نور من القرآن

الدكتور علي الأوسي

نور من القرآن

المؤلف:

الدكتور علي الأوسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-448-5
الصفحات: ١١٧

علوم القرآن
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

بعيدة عن الإفراط أو التفريط ، وسطيّة في تعاملها ، وهي دائماً تسلك طريقاً مستقيماً غير منحرف.

ومن خلال المثالين تبيّن الجواب بديهياً برفض الطرف الأول من كلا المثالين ، فالله سبحانه لم يخلق الخلق باطلاً ، وإنّما جعل لكلّ شيء هدفه وغايته التي يتحرّك صوبها ، بينما كلّ قوة اُخرىٰ في الدنيا هي مخلوقة له سبحانه وفاقدة لهذه الصفات ، فلا يمكن تشبيه الغيب بالمحسوس ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) (١).

حين تتعملق القيم

( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَّٰكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ

_______________________

(١) سورة الشورىٰ : ٤٢ / ١١.

٨١

السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ) (١).

إنّ مواقف الإنسان تتنوّع بتنوّع القيم التي يحملها ، فهناك من يرىٰ الدنيا قيمة كلّها ، وآخر يستلهم من الآخرة موقفه في العمل ، وبذلك تتضارب المصالح تختلف الآراء ، وربما تنسحب علىٰ ذلك تبعات يصعب التكهّن بنتائجها المعقّدة ، ولبيان دور العقيدة الحقيقية في صياغة الموقف ومنطق التعامل مع مفردات المجتمع ، جاء هذا المثل حاكياً عن صاحب ثروة طائلة ورثها عن أبيه ، فاشترىٰ بها جنّتين ، وقد زرعتا بأشجار الكرم ، وأحاط بها النخل ، وكل منها مثمر ، إلىٰ جانب الزرع الذي بين الخيل والأعناب ، وقد تفجّر وسطهما نهر يسقيهما ويمدّهما بالحياة والثمر ، ولم تتخلّف كلتا الجنّتين عن الأثمار الكاملة ولم تنقص منها شيئاً. وإنّ صاحب هذه الثروة صادف رجلاً فقيراً ، وقيل إنه أخوه ، الفقير الذي تصدّق بكلّ ما ورثه من أبيه حتّىٰ مسّته الحاجة ، فدخلا في هذا الحوار الذي يكشف عن عمق القيم وقوة العقيدة في جانب ، والسطحية والضعف في الجانب الآخر ، إن صاحب الثروة أصابه الغرور ، وأخذ يستلهم قوّته من ثمر جنّته ، فأخذ ينطق بالغرور الطافي علىٰ قلبه ، فقال لصاحبه :

١ ـ أنا أكثر منك مالاً وأقوىٰ أنصاراً وحشماً.

_______________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٣٢ ـ ٤٤.

٨٢

٢ ـ لا أعتقد أن تهلك هاتان الجنّتان.

٣ ـ لا أعتقد بقيام الساعة.

٤ ـ اني إذا انقلبت ورجعت إلىٰ الله فسأجد أفضل وأحسن منهما.

ومن ذلك تتكشّف أمامنا نفس تتناقض بفعل الغرور وحبّ الدنيا حين تتأسّر النفس بمكرها ، بينما نرىٰ فقير المال حين يعتقد بالله رازقاً ويؤمن بآخرته إيمان العارفين ، فانه ينطق بالقيم الحقّة والمواقف الصادقة ، لا تستميله الأهواء ، ولا يضرب علىٰ طبعه ثراء الآخرين ، فنقل صاحب الجنّتين الظالم لنفسه إلىٰ حديث آخر يحرّك به الفطرة ويبعدها عن أجواء الثروة والرفاه فقال له :

١ ـ أكفرت بخالقك وقد خلقك من تراب ثمّ من نطفة ثمّ جعلك رجلاً كما أنت عليه الآن ، فما أضعف من يكفر بالقادر عليه !

٢ ـ كان من الأفضل والمستحسن حين تدخل جنّتك أن لا تشعر إلّا بالمشيئة الإلهية ، وان كلّ قوّة مردّها إلىٰ الله سبحانه.

٣ ـ حين تنظر إليّ بأني أقلّ منك مالاً وولداً ، فقد يؤتيني ربّي في الآخرة خيراً مما اتاك في الدنيا ، وقد يرسل الله صاعقة من السماء علىٰ جنّتك فيحيلها أرضاً بيضاء ملساء لا يثبت عليها زرع أو يذهب ماؤها بعيداً فتصبح عديمة الماء.

