نور من القرآن

الدكتور علي الأوسي

نور من القرآن

المؤلف:

الدكتور علي الأوسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-448-5
الصفحات: ١١٧

علوم القرآن
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

١

٢

٣

٤

مقدمة المركز

الحمد الله ربّ العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم علىٰ نبينا المصطفىٰ وآله الهداة الميامين.

وبعد : يتجلّى اعجاز القرآن الكريم بكونه طرازاً خاصاً من القول لا يضاهيه شيء من فنون البيان بما فيه من عناصر الاعجاز البلاغي المتمثلة بالوضوح والقوة والجمال إلىٰ درجة تفوق مستوى البشر ، ويكفي أنه تحدّى الإنس والجنّ علىٰ أن يأتوا بسورة زاحدة من مثله وأخبر عن عجزهم ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ، وسيظلّ هذا الاعجاز قائماً إلىٰ يوم الدين.

ولا يقتصر الاعجاز القرآني علىٰ قوة البيان وجمال الأسلوب ورشاقة المعنى وحسب بل يتعدّى ذلك إلىٰ روعة المفاهيم وقوة أثرها في المجتمع الإنساني ، منذ نزوله إلىٰ قيام الساعة فقد نزل القرآن الكريم في مجتمع اتسم بالجهل والضلال والشرك ، فكان له دور كبير في تهذيب الطباع وتنظيم السلوك ، وصقل النفوس من ربقة الشهوات وأسر الماديات وجعلها تحلّق في مدارج الكمال ومواطن الجلال ، وأسهم في تحرير العقل البشري من نير الجهل وقيود الأوهام وأدران الالحاد والشرك والضلال بما أسبغ عليه من نعمة العلم وما أفاض عليه من إخلاص العبودية للحق تعالى.

إن المفاهيم التي دعا إليها القرآن الكريم قد اكتسب صفة الخلود والاستمرار ، فهي ليست مفاهيم جامدة لا تنبض بالحياة كما هو شأن المفاهيم السائدة في الحضارة المادية المعاصرة كما اتسمت بالعمق والشمولية في علاج مشاكل الناس أينما كانوا وحيثما وجدوا ذلك لأن الكتاب الذي دعا إليها هو كتاب الرسالة الخاتمة

٥

والدين الكامل والنعمة والنو المبين قال تعالىٰ : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ).

فلا انقطاع لمفاهيم الكتاب الكريم ولا نفاد لغرائبة واعجازه قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق لا تفنىٰ عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمات إلّا به » .

وفي عصر تعصف فيه الفتن وتخلف فيه الكلمة نجد أنفسنا في أشد الحاجة إلىٰ الاهتداء بنور القرآن والاعتصام بهداه واتباع منهجه وتطبيق قواعده وأحكامه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم ، فعليكم بالقرآن ، فانه شافع مُشفَّع وما حل مصدَّق من جعله أمامه قادة إلىٰ الجنّة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار‌ ».

ومن هنا فالكتاب الذي بين يديك هو خطوة علىٰ طريق الاهتداء بمنهج القرآن والتزوّد من مفاهيمه الخالدة حيث اختار المؤلف عدة آيات تعبّر عن مدلولات دقيقة تتفاعل مع واقع الناس ولعلّ أغلبها ينصبّ علىٰ أحد وسائل التعبير والبيان المهمة في القرآن وهي المثل القرآني لما له من أهمية فائقة في دقّة تصوير المعاني وتقريب المضامين وإثارة دواعي التفكّر والتذكّر ، قال تعالىٰ : ( وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ).

وقد تمكن الكاتب بما يمتلكه من أسلوب تعبيري شيّق أن يثير الأبعاد الفردية والاجتماعية للمفاهيم التي تطرقت إليها الآيات التي اختارها في وجدان الفرد المسلم ويجعلها تتفاعل مع أرض الواقع.

نسأل الله تعالىٰ أن يسهم هذا الاصدار في انفتاح جيل الشباب والناشئة علىٰ ثقافة القرآن ورسالته الخالدة واعجازه الباهر..

والله الهادي إلىٰ سواء السبيل.

