مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

الأحباب ، وفوت الغنائم بغم حصل للرسول بسبب عصيانكم أمره (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) من الغنيمة (وَلا ما أَصابَكُمْ) من القتل والجراحة.

قال أبو السعود : أي لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا على نفع فات أو ضر آت (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٥٣) أي عالم بأعمالكم ومقاصدكم قادر على مجازاتها إن خيرا فخير وإن شرا فشر (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً) من العدو (نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) أي يأخذ النعاس المهاجرين وعامة الأنصار (وَطائِفَةٌ) وهم المنافقون عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير وأصحابهما (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أي أوقعهم في الهموم لأن أسباب الخوف وهي قصد العدو كانت حاصلة لهم والدافع لذلك وهو الوثوق بوعد الله ورسوله غير معتبر عندهم لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم فلذلك عظم الخوف في قلوبهم (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) أي كانوا يقولون في أنفسهم لو كان محمد محقا في دعواه لما سلط الكفار عليه وهذا ظن فاسد والله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، لا اعتراض لأحد عليه ، فإن النبوة خلعة من الله تعالى يشرف عبده بها وليس يجب في العقل أن الله تعالى إذا شرف عبده بخلعة أن يشرفه بخلعة أخرى بل له الأمر والنهي كيف شاء بحكم الإلهية (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) أي هل لنا من النصر الذي وعدنا به محمد نصيب قط. وهذا الكلام إن كان قائله من المنافقين كعبد الله بن أبي فإنما قاله طعنا في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي الإسلام وإن كان من المؤمنين المحققين كان غرضه منه إظهار الشفقة أنه متى يكون الفرج ومن أين يكون تحصل النصرة. (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ) أي التدبير (كُلَّهُ لِلَّهِ) فإنه تعالى قد دبر الأمر كما جرى في سابق قضائه فلا مرد له (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) أي يقولون فيما بينهم بطريق الخفية مظهرين أنهم مسترشدون طالبون للنصر مبطنين الإنكار والتكذيب مخافة القتل (يَقُولُونَ) أي معتب بن قشير وعبد الله بن أبي : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) أي لو كان لنا من التدبير والرأي شيء ما قتل من قتل منا في هذه المعركة وما غلبنا (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) أي قل يا أشرف الخلق لهم لو جلستم في بيوتكم في المدينة لخرج منكم من كتب الله عليهم القتل إلى مصارعهم أي أماكنهم التي ماتوا فيها عند أحد حتى يوجد ما علم الله أنه يوجد فإن الحذر لا يدفع القدر والتدبير لا يقاوم التقدير فالذين قدر الله عليهم القتل لا بد وأن يقتلوا لأن الله تعالى لما أخبر يقتل فلو لم يقتل لا نقلب علمه جهلا وذلك محال (وَ) فرض الله عليكم القتال ولم ينصركم يوم أحد (لِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) أي ليعاملكم من يختبر ما في قلوبكم من الإخلاص والنفاق

__________________

التفسير (٢ : ١١٨) ، والطبري في التفسير (٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (١ : ٤٧٧) ، وابن كثير في البداية والنهاية (٤ : ٢٣).

١٦١

وليظهر ما فيها من السرائر وفي المثل المشهور لا تكرهوا الفتن فإنها حصاد المنافقين (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أي يخلصها من الوساوس (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١٥٤) أي بما في القلوب من الخير والشر (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ) أي انهزموا يوم أحد وهم عثمان بن عفان ، ورافع بن المعلى وخارجة بن زيد (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجمع أبي سفيان (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) أي أزالهم الشيطان بوسوسته أن محمدا قتل (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) أي بشؤم بعض ما كسبوا من الذنوب بترك المركز وبالحرص على الغنيمة أو على الحياة (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) لتوبتهم واعتذارهم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن تاب (حَلِيمٌ) (١٥٥) أي لا يعجل لهم بالعقوبة وأما الذين ثبتوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعة عشر رجلا ، سبعة من المهاجرين : أبو بكر وعلي وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله ، وأبو عبيدة بن الجراح ، والزبير بن العوام. وسبعة من الأنصار : الخباب بن المنذر ، وأبو دجانة ، وعاصم بن ثابت ، والحرث بن الصمة ، وسهل بن حنيف ، وأسيد بن حضير ، وسعد بن معاذ. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي في نفس الأمر وهم المنافقون عبد الله بن أبي وأصحابه (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) أي لأجل إخوانهم في النسب أو في الكفر والنفاق (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) أي ساروا فيها للتجارة أو غيرها فماتوا (أَوْ كانُوا غُزًّى) فقتلوا (لَوْ كانُوا عِنْدَنا) أي مقيمين في المدينة (ما ماتُوا) في سفرهم (وَما قُتِلُوا) في غزواتهم (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ) أي ظنهم أن إخوانهم لو لم يسافروا ولم يحضروا القتال لعاشوا (حَسْرَةً) أي حزنا (فِي قُلُوبِهِمْ) واللام لام العاقبة أي أنهم قالوا ذلك لإعماء قلوب المسلمين ليضيق صدرهم وليتخلفوا عن القتال فلما كان المؤمنون لم يلتفتوا إلى قولهم فيضيع سعيهم ، ويبطل كيدهم فتحصل الندامة في قلوبهم (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) فمن قدر له البقاء لم يقتل في الجهاد ومن قدر له الموت لم يبق وإن لم يجاهد فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي مع اقتحامهما لموارد الخوف ، ويميت القاعد عن القتال والمقيم مع حيازتهما لأسباب السلامة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١٥٦) فيجازيهم على قولهم واعتقادهم ويجازيكم أن تماثلوهم في ذلك (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في الجهاد (أَوْ مُتُّمْ) في سفركم للغزو مع الكفار أو في بيوتكم وكنتم مخلصين من النفاق (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ) لذنوبكم (وَرَحْمَةٌ) منه لكم (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (١٥٧) أي مما تجمعونه أنتم لو لم تموتوا من الأموال التي تعد خيرات.

وقرأ حفص عن عاصم بالغيبة أي خير مما يجمعه هؤلاء الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها مدة أعمارهم. قال الفخر الرازي : والأصوب عندي أن اللام في «ولئن» للتأكيد فيكون المعنى إن وجب أن تموتوا أو تقتلوا في سفركم وغزوكم فكذلك يجب أن تفوزوا بالمغفرة والرحمة فلما ذا تحترزون عن الموت والقتل بل ذلك مما يجب أن يتنافس فيه المتنافسون لأن الموت الذي يستحق الثواب العظيم كان خيرا من الموت من غير فائدة (وَلَئِنْ مُتُّمْ) في حضر أو سفر (أَوْ

١٦٢

قُتِلْتُمْ) في الجهاد أو غيره (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (١٥٨) فجميع العالمين يوفقون في عرصة القيامة وبساط العدل فيجتمع المظلوم مع الظالم والمقتول مع القاتل والله تعالى يحكم بين عبيده بالعدل.

واعلم أن الله تعالى رغب المجاهدين في الآية الأولى بالمغفرة والرحمة وفي هذه الآية بالحشر إلى الله زيادة في إعلاء الدرجات.

