نور من القرآن

الدكتور علي الأوسي

نور من القرآن

المؤلف:

الدكتور علي الأوسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-448-5
الصفحات: ١١٧

علوم القرآن
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الأنداد الضالون

الأنداد : جمع ندّ ، وهو الضدّ والشريك ، فقد يتّخذ الإنسان في حياته وعقيدته مثالاً ونموذجاً ربما هذا المثال حجراً أو نباتاً أو ملكاً ، وقد يكون إنساناً مثله أو ديناراً ! وهكذا ، وهذا الاتّخاذ يتحوّل في المشاعر والأحاسيس حبّاً وودّاً ؛ قال تعالىٰ : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ) (١) فهم يضمرون أو ينتزعون حب الله من قلوبهم ليبدلوها حبّاً آخر ، إذ لا يجتمع حبان متناقضان في قلب واحد ، قال تعالىٰ : ( مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) (٢) فإذا دخل حبّ في قلب الإنسان لابدَّ أن يخرج الحبّ الأول أو علىٰ أعلىٰ التقادير يبقىٰ في ضفاف هذا الحبّ الجديد بعيداً عن تأثيراته الصميمية.

ففي عصرنا اليوم لم يعد للأصنام الحجرية أو الجامدة مكان ليعبّر لها بالولاء والحبّ وتقديم الودّ ، ولكن للأصنام البشرية والفكرية والمادية وسائر القوىٰ المؤثّرة في حركة الإنسان وتطور المجتمع مجالاً واسعاً للاسترقاق ما لم تستحكم عقيدة التوحيد في قلوب الناس وعقائدهم.

ولا يعني هذا أننا نرفض حبّ بعضنا للبعض أو حبّنا للقائد والقيم والفكر ، ولكن حين يخرج هذا الحب بطريقة وقناعة معينتين يمكن أن يحكم عليها بالنديّة والإشراك والضلال. يقول السيد الطباطبائي رضي‌الله‌عنه : إنّ من أحبّ شيئاً من

_______________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٦٥.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٤.

٤١

دون الله ابتغاء قوة فيه فأتبعه في تسببه الىٰ حاجة ينالها منه ، أو اتبعه بإطاعته في شيء لم يأمرالله به ، فقد اتخذ من دون الله أنداداً (١).

فكثيراً ما يعيش الإنسان قدسية الأُطر الفكرية أو التنفيذية أو السياسية وغيرها فتأخذه جاذبية العمل وأُنسه وأُلفته لهذه الحالة بعيداً عن الواقع والتصوّر الكوني للأشياء ، وليس بعيداً عنا ما جرىٰ ويجري في الوسط الإسلامي من موالاة وطاعة عمياء لأفكار دخيلة وقيادات غريبة عن واقع الأُمة الإسلامية بكل أُطرها السياسية المستوردة.

عن الإمام الباقر عليه‌السلام في قوله تعالىٰ : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ) يقول عليه‌السلام : « هم والله أئمة الظلمة وأشياعهم » (٢).

وينعىٰ القرآن الكريم عليهم منهجهم هذا بأنهم غائبون عن حقيقة مالكية القوة المطلقة ، وبالتالي فهم لم يدركوا ما ينتظرهم من عذاب ، فيريهم الله سبحانه أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ، قال تعالىٰ : ( وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) (٣).

_______________________

(١) تفسير الميزان : ١ / ٤٠١.

(٢) تفسير العيّاشي ١ : ١٧٤ / ٢٤٨.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٦٥ ـ ١٦٧.

٤٢

الغرور القاتل

الغرور : يعود هذا المصدر إلىٰ جذر لغوي له عدة معان نقتطف هنا المعنىٰ الذي يستخدمه القرآن الكريم في الآيات التي تعرض فيها لهذه المفردة القرآنية ، فالغرور ويقارب الغفلة لغة ، واذا تتبعت الآيات المباركة تجد ان معنىٰ الغفلة هو الركن الاساسي في تفسير مفردة الغرور.

قال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) (١) وفي الآية تصريح بالنهي عن الاغترار بالدنيا والاستغال بزينتها والاستغراق بطلبها والاعراض عن الحق والغفلة عنه.

