نور من القرآن

الدكتور علي الأوسي

نور من القرآن

المؤلف:

الدكتور علي الأوسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-448-5
الصفحات: ١١٧

علوم القرآن
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

النسبية أو السببية فلا تدفع مكروه الخطأ ولا تجلب منفعة الصحيح ، ولذلك ضرب القرآن الكريم مثلين :

أحدهما : للذين كفروا فعلىٰ الرغم من أن نوحاً ولوطاً عليهما‌السلام من أنبياء الله لكنهما ابتليا بزوجتين خائنتين ، فكانت زوجة نوح تستهزىء به وبرسالته ، وأما زوجة لوط فكانت تدلّ تدلّ قومها علىٰ ضيوفه ، وتتآمر معهم علىٰ زوجها ، فهُما إذن خائنتان واستحقّا دخول نار جهنّم ، فما أغنىٰ عنهما زوجاهما من عذاب الله شيئاً.

والثاني : للذين آمنوا ، فقد ذكر القرآن الكريم امرأة فرعون ، ذلك الطاغية الذي ادّعىٰ الربوبية وبلغ في الشرك مبلغاً عظيماً ، وعلىٰ الرغم من كفره الشديد لكن زوجته « آسية بنت مزاحم » كانت من المؤمنات ، ولم يمنعها من ذلك كفر زوجها ، ولم تتعلّق بإيمانها شائبة من زوجها ، ودعت عليه ، وطلبت من الله أن ينجّيها منه ومن قومه الظالمين.

فالميزان الحقيقي والاعتبار الصحيح إذن ، إنما يعود علىٰ ما يقدّمه الإنسان من عمل ولا قيمة لمثل هذه الانتسابات التي يفرضها المجتمع ، أو تصنعها ظروف اجتماعية خاصة ، قال الإمام الرضا عليه‌السلام : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لبني عبد المطلب : ائتوني بأعمالكم ، لا بأنسابكم وأحسابكم » (١).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : والله لعبدٌ حبشي أطاع الله ، خير من سيّد قرشي عاصٍ لله ، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم » (٢).

_______________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٣٥ / ٧.

(٢) تفسير القمّي ٢ : ٩.

١٠١

ثمّ نلاحظ انه بإمكان الفضيلة أن تنشأ وتكبر في بيت الطغاة كبيت فرعون ، كما يجوز أحياناً أن تحجّم الإرادة التغييرية الإسلامية عن تغيير أقرب النقاط الاجتماعية لها علىٰ الرغم من انجازاتها العظيمة وشمولية التغيير لمساحة كبيرة من مجتمع الناس.

النية في العمل الصالح

( مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ) (١).

إنّ كلّ الأعمال والنشاطات وما يقوم بع الإنسان في حياته مرهون بأمرين :

١ ـ مدىٰ الصلاح في هذه الأعمال ومقدار النفع الذي تؤدّيه ، ويجب أن يكون الصلاح منضبطاً بحدود الشريعة الإسلامية المباركة ، فليس كلّ عمل ينتفع منه يجب أن يكون بالضرورة مقبولاً عند الله ، فإن من يعمل من أجل توفير الطعام لجيش الكفر والضلال مثلاً لا يعدّ عمله مقبولاً عند الله سبحانه ، بل يعاقب عليه علىٰ الرغم من الأثر الذي يتركه في الاطعام ، وعدم قبوله نابع من كونه غير منسجم مع ضرورات الشريعة الإسلامية.

٢ ـ القصد ونية القربىٰ إلىٰ الله سبحانه ، فالنية أبلغ من العمل حين يتوجّه الإنسان لتأدية أعماله ، قال الإمام الباقر عليه‌السلام : « نيّة المؤمن أفضل من عمله » (٢) فإنْ فقد العمل هذا اللون من القصد لم يكن ذا غاية ، وإن تورات نية

_______________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ١٨.

(٢) علل الشرائع : ٥٢٤ / ٢.

١٠٢

القربىٰ إلىٰ الله سبحانه من هذه الأعمال فإن هناك نيّات اُخرىٰ دونها تحكمها.

وعليه فالعمل المقبول هو العمل الصالح في نظر الشريعة الإسلامية ، ويستند إلىٰ النيّة الخالصة لله سبحانه ، وما دون ذلك من الأعمال التي يختلط فيها الصلاح والنفع من دون هذه النيّة ، أو يحاول صاحبها أحياناً عقد هذه النية لأعمال ضارّة أو مزاحمة لحدود الشريعة الإسلامية ، كمن يريد الإساءة إلىٰ مؤمن ما اختلف معه في برنامج اجتماعي أو ممارسة عملية ظنّاً منه أنه بذلك يفقده اعتباره ويخلص منه كعقبة في طريق عمله ، هذه الأعمال مرفوضة وغير مقبولة ويعاقب عليها صاحبها.

ونستطيع أن نواجه نماذج عديدة من الناس وهم يظنّون أنهم يحسنون صنعاً بأعمال محبطة باطل ثوابها ؛ وذلك لعدم توفّرها علىٰ ضوابط قبول العمل عند الله سبحانه.