يروى «أن عيسى ابن مريم مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم ورأى عليهم آثار العبادة فقال : ماذا تطلبون؟ فقالوا : نخشى عذاب الله ، فقال : هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه. ثم مر بأقوام آخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم فقالوا : نطلب الجنة والرحمة ، فقال : هو أكرم من أن يمنعكم رحمته. ثم مر بقوم ورأى آثار العبودية عليهم أكثر فسألهم فقالوا : نعبده لأنه إلهنا ونحن عبيده لا لرغبة ولا لرهبة ، فقال : أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحقّون». فقوله تعالى : (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ) إشارة إلى من يعبده خوفا من عقابه. وقوله : (وَرَحْمَةٌ) إشارة إلى من يعبده لطلب ثوابه. وقوله تعالى : (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) إشارة إلى من يعبد الله لمجرد الربوبية وهذا أعلا المقامات وأبعد النهايات في العبودية في علو الدرجة ، فهؤلاء الذين بذلوا أنفسهم وأبدانهم في طاعة الله ومجاهدة عدوه يكون حشرهم إليه واستئناسهم بكرمه وتمتعهم بشروق نور ربوبيته (فَبِما رَحْمَةٍ) فما استفهام للتعجب تقديره فبأي رحمة (مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) وذلك لأنه لما كانت جنايتهم عظيمة ثم إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يظهر تغليظا في القول ألبتة علموا أن هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني فكان ذلك موضع التعجب من كمال ذلك التأييد (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) باللسان (غَلِيظَ الْقَلْبِ) أي قاسية (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) أي لتفرقوا من عندك ولم يسكنوا إليك ولو يسكنوا إليك ولو انفضوا من حولك فات المقصود من الرسالة (فَاعْفُ عَنْهُمْ) فيما يتعلق بحقوقك (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) من الله تعالى فيما يتعلق بحقوقه تعالى إتماما للشفقة عليهم وإكمالا للبر بهم (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) فإن المشاورة تقتضي شدة محبتهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنها تدل على رفعة درجتهم فترك المشاورة معهم إهانة لهم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما شاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم». (فَإِذا عَزَمْتَ) عقب المشاورة على شيء (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في إمضاء أمرك على ما هو أصلح وليس التوكل إهمال التدبير بالكلية وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل بل التوكل هو أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول بقلبه على عصمة الله وإعانته (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (١٥٩) عليه تعالى فينصرهم ويرشدهم إلى ما فيه خير لهم وصلاح (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) أي إن ينصركم كما نصركم يوم بدر فلا أحد يغلبكم (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) أي يترك الله نصرتكم كيوم أحد (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) أي فلا أحد ينصركم على عدوكم من بعد

١٦٣

خذلانه تعالى (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٦٠) بالنصرة وغيرها (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ).

قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بفتح الياء وضم الغين ، أي وما جاز لنبي أن يخون أمته في الغنائم.

قال الكلبي ومقاتل : نزلت هذه الآية حين ترك الرماة المركز يوم أحد طلبا للغنيمة ، وقالوا : نخشى أن يقول النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم : «أ لم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟». فقالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ظننتم أنا نغفل فلا نقسم لكم». فنزلت هذه الآية. وقرأ الباقون من السبعة «يغل» بضم الياء وفتح الغين أي وما جاز لنبي أن يخان لأن الوحي كان يأتيه حالا فحالا فمن خانه فربما نزل الوحي فيه فيحصل له مع عذاب الآخرة فضيحة الدنيا ولأن الخيانة في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفحش لأنه أفضل البشر ، ولأن المسلمين في ذلك الوقت كانوا في غاية الفقر ، كما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما وقعت في يده يوم حنين غنائم هوازن غل رجل بمخيط فنزلت هذه الآية (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَ) أي يأت بالذي غله بعينه يحمله على عنقه (يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ) أي تعطى وافيا (ما كَسَبَتْ) أي جزاء ما عملت من الغلول وغيره (وَهُمْ) أي كل نفس (لا يُظْلَمُونَ) (١٦١) بزيادة عقاب أو بنقص ثواب لأنه تعالى عادل في حكمه (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) أي أمن اتقى فاتبع رضوان الله بالإيمان به والعمل بطاعته (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) أي كمن استحق سخطا من الله بالكفر به والاشتغال بمعصيته (وَمَأْواهُ) أي الغال أو من استوجب سخط الله (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٦٢) جهنم (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) أي الفريقان مختلفون في درجات الثواب والعقاب في حكم الله وعلمه باختلاف مراتب الطاعات والمعاصي (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (١٦٣) أي بأعمالهم ودرجاتها فيجازيهم بحسبها (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي لقد أحسن إليهم (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي بعث آدميا ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم وهم كانوا عارفين بأحواله من أول العمر إلى آخره أنه ملازم الصدق والأمانة وهو صار شرفا للعرب وفخرا لهم ، وذلك لأن الافتخار بإبراهيم عليه‌السلام كان مشتركا فيه اليهود والنصارى والعرب ، ثم إن اليهود يفتخرون بموسى والتوراة والنصارى يفتخرون بعيسى والإنجيل فما كان للعرب ما يقابل ذلك فلما بعث الله محمدا وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائدا على شرف جميع الأمم. فهذا وجه الفائدة في قوله تعالى من أنفسهم : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) أي القرآن. أي يبلغ الوحي من عند الله إلى الخلق بالأمر والنهي (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهرهم بالتوحيد من الشرك وبأخذ الزكاة من الذنوب ويكمل نظرهم بحصول المعارف الإلهية (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) أي ظواهر الشريعة أو يعرفهم التأويل (وَالْحِكْمَةَ) أي محاسن الشريعة وأسرارها وعللها (وَإِنْ