وهكذا لو تتبعت هذه الآيات تجد أنها تستبطن الغفلة ، وانها وراء ورطة المغرورين بالله سبحانه وأسس الإيمان الاُخرىٰ ، ويفسر علماءُ الأخلاق الغرورَ بسكون النفس الىٰ ما يوافق الهوىٰ ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان. والغرور نوع من الجهل ، ومنشأ هذا الغرور هو الجهل بالله وصفاته ، فان من عرفه سبحانه لا يأمن من مكره ويغترّ به.

وقد قسم علماء الاخلاق المغرورين الىٰ عدة اصناف ؛ فمنهم عصاة المؤمنين ، وغرور أهل العلم وارباب العبادة والعمل وارباب الأموال و ... الخ. قال الصادق عليه‌السلام : « المغرور في الدنيا مسكين وفي الآخرة مغبون لأنه باع الأفضل

_______________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٥.

٤٣

بالأدنىٰ » (١).

والغرور مرض يصيب النفس الإنسانية فيشلها عن الفاعلية ويمنعها من رؤية فضل الآخرين ، ويبقىٰ المغرور منتفخاً في دائرة أوهامه ، واذا ما استحكم هذا المرض من النفس فلا يستطيع الإنسان وقتئذ أن يحفظ حتىٰ المقدسات ، فتأخذه المكابرة علىٰ كلّ شيء سوىٰ نفسه ، وهذا الغرور كما يصفه علماء الأخلاق يصيب الإنسان مهما كانت هويته واعتقاده ، فلا يسلم منه احد لا سيما في اجواء تحقيق الانجازات والمشاريع والانتصارات ، وقد اطلق البعض وصفاً لهؤلاء المغرورين المتكبرين كمن ينظر الىٰ الناس من مرتفع عالٍ فيراهم صغاراً ونسي انهم يرونه صغيراً أيضاً لذا تتمكن الغفلة وتستحكم في رؤية هذا الإنسان المغرور.

وبناء علىٰ ذلك يجب علىٰ هذا الإنسان أن يعرض نفسه دائماً علىٰ دائرة اتهام النفس ومحاسبتها حتىٰ لا تنأىٰ به بعيداً عن صواب الطريق. ويأتي هذا في سياق آية النهي عن الغرور : ( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (٢) لتذكِّر أنّ هذا الإنسان يعمل بمعادلة مقلوبة ؛ منكوس فهمه مغلوب علىٰ عقله ، يرىٰ عمله السيء حسناً ، فهو لا يستوي والمؤمن الذي يعمل الصالحات ويرىٰ السيئة سيئة.

وما أفدح أمر الإنسان الذي يبرّر لعمله السيء ويستمريء مرارة هذه السيئات وقذارتها دونما وعي لحقائق الأمور !

_______________________

(١) مصباح الشريعة / المنسوب إلىٰ الإمام الصادق : ١٤٢.

(٢) سورة فاطر : ٣٥ / ٨.

٤٤

الدنيا متاع الغرور

قال تعالىٰ : ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) (١).

اللعب : ضد الجدّ ، وهو عمل بقصد اللذة أو التنزّه ، أو من غير قصد صحيح ، وقيل : هو تعب من غير فائدة. واللهو : ما يشغل الإنسان عما يهمّه. والزينة : تحسين القبيح. والتفاخر : المباهاة والتمدّح بالخصال.

جُعِلَتْ الحياة الدنيا من أجل البناء وتعميق العبودية الخالصة لله ، ولم تُخْلَق عبثاً ، وإنّما لحكمه ومشيئة إلهية ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ) (٢) ، ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ) (٣) وفي الميدان الحياتي يشق الإنسان طريقة وهو خليفة الله المجعول من قبله سبحانه ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (٤).

ومن أجل تقبيح حبّ الدنيا في نفسه ، وبيان النتائج المرعبة للمغمورين فيها ذكر القرآن الكريم في هذا المقطع بعض الخصال مثل : « اللعب واللهو

_______________________

(١) سورة الحديد : ٥٧ / ٢٠.

(٢) سورة المؤمنين : ٢٣ / ١١٥.

(٣) سورة ص : ٣٨ / ٢٧.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٣٠.

٤٥

والزينة ، والتفاخر ، والتكاثر » وهذه الخصال تضفي علىٰ دنيا الناس حركة ، ولكن أيّة حركة هذه ؟ إنّها الانشغال والانقطاع للدنيا ، فتخدع مريديها وتشغلهم ، وتسرق وقتهم ، وتأسرهم في أعمال تبعدهم عن الصواب وسلامة المنقلب ، والملاحظ في هذه الصفات أنّها تستغرق حياة الناس ، فقد يبدأ الإنسان فيها لاعباً وينتهي ميّالاً للتكاثر في الأموال والأولاد ، مسروراً بأسباب اللهو والزينة والتفاخر.

