق بالعفو عن أزواجكم عند إطاعتهن لكم (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) أي وإن علمتم أيها المؤمنون مخالفة بين الرجل والمرأة ولم تدروا من أيهما فابعثوا إلى الزوجين لإصلاح الحال بينهما حكما ، أي رجلا وسطا صالحا للإصلاح من أهله ـ أي الزوج ـ وحكما آخر على صفة الأول من أهلها لأن أقاربهما أعرف بحالهما من الأجانب وأشد طلبا للإصلاح. فإن كانا أجنبيين جاز فيستكشف كل واحد منهما حقيقة حال الزوجين ، ثم يجتمع الحكمان فيفعلان ما هو الصواب من جمعهما أو إيقاع طلاق أو خلع. (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما).

فالضمير الأول : إما عائد على الحكمين أو الزوجين. والضمير الثاني : كذلك فالوجوه أربعة. والمعنى إن كانت نية الحكمين قطعا للخصومة أوقع الله الموافقة بين الزوجين (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بموافقة الحكمين ومخالفتهما (خَبِيراً) (٣٥) بفعل المرأة والرجل. قال ابن عباس : نزلت الآية من قوله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) [النساء : ٣٤] إلى هاهنا في شأن بنت محمد بن سلمة بلطمة لطمها زوجها سعد بن الربيع لعصيانها في المضاجع فطلبت من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قصاصها من زوجها فنهاها الله عن ذلك. (وَاعْبُدُوا اللهَ) أي بقلوبكم وجوارحكم (وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) أي شركا جليا أو خفيا وهذا أمر بالإخلاص في العبادة (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي أحسنوا بهما إحسانا بالقيام بخدمتهما وبالسعي في تحصيل مطالبهما والإنفاق عليهما وبعدم رفع الصوت عليهما وعدم تخشين الكلام معهما ، وعدم شهر السلاح عليهما ، وعدم قتلهما ولو كانا كافرين لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى حنظلة عن قتل أبيه ـ أبي عامر الراهب ـ وكان مشركا. وعن أبي سعيد الخدري أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليمن استأذنه في الجهاد فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل لك أحد باليمن»؟ فقال : أبواي. فقال : «أبواك أذنا لك»؟ فقال : لا. فقال : «فارجع فاستأذنهما فإن أذنا

١٩٦

لك فجاهد وإلا فبرهما» (١). (وَبِذِي الْقُرْبى) أي صلوا بصاحب القرابة من أخ ، أو عم ، أو خال أو نحو ذلك. (وَالْيَتامى) أي أحسنوا إليهم بالرفق بهم وبمسح رأسهم وبتربيتهم وحفظ أموالهم (وَالْمَساكِينِ) أي أحسنوا إليهم بالصدقة أو بالرد الجميل (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) أي الذي قرب جواره أو الذي له مع الجوار اتصال بالنسب.

