مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

من جهتهم اتقاء. والمعنى أن الله نهى المؤمنين عن مداهنة الكفار إلا أن يكون الكفار غالبين ، أو يكون المؤمن في قوم كفار فيداهنهم بلسانه مطمئنا قلبه بالإيمان دفعا عن نفسه من غير أن يستحل دما حراما أو مالا حراما ، أو غير ذلك من المحرمات ومن غير أن يظهر الكفار على عورة المسلمين. والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل مع صحة النية.

روي عن الحسن أنه قال : التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان. قال الحسن : أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لأحدهما : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم ، نعم ، نعم. فقال : أفتشهد أني رسول الله؟ قال : نعم ، فتركه. ودعا الآخر فقال : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم ، قال : أفتشهد أني رسول الله؟ فقال إني أصم ثلاثا فقدمه وقتله فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئا له وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه». (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي ذاته المقدسة في التقية عن دم الحرام ، وفرج الحرام ، ومال الحرام ، وشرب الخمر ، وشهادة الزور ، والشرك بالله (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٢٨) أي المرجع فاحذروه ولا تتعرضوا لسخطه بمخالفة أحكامه. والمعنى إن الله يحذركم عقابه عند مصيركم إلى الله (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ) أي ما في قلوبكم من البغض والعداوة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَوْ تُبْدُوهُ) أي تظهروه بالشتم له والطعن والحرب (يَعْلَمْهُ اللهُ) أي يحفظه الله عليكم فيجازيكم به (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من الخير والشر والسر والعلانية (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من أهل السموات والأرض وثوابهم وعقابهم (قَدِيرٌ) (٢٩) نزلت هذه الآية في حق المنافقين واليهود (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) أي مكتوبا في ديوانها (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) أي من قبيح تجده مكتوبا في ديوانها (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) أي والذي عملته نفس من سوء تتمنى تباعدا ما بين النفس وبين السوء مكانا بعيدا ـ كما بين المشرق والمغرب ـ لو أن بينها وبينه أجلا طويلا من مطلع الشمس إلى مغربها لفرحت بذلك. (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) عند المعصية ذكر الله تعالى هذا أولا : للمنع من موالاة الكافرين. وثانيا : للحث على عمل الخير والمنع من عمل الشر (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣٠) أي المؤمنين ، أي كما هو منتقم من الفساق فهو رؤوف بالمطيعين والمحسنين (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) أي فاتبعوا ديني فإنكم إذا اتبعتم ديني فقد أطعتم الله فالله تعالى يحب كل من أطاعه (يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أي إن اتبعتم شريعتي يرض الله عنكم ويكشف الحجب عن قلوبكم بالتجاوز عما سلف من ذنوبكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣١) لمن يتحبب إليه بطاعته. نزلت هذه الآية في حق اليهود لقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه.

وقال الضحاك عن ابن عباس : وقف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد

١٢١

نصبوا أصنامهم ، وعلقوا عليها بيض النعام ، وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال : «يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل». فقالت قريش : إنما نعبدها حبا لله ليقربونا إلى الله زلفى ، فنزلت هذه الآية. وقيل : إن نصارى نجران قالوا : إنما نعظم المسيح حبا لله ، فنزلت هذه الآية. ولما نزلت قال عبد الله بن أبيّ لأصحابه : إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى المسيح. وقالت اليهود : يريد محمد أن نتخذه ربا حنّانا كما اتخذت النصارى عيسى حنّانا فأنزل الله بسبب قولهم قوله تعالى : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) أي في جميع الأوامر والنواهي. أي إنما أوجب الله عليكم متابعتي لا كما تقول النصارى في عيسى بل لكوني رسولا من عند الله (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن طاعتهما (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٣٢) أي اليهود والمنافقين الذين ألقوا شبهة في الدين. فلما نزلت هذه الآية قالت اليهود : نحن على دين آدم مسلمين فأنزل الله قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ) إسماعيل وإسحاق ، والأنبياء من أولادهما الذين من جملتهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَآلَ عِمْرانَ) موسى وهارون. وقيل : عيسى وأمه. حكاه الكرماني ورجحه ابن عساكر والسهيلي. (عَلَى الْعالَمِينَ) (٣٣) أي على أهل رمان كل واحد منهم بالإسلام وبالخصال الحميدة (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) أي اصطفى الآلين حال كونهم ذرية متسلسلة متشعبة البعض من البعض في النسب. (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوال العباد (عَلِيمٌ) (٣٤) بضمائرهم وأفعالهم وإنما يصطفى من خلقه من يعلم استقامته قولا وفعلا. ويقال : والله سميع لمقالة اليهود نحن من ولد إبراهيم ومن آل عمران فنحن أبناء الله وأحباؤه وعلى دينه. ولمقالة النصارى المسيح ابن الله عليم بعقوبتهم. واذكر يا محمد (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) حنة بنت فاقوذا أم مريم حين شاخت وكانت يوما في ظل شجرة فرأت طائرا يطعم فرخا ، فتحركت نفسها للولد ، فدعت ربها أن يهب لها ولدا ، فحملت بمريم ومات عمران ، فلما عرفت بالحمل قالت يا (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ) أن أجعل (لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) أي عتيقا من أمر الدنيا لطاعة الله ومخلصا للعبادة وخادما لمن يدرس الكتاب ويعلم في مسجد بيت المقدس (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) أي خذ مني ما نذرته على وجه الرضا (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لتضرعي ودعائي وندائي. (الْعَلِيمُ) (٣٥) بما في ضميري وقلبي ونيتي. (فَلَمَّا وَضَعَتْها) أي ولدت المنذورة التي في بطنها (قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها) أي ما في بطني (أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ).

قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم «وضعت» بضم التاء على حكاية كلامها ، وإنما قالت ذلك للاعتذار ولإزالة الشبهة التي في قولها : «إني وضعتها أنثى» ، فإنها خافت أن يظن بذلك القول أنها تخبر الله تعالى. وقرأ الباقون بسكون التاء أي إنه تعالى قال : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) تعظيما لولدها وتجهيلا لها بقدر ذلك الولد. والمعنى والله أعلم بأن الذي ولدته وإن كان أنثى أحسن وأفضل من الذكر ، وهي غافلة عن ذلك ، فلذلك تحسرت. وقرأ ابن عباس : «والله أعلم بما

١٢٢

وضعت» على خطاب الله لها ، أي إنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب والله هو العالم بما فيه من العجائب والآيات ، ثم قال تعالى حكاية عن قولها : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) أي وليس الذكر الذي يكون مطلوبي كالأنثى التي هي موهوبة لله. وهذا الكلام يدل على أن حنة كانت مستغرقة في معرفة جلال الله ، عالمة بأن ما يفعله الرب بالعبد خير مما يريده العبد لنفسه. ويحتمل أن هذه الجملة محض كلامه تعالى. والمعنى ليس الذي طلبته كالأنثى التي ولدتها بل هي خير منه وإن لم تصلح للسدانة فإن فيها مزايا أخر لا توجد في الذكر. (وَإِنِّي سَمَّيْتُها) أي هذه البنت (مَرْيَمَ) أرادت حنة بهذه التسمية أن تطلب من الله تعالى أن يعصمها من آفات الدين والدنيا فإن مريم في لغتهم العابدة في لغة العرب. (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٣٦) أي وأني ألجئ مريم وذريتها إلى رحمتك وعصمتك ، وألصق نفسها وأولادها بفضلك ورحمتك من الشيطان اللعين (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) بأن اختص الله تعالى مريم بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم تقبل أنثى قبلها أو بأن أخذها الله من أمها عقب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة.

روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ، ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وقالت : خذوا هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم الأعظم في العلم والصلاح ، فقال زكريا : أنا أحق بها لأن خالتها عندي. فقالت الأحبار : لا تقل ذلك فإنها لو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمها التي ولدتها ولكنا نقترع عليها ، فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين إلى نهر حار في حلب يقال له : قرمق فألقوا فيها أقلامهم التي كانوا يكتبون التوراة بها على أن كل من ارتفع قلمه فهو الراجح ، وعلى كل قلم اسم صاحبه ، ثم ألقوا أقلامهم ثلاث مرات ففي كل مرة يرتفع قلم زكريا فوق الماء وترسب أقلامهم ، فأخذها زكريا (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) أي رباها الله بما يصلحها في جميع أحوالها وغذاها بالسنين والشهور والأيام غذاء حسنا (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) أي جعله الله مربيا لها وضامنا لمصالحها ، وقائما بتدبير أمورها ولما أخذها بنى لها غرفة في المسجد ، وجعل بابها في وسطه لا يرقى إليه إلا بالسلم ولا يصعد إليها غيره ، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب وكان يأتيها بأكلها وشربها ودهنها. (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا) وهو من ذرية سليمان بن داود (الْمِحْرابَ) أي الغرفة (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) أي فاكهة الشتاء في الصيف مثل القصب ، وفاكهة الصيف في الشتاء مثل العنب ولم ترضع ثديا قط بل يأتيها رزقها من الجنة. (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) أي من أين لك هذا الرزق الآتي في غير حينه الذي لا يشبه أرزاق الدنيا والأبواب مغلقة عليك (قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أتاني به جبريل من الجنة فتكلمت وهي صغيرة في المهد ، كما تكلم ولدها عيسى عليه‌السلام وهو صغير في المهد. (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٧) أي بغير تقدير لكثرة الرزق من غير مسألة في حينه وفي غير حينه (هُنالِكَ) أي في ذلك المكان الذي كان قاعدا فيه عند مريم وشاهد تلك الكرامات ، أو في ذلك الوقت الذي رأى

١٢٣

فيه خوارق العادات عندها (دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ) في مناجاته في جوف الليل (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) أي رب أعطني من محض قدرتك من غير وسط معتاد ولدا مباركا تقيا صالحا كهبتك لحنة ـ العجوز العاقر ـ مريم (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) (٣٨) أي مجيب الدعاء (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) أي جبريل كما أخرجه ابن جرير عن السدي (وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) أي في الموضع العالي الشريف في المسجد (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ) بولد يسمى (بِيَحْيى).

قرأ ابن عامر وحمزة «إن» بكسر الهمزة. والباقون بالفتح (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) أي بعيسى ابن مريم. ومعنى كونه كلمة من الله كونه مخلوقا بلا أب.

قال ابن عباس : إن يحيى كان أكبر سنا من عيسى بستة أشهر ، وكان يحيى أول من آمن وصدّق بأنه كلمة الله ، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى بمدة يسيرة (وَسَيِّداً) أي رئيسا للمؤمنين في العلم والحلم والعبادة والورع. قال ابن عباس : أي حليما عن الجهل. وقال مجاهد : أي كريما على الله (وَحَصُوراً) أي مانعا من النساء للعفة والزهد لا للعجز (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (٣٩) أي من المرسلين (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) أي قال زكريا لجبريل : يا سيدي من أين يكون لي ولد وقد أدركني كبر السن (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) أي عقيم لا تلد؟. قال ابن عباس : كان زكريا يوم بشّر بالولد ابن مائة وعشرين سنة وكانت امرأته إيشاع بنت فاقوذ بنت تسعين وثمان (قالَ) أي جبريل : (كَذلِكَ) أي الأمر كما قلت لك من خلق ولد منكما وأنتما على حالكما من الكبر (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (٤٠) من الأفاعيل الخارقة للعادة (قالَ) أي زكريا : (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي علامة في حبل امرأتي. (قالَ) أي الله تعالى : (آيَتُكَ) أي علامتك في حبل امرأتك (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) أي أن لا تقدر على تكليمهم من غير خرس (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) متوالية بلياليها (إِلَّا رَمْزاً) أي إلا تحريكا بالشفتين والحاجبين والعينين واليدين (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) باللسان والقلب في مدة الحبسة عن كلام الدنيا مع الخلق شكر الله تعالى على هذه النعمة (كَثِيراً) أي ذكرا كثيرا على كل حال (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٤١) أي صل عشيا وغدو كما كنت تصلي (وَ) اذكر (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) أي جبريل لمريم مشافهة : (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) بتفرغك لعبادته وتخصيصك بأنواع اللطف والهداية ، والعصمة والكفاية في أمر المعيشة وسماع كلام جبريل شفاها (وَطَهَّرَكِ) من المعصية ومسيس الرجال ومن الأفعال الذميمة ومن مقالة اليهود وتهمتهم. ويقال : أنجاك من القتل (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (٤٢) بولادة عيسى من غير أب ونطقه حال انفصاله من مريم حتى شهد ببراءتها عن التهمة.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «حسبك من نساء العالمين أربع : مريم ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة ،

١٢٤

وفاطمة عليهن السلام» (١). (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أي دومي على طاعته بأنواع الطاعات شكرا لذلك. ويقال : أطيلي القيام في الصلاة شكرا لربك (وَاسْجُدِي) أي صلي منفردة (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣) أي صلي مع أهل الصلاة في بيت المقدس ـ فإن اقتداء النساء بالرجال حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء ـ قال المفسرون : لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات على مريم شفاها قامت مريم في الصلاة ورمت قدماها وسال الدم والقيح من فمها. (ذلِكَ) الذي مضى ذكره من حديث حنة ومريم وزكريا (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي من أخبار الغائب عنك يا محمد (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي نرسل جبريل بإلقاء الغائب إليك (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أي عند الذين تنازعوا في تربية مريم (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) التي كانوا يكتبون بها الكتب في جري الماء ليعلموا (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أي أيّ أحدهم يربي مريم. وكان القراع على أن كل من جرى قلمه على عكس جري الماء فالحق معه (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٤٤) أي وما كنت هناك إذ يتقارعون تربية مريم وإذ يختصمون بسببها (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) أي جبريل : (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) أي بولد يكون مخلوقا بكلمة من الله أي من غير واسطة الأسباب العادية فإن عيسى من كل علوق وإن وجد بكلمة كن لكنه بواسطة أب (اسْمُهُ) أي الولد (الْمَسِيحُ) سمي بالمسيح لأنه يسيح في البلدان ولأنه ما مسح بيده ذا عاهة إلا برىء من مرضه. (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) وإنما نسبه الله تعالى إلى الأم إعلاما لها بأنه محدث بغير الأب ، فكان ذلك سببا لزيادة فضله وعلو درجته. (وَجِيهاً) أي ذا جاه وشرف (فِي الدُّنْيا) بالنبوة وبإحياء الموتى وبإبراء الأكمه والأبرص بسبب دعائه (وَالْآخِرَةِ) بجعله شفيع أمته وبقبول شفاعته فيهم ، وبعلو درجته عند الله تعالى (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (٤٥) إلى الله في جنة عدن وهذا الوصف كالتنبيه على أن عيسى سيرفع إلى السماء وتصاحبه الملائكة (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) أي في حجر أمه وهو ابن أربعين يوما بقوله : إني عبد الله (وَكَهْلاً) أي بعد ثلاثين سنة أي أن عيسى يكلم الناس مرة واحدة في حجر أمه لإظهار طهارة أمه من الفاحشة ، ثم عند الكهولة يتكلم بالنبوة (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٤٦) أي من المرسلين. (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) أي قالت مريم لجبريل : يا سيدي من أين يكون لي ولد (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) بالحلال ولا بالحرام ـ لأن المحررة لا تتزوج أبدا كالذكر المحرر ـ (قالَ) أي جبريل : (كَذلِكِ) أي الأمر كما قلت لك من خلق ولد منك بلا أب (اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً) أي إذا أراد خلق شيء (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ) لا غير (فَيَكُونُ) (٤٧) من غير ريث فنفخ جبريل في جيب درعها فوصل نفسه إلى فرجها فدخل رحمها فحملت منه (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ).

قرأ نافع وعاصم «يعلمه» بالياء معطوف على الحال وهي قوله : «وجيها» ـ فكأن جبريل

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٣ / ص ١٣٥).

