نور من القرآن

الدكتور علي الأوسي

نور من القرآن

المؤلف:

الدكتور علي الأوسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-448-5
الصفحات: ١١٧

علوم القرآن
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ويذكر في هذا السياق أن عبدالله بن أُبي كان قومه قبل قدوم رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الىٰ المدينة يحضِّرون ويضعون له تاج الرئاسة عليهم ، ليكون مجتمعها في إمرته ، فرأىٰ في القادم المبارك مزاحماً قوياً ومنافساً يقضي علىٰ أحلامه وخيالاته ، فاتخذ هذا الموقف المنافق ، وراح يظهر السلم والكلام الجميل المنمّق ، بينما هو يبطن الحقد والمكر ، ويعمل من أجل الكيد بهذه الرسالة المباركة الجديدة ورسولها الكريم.

وفي هذا المقطع راحت الآيات المباركة تكشف بعض حقيقتهم وترسم حركتهم بين الناس ، قهم ـ كما أسلفنا ـ معروفون لدىٰ المجتمع ، ولربما يحتلون أماكن هامة فيه ، ويهتمون بجمال المظهر ، إذ تعجب أجسامهم الآخرين ، ويعتنون كذلك بالكلام الجميل المعسول حتىٰ لا ينكشف أمرهم ، وقد صورهم القرآن الكريم بأنهم كالخشب المسنّدة ، فهي ظاهرة معروفة إذن ولكنها مسنّدة لا تستطيع ان تقوم ينفسها لضآلة محتواها وضعفها الحقيقي ، فتحتاج إلىٰ ما يسندها ويثبتها ، ثم كشف عن حالة نفسية يعايشها المنافق ، حيث أنه يضع نفسه دائماً موضع الاتهام ، ويعتقد أن كلّ نقد أو محاسبة موجهان إليه بالذات ، وأنه هو المقصود وراء تشخيص أية ظاهرة سلبية في المجتمع ، وهذه حالة تنم عن مدىٰ الرعب والخوف الذي يمتلك هذه الشخصية المنافقة.

وقد أكّدت الآية علىٰ أنهم هم الأعداء الحقيقيون ، ويجب الحذر من هذا التيار الخطير ، حيث يقاتلهم الله ، وما أضعف هذا الإنسان حين يكون مطروداً من رحمة الله ، ويكون موضع مكره وكيده سبحانه.

٦١

ظلمة النفاق

قال تعالىٰ : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ) (١).

علىٰ سبيل كشف أبعاد هذا الوجود المنافق وأدواره الخطيرة في نفوس المجتمع المسلم ، تعرّض القرآن الكريم إلىٰ بيان ذلك بطريقة المثل ، فجاء بالمثال الأول ضارباً لذلك النار أو ما يستتبعها من النور ، والاسلام العظيم بعقيدته وأحكامه هو نور لسالكيه ، يهدي إلىٰ الرشد ، ويحقّق للإنسان منفعته ، ويوصله إلىٰ سلامة المنقلب ، فحين يضيء الإسلام بآثاره علىٰ مريديه ويعيش في نفوس متبعيه ، فانه يقضي علىٰ كلّ ظلمة في زوايا هذا الإنسان ، فتستحيل حياته الى نور يبصر فيها ، وتطمئن نفسه الىٰ ما يحيط به ، إذ تتضيق بذلك دوائر جهله بشؤون حياته ( أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (٢). بينما الإنسان الضالّ يتردّد في غيّه ، وتنحبس نفسه ، ولا ينطق ضميره في هذا الوجود ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) (٣).

وانطلاقاً من هذه المناسبة للإيمان والكفر ، جاء مثل النار المحسوسة والمرئية

_______________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧ ـ ١٨.

(٢) سورة الملك : ٦٧ / ٢٢.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٧.

