نور من القرآن

الدكتور علي الأوسي

نور من القرآن

المؤلف:

الدكتور علي الأوسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-448-5
الصفحات: ١١٧

علوم القرآن
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

بين الإيمان والكفر مسافة كبيرة ، كالذي بين البصير المهتدي والأعمىٰ الضالّ ، وكالعالم المتيقّن والجاهل الحيران ، في الطرف الأول اليسر والاستقامة والقصد ، وفي الطرف الثاني العسر والتعثّر والضلال.

وقد جاء هذا المثل لبيان حال الكافر الجاهل اللجوج ، والمؤمن المستبصر بالحقّ. فالذي يسقط علىٰ وجهه منكباً عليه لا يرىٰ طريقة ولايميّز عثراته فهو متعثّر السير دائماً ونتائج سيره غير مأمونة ، بينما الذي يمشي مستقيماً بشكل سوي وهو مطمئن إلىٰ استقامة الطريق فإنه لا شكّ سيمضي قدماً دونما تردّد أو خوف.

ان هذا المثل جاء بعد تأكيد الآيات لأصل الربوبية والتحذير من أية مخالفة أو إعراض عن الأوامر الإلهية ، وقد تعرّضت لإثارة المناخ الوجداني في القيمومة الربّانية ، وان كلّ ما في هذا الكون من خلق أو تدبير يعود إليه سبحانه ، فلماذا إذن هذا الاعراض والابتعاد عن طاعة الله القادر العزيز ؟

إن وضوح البراهين وتوارد الأدلّة لا يترك مجالاً للشكّ أو التحفّظ ، فإنّ من يمشي مكبّاً علىٰ وجهه ، ولا يستفيد من هذا الكشف والمعرفة ، فإنه لابدّ أن يقع في ضلالةٍ ، ويتيه في صحرائه المدبة بعيداً عن حياة التشريع الهادي.

إن هذه الحالة قد تجد لها مصاديق أقلّ منها ، لكنها أيضاً تتضمّن خطراً عظيماً يهدّد الفرد والمسيرة معاً ، وعليه فإنّ الإنسان في حركته مطالب بالكشف عن جزئيات سيره ، وأن يسستفيد من مفردات الدليل الكوني وخبرات المعرفة الاجتماعية من أن يستهدي الحق وألّا تزل به قدم بعد ثبوتها ، ويجب علىٰ المرء ألّا يحتقر خطر هذه الجزئيات وألّا ينظر إليها بأنها عديمة التأثير ، وبالتالي قد تشكّل هذه الجزئيات خطراً عظيماً لا يتمكّن من مجاوزته والتخلّص منه.

٢١

شجاعة التصدّي

عرض القرآن الكريم جوانب كثيرة من القصص النبوي لمبعوثي الرسالة ، فكان منها جانب الاصرار لدىٰ المرسلين ، وهذا الجانب له ما يبرّره ، فالراصد لمستوى تلكم المواجهات يرىٰ أنّ القوة والرجحان المادي في الطرف الثاني الموجه للمرسلين عليهم‌السلام ، وهذا يستدعي قدراً أكبر من الثبات والاصرار لمواصلة الطريق من قبل المرسلين وأتباعهم ، ومن جهة اُخرىٰ فإنّ فكرةً شجاعةً وصائبةً إذا لم تكن قيادتها ومريدوها علىٰ مستوىٰ التصدّي والشجاعة اللائقة بإدارة الصراع فسيلقي ذلك بظلاله عليها ويلوّنها بألوان الضعف ، وبالتالي فروح المقاومة لم تتمكّن من نفوسهم فتذهب ريحهم أمام أية مواجهة أو امتحان تبتلىٰ فيه المواقف.

إن القوة إنما يتمّ توظيفها في قدرات الفكرة لتنسف كلّ معقَّد ، وتذلَّل كلّ هول في طريق الداعين إلىٰ الله.

إذن الشجاعة ليست عارضاً في المواجهة الفكرية والسياسية ، بل تعد من اُسس التصعيد التبليغي والرسالي والدعوي ، فكثير من الأفكار قضىٰ عليها التردّدُ حين يكون مبعثه الخوف ووهن العزيمة ومن يقف علىٰ فصول هذه المواجهات يجد أوسع المساحات من مواقف الشجاعة والقوة في حركة المرسلين ، والقرآن الكريم يهتف بذلك في مواطن كثيرة نذكر منها :

١ ـ في جواب نوح عليه‌السلام لقومه ، قال تعالىٰ : ( قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللَّهُ إِن شَاءَ

٢٢

وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ * وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (١).