١٢٥

قال : وجيها ومعلما ـ أو على يبشرك. والباقون و «نعلمه» بالنون معمول لقول محذوف من كلام الملك تقديره «وجيها» ، ومقولا فيه نعلمه أو أن الله يبشرك بعيسى ويقول نعلمه كتب الأنبياء والكتابة أي الخط. (وَالْحِكْمَةَ) أي العلم المقترن بالعمل وتهذيب الأخلاق (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) (٤٨) وخصا بالذكر لفضلهما (وَ) نبعثه (رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي) أي كلهم. وقيل : هو معطوف على الأحوال السابقة كأنه قيل : حال كونه وجيها ورسولا. وقرئ ورسول بالجر عطفا على كلمة والمعتمد عند الجمهور أن عيسى إنما نبىء على رأس الأربعين وأنه عاش في الأرض قبل رفعه مائة وعشرين سنة وهو آخر أنبياء بني إسرائيل كما أن أولهم يوسف بن يعقوب (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) بفتح الهمزة مجرور بالياء المقدرة التي للملابسة المتعلقة بمحذوف حال من رسول المقدر لما فيه من معنى النطق والتقدير ، فلما جاءهم قال لهم : إني رسول الله فيكم ملتبسا بأني قد جئتكم (بِآيَةٍ) أي بعلامة على صدقي في الرسالة (مِنْ رَبِّكُمْ) قالوا : وما هي؟ قال : هي (أَنِّي أَخْلُقُ) أي أصوّر (لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أي شيئا مثل صورة الطير (فَأَنْفُخُ فِيهِ) أي في فم ذلك المماثل لهيئة الطير (فَيَكُونُ) أي فيصير (طَيْراً) حيا يطير بين السماء والأرض (بِإِذْنِ اللهِ) أي بأمره تعالى. فطلبوه بخلق الخفاش لأنه أكمل الطير خلقا وأبلغ دلالة على القدرة لأن له نابا وأسنانا ويضحك كما يضحك الإنسان ، ويطير بغير ريش ولا يبصر في ضوء النهار ، ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين ساعة بعد المغرب وساعة بعد طلوع الفجر ، والأنثى منه لها ثدي وتحيض وتطهر وتلد ، فلما صور لهم خفاشا قالوا : هذا سحر فهل عندك غيره؟ قال : نعم (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) بالدعاء أي وأصحح الذي ولد أعمى أو الممسوح العينين (وَالْأَبْرَصَ) وهو الذي في جلده بياض شديد فلما فعل ذلك قالوا : هذا سحر فهل عندك غيره؟ قال : نعم (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) أي بالاسم الأعظم وهو «يا حي يا قيوم» فأحيا أربعة أنفس : أحيا عازرا بعد موته بثلاثة أيام حتى عاش وولد له. وأحيا ابن العجوز وهو ميت محمول على السرير فنزل عن سريره حيا ، ورجع إلى أهله وعاش وولد له. وأحيا بنت العاشر ـ أي الذي يأخذ العشور من الناس ـ بعد يوم من موتها فعاشت وولد لها ، فقالوا : لعيسى : إنك تحيي من كان قريب العهد من الموت فلعلهم لم يموتوا حقيقة بل أصابهم سكتة فأحي لنا سام بن نوح وهو قد مضى من موته أكثر من أربعة آلاف سنة ، فقام على قبره فدعا الله باسمه الأعظم فقام من قبره وقال للقوم : صدقوه فإنه نبي الله ومات في الحال فآمن به بعضهم وكذبه آخرون فقالوا : هذا سحر فهل عندك غيره؟ قال : نعم (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ) غدوة وعشية (وَما تَدَّخِرُونَ) أي ترفعون من غداء لعشاء ومن عشاء لغداء (فِي بُيُوتِكُمْ) مما لم أعاينه (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في ما قلت لكم من هذه الخمسة (لَآيَةً) أي لمعجزة قوية دالة على صحة رسالتي دلالة واضحة (لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٤٩) أي مصدقين انتفعتم بها (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ) أي لما قبلي (مِنَ التَّوْراةِ) وبين موسى وعيسى

١٢٦

ألف سنة وتسعمائة سنة وخمس وسبعون سنة. «ومصدقا» معطوف على «رسولا» (وَ) جئتكم (لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) في شريعة موسى عليه‌السلام من الشحوم والثروب للبقر والغنم ، ولحوم الإبل ومما لا صيصية له من السمك والطير ، ومن العمل في يوم السبت وهذا لا يقدح في كونه مصدقا للتوراة لأن النسخ تخصيص في الأزمان (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) شاهدة على صحة رسالتي. وقرئ بآيات (فَاتَّقُوا اللهَ) في عدم قبولها (وَأَطِيعُونِ) (٥٠) فيما آمركم به وأنهاكم عنه عن الله تعالى (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) وإنما أظهر سيدنا عيسى الخضوع ، وأقر بالعبودية لكيلا يتقولوا عليه الباطل فيقولوا : إنه إله وابن إله لأن إقراره بالعبودية لله يمنع مما تدعيه جهال النصارى عليه (فَاعْبُدُوهُ) أي لازموا طاعته التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي ، أي لما كان الله تعالى رب الخلائق بأسرهم وجب على الكل أن يعبدوه. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) إشارة إلى أن استكمال القوة النظرية بالتوحيد. وقوله : (فَاعْبُدُوهُ) إشارة إلى أن استكمال القوة العملية بالطاعة (هذا) أي الجمع بين التوحيد والعبادة (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٥١) أي دين قائم يرضاه الله تعالى ـ وهو الإسلام – ونظير قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قل آمنت بالله ثم استقم» (١) لرجل قال : يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) أي فلما سمع عيسى بأذنه من بني إسرائيل تكرار الكفر وطلبوا قتله لأنهم كانوا عارفين بأنه هو المسيح المبشّر به في التوراة وأنه ينسخ دينهم. (قالَ) لأصفياء أصحابه : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي من أنصاري حال التجائي إلى الله؟ ويقال : من أعواني؟ ـ مع الله على أعدائه ـ (قالَ الْحَوارِيُّونَ) أي القصارون أي الذين يبيضون الثياب (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي نحن أعوانك مع الله على أعدائه. قيل : كانوا تسعة وعشرين. سمي منهم قطرس ويعقوب ولحيس وإيدارانيس ، وقيلس وابن تلما ، ومتنا وبوقاس ويعقوب بن حليفا ، وبداوسيس ، وقياسا ، وبودس وكدمابوطا ، وسرجس وهو الذي ألقى عليه شبهه. أخرج ذلك ابن جرير عن ابن إسحاق. وقيل : كان الحواريون اثني عشر رجلا آمنوا بعيسى عليه‌السلام واتبعوه وكانوا إذا جاعوا قالوا : جعنا يا روح الله فيضرب بيده الأرض فيخرج منها لكل واحد رغيفان. وإذا عطشوا قالوا : عطشنا ، فيضرب بيده الأرض فيخرج منها الماء فيشربون. فقالوا : من أفضل منا؟ قال عليه‌السلام : أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه. فصاروا يغسلون الثياب بالأجرة ، فسموا حواريين ، أي إن اليهود لما طلبوا عيسى عليه‌السلام للقتل وكان هو في الهرب عنهم قال لأولئك الاثني عشر من الحواريين أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني؟ فأجابه إلى ذلك بعضهم : (آمَنَّا بِاللهِ) فهذا استئناف يجري مجرى العلة لما قبله.

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان ، باب : ٦٢ ، وأحمد في (م ٣ / ص ٤١٣).

١٢٧

والمعنى يجب علينا أن نكون من أنصار الله لأجل أننا آمنا بالله فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله والذب عن أولياء الله والمحاربة مع أعدائه (وَاشْهَدْ) يا سيدنا عيسى (بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٥٢) أي مقرون بالعبادة والتوحيد لله. وذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام وأنه دين كل الأنبياء صلوات الله عليهم وإشهاد لله أيضا على أنفسهم بذلك. فلما أشهدوا عيسى على إيمانهم وإسلامهم تضرعوا إلى الله تعالى وقالوا : (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) من الكتاب أي الإنجيل (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) أي دين رسول الله عيسى (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٥٣) أي اكتبنا في جملة من شهد لك بالتوحيد ولأنبيائك بالتصديق.

