مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

ذلك حرام في دين إبراهيم؟ فأجاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن قال : «إن ذلك كان حلالا لإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم‌السلام إلا أن يعقوب حرّمه على نفسه بسبب من الأسباب وبقيت تلك الحرمة في أولاده». أي فالحرمة عليهم ناشئة من نذره أيضا. فأنكر اليهود ذلك فأمرهم الرسول عليه‌السلام بإحضار التوراة وباستخراج آية منها تدل على أن لحوم الإبل وألبانها كانت محرمة على إبراهيم عليه‌السلام ، فعجزوا عن ذلك ، فظهر أنهم كانوا كاذبين في ادعاء حرمة هذه الأشياء على إبراهيم عليه‌السلام كما قال تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٩٣) في دعواكم بأن التحريم قديم. قال تعالى : (فَمَنِ افْتَرى) أي اختلق (عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بادعاء أنه تعالى حرم ذلك قبل نزول التوراة على بني إسرائيل وعلى من قبلهم من الأمم (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب لا على عهد إبراهيم (فَأُولئِكَ) المصرون على الافتراء بعد ما ظهرت حقيقة الحال (هُمُ الظَّالِمُونَ) (٩٤) المستحقون لعذاب الله (قُلْ صَدَقَ اللهُ) في أن سائر الأطعمة كانت محللة لبني إسرائيل وأنها إنما حرمت على اليهود جزاء على قبائح أفعالهم (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي ملة الإسلام التي هي الأصل ملة إبراهيم لأنها ملة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (حَنِيفاً) أي مائلا عن الأديان الزائغة كلها (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٩٥) في أمر من أمور دينه فإنه لم يدع مع الله إلها آخر ولم يعبد سواه كما فعله العرب من عبادة الأوثان ، أو كما فعله اليهود في ادعاء أن عزيرا ابن الله. وكما فعله النصارى في ادعاء أن المسيح ابن الله. ولما حوّل صلى‌الله‌عليه‌وسلم القبلة إلى الكعبة طعن اليهود في نبوته وقالوا : إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال ، لأنه وضع قبل الكعبة وتحويل القبلة منه إلى الكعبة باطل. فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) أي إن أول بيت بني لعبادات الناس للبيت الذي هو ببكة ، سميت مكة بكة لأنه يبك بعضهم بعضا ، أي يزدحمون في الطواف.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن أول بيت وضع للناس فقال : «المسجد الحرام ثم بيت المقدس» وسئل كم بينهما فقال : «أربعون سنة» (١). أي أن آدم بنى الكعبة ثم بنى الأقصى وبين بنائهما أربعون سنة. (مُبارَكاً) أي ذا بركة مما يجلب المغفرة والرحمة (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) (٩٦) أي قبلة لكل نبي ورسول ، وصدّيق ومؤمن يهتدون بذلك البيت إلى جهة صلاتهم وذلك لأن تكليف الصلاة كان لازما في دين جميع الأنبياء عليهم‌السلام بدليل قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) [مريم : ٥٨]. فدلت الآية على أن جميع الأنبياء عليهم‌السلام كانوا يسجدون لله والسجدة لا بدّ لها من قبلة فلو كانت قبلة شيث وإدريس

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٥ / ص ١٦٧).

١٤١

ونوح عليهم‌السلام موضعا آخر سوى الكعبة لبطل قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) فوجب أن يقال : إن قبلة أولئك الأنبياء المتقدمين هي الكعبة فدل هذا على أن هذه الجهة كانت أبدا مشرفة ومكرمة (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) أي علامات واضحة كانحراف الطيور عن موازاة البيت فلا تعلو فوقه بل إذا قابل هواه وهو في الجو انحرف عنه يمينا أو شمالا ، ولا يستطيع أن يقطع هواه إلا إذا حصل له مرض فيدخل هواه للتداوي ومخالطة ضواري السباع الصيود في الحرم من غير تعرض لها وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا تخريبه (مَقامُ إِبْراهِيمَ) وفيه دلالة على قدرة الله تعالى ونبوة إبراهيم لأن تأثير قدميه في الصخرة الصمّاء وعوضهما فيها إلى الكعبين وإلانة بعض الصخرة دون بعض وإبقاءه ألوف السنين معجزة عظيمة (وَمَنْ دَخَلَهُ) أي الحرم (كانَ آمِناً) أي إن من دخله للنسك تقربا إلى الله تعالى كان آمنا من النار يوم القيامة وأن الله أودع في قلوب الخلق الشفقة على كل من التجأ إليه (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) أي قصده للزيارة على وجه مخصوص (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ) أي حج البيت (سَبِيلاً) أي بلاغا بوجود الزاد والراحلة والنفقة للعيال إلى الرجوع (وَمَنْ كَفَرَ) أي جحد فرض الحج (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٩٧) أي عن إيمانهم وحجهم.

قال الضحاك : لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الأديان الستة المسلمين والنصارى واليهود والصابئين والمجوس والمشركين فخطبهم ، وقال : «إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا» (١). فآمن به المسلمون وكفرت به الملل الخمس ، وقالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه فأنزل الله تعالى قوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) أي ومن ترك اعتقاد وجوب الحج فإن الله غني عنه (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) أي اليهود والنصارى (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) (٩٨) أي لم تكفرون بآيات الله دلتكم على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره ، والحال أن الله شهيد على أعمالكم ومجازيكم عليها ، وهذه الحال توجب أن لا تجترئوا على الكفر بآياته. (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ) أي لم تصرفون عن دينه الحق الموصل إلى السعادة الأبدية وهو ملة الإسلام. من آمن بالله وبمحمد وبالقرآن بإضلالكم لصفة المسلمين (تَبْغُونَها عِوَجاً) أي تطلبون للسبيل زيفا لأنكم قلتم النسخ يدل على البدء. وقولكم : ورد في التوراة إن شريعة موسى باقية إلى الأبد (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) أن في التوراة أن دين الله هو الإسلام لا يقبل غيره (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٩) فإنهم كانوا يظهرون الكفر بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما كانوا يظهرون إلقاء الشبه في قلوب المسلمين بل كانوا يحتالون في

__________________

(١) رواه أحمد في (م ١ / ص ٣٧١) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٣ : ٢٠٤) ، وابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (٢٩ : ٥٩٠).

١٤٢

ذلك بوجوه الحيل. نزلت هذه الآية في الذين دعوا عمارا وأصحابه إلى دينهم اليهودية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) هم شاس بن قيس وعمرو بن شاس ، وأوس بن قبطي وجبار بن صحر (يَرُدُّوكُمْ) أي يصيروكم (بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) (١٠٠) (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) أي كيف يوجد منكم الكفر والحال أن القرآن الذي فيه بيان الحق من الباطل يتلى عليكم على لسان نبيكم غض طري ، ومعكم رسول الله الذي يبين الحق ويدفع الشبه.

روي أن شاس بن قيس اليهودي كان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد ، فاتفق أنه مرّ على نفر من الأنصار الأوس والخزرج وهم في مجلس يتحدثون وقد زال ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة ببركة الإسلام ، فشق ذلك على اليهود ، فجلس إليهم وذكرهم ما كان بينهم من الحروب قبل ذلك في بعاث وهو موضع في المدينة ، وكان يوم بعاث يوما اقتتل فيها الأوس والخزرج قبل مبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمائة وعشرين سنة وكان الظفر فيه للأوس. وقرأ عليهم بعض ما قيل في تلك الحروب من الأشعار ، فتنازع القوم وتغاضبوا وقالوا : السلاح السلاح فاجتمع من القبيلتين خلق عظيم فوصل الخبر إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار وقال : «أ ترجعون إلى أحوال الجاهلية وأنا بين أظهركم وقد أكرمكم الله بالإسلام وألّف بين قلوبكم». فعرف القوم أن ذلك كان من عمل الشيطان ومن كيد ذلك اليهودي فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما كان يوم أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم. قال الإمام الواحدي : اصطفوا للقتال. فنزلت الآية إلى قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) فجاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قام بين الصفين فقرأهن ورفع صوته فلما سمعوا صوت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنصتوا له وجعلوا يستمعون له فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجعلوا يبكون (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) أي من يستمسك بكتاب الله وهو القرآن (فَقَدْ هُدِيَ) أي فقد حصل له الهدى (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٠١) أي إلى طريق موصل إلى المطلوب.