١٦٤

كانُوا مِنْ قَبْلُ) أي والحال أنهم كانوا من قبل بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١٦٤) أو المعنى وما كانوا من قبل مجيء محمد والقرآن إلا في ضلال بيّن وذلك لأن دين العرب قبل ذلك كان أرذل الأديان ـ وهو عبادة الأوثان ـ وأخلاقهم أرذل الأخلاق ـ وهو الغارة والنهب ، والقتل وأكل الأطعمة الرديئة ـ ثم لما بعث الله سيدنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم انتقلوا ببركته من تلك الدرجة التي هي أخس الدرجات إلى أحسنها ، وصاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة وعدم الالتفات إلى الدنيا وطيباتها ولا شك أن هذا أعظم المنة. (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا) أي أقلتم متعجبين من أين أصابنا هذا ونحن ننصر الإسلام الذي هو دين الحق ومعنا الرسول وهم ينصرون دين الشرك بالله فكيف صاروا منصورين علينا وقد تقدم الوعد بالنصر حين أصابكم من المشركين نصف ما قد أصابهم منكم قبل. وذلك لأن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين ، وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين. والأسير في حكم المقتول لأن الآسر يقتل أسيره إن أراد. (قُلْ هُوَ) أي حصول هذا الأمر (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي بشؤم معصيتكم بترككم المركز وحرصكم على الغنيمة (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٦٥) فإنه قادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم كما هو قادر على التخلية بينكم وبين عدوكم إذا خالفتم وعصيتم (وَما أَصابَكُمْ) في أحد من القتل والجراحة (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع محمد وجمع أبي سفيان (فَبِإِذْنِ اللهِ) أي فهو بقضائه وإرادته (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٦٦) (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ) أي وليظهر الله للناس الثابتين على الإيمان والذين أظهروا النفاق والامتناع من الجهاد مع وجود الطلب. وهم عبد الله بن أبي وأصحابه حيث رجعوا يوم أحد إلى المدينة قال لهم عبد الله بن جبير أو عبد الله بن عمرو بن حرام ـ والد جابر بن عبد الله الأنصاري ـ : أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العدو (تَعالَوْا) إلى أحد (قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) أي كونوا إما من رجال الدين وإما من رجال الدنيا فإن كان في قلبكم حب الدين والإسلام فقاتلوا لهما في طاعة الله ، وإن لم تكونوا كذلك فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم وبلدكم. (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً) أي لو نحسن قتالا ونقدر عليه (لَاتَّبَعْناكُمْ) إلى أحد (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) أي هم للكفر يوم إذ قالوا ما قالوا أقرب منهم للإيمان ، فإنهم كانوا قبل هذه الواقعة يظهرون الإيمان من أنفسهم وما ظهرت منهم أمارة تدل على كفرهم ، فلما رجعوا عن عسكر المسلمين تباعدوا بذلك عن أن يظن بهم كونهم مؤمنين وأيضا قولهم ذلك يدل على كفرهم لأنه إما على السخرية بالمسلمين ، وإما على عدم الوثوق بقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكل واحد منهما كفر. (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) فإنهم أظهروا أمرين ليس في قلوبهم واحد منهما. أحدهما : عدم العلم بالقتال. والآخر : الاتباع على تقدير العلم به. وقد كذبوا فيهما فإنهم عالمون بالقتال غير ناوين للاتباع بل كانوا مصرين على الانخزال عازمين على الارتداد. (وَاللهُ

١٦٥

أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) (١٦٧) أي يعلم من تفاصيل تلك الأحوال ما لا يعلمه غيره (الَّذِينَ قالُوا) أي الذين نافقوا ، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه (لِإِخْوانِهِمْ) أي لأجل إخوانهم وهم من قتل يوم أحد من جنسهم أو أقاربهم (وَ) قد (قَعَدُوا) عن القتال بالانخذال : (لَوْ أَطاعُونا) أي فيما أمرناهم به ووافقونا في ذلك (ما قُتِلُوا) كما لا نقتل (قُلْ) للمنافقين (فَادْرَؤُا) أي ادفعوا (عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٦٨) في أن القعود ينجي منه.

وروي أنه أنزل الله بهم الموت ، فمات منهم يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقا من غير قتال ومن غير خروج لإظهار كذبهم (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) نزلت هذه الآية في حق قتلى أحد وكانوا سبعين رجلا : أربعة من المهاجرين : حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير ، وشماس بن عثمان ، وعبد الله بن جحش ، وباقيهم من الأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وأما شهداء بدر فنزلت فيهم آية البقرة ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله الآية (بَلْ) هم (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١٦٩) التحف من الجنة.

روي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في صفة الشهداء إن أرواحهم في أجواف طير خضر وأنها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ، وتسرح حيث شاءت وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش. وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أ لا أبشرك أن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله». ثم قال : «ما تريد يا عبد الله بن عمرو أن أفعل بك؟» فقال : يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك مرة أخرى. (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وهو شرف الشهادة والقرب من الله والتمتع بالنعيم المخلد عاجلا (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١٧٠) أي أن الشهداء يقول بعضهم لبعض تركنا إخواننا فلانا وفلانا في صف المقاتلة مع الكفار فيقتلون إن شاء الله ، فيصيبون من الرزق والكرامة ما أصبنا. أي يفرحون بحسن حال إخوانهم الذين تركوهم في الدنيا بدوام انتفاء الخوف والحزن وبلحوقهم بهم لأن الله بشرهم بذلك (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) أي بثواب أعمالهم من الله (وَفَضْلٍ) أي زيادة عظيمة من الكرامة (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٧١) من الشهداء وغيرهم (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) في أحد. منهم : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، والزبير وسعد وطلحة وابن عوف وابن مسعود ، وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح وجابر بن عبد الله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) في طاعة الرسول في ذلك الوقت (وَاتَّقَوْا) في التخلف عن الرسول (أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٧٢).

روي أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وقالوا : إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل فلم تركناهم! بل الواجب أن نرجع ونستأصلهم. فهموا

١٦٦

بالرجوع ، فبلغ ذلك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة.فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبي سفيان وقال : «لا أريد أن يخرج الآن معي إلا من كان معي في القتال بالأمس» فخرج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع قوم من أصحابه قيل : كانوا سبعين رجلا حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال على يسار الطريق لمن أراد ذا الحليفة ، وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر ، فألقى الله تعالى الرعب في قلوب المشركين فذهبوا فنزلت هذه الآية : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) وهو أعرابي من خزاعة أو جماعة راكبون من عبد القيس أو نعيم بن مسعود الأشجعي (إِنَّ النَّاسَ) أي أبا سفيان وأصحابه (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) في اللطيمة وهي سوق في قرب مكة (فَاخْشَوْهُمْ) بالخروج إليهم.

روي أن أبا سفيان لما عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مكة نادى : يا محمد موعدنا موسم بدر إن شئت. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر : «قل بيننا وبينك ذلك إن شاء الله تعالى». فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل بمر الظهران ، فألقى الله الرعب في قلبه وبدا له أن يرجع ، فمر به ركب من بني عبد قيس يريدون المدينة للميرة فشرط لهم حمل بعير من زبيب إن ثبطوا المسلمين ، وقيل : لقي نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فقال : يا نعيم إني واعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر وإن هذا عام جدب وقد بدا لي أن أرجع ، ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاد بذلك جراءة فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل فخرج نعيم حتى أتى المدينة فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبي سفيان ، فقال لهم : أين تريدون؟ فقالوا : واعدنا أبا سفيان بموسم بدر أن نقتتل فيها ، فقال لهم : ما هذا بالرأي! أتوكم في دياركم وقتلوا أكثركم ، فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد. فوقع هذا الكلام في قلوب بعضهم فكره الخروج. فلما عرف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك قال : «والذي نفس محمد بيده لأخرجن إليهم ولو لم يخرج معي أحد». فخرج في سبعين راكبا ، وباقي الجماعة يمشون وفيهم ابن مسعود فذهبوا وكلهم يقولون : حسبنا الله ونعم الوكيل. إلى أن وصلوا إلى بدر وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببدر ينتظر أبا سفيان ثمان ليال ولم يلق أحدا من المشركين ، ووافقوا السوق وباعوا ما كان معهم من التجارات واشتروا أدما وزبيبا بحوافي الدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين كما قال تعالى: (فَزادَهُمْ إِيماناً) أي زادهم هذا الكلام المخوف جراءة بالخروج إليهم وعزما متأكدا على محاربة الكفار وعلى طاعة الرسول (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) أي كافينا الله وثقتنا به (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (١٧٣) أي الكفيل بالنصرة والكافي (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) أي فخرجوا إلى بدر فرجعوا من بدر ملتبسين بسلامة وثواب من الله (وَفَضْلٍ) أي ربح في التجارة (لَمْ يَمْسَسْهُمْ) أي لم يصبهم في الذهاب والمجيء (سُوءٌ) أي قتل ولا جراح (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) في طاعة رسوله (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (١٧٤) يدفع العدو عنهم ويعطيهم ثواب الغزو ويرضى عنهم (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ).