مركز الرسالة

٦

المُقدَّمةُ

الحمد لله حمد الشاكرين وأفضل الصلاة وأشرف التسليم علىٰ رسول الإنسانية محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

أشارت النصوص المباركة إلىٰ نورانية هذا القرآن العظيم الهادية إلىٰ الحق.

قال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) (١).

وقال جلّ شأنه : ( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ) (٢).

وقال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : « ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه وسراجاً لا يخبو توقّده » (٣).

نختار من هذا النور القدسي حزماً نستضيء بها في مفهوم معين أو حالة أو حادثة وربما توجيه ليقف القارئ اللبيب علىٰ مضامين من هذه الأنوار لتسهم بدورها في وضوح الطريق ولتبدد ظلمة الأفكار البشرية المتربّصة لمواجهة الفكر القرآني الأصيل مثيرين الجانب الأجتماعي لهذه الحالات والوقائع والمفاهيم القرآنية المباركة ، ومبرزين بقدرٍ قيمة ما تتركه من بعد اجتماعي ؛ لما في ذلك العبد من حصة وافية وسهم عريض في إعادة الثقة بحركة الإنسان المسلم الذي ينتمي لهذه القيم والمبادئ من جهة ، ومن جهة أخرىٰ فان العبد

_______________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٧٤.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ١٥ ـ ١٦.

(٣) بحار الأنوار ٢١ : ٩٢.

٧

الاجتماعي لهذه القيم والحالات والوقائع يشكل بنسيجه المنتظم واقعاً حضارياً يصارع ويقاوم ويبادر في أي معترك تفترضه طبائع الأمور والأشياء.

وإضافة إلىٰ ذلك فإن إثارة هذا البعد في المفاهيم التي يطرحها القرآن الكريم يعكس حيويتها وقدرتها علىٰ التفاعل مع الواقع في آن ومكان.

إن الحركية التي يمتلكها الطرح القرآني تمتد إلىٰ قدرته الفعلية علىٰ التعامل الاجتماعي والتفاعل مع الأشياء والحوادث والوقائق التي يتناولها ويتعامل معها بواقعية فهو ليس طرحاً مثالياً أو طرحاً ناقصاً يترك فراغاً ، انما هو طرح واقعي يتعامل مع ملابسات النزول ومع الحدث نفسه بقوانين معتبرة وأسس يألفها العقل السوي ، وفوق هذا كلّه يمتاز الطرح القرآني بربط الجسور وتوثيق الوشائج بين واقع الأشياء وبين الغيب وما يحتويه ، وهذه بحدّ ذاتها رسالة غاية في القدرة علىٰ التوليف بين الشاهد والغائب وبين الحسوس والمعنوي.

وبهذا التصوّر يستطيع القرآن الكريم أن يوقفنا علىٰ عوالم اُخرىٰ ، ويوثّق علاقة الإنسان بها وينقله من الواقع المحسوس المعاش إلىٰ واقع غيبي آخر يكون هدفاً وغاية لحركته اليومية.

وهوما نسعىٰ إلىٰ كشفة عبر هذه المختارات من القرآن الكريم التي اعتمدت بجانب كبير منها علىٰ المثل القرآني لما فيه من دقة التصوير ، وعمق المعالجة وسمو الغاية ، ورفعة الهدف.

آملين من الله تعالىٰ أن ينفع بها الشبيبة المسلمة فإنها أحوج ما تكون اليوم إلىٰ معرفة ما في تلك الاختيارات من قدرة علىٰ التفاعل مع المجتمع الإنساني في ماضية وحاضره ومستقبله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله علىٰ محمّد وآله الطاهرين.

٨

المثل القرآني

المثل : تعني كلمة (المثل) : الشبه والنظير ، وجمعها أمثال ، ويقال في معناها أيضاً : الحجّة ، والحديث ، والعبرة ، ولا يشكّ أحد ما للامثال من دور كبير في ايضاح المعنىٰ ، فكلّ بني الإنسان في اجتماعهم الإنساني تراهم بتداولون الأمثال هادفين من ذلك تقريب الفكرة وتأكيد المضمون ، كما أن العلوم الطبيعية تسعى إلىٰ تحقيق أهدافها عبر المثل أيضاً وذلك من خلال تعدّد وسائلها الايضاحية ، وتجاربها المختبرية.

