مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن عمر نووي الجاوي


المحقق: محمّد أمين الضنّاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

المشركين تقصدون إلا وجه الله. فقد علم الله هذا من قلوبكم فأنفقوا عليهم إذا كنتم تبتغون بذلك وجه الله في صلة رحم وسد خلة مضطر ، وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) أي من مال على الفقراء (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي يوفي إليكم ثواب ذلك في الآخرة (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (٢٧٢) أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) أي ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء الذين حبسوا أنفسهم ووقفوها على الجهاد ، لأن الجهاد كان واجبا في ذلك الزمان. نزلت هذه الآية في حق فقراء المهاجرين من قريش ، وكانوا نحو أربعمائة ، وهم أصحاب الصفة. لم يكن لهم مسكن ولا عشائر بالمدينة ، وكانوا ملازمين المسجد ويتعلمون القرآن ويصومون ويخرجون في كل غزوة ولا يستطيعون سفرا في الأرض ، ثم عدم الاستطاعة للسير إما لاشتغالهم بصلاح الدين وبأمر الجهاد فذلك يمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة ، وإما لخوفهم من الأعداء كما قاله قتادة وابن زيد لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة ، وكانوا متى وجدوهم قتلوهم فذلك يمنعهم من السفر ، وإما لمرضهم بالجروح كما قاله سعيد بن المسيب ولعجزهم لفقرهم كما قاله ابن عباس وذلك يمنعهم من السفر فحث الله عليهم الناس فكان من عنده فضل أتاهم به إذا أمسى (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أي يظنهم من لم يختبر أمرهم أغنياء لإظهارهم التجمل وتركهم المسألة (تَعْرِفُهُمْ) أيها المخاطب (بِسِيماهُمْ) أي بعلامتهم من الهيبة ووقع في قلوب الخلق وآثار الخشوع في الصلاة فكل من رآهم تواضع لهم.

روي أنهم كانوا يقومون الليل للتهجد ويحتطبون بالنهار للتعفف (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) أي لا سؤال لهم أصلا فلا يقع منهم إلحاف أي كثرة التلطف وملازمة المسؤول أي إنهم سكتوا عن السؤال لكنهم لا يضمون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف بل يزينون أنفسهم عند الناس ويتجملون بهذا الخلق ، ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليه إلا الخالق. والمراد بقوله تعالى : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) التنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافا. عن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه : إن الله يحب العفيف المتعفف ويبغض الفاحش البذي السآل الملحف الذي إن أعطي كثيرا أفرط في المدح ، وإن أعطي قليلا أفرط في الذم. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) أي من مال (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٢٧٣) فيجازيكم على ذلك أحسن جزاء وهذا يجري مجرى ما إذا قال السلطان العظيم لعبده الذي استحسن خدمته ما يكفيك بأن يكون علمي شاهدا بكيفية طاعتك وحسن خدمتك فإن هذا أعظم وقعا مما إذا قال له : إن أجرك واصل إليك (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) في الصدقة (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) في الجنة (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) بالدوام (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢٧٤) إذا حزن غيرهم.

١٠١

قيل : لما نزل قوله تعالى للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله بعث عبد الرحمن بن عوف إلى أصحاب الصفة بدنانير وبعث علي رضي‌الله‌عنه بوسق من تمر ليلا فنزلت هذه الآية. وقال ابن عباس : إن عليا رضي‌الله‌عنه ما يملك غير أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا ، وبدرهم سرا ، وبدرهم علانية. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما حملك على هذا؟» فقال : أن أستوجب ما وعدني ربي. فقال : «لك ذلك». فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل : نزلت في شأن أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه حين تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار ، وعشرة في السر ، وعشرة في العلانية. وأخرج ابن المنذر عن ابن المسيب أنها نزلت في عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان.

وقال الأوزاعي نزلت في الذين يربطون الخيل للجهاد وينفقون عليها (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) أي يأخذونه استحلالا (لا يَقُومُونَ) من قبورهم إذا بعثوا (إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) أي إلا قياما كقيام الذي يتخبله الشيطان من إصابة الشيطان بالجنون في الدنيا ، أي أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا ، وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا ، فيعرفه أهل الموقف بتلك العلامة أنه آكل الربا في الدنيا فعلى هذا معنى الآية أنهم يقومون مجانين كمن أصابه الشيطان بالجنون. (ذلِكَ) أي كون التخبل علامة آكل الربا في الآخرة (بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أي إنما الزيادة في البيع كالزيادة في الربا ، أي ذلك العذاب بسبب أنهم نظموا الربا والبيع في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح ، فاستحلوه استحلاله وقالوا : يجوز بيع درهم بدرهمين كما يجوز بيع ما قيمته درهم بدرهمين ، بل جعلوا الربا أصلا في الحل وقاسوا به البيع مع وضوح الفرق بينهما فإن أحد الدرهمين في الأول ضائع حتما وفي الثاني منجبر بمساس الحاجة إلى السلعة أو بتوقع رواجها. (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) أي أحل الله لكم الأرباح في التجارة بالبيع والشراء وحرم الربا الذي هو زيادة في المال لأجل تأخير الأجل (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) أي زجر وتخويف عن الربا (مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى) أي امتنع عن أخذه (فَلَهُ ما سَلَفَ).

قال السدي : أي له ما أكل من الربا وليس عليه ردما سلف فأما ما لم يقض بعد النهي فلا يجوز له أخذه وإنما رأس ماله فقط (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) أي يجازيه على انتهائه عن أخذه إن كان عن قبول الموعظة وصدق النية (وَمَنْ عادَ) إلى تحليل الربا بعد التحريم (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) أي ملازموها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٧٥) أي ماكثون أبدا (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) أي يهلك المال الذي دخل فيه في الدنيا والآخرة.

قال ابن عباس : إن الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهادا ولا حجا ولا صلة رحم. (وَيُرْبِي

١٠٢

الصَّدَقاتِ) أي يبارك في المال الذي أخرجت منه في الدنيا والآخرة وفي الحديث : «إن الملك ينادي كل يوم اللهم يسر لكل منفق خلفا ولممسك تلفا» (١). (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ) أي جاحد بتحريم الربا (أَثِيمٍ) (٢٧٦) أي فاجر بأخذه مع اعتقاد التحريم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسله وكتبه وبتحريم الربا (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي فيما بينهم وبين ربهم وتركوا الربا (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي أتموا الصلوات الخمس بما يجب فيها (وَآتَوُا الزَّكاةَ) أي أعطوا زكاة أموالهم (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) في الجنة (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من مكروه آت (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢٧٧) على محبوب فات. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أي قوا أنفسكم عقابه (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) أي اتركوا طلب ما بقي مما زاد على رؤوس أموالكم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢٧٨) أي مصدقين بقلوبكم في تحريم الربا (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) ما أمرتم به بأن لم تتركوا الربا (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي فاستعدوا للعذاب من الله في الآخرة بالنار ، وللعذاب من رسوله في الدنيا بالسيف (وَإِنْ تُبْتُمْ) من معاملة الربا (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) أي أصولها دون الزيادة (لا تَظْلِمُونَ) الغريم بطلب الزيادة على رأس المال (وَلا تُظْلَمُونَ) (٢٧٩) أي بنقصان رأس المال وبالمطل (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) أي وإن وقع غريم من غرمائكم ذو حالة يتعسر فيها وجود المال فيجب عليكم إمهاله إلى وقت يسار وسعة. (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أي تصدقكم على المعسر برءوس أموالكم خير لكم من الأخذ والتأخير لأنه حصل لكم الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٨٠) فضل التصدق على الأنظار والقبض (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) أي إلى حسابه لأعمالكم وهو يوم القيامة (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي توفى فيه كل نفس برة وفاجرة جزاء ما عملت من خير أو شر (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٨١) بنقص حسنة أو زيادة سيئة. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله والرسول (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) أي إذا داين بعضكم بعضا ، وعامله نسيئة معطيا أو آخذا إلى وقت معلوم بالأيام ، أو الأشهر ونحوهما مما يرفع الجهالة لا بالحصاد ونحوه مما لا يرفعها ، فاكتبوا الدين بأجله لأنه أوثق وأرفع للنزاع. والأكثرون على أن هذه الكتابة أمر استحباب ، فإن ترك فلا بأس وهو أمر تعليم ترجع فائدته إلى منافع الخلق في دنياهم ، فلا يثاب عليه المكلف إلا إن قصد الامتثال.