٢ ـ في جواب هود عليه‌السلام لقومه قال تعالىٰ : ( إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ ) (٢).

٣ ـ في لقاء موسىٰ النبي عليه‌السلام بفرعون ، قال تعالىٰ : ( قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (٣).

٤ ـ في جواب صالح عليه‌السلام لقومه ، قال تعالىٰ : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ) (٤).

٥ ـ مواقف خاتم الانبياء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله طفحت بالمواجهات الساخنة وبصلابتهِ هو وأتباعه ، وهي كثيره جداً ، فقد بلّغ رسالته في جوّ وثني إرهابي متعسّف ، وصدع بالرسالة ، وأعرض عن المشركين ـ وهو أمر إلهي ـ وأعلنها صريحة ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ) (٥).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لعمّه وناصره أبي طالب رضي‌الله‌عنه متحديّاً جبروت قريش وطغاتها : « يا عمّاه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ـ حتىٰ يظهره الله وأو أهلك فيه ـ ما تركته » فقال له أبو طالب رضي‌الله‌عنه : اذهب

_______________________

(١) سورة هود : ١١ / ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) سورة هود : ١١ / ٥٥.

(٣) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٥ ـ ١٦.

(٤) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٥٠ ـ ١٥٢.

(٥) سورة الكافرون : ١٠٩ / ١ ـ ٢.

٢٣

يا ابن أخي ، فقل ما أحبيت ، فو الله لا أُسلمك لشيء أبداً.. (١).

والمسلم الحقُّ من جسّد تلك المواقف الرسالية الخالدة لتوظيفها في إثارة مكامن القوّة في نفسه ؛ لتبليغ قضيته وتحديد موقفه من ألوان الصراع والتحدّي وعلى أكثر من صعيد.

الحواريون الظاهرة والضرورة

الحواريّ : هو الناصر ، وجمعه الحواريون ، وهم صفوة الأنبياء الذين خلصوا وأخلصوا في التصديق بهم ونصرتهم. وعن الإمام الرضا عليه‌السلام وقد سُئل : لِم سُمي الحواريون بالحواريون ؟ قال : « أما عند الناس فانهم سمّوا بالحواريين لأنّهم كانوا يخلّصون الثياب من الوسخ ، وأما عندنا فانهم كانوا مخلصين في أنفسهم ومخلّصين لغيرهم من أوساخ الذنوب » (٢).

إنّ بعض أصحاب النبي عيسىٰ عليه‌السلام اختصّوا بهذا الاسم ، قال تعالىٰ : ( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) (٣).

والناظر لهذا النص المبارك يقف أمام نماذج حدّدت لنفسها منهجاً في التعامل

_______________________

(١) الكامل في التاريخ / ابن الأثير ٢ : ٥٨٧ ـ دار الكتب العلمية ـ ١٤١٥ ه‍.

(٢) علل الشرائع : ٨٠ / ١ باب ٧٢.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ٥٢ ـ ٥٣.

٢٤

والاعتقاد والاتّباع.

فالقرآن يصفهم بانهم : مناصرون للنبي مؤمنون بالله ورسالته ، مسلمون « بالمعنىٰ العام للإسلام وهو حقيقة الدين » وانهم شهود يشهدون ويراقبون مسيرة الآخرين ، فهم لم يطلبوا أن يكتبوا مع الشاهدين إلّا بعد أن هيّئوا حقيقة وموضوع هذا « الإشهاد » فهم اُسوة وقدوة لغيرهم. هؤلاء الحواريون لم يكتفوا بالعقيدة إيماناً قلبياً بل اتبعوها بالإيمان العملي « الإيمان بما اُنزل » وبالنصرة وتحمّل كلّ تبعات هذه المناصرة التي جاءت بعد نداء النبي ويأسه من بني إسرائيل « من أنصاري إلىٰ الله ؟ » .

يا ترىٰ هل إنّ هذه الظاهرة الربّانية تقتصر علىٰ خالة ومقطع زمني معين ؟ أم تتعدّاها لما نعيشه اليوم وما عاشه الأنبياء والصالحون ، فلكلّ هؤلاء حواريون وأتباع ومريدون وأنصار ، ومبرّر هذه الظاهرة وهذا الوجود والملاصقة لرائد أية مسيرة كانت هي الحاجة ، حاجة القائد نفسه لهذه النماذج المخلصة ، وحاجة القضية ذاتها لتبليغها وتحقيق أهدافها ، وحاجة الأمة لرجالات كهؤلاء للتأسّي والاقتداء وبيان الحجّة.