ان الطبيعة الإنسانية تأنس بالمحسوس وتطمئن به ، لذلك ينبغي علىٰ أصحات الرسالات وكتّاب التربية أن يطرحوا الفكرة مع الشاهد مجسّدة بجملة من الأساليب أخصّ منها المثال ، لما له من دور كبير في تجسيد المعاني وتوضيح المبهم وتشخيص الغايات ، قال تعالىٰ : ( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ) (١).

وروي عن رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « فإن القرآن نزل علىٰ خمسة وجوه : حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال ، فاعملوا بالحلال ودعوا الحرام ، واعملوا بالمحكم ، ودعوا المتشابه ، واعتبروا بالأمثال » (٢).

_______________________

(١) سورة الروم : ٣٠ / ٥٨.

(٢) الأمالي / الشيخ الطوسي : ٣٥٧ / ٧٤٢.

٩

والمثل هو تشبيه الخفيّ بالجليّ والغائب بالشاهد ويتركّب من عناصر ثلاثة :

١ ـ الممثَّل له.

٢ ـ الممثَّل به.

٣ ـ وجه الشبه بينهما.

فان الممثّل به يمتلك قوة مؤثرة إما أن يكون حادثة واقعة أو ظاهرة طبيعية أو فكرة معتقداً بها ويسري هذا العنصر سريان المسلّمات في نفس الإنسان.

وأما الممثّل له فينبغي أن يحظىٰ بقسط عالٍ من الشأن والأهمية كموارد الاعتقاد والسلوك ، وأحياناً لغموض فيه يقصر الذهن عن ادراكه وتناوله ، أو لتأكيد المغنىٰ ووجه الشبه يكون أسرع تأثيراً حين تكون فيه مطاقبة فاعلة وسريعة بينهما وقد ذكروا في ضرب الأمثال جملة من الأغراض منها : التذكير والوعظ ، والحثّ ، والزجر ، والتقرير ، وتقريب المراد للعقل ، كما قيل في ضرب الأمثال تبكيت للخصم الشديد الخصومة وقمع لسورة الجامح ، وقد جاءت أمثال القرآن الكريم مشتملة علىٰ بيان تفاوت الأجر ، وعلىٰ المدح والذمّ ، وعلىٰ الثواب والعقاب ؛ وعلىٰ تفخيم الأمر أو تحقيره ، وعلىٰ تحقيق أمر أو ابطاله.

وينقسم المثل في القرآن الكريم إلىٰ قسمين :

١ ـ المثل الكامن غير الصريح كقوله تعالىٰ : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ) (١).

فهذه الآية المباركة تشبه المثل القائل « خير الأمور أوسطها » وكذلك قوله

_______________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٦٧.

١٠

تعالىٰ : ( قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (١).

يشبه المثل القائل « ليس الخبر كالعيان ».

٢ ـ المثل الظاهر المصرّح به : وهو النوع الذي يصرِّح فيه بالمثال ، وسنتكلّم عن هذا النوع من الأمثلة مبيّنين أمثلة القرآن الكريم وتقويم ذلك من خلال رؤية تفصيلية.

سلاح الكلمة

( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ) (٢).

في الحياة الإنسانية بما تتضمّنه من صراح شامل بين مجموع المصالح والمفاسد ، تدخل الكلمة وتتّخذ لها مكانة هامّة في تحريك هذا الصراح وتحديد منطلقاته وتوجيه حركته ، وتتأطّر الكلمة بأطر جديدة ، وقد تتّخذ شكل المعتقد أحياناً فتكون مبعث حركة الأفراد ، وقد أخذت الكلمة عند الباحثين المحدثين دوراً كبيراً في صناعة الحرب الباردة إلىٰ جانب البارود المتفجّر في الحروب الملتهبة.

_______________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٠.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ٢٤ ـ ٢٦.

١١

وفي أهمية الكلمة يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ربّ قول أنفذ من صول » (١) ويقول عليه‌السلام : « ربَّ كلام أنفذ من سهام » (٢).