٦٢

وأثر النور المتولّد عنها في واقع الحياة لتجسيد حالة شعورية وتشخيص مواقف يستبطنها النفاق ، فالذي يعيش وسط الظلام وتنعدم في ناظريه مشخصات الطريق ، يلتمس له نوراً ، فيطلب إيقاد النار أو يوقدها لينتفع بها في تبديدها للظلمات بالمقدار الذي يكشف له الطريق ، ولكن هذه الاستفادة لم تدم إذ سرعان ما ستنطفي النار ويخيّم الظلام عليهم من جديد ، وهذا هو حال المنافقين في دار الدنيا الذين لم يبصروا الهدىٰ وفقدوا وسائل تحصيله فانهم سيبقون هكذا في ظلمات لا يبصرون فيها فيعيشون الحيرة والتيه ، وتضلّ مواقفهم ، وتضطرب لذلك مشاعرهم ، وتتفرّق قواهم بين نقيض أعمالهم ودهشة الظلمات التي تغطّي آفاقهم ، فمن يفقد النور سيتخبط في سيره خبط عشواء ويتعثّر.

وهؤلاء المنافقون حين أظهروا الإسلام تمتّعوا بحقوق المجتمع المسلم كغيرهم من المسلمين ، فحفظت حقوقهم وحرمت دماؤهم وتناكحوا وتعاونوا ، وحين ماتوا انتقلوا الىٰ ظلمات وعذاب وغضب الجبار ، وأحيطوا بظلمات منقلبهم بسوء أفعالهم. فما أشبههم إذن بمن استضاء من الظلام بنار ثم انطفأت عنه فعاد إلى عماه وحيرته !

عن ابن عباس ، قال : « هذا مثل ضربه الله للمنافقين ، إنهم كانوا يغترون بالإسلام فيناكحهم المسلون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء ، فلما ما توا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءها » (١).

ومن الصور البلاغية في الآية ؛ استعمل القرآن عبارة ( ذَهَبَ اللَّهُ

_______________________

(١) تفسير ابن كثير ١ : ٥٤.

٦٣

بِنُورِهِمْ ) (١) فعدّىٰ الفعل بالحرف ولم يعدّه من باب « الإفعال » ، و « الباء » بمعنىٰ « مع » . فأذهبه : أزاله وجعله ذاهباً ، وأما ذهب به فمعناه استصحبه ، والمعنىٰ يكون أخذ الله نورهم وأمسكه ( وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ ) (٢) وهو أبلغ من الاذهاب ، وحين ذهب الله بنورهم تركهم يخبطون في ظلماتهم لا يسمعون ولا يتكلمون ولا يرون ، وسدّت عليهم منافذ الرحمة « السمع والقول والبصر » وسوف لا يرجعون الىٰ الهدىٰ لتمسّكهم بحالة النفاق.

ضياع المنافقين

قال تعالىٰ : ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٣).

الصيب : المطر والسحاب. والظلمات : ظلمات السحاب وظلمات الليل وظلمات المطر بتتابع قطراته. الرعد : الصوت المسموع من السحاب. البرق : ما يلمع من السحاب. الصاعقة : قصف الرعد ، وتحصل فيه شعلة من نار مدمّرة إلَّا انها سريعة الخمود. الخطف : الأخذ بسرعة.

_______________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧.

(٢) سورة فاطر : ٣٥ / ٢.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٩ ـ ٢٠.

٦٤

يعرض هذا المثل القرآني صورة مليئة بالحركة والقلق والاضطراب ، فالقرآن بريشته المقدّسة يرسم حركة النفس المنافقة فيستعين بظاهرة كونية وهي المطر الهاطل الغزير من كلّ أنحاء السماء يصاحبه ظلمات ورعد وبرق ، فهذا المطر يضطرّهم إلىٰ الفرار ، ولكن الظلمات الحاصلة والخوف والرعب من الرعد ، والبرق يمنعهم من الفرار ، فيضطربون في حيرة ، ثم يجعلون أصابعهم في آذانهم خوفاً من أصوات الرعد المحيطة بهم والمهدّدة لهم بالموت والفناء ، ويظنّون بوضعهم أصابعهم في آذانهم أنهم سيتخلّصون من الصواعق ، ولكن أصابعهم لا تمنع عنهم الموت والهلاك ، ومثل ذلك المنافق يظنّ أن في إظهاره الإيمان نفعاً يدفع عنه الضرر والأخطار ، ولكن أنّىٰ لهم ذلك ، فأثر الظاهرة الكونية لا يندفع حقّاً بحركة إصبع.