فالحواريون حاجة إذن وضرورة لإدامة التحوّل ودفع عملية التغيير علىٰ مختلف الأصعدة السياسية والاجتماعية وغيرها ، شريطة أن تهيء هذه الصفوف ظروف هذا التبوّء وتجهد نفسها لتحقيق النعوت والأوصاف التي أضفاها عليهم كتاب الله ودستوره الخالد ـ كما بيّناه ـ وبغير هذا التهيّؤ فهذه الحاجة والضرورة لم تعد لازمة وقتئذ.

فانظر إلىٰ نور القرآن الخالد كيف وضّح منهج التعامل والاعتقاد والاتباع ، ووفّره لسالكيه في كلّ آنٍ وزمان.

٢٥

الأمة الوسط

قال تعالىٰ : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) (١).

العناية الإلهية المباركة بهذه الأمة الإسلامية اقتضت أن تتبوّأ مكانه ، وتلقي عليها لياقةً دونها كلّ اللياقات ، وقد جاءت هذه العناية من أجل بناء أمة قائدة تقاس إليها قدرات وسلوك الآخرين وأفكارهم وعقائدهم ، وقد ذهب بعض المفسرين إلىٰ ان معنى الوسط هو حالة بين حالتي الافراط والتفريط في التصوّر والاعتقاد : فلا رهبنة متخلّفة ولا جنوح مادي عاصف. وفي التنظيم والتنسيق : بحيث تهتمّ هذه الأُمة بالتوجّه والتهذيب وتكفل نظام المجتمع بالتأديب والتشريع. وفي الارتباطات والعلاقات : فتعطي للفرد ما يمكنه من الحركة والنماء والاندافاع في جوّ جماعي يكفل الفرد في تناسق وانسجام. وهكذا ترتّب الوسطية لهذه الأُمة في الزمان والمكان وغيرها. وهذا المعنىٰ للوسطية صحيح بنفسه.

قال العلّامة الطباطبائي : ان الأمة الوسط هي التي تكون بين الناس وبين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهي رقيبة وشاهدة علىٰ الناس والاُمم والأقوام وأهل الملل ، ولها النظارة ، والناس تقاس مبادؤهم وأفكارهم وسلوكهم وتصوّراتهم إلىٰ ما تحمله هذه الأُمة الإسلامية الوسط من هذه المعاني ، وفي الوقت نفسه إنّ هذه الأُمة

_______________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٤٣.

٢٦

الإسلامية الوسط هي مراقبة ومشهود عليها من قبل الرسول القائد صلى‌الله‌عليه‌وآله والنموذج المثال.

فالوسطية تستلزم الشهادة من هذين الجانبين ، شاهدة علىٰ الناس ، ومشهود عليها من قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. (١)

وهنا تبرز القيمة الحضارية لهذه الأُمة بأفرادها وفكرها وعقيدتها وسلوكها وهذه المكانة المرسومة لها من قبل الخالق العظيم تمنحها القوّة علىٰ ديمومة العطاء لكلّ الناس ، فالعطاء ينتظر منها ، والعيون عالقة ناظرة إليها ، وهي لا تعطي أو تراقب جزافاً ، بل تحسّ بالمراقبة الدقيقة والشهادة الفاصحة عليها من قبل رسول الإنسانية محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأُمّةٌ هذا شأنها وهذه مكانتها ، حريّ بها وبأفرادها أن يتّصفوا بسموّ هذه المكانة وعظمة هذا التبوء ليكونوا أهلاً لهذه الشهادة وذلك العطاء السمح.

وحين نقلّب صفحات من هذه الأُمة لم نجدها موفّقة لهذه المكانة المرسومة لها وما أعجب هذا الأمر حين نرىٰ هذه الأُمة تبتلىٰ بمناهج عمل وقواعد تكفير غريبة عنها لا تمت لعقيدتها الإسلامية من قريب أو بعيد سوىٰ التبعية المقيتة والتقليد والانسياق الفوضوي خلف سراب الآخرين.

فالقرآن الكريم بنوره العظيم يثير في المسلمين دافع الأصالة وقدرة التبوء السليم للقيادة والشهادة ، فنحن نمتلك المقياس والأصول التي يعرض الآخرون أنفسهم عليها. ولنستفد جميعاً كأُمةٍ وسطٍ مسلمةٍ لنأخذ دورنا المرسوم في واقع الحياة والعالم.