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في حق معاذ وأصحابه ، ثم نزل في أوس وخزرج لخصومة كانت بينهم في الإسلام افتخر فيهم ثعلبة بن غنم وأسعد بن زرارة بالقتل والغارة في الجاهلية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) أي كما يجب أن يتقى وهو استفراغ الوسع في القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم كما في قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). ويقال : أطيعوا الله كما ينبغي. (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٠٢) لفظ النهي واقع على الموت. والمقصود الأمر بالإقامة على الإسلام أي ودوموا على الإسلام إلى الموت وذلك لأنه لما كان يمكنهم الثبات على الإسلام حتى إذا أتاهم الموت وهم على الإسلام صار الموت على الإسلام بمنزلة ما قد دخل في

١٤٣

وسعهم (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) وهو دين الإسلام أو بكتابه وهو القرآن (جَمِيعاً) أي مجتمعين في الاعتصام لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد ، من قال به صدق ومن عمل به رشد ، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم» (١). (وَلا تَفَرَّقُوا) عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم لأن الحق لا يكون إلا واحدا وما عداه يكون ضلالا (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) نعمة دنيوية وأخروية (إِذْ كُنْتُمْ) في الجاهلية (أَعْداءً) يبغض بعضكم بعضا ويحارب بعضكم بعضا (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) أي قذف الله فيها المحبة بتوفيقكم للإسلام (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ) أي فصرتم بدينه الإسلام (إِخْواناً) في الدين (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) أي على طرفها ، أي وكنتم قريبين من الوقوع في نار جهنم لكفركم إذ لو أدرككم الموت على تلك الحالة لوقعتم فيها. فليس بين الحياة والموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء الذي هو مثل الحياة ، وبين ذلك الشيء الذي هو مثل الموت (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) أي فأنجاكم من تلك الحفرة بأن هداكم للإسلام (كَذلِكَ) أي مثل البيان المذكور (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٠٣) أي لكي تهتدوا من الضلالة (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) أي ولتوجد منكم جماعة يقتدي بها فرق الناس (يَدْعُونَ) الناس (إِلَى الْخَيْرِ) فأفضل الدعوة هي دعوة إلى إثبات ذات الله وصفاته وتقديسه عن مشابهة الممكنات (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) والآمر بالمعروف تابع للمأمور به إن كان واجبا فواجب ، وإن كان مندوبا فمندوب (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فالنهي عن الحرام واجب كله لأن تركه واجب وهذه الأمور من فروض الكفايات ـ لأنها لا تليق إلا من العالم بالحال ـ وسياسة الناس حتى لا يوقع المأمور أو المنهي في زيادة الفجور فإن الجاهل ربما دعا إلى الباطل وأمر بالمنكر ، ونهى عن المعروف وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٠٤) أي المختصون بكمال الفلاح.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه (٢). (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) أي تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين ، أو تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيسا في بلد ، ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق ، وأن صاحبه على الباطل. قال الفخر الرازي : إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة. فنسأل الله العفو والرحمة

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن ، باب : ١٤ ، والدارمي في كتاب فضائل القرآن ، باب : فضل من قرأ القرآن.

(٢) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (٥٥٦٤) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (٦ : ٢١٠٤).

١٤٤

(مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) أي الآيات الواضحة المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه واتحاد الكلمة (وَأُولئِكَ) الذين تفرقوا (لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٠٥) في الآخرة بسبب تفرقهم (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) أي يوم تظهر بهجة السرور على قوم وسموا ببياض الوجه والصحيفة ، وإشراق البشرة. وسعى النور أمامهم ويمينهم. ويوم تظهر كآبة الخوف والحزن على قوم وسموا بسواد اللون والصحيفة ، وإحاطة الظلمة بهم من كل جانب. وقرئ «تبياض» و «تسواد» (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) فيلقون في النار وتقول لهم الزبانية. (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أي بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان وهو الدلائل التي نصبها الله تعالى على التوحيد والنبوة. وقال عكرمة والأصم والزجاج : أي أكفرتم يا أهل الكتاب بعد بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إيمانكم به قبل مبعثه (فَذُوقُوا الْعَذابَ) والأمر بذوق العذاب على طريقة الإهانة (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (١٠٦) أي بسبب كفركم (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) أي في جنة الله وعبّر عنها بالرحمة تنبيها على أن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمته تعالى.

وقرئ «ابياضّت» ، كما قرئ «اسوادّت» (هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١٠٧) أي لا يظعنون عنها ولا يموتون (تِلْكَ) أي الآيات المشتملة على تنعيم الأبرار وتعذيب الكفار (آياتُ اللهِ) أي دلائل الله (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) أي بالمعنى الحق أو متلبسة بالعدل من أجزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) (١٠٨) أي ما يريد الله فردا من أفراد الظلم لفرد من أفراد العالمين في وقت من الأوقات فضلا عن أن يفعله. وأما ظلم بعضهم بعضا فواقع كثيرا ، وكل واقع فهو بإرادته تعالى (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وخلقا إحياء وإماتة وإثابة وتعذيبا (وَإِلَى اللهِ) أي إلى حكمه (تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (١٠٩) فيجازي كلا منهم (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) أي أظهرت للناس حتى تميّزت وعرفت وفصل بينها وبين غيرها (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) أي بالتوحيد واتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي عن الشرك ومخالفة الرسول (وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) إيمانا متعلقا بكل ما يجب أن يؤمن به من رسول وكتاب وحساب وجزاء. وقال قتادة : هم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يؤمر نبي قبله بالقتال فهم يقاتلون الكفار فيدخلونهم في الإسلام فهم خير أمة للناس (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) أي اليهود والنصارى إيمانا كاملا كإيمانكم (لَكانَ) أي ذلك الإيمان (خَيْراً لَهُمْ) فإنهم آثروا دينهم على دين الإسلام حبا للرياسة واستتباع العوام ولو آمنوا لحصلت لهم هذه الزيادة في الدنيا مع الثواب العظيم في الآخرة فكان ذلك خيرا لهم مما قنعوا به. (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود والنجاشي ورهطة من النصارى. (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) (١١٠) في أديانهم فيكونون مردودين عند الطوائف كلهم لأن المسلمين لا يقبلونهم لكفرهم ، والكفار لا يقبلونهم لكونهم فاسقين فيما بينهم فليسوا ممن يجب الاقتداء بهم ألبتة عند أحد من العقلاء (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) أي لن يضركم

١٤٥

اليهود ضررا ألبتة إلا ضررا يسيرا ـ وهو أذى ـ أي ليس على المسلمين من اليهود ضرر وإنما منتهى أمرهم أن يؤذوكم باللسان ، إما بالطعن في محمد وعيسى عليهما‌السلام وإما بإظهار كلمة الكفر كقولهم : عزير ابن الله ، وإما بتحريف نصوص التوراة ، وإما بإلقاء الشبه في الأسماع ، وإما بتخويف الضعفة من المسلمين (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) أي ينهزموا من غير أن يضروكم بقتل أو أسر (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (١١١) أي ثم أخبركم أنهم بعد صيرورتهم منهزمين لا يحصل لهم شوكة ولا قوة ولا يجدون النصر قط بل يبقون في الذلة أبدا كما قال تعالى : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) أي جعلت عليهم الذلة أن يحاربوا ويقتلوا وتغنم أموالهم وتسبى ذراريهم وتملك أراضيهم (أَيْنَ ما ثُقِفُوا) أي صودفوا فلا يقدرون أن يقوموا مع المؤمنين (إِلَّا) أن يعتصموا (بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) أي المؤمنين فالأمان الحاصل للذمي قسمان :

أحدهما : الذي نص الله عليه وهو أخذ الجزية.