وقد يخيل للبعض ان البرق يكشف الظلمة ، ولكن الآية تصرّح بأن هذا البرق من القوة يكاد يخطف أبصارهم ويأخذ نور أعينهم ، ومن خلال هذا البرق الخاطف تكشف الآية عن حالة نفسانية للمنافقين ، وهي تردّدهم وحبّهم للمصلحة ، فمتى تحقّقت مصالحهم ( كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم ) (١) رضوا ورغبوا في الدين ( وَإِذَا أَظْلَمَ ) (٢) بانتهاء هذا البرق الخاطف ثبتوا وتوقفوا عن إبداء تلك الرغبة المنحرفة ، وهكذا حين نلحظ هذه الحركة القلقة لدىٰ المنتفعين بهذا البرق الخاطف السريع الزوال ، نقف علىٰ شدة الانهيار في نفوس المنافقين الناجمة من حالة التردّد والتمزّق بين مصالح الذات وبين حالات الامتحان والابتلاء.

_______________________

(١) و (٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٠.

٦٥

والمطر نافع بنفسه إذا لم تصاحبه الظلمات والرعد والبرق ، وكذلك إظهار الإيمان هو نافع إذا وافقه الباطن ، وإلّا فلا يستقيم إيمان ظاهر من غير محتوىٰ وتصديق له في العمل سرّاً وعلناً.

فإنسان تحيط به ظلمات السحب والمطر والليل مضافاً إلىٰ رعب هذه الظلمات والصواعق المحيطة به ، وهو واقع في حيرة من أمره ، لا يخرج منها إلّا وقد فاجأته حيرة جديدة واضطراب آخر ، كيف يمكن أن نتصوّره إذن ؟ وهذه الصورة جسّدها المثال الثاني في القرآن الكريم لبيان حيرة نفس المنافق وقلقه.

النفاق تشكيك وطعون

أراد النفاق المهزوم عبر طريقته في التشكيك أن يطعن في اسلوب المثل القرآني ، وينتقص من حالات ضربها القرآن الكريم أمثلة ، فقالوا : أي قدر للذباب والعنكبوت حتىٰ يضرب الله المثل بهما بأمثالهما ؟ باعتبار ان هذا الصغير لا ينسجم وعظمة الله فجاء قوله تعالىٰ : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) (١).

_______________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦ ـ ٢٧.

٦٦

فالجواب الإلهي يشتمل علىٰ جملة أمور :

١ ـ ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا ... ) كأنه جاء جواباً لقول الكفرة : أما يستحي ربّ محمّد ان يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت ، فجاء علىٰ سبيل المقابلة واطباق الجواب علىٰ السؤال ، فمعنى ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا ... ) هو سبحانه لا يترك ضرب المثال ولو بالبعوضة ؛ لأنها وإن كانت ضعيفة إلّا أنها من خلق الله وصنعه المتقن العجيب ، بل هي من جند الله بحيث يمكن تسخيرها للقضاء على أمة بكاملها لما تحمله من جراثيم فتاكة ، في حين لا تتأثر بها !!

٢ ـ قيل في معنىٰ ( فَمَا فَوْقَهَا ) معنيان :

أ ـ ما زاد علىٰ البعوضة في حقارتها وصغرها كقولك : فلان أسفل الناس وأكثر.

ب ـ ما زاد علىٰ البعوضة في حجمها وكبرها.

٣ ـ ان ضرب الأمثال هو لتقريب البعيد وإدناء المتوهم من الشاهد ، فهذا غرض المثال وهدفه بعيداً عن حجم وشكل المتمثل به ، ولكن هناك وجهاً للماثلة بين التمثيل به وما يرمز إليه ، فمن خلال مطالعة سريعة لموارد المثل القرآني نجد مثل النور والضياء للإيمان والحق الأبلج ، ومثل الظلمة للنفاق والكفر ، وقد ضرب القرآن الكريم بيت العنكبوت مثلاً في الضعف والوهن.

ولا ريب أن الله سبحانه هو خالق الكبير والصغير ، وليس الصغير أخفّ عليه من الكبير ، وليس العظيم أصعب من الصغير ، فهناك مناسبة إذن في ضرب المثال ، ولا أثر لهذه الاعتبارات الشكلية.

ثم أن التمثيل بحقير الأشياء وصغرها جاء علىٰ لسان العرب أنفسهم حين

٦٧

يقولون : أخطأ من الذباب ، وأصفىٰ من لعاب الجراد ، وأعزّ من مخ بعوضة ، انما يقصدون بذلك المعاني التي وراء هذا الأمثال.