_______________________

(١) راجع : الميزان في تفسير القرآن / العلّامة الطباطبائي ١ : ٣١٩ ـ ٣٢٢.

٢٧

الوحدة مبدأ حضاري

قال تعالىٰ : ( إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (١).

الأُمّة الواحدة ذات العقيدة الواحدة والدستور الواحد والربّ الواحد ، كيف يدخلها الاختلاف ، وتأكل وحدتها الأهواء ، ويمزّق شملها التفرّق ؟

لا شكّ أنّها الآفة القاتلة التي يخشاها أيّ تجمّع أو كيان ، وتتمثّل في أبرز اتجاهاتها بابتعاد هذه الأُمة عن منطلقاتها ، وتلوّن أفكارها وعقيدتها بمبتنيات الآخرين ، إضافة إلىٰ دائة الأهواء ودوافع الأمزجة المتباينة في التجمّع الواحد ، إن هذا التصدّع ينسحب أيضاً علىٰ مشاعر وأحاسيس الفرد والجماعة في ذلك الكيان.

والسؤال هنا : هل لهذه الاتجاهات الحقّ في هذا التباين والاختلاف ؟ فالاجتهادات والتنوّع في الأساليب وقوّة الابتكار كلّها صحيحة ما دامت في دائرة التوحّد والدفع في الطريق والمنهج المرسوم المستند إلىٰ الاُصول الواحدة في هذه الأمة. ولكن لا يستطيع أحد أن يجد مبرّراً وتوجيهاً مقبولاً لظواهر الفرقة واصطناع الحواجز وبناء السدود بين أبناء التيار الواحد والدين الواحد والمعتقد الواحد. فالحقّ واحد أبلج ( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) (٢) ، والقرآن الكريم ينعىٰ علىٰ المتنازعين والمتفرّقين ، ولا يرضىٰ لهم مبرراً ، فالنداءات هذه كثيرة

_______________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩٢.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٣٢.

٢٨

متوجّهة إلينا ، وتطلب منا جميعاً أن نوفّر لحظات تأمّل وفرص تفكير لتجاوز هذه المناخات الضيّقة إلىٰ الأصل الكبير والرحاب العظيمة : ( وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) (١). ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) (٢).

وفي سياقات النهي عن هذا التفرّق والتشرذم ، نجد القرآن الكريم يؤكّد علىٰ فطرة الله والتوجّه للدين القويم القيّم لما يدعو إليه من التوحيد والعدل الإلهيين وإخلاص العبادة لله وحده سبحانه.

إنّ ثمة قيماً حضارية تنتظر هذه الأُمة يحثّ عليها القرآن الكريم ويثيرها في وجدان الأمة فيهيّئها لمعترك التنافس والصراع الحموم الذي تقودة قوىٰ الشرّ في هذا العالم لتقويض عزّة الإسلام ، فليحذر الجميع ، ولتتوجّه طاقات الأُمة في بناء الوحدة ـ وهي الأساس ـ قبل التوسّل بأساليب يفهم منها الابتعاد عن هذا الذوبان التوحيدي فهي الأُمة الإسلامية الواحدة قبل التحيّز والتعدّدية المانعين من عطر التوحّد القرآني الكريم.

اعرف الحقّ تعرف أهله

في مسيرة الإنسان وكدحه اللّاحب إذ تعتوره محن وآهات ، وموج من

_______________________

(١) سورة الروم : ٣٠ / ٣١ ـ ٣٢.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٥٩.

٢٩

الشبهات ، وربّما الحيرة في الاختيار ، فتتموّج في ذاته مختلف التصوّرات حتىٰ المتباينة منها حدّ التضادّ أحياناً ، فهو في معترك الصراح وعنف المواجهة.

هذه المقاطع الحسّاسة من عمر الإنسان لم تُتْرك بشكل كافٍ للمماحكات العقلية والفهم الصحيح ، بل تشتدّ فيها أشرعة العاطفة ، فترتبك مواقع القرار لدىٰ هذا الفرد أو ذاك.