ومن أجل بيان هذه الحقيقة والخطر الكامن فيها ضرب القرآن الكريم مثلاً حياتياً يمرّ به الناس كلّهم ، ويرونه بأعينهم ، فالحياة الدنيا كالمطر النازل الذي يثير الأرض ويهيجها ، فيعجب نباته الزارعين ، وبعد ذلك يصفر وتزول نضارته ، ثم يصير هشيماً يابساً متكسّراً تذروه الرياح ، فلا يثبت أمام الناظرين ، ويتلاشىٰ ذلك الوجود بسرعة فلا ينفعهم اعجابهم ، قال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : « إن أقبلت غرّت ، وإن أدبرت ضرّت » (١).

إنّ ضرب هذا المثل يثير في النفوس خطر هذه الدنيا وحقارتها وسرعة زوالها ، ثم تذكر الآية أن هناك عذاباً شديداً ينتظر أتباع الدنيا ومريديها ومحبّيها ، بينما المغفرة والرضوان لمن يجعل الدنيا طريقاً للعمل الصالح ويعيش فيها عبداً مطيعاً لله ولا يتأثّر بخصالها الباطلة ، ثم تذكر الآية أن الدنيا متاع لا يدوم ، وهو مبني علىٰ غرور لا يستند إلىٰ حقيقة عملية ، وهذا نوع انسجام بين بداية الآية وخاتمتها ، وعلىٰ المرء ان يستحضر علىٰ الدوام هذا المعنىٰ الذي يكشف عن حقيقة الدنيا من خلال تعامله مع عقيدته ونفسه والمجتمع ، من أجل أن تكون ضابطاً واعياً لكل مواقفه وممارساته العملية.

_______________________

(١) بحار الأنوار ٧٨ : ٢٣ / ٨٨.

٤٦

الدنيا هشيم يحترق

( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ) (١).

جاء هذا المثل بعد مثل الجنتين وبين أن الإنسان قد يُخدَع بالحياة الدنيا فيتصوّرها دائمة له يعيش في كنفها وتدفع عنه نذر الموت ، إنّ هذه المشاعر والأحاسيس إنّما تتولّد جراء الغفلة وعدم الالتفات الىٰ المنقلب ، وحين تطحنه الدنيا بدولابها الكبير يستحيل فاقد الإرادة مستسلماً لم يتمكّن من الرفض ولم يحاول أن يتجاوزها ولو مرّة واحدة ، وقد تحيا الدنيا في نفس محبيها عشقاً يغمر نفوسهم يأخذ بعقولهم بعيداً عن حسابات المنطق الإلهي القويم ، وهكذا نواجه في حياتنا الكثير من الناس يعيشون فيها لعمارتها ، وينقطع في ذهنهم شريط الأحداث ، فلا يرون فيه إلّا دنياهم الغرور ، لذلك لا يروق لعاشقيها سماع موعظة أو بيان في أخراهم ، وإذا سمعوها لم يعوا مقالةً ولم يفقهوا خطاباً ، حتىٰ يستسلموا إلىٰ العمىٰ والضلال ، ويشربوا كأسها إلىٰ الثمالة ، قال الإمام الكاظم عليه‌السلام : « مثل الدنيا مثل ماء البحر كلّما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتىٰ يقتله » (٢).

ولقد جاء هذا المثل لبيان قصر الحياة الدنيا وسرعة انقلابها إلىٰ الفناء

_______________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٤٥.

(٢) تحف العقول : ٣٩٦.

٤٧

فالذي يشاهد النبات وهو يختلط بماء السماء ، يراه مخضرّاً ينمو ويتحرّك ويزهو ، فيأخذ بنفسه ويتمكّن من رغبته ، ثمّ لا يدوم له ذلك فيصيبه اليبس ويتحوّل إلىٰ هشيم متكسّر ومتفتّت تطيره الرياح فيزول ويفنىٰ ، وإنّ الله مقتدر لا يمنعه مانع من ذلك ، هذا هو شأن الدنيا تزول وتفنىٰ بسرعة بعد زهوها وخيلائها.