وقرئ بالنصب على الاختصاص تعظيما لحقه ، لأن له ثلاثة حقوق : حق القرابة ، وحق الجوار ، وحق الإسلام. كما قرئ والصلاة الوسطى نصبا على الاختصاص (وَالْجارِ الْجُنُبِ) أي الذي بعد جواره أو الذي لا قرابة له فله حقان : حق الإسلام ، وحق الجوار. (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) وهو إما رفيق في سفر أو جار ملاصق أو شريك في تعلم أو حرفة ، أو قاعد بجنبك في مسجد أو مجلس. وقيل : هي المرأة فإنها تكون معك وتضطجع إلى جنبك (وَابْنِ السَّبِيلِ) أي المسافر المنقطع عن بلده بالسفر أو الضيف أي أحسنوا له بالإكرام وله ثلاثة أيام حق وما فوق ذلك صدقة (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي أحسنوا إلى الخدم من العبيد والإماء (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً) أي متكبرا عن أقاربه بالفقراء وجيرانه الضعفاء وأصحابه ولا يحسن عشرتهم (فَخُوراً) (٣٦) على الناس بما أعطاه الله تعالى من العلم وغيره (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من العلم بما في كتابهم من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأظهر أن الموصول منصوب على الذم ، أو مرفوع على الذم أي هم الذين. ويجوز أن يكون بدلا من قوله : (مَنْ كانَ مُخْتالاً) وأن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره أحقاء بكل ملامة أو كافرون ، نزلت هذه الآية في حق كدوم بن زيد وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع ، ومحرى بن عمرو وحيي بن أخطب ، ورفاعة بن زيد ابن التابوت حين أمروا رجالا من الأنصار بترك النفقة على من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خوف الفقر عليهم. أخرجه ابن جرير عن ابن عباس (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) أي لليهود (عَذاباً مُهِيناً) (٣٧) أي فمن كان شأنه كذلك فهو كافر بنعمة الله ، ومن كان كافرا بنعمته فله عذاب يهينه كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء. وفي الحديث الذي رواه أحمد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أنعم الله على عبده نعمة أحب أن يظهر أثرها عليه» (٢). (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ). والموصول إما معطوف على الموصول الأول ، وإما معطوف على قوله تعالى : (لِلْكافِرِينَ).

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الجهاد ، باب : ٢ ، وأبو داود في كتاب الجهاد ، باب : في الرجل يغزو وأبواه كارهان ، والنّسائي في كتاب الجهاد ، باب : الرخصة في التخلف لمن له والدان ، وأحمد في (م ٢ / ص ١٨٨).

(٢) رواه أحمد في (م ٣ / ص ٤٧٤).

١٩٧

قال الواحدي : نزلت هذه الآية في شأن المنافقين ، وقيل : نزلت في مشركي مكة المنفقين على عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً) أي ومن يكن الشيطان معينا له في هذه الأفعال في الدنيا (فَساءَ قَرِيناً) (٣٨) أي فبئس الصاحب له في النار هو فإن الله تعالى يقرن مع كل كافر شيطانا في سلسلة في النار ، ثم بيّن الله تعالى سوء اختيارهم في ترك الإيمان فقال : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) أي وأيّ ضرر عليهم في الإيمان والإنفاق ابتغاء وجه الله (وَكانَ اللهُ بِهِمْ) وبأحوالهم المخفية (عَلِيماً) (٣٩) فالله تعالى عالم ببواطن الأمور فإن القصد إلى الرياء إنما يكون باطنا غير ظاهر (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) أي إن الله لا يظلم أحدا وزن نملة حمراء صغيرة أي لا يظلم قليلا ولا كثيرا (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها).

قرأ نافع وابن كثير حسنة بالرفع والمعنى وإن حدثت حسنة. والباقون بالنصب. والمعنى وإن تكن زنة الذرة حسنة. وقرأ ابن كثير وابن عامر يضعفها بالتشديد من غير ألف فيكون التضعيف للثواب إلى مقدار لا يعلمه إلّا الله تعالى.

روي عن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه أنه قال : يؤتى بالعبد يوم القيامة وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين هذا فلان ابن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه ، ثم يقال له : أعط هؤلاء حقوقهم ، فيقول : يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله لملائكته : انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من حسنة ضعّفها الله تعالى لعبده وأدخله الجنة بفضله ورحمته.

وقال أبو عثمان النهدي : بلغني عن أبي هريرة أنه قال : إن الله ليعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة ، فقدّر الله أن ذهبت إلى مكة حاجا أو معتمرا فلقيته فقلت : بلغني عنك أنك تقول : إن الله يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة. قال أبو هريرة : لم أقل ذلك ولكن قلت : إن الحسنة تضاعف بألفي ألف ضعف وتلا قوله تعالى : (وَيُؤْتِ) أي يعط الله صاحب الحسنة (مِنْ لَدُنْهُ) أي من عنده تعالى (أَجْراً عَظِيماً) (٤٠) فلا يقدر أحد قدره.