ومن أجل أن يتمّ القضاء علىٰ هذه التوهّمات وما تستبطنه من جدل وإثارات عقيمة ، راح القرآن الكريم يؤكّد علىٰ بطلان أعمال الذين كفروا بربّهم وإن كان في بعض أعمالهم جوانب منفعة وصلاح ، ولكن لكفرهم وعدم حصول التوجّه والقصد إلىٰ الله سبحانه في أعمالهم تعرّضت للحبط وبطلان أثرها تماماً ، وقد زاد القرآن الكريم في هذا الوصف إثارة ، فَمَثَّلَ هذه الأعمال الباطلة الأثر بالرماد الذي تعصف به الريح الشديدة فيندفع متطايراً في هذا العصف القوي ، فلا يتمكّن صاحب الرماد أن يحافظ عليه ، فيبقىٰ بلا عمل ويقبل علىٰ الله مديناً ومداناً في ساعة الهول ، فما أشدّ ضلالته وما أبعده ( ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ) (١) !

_______________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ١٨.

١٠٣

حين يكون العمل كالسراب

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ) (١).

السراب : ما يتراءىٰ للعين لامعاً في الفلوات شبيه بالماء الجاري ولا حقيقة له. والقيعة والقاع : المنبسط المستوي من الأرض. والضمآن : العطشان. وبحر لجيّ : البحر الذي يكون قعره مظلماً جدّاً. والكافرون : هم ذلك النشاز في مسلسل هذا الكون المرتّب البديع وقد يغطّي الكفر أرضاً واسعة ، ويحكم ممارسات ومواقف ، وكثيراً من المعتقدات ، وربّما نراه في زوايا بعض أفعالنا وقد دخلها خلسة أو بسبب فهم عاطل لبعض الأمور ، فلذلك وخوفاً علىٰ مصيرنا عند الله سبحانه علينا أن نفتّش في هذه الزوايا ، وندقّق جيداً في مسيرتنا نحو الله ، لنشطب أي عنوان أو مشخّصات ترمي بنا صوب ذلك النشاز والفسوق عن طاعة الله إلىٰ عبادة الهوىٰ والذات والتصوّرات ، فتنفكّ بها عقد ذلك الإيمان الخالص بسبب عبادة جزئيات تحتلّ مواقع اعتقادية وقدساً موهوماً ، فالكافرون يعيشون حسابات غير متقنة ، ووهماً يؤمّلون عليه ، ويحسبون أن

_______________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٣٩ ـ ٤٠.

١٠٤

لأفعالهم قيمة ( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) (١) ولكن لا قيمة لأعمالهم ( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) (٢).

وحين يكفر هذا الإنسان بالله العظيم يجعل الله حياته ظلمة لا نور فيها ، فهو في وحشة الظلام ورعبه ، ينتابه الخوف من جوانبه ولا ينعم بنور الإيمان ، وقد ترجمت لنا هاتان الآيتان المباركتان حالة ومصير الكافرين في مثالين واقعيين « مثالي السراب والظلمة » لبيان مصيرهم في الآخرة ، وحالهم أثناء كفرهم في الحياة الدنيا.

ففي مثال السراب : تذكر الآية المباركة أن الظمآن يعتقد أنّ لمعان السراب هو الذي يروي ظمأه ، فتراه يُسرع إلىٰ ذلك الريّ الموهوم ليأخذ قيمة ما أدّاه من عمل ، وإذا به يفاجأ ويباغت بانعدام قيمة ما قدّمه ، وهكذا حال مَن خالف ربّه وجحده وكفر بأنعمه سوف لن يجد غداً ما يقدمه من عمل إزاء محاسبته علىٰ ما فرّط به في حياته ، وبالنتيجة فالكافر لا يحصل علىٰ جزاء لكلّ ما عمله إلّا العقوبة والعذاب.

أما المثال الثاني : فيترجم لنا حياة الكافرين وكأنها ظلمات ثلاث ؛ ظلمة البحر والموج والسحاب ، وهي ظلمات متراكمة ، وقد فسّرها البعض بظلمة الاعتقاد والقول والعمل ، وقال آخرون : هي ظلمة القلب والبصر والسمع ، حتىٰ قيل : ان الكافر « قلب مظلم في صدر مظلم » وذهب آخرون إلىٰ ان هذه الظلمات الثلاث : كونه لا يدري ، ولا يدري انه لا يدري ، ويعتقد انه يدري ،

_______________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ١٠٤.

(٢) سورة الفرقان : ٢٥ / ٢٣.

١٠٥

وقد مثّل القرآن الكريم هذه الظلمات بظلمة قعر البحر الشديد الظلمة الذي يزداد ظلمة بحركة موجه فيعلوه موج فوق موج وقد حجب السحاب كلّ نور فوقه ، فهي ظلمات بعضها فوق بعض إلىٰ درجة انه لا يستطيع أن يرىٰ يده إذا أخرجها ، فما قيمة هذه الحياة التي لا ترىٰ النور ؟ والله سبحانه هو جاعل النور ولا جاعل له سواه.