قال المفسرون : المراد بالمداينة السلم ، فالله تعالى لما منع الربا في الآية المتقدمة أذن في السلم في جميع هذه الآية ، مع أن جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم ولهذا قال بعض العلماء : «لا لذة ولا منفعة يوصل إليها بالطريق الحرام إلا وضع الله تعالى لتحصيل مثل

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الزكاة ، باب : قول الله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) إلخ ، وأحمد في (م ٢ / ص ٣٠٦).

١٠٣

تلك اللذة طريقا حلالا وسبيلا مشروعا». والقرض غير الدين ، لأن القرض أن يقرض الإنسان دراهم أو دنانير ، أو حبا أو تمرا أو ما أشبه ذلك ، ويسترد مثله ولا يجوز فيه الأجل. والدين يجوز فيه ذلك فذكر الأجل في القرض إن كان لغرض المقرض أفسده وإلا فلا يفسده ولا يجب الوفاء به لكنه يستحب.

قال ابن عباس : إن هذه الآية نزلت في السلف لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»(١).

وقال أكثر المفسرين : إن البياعات على أربعة أوجه :

أحدها : بيع العين بالعين وذلك ليس بمداينة ألبتة.

والثاني : بيع الدين بالدين. وهو باطل فلا يكون داخلا تحت هذه الآية.

وبيع العين بالدين : وهو إذا باع شيئا بثمن مؤجل.

وبيع الدين بالعين : وهو المسمى بالسلم وكلاهما داخلان تحت هذه الآية. (وَلْيَكْتُبْ) كتاب الدين (بَيْنَكُمْ) أي بين الدائن والمديون (كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) أي بحيث لا يزيد في المال والأجل ولا ينقص في ذلك (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ) أي ولا يمتنع أحد من أن يكتب كتاب الدين بين الدائن والمديون على طريقة ما علمه الله كتابة الوثائق فليكتب تلك الكتابة التي علمه الله إياها. (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) أي وليبين المديون للكاتب ما عليه من الدين لأنه المشهود عليه فلا بد أن يكون هو المقر (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) أي وليخش المديون ربه بأن يقر بمبلغ المال الذي عليه ولا ينقص مما عليه من الدين شيئا في إلقاء الألفاظ على الكاتب (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) أي فإن كان المديون ناقص العقل مبذرا أو عاجزا عن سماع الألفاظ للكاتب لصغر أو كبر مضعف للعقل ، أو لا يحسن الإسماع بنفسه على الكاتب ـ لخرس أو جهل باللغة أو بما عليه ـ فليقر على

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب المساقاة ، باب : ١٢٨ ، والبخاري في كتاب السلم ، باب : السلم إلى أجل معلوم ، وأبو داود في كتاب البيوع ، باب : في السلف ، والترمذي في كتاب البيوع ، باب : ٦٨ ، والنّسائي في كتاب البيوع ، باب : السلف في الثمار ، وابن ماجة في كتاب التجارة ، باب : السلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ، والدارمي في كتاب البيوع ، باب : في السلف ، وأحمد في (م ١ / ص ٢١٧).

١٠٤

الكاتب ولي كل واحد من هؤلاء الثلاثة. والمراد بالولي هو الولي لغة وهو من له ولاية عليه بأي طريق كان كوصي وقيّم ومترجم (بِالْعَدْلِ) أي بالصدق من غير زيادة ونقص. (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) أي وأشهدوا على الدين شاهدين من الرجال البالغين الأحرار المسلمين. وعند شريح وابن سيرين وأحمد تجوز شهادة العبيد. وأجاز أبو حنيفة شهادة الكفار بعضهم على بعض (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) أي فإن لم يكن الشاهدان رجلين بأن لم يقصد إشهادهما فرجل وامرأتان كائنون (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ) لدينه وعدالته (مِنَ الشُّهَداءِ) يشهدون. وهذا تفسير للخير. (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى).

قرأ حمزة «أن تضل» بكسر «إن» ، «وتذكر» بالرفع والتشديد. وقرأ نافع وعاصم والكسائي «فتذكر» بالتشديد والنصب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف والنصب. أما سائر القراء فقرأوا بنصب «أن» على حذف لام التعليل ، أي وإنما اشترط التعدد في النساء لأجل أن تنسى إحدى المرأتين الشهادة لنقص عقلهن ، فتذكر إحداهما الذاكرة للشهادة المرأة الأخرى الناسية لها (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) أي ولا يمتنع الشهداء إذا دعوا إلى تحمل الشهادة وأدائها عند الحكام ، فيحرم الامتناع عليهم ، لأن تحمل الشهادة وفرض كفاية مطلقا ، والأداء كذلك إن زاد المتحملون على من يثبت بهم الحق وإلا ففرض عين. (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) أي ولا تملوا أن تكتبوا الدين لكثرة وقوع المداينة على أي حال كان الدين قليلا أو كبيرا ، وعلى أي حال كان الكتاب مختصرا ، أو مشبعا حال كون الدين مستقرا في ذمة المديون إلى وقت حوله الذي أقر به المديون. أي فاكتبوا الدين بصفة أجله ولا تهملوا الأجل في الكتابة وقوله تعالى : (وَلا تَسْئَمُوا) معطوف على قوله تعالى : (فَاكْتُبُوهُ). (ذلِكُمْ) أي الكتابة للدين (أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) أي أعدل في حكم الله (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) أي أبين للشاهد بالشهادة إذا نسي (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) أي وأقرب إلى انتفاء شككم في قدر الدين وأجله (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ).