روي أن عمر كان جالسا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ ضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بدت ثناياه ، فقال عمر : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما الذي أضحكك؟ قال : «رجلان من أمتي جثيا بين يدي الله عزوجل فقال أحدهما : يا رب خذ لي مظلمتي من هذا. فقال الله تعالى : رد على أخيك مظلمته. فقال : يا رب لم يبق لي من حسناتي شيء. فقال الله تعالى للطالب : كيف تصنع بأخيك ولم يبق له من حسناته شيء فقال : يا رب فليحمل عني من أوزاري ثم فاضت عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبكاء فقال : إن ذلك ليوم عظيم يحتاج الناس إلى أن يحمل عنهم من أوزارهم. قال : فيقول الله تبارك

١٩٨

وتعالى للمتظلم : ارفع بصرك فانظر في الجنان. فقال : يا رب أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا أو لأي صديق ، أو لأي شهيد هذا؟ فيقول الله تعالى : لمن أعطى الثمن. قال : يا رب ومن يملك ذلك؟ قال : أنت تملكه. قال : بما ذا يا رب؟ قال : بعفوك عن أخيك. قال : يا رب ، قد عفوت عنه. فيقول الله تعالى : خذ بيد أخيك فأدخله الجنة. ثم قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يصلح بين المؤمنين يوم القيامة»(١). (فَكَيْفَ) يصنع الكفار يوم القيامة (إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) أي قوم (بِشَهِيدٍ) أي بنبي يشهد على قبح أعمالهم (وَجِئْنا بِكَ) يا أشرف الخلق (عَلى هؤُلاءِ) الشهداء وهم الرسل (شَهِيداً) (٤١) فتشهد على صدقهم لعلمك بعقائدهم. ويقال : وجئنا بك لأمتك مزكيا معدلا لأن أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشهدون للأنبياء على قومهم إذا جحدوا بالبلاغ (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (٤٢) أي يوم مجيء ذلك يتمنى الذين كفروا بالله وعصوا أمر الرسول أن يدفنوا فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى. ويقال : يتمنون أن يصيروا ترابا مع البهائم لعظم هول ذلك اليوم ولا يقدرون أن يكتموا من الله حديثا بأن يقولوا : والله ربنا ما كنا مشركين أي إنهم يريدون الكتمان أولا لما علموا أن الله لم يغفر شركا فيقولون : والله ربنا ما كنا مشركين رجاء غفران الله لهم. لكنهم تشهد عليهم الأعضاء والزمان والمكان فلم يستطيعوا الكتمان فهنالك يودون أنهم كانوا ترابا ولم يكتموا الله حديثا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) أي لا تقيموا الصلاة حال كونكم سكارى من الشراب إلى أن تعلموا قبل الشروع فيها ما تقولونه ولا تقيموها حال كونكم جنبا إلا حال كونكم مسافرين. وقيل : إن «إلا» بمعنى غير ، وهو صفة لـ «جنبا». والمعنى لا تقيموها حال كونكم جنبا غير مسافرين وسيأتي حكم المسافرين (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) من الجنابة (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً). والمعنى وإن كنتم مرضى مرضا يمنع من استعمال الماء أو مسافرين طال السفر أو قصر ، أو أحدثتم بخروج الخارج من أحد السبيلين أو تلاقت بشرتكم مع بشرة النساء فلم تجدوا ماء تتطهرون به للصلاة بعد الطلب فاقصدوا أرضا لا سبخة فيها (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) إلى المرفقين بضربتين (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) (٤٣) وهذا كناية عن الترخيص والتيسير لأن من كان عادته أنه يعفو عن المذنبين فبأن يرخص للعاجزين كان أولى. (أَلَمْ تَرَ) أي تنظر (إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً)

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك (٤ : ٥٧٦) ، والمنذري في الترغيب والترهيب (٣ : ٣٠٩) ، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (٤ : ٥٠٧) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٦ : ٢٦٧) ، وابن أبي الدنيا في حسن الظن (١١٦).