٤ ـ سنة الابتلاء والامتحان نفسها ؛ ليفوز من يفوز بإيمانه ، وليضل من كفر ، فمن طبيعة المؤمنين أنهم يتلقّون ما يأتيهم ممتثلين طائعين ويزيدهم إيماناً إلىٰ إيمانهم ، ولكن الذين كفروا يكابرون فيتساءلون متنكرين لأمثلة يضربها القرآن الكريم : كيف يستخدم صغير الأشياء أو حقيرها كالذباب والعنكبوت وغيرها ؟

وهكذا يُبتلى الإنسان بسنة الامتحان ، فيهتدي بعضهم ، ويضل كثير ، كلّ حسب استعداده للهداية والضلال.

نماء الإنفاق

( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (١).

إن القران الكريم أولىٰ مسألة الانفاق في سبيل الله أهمية كبيرة ، ففي هذا المقطع الكريم من القرآن أوضحت الآيات المباركة ضوابط أساسية في هذا الانفاق كحضور النيّة الخالصة ، وإبطال الانفاق بالرياء وبإتباعه بالمنّ والأذىٰ ، وأن يكون المال طيّباً لا خبيثاً. وتنطلق هذه الأهمية لمسألة الانفاق من كون

_______________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦١.

٦٨

الانفاق يسهم في تطهير النفوس ، وفي تأسيس العبودية الصادقة لله سبحانه ، ومن ناحية اُخرىٰ فإن الانفاق ركيزة أساسية في بناء مجتمع التكافل مثل الزكاة والخمس والكفارات والصدقات المندوبة والفدية والوصايا والهبات وأمثالها.

فتواجهنا هذه الآية المباركة بالانفاق « في سبيل الله » لتضفي عليه حالة نماء وزيادة فعلىٰ الرغم من أن الاعطاء ظاهرة يؤدّي إلىٰ نقص في ما يملكه المنفق ، لكنّا في المنطق القرآني نقف علىٰ حالة مضادّة ، فيضرب القرآن لهذه المضاعفة صورة مجسّدة تألفها النفوس ، وتحسها بالمعاينة ، فهي كحبة القمح الواحدة حين تزرعها ثم تثمر لك سنابل فيها حب كثير ، ويعدم القرآن الكريم بهذا المثل الرائع التصور الشائع بان الاعطاء ينقص في مال المنفقين ، ثم يعقب علىٰ هذه المضاعفة بانها يمكنها أن تخضع لزيادة اُخرىٰ يريدها الله سبحانه.

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « إذا أحسن العبد المؤمن عمله ، ضاعف الله عمله بكلّ حسنة سبع مائة ضعف ، وذلك قوله عزّوجلّ : ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ) (١) » (٢).

ولربما يفهم من سياق الآية ان المضاعفة تكبر تزداد كلما خلصت نية الانفاق ، وَتَطهَّرَ صاحبها من ألوان الشرك كا تباع هوى النفس ، وعشق السلطة ، وحبّ الجاه وغيرها ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) فللّه خزائن السماوات والأرض ، ولا يضيق عطاؤه ، ويسع حاجات عباده ، وهو عليم بالمستحقّ.

والمثال بحذف مضاف وتقديره « مثل نفقتهم كمثل حبة » أو « مثلهم كمثل

_______________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦١.

(٢) أمالي الطوسي : ٢٢٤ / ٣٨٨.

٦٩

باذر حبة ».

وجاءت الآيتان بعد هذا المثل لتؤكّدا استقامة الانفاق الذي يأمر به الله سبحانه عباده ، فقال تعالىٰ : ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) (١).

فيفهم من ذلك :

١ ـ الإنفاق يكون في سبيل الله مع خلوص النية فيه.

٢ ـ عدم إلحاق المنّ والأذىٰ بهذا الانفاق بعد أدائة ، فالمنّ كقول المسؤول للسائل : ألم أعطك ؟ ألم أحسن إليك ؟ والأذىٰ : أن يعبس بوجهه أو يتعبه أو يؤذي سائله.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أسدىٰ إلىٰ مؤمن معروفاً ، ثم آذاه بالكلام أو منّ عليه فقد أبطل الله صدقته » (٢).

٣ ـ ان ردّ السائل بالقول الحسن والمعروف والكلمة الطيبة خير وأفضل من صدقة يتعها أذىٰ.