وقال ابن عباس : فاكتبنا في زمرة الأنبياء لأن كل نبي شاهد لقومه أو فاكتبنا مع محمد وأمته لأنهم هم المخصوصون بأداء الشهادة (وَمَكَرُوا) أي أراد اليهود قتل عيسى (وَمَكَرَ اللهُ) أي أراد الله قتل صاحبهم تطيانوس. وقيل : مكرهم بعيسى همهم بقتله ، ومكر الله تعالى بهم رفع عيسى إلى السماء. وذلك أن يهودا ملك اليهود أراد قتل عيسى عليه‌السلام ، وكان جبريل لا يفارقه ساعة ، فأمره جبريل أن يدخل بيتا فيه روزنة ، فلما دخلوا البيت أخرجه جبريل من تلك الروزنة وكان قد ألقي شبهه على غيره فأخذ وصلب. (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٥٤) أي أقوى المريدين ويقال : أفضل الصانعين.

روي عن ابن عباس أن ملك بني إسرائيل اسمه يهوذا لما قصد قتل عيسى أمره جبريل أن يدخل بيتا فيه روزنة فرفعه جبريل من تلك الروزنة إلى السماء فقال الملك لرجل خبيث منهم يقال له تطيانوس : ادخل عليه فاقتله. فدخل البيت فلم ير عيسى فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه ، فخرج يخبرهم أنه ليس في البيت ، فقتلوه وصلبوه ثم قالوا : وجهه يشبه وجه عيسى وبدنه يشبه بدن صاحبنا فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟! فوقع بينهم قتال عظيم (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي مستوفي أجلك المسمى وعاصمك من أن يقتلك الكفار (وَرافِعُكَ إِلَيَ) من الأرض إلى محل كرامتي وإلى محل ثوابك (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بك أي منجيك منهم (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) أي الذين آمنوا بأنك عبد الله ورسوله والذين صدقوا بنبوتك وادعوا محبتك كالنصارى (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بك وهم اليهود بالحجة والسيف ، والقهر والسلطان ، والاستعلاء والنصرة (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فإن ملك اليهود قد ذهب فلم تبق لهم قلعة ولا سلطان ، ولا شوكة في جميع الأرض بل يكونون مقهورين أين ما كانوا بالذلة والمسكنة ، وملك النصارى باق قائم إلى قريب من قيام الساعة فإنا نرى أن دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود. وذكر محمد بن إسحاق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد رفع عيسى عليه‌السلام إلى السماء فشمسوهم وعذبوهم فبلغ ذلك ملك الروم ، وكان ملك اليهود من رعيته. ثم

١٢٨

بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه‌السلام فأخبروه فتابعهم على دينهم وأنزل المصلوب فغيّبه وأخذ الخشبة فأكرمها وصانها ، ثم غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقا عظيما ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم ، وكان اسم هذا الملك طباريس وهو قد صار نصرانيا إلا أنه لم يظهر ذلك ثم جاء بعده ملك آخر يقال له ملطيس ، وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى عليه‌السلام بمقدار أربعين سنة ولم يترك في مدينة بيت المقدس حجرا على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز فهذا كله مما جازاهم الله تعالى على تكذيب المسيح وقصد قتله. (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) بالموت والخطاب لعيسى ومن آمن معه ومن كفر به (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٥٥) أي تخاصمون في الدين (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله (فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا) بالقتل والسبي والجزية والذلة (وَالْآخِرَةِ) بالنار (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٥٦) أي مانعين من عذاب الله في الدنيا والآخرة (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله والكتاب وبنبوة عيسى وبنبوة محمد (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فيما بينهم وبين ربهم (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي فيوفرهم أجورهم وأعمالهم في الجنة (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (٥٧) أي لا يريد إيصال الخير إلى المشركين.

وقرأ حفص عن عاصم «فيوفيهم» بالياء والفاعل راجع إلى الله. والباقون بالنون (ذلِكَ) أي خبر عيسى (نَتْلُوهُ عَلَيْكَ) أي ننزل عليك جبريل به (مِنَ الْآياتِ) أي من آيات القرآن أو من العلامات الدالة على ثبوت رسالتك (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) (٥٨) أي الذي ينطق بالحكمة أو المحكم فإن القرآن ممنوع من تطرق الخلل إليه.

وروي أنه حضر وفد نجران على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا له : ما شأنك تذكر صاحبنا وتسبه فقال : «من هو؟» قالوا : عيسى. قال : «وما أقول» قالوا : تقول إنه عبد ، قال : «أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول». فغضبوا وقالوا : هل رأيت إنسانا قط من غير أب ومن لا أب له فهو ابن الله ثم خرجوا من عنده صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء جبريل فقال : قل لهم إذا أتوك (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ) أي إن صفة تخلق عيسى في تقدير الله وحكمه بلا أب (كَمَثَلِ آدَمَ) أي كصفة قالب آدم (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) بلا أب وأم (ثُمَّ قالَ لَهُ) أي لآدم (كُنْ فَيَكُونُ) (٥٩) أي نفخ فيه الروح. وكذلك عيسى قال له : كن من غير أب فكان ولدا بلا أب ، فإذا كان آدم كذلك ولم يكن ابنا لله فكذلك عيسى فمن لم يقر بأن الله خلق عيسى من غير أب مع إقراره بخلق آدم بغير أب وأم فهو خارج عن طور العقلاء. وأيضا إذا جاز أن يخلق الله آدم من التراب فجواز خلق الله تعالى عيسى من دم مريم من باب أولى فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب إلى العقل من تولده من التراب اليابس. (الْحَقُ) أي الذي أنزل عليك من خبر عيسى أنه لم يكن الله ولا ولده ولا شريكه هو (مِنْ رَبِّكَ) والباطل من النصارى واليهود فالنصارى قالوا : إن مريم ولدت

١٢٩

إلها رموا مريم بالإفك ونسبوها إلى يوسف النجار (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (٦٠) أي من الشاكين فيما بينت لك من تخليق عيسى بلا أب ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحريكا له لزيادة ثباته على اليقين ولكل سامع لينزع عما يورث الامتراء ، ثم ذكر الله تعالى خصومة وفد نجران مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ما بين لهم إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم فقالوا : ليس كما تقول : إن عيسى لم يكن الله ولا ولده ولا شريكه فقال الله تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ) أي خاصمك من نصارى نجران (فِيهِ) أي في شأن عيسى (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي من الدلائل الموجبة للعلم بأن عيسى عبد الله ورسوله (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا) أي نخرج بأنفسنا (وَأَنْفُسَكُمْ) أي اخرجوا بأنفسكم (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) أي نجتهد في الدعاء ونخلصه أو نلاعن بيننا وبينكم (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ) فيما بيننا (عَلَى الْكاذِبِينَ) (٦١) على الله في حق عيسى وهم من يقولون : إن عيسى ابن الله أو أنه إله.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ذكر الدلائل على نصارى نجران ، ثم إنهم أصروا على جهلهم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم» فقالوا يا أبا القاسم : حتى نرجع فننظر في أمرنا ، ثم نأتيك غدا فلما رجعوا إلى قومهم قالوا للعاقب ـ وكان ذا رأيهم ـ : يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى إن محمدا نبي مرسل ، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم ، والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكن ، فإن أبيتم إلا الإقامة عفى دينكم والإصرار على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد خرج من بيته إلى المسجد ، وعليه مرط من شعر أسود ، محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه ، وعلي خلفها رضي‌الله‌عنهم أجمعين وهو يقول لهؤلاء الأربعة : «إذا دعوت فأمنوا». فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى إني لأرى وجوها ولو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تبتهلوا فتهلكوا ، ثم قالوا يا أبا القاسم : رأينا أنا لا نباهلك وأن نثبت على ديننا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين». فأبوا ، فقال : «إني أناجزكم القتال» فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك في كل عام ألفي حلة. ألفا في صفر وألفا في رجب. وثلاثين درعا ، وثلاثين فرسا ، وثلاثين بعيرا ، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح فصالحهم رسول الله على ذلك. (إِنَّ هذا) الذي ذكرت من الدلائل التي دلت على أن عيسى لم يكن الله ولا ولده ، ولا شريكه ، ومن الدعاء إلى المباهلة مع وفد نجران (لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) دون أكاذيب النصارى (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) بلا شريك ولا ولد ولا زوجة (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الغالب الذي لا يمنع القادر على جميع المقدورات (الْحَكِيمُ) (٦٢) أي العالم بجميع المعلومات وبجميع عواقب الأمور فذكر العزيز الحكيم هاهنا إشارة إلى الجواب عن النصارى في الشبهتين لعيسى القدرة على الإحياء ونحوه