وثانيهما : الذي فوض الله إلى رأي الإمام فيزيد فيه تارة وينقص بحسب الاجتهاد. فالأول : هو المسمى بحبل الله. والثاني : هو المسمى بحبل المؤمنين. (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي داموا في غضب الله أو استوجبوا لعنة الله (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) أي جعل عليهم زي الفقر. واليهود في غالب الأحوال مساكين تحت أيدي المسلمين والنصارى (ذلِكَ) أي لزوم الذلة والمسكنة والمكث في اللعنة (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) الناطقة بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يحرفونها بسائر الآيات القرآنية (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) أي بلا جرم. فإن الذين قتلوا الأنبياء أسلافهم ، وهؤلاء المتأخرون كانوا راضين بفعل أسلافهم فنسب إليهم كما أن التحريف من أفعال أحبارهم ينسب إلى كل من يتبعهم (ذلِكَ) أي الكفر والقتل (بِما عَصَوْا) في السبت (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (١١٢) أي يتجاوزون حدود الله باستحلال المحارم. قال أرباب المعاملات مع الله : من ابتلي بترك الآداب وقع في ترك السنن ، ومن ابتلي بترك السنن وقع في ترك الفريضة ، ومن ابتلي بترك الفريضة وقع في استحقار الشريعة ، ومن ابتلي بذلك وقع في الكفر (لَيْسُوا) أي جميع أهل الكتاب (سَواءً) أي فليس من آمن منهم كمن لم يؤمن (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) أي جماعة عدل مهتدية بتوحيد الله وهم عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد ومن أسلم معهم من اليهود كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : هم عبد الله بن سلام وأخوه ثعلبة بن سلام وسعية وميس وأسيد وأسدهما ابنا كعب.

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : لما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه قالت أحبار اليهود : ما آمن بمحمد إلا أشرارنا ولو لا ذلك ما تركوا دين آبائهم. فأنزل الله تعالى هذه الآية : (يَتْلُونَ

١٤٦

آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ) أي يقرءون القرآن ساعات الليل (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) (١١٣) أي يصلون التهجد في الليل. وهذا كلام مستقل والصلاة تسمى سجودا. (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي يبادرون مع كمال الرغبة في فعل أصناف الخيرات اللازمة والمتعدية (وَأُولئِكَ) الموصوفون بالصفات السبعة (مِنَ الصَّالِحِينَ) (١١٤) أي من جملة الذين صلحت أحوالهم عند الله واستحقوا رضاه وثناءه. وقال ابن عباس : أي من صالحي أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويقال : مع صالحي أمة محمد في الجنة مع أبي بكر وأصحابه. واعلم أن اليهود كانوا أيضا يقومون في الليالي للتهجد وقراءة التوراة. فلما مدح الله المؤمنين منهم بالتهجد وقراءة القرآن أردف ذلك بقوله : (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) فالإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله وكتبه ، والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من المعاصي. فإيمان اليهود بالله مع قولهم عزير ابن الله ، وكفرهم ببعض الكتب والرسل ، ووصفهم اليوم الآخر بخلاف صفته ، عدم الاحتراز عن معاصي الله وإضلال الناس وصدّهم عن سبيل الله ومبادرتهم إلى الشرور. واعلم أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل. وأفضل الأعمال الصلاة وأفضل الأذكار ذكر الله. وأفضل المعارف معرفة المبدأ ومعرفة المعاد. فقوله تعالى : (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) إشارة إلى الأعمال الصالحة الصادرة عنهم. وقوله تعالى : (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إشارة إلى فضل المعارف الحاصلة في قلوبهم ، فكان هذا إشارة إلى كمال حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية ، وذلك أكمل أحوال الإنسان وهي المرتبة التي هي آخر درجات الإنسانية ، وأول درجات الملكية. واعلم أن الغاية القصوى في الكمال أن يكون تاما وفوق التمام فكون الإنسان تاما ليس إلا في كمال قوته العملية وقوته النظرية ، وكونه فوق التمام أن يسعى في تكميل الناقصين وذلك بطريقين إما بإرشادهم إلى ما ينبغي أو بمنعهم عما لا ينبغي ، ثم الوصف بالصلاح غاية المدح ويدل عليه القرآن والعقل. فإن الصلاح ضد الفساد وكل ما لا ينبغي فهو فساد سواء كان في العقائد أو في الأعمال ، فإذا حصل كل ما ينبغي فقد حصل الصلاح فكان الصلاح دالا على أكمل الدرجات. ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الصفات الثمانية قال : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ).

وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالياء في الفعلين. لأن الكلام متصل بما قبله من ذكر مؤمني أهل الكتاب ، فإن جهّال اليهود لما قالوا لعبد الله بن سلام وأصحابه : إنكم خسرتم بسبب هذا الإيمان. قال تعالى : (وَما يَفْعَلُوا) أي عبد الله بن سلام وأصحابه من خير مما ذكر ويقال : من إحسان إلى محمد وأصحابه. (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أي لن ينسى ثوابه بل يثابوا.

وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب لجميع المؤمنين الذين من جملتهم هؤلاء أي وما

١٤٧

تفعلوا معاشر المؤمنين من خير فلن تمنعوا ثوابه وجزاءه بل تجاوزوا عليه (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (١١٥) وهذا بشارة لهم بجزيل الثواب ودلالة على أنه لا يفوز عنده تعالى إلا أهل التقوى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ) أي لن تدفع عنهم (أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ) أي من عذابه (شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١١٦) إنما خصّ الله تعالى الأموال والأولاد بالذكر لأن أنفع الجمادات هو الأموال ، وأنفع الحيوانات هو الولد. ثم بيّن تعالى أن الكافر لا ينتفع بهما ألبتة في الآخرة ، وذلك يدل على عدم انتفاعه بسائر الأشياء بطريق الأولى. (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا) أي الكفار (فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) أي برد مهلك أو حر محرق (أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعاصي (فَأَهْلَكَتْهُ). والمعنى مثل الكفر في إهلاك ما ينفقون كمثل الريح المهلكة للزرع ، أو مثل الكافر الذي أنفق أمواله في الخيرات ـ نحو بناء الرباطات والقناطر والإحسان إلى الضعفاء والأيتام والأرامل ـ وكان ذلك المنفق يرجو من ذلك الإنفاق خيرا كثيرا ، فإذا قدم الآخرة رأى كفره مبطلا لآثار الخيرات فكان كمن زرع زرعا وتوقّع منه نفعا كثيرا فأصابته ريح ، فأحرقته ، فلا يبقى إلا الحزن والأسف ، هذا إذا أنفقوا الأموال في وجوه الخيرات. أما إذا أنفقوها فيما ظنوه أنه من الخيرات وهو من المعاصي ـ مثل إنفاق الأموال في إيذاء رسول الله ، وفي قتل المسلمين وتخريب ديارهم ـ فهو أشد تأثيرا في إبطال آثار أعمال البر (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) حيث لم يقبل نفقاتهم (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١١٧) حيث أتوا بالنفقات مقرونة بالوجوه المانعة من كونها مقبولة لله. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) نزلت هذه الآية في شأن رجال من المؤمنين يشاورون اليهود في أمورهم لما كان بينهم من الرضاع والحلف ظنا منهم أنهم ينصحون لهم في أسباب المعاش ، فنهاهم الله تعالى بهذه الآية عنه ـ كما قاله ابن عباس ـ أو في رجال من المؤمنين كانوا يغترون بظاهر أقوال المنافقين فيفشون إليهم الأسرار ويطلعونهم على الأحوال فالله تعالى منعهم عن ذلك ـ كما قاله مجاهد ـ وقال الله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً) أي خاصة تباطنون في الأمور (مِنْ دُونِكُمْ) أي من غير أهل ملتكم من الكفار والمنافقين (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) أي لا يتركون جهدهم في مضرتكم وفسادكم (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) أي أحبوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر أي فإن الكفار لا يقصرون لكم في إفساد دينكم فإن عجزوا عنه أحبوا بقلوبهم إلقاءكم في أشد أنواع الضرر. (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أي قد ظهرت البغضاء في كلامهم بالطعن وغيره مما يدل على نفاقهم وبأنهم يظهرون تكذيب نبيكم وكتابكم وينسبونكم إلى الجهل والحمق (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ) من الحقد (أَكْبَرُ) مما يظهر على ألسنتهم. (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) أي علامة الحسد والعداوة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (١١٨) الفرق بين ما يستحقه العدو والولي (ها أَنْتُمْ أُولاءِ) أي أنبهكم أنتم يا معشر المؤمنين المخطئين في موالاتهم (تُحِبُّونَهُمْ) بسبب ما بينكم وبينهم من الرضاعة والمصاهرة ، وبسبب أنهم أظهروا لكم الإيمان