آفة الانفاق

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ

_______________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

(٢) تفسير القمّي ١ : ٩١.

٧٠

مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (١). تؤكد الآية الكريمة على أن الحاق الصدقات بالمنّ والأذىٰ هو سبب لبطلان هذا الانفاق واحباطه ، وقد ضرب الله في هذه الآية مثلاً للمرائي والمنّان الذي يصطنع معروفاً ثمّ يتبعه بالمنّ والأذىٰ (٢).

وهناك فارق ظاهر بينهما ؛ فالمنّان يقع عمله صحيحاً ثم يعرض له البطلان ، أما المرائي فعمله باطل من الأساس لبطلان نيّته ، فحين يعمل يريد أن يُرى الآخرين عمله ، ولكن في هذه الآية ـ كما يقول الطباطبائي ـ المراد بها من عدم إيمان المرائي بالله واليوم الآخر ، هو عدم إيمانه بدعوة الانفاق التي أمر بها الله سبحانه ، وأعد لأهلها الثواب الجزيل ، وبالتالي فعدم إيمان المرائي لا يعني عدم إيمانه بالله سبحانه من الأساس (٣) فقد يعرض له أثناء عمله. ولهذه المجانسة يمكن تشبيه عمل المنّان بعمل المرائي.

ومن أجل تجسيد هذه الصورة في بطلان هذا العمل وعدم كتابة الأجر له ، مثّل القرآن الكريم ذلك ب‍ « الصفوان » وهو الحجر الأملس عليه تراب قليل لا يصلح أن يكون أرضاً للزراعة والانبات ، فإذا نزل « وابل » وهو المطر الكثير القطر ، أزال التراب وكشف الحجر الأملس الذي لاينبت فوقه شيء وإن غمره المطر ؛ إذ لا وجود لهذا التراب الذي كان يوهم بامكانية الإنبات فيه حين ينزل مطر السماء عليه ، وهذا هو شأن المرائي والمنّان حين ينفقان أموالهما لا يقدران

_______________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٤.

(٢) تفسير القمي ١ : ٩١.

(٣) تفسير الميزان ٢ : ٣٨٩.

٧١

ولا يحصلان علىٰ شيء من الثواب علىٰ ما أنفقوا.

وفي التمثيل لخلوص النيّة في الإنفاق قال تعالىٰ : ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (١).

فالذين ينفقون أموالهم طلباً لمرضاة الله وتصديقاً للاسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم مثّل القرآن عملهم بالجنة ، وهي الزرع والبستان الملتفّة أشجاره لكثرتها ، علىٰ « ربوة » أي مرتفع من الأرض ، وعادة يكون الزرع في المرتفع أفضل ريعاً وأطيب مما دونه ، وينزل الوابل عليها فتؤتي ثمرها مرتين ، أي مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل ، وإن لم ينزل عليها وابل فطلّ ، وهو المطر الصغير القطر يكفيها لكرم منبتها ، وقد مثّل الله حالهم بالجنة ، وانفاقهم الكثير بالوابل ، والانفاق القليل بالطل ، وفي كلام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ما يصوّر لك ضرورة الانفاق وإن قلّ. قال عليه‌السلام : « لا تستحي من إعطاء القليل ، فإنّ الحرمان أقلّ منه » (٢). ذلك لأنَّ الانفاق زاكٍ عند الله سبحانه ما دام متوفراً علىٰ نيّة القرب والزلفىٰ من الله سواء أكان قليلاً أو كثيراً ، كما يضاعف ثمر الجنّة ضعفين ، فهذان المثالان الشاخص أثرهما أمام نواظرنا نتحسّس فيهما أثر النيّة في العمل ، ومن الحديث الثابت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حديث : « إنما الأعمال بالنيّات » (٣).

_______________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٥.

(٢) نهج البلاغة ـ قصار الحكم (٦٧).

(٣) الكافي : ٢ : ٦٩ / ١.

٧٢

الهداية حياة

( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (١).

الإنسان بطبيعته قادر علىٰ التمييز بين الموت والحياة ، فهو يرىٰ الأحياء المتحرّكة والأجسام الجامدة المتشكّلة من حوله ، ويحسّ بأثر الحركة المندفعة في هذه الأحياء بينما تلكم الأجسام الجامدة غير قادرة وفاقدة للتعبير عن أية صورة من صور هذه الحياة.