١٣٠

وأخبار الغيوب (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) (٦٣) أي فإن أبوا عن قبول الحق وأعرضوا عما وصفت من أن الله هو الواحد ، وأنه يجب أن يكون عالما قادرا على جميع المقدورات عالما بالنهايات ، محيطا بالمعلومات مع اعترافهم بأن عيسى لم يكن كذلك ومع قولهم : إن اليهود قتلوه فاعلم أن آباءهم وأعراضهم ليس إلا على سبيل العناد فاقطع كلامك عنهم وفوّض أمرهم إلى الله ، فإن الله عليم بفساد المفسدين ، مطّلع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة ، قادر على مجازاتهم (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) نزلت هذه الآية في شأن نصارى نجران كما قاله ابن عباس : وذلك لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ذكر على نصارى نجران أنواع الدلائل أولا ، ثم دعاهم إلى المباهلة ثانيا ، فخافوا وقبلوا الصغار بأداء الجزية ، وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم حريصا على إيمانهم فعدل إلى رعاية الإنصاف وترك المجادلة. فكأنه تعالى قال : يا محمد اترك ذلك المنهج من الكلام واعدل إلى منهج آخر يشهد كل عقل سليم وطبع مستقيم إنه كلام مبني على الإنصاف وترك الجدال (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) أي يا معشر النصارى (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا البعض لا ميل فيه لأحد على صاحبه.

وقيل : نزلت في حق يهود المدينة. وقيل : نزلت في شأن الفريقين وذلك لما قدم وفد نجران المدينة والتقوا مع اليهود ، واختصموا في دين إبراهيم فزعمت النصارى أنه كان نصرانيا وأنهم على دينه ، وأولى الناس به. وقالت اليهود : بل كان يهوديا ونحن على دينه وأولى الناس به. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه. بل كان إبراهيم حنيفا مسلما وأنا على دينه فاتبعوا دينه الإسلام» (١) فقالت اليهود : يا محمد ما تريد إلا أن نتخذك ربا كما اتخذت النصارى عيسى. وقالت النصارى : يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير. فأنزل الله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي يا معشر اليهود والنصارى : هلموا إلى قصة عادلة مستقيمة بيننا وبينكم لا يختلف فيها الرسل والكتب فإذا آمنا نحن وأنتم بها كنا على السواء والاستقامة ، ثم فسر الكلمة بقوله : (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) أي أن نوحده بالعبادة ونمحضه بها (وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) أي ولا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة ولا نعتقده أهلا لأن يعبد (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) أي لا يطيع أحد منا أحدا من الرؤساء في معصية الله تعالى وفيما أحدثوا من التحريم والتحليل ، ولا نقول عزير بن الله ولا المسيح بن الله لأنهما بشران مثلنا (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أبوا إلا الإصرار على الشرك (فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٦٤) أي فأظهر أنت والمؤمنون بأنكم على هذا الدين وقولوا : اعترفوا بأنا مقرون بالتوحيد والعبادة لله تعالى دونكم فقد لزمتكم الحجة فوجب

__________________

(١) رواه القرطبي في التفسير (٤ : ١٢٧).

١٣١

عليكم أن تعترفوا بذلك ، وبأنكم كافرون بما نطقت به الكتب وتطابقت عليه الرسل عليهم الصلاة والسلام. (يا أَهْلَ الْكِتابِ) أي يا معشر اليهود والنصارى (لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) أي لم تخاصمون في دين إبراهيم ولم تدّعون أن إبراهيم عليه‌السلام كان منكم (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ) على موسى (وَالْإِنْجِيلُ) على عيسى (إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد إبراهيم بزمن طويل ، إذ كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة. وبين موسى وعيسى ألفا سنة. وبعد نزول التوراة حدثت اليهودية ، وبعد نزول الإنجيل حدثت النصرانية (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٦٥) أي أتدعون أن إبراهيم منكم فلا تعقلون بطلان ادعائكم (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ) أي ها أنتم يا هؤلاء اليهود والنصارى خاصمتم (فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) في كتابكم أن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وأن محمدا نبي مرسل وهو موجود في كتابكم بنعته فأنكرتم ذلك (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) في كتابكم لأنه ليس لدين إبراهيم ذكر في كتابكم أصلا ، ولم تدّعون أن شريعة إبراهيم مخالفة لشريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاللهُ يَعْلَمُ) كيف كانت حال هذه الشرائع في المخالفة والموافقة (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٦٦) كيفية تلك الأحوال ثم بيّن الله تعالى ذلك مفصلا وكذبهم فيما ادعوه من موافقة إبراهيم لهما فقال : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) أي ليس إبراهيم على دين اليهود ولا على دين النصارى (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً) أي مائلا عن الأديان الباطلة كلها (مُسْلِماً) أي على ملة التوحيد لا على ملة الإسلام الحادثة (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٦٧) وهذا تعريض بكون اليهود والنصارى مشركين بقولهم عزير ابن الله والمسيح ابن الله ، ورد على المشركين في ادعائهم أنهم على ملة إبراهيم عليه‌السلام : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) أي إن أقرب الناس إلى دين إبراهيم وأخصهم به (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) في زمانه (وَهذَا النَّبِيُ) محمد (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد فهم الذين يليق أن يقولوا نحن على دينه لأن غالب شرع محمد موافق لشرع إبراهيم أي إن أحق الناس بدين إبراهيم فريقان : أحدهما : من اتبعه من أمته. وثانيهما : النبي وسائر المؤمنين من أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٨) أي ناصرهم وحافظهم ومكرمهم ، ثم ذكر دعوة كعب بن الأشرف وأصحابه لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معاذ وحذيفة وعمار بعد يوم أحد إلى دينهم اليهودية عن دين الإسلام فقال : (وَدَّتْ طائِفَةٌ) أي تمنت (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) أي أن يضلوكم عن دينكم الإسلام (وَما يُضِلُّونَ) عن دين الله (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لأن المؤمنين لا يقبلون قولهم فيحصل عليهم الإثم بتمنيهم إضلال المؤمنين وهم صاروا خائبين حيث اعتقدوا شيئا ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوّروه (وَما يَشْعُرُونَ) (٦٩) إن هذا نصرهم لأن العذاب يضاعف لهم بسبب ضلالهم وتمنى إضلال المسلمين. (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) وهي الواردة في التوراة والإنجيل من البشارة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإخبار بأن الدين هو الإسلام وبأن إبراهيم كان حنيفا مسلما (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (٧٠) صحتها إذا خلا بعضهم من بعض ، وتنكرون اشتمال التوراة والإنجيل

١٣٢

على الآيات الدالة على نبوة محمد عند حضور عوامكم وعند حضور المسلمين. أو المعنى لم تكفرون بالقرآن فإنكم تنكرون عند العوام كونه معجزا وأنتم تشهدون بقلوبكم وعقولكم كونه معجزا (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) أي لم تخلطون المنزل من التوراة بالمحرف من عندكم كما نقل عن الحسن وابن زين أو لم تشككون الناس بإظهار الإسلام بالتواضع أول النهار ، ثم بالرجوع عنه في آخر النهار كما نقل عن ابن عباس وقتادة.