١٤٨

وأنهم يظهرون لكم محبة رسول الله (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) بسبب المخالفة في الدين وبسبب أن الكفر مستقر في باطنهم ولأنهم يعلمون أنكم تحبون الرسول (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) وهم لا يؤمنون به وهم مع إيمانكم بكتبهم يبغضونكم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم (وَإِذا لَقُوكُمْ) أي منافقو اليهود (قالُوا) نفاقا : (آمَنَّا) بمحمد فإن نعته في كتابنا (وَإِذا خَلَوْا) أي رجع بعضهم إلى بعض (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) أي عضوا لأجل غمهم منكم أطراف الأصابع من شدة الغضب أي فإذا رجعوا إلى بعضهم أظهروا شدة العداوة على المؤمنين حتى تبلغ تلك الشدة إلى عض الأنامل ـ كما يفعل ذلك أحدنا إذا اشتد غيظه ـ ولما كثر هذا الفعل من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب حتى يقال في الغضبان : إنه يعض يده غيظا وإن لم يكن هناك عض. (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) وهذا دعاء عليهم بازدياد ما يوجب هذا الغيظ وهو قوة الإسلام ودعاء عليهم بالموت قبل بلوغ ما يتمنون ، وليس أمرا بالإقامة على الغيظ فإن الغيظ كفر والأمر بالكفر غير جائز ، ويجوز أن يكون معنى قوله : (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) إنه تعالى أمر رسوله بطيب النفس وقوة الرجاء ، والاستبشار بوعد الله إياه أنهم يهلكون غيظا بإعزاز الإسلام وإذلالهم به ـ كأنه قيل : حدّث نفسك بذلك ـ (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١١٩) أي إنه تعالى عالم بكل ما يحصل في قلوبكم من الخواطر والبواعث والصوارف (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) أي إن تصبكم منفعة الدنيا تحزنهم وذلك كصحة البدن ، وحصول الخصب والفوز بالغنيمة والاستيلاء على الأعداء وحصول المحبة بين الأحباب. (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ) أي مضرة كمرض وفقر وانهزام من عدو ، وقتل ونهب وغارة وحصول التفرقة بين الأقارب (يَفْرَحُوا) أي اليهود والمنافقون (بِها) فإنهم متناهون في عداوتكم فاجتنبوهم (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على طاعة الله وعلى ما ينالكم فيها من شدة وغم (وَتَتَّقُوا) كل ما نهاكم عنه وتتوكلوا في أموركم على الله (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ) أي حيلتهم التي دبروها لأجلكم (شَيْئاً) من الضرر لأن كل من صبر على أداء أوامر الله تعالى ، واتقى كل ما نهى الله عنه كان في حفظ الله فلا يضره حيل المحتالين.

قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «لا يضركم» بفتح الياء وكسر الضاد وسكون الراء. والباقون «لا يضركم» بضم الضاد والراء المشددة على الجزم بسكون مقدر للاتباع.

وروى المفضل عن عاصم «لا يضركم» بفتح الراء للتخفيف. (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (١٢٠) بالياء باتفاق القراء العشرة. أي إنه عالم بما يعملون في معاداتكم فيعاقبهم عليه. وفي قراءة شاذة بالتاء. والمعنى أنه تعالى عالم بما تعملون من الصبر والتقوى فيفعل بكم ما أنتم مستحقون له (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) أي واذكر يا أشرف الخلق لأصحابك وقت خروجك من عند أهلك أي من حجرة عائشة إلى أحد ليتذكر ، وإما وقع في ذلك الوقت من الأحوال الناشئة من عدم الصبر فيعلموا أنهم لو لزموا الصبر والتقوى لا يضرهم كيد الكفرة.

١٤٩

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذهب من منزل عائشة في المدينة فمشى على رجليه إلى أحد بعد صلاة الجمعة في نصف شوال ، وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت ، وجعل يصف أصحابه للقتال ، وكانوا ألفا وأقل ، وكان الكفار ثلاثة آلاف. وجعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظهره وظهر عسكره إلى أحد ، وأمر عبد الله بن جبير على الرماة وقال : «ادفعوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا» وقال لأصحابه : «اثبتوا في هذا المقام فإذا عاينوكم ولوكم الأدبار فلا تطلبوا المدبرين ولا تخرجوا من هذا المقام». فلما التقى الفريقان انهزم عبد الله بن أبي مع ثلاثمائة من المنافقين فبقي من عسكر المسلمين سبعمائة ، ثم قوّاهم الله حتى هزموا المشركين ، ثم طلبوا المدبرين وتركوا ذلك المقام واشتغلوا بطلب الغنائم ، وخالفوا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزع الله الرعب من قلوب المشركين ، فكرّ عليهم المشركون وتفرّق المسلمون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشجّ وجه الرسول ، وكسرت رباعيته ، وشلّت يد طلحة ولم يبق معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أبو بكر وعلي والعباس وطلحة وسعد ، ووقعت الصيحة في العسكر أن محمدا قد قتل وكان رجل يكنى أبا سفيان ـ من الأنصار ـ نادى الأنصار وقال : هذا رسول الله فرجع إليه المهاجرون والأنصار وكان قد قتل منهم سبعون وكثر فيهم الجراح. وكل ذلك يؤكد قوله تعالى : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) والظفر إنما حصل ببركة طاعتهم لله ولرسوله وإلا لم يقوموا مع عدوهم (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) أي تنزل المؤمنين بأحد أمكنة لقتال عدوهم (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) (١٢١) بضمائركم ونياتكم فإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاور أصحابه في ذلك الحرب ، فمنهم من قال له : أقم بالمدينة وهو عبد الله بن أبيّ ، وأكثر الأنصار. ومنهم من قال له : اخرج إليهم وكان لكل أحد غرض. (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ) بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج وهما جناحا العسكر (أَنْ تَفْشَلا) أي بأن تجبنا عن قتال العدو يوم أحد وترجعا.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج مع تسعمائة وخمسين ، ووعدهم النصر إن صبروا ، فلما بلغوا عند جبل أحد انعزل ابن أبي المنافق مع ثلاثمائة من أصحابه المنافقين وقال : يا قوم لأي شيء نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري وأبو جابر السلمي وقالا : أسألكم بالله في حفظ نبيكم وأنفسكم أي فإنكم لو رجعتم فاتتكم نصرة نبيكم ، وفاتتكم وقاية أنفسكم من العذاب لتخلفكم عن نبيكم فقال عبد الله بن أبي : لو نعلم قتالا لاتبعناكم ، فهمّ الطائفتان باتباع عبد الله بن أبي فعصمهم الله فثبتوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال تعالى : (وَاللهُ وَلِيُّهُما) أي عاصمهما عن اتباع تلك الخطوة (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٢٢) في جميع أمورهم فإنه حسبهم ، ولما حكى الله عن الطائفتين أنهما همّتا بالجبن والضعف أيّد ذلك بقصة بدر ، فإن المسلمين كانوا في غاية الفقر والضعف والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة ولكن لما كان الله ناصرا لهم قهروا أعداءهم وفازوا