وبعد ذلك ذكر القرآن الكريم مباشرة أنّ المال والبنين هما زينة الحياة الدنيا ، وليس لهما وجود حقيقي ، أو بقاء خالد ، ولكن النفس تلتذّ بالمال والبنين وآثارهما ، لما يتركانه من لذّة الجمال والقوّة التي يتزيّن بها أصحابها ، بينما يؤكّد القرآن الكريم علىٰ القيمة الحقيقية والأثر الخالد الذي تتركه الباقيات الصالحات من الأعمال والأقوال والطاعات ، قال رسول الله : « الدنيا ساعة ، فاجعلوها طاعة » (١).

فلا بقاء إلّا للعمل الصالح ، وهذه الدنيا فانية زائلة بزينتها من الأموال والأولاد لذلك ينبغي الالتفات إلىٰ ما يبقىٰ ويخلد وينفع آخرة الإنسان ، قال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : « ألستم في مساكن من كان قبلكم ، أطول أعماراً ، وأبقىٰ آثاراً ، وأبعد آمالاً ، وأعد عديداً ، وأكثف جنوداً ، تَعَبّدوا للدنيا أيّ تعبّد ، وآثروها أيّ إيثار ، ثم ظعنوا عنها بغير زاد مبلغ ، ولا ظهر قاطع » . ثمّ قال : « فقد رأيتم تنكّرها لمن دان لها وآثرها وأخلد إليها حتىٰ ظعنوا عنها لفراق الأبد » (٢).

_______________________

(١) بحار الأنوار ٧٧ : ١٦٤ / ٢.

(٢) نهج البلاغة / تحقيق محمد عبده : ٢١٩ الخطبة (١١١).

٤٨

الفرد المخدوع

( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (١).

الدنيا الغَرُور المهلكة طلّابها القاتلة محبّيها ، تتزيّن لضحاياها من البشر لتلقي بهم في شراكها القاتلة ، فما أشدّ غفلة الإنسان عن مصيره الذي ينتظره ! وبينما هو مشغول بها فإذا به ميت وكأنه لم يكن شيئاً مذكوراً.

إنّ حبّ الدنيا والانشغال بها كثيراً قتل الماضين ، فمثلها ـ كما يقول أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ـ : « كمثل الحيّة ليّن مسّها والسم الناقع في جوفها يهوي إليها الغر الجاهل ، ويحذرها اللبّ العاقل » (٢) ولكن قلّ مَن يعتبر ، تهلكهم واحداً بعد واحد ، ولا يكونون منها علىٰ حذر ، ونجد من عمّرها وكدّ وسعىٰ فيها ، يموت عليها حسرة حين يتكشّف زيفها ويضعف بدنه عن تناول لذائذها ، فهي كالقنطرة للعبور لا للتعمير والزينة.

لقد طالعتنا الآية الكريمة في سورة يونس بتشبيه وتجسيد لحقيقة الدنيا من خلال مشاهدات الإنسان ومحسوساته الحياتية المتكرّرة ، فالماء النازل علىٰ

_______________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٢٤.

(٢) نهج البلاغة : الحكمة (١١٩).

٤٩

الأرض التي فيها نبات لم يترعرع ويشتدّ بعد ، يجعلها مكسوّة ومزيّنة بألوان هذه الزروع وتصبح الأرض كالعروس المهيأة لزفاف ينتظرها ، فتلقي بشراكها من يغترّ بزخرفها الزائل ، ويتعلّق هذا الإنسان بها ، فتدخل ذهنه الاحتمالات والحسابات المادية ، فيعتقد أنه قادر علىٰ جمع ما أنبتته الأرض والاستفادة ممّا فيها ، وبينما هو في فرحة الآمال ونشوة التعلّق والغرور بزخرف الدنيا وزينتها ، تضرب هذا الزرع آفة عظيمة تحيله الىٰ حصيد مقطوع ومقلوع لا يغني شيئاً ، فتنهدم تلك الآمال وتذهب نفسه حسرات علىٰ حبّه الفاني لها ، وكدّه المرير من أجل بنائها.

هذه الصور المجسّدة تجعل من الحقيقة المعنوية للحياة الدنيا صورة مادية شاخصة بمصيرها المرعب الفاني في ذهن محبّيها تحذيراً لهم ؛ ولتجنيبهم مصير من مضىٰ من المغرورين بها الهالكين فيها. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أصبح والدنيا أكبر همّه فليس من الله في شيء ، وألزم الله قبله أربع خصال : همّاً لا ينقطع عنه أبداً ، وشغلاً لا ينفرج منه أبداً ، وفقراً لا يبلغ غناه أبداً ، وأملاً لا يبلغ منتهاه أبداً » (١).