ثمّ ينقلنا السياق القرآني إلىٰ مفاجأة تتعرّض لها جنّته ، فيحاط بثمرها فلا ثمر يبقىٰ ، وتصير خالية من كلّ شيء ، وحين ينظر بنفسه إلىٰ هذه الحالة التي قد مرّت فيها جنّته يأخذ بضرب يديه أسفاً وحسرة علىٰ جهده وإنفاقه فيها ، فتنتفض فطرته وتعود إلىٰ قرارها ، ويتبرّأ ممّاعلق فيه من شرك بالله سبحانه في وقت انعدم فيه النصير وما يدفع به الأذىٰ عن نفسه فيقول تعالىٰ : ( هُنَالِكَ

٨٣

الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ) (١).

صنميّة الإتّباع لدى المشركين

( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) (٢).

جاء هذا المثل بعد دعوة الناس الذين انحرفوا عن الطريق المستقيم إلىٰ ما أنزل الله وكيف تذرّعوا بسنّة الآباء والأجداد وأعرضوا عن دعوة الحق ، كما في قوله تعالىٰ : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ) (٣).

إنّ هذه الطائفة من المقلّدين لموروثات أخذوها عن آبائهم هم في ضلال قناعة خاطئة ، وليسوا علىٰ استعداد لمناقشتها وكشف زيفها ، وهنا تتجلّىٰ حاجة إنسانية افتقدتها أصناف بشرية عديدة ، فهذه العبودية المرفوضة للصنم والاتباع الأعمىٰ لسنّة الآباء من غير تدبّر تلغي في الإنسان قدرته علىٰ عقلنة المواقف ، علماً أن الفكرة والمعتقد والسلوك وحتىٰ الممارسة العملية للفرد والمجتمع ، تخضع لطبيعة الحاجة التي تتولّد ، وتعزّزها حالة الصراع والمنافسة في دنيا الناس ما دام ذلك من صنع الإنسان نفسه ومن وحي فكره المحدود.

وحثّ أهل البيت عليهم‌السلام الناس علىٰ أن لا يتابعوا كلّ أحد علىٰ رأيه وأن

_______________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٤٤.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٧١.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٧٠.

٨٤

يتوخّوا الحقّ والصدق ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام لرجل من أصحابه : « لا تكوننّ إمّعةً ، تقول أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس » (١).

هذه الظاهرة تنذر بالخطر ، وتهدّد كيان الأمة ، وتعمق حالة الجهل والعناد ، وتشتدّ فيها العصبية حتىٰ تتبلور تياراً يضمّ ركائز اجتماعية ومحاور خطيرة ومريدين من أبناء الأمة نفسها ، وبالتالي فهذا اللون من التكفير والمواقف المتشنّجة وسدّ الطرق أمام أيّة محاولة لانبثاق النور وتبديد ظلمات الجهل والتعصّب والنظرة الصنمية لهذه الموروثات ، سيحيل كلّ ما لدينا إلىٰ يباب وعثرات في طريق العمل.

هذه الصنمية المرفوضة قد تتّخذ أشكالاً متعدّدة ، وتتشكّل حول أوهام وتصورات يعزّزها الإنسان ويتوارثها أبناؤه ومريدوه ، فتحاط بهالة من التقديس وتؤخذ علىٰ أنها مسلّمات لا يمكن الاقتراب منها ، ولا يسمح بالحديث عنها ، وهذا لا يتوقّف علىٰ مرحلة زمنية معينة أو مكان معين ، بل يمكن أن يتكرّر ويعود مرّات ومرّات ما دام ثمة انغلاق واعتزاز بموهومات فرزها عقل محدود. ولخطورة هذه الحالة عالجها القرآن وأثارها في مواضع متعدّدة ، وألقىٰ باللوم علىٰ الغافلين والجاهلين والمعاندين ، وأثار في مجتمع القرآن التدبّر والتأمّل والتعقّل في ما يواجهه هذا الإنسان من مواقف ومتبنّيات فكرية ، فنقلها القرآن الكريم ضمن اُسلوبه التربوي في الأُمة إلىٰ مجسّدات يحسّها القاصي والداني والعالم والجاهل.

ثمّ زاد الله في تبكيت أولئك السادرين في غيهم ، فوصفهم بالصمّ والبكم

_______________________

(١) معاني الأخبار : ٢٦٦ / ١.