وتختلف الكلمة في آثار ها وقوة إشعاعها وصلابة موقفها تبعاً لما تحتويه من خبث أو طيب فكم من بؤس أو حرب ضروس أطاحت برؤوس الآلاف ، وأحرقت الحرث والنسل ، وغيّبث البسمة من شفاه المحرومين ، وأحكمت العوز والفاقة في دنيا المستضعفين ، وكان ذلك كلّه بسبب خبث أسود أفرزته كلمة واحدة.

وقد تحدّث القرآن الكريم كثيراً عن الاُمم التي غاصت في وحل رذيلتها ، وقبرت في عارها وشنارها بسبب حالة اعراضية عن الهدىٰ ، ولّدتها ثقافة خبيثة وكلمة باطلة ، بينما نجد القرآن الكريم يؤكّد في مواطن كثيرة اُخرىٰ علىٰ مسؤولية الكلمة ودورها في صياغة المجتمع الإسلامي ، فقد نهىٰ وبشدّة عن الغيبة ، والنميمة ، والنفاق ، وقول الزور ، واشاعة الفاحشة في الذين آمنوا ، واضرابها ، وأكّد علىٰ صلاح ذات البين ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وهذا كلّه يعتمد علىٰ حركة الكلمة وماتحمله من مواصفات بناء ، أو تدمير لجسم المجتمع.

وفي كشف القرآن الكريم عن دور ومكانة الكلمة الطيبة في العمل الاجتماعي ، راح يمثّلها بالشجرة الطيبّة ، ذات الأصل الثابت ، والفرع السامق ، والثمر الآتي منها في كلّ حين :

_______________________

(١) نهج البلاغة : الحكمة ٣٩٤.

(٢) غرر الحكم : الحكمة ٥٣٢٢.

١٢

فأي كلمة تلك التي توصف بالشجرة ذات العطاء ، وإنها لا تزحزحها الرياح والعواصف ، ولا تتراجع أمام ضغط الانحراف لثبوت أصلها ، وهي شامخة سامقة عالية تتنزّه عن القذارة بعلوّها ، ثمّ انها دائمة الثمر والعطاء ، فأيّ كلمة هذه ؟ في حين ان هناك كلمة فاقدة لكلّ عناصر القوّة المذكورة ، كالشجرة الخبيثة جمعت كلّ خبيث ، وتفرّغت من كلّ طيب ، لا تثبت تحت حرارة الصراع ورياح المعركة ، فهي لا تمتلك من الأرض عمقاً ، وانما تعيش جذورها تحت سطح الأرض مباشرة ، ما تلبث أن تسقط صريعة.

ويذكّر القرآن الكريم بدور الكلمة الطيّبة الثابتة في تثبيت المؤمنين وتمكينهم من الصراح أمام الباطل المهزوم ، فيقول تعالىٰ : ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) (١).

ففي صراع العقائد والطروحات تتأكّد الحاجة لعفّة الكملة قال الإمام الباقر عليه‌السلام : « قولوا للناس أحسن ما تحبُّون أن يقال فيكم » (٢).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الكلمة الطيّبة صدقة » (٣) ، فهي من شأنها أن تكبر وتنمو دون أن تمحق أو تبطل.

_______________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ٢٧.

(٢) الكافي ٢ : ١٦٥ / ١٠.

(٣) وسائل الشيعة / الحرّ العاملي : ٢٣٣ / ٦٤٢١.

١٣

خطاب المبعوثين

دأب القرآن الكريم في عرضه القصصي لا سيّما قصص المرسلين علىٰ إبراز محورَي الصراع ، فهناك طرفان لكلّ منهما حضارة ، وفكر ، وأسلوب ، وممارسة ، ولغة ، وأخلاقية.