لا حوار مع اللّاغين

إنّ ظاهرة سيّئة كاللغو ـ في مواجهة حركة الرسالات ـ إنما يشتدّ ظهورها حين يترك العمل الصالح أثره علىٰ واقع الحياة ، فترىٰ طائفة في الأمة تكرّس همّها لنشر اللغو بوجه هذا الصعود الإيماني الفاعل مستعينة وللأسف بأساليب ملتوية منحرفة غرضها الضوضاء والتشويش والحيلولة دون حركة هذا

_______________________

(١) تنبيه الخواطر / ورام ١ : ١٣٠.

٥٠

الصعود الذي يفسد عليها أمانيها وأحلامها.

وقد يكتسب اللغو أحياناً قناعة لدىٰ أفراد هذه الطائفة ويحسبونه صنعاً حسناً ، فيتقنون إخراجه ويلتمسون له (فَبْرَكةً) وفنّاً ، وفي هذه الحالة يستحيل عملاً أخطر من اللغو نفسه ، ولهذه الحالات أحكمها.

واللغو كما تعرضه الآيات المباركة في سورة (المؤمنون) و (الفرقان) و (القصص) هو ما لا فائدة فيه من قول أو فعل ، وهو قبيح ، وقيل : إنه الباطل والكذب والحلف. كما عن ابن عباس والسدي والكلبي علىٰ الترتيب ، ويرىٰ الشيخ الطوسي أيضاً انه الهذر من الكلام (١). وحين يصف القرآن الكريم أهل الجنّة ، فانه ينفي عنهم هذه الصفة التي يقرنها مرّة بالتأثّم واُخرىٰ بتكذيب بعضهم بعضاً ( لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا )(٢)( لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا ) (٣) وهذه المعاني تنطلق من قاعدة الطهر الذي يلفّ المؤمنين في الآخرة ؛ لأن كلامهم حينئذ مفيد ، وقوله تعالىٰ : ( لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ) (٤) ؛ لأن سماع ما لا فائدة فيه يكون ثقلاً علىٰ النفس وأهل الجنة مصونون عن ذلك.

إنّ اللغو يفسد الحسّ واللسان فالحديث الفارغ يقتل الوقت دون أن يضيف الىٰ القلب أو العقل جديداً ، أو معرفة مفيدة.

وأمام هذا الحشد السيء من القبح المرفوض من لغو الفعل والكلام ، يهتف بالمؤمنين كتاب الله العزيز قيأمرهم بالإعراض عن اللغو ومجالسه وأهله ، لأن

_______________________

(١) التبيان / الشيخ الطوسي ٧ : ١٣٨.

(٢) سورة الواقعة : ٥٦ / ٢٥.

(٣) سورة النبأ : ٧٨ / ٣٥.

(٤) سورة الغاشية : ٨٨ / ١١.

٥١

المؤمنين من الكرام لا يرضون به ، فهم يجلّون عن الاختلاط بأهله والدخول فيه ( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) (١).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أعظم الناس قدراً من ترك ما لا يعنيه » (٢).

وتعال معي أخي القارئ لنتلو قوله تعالىٰ في وصف المعرضين عن اللغو : ( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ) (٣).

فيصفهم الرحمٰن بذلك ، فهم يدفعون بالكلام الجميل اللغو من كلام الكفار ويعرضون عنه ولم يخاصموا فيه ، وقالوا لهؤلاءِ اللّاغين : لنا جزاء أعمالنا ولكم جزاء أعمالكم ، ويسلّمون عليهم ، ويقولون لهم قولاً يجعلهم في منأىٰ عن غائلة اللغو ، وهذا من أحسن صور الأدب القرآني..

فالجدل مع أهل اللغو لغو أيضاً ، وهكذا يعرض القرآن الكريم للمؤمنين صورة تفيض بالترفّع عن اللغو كما تفيض بالسماحة والودّ ؛ إذ النفوس المؤمنة مشغولة بتكاليف الإيمان ، مترفّعة بأشواقه ومتطهّرة بنوره.