٨٥

والعمي الذين فقدوا منافذ السمع والقدرة علىٰ الاستجابة لما دعوا إليه ، ولم يشاهدوا دلائل التوحيد والحقّ ، فهم بذلك لا يعقلون حين سدّوا عليهم منافذ التعقّل ، وقد صاروا أضلّ من البهائم ، لأنهم فقدوا بوابات التعقّل التي لم يمتلكها البهائم في أصل الخلقة ، ويمكن تقدير المثل « مثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع .. » .

وإنّ نداء هذا الداعي كنداء الراعي حين ينعق علىٰ بهائمه ! فهي لا تحسّ بما وراء ندائه وطلبه منها إلّا صوت نعيقه وزجره لها ، ولا تفهم شيئاً آخر ، ولا تعي كما يفهم العقلاء ويعون.

الكشّاف

( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (١).

النور كاشف بذاته مبدد للظلمات ومضيؤها ، وهذا الوجود كلّه من فيض نوره سبحانه ، والله جلّ شأنه هو الدليل الهادي والكاشف لظلمات النفس ، وقد هدىٰ الخلق بعد إيجادهم ببيان الطريق المستقيم ، وتزويدهم بالحجّة والدليل ، وجرى الكون وانتظم ضمن سُننه وقوانينه ، قاهتدىٰ بعد خلقه ، وهذه النورانية

_______________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٣٥.

٨٦

منبثّة في تضاعيف الكون وطيّات النفوس ، وحين تغيب عن وجدان الإنسان ، سيركن إلىٰ ظلمات الأرض ويفقد هداه ، ويضلّ ، وتضطرب نفسه ، وترتعد جوارحه من شدّة الخوف وغياب الأمن وضلال الطريق ، جاء في دعاء الإمام زين العابدين عليه‌السلام : « وهب لي نوراً أمشي به في الناس ، وأهتدي به في الظلمات ، وأستضيء به من الشك والشبهات » (١).

ومن يتأمّل في مفردات هذا الكون وفي زوايا حياته الاجتماعية ووجوده الإنساني وينظر إلىٰ الطبيعة التي فطرها الله سبحانه وأنشأها وسخرها لخدمته ، يجد نوراً إلهياً يسري في هذه الموجودات ، وروحاً عامة تضبط أطرافها ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) أي منوّرهما ، يحسّها في قوانينها المنتظمة المتناغمة مع بعضها بعيداً عن أية حالة فوضوية تعبث في مسيرتها باستثناء الدائرة الاختيارية للإنسان ، وما ينتج عنها ويترتّب عليها من صنع الإنسان نفسه.

ولكن حين يملأ الشؤم صدر هذا الإنسان ، ويحاول أن ينظر في هذه الموجودات من نفس غطّتها سحب الضلال وظلمات التيه والانحراف ، فإنه لا يرىٰ هذا النور الذي يملأ السماوات والأرض إلّا بقدر ما تحياه فطرته من نور الوجود.

وفي هذه الآية الكريمة أضاف الله سبحانه النور لنفسه ( مَثَلُ نُورِهِ ) وهنا يذهب السيد الطباطبائي رحمه‌الله إلىٰ أنّ المقصود به هو النور الذي يلقيه علىٰ المؤمنين بدليل قوله تعالىٰ : ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ). (٢)

_______________________

(١) الصحيفة السجادية : الدعاء ٢٢.

(٢) تفسير الميزان / الطباطبائي ١٥ : ١٢٥.

٨٧

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام في قوله تعالىٰ : « ( يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) (١) : إنما المؤمنون يوم القيامة نورهم يسعىٰ بين أيديهم وبأيمانهم حتّى ينزلوا منازلهم من الجنان » (٢).

ومن أجل هذا المغيّب الواسع الكبير ضرب القرآن له مثلاً من واقعهم حتىٰ يُتمكن من إدراك هذا النور الشفيف الذي يبدّد ظلمات النفس ويهدي إلىٰ الحقّ ، فالمشكاة هي الكوّة في الجدار يوضع فيها المصباح ليشتدّ ضوؤه بتجميعه وتكثيفه ، ويذهب المثال إلىٰ أن هذا المصباح في زجاجة تمنعه من الانطفاء وتنظّم شعلته من حركة الريح ، وهذه الزجاجة بنفسها شفافة تشبه الكوكب الدرّي في لمعانه مما يزيد الضوء شدّة ولمعاناً ، وهذا المصباح يستمد وقوده وشعلته من شجرة زيتونة بارك الله فيها تستمر تغذيتها علىٰ الدوام ليصفو زيتها ز يحسن إيقاده ، فهو زيت يكاد يضيء من غير نار لإشراقه وشفافيته الذاتية وقابليته العالية للإشتعال.