١٥٠

بمطلوبهم. وقال تعالى : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) بقلة العدد وضعف الحال وقلة السلاح والمال ، وعدم القدرة على مقاومة العدو فإن المسلمين كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، وما كان فيهم إلا فرس واحد. والكفار كانوا فريبين من ألف مقاتل ومعهم مائة فرس مع الأسلحة الكثيرة والعدة الكاملة. (فَاتَّقُوا اللهَ) في أمر الحرب ولا تخالفوا الأمير الذي معكم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢٣) لكي تشكروا نعمته تعالى ونصرته (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) فـ «إذ» إما منصوب بنصركم ويكون هذا الوعد حصل يوم بدر ، وهذه الجملة من تمام قصة بدر وهو قول أكثر المفسرين ، وإما بدل من قوله : (إِذْ هَمَّتْ) أو بدل ثان من قوله تعالى : (وَإِذْ غَدَوْتَ) ويكون هذا الوعد حصل يوم أحد وهذه الجملة من تمام قصة أحد فيكون قوله : ولقد نصركم الله معترضا بين الكلامين وهو مروي عن ابن عباس والكلبي والواقدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) مع عدوكم (أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ) أي ينصركم (بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) (١٢٤) من السماء.

قرأ ابن عامر «منزلين» مشدد الزاي مفتوحة. والباقون بفتح الزاي مخففة. وقرئ قراءة شاذة باسم الفاعل من الصيغتين أي منزلين النصر (بَلى) يكفيكم (إِنْ تَصْبِرُوا) مع نبيكم في الحرب (وَتَتَّقُوا) معصية الله ومخالفة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيَأْتُوكُمْ) أي يأتيكم المشركون (مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) أي من ساعتهم هذه من جهة مكة (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ) أي ينصركم على عدوكم (بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (١٢٥). قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بكسر الواو أي معلمين أنفسهم أو خيلهم. والباقون بفتح الواو أي معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الدواب وأذنابها أو مجذوذة أذنابهم أو مرسلين (وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي ما جعل الله الإمداد (إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) بأنكم تنصرون (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) أي بالمدد. وفي ذكر الإمداد مطلوبان : إدخال السرور في قلوبكم وحصول الطمأنينة على أن إعانة الله معهم (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (١٢٦) لا من العدة والعدد ولا من عند الملائكة (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) واللام متعلق بقوله : وما النصر. والمعنى والمقصود من نصركم إن يهلك الله طائفة من كفار مكة بقتل وأسر (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) أو يهزمهم ويخزيهم (فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) (١٢٧) أي يرجعوا منقطعي الآمال غير فائزين بمطلوبهم بشيء (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ). وهذه الآية نزلت في قصة أحد لمنعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدعاء عليهم لما روي أن عتبة بن أبي وقاص شجه وكسر رباعيته ـ وهي السن التي بين الثنية والناب ـ ثم أراد أن يدعو عليهم فنزلت هذه الآية ، ولما روى سالم بن عبد الله بن عمر أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن أقواما فقال : «اللهم العن أبا سفيان ، اللهم العن الحرث بن هشام ، اللهم العن صفوان بن أمية» (١). فنزل قوله تعالى : (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) فتاب الله على هؤلاء وحسن إسلامهم. ولما حصل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الهم بأنه رأى

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب التفسير ، باب : تفسير سورة ٣.

١٥١

حمزة بن عبد المطلب ورأى ما فعلوا به من المثلة وقال : «لأمثلهن منهم بثلاثين» فنزلت هذه الآية ومات في ذلك اليوم من المسلمين سبعون ، وأسر عشرون ومات من الكفار ستة عشر.

وروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت بسبب أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد أن يلعن المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا يوم أحد فمنعه الله من ذلك ، وإنما نصّ الله تعالى على المنع تقوية لعصمته (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) وهذان إما معطوفان على الأمر. والمعنى ليس لك يا أشرف الخلق من شأن هذه الحادثة شيء ومن التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء ، لأنه ليس لك من مصالح عبادي شيء إلا ما أوحي إليك وليس لك من سؤال إهلاكهم شيء لأنه تعالى أعلم بالمصالح ، فربما تاب الله عليهم أو معطوفان على «شيء» أي ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم.

وقيل : المراد بالأمر ضد النهي. والمعنى ليس لك من أمر خلقي شيء ، أو من توبتهم أو من تعذيبهم شيء إلا إذا كان على وفق أمري. والمقصود من الآية منعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كل فعل وقول إلا ما كان بإذنه وأمره وهذا هو الإرشاد إلى أكمل درجات العبودية (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) (١٢٨) أي بالمعاصي وهذه جملة مستقلة لكن المقصود من ذكرها تعليل لحسن التعذيب. والمعنى (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) فإنه تعالى إن عذبهم إنما يعذبهم لأنهم ظالمون. والمراد بالعذاب إما عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة. فعلم ذلك مفوّض إلى الله (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وخلقا (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) مغفرته (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) تعذيبه وتقديم المغفرة على التعذيب للإعلام بأن رحمته تعالى سبقت غضبه وبأن الرحمة من مقتضيات الذات دون الغضب فإنه من مقتضيات سيئات العصاة (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢٩) والمغفرة والرحمة على سبيل الإحسان ، أما التعذيب فعلى سبيل العدل لأن الطاعة لا توجب الثواب ، والمعصية لا توجب العقاب بل الكل من الله بحكم إلهيته وقهره وإرادته. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً) على الدرهم (مُضاعَفَةً) في الأجل وكان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل فإذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجدا لذلك المال ، قال : زد في المال حتى أزيد في الأجل فربما جعله مائتين ، ثم إذا حلّ الأجل الثاني فعل مثل ذلك ، ثم إلى آجال كثيرة فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها. فهذا هو المراد من قوله : (أَضْعافاً مُضاعَفَةً).

وقرأ ابن كثير وابن عامر بتشديد العين بلا ألف قبلها.

وقال القفال : يحتمل أن تكون هذه الآية متصلة بما تقدم من جهة أن المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا. فلعل ذلك يصير داعيا للمسلمين إلى الإقدام على الربا حتى يجمعوا المال ، وينفقوه على العسكر فيتمكنوا من الانتقام منهم فحقا نهاهم الله عن ذلك. (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما نهيتم عنه من أخذ الربا وغيره (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٣٠) أي لكي تنجوا من

١٥٢

العذاب والسخط (وَاتَّقُوا النَّارَ) بأن تجتنبوا ما يوجبها وهو استحلال ما حرم من الربا وغيره (الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (١٣١) وكان أبو حنيفة يقول : هذه الآية أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه ، وفي الآية تنبيه على أن النار بالذات للكفار وبالعرض للعصاة. (وَأَطِيعُوا اللهَ) فيما يأمركم به وينهاكم عنه من أخذ الربا وغيره (وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٣٢) الذي يبلغكم أوامر الله ونواهيه فإن طاعة الرسول طاعة لله (وَسارِعُوا).