فالنور الإلهي لم يتركنا نضرب خبط عشواء لتنسدّ الآفاق وتندرس مداخل الهداية ، فاقرآن الكريم ينعىٰ علىٰ البعض إتباعهم سنّة الأولين ومنهج الآباء دون تدبّر ويلقي باللّائمة علىٰ من عطّل سمعه وبصره وصرف قلبه ، ودعا القرآن إلىٰ التدبّر والانفتاح علىٰ الدليل والحجّة ، وحثّ علىٰ تحرّي النظرة الآفاقية والأنفسية طلباً لسموّ مخاطبية ، كلّ ذلك من أجل تحقيق انعتاقهِ وتفجير ثورة علىٰ التقليد الأعمىٰ واستغفال الآخرين وإيجاد روح علمية موضوعية بعد أن يطهّرها من لوثة الاسترقاق ولصفة التراب.

وهذه بعض البيانات القرآنية المباركة :

١ ـ ( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ) (١).

٢ ـ ( وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ) (٢).

٣ ـ ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (٣).

_______________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٥٥.

(٢) سورة السجدة : ٣٢ / ٩.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١١١.

٣٠

٤ ـ ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ  .. ) (١).

والتاريخ شاهد عظيم سجّل لنا كيف يتبع الناس أسلافهم أو أقرانهم ، وهيّأ لنا الاستقراء الكامل لهذه المشارب ، وقد كان الكثير منها مبنيّاً علىٰ تزويقات وأمزجة ، أو خاضعاً لتشويش أو دعاية أطاحت بالبعض ورفعت آخرين دون مواجه صريحة أو تعرّف واعٍ علىٰ طبيعة واُصول هذه الأفكار وتلكم المبادئ والممارسات.

وغريباً أن يذهل صحابيٌّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لهيجان رجل مسلم استغفل في جيش معاوية وقد شهر سيفه بوجه جيش أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وهو يصرخ : دعوني أقتل علياً ، فلما سأله الصحابي تذرّع له بحجّةٍ بائسةٍ كان قد التقطها من أفواه الرجال فقال : إن عليّاً لا يصلّي ، ولا بدَّ لي من محاربته !! (٢)

معاذ الله أهكذا تلعب الدعاية في عقول الرجال وتطمس الحقائق حتّىٰ يستحيل ضحاياها دمىً علىٰ قطعة الشطرنج ، فلنستفد جميعاً من منهجنا الديني الأصيل « اعرف الحقّ تعرف أهله » (٣).

« اللّهمّ أرني الحقّ حقّاً حتى أتّبعه وأرني الباطل باطلاً حتى أجتنبه.. » (٤).

_______________________

(١) سورة فصّلت : ٤١ / ٥٣.

(٢) راج : شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ٨ : ٣٦.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٥ / ١٣ : ٣٣٤.

(٤) مستدرك الوسائل ٦ : ٢٦١.

٣١

لكي لا تضيع المقاييس

في حالات كثيرة يتعرّض المقياس والضابطة في حياة الإنسان ـ فرداً أو جماعة ـ إلىٰ أجواء ضاغطة إنطلاقاً من طبيعة المفردات التي تلفّ تلك الأجواء وبعدها الروحي والنفسي ، فحالات كهذه كثيرة ، تارة تستغرقها العواطف فلا هذا ولا ذاك.

ومن هذه الحالات نذكر بعضاً منها :

* حالات انصر والهزيمة (الفرح والكآبة).

* حالات الاحباط في العمل.

* حالات احتراف الواجب وتحويله إلىٰ مهنة للتكسّب.

* حالات الطموح والسعي لتحقيق الأمجاد المحدودة.

* حالات الاستئناس لواقع أو ممارسة أو مفردات معينة.

وحالات كثيرة أُخرىٰ ، إنّها الآفة التي تهدّد الإنسان والمجتمع وحركته التاريخية ، ففي ذلك تشتدّ الحاجة إلىٰ مسألتين : هما الإرادة والوعي الفكري والعقائدي ، فهما السلاحان اللّذان بهما تدفع آثار هذه الآفة المهدّدة للقيم والمقاييس.

قال تعالىٰ : ( أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (١).

_______________________

(١) سورة الملك : ٦٧ / ٢٢.

٣٢

وقال الرسول : «المؤمن القويّ خير وأحب إلىٰ الله من المؤمن الضعيف» (١).

ومن ظلم الإنسان لنفسه والأُمة لنفسها أن يقعوا في وهم تزيين الأعمال ( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ) (٢).

( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) (٣).

فتستبدل لديهم المقاييس وتختلّ المعادلة.