قرأ عاصم «تجارة» بالنصب على أنه خبر «تكون». والباقون بالرفع على أنه اسم «تكون» والخبر «تديرونها» ، و «إلا» إما استثناء متصل راجع إلى قوله تعالى : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ). والتقدير إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلا أن يكون الأجل قريبا وهو المراد من التجارة الحاضرة ، وإما استثناء منقطع. فالتقدير : لكنه إذا كانت تجارتكم ومداينتكم تجارة حالة تتعاطونها يدا بيد ، أو التقدير لكن إذا كانت تجارة حاضرة مقبوضة بينكم ولا أجل فيها (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) أي ليس عليكم مضرة في ترك الكتابة في المداينة الحاضرة كأن باع ثوابا بدرهم في الذمة بشرط أن يؤدى الدرهم في هذه الساعة ، أي لا بأس بعدم الكتابة في ذلك

١٠٥

لبعده عن التنازع والنسيان. (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) بالأجل (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ) بالكتابة (وَلا شَهِيدٌ) بالشهادة. وهذا إما مبني للفاعل فيكون نهيا للكاتب والشهيد عن إضرار من له الحق ، وهو قول أكثر المفسرين والحسن وطاوس وقتادة ، ويدل على ذلك قراءة عمر رضي‌الله‌عنه ولا يضارر بالإظهار والكسر ، واختار الزجاج هذا القول لقوله تعالى : (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) [البقرة : ٢٨٢] وذلك لأن اسم الفسق بمن يحرف الكتابة وبمن يمتنع عن الشهادة حتى يبطل الحق بالكلية ولأنه تعالى قال فيمن يمتنع عن الشهادة : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة : ٢٨٣] ـ والآثم والفاسق متقاربان ـ وإما مبني للمفعول فيكون نهيا لصاحب الحق عن إضرار الكاتب والشهيد ، كأنه يكلفهما ما لا يليق في الكتابة والشهادة ولا يعطي الكاتب جعله ولا الشهيد مؤنة مجيئه حيث كان فإن لهما الجعل ، ولا يكلفان الكتابة والشهادة مجانا ، وهو قول ابن مسعود وعطاء ومجاهد ، ويدل على ذلك قراءة ابن عباس «ولا يضارر» بالإظهار والفتح ، وهذا لو كان نهيا للكاتب والشهيد لقيل : وإن تفعلا فإنه فسوق بكما ، ولأن دلالة الكلام من أول الآيات إنما هو في المكتوب له والمشهود له. وإذا كان هذا النهي متوجها للذين يقدمون على المداينة فالمنهيون عن الضرار هم (وَإِنْ تَفْعَلُوا) ما نهيتم عنه من الضرير (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) أي فإن فعلكم ذلك معصية منكم وخروج عن طاعة الله (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما حذر منه وهو هنا المضارة. أو المعنى اتقوا الله في جميع أوامره ونواهيه (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) ما يكون إرشادا واحتياطا في أمر الدنيا كما يعلمكم ما يكون إرشادا في أمر الدين (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ) من مصالح الدنيا والآخرة (عَلِيمٌ) (٢٨٢) فلا يخفى عليه حالكم (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ).

قرأ ابن كثير وأبو عمرو «فرهن» بضم الراء والهاء أو سكونه. والباقون «فرهان» بكسر الراء وفتح الهاء مع المد و «على» بمعنى في أو بمعنى إلى. أي وإن كنتم مسافرين أو متوجهين إلى السفر ، ولم تجدوا كاتبا أو آلة الكتابة في المدينة فرهن مقبوضة بدل من الشاهدين ، أو يقال في الوثيقة رهان مقبوضة (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ) أي الدائن (بَعْضاً) أي المديون بالدين بلا رهن لحسن ظنه به (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ) بالدين (أَمانَتَهُ) أي حق صاحبه (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) أي وليخش المديون ربه في أداء الدين عند حلول الأجل من غير مماطلة ولا إنكار بل يعامل الدائن معاملة حسنة كما أحسن ظنه فيه (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) عند الحكام بإنكار العلم بتلك الواقعة أو بالامتناع من أداء الشهادة عند الحاجة إلى إقامتها. (وَمَنْ يَكْتُمْها) أي الشهادة (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) أي فاجر قلبه (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من كتمان الشهادة وإقامتها ومن الخيانة في الأمانة وعدمها (عَلِيمٌ) (٢٨٣) فيجازيكم على ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر. (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وملكا من الخلق والعجائب يأمر عباده بما يشاء (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من العزم على السوء بأن تظهروه للناس بالقول أو بالفعل (أَوْ تُخْفُوهُ) بأن تكتموه منهم (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) يوم القيامة. فالخواطر

١٠٦

الحاصلة في القلب على قسمين : ما يوطّن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود ، وما لا يكون كذلك بل تكون أمورا خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس. فالقسم الأول يكون مؤاخذا به ، والثاني لا يكون مؤاخذا به (فَيَغْفِرُ) بفضله (لِمَنْ يَشاءُ) مغفرته (وَيُعَذِّبُ) بعدله (مَنْ يَشاءُ) تعذيبه وقد يغفر لمن يشاء الذنب العظيم ، وقد يعذب من يشاء على الذنب الحقير. لا يسأل عما يفعل.

قرأ عاصم وابن عامر «فيغفر» ، «ويعذب» بالرفع. والباقون بالجزم. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من المغفرة والعذاب (قَدِيرٌ) (٢٨٤) (آمَنَ الرَّسُولُ) أي صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) أي من القرآن.

قال الزجاج : لما ذكر الله تعالى في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة والصوم والحج ، وذكر الطلاق والإيلاء والحيض والجهاد ، وقصص الأنبياء ، ختم السورة بذكر تصديق نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بجميع ذلك ، انتهى. (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌ) أي كل واحد منهم (آمَنَ بِاللهِ) أي بوجوده وبصفاته وبأفعاله وبأحكامه وبأسمائه (وَمَلائِكَتِهِ) أي بوجودها وبأنهم معصومون مطهرون يخافون ربهم من فوقهم وأنهم وسائط بين الله وبين البشر. وأن كتب الله المنزّلة إنما وصلت إلى الأنبياء بواسطة الملائكة (وَكُتُبِهِ). وقرأ حمزة والكسائي بكسر الكاف وفتح التاء مع المد بأن يعلم أن هذه الكتب وحي من الله تعالى إلى رسله ، وأنها ليست من باب الكهانة ولا من باب السحر ولا من باب إلقاء الشياطين والأرواح الخبيثة وبأن يعلم أن الوحي بهذه الكتب ، فالله تعالى لم يمكن أحدا من الشياطين من إلقاء شيء من ضلالاتهم في أثناء هذا الوحي الظاهر. وبأن يعلم أن هذا القرآن لم يغيّر ولم يحرّف ، فمن قال : إن ترتيب القرآن على هذا الوجه شيء فعله عثمان رضي‌الله‌عنه فقد أخرج القرآن عن كونه حجة وهو قول فاسد. وبأن يعلم أن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه وأن محكمه يكشف عن متشابهه (وَرُسُلِهِ) بأن يعلم كونهم معصومين من الذنوب. وبأن يعلم أن النبي أفضل ممن ليس بنبي وأن الرسل أفضل من الملائكة. وأن يعلم أن بعضهم أفضل من البعض (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) أي يقول المؤمنون لا نكفر بأحد من رسله بل نؤمن بصحة رسالة كل واحد منهم (وَقالُوا) أيضا (سَمِعْنا) قول ربنا (وَأَطَعْنا) أمر ربنا (غُفْرانَكَ) أي نسألك غفرانك من ذنوبنا (رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (٢٨٥) أي المرجع بعد الموت (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً) من الطاعة (إِلَّا وُسْعَها) أي طاقتها (لَها ما كَسَبَتْ) أي ثوابه من الخير (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) أي وزره من الشرفان.