قرأ نافع وابن عامر بغير واو أي بادروا واقبلوا. وقرئ شاذة وسابقوا (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي إلى الإسلام ـ كما قاله ابن عباس ـ وإلى أداء الفرائض ـ كما قاله علي بن أبي طالب ـ والصلوات الخمس وإلى الإخلاص ـ كما قاله عثمان بن عفان ـ وإلى الجهاد ـ كما قاله الضحاك ومحمد بن إسحاق ـ وإلى التكبيرة الأولى ـ كما قاله سعيد بن جبير ـ وإلى جميع الطاعات ـ كما قاله عكرمة ـ وإلى التوبة من الربا والذنوب ـ كما قاله الأصم وابن عباس ـ (وَجَنَّةٍ) أي فكما تجب المسارعة إلى المغفرة فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة. فمعنى الغفران إزالة العقاب ، ومعنى الجنة إيصال الثواب فلا بد للمكلف من تحصيل الأمرين (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي عرضها مثل عرض السموات والأرض لو جعلت السموات والأرض طبقا طبقا ، بحيث يكون كل واحدة من تلك الطبقات سطحا مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ ، ثم وصل البعض بالبعض طبقا واحدا لكان ذلك مثل عرض الجنة وهذا غاية في السعة لا يعلمها إلا الله تعالى (أُعِدَّتْ) أي هيئت الجنة (لِلْمُتَّقِينَ) (١٣٣) ثم ذكر الله تعالى صفات المتقين فقال : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) أموالهم في سبيل الله تعالى (فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) أي في حال الغنى والفقر أو في سرور وحزن ، أو على وفق طبعهم وعلى خلافه كما يحكى عن بعض السلف أنه ربما تصدق ببصلة. وعن عائشة رضي‌الله‌عنها أنها تصدقت بحبة عنب (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) أي الكافين غيظهم.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا» (١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه زوجه الله من الحور العين حيث يشاء»(٢). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس الشديد بالصرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب»(٣). (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الأدب ، باب : من كظم غيظا ، والترمذي في كتاب البرّ ، باب : ٧٤ ، وأحمد في (م ٣ / ص ٤٣٨).

(٢) رواه أبو داود في كتاب الأدب ، باب : من كظم غيظا ، والترمذي في كتاب البرّ ، باب : ٧٤ ، وابن ماجة في كتاب الزهد ، باب : الحلم ، وأحمد في (م ٣ / ص ٤٣٨).

(٣) رواه البخاري في كتاب الأدب ، باب : قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما الكرم قلب المؤمن» ، ومسلم في كتاب البرّ ، باب : ١٠٦ ، والموطأ في كتاب حسن الخلق ، باب : ما جاء في الغضب ،

١٥٣

الْمُحْسِنِينَ) (١٣٤) ومحبة الله للعبد أعظم درجات الثواب. روي عن عيسى ابن مريم أنه قال : «ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ذلك مكافأة ، إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك». واعلم أن الإنسان إلى الغير إما أن يكون بإيصال النفع إليه أو بدفع الضرر عنه ، أما إيصال النفع إليه فيدخل فيه إنفاق العلم بأن يشتغل بتعليم الجاهلين ، وهداية الضالين ويدخل فيه إنفاق المال في وجوه الخيرات والعبادات ، وأما دفع الضرر عن الغير فهو إما في الدنيا بأن لا يشتغل بمقابلة تلك الإساءة بإساءة أخرى فهذا داخل في كظم الغيظ ، وأما في الآخرة بأن يبرئ ذمة الغير عن المطالبات فهذا داخل في العفو عن الناس. فهذه الآية دالة على جميع جهات الإحسان إلى الغير. (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) أي معصية (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بأن أتوا أيّ ذنب كان (ذَكَرُوا اللهَ) أي خافوا الله. قال بعضهم : لما وصف الله تعالى الجنة بأنها معدة للمتقين بيّن أن المتقين قسمان :

أحدهما : الذين أقبلوا على الطاعات وهم الذين وصفهم الله بالإنفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس.

وثانيهما : الذين أذنبوا ثم تابوا. وعلى هذا فالاسم الموصول معطوف على الموصول قبله. وقيل : لما ندب الله تعالى في الآية الأولى إلى الإحسان إلى الغير ندب في هذه الآية إلى الإحسان إلى النفس وعلى هذا فالاسم الموصول معطوف على المحسنين.

روى ابن عباس أن هذه الآية نزلت في رجلين ـ أنصاري وثقفي ـ والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قد آخى بينهما وكانا لا يفترقان في أحوالهما ، فخرج الثقفي مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرعة في السفر وخلف الأنصاري على أهله يتعاهدهم فكان يفعل ذلك ، ثم قام إلى امرأته ليقبلها فوضعت كفها على وجهها ، فندم الرجل ، فلما وافى الثقفي مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ير الأنصاري وكان قد هام في الجبال للتوبة فلما عرف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سكت حتى نزلت هذه الآية.

وقال عطاء : نزلت في شأن أبي سعيد نبهان التمار فإنه أتته امرأة حسناء تطلب منه تمرا بالشراء ، فقال لها : هذا التمر ليس بجيد ، وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبّلها فقالت له : اتق الله فتركها وندم على ذلك ثم أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر ذلك فنزلت هذه الآية : (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) أي أتوا بالتوبة على الوجه الصحيح لأجل ذنوبهم ، وهو الندم على فعل ما مضى مع العزم على ترك مثله في المستقبل فهذا هو حقيقة التوبة ، فأما الاستغفار باللسان فذاك لا أثر له في إزالة الذنب بل يجب إظهار هذا الاستغفار لإزالة التهمة ولإظهار انقطاعه إلى الله

__________________

وأحمد في (م ١ / ص ٣٨٢)

١٥٤

تعالى. وقوله : «فاستغفروا» معطوف على جواب «إذا». (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) أي لا يغفر ذنوب التائب أحد إلا الله (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) من الذنوب بأن أقلعوا عنها في الحال وهذا معطوف على قوله : «فاستغفروا» (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١٣٥) أن الذي فعلوه معصية الله ، وهذه الجملة حال من فاعل «يصروا» (أُولئِكَ) الذين خافوا الله وتابوا من ذنوبهم (جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) لذنوبهم (وَجَنَّاتٌ) أي بساتين (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت شجرها ومساكنها أنهار الخمر والماء والعسل واللبن (خالِدِينَ فِيها) أي دائمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (١٣٦) أي نعم ثواب التائبين المغفرة والجنات. (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) أي قد مضت من قبل زمانكم سنن الله تعالى في الأمم السالفة المكذبة للرسل بإهلاكهم إن لم يتوبوا ، وبالمغفرة إن تابوا ، فرغب الله تعالى أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تأمل أحوال هؤلاء الماضين ليصير ذلك داعيا لهم إلى الإيمان بالله ورسله والإعراض عن الرياسة في الدنيا وطلب الجاه (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا) أي تعرفوا أيها المؤمنون أحوال الأمم السالفة بسير أو غيره ، ثم تفكروا فيها للتسلي والاتعاظ. (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (١٣٧) أي كيف صار آخر أمر المكذبين بالرسل الذين لم يتوبوا من تكذيبهم (هذا) القرآن (بَيانٌ) بالحلال والحرام (لِلنَّاسِ) عامة (وَهُدىً) من الضلالة (وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (١٣٨). فالحاصل أن البيان جنس تحته نوعان :

أحدهما : الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدي.

والثاني : الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة ، وإنما خصص الله المتقين بالهدي والموعظة لأنهم المنتفعون بهما دون غيرهم (وَلا تَهِنُوا) أي لا تضعفوا عن الجهاد مع عدوكم (وَلا تَحْزَنُوا) على ما فاتكم من الغنائم يوم أحد ، ولا على ما أصابكم من القتل والجراحة وكان قد قتل يومئذ سبعون رجلا خمسة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير صاحب راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعبد الله بن جحش ابن عمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشماس بن عثمان وسعد مولى عتبة وباقيهم من الأنصار رضي‌الله‌عنهم أجمعين (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أي والحال أنكم في آخر الأمر الغالبون بالنصرة لكم دون عدوكم فإن مصير أمرهم إلى الدمار حسب ما شاهدتم من أحوال أسلافهم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٣٩) وهذا إما منصب بالنهي أو بوعد النصر والغلبة ، أي إن كنتم مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا فإن الإيمان يوجب قوة القلب والثقة بصنع الله تعالى وقلة المبالاة بالأعداء ، أو إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون فإن الإيمان يقتضي العلو بلا شك (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) أي إن أصابكم جرح يوم أحد فقد أصاب أهل مكة يوم بدر جرح مثل ما أصابكم يوم أحد ثم لم يضعف ذلك قلوبكم فأنتم أحق بأن