فحضارة التوحيد والعلم والرحمة والبناء ، تقابلها حضارة الشرك والجهل والعدوان والتخريب ، وقد شهد تاريخ الإنسان الكثير من المواجهات الباردة والدامية بينهما ، ولتعدّد صور ومواقف هذا النزاع التاريخي المرير بين هذين المحورين ارتأينا أن نسلّط الضوء علىٰ طريقة التعامل والخطاب بينهما محاولين انتزاعها من واقع القصة القرآنية ، ولنأخذ مثالاً علىٰ ذلك قصة شعيب النبي عليه‌السلام.

بعث شعيب عليه‌السلام إلىٰ أهل مدين ، وقيل بعث كذلك إلىٰ « أصحاب الأيكة » ، فكانوا مترفين يحكمهم ملك جبار لا يطيقه أحد من ملوك عصره ، وكانوا ينقصون المكيال والميزان ، ويبخسون الناس أشياءهم ، ويكفرون بالله ويكذبون نبيّه ، وكانوا إذا اكتالوا يستوفون لأنفسهم.

في هذا الجوّ المشرك الجاهل العدواني والتخريبي انطلق نور رسالي ليتعامل بفكر إلهي ونفس كريم فوضع يده علىٰ سرّ المأساة فدعاهم إلىٰ التوحيد وعبادة الله ، معالجاً فيهم الجهل ( مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ) ثمّ نهاهم عن الممارسات السيّئة بحقّ الآخرين ، كما نهاهم عن العدوانية بقطع الطرق وتخويف الآخرين المخالفين لهم بالقتل ( وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ

١٤

تُوعِدُونَ ... ) (١).

وراح شعيب عليه‌السلام يدخل معهم في حوار هادئٍ ، فلم ينههم عن سيّئة إلّا وبيّن لهم خطرها فكانوا يهدّدونه ويتوعّدونه بالاخراج من قريته ونفيه ، ثمّ أخذوا يتجاهلون نداء اته ( قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ) (٢) ولم يأبه بكلّ هذه التهديدات ، لكن حين دعوه للدخول في ملّتهم الكافرة المنحرفة أجابهم : ( قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ) (٣).

هكذا يقطع معهم الحوار فقد كان عليه‌السلام وضع لنفسه خطوطاً حمراء لا يتجاوزها في التعامل ، ومن جهة اُخرىٰ لاحظنا رفعة وسمو الأفكار التي عاشها ودعاهم إليها ، بينما نراهم يخلدون إلىٰ التراب وحقارة المادة ، ويتشبّثون بمنافع ومصالح محدودة حتىٰ لو انتهكت فيها حقوق الآخرين وصُودرت حريّاتهم ، بينما كان شعيب بفعل عطاءات الوحي الإلهي يدعوهم إلىٰ التحرّر والانعتاق والبناء الحضاري والعلم وممارسة الخلق الرفيع السمح ، فما أبعد الشقّة بين المحورين !.

ومن هنا فقد استحقّ شعيب عليه‌السلام والذين آمنوا معه الخلود والبقاء والرحمة ، أمّا الذين ظلموا فقد استحقّوا العذاب واللعن الأبدي بما كسبت أيديهم. قال تعالىٰ : ( وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا

_______________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٨٦.

(٢) سورة هود : ١١ / ٩١.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٨٩.

١٥

بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ) (١).

التناجي بالإثم والعدوان

قال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) (٢).

النجوىٰ اسلوب وممارسة تستخدم في الصلاح والبناء ، وقد تستخدم في الايذاء والعدوان ، فهي قوّة محايدة ، لكن الإنسان بنواياه وأفكاره وفعله يلقي عليها ظلال القبول والرفض.

والنجوىٰ حين تتجسّد في مجالات الإثم أو العدوان أو معصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نجد القرآن الكريم ينهىٰ عنها ويرجعها إلىٰ الشيطان حصراً ، ويدفع آثارها عن المؤمنين ( إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ .. ) (٣) .. كما نهىٰ عنها أهل البيت عليهم‌السلام ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « إذا كان القوم ثلاثة فلا يتناجىٰ منهم اثنان دون صاحبهما ، فإن ذلك ممّا يحزنه ويؤذيه » (٤). وذلك لما تتركه من أثر سيّء علىٰ العلاقة الاجتماعية ، وما تبثّه من الريب والشكوك ، وتزرعه من عدم الثقة في مفاصل العلاقات الاجتماعية ، فينهدّ البناء ، وتضعف عرى الودّ والانسجام ، وهذا ما

_______________________

(١) سورة هود : ١١ / ٩٤ ـ ٩٥.