ثم عبرّت الآية عن شدّة النور وقوّته بقوله : ( نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ) (٣) وأخيراً ، جعل الله سبحانه هذا النور هادياً لمن يصلح أن يكون محلاً لهدايته ، وذلك حين يستقيم باطن الإنسان وظاهره ، وقد جاء بعد الآية قوله تعالىٰ : ( رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ) (٤) مصداقاً لذلك.

_______________________

(١) سورة الحديد : ٥٧ / ١٢.

(٢) نور الثقلين ٣ : ٦١٢ / ١٩٩.

(٣) سورة النور : ٢٤ / ٣٥.

(٤) سورة النور : ٢٤ / ٣٧.

٨٨

ولاية العنكبوت

( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (١).

افتتحت سورة العنكبوت آياتها بالحديث عن سنة الافتتان ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ) (٢) ثمّ راحت الآيات تتحدّث عن حياة الأقوام السالفة ، وتكشف عن قوّتهم وضعفهم ، بينما قام المتقون إلىٰ جنب أنبيائهم يدافعون عن الحق ، ويرفضون كلّ ولاية مزيفة إلّا ولاية رب العالمين ، في الطرف الآخر راح الكفر يتمادىٰ في رجاله المخذولين ، فظهرت ولايات عديدة تنتسب لغير الله سبحانه.

وقد عرض القرآن الكريم لقصص الماضين كقوم نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسىٰ عليهم‌السلام ، وكشف هذا العرض القصصي المهيب عن حالات الافتتان التي تعرّض لها الأنبياء عليهم‌السلام وأتباعهم المؤمنون ، ففازوا بالصبر عليها ، بينما هوت الطواغيت المتفرعنة وذيولهم من الأتباع الخاسرين إلىٰ قاع الرذيلة.

فالإنسان مع ما حوله في مواجهة مستمرة ؛ فإما إلىٰ قناعة وتبنٍّ ، أو إلىٰ رفض وممانعة ، ولربّما إلىٰ حياد يتشكّل ضمن ظروفه ومناسباته ، فقد تكون للإنسان علاقة ودّ وحبّ مع مفردات هذا الكون وقد يطغىٰ هذا الحبّ

_______________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٤١.

(٢) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٢.

٨٩

ويتحوّل إلىٰ ولاء كبير ، فيكون فيه مولىٰ خاضعاً لصاحب هذه الولاية ورمزها ويعيش في محرابها ، ويتعبّد من خلالها ، وقد يكره ويبغض فيعايش الرفض أو الحقد بعينه.

ولكن الإسلام وضع لهذا الحبّ وذلك الكره ضوابط ومبيّنات يستدلّ بها لكشف السبيل وتحديد مشاعر الحبّ والكراهية ، وعلى الرغم من ذلك فقد تضعف إرادة الإنسان أمام المال أو الجاه أو الشهوة أو السلطان وأضرابها ، فتتشكّل من حوله دائرة الولاء ويكون أسيرها المغلول والتابع المطيع لحركة هذه الرموز والعناوين الخالية من القوّة الحقيقية.

وهكذا تختلط الأوراق في أذهان الناس فيتصوّرون القوّة والرزق والعطاء عند فاقديها فينتسبون بشكل من الأشكال إلىٰ هذا الضعف الحقيقي الذي لا يملك نفعاً ولاضرّاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، ولربّما يكون في وثن يعبدونه من دون الله أو طاغوت أو جماعة ظنّاً منهم أن هذه الرموز الضعيفة هي مصدر القوّة والعطاء ، وأنّها قادرة علىٰ الضرّ عنهم ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) (١).

أمّا أولياء الله فيمثلون رموز القوّة واليقين والثقة بالله والافتقار إليه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ثلاث خصال من صفة أولياء الله : الثقة بالله في كلّ شيء ، والغنىٰ به عن كلّ شيء ، والافتقار إليه في كلّ شيء » (٢).

_______________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ١٢.

(٢) بحار الأنوار ١٠٣ : ٢٠ / ٢.