١٦٧

قرأ ابن عباس وابن مسعود «يخوفكم أولياءه». وقرأ أبي بن كعب «يخوفكم بأوليائه» ، أي ذلكم المثبط الشيطان يحوفكم أيها المؤمنون المشركين أبا سفيان وأصحابه.

وقال الحسن والسدي : معنى هذه الآية الشيطان يخوف أولياءه الذين يطيعونه ويختارون أمره ـ وهم المنافقون ـ ليقعدوا عن قتال المشركين. فأما أولياءه الله فإنهم لا يخافون الكفار إذا خوّفهم الشيطان ولا ينقادون لأمره (فَلا تَخافُوهُمْ) أي أولياء الشيطان بالخروج إليهم (وَخافُونِ) في مخالفة أمري بالجلوس (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٧٥) فإن الإيمان يقتضي تقديم خوف الله على خوف الناس ويستلزم عدم الخوف من شر الشيطان وأوليائه (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ).

قرأ نافع «يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي في جميع ما في القرآن إلا قوله تعالى (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الآية : ١٠٣] في سورة الأنبياء فإنه فتح الياء وضم الزاي كباقي القراء في جميع ما في القرآن (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً). اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية فقيل : إنها نزلت في شأن كفار قريش والله تعالى جعل رسوله آمنا من شرهم. والمعنى لا يحزنك من يسارع في الكفر بنصرته بأن يقصد جمع العساكر بمحاربتك وإبطال هذا الدين وإزالة هذه الشريعة. وهذا المقصود لا يحصل لهم بل يضمحل أمرهم وتزول شوكتهم ويعظم أمرك ويعلو شأنك فإنهم لن يضروا الله شيئا بهذا الصنيع وإنما يضرون أنفسهم. وقيل : نزلت في شأن المنافقين إنهم كانوا يخوفون المؤمنين بسبب وقعة أحد ويؤيسونهم من النصر والظفر. وقيل : نزلت في شأن رؤساء اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه الذين كتموا صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمتاع الدنيا (يُرِيدُ اللهُ) بذلك (أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا) من الثواب (فِي الْآخِرَةِ) أي الجنة (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٧٦) في النار (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٧٧)

قال ابن عباس : هم المنافقون اختاروا الكفر على الإيمان فإنهم متى كانوا مع المؤمنين أظهروا الإيمان ، فإذا خلوا إلى شيطانهم كفروا وتركوا الإيمان فكان ذلك كأنهم اشتروا الكفر بالإيمان. ويمكن حمل هذه الآية على اليهود ، ومعنى اشتراء الكفر بالإيمان منهم أنهم كانوا يعرفون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويؤمنون به قبل مبعثه ، ويستنصرون به على أعدائهم فلما بعث كفروا به وتركوا ما كانوا عليه فكأنهم أعطوا الإيمان وأخذوا الكفر بدلا عنه كما يفعل المشتري من إعطاء شيء وأخذ غيره بدلا عنه (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) أي نمهل لهم بتطويل الأعمار (خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) أي ذنبا في الدنيا ودركات في الآخرة (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٧٨) يهانون به يوما فيوما وساعة بعد ساعة.

قال الفخر الرازي : بيّن الله تعالى في هذه الآية أن بقاء هؤلاء المتخلفين عن القتال ليس

١٦٨

خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا في أحد لأن هذا البقاء صار وسيلة إلى الخزي في الدنيا والعقاب الدائم في القيامة. وقتل أولئك الذين قتلوا في أحد صار وسيلة إلى الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة فترغيب أولئك المثبطين في مثل هذه الحياة وتنفيرهم عن مثل ذلك القتل لا يقبله إلا جاهل.

قرأ ابن كثير وأبو عمرو في الأربعة : «ولا تحسبن الذين كفروا» ، ولا تحسبن الذين يبخلون ، لا تحسبن الذين يفرحون فـ «لا تحسبنهم» بالتاء وضم الباء في قوله تعالى : «تحسبنهم».

وقرأ نافع وابن عامر بالياء إلا قوله : «فلا تحسبنهم» فإنه بالتاء. وقراءة حمزة كلها بالتاء. وقيل : نزلت الآية من قوله : (وَلا يَحْزُنْكَ) إلى هاهنا في حق مشركي أهل مكة يوم أحد. (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ليترك المخلصين (عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أيها الناس من اختلاط المنافقين بالمخلصين وإظهارهم أنهم من أهل الإيمان (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ) أي المنافق (مِنَ الطَّيِّبِ) أي المؤمن بإلقاء المحن والمصائب والقتل والهزيمة ، فمن كان مؤمنا ثبت على إيمانه وتصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن كان منافقا ظهر نفاقه وكفره أو بالقرائن فإن المسلمين كانوا يفرحون بنصرة الإسلام وقوته والمنافقين كانوا يغتمون بذلك (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) أي إن عادة الله جارية بأنه لا يطلع عوام الناس على غيبه بل لا سبيل لكم إلى معرفة ذلك الامتياز إلا بالامتحانات من التكاليف الشاقة كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله فأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاع على الغيب فهو من خواص الأنبياء فلهذا قال تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) فخصّهم بإعلامهم أن هذا مؤمن وهذا منافق ، أو المعنى فيمتحن خلقه بالشرائع على أيديهم حتى يتميز الفريقان بالامتحان. أو المعنى وما كان الله ليجعلكم كلكم عالمين بالغيب من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عن الرسول بل الله يخص من يشاء من عباده بالرسالة ، ثم يكلف الباقين طاعة هؤلاء الرسل (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي لما طعن المنافقون في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوقوع الحوادث المكروهة في أحد بين الله تعالى أنه كان فيها مصالح منها تمييز الخبيث من الطيب ، ولم يبق بعد جواب هذه الشبهة إلا أن تؤمنوا بالله ورسله (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) حق الإيمان (وَتَتَّقُوا) أي الكفر والنفاق (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٧٩) أي ثواب وافر في الجنة (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) أي لا يتوهمن هؤلاء البخلاء ببذل المال في الجهاد أن بخلهم هو خير لهم بل هو شرّ لهم لأنه يبقى عقاب بخلهم عليهم (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي سيجعل ذلك المال طوقا من النار في عنقهم. وقيل : إن المراد البخل بالعلم وذلك لأن اليهود كانوا يكتمون نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان ذلك الكتمان بخلا فحينئذ كان معنى سيطوقون أن