ويعيش هذا الإنسان نفسه حالة وجدانية مثيرة حين يحمل جثة انسان تخشّبت بعد موتها وهي غير قادرة علىٰ حراك أو إثارة بعد أن فقدت سرّ جمالها ومبعث حركتها ، وهو يتذكّر حركة هذا الإنسان قبل موته ، ولربما شاهده بنفسه فتكون أكثر تعبيراً واثارة لبيان قيمة الحياة وأثرها في دنيا الإنسان ، ومن هذا الواقع المتجسّد الراسخ في حياة الإنسان ، ومن مشاهداته المتكرّرة لظاهرة الموت والحياة ، جاء القرآن الكريم ليمثّل للهداية والضلال بالحياة والموت ، قال تعالىٰ : ( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) (٢) وفي بينها يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : « من أخرجها من ضلال إلىٰ هدىٰ فكأنّما أحياها ، ومن أخرجها من هدىٰ إلىٰ ضلال فقد قتلها » (٣).

_______________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٢٢.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٣٢.

(٣) الكافي ٢ : ٢١٠ / ١.

٧٣

فالضالّ الذي ليس علىٰ طريف الله يعيش في ظلمات غارق فيها لا يخرج منها ، فهو في ظلمات عديدة كظلمة النفس والدنيا وتزيين الشيطان ، فهذا الإنسان الضال يعيش جموداً مطلقاً شاحباً ، حتىٰ ان تصوراته للكون والحياة تتضيق فلا يرىٰ إلّا نفسه وما يتعثّر به ، فهو في ظلمات عديدة لا يخرج منها ، ولا يستطيع أن يثور عليها ؛ لأنها حوّلت الحياة الرحيبة سجناً صغيراً لأفكاره ومشاعره ، وبذلك تبلّد لديه الفكر الكوني التكاملي وتقطّعت مشاعره تقطعاً.

بينما الإنسان حين تدخل الهداية نفسه وتنبسط روحه لخالقها ، فإنها تحييه حياة طيبة ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) (١) وتثير الحياة والحركة في مقاطعه الميتة ، فهذا النشور الجديد وهذا الاحياء في ميت الضلالة ، يمكنه الاستفادة مما حوله ، وبهذا يقدر علىٰ التفاهم مع ما تحيطه من مفردات ، بل تضيف الآية الكريمة بعداً آخر في قوله تعالىٰ : ( وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) (٢) فبعد إحيائه وحركته يستطيع إبصار ما حوله بنور إلهي يبدّد له ظلمات النفس والدنيا ، ثم يمشي في الناس بوحي من هذا النور.

فهذا النور يستتبع أثراً واقعياً ليمشي به في خلق الله من البشر ، من أجل أن يؤدّي رسالته بين الناس بفعل ما فيه من نور إلهي ، وأخيراً لاحظ الفرق الكبير متخبّط في ظلمات ، وبين ميت أحياه الله وجعل له نوراً يستنير به.

_______________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٩٧.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٢٢.

٧٤

الهداية بعد الانشراح

( فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) (١).

الشرح لغةً : البسط والسعة والتهيئة لما يستقبل ، ويستعمل في جانب الخير مثل : ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ) (٢) ، وفي الجانب الآخر مثل : ( وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ) (٣). والاضلال : يقابل الهداية. والضيق : يقابل التوسعة. ويصّعّد : من باب « التفعّل » وفي اللفظة وقد شديد بخلاف فعلها الثلاثي المجرّد ، وذلك لبيان الزيادة في العناء والتعب والشدة. والرجس : لفظ عام يشمل كل دنس من قبيح وقذر ، والمراد به في الآية ، الاضلال وقيل : الشيطان ، أو العذاب ، كما قيل : اللعنة.

ان السائرين في طريق الحق يستلهمون دائماً من خارج منطقة العقل والتقدير الحسابي قوة يهبها الله سبحانه لمن يطلب الهداية ويسلكها ، بخلاف من يقصد الضلالة ، فإن الله تعالىٰ يزيد في ضلالته ويحيطه بالوجه القبيح المنفّر من قبيل العذاب واللعنة والضلالة ، ومن ذلك يمكننا أن نتبيّن عظمة النعمة وخطر الانتقام من قبل الله العزيز. وقد سُئل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كيف يشرح الله الصدر ؟

_______________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٢٥.

(٢) سورة الشرح : ٩٤ / ١.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ١٠٦.