قلنا : إن هذا من كلام المؤمنين فوجه النظم إنهم لما قالوا : سمعنا وأطعنا فكأنهم قالوا : كيف لا نسمع ولا نطيع ، وإنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا! فإذا كان هو تعالى بحكم

١٠٧

الرحمة الإلهية لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهين فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين مطيعين. وإن قلنا : إن هذا من كلام الله تعالى فوجه النظم أنهم لما قالوا : سمعنا وأطعنا ، ثم قالوا بعده : غفرانك ربنا ، دل ذلك على أن قولهم : غفرانك ، طلب للمغفرة مما يصدر عنهم من وجوه التقصير منهم على سبيل العمد ، فلما كان قولهم غفرانك طلبا للمغفرة من ذلك التقصير فلا شك في أن الله تعالى خفف عنهم ذلك وقال : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها). والمعنى أنكم إذا سمعتم وأطعتم ولم تتعمدوا التقصير ، فلو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه فإن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها. وبالجملة فهذا إجابة لهم من الله في دعائهم بقولهم غفرانك ربنا ، اه. (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) أي يا ربنا لا تعاقبنا (إِنْ نَسِينا) طاعتك (أَوْ أَخْطَأْنا) في أمرك (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) أي تكليفا بالأمور الشاقة. (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) من بني إسرائيل أي لا تشدد علينا في التكاليف كما شددت على من قبلنا من اليهود.

قال المفسرون : إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة في اليوم والليلة ، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة. ومن أصاب ثوبه نجاسة أمر بقطعها. وكانوا إذا نسوا شيئا عجلت لهم العقوبة في الدنيا ، وكانوا إذا أتوا بخطيئة حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالا لهم (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ) أي قوة (لَنا بِهِ) من البلاء والعقوبة. أي ولا تحمل علينا أيضا ما لا راحة لنا فيه من الاستكراه. (وَاعْفُ عَنَّا) أي امح آثار ذنوبنا (وَاغْفِرْ لَنا) أي استر عيوبنا ولا تفضحنا بين عبادك. (وَارْحَمْنا) أي تعطّف بنا وتفضّل علينا. (أَنْتَ مَوْلانا) أي أنت سيدنا وناصرنا ونحن عبيدك ويقال : واعف عنا من المسخ كما مسخت قوم عيسى واغفر لنا من الخسف كما خسفت بقارون ، وارحمنا من القذف كما قذفت قوم لوط. فلما دعوا بهذا الدعاء رفع الله عنهم ذنوب حديث النفس والنسيان والخطأ والاستكراه وعفا عنهم من الخسف والمسخ والقذف. (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٢٨٦) أي انصرنا عليهم في محاربتنا معهم ، وفي مناظرتنا بالحجة معهم ، وفي إعلاء دولة الإسلام على دولتهم. ولما مدح الله تعالى المتقين في أول السورة بيّن في آخر السورة أنهم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) وهذا هو المراد بقوله تعالى هناك : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ثم قال هاهنا : (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) هو المراد بقوله تعالى هناك : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ثم قال هاهنا : (غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) وهو المراد بقوله تعالى هناك : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) ثم حكى الله تعالى عنهم هاهنا كيفية تضرعهم إلى ربهم في قولهم : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) إلى آخر السورة وهو المراد بقوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فانظر كيف حصلت الموافقة بين أول السورة وآخرها.

١٠٨

سورة آل عمران

مدنية ، مائتان آية ، ثلاثة آلاف وخمسمائة وثلاث كلمات

أربعة عشر ألفا وتسعمائة وسبعة وثمانون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُ) أي الذي لا يموت ولا يزول (الْقَيُّومُ) (٢) أي القائم بذاته والقائم بتدبير خلقه.

قال الكلبي والربيع بن أنس ، ومحمد بن إسحاق : نزلت هذه الآيات في شأن وفد نصارى نجران ، وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودخلوا المسجد حين صلّى العصر ، عليهم ثياب الحبرات ، وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم ، وثلاثة منهم كانوا أكابر القوم :

أحدهم : أميرهم واسمه عبد المسيح.

والثاني : مشيرهم وذو رأيهم واسمه الأيهم.

والثالث : حبرهم يقال له : أبو حارثة بن علقمة. فكلم الأيهم وعبد المسيح فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أسلما» قالا قد أسلمنا قبلك. قال : «كذبتما يمنعكما من الإسلام ثلاثة أشياء : إثباتكما لله ولدا ، وعبادتكم للصليب ، وأكلكما الخنزير». قالوا : إن لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه! وخاصموه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عيسى. فقال لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟». قالوا : بلى. قال : «ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟». قالوا : بلى. قال : «ألستم تعلمون أن ربنا قيّم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟». قالوا : بلى. قال : «فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟». قالوا : لا. قال : «ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟». قالوا : بلى. قال : «فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علمه الله؟». قالوا : لا. قال : «فإن ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف يشاء فهل تعلمون ذلك؟» قالوا : بلى. قال : «أ لستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟». قالوا : بلى ، قال : «ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ، ثم وضعته كما تضع المرأة ، ثم غذي

١٠٩

كما يغذى الصبي ، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟» قالوا : بلى. قال : «وكيف يكون هذا كما زعمتم؟!» (١). فسكتوا ، فأنزل الله تعالى من ابتداء السورة إلى آية المباهلة تثبيتا لما احتج به النبي عليهم (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن.

وقرئ قراءة شاذة بتخفيف نزل ورفع الكتاب (بِالْحَقِ) أي بالعدل في أحكامه أو بالصدق في أخباره وفي وعده ووعيده ، أو بالحجج المحققة أنه من عند الله تعالى ، أو بالقول الفصل وليس بالهزل ولا بالمعاني الفاسدة المتناقضة. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي لما تقدمه من الكتب السالفة في الدعوة إلى الإيمان والتوحيد وتنزيه الله تعالى عما لا يليق بشأنه تعالى وفي الأمر بالعدل والإحسان ، وفي أنباء الأنبياء والأمم الخالية وفي بعض الشرائع. (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ) جملة على موسى بن عمران ، (وَالْإِنْجِيلَ) (٣) جملة على عيسى ابن مريم (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل تنزيل القرآن (هُدىً لِلنَّاسِ) أي حال كونهما هاديين من الضلالة ، أو أنزل هذه الكتب الثلاثة لهداية الناس (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) قيل : المراد الزبور فإنه مشتمل على المواعظ الداعية إلى الخير ، الزاجرة عن الشر ، الفارقة بين الحق والباطل ، ثم المختار عند الفخر الرازي أن المراد من الفرقان هو المعجزات التي قرنها تعالى بإنزال هذه الكتب الثلاثة لأنه لما أظهر الله تعالى تلك المعجزات على وفق دعوى الرسل حصلت المفارقة بين دعوى الصادق ودعوى الكاذب ، فالمعجزة هي الفرقان. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي القرآن وغيره كوفد بني نجران ونحوهم بأن كذبوا بالآيات الناطقة بالتوحيد والتنزيه المبشّرة بنزول القرآن ومبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) بسبب كفرهم بها (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي غالب لا يغلب (ذُو انْتِقامٍ) (٤) أي عقوبة عظيمة. فالعزيز إشارة إلى القدرة التامة على العقاب ، وذو الانتقام إشارة إلى كونه فاعلا للعقاب. فالأول صفة الذات ، والثاني صفة الفعل. (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) قصيرا أو طويلا ، حسنا أو قبيحا ، ذكرا أو أنثى ، سعيدا أو شقيا. وهذه الآية واردة في الرد على النصارى. وذلك أن النصارى ادعوا إلهية عيسى بأمرين : بالعلم والقدرة. فإن عيسى كان يخبر عن الغيوب فيقول لهذا : أنت أكلت في دارك كذا ، وصنعت في دارك كذا. وكان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا ، ثم إنه تعالى استدل على بطلان قولهم في إلهية عيسى وفي التثليث بقوله تعالى : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) فالإله يجب أن يكون حيا قيوما ، وعيسى لم يكن كذلك. فيلزم القطع بأنه لم يكن إلها. ولما قالوا : إن عيسى أخبر عن الغيوب فوجب أن يكون إلها ، فرد الله عليهم بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ). والمعنى لا يلزم من كونه عالما ببعض المغيبات أن يكون إلها

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٢ : ٣).