١٦٩

الله تعالى يجعل في رقابهم طوقا من نار. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من النار يوم القيامة» (١). والمعنى أنهم عوقبوا في أفواههم وألسنتهم بهذا اللجام لأنهم لم ينطقوا بأفواههم وألسنتهم بما يدل على الحق. (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له تعالى ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من البخل والسخاء (خَبِيرٌ) (١٨٠) فيجازيكم عليه أو فيجازيهم عليه. (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا) أي فنحاص بن عازوراء ـ كما قاله ابن عباس والسدي ـ أو حيي بن أخطب ـ كما قاله قتادة ـ أو كعب بن الأشرف كما نقله ابن عساكر.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا فقال فنحاص اليهودي : إن الله فقير حتى سألنا القرض. فلطمه أبو بكر في وجهه وقال : لو لا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك. فشكاه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنكر ما قاله فنزلت هذه الآية تصديقا لأبي بكر رضي‌الله‌عنه والجمع حينئذ مع كون القائل واحدا لرضا الباقين بذلك : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) محتاج يطلب منا القرض (وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) ولا نحتاج إلى قرضه (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) أي من العظيمة الشنعاء في صحائف الحفظة ليقرأوا ذلك يوم القيامة أو سنحفظه ونثبته في علمنا لا ننساه ولا نهمله ، أو المراد سنكتب عنهم هذا الجهل في القرآن حتى يعلم الخلق إلى يوم القيامة شدة جهلهم وطعنهم في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكل ما قدروا عليه (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) في اعتقادهم كما في نفس الأمر أي نكتب عليهم رضاهم بقتل آبائهم الأنبياء بغير جرم. أو المعنى سنحفظ عن الفريقين معا أقوالهم وأفعالهم (وَنَقُولُ) عند الموت أو عند الحشر أو عند قراءة الكتاب أو عند الإلقاء في النار ويحتمل أن يكون هذا القول كناية عن حصول الوعيد ، وإن لم يكن هناك قول.

وقرأ حمزة «سيكتب» بالياء وضمها على لفظ ما لم يسم فاعله وقتلهم برفع اللام ويقول بالياء. والباقون بالنون ونصب اللام من قتلهم. وقرأ الحسن والأعرج «سيكتب» بالياء وبالبناء للفاعل (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (١٨١) أي المحرق (ذلِكَ) أي العذاب المحرق (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي بسبب ما اقترفتموه من التفوه بتلك العظيمة وغيره من المعاصي (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١٨٢) أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم. (الَّذِينَ قالُوا) نصب على الذم أو جر نعتا لـ «الّذين» الأول. أي لقد سمع الله قول الذين قالوا.

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب العلم ، باب : كراهية منع العلم ، والترمذي في كتاب العلم ، باب : ٣ ، وابن ماجة في المقدّمة ، باب : من سئل عن علم فكتمه ، وأحمد في (م ٢ / ص ٢٦٣).

١٧٠

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في حق كعب بن الأشرف وكعب بن أسد ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا ، وزيد بن التابوت ، وفنحاص بن عازوراء ، وحيي بن أخطب وغيرهم ، أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد تزعم أنك رسول الله وأنه تعالى أنزل عليك كتابا وقد عهد الله إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ويكون لها دوي خفيف تنزل من السماء ، فإن جئتنا بهذا صدقناك فنزلت هذه الآية : (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) أي أمرنا في الكتاب (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ) أي لا نصدق أحدا بالرسالة (حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) ما كان عليه أمر أنبياء بني إسرائيل حيث كان يقرب بالقربان من النعم أو من الصدقات ـ غير الحيوان ـ فيقوم النبي في البيت ويناجي ربه وبنو إسرائيل واقفون حول البيت ، فتنزل نار بيضاء أي لا دخان لها ولها دوي ، فتأكل القربان أي تحرقه وهذا من أباطيلهم فإن أكل النار القربان لم يجب الإيمان إلا لكونه معجزة ، فهو وسائر المعجزات سواء. وقد تقدمت المعجزات الكثيرة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطلبهم لهذا المعجز وقع على سبيل التعنت لا على سبيل الاسترشاد ولذلك رد الله عليهم بقوله : (قُلْ) يا أشرف الخلق (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات الواضحة (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) وهو القربان الذي تأكله النار (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٨٣) في مقالتكم إنكم تؤمنون لرسول يأتيكم بما اقترحتموه فإن زكريا ويحيى وعيسى وغيرهم من الأنبياء عليهم‌السلام قد جاءوكم بما قلتم في معجزات أخر فما لكم لم تؤمنوا لهم حتى اجترأتم على قتلهم (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) في أصل النبوة والشريعة فتسل (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) أي المعجزات (وَالزُّبُرِ) أي الصحف كصحف إبراهيم وموسى (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) (١٨٤) أي الواضح وهو التوراة والإنجيل والزبور.

وقرأ ابن عامر «بالزبر» بإعادة الباء كقراءة ابن عباس دلالة على المغايرة. وقرأ هشام «وبالكتاب» بإعادة الباء. والباقون بغير الباء فيهما (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي كل حيوان حاضر في دار التكليف يذوق الموت. وروي عن الحسن أنه قرأ «ذائقة الموت» بالتنوين ونصب الموت. وقرأ الأعمش بطرح التنوين مع نصب «الموت». (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وإنما تعطون أجزية أعمالكم على التمام يوم قيامكم من القبور. وفي لفظ التوفية إشارة إلى أن بعض أجورهم يصل إليهم قبله كما يدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» (١) (فَمَنْ زُحْزِحَ) أي أبعد (عَنِ النَّارِ) بالتوحيد والعمل الصالح (وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) أي نال غاية مقصوده. وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحبّ أن يزحزح عن النار

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب القيامة ، باب : ٢٦.

١٧١

ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» (١). (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) (١٨٥) أي ليس ما في الدنيا من النعيم إلا كمتاع البيت في بقائه مثل الخزف والزجاجة وغير ذلك أي إن العيش في هذه الدنيا يغر الإنسان بما يمنيه من طول البقاء وسينقطع عن قريب فوصفت بأنها متاع الغرور لأنها تغر ببذل المحبوب ، وتخيل للإنسان أنه يدوم وليس بدائم. قال بعضهم : الدنيا ظاهرها مطيّة السرور وباطنها مطية الشرور. قال سعيد بن جبير : إن هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة وأما من طلب الآخرة بها فإنها نعم المتاع (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) أي والله لتختبرن في ذهاب أموالكم بالمهلكات كالغرق والحرق وبالتكاليف كالزكاة والجهاد ، وفي ما يصيب أنفسكم من البلايا كالأمراض والأوجاع والقتل والضرب ومن التكاليف كالصلاة والج هاد والصبر فيهما. (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) أي ولتسمعن من اليهود والنصارى ومشركي العرب : أنواع الإيذاء من الطعن في الدين الحنيف ، والقدح في أحكام الشرع الشريف ، وصدّ من أراد أن يؤمن ، وتخطئة من آمن وما كان من كعب بن الأشرف وأضرابه من هجاء المؤمنين وتشبيب نسائهم ، وتحريض المشركين على مضادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحو ذلك مما لا خير فيه. (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على تلك البلوى وأذى الكفار وتستعملوا احتمال المكروه ومداراة الكفار في كثير من الأحوال (وَتَتَّقُوا) أي تحترزوا عما لا ينبغي وعن المداهنة مع الكفار وعن السكوت عن إظهار الإنكار (فَإِنَّ ذلِكَ) أي الصبر والتقوى (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (١٨٦) أي من حزم أمور المؤمنين وخيرها ومن صواب التدبير. أو المعنى فإن ذلك ذلك مما قد عزم عليكم فيه أي ألزمتم الأخذ به ومما يجب أن يعزم عليه كل أحد لأنه حميد العاقبة. (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) أي واذكر وقت أخذه تعالى العهد على علماء اليهود والنصارى لتذكرن الآيات الدالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوراة والإنجيل وللناس ، ولا تلقوا فيها التأويلات الفاسدة والباطلة.

قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم وأبو عمرو بالغيبة في الفعلين. والباقون بالخطاب فيهما. (فَنَبَذُوهُ) أي طرحوا الميثاق (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) أي فلم يعملوا به (وَاشْتَرَوْا بِهِ) أي الكتاب (ثَمَناً قَلِيلاً) أي شيئا تافها من الدنيا أي أخفوا الحق ليتوسلوا به إلى وجدان شيء من الدنيا (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) (١٨٧) أي بئس شيئا يشترونه ذلك الثمن فكل من لم يبين الذي للناس وكتم

__________________

(١) رواه ابن ماجة في كتاب الفتن ، باب : ما يكون من الفتن ، ومسلم في كتاب الإمارة ، باب : ٤٦ ، والنّسائي في كتاب البيعة ، باب : ذكر ما على من بايع الإمام وأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه ، وأحمد في (م ٢ / ص ١٦١).

١٧٢

شيئا منه لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة ، وتطييب قلوبهم أو لجر منفعة أو لخوف ، أو لبخل للعلم دخل تحت هذا الوعيد. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار» (١). وعن محمد بن كعب قال : لا يحل لأحد من العلماء أن يسكت على علمه ولا يحل لجاهل أن يسكت على جهله حتى يسأل. وكان قتادة يقول : طوبى لعالم ناطق ولمستمع واع هذا علم علما فبذله وهذا سمع خبرا فوعاه. (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) أي بما فعلوا من تحريف نصوص التوراة وتفسيرها بتفسيرات باطلة (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) أي يحبون أن يوصفوا بالدين والفضل والعفاف والصدق. (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ) أي بمباعدة (مِنَ الْعَذابِ).

وقيل : نزلت هذه الآية في شأن المنافقين فإنهم يفرحون بما أتوا من إظهار الإيمان للمسلمين على سبيل النفاق من حيث إنهم كانوا يتوصلون بذلك إلى تحصيل مصالحهم في الدنيا ، ثم كانوا يتوقعون من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحمدهم على الإيمان الذي لم يكن موجودا في قلوبهم. ولا شك أن هذه الآية واردة في الكفار والمنافقين الذين أمر الله رسوله بالصبر على أذاهم فإن أكثر المنافقين كانوا من اليهود. والأولى إجراء الموصول على العموم فيشتمل على كل من يأتي بشيء من الحسنات فيفرح به فرح إعجاب ويود أن يمدحه الناس بما هو عار منه من سداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والإقبال على طاعة الله.

وقرأ حمزة وعاصم والكسائي «تحسبن» و «تحسبنهم» بالتاء الفوقية وكلاهما بفتح الباء ، والتقدير : لا تحسبن يا محمد أو أيها السامع أو كلاهما بضم الباء ، والخطاب للمؤمنين والمفعول الأول : «الذين يفرحون» ، والثاني : «بمفازة». وقوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) تأكيد والفاء مقحمة. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالياء التحتية ، وكلاهما بفتح الباء ، والفاعل للرسول وبضمها والفاعل من يتأتى منه الحسبان أو بفتح الباء في الأول وضمها في الثاني وهو قراءة أبي عمرو ، والفاعل هو الموصول والمفعول الأول محذوف ، والتقدير ولا يحسبن الذين يفرحون أنفسهم بمفازة من العذاب. ويجوز أن يحمل الفعل الأول على حذف المفعولين معا اختصارا لدلالة مفعولي الفعل الثاني عليهما. أي لا يحسبن هؤلاء أنفسهم فائزين أو على أن الفعل الأول مسند للرسول أو لكل حاسب ومفعوله الأول الموصول والثاني محذوف مفعول الفعل الثاني عليه ، والفعل الثاني مسند إلى ضمير الموصول ، والفاء للعطف لظهور تفرع عدم

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب العلم ، باب : كراهية منع العلم ، والترمذي في كتاب العلم ، باب : ٣ ، وابن ماجة في المقدّمة ، باب : من سئل عن علم فكتمه ، وأحمد في (م ٢ / ص ٢٦٣).

١٧٣

حسبانهم على عدم حسبانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومفعولاه ما بعده (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٨٨) أي وجيع في الآخرة (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له تعالى السلطان القاهر فيهما بحيث يتصرف فيهما وفيما فيهما كيفما يشاء إيجادا وإعداما ، إحياء وإماتة ، تعذيبا وإثابة ، وهو تعالى يملك ما فيهما من خزائن المطر والنبات والرزق (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٨٩) فلا يشذ من ملكوته شيء من الأشياء وكل ما سواه تعالى مقدور له تعالى. (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي في إنشائهما على ما هما عليه في ذواتهما وصفاتهما (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي في تعاقبهما في وجه الأرض وكون كل منهما خلفة للآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها. الناشئين من حركات السموات وسكون الأرض أو في تفاوتهما بازدياد وانتقاص باختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربا وبعدا بحسب الأزمنة أو في اختلافهما بحسب الأمكنة (لَآياتٍ) كثيرة عظيمة دالة على وحدانيته تعالى وقدرته تعالى (لِأُولِي الْأَلْبابِ) (١٩٠) أي لذوي العقول. المتفكرين في بدائع صنائع الملك الخلاق. المتدبرين في حكمه المودعة في الأنفس والآفاق. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بينما رجل مستلق على فراشه ، إذ رفع رأسه فنظر لى النجوم وإلى السماء وقال : أشهد أن لك ربا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له» (١). وقال : «لا عبادة كالتفكر»(٢).

وحكي أن الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة ، فعبد في تلك المدة فتى من فتيانهم فما أظلته سحابة ، فقالت له أمه : لعل فرطة صدرت منك في مدتك. فقال : ما أذكر. قالت : لعلك نظرت مرة إلى السماء ولم تعتبر! قال : نعم ، قالت : فما أتيت إلا من ذلك. (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) أي الذين لا يغفلون عن الله تعالى في جميع أوقاتهم لاطمئنان قلوبهم بذكره تعالى ، واستغراق سرائرهم في مراقبته لما أيقنوا بأن كل ما سواه فائض منه وعائد إليه فلا يشاهدون حالا من الأحوال في أنفسهم ولا في الآفاق إلا وهم يعاينون في ذلك شأنا من شؤونه تعالى. فالمراد ذكره تعالى مطلقا سواء كان ذلك من حيث الذات أو من حيث الصفات والأفعال وسواء قارنه الذكر اللساني أولا. وتخصيص الأحوال المذكورة بالذكر ليس لتخصيص الذكر بها بل لأنها الأحوال المعتادة التي لا يخلو عنها الإنسان غالبا. والمراد تعميم الذكر للأوقات. قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله» (٣)

__________________

(١) رواه ابن أبي الدنيا في حسن الظن (١٠٥) ، والقرطبي في التفسير (٤ : ٣١٤).

(٢) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (١٠ : ٢٨٣) ، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (٤ : ٢٢١).