وقرئ «تلبسون» بتشديد الباء. وقرأ يحيى بن وثاب «يلبسون» بفتح الياء أي تكتسون الحق مع الباطل (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ) أي الآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٧١) أنكم إنما تفعلون ذلك عنادا وحسدا وتعلمون أن عقاب من يفعل مثل هذه الأفعال عظيم أي أنتم أرباب العلم والمعرفة. (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) هم اثنا عشر حبرا من أحبار يهود خيبر لسفلتهم منهم عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحرث وكعب وأصحابه من الرؤساء (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد أي آمنوا ببعض القرآن أي بالقبلة التي صلى إليها محمد وأصحابه (وَجْهَ النَّهارِ) أي أوله. وهو صلاة الفجر. (وَاكْفُرُوا) بالقبلة الأخرى التي وصلوا إليها (آخِرَهُ) صلاة الظهر فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس بعد أن قدم المدينة ، ففرح اليهود بذلك وطمعوا أن يكون منهم. فلما حوّله الله تعالى إلى الكعبة عند صلاة الظهر شق ذلك على اليهود فقال كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف لأصحابهما : آمنوا بالذي أنزل على محمد في شأن القبلة وصلوا إليها أول النهار ، ثم ارجعوا إلى قبلتكم وصلوا إلى الصخرة آخر النهار (لَعَلَّهُمْ) أي أصحابه العوام (يَرْجِعُونَ) (٧٢) عن دينه وقبلته (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) أي ولا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم فإن مقصود كل واحد حفظ أتباعه على متابعته أي غرضهم بالإتيان بذلك التلبيس إبقاء أتباعهم على دينهم. أو المعنى لا تصدقوا بالنبوة إلا من وافق دينكم اليهودية وقبلتكم بيت المقدس فأما من جاء بتغيير شيء من أحكام التوراة فلا تصدقوه (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) أي إن الدين دين الله وهو الإسلام ، والقبلة قبلة الله وهي الكعبة. (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) وهذا من جملة كلام الله تعالى فلا تنكروا يا معشر اليهود أن يعطى أحد سواكم من الدين والقبلة مثل ما أعطيتموه أو أن يحاجج المسلمون إياكم بذلك عند ربكم إن لم تقبلوا ذلك منهم.

وقرأ ابن كثير أن «يؤتى» بهمزتين مع قصر الأولى ، وتسهيل الثانية على الاستفهام الذي للإنكار والتوبيخ. والمعنى أمن أجل أن يؤتى أحد شرائع مثل ما أوتيتم من الشرائع ينكرون اتباعه. وهذا الوجه مروي عن مجاهد وعيسى بن عمر ، وغاية ما في هذا الباب أنه يفتقر في هذا التأويل إلى إضمار مادة الإنكار لأن عليه دليلا وهو قوله تعالى : (إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) فإنه لما كان الهدى هدى الله كان له تعالى أن يؤتيه من يشاء من عباده ومتى كان الأمر كذلك لزم ترك

١٣٣

الإنكار (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ) بالرسالة والنبوة والإسلام وقبلة إبراهيم (بِيَدِ اللهِ) فإنه مالك له (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي يعطيه محمدا وأصحابه والله تعالى حكى عن اليهود أمرين :

أحدهما : أنهم آمنوا وجه النهار وكفروا آخره ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام ، فأجاب الله عن ذلك بقوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) أي أن مع كمال هداية الله وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة قوة ولا أثر.

وثانيهما : أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من الكتاب والحكم والنبوة فأجاب الله عن ذلك بقوله : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ) أي كامل القدرة فيقدر أن يتفضل على أي عبد شاء بأي تفضل شاء (عَلِيمٌ) (٧٣) أي كامل العلم فلا يكون شيء من أفعاله إلا على وجه الحكمة والصواب (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ) التي بلغت في الشرف وعلو المرتبة إلى أن تكون أعلى وأجل من أن تقاس من النبوة والرسالة والدين (مَنْ يَشاءُ) محمدا وأصحابه (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٧٤) فلا نهاية لمراتب إعزاز الله وإكرامه لعباده (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي اليهود (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) بغير تعب كعبد الله بن سلام وأصحابه (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) بل يستحله (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) أي مطالبا مخاصما ككعب بن الأشرف وأصحابه.

قال ابن عباس : أودع رجل قرشي عبد الله بن سلام ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأداه إليه. وأودع قرشي آخر فنحاص بن عازوراء فخانه ، فنزلت هذه الآية.

تنبيه : معنى الباء إلصاق الأمانة كما ، أن معنى على في قولك أمنته على كذا ، استعلاء الأمانة ، فمن ائتمن على شيء فقد صار ذلك الشيء في معنى الملتصق به ، وصار المودع كالمستعلي على تلك الأمانة. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أي ذلك الاستحلال والخيانة مستحق بسبب أنهم يقولون : ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل. أي قدرة على المطالبة والإلزام فإنهم قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه والخلق لنا عبيد ، فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا. أو المعنى ليس علينا في أخذ أموال العرب سبيل أي إثم فإنهم قالوا : أموال العرب حلال لنا لأنهم ليسوا على ديننا ولا حرمة لهم في كتابنا وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم في دينهم. (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٥) أي إنهم قالوا : إن جواز الخيانة مع المخالف مذكور في التوراة وكانوا كاذبين في ذلك وعالمين بكونهم كاذبين فيه ومن كان كذلك كانت خيانته أعظم وجرمه أفحش (بَلى) على اليهود في العرب سبيل وهذا رد على اليهود ولكن (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ) فيما بينه وبين الله أو بينه وبين الناس (وَاتَّقى) عن نقض العهد بالخيانة وترك الأمانة (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٧٦). وهذه الآية دالة على تعظيم أمر الوفاء بالعهد وذلك لأن

١٣٤

الطاعات محصورة في أمرين : التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله. فالوفاء بالعهد مشتمل عليهما معا لأن ذلك سبب لمنفعة الخلق فهو شفقة على خلق الله وذلك أمر الله. فالوفاء بالعهد تعظيم لأمر الوفاء كما يكون في حق الغير يكون في حق النفس ، فالوافي بعهد النفس هو الآتي بالطاعات والتارك للمحرمات. (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ) أي من جميع ما أمر الله به ومما يلزم الشخص نفسه (وَأَيْمانِهِمْ) وهي الحلف التي يؤكد بها الإنسان خبره من وعد أو وعيد أو إنكار أو إثبات (ثَمَناً قَلِيلاً) من الدنيا (أُولئِكَ) الموصوفون بتلك الصفات القبيحة (لا خَلاقَ) أي لا نصيب (لَهُمْ فِي) خير (الْآخِرَةِ) ونعيمها (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) أي يشتد غضب الله عليهم (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) بالإحسان والرحمة (يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٧) أي وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم. نزلت هذه الآية في حق عبدان بن الأشوع ، وامرئ القيس اختصما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أرض فتوجهت اليمين على امرئ القيس فقال : أنظرني إلى الغد. ثم جاء في الغد وأقر له بالأرض. وقيل : نزلت في شأن الأشعث بن قيس كان بينه وبين رجل خصومة في أرض وبئر اختصما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال للرجل : «أقم بيّنتك». فقال : ليس لي بيّنة ، فقال للأشعث : «فعليك باليمين» (١). فهمّ الأشعث باليمين. فأنزل الله تعالى هذه الآية فنكل الأشعث عن اليمين ورد الأرض إلى الخصم ، واعترف بالحق وهذا قول ابن جريج. وقيل : نزلت في شأن كعب بن الأشرف ويحيى بن أخطب ، وأبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق بدلوا نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة وأخذوا الرشوة على ذلك وحلفوا بأنه من عند الله لئلا يفوتهم الرشا ـ كما قاله عكرمة ـ أو كتبوا بأيديهم كتابا في ادعائهم أنه ليس علينا في الأميين سبيل وحلفوا أنه من عند الله ـ كما قاله الحسن ـ وهذه الآية دلت على أنها نزلت في أقوام حلفوا بالأيمان الكاذبة فتحمل على جميع الروايات. (وَإِنَّ مِنْهُمْ) أي من اليهود (لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) أي طائفة يحرّفون اللفظة الدالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوراة ـ حركات الإعراب ـ تحريفا يتغير به المعنى. وهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب ، وأبو ياسر وشعبة بن عمير (لِتَحْسَبُوهُ).