١١٠

لاحتمال أنه علم ذلك بتعليم الله تعالى له ذلك. ولما قالوا : إن عيسى كان يحيي الموتى فوجب أن يكون إلها ، فرد الله عليهم بقوله : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ). والمعنى إن حصول الإحياء على وفق قوله عليه‌السلام في بعض الصور لا يدل على كونه إلها لاحتمال أن الله تعالى أكرمه بذلك الإحياء إظهارا لمعجزته وإكراما له. ولما قالوا : يا أيها المسلمون أنتم توافقوننا على أن عيسى لم يكن له أب من البشر فوجب أن يكون ابنا لله ، فأجاب الله تعالى عن ذلك أيضا بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) فإن هذا التصوير لما كان من الله تعالى فإن شاء صوّر من نطفة الأب ، وإن شاء صوّره ابتداء من غير أب. ولما قالوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألست تقول : إن عيسى روح الله وكلمته؟ فهذا يدل على أنه ابن الله! فأجاب الله عن ذلك بأن هذا اللفظ من باب المتشابهات فوجب رده إلى التأويل وذلك هو المراد بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) فظهر بذلك المذكور أن قوله تعالى : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) إشارة إلى أن عيسى ليس بالإله ولا ابن الإله. وأما قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ) فهو جواب عن الشبهة المتعلقة بالعلم. وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ) جواب عن تمسكهم بقدرة عيسى على الإحياء ونحوه. لأنه لو قدر على الإحياء لقدر على الإماتة ، ولو قدر على الإماتة لأمات اليهود الذين قتلوه ـ وعلى زعم النصارى ـ فثبت أن حصول الإحياء في بعض الصور لا يدل على كونه إلها ، وهو جواب أيضا عن تمسكهم بأن من لم يكن له أب من البشر وجب أن يكون ابنا لله ، فكأنه تعالى يقول كيف يكون عيسى ولد الله وقد صوّره في الرحم والمصوّر لا يكون أبا للمصوّر. وأما قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) إلى آخر الآيات فهو جواب عن تمسكهم بما ورد في القرآن : أن عيسى روح الله وكلمته ، ثم إنه تعالى لما أجاب عن شبهتهم أعاد كلمة التوحيد زجرا لسائر النصارى عن قولهم بالتثليث فقال : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٦) فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة ، والحكيم إشارة إلى كمال العلم وهذا تثبيت لما تقدم من أن علم عيسى ببعض الغيوب وقدرته على الإحياء في بعض الصور لا يكفي في كونه إلها. فإن الإله لا بدّ وأن يكون كامل القدرة وهو العزيز وكامل العلم وهو الحكيم. (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) أي محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال ، قطعية الدلالة على المعنى المراد. (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي أصل في الكتاب وعمدة ترد إليها آيات متشابهات. ومثال المتشابه قوله تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) [الإسراء : ١٦]. فظاهر هذا الكلام أنهم يؤمرون بأن يفسقوا والمحكم قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) [الأعراف : ٢٨] ردا على الكفار فيما حكى عنهم وإذا فعلوا فاحشة قالوا : وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها والآية المتشابهة قوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧]. والآية المحكمة قوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا). [مريم : ٦٤] (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) أي وآيات أخر محتملات لمعان متشابهة لا يتضح

١١١

مقصودها لإجمال أو مخالفة ظاهرة إلا بنظر دقيق وتأمل أنيق (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي ميل عن الحق إلى الأهواء الباطلة (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) أي فيتعلقون بظاهر المتشابه من الكتاب (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أي طلب الفتنة في الدين ـ وهي الضلال عنه ـ فإنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين صار بعضهم مخالفا لبعض ، وذلك يفضي إلى الهرج والتقاتل (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أي وطلب تأويل المتشابه على ما ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان ، والمنصف يحمل الأمر في الآيات على أقسام ثلاثة :

أحدها : ما يتأكد ظاهرها بالدلائل العقلية فذلك هو المحكم حقا.

وثانيها : الذي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله تعالى غير ظاهره.

وثالثها : الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه فيكون من حقه التوقف فيه ، ويكون ذلك متشابها ، بمعنى أن الأمر اشتبه فيه ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر ، إلا أن الظن الراجح حاصل في إجرائها على ظواهرها (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) أي وما يعلم تأويل المتشابه حقيقة إلا الله وحده. ونقل عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أنه قال : تفسير القرآن على أربعة أوجه : تفسير لا يمكن لأحد جهله ، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها ، وتفسير يعرفه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى. (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) أي بالكتاب (كُلٌ) أي كل واحد من المحكم والمتشابه (مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) والراسخ في العلم : هو الذي عرف ذات الله وصفاته بالدلائل اليقينية القطعية ، وعرف أن القرآن كلام الله تعالى بالدلائل اليقينية ، وعرف أنه تعالى لا يتكلم بالباطل والعبث ، فإذا رأى شيئا متشابها ودل الدليل القطعي على أن الظاهر ليس مراد الله تعالى علم حينئذ قطعا أن مراد الله شيء آخر سوى ما دلّ عليه ظاهره ، ثم فوض تعيين ذلك المراد إلى علمه تعالى وقطع بأن ذلك المعنى على أي شيء كان فهو الحق والصواب ، لأنه علم أن ذلك المتشابه لا بدّ وأن يكون له معنى صحيح عند الله تعالى (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا) أي وما يتعظ بما في القرآن إلا ذوو العقول الكاملة الخالصة عن الركون إلى الأهواء الزائفة ـ وهذا مدح للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر ـ وهذه الآية دالة على علو شأن المتكلمين الذين يبحثون عن الدلائل العقلية ، ويتوسلون بها إلى معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ، ولا يفسرون القرآن إلا بما يطابق دلائل العقول ويوافق اللغة والإعراب ، ومن تكلم في القرآن من غير أن يكون متبحرا في علم الأصول وفي علم اللغة والنحو كان في غاية البعد عن الله تعالى. ولما آمن الراسخون في العلم بكل ما أنزل الله تعالى من المحكمات والمتشابهات تضرعوا إلى الله تعالى بقولهم : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) أي لا تمل قلوبنا عن دينك بعد إذ هديتنا لدينك أو يقال : يا ربنا لا تجعل

١١٢

قلوبنا مائلة إلى الباطل بعد أن تجعلها مائلة إلى الحق (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي نور الإيمان والتوحيد والمعرفة في القلب ، ونور الطاعة والعبودية والخدمة في الأعضاء ، وسهولة أسباب المعيشة من الأمن والصحة والكفاية في الدنيا ، وسهولة سكرات الموت عند الموت ، وسهولة السؤال والظلمة في القبر وغفران السيئات وترجيح الحسنات في القيامة. (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٨) لكل مطلوب فإن هذا الذي طلبته منك في هذا الدعاء عظيم بالنسبة إليّ لكنه حقير بالنسبة إلى كمال كرمك وغاية جودك ورحمتك. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك» (١). (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) أي يا ربنا إنك تجمع الناس للجزاء في يوم لا شك في وقوعه فجازنا فيه أحسن الجزاء (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٩) أي الوعد وهذا من بقية كلام الراسخين في العلم ، وذلك لأنهم لما طلبوا من ربهم أن يصونهم عن الزيغ وأن يخصهم بالهداية وأنواع الرحمة فكأنهم قالوا : ليس غرضنا من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقرضة وإنما غرضنا الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ونعلم أن وعدك بالجزاء والحساب ، والميزان والصراط والجنة والنار لا يكون خلفا ، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد ، ومن أعطيته الهداية والرحمة بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) أي إن الذين كفروا ككعب بن الأشرف وأصحابه وأبي جهل وأصحابه لن تنفعهم كثرة أموالهم وكثرة أولادهم. (مِنَ اللهِ) أي من عذاب الله أو عند الله (شَيْئاً).