(٣) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (١٠ : ٣٠٢) ، وابن عبد البر فيه التمهيد (٦ : ٥٨) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٥ : ٦) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (١٨٨٧) ، والعراقي في

١٧٤

(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وعلى وفق هذه الآية قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق» (١) أي لأن الاستدلال بالخلق على الخالق لا يمكن وقوعه على نعت المماثلة ، وإنما يمكن وقوعه على نعت المخالفة. فإذا نستدل بحدوث هذه المحسوسات على قدم خالقها وبكميتها وكيفيتها وشكلها على براءة خالقها عن الكمية والكيفية والشكل. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عرف نفسه عرف ربه» (٢). معناه من عرف نفسه بالحدوث عرف ربه بالقدم ، ومن عرف نفسه بالإمكان عرف ربه بالوجوب ، ومن عرف نفسه بالحاجة عرف ربه بالاستغناء. فكان التفكر في الخالق ممكنا من هذا الوجه ، أما التفكر في الخالق فهو غير ممكن ألبتة فإذا لا تتصور حقيقته إلا بالسلوب فنقول : إنه ليس بجوهر ولا عرض ولا مركب ولا في الجهة. ولا شك أن حقيقة المخصوصة مغايرة لهذه السلوب ، وتلك الحقيقة المخصوصة لا سبيل للعقل إلى معرفتها فيصير العقل كالواله فلهذا السبب نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التفكر في الله وأمر بالتفكر في المخلوقات. فلهذه الدقيقة أمر الله في هذه الآية بذكره ولم يأمر بالتفكر فيه بل أمر بالتفكر في مخلوقاته.

قال بعض العلماء : «الفكرة تذهب الغفلة وتجلب للقلب الخشية كما ينبت الماء الزرع». وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تفضلوني على يونس بن متّى فإنه كان يرفع كل يوم مثل عمل أهل الأرض» (٣). أي وذلك لأن عمله هو التفكر في معرفة الله لأنه لا يقدر أحد أن يعمل بجوارحه مثل ما عمل أهل الأرض ، وإنما هو عمل القلب. واعلم أن دلائل التوحيد محصورة في قسمين : دلائل الآفاق ، ودلائل الأنفس. ولا شك أن دلائل الآفاق أعظم وأعجب فلو أن الإنسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة رأى في تلك الورقة عرقا واحدا ممتدا في وسطها ، ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين ، ثم يتشعب منها عروق دقيقة ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخر حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصر وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكما بالغة وأسرارا عجيبة ، ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقة الورقة

__________________

المغني عن حمل الأسفار (١ : ٢٩٦) ، والسيوطي في الدر المنثور (٥ : ٢٠٥) ، والقرطبي في التفسير (١٥ : ٢٨٨).

(١) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (١ : ١٦٢) ، والسيوطي في الدر المنثور (٢ : ١١٠) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٥٧٠٦).

(٢) رواه السيوطي في الحاوي للفتاوي (٢ : ٤١٢) ، والعجلوني في كشف الخفاء (٢ : ٣٦٢) ، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة (٣٥١).

(٣) رواه القاضي عياض في الشفا (١ : ٢٦٥) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٢ : ١٠٥).

١٧٥

لعجز. فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقة تلك الورقة الصغيرة ، فإذا قاس تلك الورقة إلى السموات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم ، وإلى الأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن ، والنبات والحيوان عرف أن تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم ، فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير عرف أنه لا سبيل له إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض. وإذا عرف بهذا البرهان قصور عقله لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجلّ من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين بل يسلم أن في كل ما خلقه الله تعالى حكما بالغة وأسرار عظيمة ولا سبيل له إلى معرفتها فعند هذا يقول : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا) أي المخلوق العجيب (باطِلاً) أي بغير حكمة بل خلقته بحكمة عظيمة وهي أن تجعلها مساكن للمكلفين الذين اشتغلوا بطاعتك وتحرزوا عن معصيتك ومدارا لمعايش العباد ومنارا يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد (سُبْحانَكَ) وهذا إقرار بعجز العقول عن الإحاطة بآثار حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض أي إن الخلق إذا تفكروا في هذه الأجسام العظيمة لم يعرفوا منها إلا هذا القدر. وهو أن خالقها ما خلقها باطلا بل خلقها لحكم عجيبة وأسرار عظيمة وإن كانت العقول قاصرة عن معرفتها (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) (١٩١) أي ادفع عنا عذاب النار لأنه جزاء من عصى ولم يطع. اعلم أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى وأبدانهم في طاعة الله وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله ذكر أنهم مع هذه الطاعة يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار لأنه يجوز على الله تعذيبهم لأنه لا يقبح من الله شيء أصلا (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) أي أهنته (وَما لِلظَّالِمِينَ) أي الكافرين (مِنْ أَنْصارٍ) (١٩٢) يمنعونهم من عذاب الله تعالى (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ) أي سمعنا نداء مناد وهو كما قال محمد بن كعب القرآن المجيد يدعو الناس إلى الإيمان أي آمنوا بمتولي أموركم. (فَآمَنَّا) أي فامتثلنا أمره وأجبنا نداءه (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي كبائرنا (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) أي صغائرنا.

وقيل : المراد بالأول ما يزول بالتوبة ، وبالثاني ما تكفره الطاعة العظيمة. وقيل : المراد بالأول ما أتى به الإنسان مع العلم بكونه معصية ، وبالثاني ما أتى به الإنسان مع جهله بذلك (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) (١٩٣) أي على مثل أعمالهم لنكون في درجاتهم يوم القيامة. أو المعنى توفنا على الإيمان ، واجمعنا مع أرواح النبيين والصالحين (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) والجار والمجرور متعلق بوعدتنا أي وعدتنا على تصديق رسلك أو بمحذوف وقع صفة لمصدر مؤكد محذوف أي وعدتنا وعدا كائنا على ألسنة رسلك. وقيل : والمعنى وفقنا للأعمال التي نصير بها أهلا لوعدك من الثواب ، واعصمنا من الأعمال التي نصير بها أهلا للعقاب والخزي (وَلا تُخْزِنا) أي لا تفضحنا (يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) (١٩٤) وهذا يدل على أن المقتضى لحصول منافع

١٧٦

الآخرة هو الوعد لا الاستحقاق وفي الآثار عن جعفر الصادق من حزبه أمر فقال : ربنا خمس مرات أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد واستدلّ بهذه الآية. (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) فيما سألوه من غفران الذنوب وإعطاء الثواب. (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) وقرأ الجمهور بفتح الهمزة. وقرأ أبي بأني بالباء التي للسببية. وقرأ عيسى بن عمر بكسر الهمزة. والمعنى أني لا أبطل ثواب عمل عامل منكم. والمراد حصلت إجابة دعائكم في كل ما طلبتموه (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) فلا تفاوت في الإجابة وفي الثواب بين الذكر والأنثى إذا كانا في التمسك بالطاعة على السوية (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي بعضكم كبعض في الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) أي اختاروا المهاجرة من أوطانهم في خدمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) أي ألجأهم الكفار إلى الخروج من منازلهم التي ولدوا فيها (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) أي بسبب طاعتي ومن أجل ديني وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا).

قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو «وقاتلوا» بالألف ، «وقتلوا» مخففة. والمعنى قاتلوا العدو معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قتلوا في الجهاد. وقرأ ابن كثير وابن عامر «وقاتلوا» بالألف ، «وقتلوا» مشددة لتكرر القتل فيهم. وقيل : معناه قطعوا. وقرأ حمزة والكسائي «وقتلوا» بغير ألف أولا ، «وقاتلوا» بالألف ثانيا ، أي وقد قاتلوا. (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) (١٩٥) أي إن الله تعالى وعد من فعل ذلك بأمور ثلاثة :

أولها : محو السيئات وغفران الذنوب. وذلك هو الذي طلبوه بقولهم فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا.

وثانيها : إعطاء الثواب العظيم وهو دخول الجنان وهو الذي طلبوه بقولهم وآتنا ما وعدتنا على رسلك.

وثالثها : كون الثواب مقرونا بالتعظيم وهو المشار إليه بقوله تعالى : (مِنْ عِنْدِ اللهِ) وهو الذي طلبوه بقولهم : ولا تخزنا يوم القيامة. وقوله تعالى : (ثَواباً) مصدر مؤكد لمعنى ما قبله لأن معنى مجموع قوله تعالى : (لَأُكَفِّرَنَ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ) لأثيبنهم. فكأنه قيل : لأثيبنهم إثابة من عند الله. وقوله تعالى : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) تأكيد لكون الثواب في غاية الشرف.

روي أن أم سلمة قالت يا رسول الله : إني لم أسمع ذكر النساء في الهجرة فنزل قوله تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) إلى هنا ولما قال بعض المؤمنين : إن أعداء الله فيما نرى من الخير ونحن في الجهد نزل قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) (١٩٦) أي لا تنظر إلى ما عليه الكفرة من السعة ووفور الحظ ولا تغتر بظاهر ما ترى منهم من التبسط في المكاسب والمتاجر

١٧٧

والمزارع (مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي الذي ترى من الخير منفعة يسيرة في الدنيا لا قدر لها في مقابلة ما أعد الله للمؤمنين من الثواب قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» (١) رواه مسلم. (ثُمَّ مَأْواهُمْ) أي مصيرهم (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١٩٧) أي بئس ما مهدوا لأنفسهم جهنم (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) من الشرك والمعاصي وإن أخذوا في التجارة (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) فلا يضرهم ذلك لكسب (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي حال كون الجنات عطاء وإكراما من الله لهم كما تعد الضيافة للضيف إكراما (وَما عِنْدَ اللهِ) من الثواب الدائم (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) (١٩٨) أي للموحدين مما يتقلب فيه الفجار في الدنيا من المتاع القليل السريع الزوال (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) أي القرآن (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) أي التوراة والإنجيل.

قال ابن عباس وجابر وقتادة نزلت هذه الآية في شأن أضحمة النجاشي حين مات وأخبر جبريل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك اليوم بموته فقال النبيّ لأصحابه : «اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم» (٢) فخرج إلى البقيع وكشف الله له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي فصلى عليه ، واستغفر له. فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه. وقال ابن جريج وابن زيد : نزلت في حق عبد الله بن سلام وأصحابه.

وقال عطاء : نزلت في حق أربعين رجلا من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى فأسلموا. وقال مجاهد : نزلت في حق مؤمني أهل الكتاب كلهم (خاشِعِينَ لِلَّهِ) أي متواضعين لله في الطاعة (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي لا يكتمون أمر الرسول ونعته كما يفعله غيرهم من أهل الكتاب لغرض المأكلة والرياسة (أُولئِكَ) أي المتصفون بصفات حميدة (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) في الجنة (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٩٩) أي سريع لإيصال الأجر الموعود إليهم من غير حاجة إلى تأمل لكونه عالما بجميع الأشياء فيعلم ما لكل واحد من الثواب والعقاب. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) على مشقة الاستدلال في معرفة التوحيد والنبوة والمعاد وعلى مشقة استنباط الجواب عن شبهات نحو الفلاسفة وعلى مشقة أداء الواجبات والمندوبات وعلى مشقة الاحتراز عن المنهيات وعلى شدائد الدنيا من المرض والفقر والخوف. (وَصابِرُوا) على تحمل المكاره الواقعة بينكم وبين غيركم

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الجنّة ، باب : ٥٥ ، والترمذي في كتاب الزهد ، باب : ١٥ ، وابن ماجة في كتاب الزهد ، باب : مثل الدنيا ، وأحمد في (م ٤ / ص ٣٩٥).

(٢) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (٣ : ٣٨) ، والسيوطي في الدر المنثور (٢ : ١١٣) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (٣ : ١١٧١).

١٧٨

فيدخل فيه تحمل الأخلاق الرديئة من أهل البيت والأقارب والجيران ، وترك الانتقام ممن أساء والعفو عمن ظلم والإيثار على الغير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد والمصابرة مع المبطلين وحل شبههم (وَرابِطُوا) أي جاهدوا القوى التي هي مصادر الأفعال الذميمة من الشهوة والغضب والحرص. أو المعنى انتظروا الصلاة بعد الصلاة (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة أمره وبتقوى الله يحصل دفع القوى الداعية إلى القبائح والمنكرات (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢٠٠) أي كي تنتظموا في زمرة الفائزين بكل مطلوب الناجين من كل كروب فظهر أن هذه الآية مشتملة على علوم الأصول والفروع وعلى الحكم والأسرار.

١٧٩

سورة النساء

مدنية ، مائة وست وسبعون آية ، ثلاثة آلاف وسبعمائة واثنتان وستون

كلمة ، ستة عشر ألف وثلاثمائة وثمانية وعشرون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) بالتناسل (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أبيكم آدم (وَخَلَقَ مِنْها) أي من نفس آدم (زَوْجَها) أمكم حواء.

روي أنه تعالى لما خلق آدم وأسكنه الجنة ألقى عليه النوم ، فبينما هو بين النائم واليقظان خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى فلما انتبه وجدها عنده. وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها» (١). (وَبَثَّ مِنْهُما) أي نشر من تلك النفس وزوجها بطريق التوالد (رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) كثيرة. روى ابن جرير عن ابن إسحاق إن بني آدم لصلبه أربعون في عشرين بطنا فمما حفظ من ذكورهم قابيل وهابيل ، وأباذ وشبوبه ، وهند ومرانيس وفحور وسند ، وبارق وشيث. ومن نسائهم أقليمة وأشوف وجزروه وعزورا.

قال ابن عساكر : وقد روي أن من بني آدم لصلبه عبد المغيث وتوأمته أمة المغيث وودا ، وسواعا ويغوث ويعقوب ، ونسرا وجميع أنساب بني آدم ترجع إلى شيث وسائر أولاده انقرضت أنسابهم من الطوفان (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ).

قرأ عاصم وحمزة والكسائي «تساءلون» بالتخفيف. والباقون بالتشديد. وقرأ حمزة وحده «والأرحام» بجر الميم. والتقدير واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام. لأن العادة جرت في العرب بأن أحدهم قد يستعطف غيره بالرحم فيقول : أسألك بالله والرحم. وربما أفرد ذلك فقال

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء ، باب : خلق آدم ـ صلوات الله عليه ـ وذرّيّته ، ومسلم في كتاب الرضاع ، باب : ٦١ ، والدارمي في كتاب النكاح ، باب : مداراة الرجل أهله ، أحمد في (م ٥ / ص ٨) ، والترمذي في كتاب الطلاق ، باب : ١٢.

١٨٠