١٥٥

لا تضعفوا. وقيل : إن المعنى إن نالكم يوم أحد قرح وانهزام فقد نال الكفار في ذلك اليوم مثل ذلك ، فإن المسلمين نالوا من الكفار قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتلوا منهم نيفا وعشرين رجلا ـ منهم صاحب لوائهم ـ وجرحوا عددا كثيرا ، وعقروا عامة خيلهم بالنبل وقد كانت الهزيمة عليهم في أول النهار (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ) أي أيام الدنيا (نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) لا يدوم مسارها ولا مضارها فيوم يحصل فيه السرور للمؤمنين ، والغم للأعداء ويوم آخر بالعكس ، وليس المراد من هذه المداولة أن الله تعالى تارة ينصر المؤمنين ، والأخرى ينصر الكافرين وذلك لأن نصرة الله منصب شريف فلا يليق بالكافر بل المراد من هذه المداولة أنه تارة يشدد المحنة على الكفارة وأخرى على المؤمنين ولو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات لحصل العلم الاضطراري بأن الإيمان حق وما سواه باطل ، ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب. وأيضا إن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي فيشدد الله المحنة عليه في الدنيا تأديبا له وأما تشديد المحنة على الكافر فإنه غضب من الله عليه. وأيضا إن لذات الدنيا وآلامها غير باقية وإنما السعادات المستمرة في دار الآخرة.

وروي أن أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد ، ثم قال : أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر : هذا رسول الله ، وهذا أبو بكر ، وها أنا عمر! فقال أبو سفيان : يوم بيوم ، والأيام دول ، والحرب سجال. فقال عمر : لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ، فقال : إن كان الأمر كما تزعمون فقد خبنا إذا وخسرنا. (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) واللام متعلقة بفعل مضمر. والتقدير وفعلنا هذه المداولة لكي يرى الله الذين أخلصوا في إيمانهم متميزين من المنافقين إذا أصابتهم المشقة كما وقع في أحد (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) أي يكرم الله من يشاء منكم بالشهادة وهم شهداء أحد (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (١٤٠) أي المشركين وإنما يظفرهم في بعض الأحيان استدراجا لهم وابتلاء للمؤمنين (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ليطهرهم من ذنوبهم بما يصيبهم في الجهاد إن كانت الغلبة للكافرين على المؤمنين (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) (١٤١) أي يهلكهم في الحرب إن كانت الغلبة للمؤمنين على الكافرين (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (١٤٢) والخطاب للذين انهزموا يوم أحد. أي أظننتم أن تدخلوا الجنة وتفوزوا بنعيمها والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر ـ أي الجمع بينهما ـ أي لا تحسبوا ذلك والحال أن الله تعالى لم ير المجاهدين منكم في سبيل الله يوم أحد والصابرين على قتال عدوهم مع نبيهم (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) بالشهادة في الحرب (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) أي الموت يوم أحد حيث قلتم : ليت لنا يوما كيوم بدر لننال ما نال شهداؤه من الكرامة وكانوا قد ألحوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد في الخروج ، ثم ظهر منهم خلاف ذلك (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) أي إن كنتم صادقين في تمنيكم الحرب فقد رأيتم الموت بمشاهدة أسبابه يوم أحد (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (١٤٣)

١٥٦

إلى سيوف الكفار حين قتل أمامكم من قتل من إخوانكم ، فلم انهزمتم منهم ولم تثبتوا مع نبيكم؟ (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) أي قد مضت من قبل محمد أمثاله من رسل الله تعالى.

قال ابن عباس ومجاهد والضحّاك : لما نزل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأحد أمر الرماة أن يلزموا أصل الجبل ثم قتل على طلحة صاحب لواء الكفار ، وشد الزبير والمقداد على المشركين فانهزم الكفار ، ثم بادر قوم من الرماة إلى الغنيمة وكان خالد بن الوليد صاحب ميمنة الكفار فلما رأى تفرق الرماة حمل على المسلمين فهزمهم ، وفرق جمعهم ، ورمى عبد الله بن قميئة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحجر فكسر رباعيته وشجّ وجهه وأقبل يريد قتله فذب عنه مصعب بن عمير وهو صاحب راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر وأحد فقتله ابن قميئة فظن أنه قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : قد قتلت محمدا ، وصرخ صارخ ألا إن محمدا قد قتل ففشا في الناس خبر قتله فهناك قال بعض المسلمين : ليت عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم. وقال قوم من المنافقين : لو كان محمدا نبيا لما قتل وإن كان قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأول. فقال أنس بن النضر ـ عم أنس بن مالك ـ : يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد حيّ لا يموت وما تصنعون في الحياة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟! قاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه. ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء المسلمون وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء المنافقين ، ثم سلّ سيفه فقاتل حتى قتل رحمه‌الله تعالى. ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس ويقول : «إليّ عباد الله» (١) فأول من عرفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كعب بن مالك وقال : عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأشار إلي أن أمسك ، فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هزيمتهم ، فقالوا : يا نبي الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين فأنزل الله تعالى هذه الآية : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) أي أصرتم كفارا بعد إيمانكم إن مات محمد أو قتل كغيره من الرسل فتخالفوا سنن أتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على ملل أنبيائهم بعد موتهم. أي لا ينبغي منكم الارتداد حينئذ لأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبلّغ لا معبود وقد بلّغكم والمعبود باق فلا وجه لرجوعكم عن الدين الحق لو مات من بلغكم إياه. (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) أي ومن يرجع إلى دينه الأول ـ وهو الشرك ـ فلن ينقص الله رجوعه شيئا وإنما يهلك نفسه بإقباله على

__________________

(١) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (٣٢) ، وابن كثير في التفسير (٢ : ١١٨) ، والطبري في التفسير (٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (١ : ٤٧٧) ، وابن كثير في البداية والنهاية (٤ : ٢٣).

١٥٧

العذاب. (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) أي الثابتين على دين الإسلام الذي هو أجل نعمة وأعز معروف كأنس بن النضر وأمثاله (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بإرادة الله وقضائه (كِتاباً مُؤَجَّلاً) أي كتب الله الموت كتابا مؤقتا كتابة أجله ورزقه سواء لا يسبق أحدهما الآخر. وهذا إعلام بأن الحذر لا يدفع القدر وأن أحدا لا يموت قبل الأجل ، وإذا جاء الأجل لا يندفع الموت بشيء فلا فائدة في الجبن والخوف (وَمَنْ يُرِدْ) بعمله (ثَوابَ الدُّنْيا) أي منفعة الدنيا (نُؤْتِهِ مِنْها) أي نعطه من الدنيا ما يريد مما نشاء أن نعطيه إياه وما له في الآخرة من نصيب (وَمَنْ يُرِدْ) بعمله (ثَوابَ الْآخِرَةِ) أي منفعة الآخرة (نُؤْتِهِ مِنْها) أي نعطه من الآخرة ما يريد مما نشاء من الأضعاف حسب ما جرى به الوعد الكريم (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) (١٤٥) أي نعمة الإسلام الثابتين عليه الصارفين لما آتاهم الله تعالى من القوى إلى ما خلق لأجله من طاعة الله. فاعلم أن الذين حضروا يوم أحد كانوا فريقين : منهم من يريد الدنيا كالذين كانوا المركز طلبا للغنيمة والثناء ، وهؤلاء لا بد وأن ينهزموا. ومنهم من يريد الآخرة كالذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا والذين حضروا للدين لا بد وأن لا ينهزموا. واعلم أن هذه الآية وإن وردت في الجهاد خاصة لكنها عامة في جميع الأعمال وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب والعقاب الدواعي. والمقصود لا ظواهر الأعمال كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما الأعمال بالنيات»(١). فإن من وضع الجبهة على الأرض في صلاة الظهر والشمس قدامه فإن قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى كان ذلك من أعظم دعائم الإسلام وإن قصد به عبادة الشمس كان ذلك من أعظم دعائم الكفر (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ).