ومطالعة سريعة لمصائر كثير من الأُمم والأقوام والأشخاص ، نجد أنها لم تتخلّص من شراك هذه التصوّرات الهابطة التي أودت بهم وعاشوا الحيرة وضلال الهدف فغابت عنهم حقيقة الأهداف ، فأخذوا يتخبّطون بين ضغط الحالة التي يعيشونها ـ وقد أشرنا إلىٰ ذكر بعضها ـ وبين افتقادهم إلىٰ الوعي الفكري والعقائدي وفقدان الإرادة علىٰ ذلك.

وهذه المصاديق لم تقتصر علىٰ فكر دون آخر ، ولا نمط حياة دون غيره ، بل هي حالة إنسانية عامّة.

ولكن القرآن الكريم لم يترك أتباعه ومريديه دون أن يضع حلاً وأسباباً للمعالجة فاعتبر الحالات الضاغطة المذكورة حالات استثنائية مرفوضة ، وقد نصّ القرآن الكريم علىٰ هذه المعاني ، ومن جهة اُخرىٰ حثّ القرآن الكريم علىٰ خلق الإرادة ومقاومة الهوىٰ ونبذ التزيين وتسويلات الشيطان ودعا إلىٰ

_______________________

(١) صحيح ابن حبان ١٣ : ٣٠.

(٢) سورة محمّد : ٤٧ / ١٤.

(٣) سورة الكهف : ١٨ / ١٠٤.

٣٣

التدبّر واستلهام واعٍ متكامل لحركة الإنسان والأشياء والوقائع ، كم دعا إلىٰ التيقّظ ومحاسبة النفس والمجتمع ، وحدّد لكلٍّ صلاحيته في هذا القانون (المحاسبة).

فالقرآن الكريم إذن يطرح رؤية واضحة لخلفية هذه الحالات الضاغطة ، ومن ثمّ يزوّدنا بقواعد الوقاية من الوقوع في جحيم وآلام هذه الحيرة.

المواقف بين الظن والابتلاء

يرسم القرآن الكريم في سورة الأحزاب صورة من المواجهة التي تعرّض لها المسلمون بمن فيهم جيل القرآن الأول في ظلّ حضور الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وقيادته.

المسلمون واجهوا حقداً مشتركاً ولما يتجاوزوا السنة الخامسة من الهجرة ، هذه المرّة تبنّت الحركة اليهودية وتجمّع المنافقين والمتضرّرين والموتورين ، تأليب الرأي العام خارج المدينة ضدّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ودولة الأمل الإلهي في المدينة المنوّرة فتحرّك أقطاب من أولئك اليهود ـ وكان قي مقدّمتهم « سلام النضري » و « حيي بن أخطب » من بني النضير وبني وائل ـ صوب قريش لاستثارتهم ضدّ الرسالة الجديدة ، ولم يكتفوا حتّىٰ جاءوا « غطفان » فدعوهم إلىٰ حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واستثاروا أطرافاً وأشخاصاً آخرين ، فتجمّع الأحزاب لمواجهة عسكرية تستهدف استئصال هذا النور المنبعث الجديد.

وتقابل الصفّان « صفّ الشرك » بعدده الكبير وعدّته المتطورة نسبياً ، يقابله

٣٤

« صفّ التوحيد » بإمكاناته المتاحة وعدده القليل ، وتفاصيل هذه المواجهة التي ذكرتها كتب السيرة والتاريخ الحديث قد عرض القرآن الكريم جانباً حيوياً منها دون الخوض في تفاصيلها ، كما هو شأن القرآن في الاقتصار علىٰ مواطن العبرة المتجسّدة هنا في موقف الانفعال بالحدث وجوانبه النفسية ؛ قال تعالىٰ : ( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ) (١).

إن هذا التصوير القرآني الرائع يكشف عن اتجاهات هذه النفوس التي ترزح لابتلاء عظيم يمكن وصفه بالزلزال والاضطراب الشديد المحسوس ، ففي هذا المقطع تتهيأ الأرضية عادة لاطلاق كلّ التصورات المخبأة خلف قضبان النفع والضرر والضرورة الاجتماعية وغيرها ، فحين يتخيل القوم أن مصارعهم تقترب إليهم لتقضي علىٰ أحلامهم ، فهم بفعل هذه القوة الضاغطة يسفرون عن متبنّياتهم وعقائدهم ، وهذا ما حصل لفئة المنافقين ؛ إذ ظنّوا بالله الظنونا ، فقال بعضهم : إن الكفار سيغلبون ويستولون علىٰ المدينة وقال بعضهم : إن الإسلام سينمحق والدين سيضيع وقال آخرون : إن الجاهلية ستعود كما كانت ، وهكذا تصورات هابطة أسفرت عنها فئة المنافقين ، فهم يتمنون ذلك ويميلون إليه ، بينما أطلق المؤمنون كلمات التصديق بوعد الله ورسوله ( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.. ) (٢).