المودّة المذبوحة

لم يكن أهل البيت عليهم‌السلام ظاهرة عادية أو وجوداً طارئاً ، فالمتتبّع لنصوص القرآن والسنّة يمكنه أن يشير بوضوح إلىٰ عظم مكانتهم وعلو شأنهم في الأدوار

_______________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٧٢.

(٢) أمالي الصدوق : ٧٣ / ٤١.

(٣) سورة القصص : ٢٨ / ٥٥.

٥٢

التي أدّوها.

فهم أعدال القرآن ، وسفن النجاة وهم المطهّرون عن كلّ رجس ، وقد تجسّدت فيهم إمامة المسلمين بحقّ ، وهو الدور المكمّل لقيادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمّته والعالم.

ولنقتطف لبيان جانب من عظمة هذا الوجود المبارك نصاً من القرآن الكريم في مودّتهم ووجوب محبّتهم ؛ قال الله تعالىٰ : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (١).

فقد ذكر أغلب المفسّرين من الخاصة والعامة علىٰ أن القربىٰ هم أهل البيت عليهم‌السلام « علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام » (٢).

والمودّة في الآية هي المحبّة ، أي قل يا محمد لا أسألكم أجراً علىٰ أدائي لكم عن الرسالة وما بعثني الله به من المصالح إلّا المودّة في القربىٰ.

والمروي عن علي بن الحسين والباقر والصادق عليهم‌السلام وسعيد بن جبير وعمرو بين شعيب وجماعة : « أن تودّوا قرابتي وعترتي وتحفظوني فيهم » (٣).

وعن ابن عباس : لمّا نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من هؤلاء الذين أمرنا الله بمودّتهم ؟ قال : « علي وفاطمة وولداهما » (٤).

_______________________

(١) سورة الشورىٰ : ٤٢ / ٢٣.

(٢) الدرّ المنثور ٦ : ٧ ، تفسير الرازي ٢٧ : ١٦٦ ، الكشّاف ٤ : ٢١٩ ، شواهد التنزيل ٢ : ١٣٠ ، مجمع البيان ٩ : ٤٣.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٤٤.

(٤) الصواعق المحرقة : ١٧٠ ، فضائل الصحابة / أحمد بن حنبل ٢ : ٦٦٩ / ١١٤١ ، مجمع الزوائد ١٦٨ : ٩ ، ذخائر العقبىٰ : ٢٥.

٥٣

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو أن عبداً عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام حتىٰ يصير كالشنّ البالي ثم لم يدرك محبّتنا ، أكبّه الله علىٰ منخريه في النار » ثمّ تلا آية المودّة (١).

وقال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : « لا يحفظ مودّتنا إلّا كلّ مؤمن » (٢).

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من مات علىٰ حب آل محمد مات شهيداً ومغفوراً له وتائباً ، ومؤمناً مستكمل الإيمان ، وبشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكر ونكير ، ويزفّ إلىٰ الجنّة كما تُزَفُ العروس إلىٰ بيت زوجها ، وفي قبره يُفتح له بابان إلىٰ الجنّة ، وجعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات علىٰ حب آل محمّد مات علىٰ السنّة والجماعة ، ومن مات علىٰ بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه : آيس من رحمة الله ، وقد مات كافراً ولم يشمّ رائحة الجنّة » (٣).

ثم يعلّق الفخر الرازي فيقول : « لا شكّ ان فاطمة وعليّاً والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أشدّ التعلّقات ، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر ، فوجب أن يكونوا هم الآل » (٤).

والاستثناء (إلّا) في الآية سواء أكان منقطعاً أم متّصلاً ، فإن عظمة المودّة فيهم عليه‌السلام تبقىٰ شاخصة وواجبة بأمر إلهي.

_______________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٤٣ ، شواهد التنزيل ٢ : ١٤٠ / ١٣٧ ، ترجمة الإمام علي عليه‌السلام من تاريخ دمشق ١ : ١٤٨ / ١٨٢ و١٨٣ ، كفاية الطالب : ٣١٧.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٤٣.

(٣) الكشّاف ٤ : ٢٢٠ ـ ٢٢١ ، تفسير الرازي ٢٧ : ١٦٥.

(٤) تفسير الرازي ٢٧ : ١٦٦.