٧٥

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له صدره وينفسح » فقيل له : وهل لذلك أمارة ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الإنابة إلىٰ دار الخلود والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله » (١).

فالذي يكون موضع هدايته سبحانه يتناوله العزيز اللطيف بالتبصرة وتليين القلوب ( أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ) (٢) وذلك من أجل أن تتوثّب هذه القلوب وتتهيّاً لتلقّي القول الحقّ والأخذ بصالح الأعمال ، وقد بيّنت الآية التي بعدها جزاء عملهم وسلوكهم الصراط المستقيم ( لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٣).

وهذه اثارة اُخرىٰ ودافع جديد ليبعث فيهم الإصرار وقوة العمل والثقة بهداية الله اللطيف وحين لم تنشرح النفس فإنها في انقباض وتوصد أمامها منابع النور ( فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (٤).

بل تصير صدور الضالين في حرج وضيق شديد ، وقد استعملت الآية المباركة مثلاً لذلك ضمّنته إشارة علمية أصبحت من المسلّمات العلمية ، وهي أن أعالي الجو يسبّب ضيقاً وحرجاً بسبب قلّة الضغط الجوي الخارجي.

ثم إن استخدام لفظة « يَصَّعَّد » يدلّ علىٰ شدّة ومعاناة بخلاف فعلها الثلاثي

_______________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٥٦١ ، بحار الأنوار ٦٨ : ٢٣٦.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ٢٢.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ١٢٧.

(٤) سورة الحج : ٢٢ / ٤٦.

٧٦

المجرّد (صَعِدَ) وهذا ما يذهب إليه علماء اللغة بأن زيادة المبنىٰ في الكلمة يسبّب شدّة في المعنىٰ ؛ وزادت الآية في ذلك فاستخدمت كلمة « الرجس » وهو القبيح والقذر من الضلال أو العذاب أو اللعنة ، فيجعله الله علىٰ الذين لا يؤمنون بوحدانيّته ، أو علىٰ من يرفض بعض ما أنزل من المعارف والأحكام ، لتصير هذه القذارات حائلاً ومانعاً بين الضالّ وبين الآخرين وسبب تنفيرٍ لهم.

فضيلة البصير

( مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَىٰ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) (١).

عرض القرآن الكريم فريقين يبعد أحدهما عن الآخر بعداً لا يوصف ، ومن غير الممكن أن يكون لهذين الفريقين نقطة التقاء أو خط للتقارب إلّا أن يسجّل أحدهما حالة تراجعية عما يعتقد فيه ، فهذا الفريق الكافر الذي يفتري علىٰ الله الكذب ويصدّ عن سبيل الله ويبغيها عوجاً ويقصد الانحراف عن وعي منه وإدراك ، لا يمكننا أن نتصوّر له لقاءً مشتركاً مع الفريق الآخر المؤمن الذي يخبت إلىٰ ربّه ويعمل الصالحات ، ويسمع فيتفكّر وينتفع ببصره وبصيرته ، قال أمير المؤمنين : « فانما البصير من سمع فتفكّر ، ونظر فأبصر ، وانتفع بالعبر ، ثمّ سلك جُدداً واضحاً يتجنّب فيه الصرعة في المهاوي » (٢).

_______________________

(١) سورة هود : ١١ / ٢٤.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ١٥٨.

٧٧

إنَّ الفرق الكبير بين الفرقين ناشىء من نقطة الاعتقاد والتصورات والممارسات التي عليها أفراد هذين الخطين المتعارضين ، ومما يوغل في استحكام هذه الحالة هي القصد والعناد في الفريق الأول ، والمبدأية والاصرار في الفريق الثاني.

ثم إنَّ القرآن الكريم يكشف عن حالة اٌخرىٰ ، وهي فقدان الفريق الكافر للولاية ، مما يورثه الضلال والتيه ، فما كانوا يستطيعون السمع ، وما كانوا يبصرون ، وبذلك هم يعطّلون حاسّتين لهما أثر خطير في تقرير موضوع الهداية في نفوسهم ، وهما السمع والبصر.