_______________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ١٠ ـ ١١.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٢٢.

٣٥

وتدخل هذه العملية في الطريقة الإلهية لتربية المؤمنين ، فيدخلهم في ابتلاء ويفتنهم في امتحان ليمحّص الذين آمنوا من غيرهم ويميز الخبيث من الطيّب ، والصابرين في الجهاد من المتقاعسين ، وإلّا فإن الله سبحانه قادر علىٰ أن يمنح النصر بإنزال آيات التأييد من غير تمحيص أو ابتلاء ، ولكنّه جلّ وعلا جعل الابتلاء نعمةً وخيراً وصلاحاً لعبده المؤمن.

قال الإمام الباقر عليه‌السلام : « إنّ الله عزّوجلّ ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية.. » (١).

وقال عليه‌السلام : « إنّما يبتلىٰ المؤمن في الدُّنيا علىٰ قدر دينه » (٢).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « إنّ الله إذا أحبّ عبداً غتّه بالبلاء غتّاً » (٣).

بلاء النعمة

( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) (٤).

القوم الذين كانوا يعيشون بمكة كفروا بالنعم التي احاطت بذلك الوادي وحولته الىٰ خصوبة مزروعة بعد جدب عقيم ، وصيرته بلد الأمن والاطمئنان

_______________________

(١) الكافي ٢ : ٢٥٥ / ١٧.

(٢) الكافي ٢ : ٢٥٣ / ٩.

(٣) الكافي ٢ : ٢٥٣ / ٦.

(٤) سورة النحل : ١٦ / ١١٢ ـ ١١٣.

٣٦

وملجأ الخائفين الذي من دخله كان آمناً من الروع ، وجعلت مكة قبلة يتوجه إليها ومكاناً ذا شأن عظيم ، يقصدها الناس من كلّ مكان ، فمن يعيش هذه النعم المجتمعة في واقعة وحياته ثم يكفر بها فلا ينتظر إلّا العذاب والجزاء إذا ما فرط في شكرها ، لذلك ضرب القرآن الكريم مثلاً لبيان الخطر الذي يلف القوم الجاحدين لنعم الله المحيطة بهم ، فجاء المثل بالقرية المطمئنة التي لا يزعجها الخوف ، والموسع عليها في رزقها ، وحين كفرت ولم تشكر هذه النعم لاقت مصيرها المحتوم ضمن سنن الله في العقاب والثواب. والملاحظ في هذا المثل أن العذاب جاء مقابلاً للنعم ، فالجوع عاقبة للرزق الرغيد ، والخوف عاقبة للاطمئنان ، وذلك بعد الكفر بهما.

وفي هذا المثل القرآني استخدم القرآن الكريم حالة مشددة من العذاب ، فلم يكن الخوف والجوع لوحدهما جزاءً ولكنهما رتّبا من طريقين : احدهما الالباس ، وثانيهما الاذاقة ، وذلك زيادة في اثارة الاحاسيس والخشية من وقوع مثل هذا الجوع والخوف.

وقد يقال : كيف تكون الاذاقة مع الالباس ؟ والجواب : انه يصح ان يقال ذاق فلان الجوع والضر ، أو اذاقه ذلك ، وكذلك الالباس كقوله : ألبس الله الكافرين ثوب الجوع والخوف ، ليثير الالباس حالة شديدة من الجوع والخوف لما يغشاه ويحيط به فكأنك تقول : أذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف.

ان هذا العرض القرآني الكريم من أجل ترسيخ الحالة التي يجب ان نكون عليها امام النعم ووجوب شكرها ، والحذر من الكفر بنعم الله سبحانه ، وان هذه الحالة قد تكتسب اهميتها الاجتماعية من جانب حدوثها وحصولها المتكرر في الوسط الفردي والمجتمع كذلك ، وعليه فينبغي مراقبة النفس وكيفية تحركها

٣٧

وسط النعم الموفورة عليها ، وينبغي التنبه الىٰ ان شكر النعمة لا يأتي عبر شبكة من حروف الشكر والثناء ، ولكن الشكر هو العمل ( اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ) (١) ، وأقلّ العمل هو عدم المعصية ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أقلّ ما يلزمكم الله ألّا تستعينوا بنعمه علىٰ معاصيه » (٢).