٥٤

فيا ترىٰ وجود مبارك هذا شأنه وعظمته بنصّ إلهي ، كيف تعرّض لإيذاء من الأمة نفسها ، ولم يكن آنذاك فارق زمني كبير عن عصر النزول ، وأن تتجرّأ الأقزام من قريش علىٰ أن تغضب الزهراء عليها‌السلام وتبعد الحق عن أهله ، والأجلاف من بني أُميّة لتغتال الثمرة الاولىٰ « الإمام الحسن » لشجرة المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتأتي علىٰ الثمرة الاُخرىٰ لتحزّ رأس الحسين عليه‌السلام في عرصات الغربة ـ صحراء كربلاء ـ قد أمرنا الله سبحانه بمودّتهم ؟!

ما أفدح المنقلب ! وهل يدور الزمن دورة كهذه مرّة أخرىٰ ؟ ولا وحول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

خطر النفاق

قال تعالىٰ : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ) (١).

قبل الدخول في بيان المثالين القرآنيين المذكورين حول النفاق والمنافقين ، نقدّم أولاً بيناً توضيحياً لصورة النفاق وطبيعة المنافقين وطبيعة المنافقين.

لقد عاث النفاق في مجتمع المدينة وتبلور أوكاد في تيار خطير هدّام له رموز ومنهج وطريقة في التفكير والعمل مترسّماً أهدافه المدمّرة بوجه الرسول والرسالة ورموزها المخلصين ، ولخطورة دور هذه الطائفة من الناس تحدّث

_______________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧ ـ ١٨.

٥٥

القرآن الكريم عنهم في سور عديدة وخصّها بسورة كاملة من سور القرآن الكريم الكريم وقد صنّف القرآن هذه الطائفة وعرّف صفات أفرادها وخطّها التحريفي وحذّر منها ، وأكّد علىٰ متابعتها والكشف عن أفرادها وأوكارها وتوجّهاتها.

وفي الواقع إن ظاهرة النفاق تتكرّر في حياة الإنسان ما دام هناك عمل وبناء وتزييف لأقنعة الدجل والالتواء ، وما دامت هنالك مصلحة وذات خربة.

ومن مواقفهم المنافقة ـ كما اجملها العلّامة الطباطبائي ـ انسحابهم من الجيش الإسلامي يوم اُحد ، وعقدهم الحلف مع اليهود ، واستثارتهم علىٰ المسلمين ، وبناؤهم لمسجد ضرار ، واشاعتهم حديث الإفك ، وإثارتهم الفتنة في قصة السقاية وقصة القبّة.

وقد هدّدهم القرآن الكريم في الدنيا بقوله : ( لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ) (١).

وأوعدهم بوعيد يوم القيامة بقوله : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) (٢).

هوية المنافق

والملاحظ علىٰ هذه الطائفة جملة صفات نعرض لبعضها بأجمال :

_______________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٦٠ ـ ٦١.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٤٥.

٥٦

١ ـ المخادعة : ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) (١).

٢ ـ الإفساد : والفساد ضد الصلاح ، أي خروج الشيء عن حالة الانتفاع به ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ ) (٢).

٣ ـ الكذب : وهو علمهم بعدم مطابقة أقوالهم للواقع ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) (٣).

٤ ـ الأيمان الكاذبة : ( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ) (٤). وذلك دفعاً لافتضاح أمرهم من جهة ، وتوثيق علاقتهم وتعميق ثقة الناس بهم من جهة اُخرىٰ.

٥ ـ عقدة الاستعلاء علىٰ الآخرين ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ ) (٥).

٦ ـ إدّعاء العزّة لأنفسهم والذلّة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن معه من المؤمنين ( يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ) (٦).

_______________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٩.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١١ ـ ١٢.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٤.

(٤) سورة التوبة : ٩ / ٦١.

(٥) سورة البقرة : ٢ / ١٣.

(٦) سورة المنافقون : ٦٣ / ٨.

٥٧

٧ ـ يعيشون الخوف والوجل من افتضاح أمرهم ( يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ) (١). وهذا هو الجبن بعينه وعدم القدرة علىٰ مواجهة الواقع بصراحة.

٨ ـ إمامة الرؤوس حين ينكشف أمرهم معرضين عن الاستغفار ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ) (٢).

٩ ـ النهي عن إعطاء الأموال للمؤمنين الفقراء الذين لازموا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك من أجل التأثير علىٰ قدرة الرسول الاقتصادية. ( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا ) (٣).

وهناك أخلاقية معيّنة يتّصف بها المنافقون أثناء الجهاد والتهيّؤ له ، وفي القتال ، وتعرضت لها سورة التوبة بشكل تفصيلي. ولا يبعد أن يكون من المنافقين من آمن ثم ارتدّ بعد إيمانه كاتماً هذا الارتداد ليتربّص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبالمؤمنين الدوائر قال تعالىٰ : ( فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ) (٤).