٩٠

وقد ضرب الله مثلاً للذين يوالون غير الله سبحانه كاشفاً الضعف الذي ينتمون إليه ، فاختار لذلك بيتاً هو أوهن البيوت وأضعفها ، فالمعروف الشائع أن البيت يحفظ أهله ويدفع عنهم الحرّ والبرد والأذىٰ مضافاً إلىٰ منافعه الاُخرىٰ الكثيرة ، ولكن بيت العنكبوت فاقد حتىٰ لهذه الصفات الضرورية لكلّ بيت ، هذا البيت غير قادر علىٰ دفع الضراء أو جلب المنفعة ، وتعصف به الريح وتحطّمه الحركة الصغيرة أو الصدمات الحقيرة ، وإن لم يدركوا ضعف هذه الولاية الأرضية ف‍ ( إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (١) صاحب العزّة القويم والعالم الحكيم.

المملوك الشريك

( ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (٢).

يعبّر القرآن الكريم فيبعض المواقف عن الشرك بالظلم ، فقد عقب تعالىٰ بعد هذه الآية بقوله : ( بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ) (٣) ويستفاد من السياق أنّ الذين ظلموا هم المشركون ، وتصف الآية المباركة هؤلاء الظالمين المشركين بأنهم يتّبعون أهواءهم وأمزجتهم من غير دليل علمي

_______________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٤٢.

(٢) سورة الروم : ٣٠ / ٢٨.

(٣) سورة الروم : ٣٠ / ٢٩.

٩١

أو فحص دقيق ، ومما تجدر الإشارة إليه أنّ مفهوم الشرك يتّسع لمعان كثيرة ، ومن هذه الأنماط أن قسماً منهم يؤمنون بوجود الخالق المدبّر ، ولكن العبادة عندهم يجب أن تتوجّه لأرباب وآلهة صغار ، كالأصنام أو الكواكب أو الشركاء الذين يُفْرَضُون ـ وهذا شأن الوثنيين ـ ولكن في هذا المطلب تكمن مغالطة كبيرة وهوّة تعرّي المنطق الوثني وتحجّه من غير حجّة خارجية إلّا برهان المناقضة الذي يلفّ اعتقادهم ذاته ، فهل المخلوق كالخالق ؟ وهل يفترض في المخلوقات الجنّ والملائكة وغيرها أن تكون شركاء لله سبحانه مع أنها فقيرة ومحتاجة إلىٰ فيضه سبحانه ، وتستمدّ وجودها من ذلك الفيض الواسع الكبير ؟ أنىٰ يكون ذلك ( وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (١) ؟!

فكلّ الصفات التي يتّصف بها المخلوقون من العلم والحياة والوجود وغيرها كثير ، هي صفات ناقصة لها مطلق واحد هو الله سبحانه مرجع هذه الصفات ومصدرها المطلق ، وقد أكّدت الآيات في هذا المقطع القرآني علىٰ إرجاع النعم والموجودات لله بعبارة ( وَمِنْ آيَاتِهِ .. ) مثل : خلق الإنسان من تراب ، وخلق الأزواج ، وجعل المودّة والرحمة ، وخلق السماوات والأرض ، واختلاف البرق خوفاً وطمعاً ، وإنزال الماء من السماء لإحياء الأرض بعد موتها ، وقيام السماء والأرض بأمره وغيرها ، ثمّ جاء قوله تعالىٰ : ( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) (٢).

_______________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٦٠.

(٢) سورة الروم : ٣٠ / ٢٦.

٩٢

وفي هذه الآيات استدلالات عملية ووجدانية علىٰ ضرورة الانتماء والانتساب لله الواحد الذي لا يشاركه أحد من خلقه في شيء ، ولذلك ـ وباستفهام إنكاري ـ ضرب القرآن الكريم مثلاً من أجل أن يكشف لهم هذه المغالطة وبطلان اعتقادهم من خلال واقعهم الذي يعيشون فيه ، ومن خلال عادة الرقّ المستحكمة في حياتهم ، ذكّرهم القرآن الكريم بأنه هل يمكن أن ينازعكم العبيد والمماليك الذين تملكونهم ؟ وهل تخافونهم كما تخافون أنفسكم الحرّة ؟! وإذا لم يصحّ ذلك ـ وهو كذلك ـ فكيف تعبدون مخلوقات من دون الله ؟!

وقد جاء في معنى الآية : أي ترضون أنتم فيما تملكون شريك ، فكيف ترضون أن تجعلوا لي شريكاً فيما أملك. (١)

وعليه فلا تصحّ لهم هذه المشاركة ، وإنهم بحاجة إلىٰ تحكيم العقل السليم الذي يستفيد من بيان الآيات ( كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (٢).

القلوب أوعية المعاني

( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي

_______________________

(١) أنظر : تفسير علي بن إبراهيم القمّي ٢ : ١٥٤.