وقرئ شاذة بالياء (مِنَ الْكِتابِ) أي لكي يظن السفلة أو المسلمون أن المحرف من التوراة (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) أي والحال أن المحرف ليس من التوراة في نفس الأمر وفي اعتقادهم (وَيَقُولُونَ هُوَ) أي المحرف (مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي موجود في كتب سائر الأنبياء مثل شعياء وأرخياء وحيفوف (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فالأغمار الجاهلون بالتوراة نسبوا ذلك المحرف إلى أنه من التوراة ، والأذكياء زعموا أنه موجود في كتب سائر الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى

__________________

(١) رواه الطبري في التفسير (٣ : ٢٣٠).

١٣٥

عليهم‌السلام. وعلم من هذا التفسير المغايرة بين اللفظين فإنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله فإن الحكم الشرعي قد ثبت تارة بالكتاب وتارة بالسنة ، وتارة بالإجماع ، وتارة بالقياس والكل من عند الله (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٨) أي يتعمدون ذلك الكذب مع العلم. وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف وغيّروا التوراة ، وكتبوا كتابا بدّلوا فيه صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أخذت قريظة ما كتبوا فخلطوه بالكتاب الذي عندهم. (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) أي ما أمكن وما صح لأحد من الأنبياء كعيسى ومحمد أن يعطيه الله الكتاب أي التوراة أو القرآن والفهم لذلك الكتاب والنبوة ، ثم يقول ذلك البشر المشرف بالصفات الثلاثة للناس كونوا عبادا كائنين لي متجاوزين الله إشراكا أو إفرادا. قال مقاتل والضحاك : نزلت هذه الآية في شأن نصارى نجران حيث يقولون : إن عيسى عليه‌السلام أمرنا أن نتخذه ربا.

وقال ابن عباس : لما قالت اليهود : عزير ابن الله. وقالت النصارى : المسيح ابن الله نزلت هذه الآية. وقال أيضا ـ في مقالتهم ـ : نحن على دين إبراهيم وأمرنا هو بهذا الدين. وقال ابن عباس وعطاء : إن أبا رافع القرظي من اليهود ورئيس وفد نجران من النصارى قالا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتريد أن نعبدك ونتّخذك ربا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني الله ولا بذلك أمرني» (١). فنزلت هذه الآية. وقيل : قال رجل يا رسول الله : نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد دون الله ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله». فنزلت هذه الآية (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) أي ولكن يقول ذلك البشر الذي رفعه الله إلى أعلا المراتب كونوا علماء عاملين (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ).

قرأ عبد الله ابن كثير وأبو عمرو ونافع بفتح التاء وسكون العين. والباقون بضم التاء وفتح العين وكسر اللام مشددة. أي تعلمون الناس من الكتاب (وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (٧٩) أي وبسبب كونكم تقرؤون من الكتاب (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً).

قرأ عاصم وحمزة وابن عامر «يأمركم» بفتح الراء ، والفاعل ضمير يعود على البشر و «لا» مزيدة لتأكيد معنى النفي ، أي ما كان لبشر أن يجعله الله نبيا ، ثم يأمر الناس بعبادة نفسه أو باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا. وقرأ الباقون برفع الراء على سبيل الاستئناف ، كما يدل على ذلك ما روي عن ابن مسعود أنه قرأ : «ولن يأمركم» والفاعل حينئذ ضمير يعود على «الله» ـ كما قاله

__________________

(١) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٧ : ١٩٣).

١٣٦

الزجاج ـ أو إلى محمد ـ كما قاله ابن جريج ـ أو إلى عيسى ، أو إلى كل نبي من الأنبياء كما قيل بكل أي ولا يأمركم يا معشر قريش واليهود والنصارى بأن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا كما اتخذت الصابئة وقريش : الملائكة ، واليهود : عزيرا والنصارى : المسيح (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ) أي كيف أمركم ذلك البشر والله تعالى بالكفر (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (٨٠) وهذا استفهام إنكاري وهو خطاب للمؤمنين على طريق التعجيب من حال غيرهم. ويقال : بعد إذ أمركم بالإسلام (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) أي أعطيناكم.

قرأ نافع «آتيناكم» بالنون على التفخيم (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ). وقرأ الجمهور «لما» بفتح اللام. وقرأ حمزة بكسر اللام. وقرأ سعيد ابن جبير «لما» مشددة. أما القراءة بالفتح فـ «لما» وجهان «ما» هو اسم موصول مرفوع بالابتداء وخبره قوله : (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) وإما هو متضمن لمعنى الشرط فـ «اللام» في قوله : (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) هي المتلقية للقسم أما اللام في «لما» هي لام تحذف تارة وتذكر أخرى ولا يتفاوت المعنى وهذا اختيار سيبويه والمازني والزجاج. وقال أبو السعود واللام في «لما» موطئة للقسم لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستخلاف ، و «ما» تحتمل الشرطية. و «لتؤمنن» ساد مسد جواب القسم والشرط وتحتمل الخبرية ، وأما القراءة بكسر اللام فلأنها للتعليل ، وإما مصدرية أو موصول. وأما قراءة «لما» بالتشديد فإما هي بمعنى حين أو لمن أجل ما ، على أن أصله لمن ما ، وأما معنى «وإذ أخذ الله» فقال ابن جرير الطبري : واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ الله ميثاق النبيين.

وقال الزجاج : واذكر يا محمد في القرآن إذ أخذ الله ميثاق النبيين. والمقصود بهذه الآية أن الله تعالى أخذ الميثاق من النبيين خاصة قبل أن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى عباده أن يصدق بعضهم بعضا وأخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء ، وينصره إن أدركه ، وإن لم يدركه أن يأمر قومه بنصرته إن أدركوه فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى ، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس.

وقيل : إنما أخذ الله الميثاق من النبيين في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يبين بعضهم لبعض صفة محمد وفضله ، وهو قول علي وابن عباس وقتادة والسدي. وقال علي بن أبي طالب : ما بعث الله نبيا ـ آدم فمن بعده ـ إلا أخذ عليه العهد في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخذ هو العهد على قومه ليؤمنن به ، ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه. وقيل : إن المراد من الآية أن الأنبياء عليهم‌السلام كانوا يأخذون الميثاق على أممهم بأنه إذا بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤمنون به وينصرونه ـ وهذا قول كثير من المفسرين ـ والمراد من قوله : (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمراد بكونه مصدقا لما معهم هو أن كيفية أحواله مذكورة في التوراة والإنجيل ، فلما ظهر على أحوال مطابقة لما كان