قرأ ابن كثير «كائن» بألف بعد الكاف بعدها همزة مكسورة. والباقون بهمزة بعد الكاف بعدها ياء مشدودة. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وقتل مبنيا للمفعول. وقتادة كذلك إلا أنه شدد التاء ، وباقي السبعة «قاتل» وضمير الفعل يعود على المبتدأ والجملة خبر المبتدأ. وجملة «معه ربيون» من المبتدأ والخبر في محل نصب على الحال من ضمير الفعل ، و «كثير» صفة لـ «ربيون». والمعنى على القراءة الأولى وكثير من الأنبياء قتلوا وبعدهم الذين بقوا من جماعتهم فما وهنوا أي ضعفوا في دينهم بل استمروا على جهاد عدوهم ونصرة دينهم ، فكان ينبغي أن يكون حالكم يا أمة

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب بدء الوحي ، باب : ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ، ومسلم في كتاب الإمارة ، باب : ١٥٥ ، وأبو داود في كتاب الطلاق ، باب : فيما عني به الطلاق والنيّات ، والترمذي في كتاب فضائل الجهاد ، باب : ١٦ ، والنسائي في كتاب الطهارة ، باب : النية في الوضوء ، وابن ماجة في كتاب الزهد ، باب : النية ، وأحمد في (م ١ / ص ٢٥).

١٥٨

محمد هكذا. قال سعيد بن جبير : ما سمعنا بنبي قتل في القتال. وقال الحسن البصري وجماعة من العظماء : لم يقتل نبي في حرب قط ، والمعنى على القراءة المشهورة وكثير من نبي قاتل لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه كائنا معه في القتال جماعات كثيرة من أصحابه فأصابهم من عدوهم قرح فما وهنوا أي جبنوا لأن الذي أصابهم إنما هو في طاعة الله وإقامة دينه ونصرة رسوله فكذلك ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمة محمد (وَما ضَعُفُوا) أي عجزوا عن قتال عدوهم (وَمَا اسْتَكانُوا) أي ذلوا لعدوهم كما فعلتم حين قيل : قتل نبيكم وأردتم أن تعتضدوا بالمنافق عبد الله بن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (١٤٦) على تحمل الشدائد في طريق الله أي يكرمهم ويعظمهم (وَما كانَ قَوْلَهُمْ) بعد ما قتل نبيهم (إِلَّا أَنْ قالُوا) هذا الدعاء. وقولهم بالنصب خبر لكان واسمها أن وما بعدها (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) الصغائر والكبائر (وَإِسْرافَنا) أي إفراطنا (فِي أَمْرِنا) بإتيان الذنوب العظيمة الكبيرة (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) بإزالة الخوف عن القلوب وإزالة الخواطر الفاسدة عن الصدور (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (١٤٧) وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمحن سواء كان في الجهاد أو غيره (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا) بالنصرة والغنيمة ، وقهر العدو ، والثناء الجميل ، وانشراح الصدر بنور الإيمان ، وزوال ظلمات الشبهات وكفارة المعاصي والشبهات (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) أي حكم الله لهم بحصول الجنة وما فيها من المنافع واللذات وأنواع السرور والتعظيم في الآخرة (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٤٨) أي المعترفين بكونهم مسيئين ، فلما اعترفوا بذلك سماهم الله محسنين كأن الله تعالى يقول لهم : إذا اعترفتم بإساءتكم وعجزكم فأنا أصفكم بالإحسان وأجعلكم أحباء لنفسي حتى تعلموا أنه لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى حضرة الله إلا بإظهار الذلة والمسكنة والعجز. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي المنافقين في قولهم للمؤمنين المنهزمين ارجعوا إلى دينكم وإخوانكم ولو كان محمد نبيا لما قتل (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) أي يرجعوكم إلى دينكم الأول. قال علي : والمراد بالذين كفروا : المنافقون ، كما تقدم.

وقال السدي وغيره : المراد بهم أبو سفيان بن حرب لأنه شجرة الفتن وكبير القوم في ذلك اليوم. ومعنى الآية حينئذ إن تخضعوا لأبي سفيان وأشياعه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم. وقيل : المراد عبد الله بن أبي وأتباعه من المنافقين لأنهم قالوا : لو كان محمد رسول الله ما وقعت له هذه الواقعة فارجعوا إلى دينكم الذي كنتم فيه. وقال ابن عباس : والمراد بهم اليهود كعب وأصحابه. والمراد بالذين آمنوا حذيفة وعمار (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) (١٤٩) أي فترجعوا مغبونين في الدارين بالانقياد للعدو والتذلل له وبالحرمان عن الثواب المؤبد ، والوقوع في العقاب المخلد (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) أي ناصركم (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) (١٥٠) أي أقواهم بالنصرة. فلا ينبغي أن تطيعوا الكفار لينصروكم لأنهم عاجزون (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) أي سنقذف

١٥٩

في قلوب كفار مكة المخافة منكم حتى انهزموا وذلك أن الكفار لما هزموا المسلمين في أحد أوقع الله الرعب في قلوبهم فتركوهم وفروا منهم من غير سبب. حتى روي أن أبا سفيان صعد الجبل وقال : أين ابن أبي كبشة؟ وأين ابن أبي قحافة؟ وأين ابن الخطاب؟ فأجابه عمر ودارت كلمات بينهما وما تجاسر أبو سفيان على النزول من الجبل والذهاب إليهم. (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) أي بعبادته (سُلْطاناً) أي كتابا ولا رسولا (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي مسكنهم في الآخرة النار (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) (١٥١) أي وبئس مقر الكافرين النار (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) يوم أحد. نزلت هذه الآية لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة وقد أصابهم ما أصابهم بأحد قال ناس من أصحابه من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية : (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) أي تقتلونهم قتلا كثيرا في أول الحرب (بِإِذْنِهِ) أي بعلمه ونصرته (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) أي إلى أن ضعفتم في الرأي أو إلى حين الغنيمة (وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أي اختلفتم في أمر الحرب أو في امتثال أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر الرماة بأن لا يبرحوا عن مكانهم ألبتة ، وجعل أميرهم عبد الله بن جبير ، فلما ظهر المشركون أقبل الرماة عليهم بالرمي الكثير حتى انهزم المشركون ، ثم إن الرماة رأوا نساء المشركين صعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلا خيلهن فقالوا : الغنيمة الغنيمة ، فقال عبد الله : عهد الرسول إلينا أن لا نبرح عن هذا المكان فأبوا عليه وذهبوا إلى طلب الغنيمة وبقي عبد الله مع طائفة قليلة دون العشرة إلى أن قتلهم المشركون. (وَعَصَيْتُمْ) أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإقامة في أصل الجبل وتركتم المركز لأجل تحصيل الغنيمة (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) أي بعد ما أراكم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم النصرة والغنيمة (مِنْكُمْ) أي من الرماة (مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) بجهاده ، وهم الذين تركوا المركز لأجل الغنيمة (وَمِنْكُمْ) أي من الرماة (مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) بجهاده وهم الذين ثبتوا مكانهم حتى قتلوا وهم عبد الله بن جبير وأصحابه (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) أي ثم رد المسلمين عن الكفار وألقى الهزيمة عليهم وسلط الكفار عليهم (لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا إلى الله وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره وملتم فيه إلى الغنيمة (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) لما علم من ندمكم على المخالفة وتفضلا منه تعالى (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (١٥٢) حيث لم يستأصل الرماة (إِذْ تُصْعِدُونَ) أي تذهبون في الأرض (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) أي ولا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) أي وهو واقف في آخركم وكان يقول : «إلىّ عباد الله ، إليّ عباد الله أنا رسول الله من يقرّ فله الجنة» (١) (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) أي جازاكم الله عما حصل لكم بسبب الانهزام ، وقتل

__________________

(١) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (٣٢) ، وابن كثير في

١٦٠