(٢) سورة الروم : ٣٠ / ٢٨.

٩٣

الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ) (١).

في سياق بيان الحقّ والباطل وتشخيص الإيمان من الكفر ، جاء هذا المثل ليكشف عن إمكانية وسعة المحل الذي يكون مكاناً للاعتقاد والتبنّي ، فقد نواجه في حياتنا مراتب عديدة من المؤمنين ؛ فمنهم الشديد في إيمانه ، ومنهم دون ذلك وهكذا حتّىٰ يضعف عند آخرين إلىٰ درجة الضمور والتلاشي ليظهر الكفر ويأخذ مراتبه ، فمبدأ السعة والضعف في قبول الحقّ يشكل الزاوية الأساس في ضرب هذا المثل وقد عبّر عن ذلك بكلمة « بقدرها » .

وقد جاء هذا المثل مشبّهاً القرآن والتعاليم الإلهية بالماء النازل من السماء ـ لمناسبة سموّ وعلوّ هذه الأفكار ـ أو هو تشبيه الحقّ بالماء ، والباطل بالزبد ، والقارئ لهذه الآية المباركة يقف أمام مشهد عظيم القدر ، وكأنّه ينظر إلىٰ بطون الوديان الواسعة والضيّقة منها وهي تستقبل الماء النازل من السماء ليندفع بقوّة ، ويطفو علىٰ سطحه غثاء زبد منتفخ ، فيخيّل للناظر أنّ الغثاء والزبد هو كلّ شيء في هذا السيل ، بينما هو في حقيقته لا يشكّل شيئاً نافعاً ، ويبقىٰ النفع والخير في حركة الماء غير المشهودة بوضوح تحت هذا الزبد والغثاء الذي يذهب ويزول ، وهذا شأن الخبث كذلك أيضاً يظهر علىٰ سطح المعادن المنصهرة منأجل حلية كالذهب والفضة أو متاع وفائدة مادية كصهر الحديد والرصاص ، بينما يبقىٰ النفع والخير في الذهب نفسه والحديد ذاته اللّذين يطفو عليهما هذا الخَبَث الذي لا فائدة فيه.

قال علي بن إبراهيم القمي : أنزل الحقّ من السماء فاحتملته القلوب بأهوائها ؛

_______________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ١٧.

٩٤

ذو اليقين علىٰ قدر يقينه ، وذو الشكّ علىٰ قدر شكّه ، فاحتمل الهوىٰ باطلاً كثيراً وجُفاءً ، فالماء هو الحقّ ، والأودية هي القلوب ، والسيل هو الهوىٰ ، والزبد هو الباطل ، والحلية والمتاع هو الحقّ. (١)

وكذلك قدر هذا السيل المندفع في قلب هذه الأودية ، ينسجم مع سعة هذه الوديان ، فهذه الوديان يكون حظّها من الماء النازل بقدرها ، فتتباين الحصص إذن ، وليس هذا التباين نابعاً من الماء نفسه ، وإنما من طبيعة وسعة المحلّ المتلقّي له.

قال علي بن إبراهيم : الكبير علىٰ قدر كبره ، والصغير علىٰ قدر صغره. (٢)

وهكذا تتنوّع المستويات الإيمانية ، وتتباين القدرات ، وتختلف الالتزامات من شخص لآهر ومن مجتمع لآخر كلّ حسب طبيعة المحلّ الذي هيّأه ومقدار الأثر الذي تركته عنايته واهتمامه بنفسه من أجل تعبيدها لله سبحانه ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) (٣) فقد فتح الله سبحانه علىٰ المخلص من المؤمنين رحمته ، وينوّر ساحته بنور التوحيد ، ويجعل له نوراً يمشي به في الناس ، فيتّسع بذلك حظّه من التعاليم الإلهيّة ومعارف القرآن والحكمة ، وينتفع بإصابة الحقّ في الدنيا والآخرة.

قال علي بن إبراهيم : من أصاب الزبد وخَبَث الحلية في الدنيا لم ينتفع به ، وكذلك صاحب الباطل يوم القيامة لا ينتفع به... ومن أصاب الحلية والمتاع في

_______________________

(١) تفسير القمّي ١ : ٣٦٢.

(٢) تفسير القمّي ١ : ٣٦٢.

(٣) سورة العنكبوت ٢٩ / ٦٩.

٩٥

الدنيا انتفع به وكذلك صاحب الحقّ يوم القيامة ينتفع به. (١)

خشوع الجبل

( لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (٢).