١٣٧

مذكورا في تلك الكتب كان نفس مجيئه تصديقا لما كان معهم. (قالَ) الله تعالى لهم : (أَأَقْرَرْتُمْ) بالإيمان به والنصرة له (وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) أي قبلتم على ما قلت عهدي (قالُوا) أي النبيون : (أَقْرَرْنا) بذلك. (قالَ) الله تعالى : (فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٨١) أي فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار وأنا على إقراركم وإشهاد بعضكم بعضا من الشاهدين (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٨٢) أي من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول بنصرته بعد ما تقدم من هذه الدلائل كان من الخارجين عن الإيمان (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٨٣) والوجه في هذه الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكورا في كتبهم وهم كانوا عارفين بذلك فقد كانوا عالمين بصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النبوة فلم يبق لكفرهم سبب إلا مجرد العداوة والحسد ، فصاروا كإبليس الذي دعاه الحسد إلى الكفر ، فأعلمهم الله أنهم متى كانوا كذلك كانوا طالبين دينا غير دين الله ، ومعبودا سوى الله تعالى ، ثم بيّن أن الإعراض عن حكم الله تعالى مما لا يليق بالعقلاء فقال : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي لجلال الله تعالى لا لغيره انقاد في طرفي وجوده وعدمه ، لأن كل ما سوى الله ممكن لذاته وكل ممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه سواء كان عقلا أو نفسا ، أو روحا أو جسما أو جوهرا ، أو عرضا ، أو فاعلا أو فعلا. ونظير هذه الآية في الدلالة على هذا المعنى قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرعد : ١٥] فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعا فيما يتعلق بالدين وينقادون له كرها فيما يخالف طباعهم من الفقر والمرض والموت وما أشبه ذلك. أما الكافرون فهم منقادون لله تعالى كرها على كل حال لأنهم لا ينقادون فيما يتعلق بالدين ويخضعون له تعالى في غير ذلك كرها لأنه لا يمكنهم دفع قضائه تعالى وقدره. وأيضا كل الخلق منقادون لإلهيته تعالى طوعا بدليل قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] ومنقادون لتكاليفه تعالى وإيجاده للآلام كرها ، ثم الهمزة للاستفهام التوبيخي وموضعها لفظة يبغون ، والتقدير : أيبغون غير دين الله لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال الحوادث. وقرأ حفص عن عاصم «يبغون» و «يرجعون» بالياء على الغيبة فيهما. أي إنما ذكر الله تعالى حكاية أخذ الميثاق حتى يبين أن اليهود والنصارى يلزمهم الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما أصروا على كفرهم قال تعالى على جهة الاستنكار : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ). وقرأ أبو عمرو «تبغون» بالتاء خطابا لليهود وغيرهم من الكفار ، و «يرجعون» بالياء ليرجع إلى جميع المكلفين المذكورين في قوله تعالى : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب فيهما لأن ما قبلهما خطاب كقوله تعالى : (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ) وأيضا فلا يبعد أن يقال للمسلم والكافر : أفغير دين الله تبغون مع علمكم بأنه أسلم له تعالى من في السموات والأرض وأن مرجعكم إليه. وهو كقوله تعالى : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ

١٣٨

تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) [آل عمران : ١٠١] ولما ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة أنه إنما أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول الذي يأتي مصدقا لما معهم بين الله تعالى من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كونه مصدقا لما معهم فقال : (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) وهو القرآن (وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) من الصحف. والمراد بالأسباط أحفاد يعقوب وأبناؤه الاثنا عشر (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات الظاهرة بأيديهما (وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) من الكتب والمعجزات (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) أي نقرّ بأنهم كانوا بأسرهم على دين واحد في الدعوة إلى الله وفي الانقياد لتكاليف الله ولا نكفر بأحد منهم كما فعل اليهود والنصارى (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٨٤) أي مستسلمون لأمر الله بالرضا وترك المخالفة لا لسمعة ورياء وطلب مال وتلك صفة المؤمنين بالله والكافرون يوصفون بالمحاربة لله ، ولما قال تعالى : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) بين أن الدين ليس إلا الإسلام فقال : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ) أي غير التوحيد والانقياد لحكم الله (دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٨٥) بحرمان الثواب وحصول العقاب ولحوق التأسف على ما فاته في الدنيا من العمل الصالح ، وعلى ما تحمله من التعب في الدنيا في تقرير الدين الباطل. ولفظ «دينا» إما مفعول و «غير الإسلام» حال منه مقدم عليه أو تمييز أو بدل من غير (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا) أي كيف يخلق الله فيهم المعرفة والهداية وهم قصدوا تحصيل الكفر (بَعْدَ إِيمانِهِمْ) بالقلب (وَشَهِدُوا) أي والحال هم قد أقروا باللسان (أَنَّ الرَّسُولَ) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) أي الحجج الظاهرة على صدق النبي (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٨٦) أي الكافرين الأصليين والمرتدين. وهذه الآية نزلت في شأن الذين ارتدوا ولحقوا بمكة ، وهم اثنا عشر رجلا ، منهم أبو عامر الراهب والحارث بن سويد بن الصامت ، ووضوح بن الأسلت ، وطعيمة بن بيرق. كما أخرجه عكرمة وابن عساكر. (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٨٧) فإن لعنة الله هي الإبعاد من الجنة وإنزال العقوبة ، واللعنة من الملائكة والناس هي بالقول وكل ذلك مستحق لهم بسبب كفرهم ، فصلح أن يكون جزاء لذلك وجميع الخلق يلعنون المبطل والكافر ولكنه يعتقد في ذلك أنه ليس بمبطل ولا بكافر فإذا لعن الكافر وهو في علم الله كافر فقد لعن نفسه وإن كان لا يعلم ذلك. (خالِدِينَ فِيها) أي اللعنة فلا تزال تلعنهم الملائكة والمؤمنون ومن معهم في النار فلا يخلو شيء من أحوالهم من أن يلعنهم لا عن من هؤلاء (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (٨٨) أي لا يؤخر عذابهم من وقت إلى وقت (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) من الكفر (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي الارتداد (وَأَصْلَحُوا) باطنهم وظاهرهم بالعمل الصالح (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لقبائحهم في الدنيا بالستر (رَحِيمٌ) (٨٩) في الآخرة بالعفو. نزلت هذه الآية في شأن الحرث بن سويد وهو رجل من الأنصار فإنه لما لحق مكة مرتدا ندم على ردته فأرسل إلى قومه بالمدينة أن يسألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل

١٣٩

لي من توبة؟ ففعلوا فأنزل الله هذه الآية فبعث إليه أخوه الجلاس مع رجل من قومه فأقبل إلى المدينة ، وتاب على يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبل الرسول توبته وحسن إسلامه (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله (بَعْدَ إِيمانِهِمْ) بالله (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) أي ثم أصروا على الكفر (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) ما أقاموا على ذلك. قال القاضي والقفال وابن الأنباري : لما قدم الله تعالى ذكر من كفر بعد الإيمان وبيّن أنه أهل اللعنة إلا أن يتوب. ذكر في هذه الآية أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإنها تصير غير مقبولة ، وكأنها لم تكن. والتقدير إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) (٩٠) على سبيل الكمال عن الهدى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله والرسول (وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) بالله والرسول (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ) أي مقدار ما يملأ الأرض مشرقها ومغربها (ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ).

قال الزجاج : إن «الواو» للعطف. والتقدير لو تقرب إلى الله في الدنيا بملء الأرض ذهبا لم ينفعه ذلك مع كفره ، ولو افتدى من العذاب في الآخرة بملء الأرض ذهبا لم يقبل منه. أو المراد بـ «الواو» التعميم في الأحوال كأنه قيل : لن يقبل من الكافر في جميع الأحوال في الآخرة ولو في حال افتدائه نفسه في الآخرة (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٩١) في دفع العذاب عنهم أو في تخفيفه (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) أي الثواب والجنة أو لن تبلغوا إلى التوكل والتقوى (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) من أموالكم وعملكم وجاهكم في معاونة الناس وبدنكم في طاعة الله ومهجتكم في سبيله (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) تريدون به وجه الله أو مدحة الناس (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٩٢) هذا تعليل للجواب المحذوف أي فيجازيكم بحسبه جيدا كان أو رديئا فإنه تعالى عالم بكل شيء تنفقونه من ذاته وصفاته علما كاملا بحيث لا يخفى عليه شيء (كُلُّ الطَّعامِ) أي كل طعام حلال على محمد وأمته (كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي كان حلالا أكله على أولاد يعقوب (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ) أي يعقوب (عَلى نَفْسِهِ) بالنذر (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) على موسى وذلك بعد إبراهيم بألف سنة.

روى ابن عباس أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن يعقوب مرض مرضا شديدا فنذر لئن عافاه الله ليحرمن أحب الطعام والشراب عليه ، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها» (١). قال الأصم : لعل نفسه كانت مائلة إلى أكل تلك الأنواع فامتنع من أكلها قهرا للنفس وطلبا لمرضاة الله تعالى ـ كما يفعله كثير من الزهاد ـ فعبّر عن ذلك الامتناع بالتحريم. وروي أن اليهود قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك تدّعي أنك على ملة إبراهيم فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن

__________________

(١) رواه أحمد في (م ١ / ص ٢٧٣).

١٤٠