من اللجاجة الىٰ التشدّد

وقعت لبني اسرائيل حادثة قتل ، فجهلوا القاتل وأخذوا يتراشقون التهم فيما بينهم ، فكل جماعة أو قبيلة ترمي الأخرىٰ بتهمة القتل ، فتهدّد النظام الاجتماعي بينهم ، وانتشر الرعب والخوف في أواسطهم ، وحينئذٍ لم يجدوا حلاً غير اللجوء إلىٰ شاهد الأمة ونبيها آنذالك كليم الله موسىٰ عليه‌السلام ، وهنا يبدأ الاختبار وتظهر المواقف ، فأمرهم عليه‌السلام أن يذجوا بقرة أيّة بقرة دون أن يشترط عليهم واحدة منها ، وإذا بهم يواجهونه بصلف ( قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) (٣) فقد تجرؤوا علىٰ رسول الله السماء واتهموه بالسفه وعدم الجدية والمزاح !

وبعد هذا المنطق الفجّ أخذوا يتساءلون ويثيرون جملةً من الاستفهامات عن أوصاف هذه البقرة حتىٰ انتهت القصة باختيار بقرة لدىٰ فتىٰ من بني إسرائيل دفعوا عوضها « ذهباً » وهو نوع تأديب للذين حكمتهم رؤوس الأموال والقيم

_______________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ١٣.

(٢) نهج البلاغة : الحكمة (٣٣٠).

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٦٧.

٣٨

المادية ( فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ) (١).

لقد جسّد هذا المقطع القرآني جانباً من لجاجة وتعنت بني اسرائيل وتلكؤهم في الاستجابة ، واصطناع المعاذير بوجه الخطاب الرسالي وأوامر الغيب الإلٰهي ، وقد شهد هذا المجتمع آنذاك إنزال النِعَم والتأييدات الالهية ، لكنه « للأسف » سرعان ما نكث العهود ونقض المواثيق وانطلت عليه لعبة « السامري » وأمثالها حتىٰ استحال إلىٰ مادة للمكر والخداع.

فهذه النعم اذن لم ترتفع بهم الىٰ مستوىٰ القضية التوحيدية ما داموا يعيشون منطلقات تغاير مبادئ هذا النداء الالهي ، فقد طغت عليهم مقاييس الربح والخسارة ومديات النفع والضرر ، وبالتالي ظهرت في تعاملهم مع هذا النور التوحيدي الجديد أمراض الاستعصاء والنفرة بدلاً من الطاعة والامتثال ، وبهذا التشدد وعدم الطاعة شدّد الله عليهم ، فألجأهم الىٰ بقرة وحيدة في أوصافها ونعوتها ، ولولا عنادهم ولجاجتهم هذه لاستطاعوا اختيار أية بقرة شاؤوا.

عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : « إن رجلاً من بني إسرائيل قتل قرابةً له ، ثمّ أخذه فطرحه علىٰ طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ، ثمّ جاء يطلب بدمه فقالوا الموسىٰ عليه‌السلام : إن سبط آل فلان قتل فلاناً ، فأخبرنا من قتله ؟ قال : ائتوني ببقرة ( قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) ولو عمدوا إلىٰ بقرة أجزأتهم ، ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم

_______________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٧١.

٣٩

( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ ) (١) لا صغيرة ولا كبيرة ، ولو أنهم عمدوا إلىٰ بقرةٍ لأجزأتهم ، ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم ( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ) (٢) ولو أنهم عمدوا إلىٰ بقرة لأجزأتهم ، ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم ( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ) (٣) فطلبوها ، فوجدوها عند فتىً من بني إسرائيل ، فقال : لا أبيعها إلّا بملء مَسْكها (٤) ذهباً ، .... فاشتروها » (٥).

وهذه الحالة من التلكؤ وعدم الامتثال من قبل الأمة ترهِّل المسيرة وتحرج قادتها لينشغلوا في إرضائهم ومداراتهم بدلاً من التفرّغ للقضايا المصيرية ومنعطفات التحرك الآساسية ، فقد تخسر الأُمة بذلك فرصها التي انتظرتها طويلاً وتضيع آمالها التي سهرت من أجلها كثيراً.

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (٦).

_______________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٦٨.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٦٩.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٧٠ ـ ٧١.

(٤) أي جلدها.

(٥) تفسير العياشي ١ : ١٣٧ / ١٦١.

(٦) سورة النساء : ٤ / ٥٩.

٤٠