(٢) سورة المجادلة : ٥٨ / ٩.

(٣) سورة المجادلة : ٥٨ / ١٠.

(٤) الكافي ٦٦٠ : ٢ / ١.

١٦

يرفضه الإسلام كحضارة ترعىٰ البناء الصالح.

ولكن النجوىٰ باعتبارها ممارسة خيرة إذا ما استخدمت في الاتجاه الآخر ، فإن القرآن الكريم يدعو إليها ما دامت في حقول البّر والتقوىٰ.

والقرآن الكريم يقابل بين حقول كلّ من صنفي النجوىٰ ، فيبيّن لنا ان طريق الخير مفتوح لسالكيه وإلّا انكفأت إرادة الناس عن فعل البّر ووجوه الخير ، فالنجوىٰ يمكن أن توظّف بالطريقة المثلىٰ فيتشاور المؤمنون ويسر الصالحون بعضهم بعضاً في حقول الخير المختلفة والمشاريع والبرامج التي فيها رضا الله بعيداً عن خطورة العدوان ونجاسة الآثام ، في وقتٍ يلحّ البعض ويوغل في تكريس الإثم في الذات والمجتمع.

ومن جهة اُخرىٰ ، نرىٰ النهي ينطلق من دائرة الذات ليدخل دائرة الاجتماع الإنساني من الإثم الفردي إلىٰ العدوان علىٰ المجتمع والآخرين ، انطلاقاً من قداسة الهدف التغييري الذي ينشده القرآن الكريم لبناء مجتمع متطهّر فاضل بعيد عن كلّ انحراف ، ليؤسّس طهر المفاهيم واقعاً معاشاً وسلوكاً تتلألأ علىٰ جنباته مفاهيم البرّ وبأوسع معانيه وتزيّنه التقوىٰ بأبهىٰ حللها.

فعلينا أن ننتهي عن النجوىٰ التي نهىٰ عنها الله في كتابه العزيز ؛ لأنه تعالىٰ يعلم خفيّات القلوب ، قال تعالىٰ : ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) (١).

وعلينا أن نتبع النجوىٰ التي أمر الله بها ؛ تؤدي إلىٰ بناء الشخصية المؤمنة وإلىٰ سلوك سُبل النجاة ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أفضل النجوىٰ ما كان

_______________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٧٨.

١٧

على الدين والتقىٰ ، وأسفر عن اتّباع الهُدىٰ ومخالفة الهوىٰ » (١).

الاستقامة طريق العمل

قال تعالىٰ : ( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (٢).

يؤكد القرآن الكريم علىٰ أساس عريض في حركة المؤمنين في كلا المجالين النظري والتطبيقي ، وهذا الأساس هو مفهوم الاستقامة والصراط المستقيم ، وجاءت هذه التأكيدات في ما يربو علىٰ أربعين موطناً موزّعة علىٰ أكثر من عشرين سورة ، وهذا يكسب المفهوم أهمية بلحاظ مساحات عديدة في حركة المؤمنين العبادية والمعاملاتية ، وعلىٰ المستوىٰ النظري كذلك.

والملاحظ ان هذه التأكيدات توزّعت علىٰ قسمي القرآن المكي والمدني ، وبعبارة اُخرىٰ في المساحة العقائدية والتربوية والتشريعية والمنهجية كذلك ، ولكنها كانت واضحة متكرّرة أكثر في القسم المكّي ، ممّا يؤكّد أهمية المساحات الأولىٰ ، وممّا ذكر يمكننا بيان جانب من أهمية هذا المفهوم :

فالاستقامة : هي الاستمرار في جهة واحدة ، وألّا يعدل يميناً ولا شمالاً (٣) ، وهي ضد الاعوجاج ، وقوله تعالىٰ : ( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ) موجّهة إلىٰ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وللمؤمنين ، أي كن ثابتاً علىٰ الدين موفياً حقّة طبق ما أمرت

_______________________

(١) غرر الحكم / الآمدي : الحكمة (٣٣٠١).