١٩٩

أي حظا يسيرا (مِنَ الْكِتابِ) أي من علم التوراة (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) أي يؤثرون تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليأخذوا الرشا على ذلك ويحصل لهم الرياسة. كما قاله الزجاج (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) (٤٤) أي ويتوصلون إلى إضلال المؤمنين والتلبيس عليهم لكي يخرجوا عن الإسلام (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) أي هو سبحانه وتعالى أعلم بكنه ما في قلوبهم من العداوة والبغضاء (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا) أي متصرفا في جميع أموركم (وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) (٤٥) في كل موطن فثقوا به.

وقال ابن عباس : نزلت هذه الآية في شأن اليسع ورافع بن حرملة ـ حبرين من اليهود ـ دعوا رئيس المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه إلى دينهما. ثم نزل في مالك بن الصيف وأصحابه قوله تعالى (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ) أي من اليهود قوم يغيرون الكلم التي أنزل الله في التوراة عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها كتحريفهم في نعت النبي (أسمر ربعة) فوضعوا مكانه (آدم طوال). وتحريفهم في (الرجم) فوضعوا بدله (الجلد). ويقولون في الظاهر إذا أمرهم النبيّ عليه‌السلام : سمعنا قولك ، وفي أنفسهم وعصينا أمرك. ويقولون في أثناء مخاطبة النبيّ عليه‌السلام كلاما ذا وجهين وهو محتمل للخير والشر ، مظهرين المدح ويضمرون الشتم وهو : واسمع منا غير مسمع مكروها. والمراد واسمع منا حال كونك غير مسمع كلاما أصلا لصمم أو موت وهو دعاء منهم على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذهاب السمع أو غير مسمع جوابا يوافقك ، فكأنك ما أسمعت شيئا. يقولون للنبي : اسمع ، ويقولون في أنفسهم : لا سمعت ، فقوله غير مسمع ، معناه غير سامع. ويقولون في أثناء خطابهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : راعنا وهي كلمة ذات وجهين محتملة للخير إذا حملت على معنى اصرف سمعك إلى كلامنا وأنصت لحديثنا وتفهم وللشر إذا حملت على السب بالرعونة أو على أنهم يريدون إنك يا محمد كنت ترعى أغناما لنا فإنهم يفتلون الحق فيجعلونه باطلا لأن راعنا من المراعاة فيجعلونه من الرعونة. وكانوا يقولون لأصحابهم : إنما نشتمه ولا يعرف ولو كان نبيا لعرف ذلك فأطلعه الله تعالى على خبيث ضمائرهم وعلى ما في قلوبهم من العداوة والبغضاء أي يقولون ذلك لصرف الكلام عن نهجه وللقدح في دين الإسلام بالاستهزاء والسخرية (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا) باللسان أو بالحال عند سماع شيء من أوامر الله تعالى ونواهيه (سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا) بدل ذلك (لَكانَ) قولهم ذلك (خَيْراً لَهُمْ) عند الله (وَأَقْوَمَ) أي أصوب (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أي أبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم بذلك (فَلا يُؤْمِنُونَ) بعد ذلك (إِلَّا قَلِيلاً) (٤٦) أي إلا إيمانا قليلا غير نافع وهو الإيمان بالله والتوراة وموسى ، وكفروا بسائر الأنبياء أو إلا زمانا قليلا وهو زمان الاحتضار فلا ينفعهم الإيمان وبعضهم جعل قليلا مستثنى من الهاء في لعنهم أي إلا نفرا قليلا فلا يلعنهم الله لأنهم لم يفعلوا ذلك بل كانوا مؤمنين كعبد الله بن سلام وأصحابه. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا) أي بالقرآن (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) أي موافقا للتوراة في القصص

٢٠٠