فينبغي الحذر من هذه الحالة التي تصادر علىٰ المؤمن إيمانه في موقف من المواقف أو فيحالة تستديم معه لا سمح الله.

قال تعالىٰ : ( هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ) (٥) وقال رسول الله : « إني

_______________________

(١) سورة المنافقون : ٦٣ / ٤.

(٢) سورة المنافقون : ٦٣ / ٥.

(٣) سورة المنافقون : ٦٣ / ٧.

(٤) سورة التوبة : ٩ / ٧٧.

(٥) سورة المنافقون : ٦٣ / ٤.

٥٨

لا أخاف علىٰ أُمّتي مؤمناً ولا مشركاً ؛ أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه ، وأما المشرك فيقمعه الله بشركه ، ولكني أخاف عليكم كلّ منافق الجنان ، عالم اللسان ، يقول ما تعرفون ، ويفعل ما تنكرون » (١).

ان طائفة هذا خطرها وعدوانيتها المدمّرة علىٰ طبيعة المجتمع الاسلامي لا بدَّ أن يتصدى القرآن الكريم لتعريتها وكشف حقيقتها وعرضها من أجل أن تتّضح هذه الصورة النفاقية في نفوس من خفي عليهم أمرها وانخدعوا بها ، وكذلك للوقاية والحذر من وقوع الآخرين في حبائلها.

وأمام هذه الطائفة المنافقة لابدَّ من وقفة مجاهدة يبذل فيها الجهد وتتّفق الطاقات وتراق فيها المهج ، فالمنافقون يفوقون الكافرين المشركين خطورة ، فهم مضافاً إلىٰ منهجهم التحريفي يتحركون في الخفاء ويدبون دبيباً لا يرىٰ ، ولذلك فالقرآن الكريم يلقي شرعية متابعة وملاحقة هذا الخط المهزوم الخبيث علىٰ عاتق المؤمنين المجاهدين.

وفي تصوير هذا الخط وتصوير النفس المنافقة حين تعيش هذه الحالة استخدم القرآن الكريم المثال الذي يكون الغرض منه تشبيه الخفي بالجلي والغائب بالشاهد فيصير الحسّ مطابقاً للعقل كما سنبيّنه.

المنافقون هم العدوّ

( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ

_______________________

(١) نهج البلاغة : الكتاب ٢٧.

٥٩

يُؤْفَكُونَ ) (١).

لم تكن الكلمة التي أطلقها شيخ المنافقين عبد الله بن أُبي بعد واقعة بني المصطلق ، علىٰ أثر نزاع بين شخص من الأنصار وآخر من المهاجرين ، كلمة فحسب بل معبّر عن واقع فكري منحرف ونفس محشوّة بالخبث والنفاق ، وكان يقصد بها فرقة المسلمين وضرب الصف المسلم الذي يعايش حالة من الانتصار والغلبة علىٰ أعداء الإسلام.

لقد قال شيخ المنافقين : « سمَّن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلىٰ المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل » (٢) وكان يقصد بذلك اللمز بالمهاجرين ، وعزمه علىٰ إخراج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة ، فأخبر الشاب الغيور زيد بن أرقم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما حصل ، وبعد ذلك راج التحريف وأخذ الرهط المنافق بالتشكيك في شخصية زيد بنأرقم من أجل حكاية شيخهم ابن أُبي ، ودفع ما قيل عن فضائحه ، حتىٰ نزلت هذه الآيات ، وأخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فافتضح أمر المنافقين ، وتعززت مكانة زيد بن أرقم وأثمر صبره ، وحظي بحب المؤمنين ، وكبرت ثقته في مجتمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

إن الذي يلفت الانباه هو أن هذا الطابور لا يتوقف علىٰ مرحلة زمنية معينة ، وله قابلية الانتشار في أية بقعة تستكمل شروط النشأة والتطور لهذا الوجود المنافق المشؤوم في المجتمع ، وقد يتزعم مثل هذا التيار الخطير رجال وجماعات من مقدمة القوم الذين صودرت بعض صلاحياتهم ،

_______________________

(١) سورة المنافقون : ٦٣ / ٤.

(٢) راجع : تفسير القمي ٢ : ٣٦٨.

٦٠