وقيل : إن المراد بهؤلاء وفد نجران. وذلك لأن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه كرز : إني لأعلم أن محمدا رسول الله حقا وهو النبي الذي كنا ننتظره ، ولكنني إن أظهرت إيماني بمحمد أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال الكثير والجاه ، فالله تعالى بيّن أن أموالهم وأولادهم لا تدفع عذاب الله في الدنيا والآخرة. نعم إن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ (وَأُولئِكَ) المتصفون بالكفر (هُمْ وَقُودُ النَّارِ) (١٠) أي حطب النار الذي تسعر به (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) أي شأن هؤلاء في تكذيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كشأن آل فرعون في التكذيب بموسى (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من مكذبي الرسل كقوم هود وقوم صالح (كَذَّبُوا بِآياتِنا) وهي المعجزات. ومتى كذبوا بها فقد كذبوا بالأنبياء بلا شك (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي عاقبهم الله بتكذيبهم المعجزات الدالة على صدق الرسل. وإنما استعمل الأخذ في العقاب لأن من ينزل به العقاب يصير كالمأسور المأخوذ لا يقدر على التخلص (وَاللهُ شَدِيدُ) (الْعِقابِ) (١١) وعن سعيد بن جبير وعكرمة

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب القدر ، باب : ٧ ، وابن ماجة في المقدّمة ، باب : فيما أنكرت الجهمية ، وأحمد في (م ٢ / ص ٤).

١١٣

عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهم : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما غزا قريشا في بدر ورجع إلى المدينة جمع يهود بني قينقاع في سوق بني قينقاع وقال : «يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا يوم بدر فقد عرفتم أني نبيّ مرسل تجدون ذلك في كتابكم» (١). فقالوا : يا محمد لا تغرنك نفسك إن قتلت نفرا من قريش أغمارا لا يعرفون القتال لو قاتلتنا لعرفت فأنزل الله تعالى قوله هذا : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) هم يهود بني قينقاع (سَتُغْلَبُونَ) عن قريب في الدنيا وقد صدق الله تعالى وعده بقتل بني قريظة ، فقد قتل منهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في يوم واحد ستمائة جمعهم في سوق بني قينقاع ، وأمر السياف بضرب أعناقهم ، وأمر بحفر حفيرة ورميهم فيها. وبإجلاء بني النضير ، وفتح خبير ، وضرب الجزية على أهلها. وبالأسر على بعض كل. (وَتُحْشَرُونَ) في الآخرة (إِلى جَهَنَّمَ) دلت الآية على حصول البعث في يوم القيامة والنشر والحشر وعلى أن مرد الكافرين النار (وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١٢) أي الفراش جهنم.

وقرأ حمزة والكسائي بالغيبة في الفعلين أي بلغهم أنهم سيغلبون ويحشرون. والباقون بالخطاب أي قل لهم في خطابك إياهم ستغلبون وتحشرون. والفرق بينهما أنه على الخطاب يكون الإخبار بمعنى كلام الله تعالى ، وعلى الغيبة تكون بلفظه. (قَدْ كانَ لَكُمْ) أيها اليهود (آيَةٌ) أي علامة لنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فِي فِئَتَيْنِ) أي فرقتين (الْتَقَتا) بالقتال يوم بدر (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعة الله وهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، بين كل أربعة منهم بعير ، ومعهم من الدروع ستة ومن السيوف ثمانية ، ومن الخيل فرسان للمقداد بن عمر ولمرثد بن أبي مرثد. (وَأُخْرى كافِرَةٌ) أي وجماعة أخرى كافرة بالله والرسول وكانوا تسعمائة وخمسين رجلا ، وفيهم أبو سفيان وأبو جهل ، وقادوا مائة فرس ، وكانت معهم من الإبل سبعمائة ، وأهل الخيل كلهم كانوا دارعين وكان في الرجال دروع سوى ذلك (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) أي يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين قريبا من ألفين أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفا ، وعشرين رأيا ظاهرا عيانا بالعين. في ذلك أنه تعالى كثّر المسلمين في أعين المشركين مع قلتهم ليهابوهم فيحترزوا عن قتالهم.

قال ابن عباس : يرون أنفسهم مثلي أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ نافع وأبان عن عاصم من السبعة ، ويعقوب ترونهم بالخطاب. والمعنى ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة والشوكة ومع ذلك غلبهم المؤمنون مع قلتهم جدا. فيكون هذا أبلغ في إكرام المؤمنين وعناية الله بهم (وَاللهُ يُؤَيِّدُ) أي يقوي (بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) ولو بدون الأسباب العادلة (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الخراج والفيء ، باب : كيف كان إخراج اليهود من المدينة.

١١٤

نصرة الله لمحمد يوم بدر. ويقال : ـ أي في رؤية القليل كثيرا ـ من غلبة القليل العديم العدة على الكثير الشاكي السلاح (لَعِبْرَةً) أي لعظة عظيمة (لِأُولِي الْأَبْصارِ) (١٣) أي لذوي العقول ووجه نظم هذه الآية المتقدمة وهي قوله تعالى : (سَتُغْلَبُونَ) نزلت في شأن اليهود وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دعاهم إلى الإسلام أظهروا التمرد وقالوا : لسنا أمثال قريش في الضعف وقلة المعرفة بالقتال ، بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال كل من ينازعنا. فالله تعالى قال لهم : إنكم وإن كنتم أقوياء وأرباب العدد والعدة فإنكم ستغلبون. ثم ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الدلالة على صحة ذلك القول فقال : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا).