تجيء هذه الآية في سياق آيات تدعو المؤمنين للتقوىٰ والتهيّؤ ليوم الحساب وتنهىٰ عن نسيان الله سبحانه ، وهنا تثار مسألة هامة في عملية التغيير القرآني ، وهي مقدار الاستجابة وصلاحية مداخل الهداية لدىٰ هذا الإنسان ، فلربّما يتعظ الإنسان بموقف وكلمة وإثارة واحدة ، بينما نجد آخرين قد طُبعَ علىٰ قلوبهم ، لا يفقهون ما يتلىٰ عليهم ، ولا تزيدهم آيات الله سبحانه سوىٰ الانحدار صوب الرذيلة وتكوين الخطيئة وكأنّهم صخور صمّاء. ولكن من هذه الحجارة ما يتفجّر منها الأنهار ، فتخضرّ جنباتها ، وتضحك الطبيعة من حولها.

فما أقبح الاستكبار والتعالي أمام عظمة القرآن وعلوّ معانيه وسموّ أفكاره ! فهو كلام الله الصادق والوحي الكريم ، وهذه الأفكار المنزلة من لدن حكيم عليم لا ترقىٰ إليها أيّة معرفة أخرىٰ ، ولا تجاريها أية قدرات مهما عظمت ، فهي مخلوقة لمبدع هذه الأحكام وصانعها.

فالقرآن الكريم بأحكامه وأمثاله ومواعظه وبشائره وإنذاراته قدسٌ طاهرٌ

_______________________

(١) تفسير القمّي ١ : ٣٦٢.

(٢) سورة الحشر : ٥٩ / ٢١.

٩٦

يلقي بالهيبة والتقدير في قلب من يتدبّره ويتأمّل في عظيم آياته ، وليس هو بكتاب بشري وصناعة إنسانية حتّىٰ يحوطها النقص ويدخل الشكّ في النفوس بقيمة هذه الأفكار ، فكيف يمكن لمن يعرف ذلك ألّا يتّعظ به ولا يستفيد من عطائه إذن ؟! ولذلك ضرب القرآن ـ هذه المرّة ـ مثلاً لبيان قيمة القرآن وعظمة أفكاره ومهابة قدسه ، والصورة البلاغية في هذا المثل القرآني العظيم تعبر عن واقع غير منظور ، ولا استحالة في وقوعه فلو أراد الله سبحانه إنزال هذا القرآن علىٰ الجبل العظيم الشامخ المتين الراسخ لتصدّع وتزلزلت صخوره العظيمة من خشية الله وعظمته فما بال بعض هذه النفوس والقلوب التي لم تنفعل بفعل هذا التنزيل المبارك ؟ ولم تتّعظ بأحكامه المقدّسة ومعانيه الساميةالتي أبت حتّىٰ السمٰوات والأرض والجبال حملها ولم تطق هذا الثقل العظيم والأمانة المقدّسة ، بينما يهيّء الله سبحانه هذا الإنسان لهذه الوظيفة المقدّسة والعمل الكريم ، فَلْيَتَّقِ اللهَ سبحانه ويتهيّأ ليوم الحساب ، ولا ينسىٰ الله فينساه من رحمته.

الحمل لا التحميل

( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (١).

الظاهرة الإسرائيلية في المجتمعات قد تتّخذ أشكالاً متعدّدة سواء علىٰ مستوىٰ التصوّر والتكفير أو الممارسة ، وهذا التشكيل لم يتوقّف علىٰ مقطع

_______________________

(١) سورة الجمعة : ٦٢ / ٥.

٩٧

زمني محدّد بل يظهر علىٰ امتداد هذه المسيرة البشرية ، ومن معالم هذا الظهور هو « تبديد النعمة وعدم الاستفادة ممّا هم عليه » فقد تفتقد الجماعة أحياناً طريق الخلاص ومبادئ العمل ، فيتوجّب عليها البحث والتفحّص حتّىٰ تأمن الفتنة والمنزلق في عملها ، وقد تكون الجماعة مالكة لهذه المبادئ ولكنها غير واعية لها وغير مستفيدة من عطاءاتها ، فتظلم الأمة تاريخها وتجحد نعمتها ، وتبدأ تسوّلاً فكرياً وحالة استجداء ذليلة تلعق بها فضلات الموائد فترمي بعزّتها في سوق النخاسة ، وأتذكر موقف أحمد الشقيري المسؤول الفلسطيني السابق في لقائه مع ماوتسي تونغ ، إذ طلب الأول إيديولوجية للثورة ومرتكزاً فكرياً للعمل !! فردّ عليه : إنكم تملكون ذلك ، ولديكم تاريخ إسلامي طويل تستفيدون منه.