(٢) سورة هود : ١١ / ١١٢.

(٣) مجمع البيان ٥ : ٣٠٣.

١٨

بالاستقامة (١) ، وهذا المعنىٰ متأتٍ من القيام الذي فيه قوام الشيء وأحسن حالات الظهور له ، فحين يكون الشيء قائماً يختلف عما هو منبطح أو جاثٍ أو متسلّق أو قاعد أو منكبّ.

أما الاستقامة فهي تتطلّب القيام من ذلك الشيء ، فاستقامة الطريق : اتصافه بما يقصد من الطريق كالاستواء والوضوح ، واستقامة الإنسان في أمر : أن يطلب من نفسه القيام به وإصلاحه بحيث لا يتطرّق إليه فساد ولا نقص(٢) ، وهذه الاستقامة هي التي تحفظ للإنسان هويّته وجوهر تحرّكه السليم.

ومهما يكن من أمر فإن الاستقامة لها مراتب عالية ، ويمكنها أن تتدرّج إلىٰ مستويات دنيا لتحكم حركة المؤمن بقضية ومبدأ وعقيدة في هذه المستويات جميعها.

إذن فمتىٰ بأيّ مقطع زمني نحتاج هذا المفهوم بزخم أكبر ؟ اننا بحقّ نشعر بالحاجة القوية له حين تتعرّض الأفهام ـ بعد أن استقرت ـ إلىٰ ضغوط فكريّة وشبهات وعمليات تشويش وإيذاء فكري أو ثقافي ، وحين تتعرّض موافقنا إلىٰ افتتان وسط حرارة الامتحان وقساوة الابتلاء ؛ لأنّ فيه السلامة من آثار تلك الضغوط والشبهات قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من لزم الاستقامة لزمته السلامة » (٣).

فالاستقامة هي الدرع الواقي لحركة هذا المؤمن بعقيدته وقضيته ولتصوراته كذلك ، وبدونها يمكن أن يأخذه افتتان الأهواء والاغراءات وحلاوة المال

_______________________

(١) تفسير الميزان ١١ : ٤٨.

(٢) الميزان ١١ : ٤٧.

(٣) غرر الحكم : الحكمة (٨١١٧).

١٩

وسلطة الجاه ، لا سيما لو طغىٰ علىٰ هذا الإنسان في حساباته الجانب المادي الصاعق للربح والخسارة ، وأخذ يقيس الأمور علىٰ هوىً مادي صارخ ، فإنه سيفلت ـ لا محالة ـ من حكومة هذه الاستقامة المربّية للروح والمنشّطة للوجدان ، فتراه يلهث وراء سراب هذا الطغيان المادي الجارف ، والتاريخ مليء بكلّ مراحله قديماً ومعاصراً بهذه النماذج التي تنأىٰ بعيداً عن استقامة الطريق وعدالة الصراط.

وتتربّع آية الاستقامة التي ورد فيها النصّ النبوي الشريف : « شيّبتني سورة هود » (١) تتربّع هذه الآية المباركة ( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ) (٢) سياقاً قرآنياً ونهياً قرآنياً مغلّظاً مباشراً بعدها ( وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا .. ) (٣) باعتبارها ظواهر طبيعية لحركة هذا الإنسان حين يفتقد حاكمية هذه الاستقامة علىٰ سلوكه وتصوّراته.

وينبغي أن نعرف أن عقيدتنا لم ولن تسمح بأن يكون لنا الخيار في التلاعب أو تخفيف حاكمية هذا المفهوم علىٰ تصوّراتنا وحركتنا ، وهذا يقتضي أن نكون علىٰ درجة عالية من الحذر والتأهّب إذ تمتحن المواقف والتصوّرات.

الاستقامة لا الانكباب

( أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (٤).

_______________________

(١) مجمع البيان ٥ : ٣٠٤.

(٢) سورة هود : ١١ / ١١٢.

(٣) سورة هود : ١١ / ١١٣.

(٤) سورة الملك : ٦٧ / ٢٢.

٢٠