ثم قيل : روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله ، إلا أنه لا يقر بذلك خوفا من أن يأخذ منه ملوك الروم المال والجاه. وأيضا روينا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالمال والسلاح ، فبيّن الله تعالى أن هذه الأشياء وغيرها من متاع الدنيا زائلة وأن الآخرة خير وأبقى فقال : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) أي الأشياء المشتهيات (مِنَ النِّساءِ) وإنما قدمهن على الكل لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم (وَالْبَنِينَ) ولما كان حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى ، خصّه الله تعالى بالذكر ، ووجه التمتع بهم من حيث السرور بهم وغير ذلك. (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) والقنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة. والقنطار واحد والقناطير ثلاثة ، والمقنطرة تسعة. ومعنى القناطير المقنطرة أي الأموال المجموعة والأموال المضروبة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير وإنما كانا محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) أي المطهمة الحسان بأن تكون غرا محجلة (وَالْأَنْعامِ) وهي الإبل والبقر والغنم (وَالْحَرْثِ) أي المزروع (ذلِكَ) أي جميع ما سبق (مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي منفعة للناس في الدنيا ثم تفنى. (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (١٤) أي المرجع في الآخرة ، وهو الجنة. (قُلْ) يا أشرف الخلق للكفار أو للناس عامة ـ وهو أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتفصيل ما أجمل أولا ـ في قوله تعالى : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ). (أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) أي زينة الدنيا (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) أي تبتلوا إلى الله تعالى وأعرضوا عما سواه فلا تشغلهم الزينة عن طاعة الله تعالى (عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي عند ربهم بساتين تطرد من تحت شجرها ومساكنها أنهار الخمر والعسل واللبن والماء. (خالِدِينَ فِيها) أي مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها. (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي مهذبة من الحيض والنفاس والبصاق ، والمني وتشويه الخلقة ، وسوء العشرة والأخلاق الذميمة. (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) ورضا ربهم أكبر مما هم فيه من النعيم (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (١٥) أي بأحوال الذين اتقوا ثم وصفهم بقوله : (الَّذِينَ يَقُولُونَ) في الدنيا (رَبَّنا إِنَّنا

١١٥

آمَنَّا) بك وبرسولك (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي استرها وتجاوز عنا (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) (١٦) أي ادفع عنا ذلك (الصَّابِرِينَ) على أداء فرائض الله واجتناب معاصيه وعلى المرازي (وَالصَّادِقِينَ) في أيمانهم وأقوالهم ونياتهم. (وَالْقانِتِينَ) أي المواظبين على العبادات. (وَالْمُنْفِقِينَ) أموالهم في سبيل الله (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) (١٧) أي في أواخر الليل بأيّ صيغة كانت. وقيل : أي المصلين التطوع فيها ، وأعظم الطاعات قدرا أمران :

أحدهما : الخدمة بالمال وإليه الإشارة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الشفقة على خلق الله» والإشارة بقوله تعالى هنا : (وَالْمُنْفِقِينَ).

وثانيهما : الخدمة بالنفس وإليه الإشارة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التعظيم لأمر الله». والإشارة بقوله تعالى هنا : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ). (شَهِدَ اللهُ) أي بيّن لخلقه بالدلائل السمعية والآيات العقلية (أَنَّهُ لا إِلهَ) أي لا مستحقا للعبودية موجود (إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) وهم الذين عرفوا وحدانيته تعالى بالدلائل القاطعة لأن الشهادة إنما تكون مقبولة إذا كان الإخبار مقرونا بالعلم ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا علمت مثل الشمس فاشهد» (١) وهذا يدل على أن الدرجة العالية والمرتبة الشريفة ليست إلا لعلماء الأصول. فشهادة الله تعالى على توحيده. هو أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده وشهادة الملائكة وأولي العلم هي إقرارهم بتوحيده تعالى. (قائِماً بِالْقِسْطِ) أي مقيما للعدل في جميع أموره ، وهذا بيان لكماله تعالى في أفعاله بعد بيان كماله في ذاته. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨) فالعزة في الملك تلائم الوحدانية. والحكمة في الصنع تلائم القيام بالقسط.

قال الكلبي قدم حبران من أحبار الشام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا له : أنت محمد؟ قال : «نعم». قالا له : وأنت أحمد؟ قال : «أنا محمد وأحمد». قالا : فإنا نسألك عن شيء فإن أخبرتنا به آمنا بك وصدقناك. فقال لهما : «سلا» (٢). قالا : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عزوجل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فأسلم الرجلان. وفي المدارك : من قرأها عند منامه وقال بعدها : أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي عنده وديعة ، يقول الله يوم القيامة : إن لعبدي هذا عندي عهدا وأنا أحق من وفى بالعهد ، أدخلوا عبدي الجنة. (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) فلا دين مرضيا لله تعالى سوى الإسلام الذي هو التوحيد والتدرع بالشريعة الشريفة التي عليها

__________________

(١) رواه الزيلعي في نصب الراية (٤ : ٨٢) ، والعجلوني في كشف الخفاء (٢ : ٩٣).

(٢) رواه التبريزي في مشكاة المصابيح (٥٧٧٧) ، والبخاري في التاريخ الصغير (١ : ١٥) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٢١٦٧) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (١ : ٦٥).

١١٦

الرسل عليهم‌السلام. نزلت هذه الآية لما ادّعت اليهود أنه لا دين أفضل من اليهودية ، وادعت النصارى أنه لا دين أفضل من النصرانية فرد الله عليهم ذلك وقال : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ).

وقرأ الكسائي بفتح همزة «أن» وهو إما بدل من أنه بدل كان من كل إن فسر الإسلام بالتوحيد نفسه أي بالإيمان بكونه تعالى واحدا. وبدل كل من بعض إن فسر الإسلام بالشريعة ، فإنها تشتمل على التوحيد والعدل ونحوهما. أو معطوف على أنه بحذف حرف العطف ، أو مبني على أن شهد واقع على أن الدين إما بإجراء أنه على التعليل ، والتقدير شهد الله لأجل أنه لا إله إلا هو : (إِنَّ الدِّينَ) الآية. أو بإجرائه على قراءة ابن عباس وهو بكسره على جعل جملة «أنه» اعتراضا وعلى أن الدين من باب تقديم وتأخير ، والتقدير شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ، وشهد بذلك الملائكة والنبيون والمؤمنون ، أو بإجراء «شهد» مجرى قال ، مع جعل «إن الدين» معمولا للحكيم ، بإسقاط الجار ، أي الحكيم بإن الدين. أما جعله بدل اشتمال من أنه فممتنع بذلك التفسير لأنه صار البدل أشمل من المبدل منه ، ولأن شرط بدل الاشتمال أن يكون المخاطب منتظرا للبدل عند سماع المبدل منه وهنا ليس كذلك. ولا سيما أن هنا فصلا بين البدل والمبدل منه بأجنبي (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي أعطوا التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى في دين الإسلام وأنكروا نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : نحن أحق بالنبوة من قريش ـ لأنهم أميون ـ ونحن أهل الكتاب. (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي لأجل الحسد الكائن بينهم وطلب الرياسة لا لشبهة وخفاء في الأمر (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ) الناطقة بأن الدين عند الله هو الإسلام بأن لم يعمل بمقتضاها (فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٩) أي فإن الله يجازيه على كفره عن قريب ، فإنه يأتي حسابه عن قريب. (فَإِنْ حَاجُّوكَ) أي خاصمك اليهود والنصارى في أن الدين عند الله الإسلام بعد قيام الحجة عليهم (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ) أي أخلصت نفسي أو عملي (لِلَّهِ) لا أشرك به في ذلك غيره (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) عطف على التاء في أسلمت أي وأسلم من اتبعني أو مفعول معه (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي اليهود والنصارى (وَالْأُمِّيِّينَ) أي الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب : (أَأَسْلَمْتُمْ) أي فهل أسلمتم بعد أن أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام أم أنتم على الكفر؟

روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قرأ هذه الآية على أهل الكتاب قالوا : أسلمنا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أ تشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده ورسوله؟». فقالوا : معاذ الله. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم للنصارى : «أ تشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله؟». فقالوا : معاذ الله أن يكون عيسى عبدا. (فَإِنْ أَسْلَمُوا) كما أسلمتم (فَقَدِ اهْتَدَوْا) للفوز والنجاة في الآخرة (وَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإسلام والاتباع لدينك لم يضروك شيئا (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي إبلاغ الأدلة وإظهار الحجة فإذا بلّغت ما جاءك

١١٧

عن الله فقد أديت ما عليك وليس عليك قبولهم (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (٢٠) أي عالم بمن يؤمن وبمن لا يؤمن فيجازي كلا منهم بعمله (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أي بالقرآن وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) أي بلا جرم (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢١) أي فأعلمهم بعذاب وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم.

روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال : قلت يا رسول الله أيّ الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال : «رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف ونهى عن منكر» ثم قرأ هذه الآية ثم قال : «يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم» (١).

قال الحسن : هذه الآية تدل على أن القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الخوف تلى منزلته في العظم منزلة الأنبياء.

وروي أن رجلا قام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أيّ الجهاد أفضل؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» (٢) (أُولئِكَ) المتصفون بالصفات القبيحة (الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي بطلت محاسن أعمالهم في الدارين أما بطلانها في الدنيا فبإبدال المدح بالذم ، والثناء باللعن وبما ينزل بهم من القتل والسبي وأخذ المال منهم غنيمة ، والاسترقاق لهم إلى غير ذلك من الذل الظاهر فيهم. وأما بطلانها في الآخرة فبإزالة الثواب إلى العقاب. (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٢) من عذاب الله في إحدى الدارين (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) أي حظا من علم التوراة ـ وهم العلماء ـ منهم النعمان بن عمرو والحرث بن زيد. كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) أي التوراة (لِيَحْكُمَ) أي كتاب الله (بَيْنَهُمْ). وقرئ «ليحكم» على البناء للمفعول (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي يعرض طائفة منهم بنو قريظة والنضير من أهل خيبر عن الحكم (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٣) أي مكذبون بذلك.

روي عن ابن عباس أن رجلا وامرأة من اليهود زنيا في خيبر وكانا ذوي شرف ، وكان في

__________________

(١) رواه أحمد في (م ١ / ص ٤٠٧).

(٢) رواه أبو داود في كتاب الملاحم ، باب : الأمر والنهي ، والترمذي في كتاب الفتن ، باب : ١٣ ، وابن ماجة في كتاب الفتن ، باب : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأحمد في (م ٥ / ص ٣٤٧).

١١٨

كتابهم الرجم ، فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم ، فرجعوا في أمرهما إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم ، فحكم عليهما بالرجم. فقال له النعمان ابن أوفى وعدي بن عمرو : جرت علينا يا محمد ليس عليهما الرجم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم فمن أعلمكم بالتوراة؟» قالوا : عبد الله بن صوريا الفدكي فأتوا به وأحضروا التوراة فقال له : «اقرأ» فلما أتى على آية الرجم وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال ابن سلام : قد جاوز موضعها يا رسول الله. فرفع كفه عنها ، ثم قرأ على رسول الله وعلى اليهود أن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما ، وإن كانت حبلى تتربص حتى تضع ما في بطنها فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باليهوديين فرجما ، فغضبت اليهود لذلك غضبا شديدا وانصرفوا فأنزل الله تعالى هذه الآية. (ذلِكَ) أي التولي والإعراض (بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) أي لن تصيبنا في الآخرة (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي سبعة أيام (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ) أي في ثيابهم على دينهم اليهودية (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٤) من قولهم ذلك وما أشبهه (فَكَيْفَ) صنعهم (إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) أي في يوم لا شك في مجيئه (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ) برة وفاجرة (ما كَسَبَتْ) أي جزاء ما عملت من ثواب أو عقاب (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٥) فلا ينقص أحد من ثواب الطاعات ولا يزاد على عقاب السيئات (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ).

روي أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين فتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم. فقال المنافقون ـ منهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول ـ واليهود هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم أولم يكف محمدا مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم فنزلت هذه الآية. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خط الخندق في عام الأحزاب وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون ، خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول ، فوجهوا سلمان إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخبره ، فذهب إليه ، فجاء رسول الله وأخذ المعول من سلمان فلما ضربها ضربة صدعها ، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها ـ أي المدينة ـ كأنه مصباح في جوف ليل مظلم فكبّر ، وكبّر المسلمون ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أضاء لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب» ثم ضرب الثانية فقال : «أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم» ، ثم ضرب الثالثة فقال : «أضاءت لي منها قصور صنعاء وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا» (١). فقال المنافقون : ألا تعجبون من نبيكم يعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الخوف فنزلت هذه الآية.

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٥ : ١٨٦).

١١٩

وروي أنها نزلت في شأن قريش لقولهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كسرى ينام على فرش الديباج فإن كنت نبيا فأين ملكك؟ (تُؤْتِي الْمُلْكَ) أي تعطي الملك في الدنيا (مَنْ تَشاءُ) من خلقك (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) منهم إما بالموت أو إزالة العقل ، أو إزالة القوى والحواس ، أو بورود التلف على الأموال أو بسلب الملك (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بالإيمان والحق وبالأموال الكثيرة من الناطق والصامت ، وبإلقاء الهيبة في قلوب الخلق. (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بالكفر والباطل (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) أي بقدرتك العز والذل والغنيمة والنصرة (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من ذلك (قَدِيرٌ) (٢٦) (تُولِجُ اللَّيْلَ) أي تدخل بعض الليل (فِي النَّهارِ) فيكون النهار أطول من الليل (وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي تدخل بعض النهار في الليل فيكون الليل أطول من النهار (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي تخرج النسمة من النطفة ، والدجاجة من البيضة ، والسنبلة من الحبة ، والطيّب من الخبيث كالتوبة من الذنب ، والمؤمن من الكافر كسيدنا عكرمة من أبي جهل. فالمسلم حي الفؤاد والكافر ميت الفؤاد (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) أي تخرج النطفة من الإنسان ، والبيضة من الطير ، والحب اليابس من النبات الحي ، والخبيث من الطيب كالعجب من العبادة ، والكافر من المؤمن ككنعان من سيدنا نوح عليه‌السلام (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢٧) أي بلا تكلف ولا ضيق.

قال أبو العباس المقري : ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه : بمعنى التعب : قال تعالى : (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ). وبمعنى العدد : قال تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر : ١٠]. وبمعنى المطالبة : قال تعالى : (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [ص : ٣٩] (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي لا يوال المؤمنون الكافرين لا استقلالا ولا اشتراكا مع المؤمنين وإنما الجائز لهم قصر الموالاة والمحبة على المؤمنين بأن يوالي بعضهم بعضا فقط. واعلم أن كون المؤمن مواليا للكافر يحتمل ثلاثة أوجه :

أحدهما : أن يكون راضيا بكفره ويتولاه لأجله. وهذا ممنوع لأن الرضا بالكفر كفر.

وثانيها : المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر. وذلك غير ممنوع.

وثالثها : الركون إلى الكفار والمعونة والنصرة إما بسبب القرابة أو بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينه باطل فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه ، لأن الموالاة بهذا المعنى قد تجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه وذلك يخرجه عن الإسلام فهذا هو الذي هدد الله فيه بقوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي الموالاة مع الكافرين بالاستقلال أو بالاشتراك مع المؤمنين (فَلَيْسَ) أي الموالي (مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) أي ليس من ولاية الله في شيء يطلق عليه اسم الولاية (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) أي لا تتخذوا الكافرين أولياء ظاهرا ، أو باطنا في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم

١٢٠