وفي هذا المقطع القرآني الكريم إشارة إلىٰ أن الفريق الأول يعدّ من الظالمين فيفضحهم الرسل والملائكة والمؤمنون وأشهاد آخرون بقولهم : ( الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (١) ويزيد القرآن في بيان خطر هذا الفريق وفَضْحِهِ ، فيكشف انهم علىٰ اعوجج والتواء وانحراف في عقيدتهم ومنهجهم ، ثم أنهم ( بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) (٢) فإذا نظرت إلىٰ جماعة ثقافتهم الانكار والكفر باليوم الآخر ، وهم علىٰ سبيل أعوج ، وتلحقهم اللعنة من مراكز الاشهاد من الرسل والملائكة والمؤمنين ، فماذا يمكن أن تقول فيهم ؟ إنهم لا شكّ سادرون في ضياع مطبق ، وليس لهم ولي من دون الله ، فلا يتذوّقون طعم العبودية والقرب من الله تعالىٰ ، وتغمرهم الذلّة والهوان.

هذا الفريق الكافر بعيد كلّ العبد عن الفريق المؤمن الصالح المطمئن بالله وإلىٰ

_______________________

(١) سورة هود : ١١ / ١٨.

(٢) سورة هود : ١١ / ١٩.

٧٨

الله سبحانه ، وقد إشار القرآن الكريم إلىٰ هذا الفارق الكبير بينهما ، فاستخدم اسلوب « اللفّ والطباق » ممّا يلقي روعة علىٰ بيان المقصود ، فجاء بهذا المثال ، والسامع لهذه الآية المباركة يقف علىٰ المسافة الكبيرة بين أتباع هذين الفريقين.

العبودية المعطلة

( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (١).

من أجواء ما يألفه الإنسان ويستأنس به ، وينطلق بعيداً ليحكم علىٰ ما حوله من حقائق ومفردات في ضوء ذلك الاستئناس ؛ إنه يرىٰ كلّ شيء بنظر قصير تحجبه الحالة التي هو فيها عن الرؤية الشاملة والافق البعيد ، فالذي يعيش مثلاً داخل مجتمعه الصغير لا يرىٰ إلّا ما يرون ، فكأنه محكوم بجبرية هذه الرؤية ، ولكن هذا لا يعدم حالات تسمو علىٰ هذه الرتابة أحياناً ففي أذهان البعض قد تحدّد الشجاعة من خلال فلان الشجاع ، أو تحدّد صورة الكرم والجود من خلال فلان الكريم والجواد ، فلا يتمكّنون من إصابة معانٍ أوسع وأكبر.

_______________________

(١) سورةالنحل : ١٦ / ٧٥ ـ ٧٦.

٧٩

والقرآن الكريم يثير في هذا المقطع حالة طائفة ، فيقول تعالىٰ : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ) (١).

فهؤلاء يفهمون انما يرزقهم الناس الذين من حولهم ، ويجهلون أنهم لا يملكون شيئاً من الرزق ، ولا يستطيعون ذلك ، وينطلقون بذلك مما ألفوه واستأنسوا به في حياتهم الدنيا ، فرفض القرآن الكريم هذا المقياس ، ونهاهم عن هذا التشبيه القبيح ، ومقايسة الغيب بالمحسوس ، فكيف إذن يشبّهون الله سبحانه بصفات مادية حادثة ( فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (٢).

وقد أوضح القرآن الكريم ذلك مستعيناً بواقعهم نفسه بتشبيه هذه الحالة بالفارق الكبير بين العبد المملوك الفاقد للإرادة الذي لا يملك شيئاً ولا يقدر عليه ولا يُنتظر منه أي عطاء ، وبين آخر حرّ ينفق بإرادته سرّاً وعلناً مما رزقه الله.

ثمّ ضرب القرآن للمعنىٰ ذاته مثالاً آخر مبيناً الفارق الكبير بين الأبكم أي الأخرس الذي لا يفهم أحداً ، ولا يقدر علىٰ صنع شيء أو تأديته ، وأنه كلّ وعيال وعبء علىٰ مولاه الذي يتولّىٰ أمره ، مضافاً إلىٰ ذلك أنه لا ينتفع منه خيراً في أي وجهة يتوجّه إليها ، هذا كلّه من جهة ، وبين الذي يأمر بالعدل وهو علىٰ صراط مستقيم ، وهاتان الصفتان تكشفان عن شخصية معتدلة متزنة

_______________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٧٣.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ٧٤.

٨٠