وقد تجد إنساناً مسلماً يهوىٰ ثقافة غريبة أو شرقية ، ويتطلّع لطريقتهم في التعامل ويتأثّر بأخلاقيتهم ، ويترك صرحاً كاملاً من الفكر والتربية الإسلامية ، وهذا ما حصل لكثير من المسلمين عقب عمليات التغريب والغزو الفكري للمنطقة.

وقد كشف القرآن الكريم هذه لحالة لدىٰ بني إسرائيل ، وأوضحها بمثال مثير فبيّن ان الحمار ما لا يفقه منه شيئاً ، فحالة بني إسرائيل حين حُمّلوا العمل بما جاء في التوراة من أحكام وتعليمات وأخبار ببشارة ظهور النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ووجوب تصديقه ، تركوا ذلك ولم يحملوه ، ويصدق الشاعر في هذا الموطن حين يقول مشبهاً :

كالعيس في البيداء يقتلها الظما

والماء فوق ظهورها محمول

٩٨

فالحافظ لكتاب الله بلا عمل له يلحق به هذا المثال أيضاً ، وكذلك من تلاه ولم يفهم معناه وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ربّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه » (١).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « من قرأ القرآن ولم يعمل به ، حشره الله يوم القيامة أعمى » (٢)

وقيل : الحمل ليس هو الحمل علىٰ الظهر ، انما هو الحمالة بمعنىٰ الكفالة والضمان ، فلم يحملوها : أي لم يؤدّوا حقّها ، ولم يحملوها حقّ حملها.

والأسفار : جمع سفر ، وهو الكتاب الكبير ، لأنه يسفر عن المعنىٰ إذا قُريء. وقد استعمل الحمار في المثال لإظهار جهلهم وبلادتهم وزيادة في الذلّة والحقارة.

فليس لهم من هذا الحمل إلّا الثقل والتعب ، ويتوجّب علينا جميعاً أن نواصل المسيرة ، ولسنا بحاجة إلىٰ استيراد طريق للعمل والتفكّر بعد أن منّ الله علينا وحمّلنا الرسالة الخاتمة.

العمل أوّلاً

( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ

_______________________

(١) بحارالأنوار ٩٣ : ١٨٤ / ١٩.

(٢) ثواب الأعمال : ٣٣٧ / ١.

٩٩

ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (١).

من أجل أن تثبّت القيم ويسود المقياس حياة الناس ، ومن أجل أن تندفع الشبهات والافهام اللخاطئة التي تعيش علىٰ مقربة من حركة المفاهيم بين الناس ، يسجّل القرآن الكريم كلّ مرّة احكامه ومقاييسه وبطريقته المتميّزة بقوّة العرض ، والتي تطالب مخاطبيها بالتوجّه صوب التطبيق وعدم التخلّف أمام هذه النداءات المقدّسة. وفي هذه المرّة تعرّض القرآن الكريم إلىٰ مسألة حسّاسة تتعلّق بمشاعر الأمة ، وتنحسب عليها اعتبارات اجتماعية ، وعلىٰ الرغم من هذه المواجهة النفسية الشديدة انتزع القرآن مطلبه في بيان حقيقة الاعتبار الذي تبتني عليه المواقف الإنسانية ، فقد نسف من الجذر وإلىٰ الأبد الاعتبار الموهوم للرابطة النسبية والسببية ما لم تتزيّن بزينة العمل الصالح وتتّزن به ، فلقد عوتب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في سورة التحريم بأنه حرم علىٰ نفسه شيئاً أباحه الله له من أجل إرضاء بعض أزواجه ، ثمّ جاءت الآيات مهدّدة زوجي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنهما إذا تظاهرا بينهما وتعاونا عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله بما يحرجه قانه ليس وحده بل الله مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة ، ثمّ ذكّر القرآن أزواجه بأنه إذا طلّقهن فسوف يعطي رسوله خيراً منهُنّ.

وفي هذا السياق ذكّر القرآن الكريم بمقياسه الثابت في هذه الدائرة الاجتماعية ، وراح يؤكد علىٰ أنه لا اعتبار إلّا للعمل ، وأما الروابط والعلاقات

_______________________

(١) سورة التحريم : ٦٦ / ١٠ ـ ١١.

١٠٠