قساوة القلوب

( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) (١).

للنعمة اُسلوب وقوانين تحكم حركة الإنسان بازائها ، فليس من السنة الإلهية أن تقابل النعم بالجحود والإهمال ، وإلّا فانها تنقلب إلىٰ استدراج وإمهال من قبله سبحانه فتتحوّل هذه النعم نذير عقاب ، وهذه الصورة لها حضور بين بني الإنسان أنفسهم ، فهناك قواعد للفضل والعطاء ، وضعت بازائها ضوابط للشكر ، فإذا ما أخلّ أحد بفضل آخر قطع الثاني نعمته عنه ، ولربّما راح يفتّش عن عقوبة لذلك الجحود ، وقد ورد أن النعم تدوم وتزيد بالشكر ( لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) (٢) وبدون هذا الشكر فانها تزول ويعاقب أهلها ، ولا سيما

_______________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٧٤.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ٧.

١٠٦

إذا انطبع موقف المنعم عليهم بالترف والابتعاد المفرط عن الجدية في العمل.

لقد عرضت الآيات المباركة جملة من النعم التي أنعم الله بها علىٰ بني إسرائيل ، وهي نعم لم نزل مجموعة علىٰ سواهم ، كنجاتهم من البحر ، وإغراق آل فرعون ، وتضليلهم بالغمام ، وإنزال المنّ والسلوىٰ ، وانفجار الحجر اثنتي عشرة عيناً ، وإنزال المائدة من السماء ، ورفع الطور وغيرها كثير.

وعلىٰ الرغم من كلّ هذه النعم ، فهم لم يشكروا ، بل حين واعد الله موسىٰ عليه‌السلام أربعين ليلة إذا هم يتّخذون العجل ربّاً لهم ، ثم إنهم يولون بعد أخذ الميثاق منهم ، ومنهم من يعتدي في سبتهم الذي حرم الصيد فيه ، وحين وقعت حادثة القتل بينهم وجلوا القاتل منَّ الله عليهم فأمرهم بذبح بقرة وضرب القتيل ببعضها حتىٰ يكشف لهم عن قاتله ، وإذا بهم يشدّدون في اختيار هذه البقرة ، وأخذوا يسألون ويجابون عدة مرات ، فشدّد الله عليهم وذبحوها وما كادوا يفعلون.

ويقال : إنهم قست قلوبهم بعد هذه الحادثة ، فضرب الله لهم مثالاً علىٰ عدم استجابتهم وعدم طواعيتهم للأوامر الإلهية ، فعد قلوبهم القاسية المتبلّدة برين الخطيئة كالحجارة في قوّتها وقساوتها ، بل أشدّ من الحجارة ، باعتبار أن الحجارة قد تتفجّر أنهاراً أو تخرج منها عيون الماء بعد تشقّقها ، وهذا ما نشاهده في طبيعة المرتفعات والأراضي الجبلية ذات الحجارة الصلبة ، ومن الحجارة ما يهبط وينزل من أعلىٰ ، وهذه كناية علىٰ ما يبدو عن طواعيتها وتنازلها عن كبريائها وارتفاع مكانها ، وكلّ ذلك محكوم بقانون الهداية التكوينية أو التسليم الكوني لله سبحانه ، والتي عبّر عنها : ( مِنْ خَشْيَةِ

١٠٧

اللَّهِ ) (١) ثمّ ختم المثال بتهديد صريح شديد الوقع ، ويستفاد من هذا المثال في تعاملنا مع النعمة بأنه يجب أن نكون علىٰ يقظة شديدة في مجاراة هذه النعم واستحضار الشكر العملي لله سبحانه علىٰ الدوام ، اللهمّ اجعلنا من الشاكرين لنعمائك.

لا تأكلوا لحوم الناس

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ) (٢).

عينت سورة الحجرات كثيراً ببناء المجتمع ومعالجة الأمراض الاجتماعية التي تهدّده ، وهذه السورة بحقّ يمكن أن تشكّل دراسة اجتماعية نفسية متكاملة فقد أثارت جملة من هذه المشاكل وصنّفتها في باب الأمراض والأخطار التي يجب التحذّر منها ، بينما دعت إلىٰ جوانب نفيسة شامخة ترمي إلىٰ تطهير الأمة وبنائها بناءً سليماً.

وفي هذا المثل القرآني تحدّثت الآية المباركة عن مسألة خطيرة تعدّ مرضاً فتّاكاً في تركيبة المجتمع وسلامة سيره ووحدة صفّه ، فقد ذكرت أمراضاً ثلاثة هي : ١ ـ الظنّ السيّء. ٢ ـ التجسّس. ٣ ـ الغيبة.

_______________________

(١) سورة الحشر : ٥٩ / ٢١.

(٢) سورة الحجرات : ٤٩ / ١٢.

١٠٨

هذه الأمراض ترجع إلىٰ منحدر مشترك ، وتستهدف ضحية ، ويمارس فيها رصد الأحاديث والأقاويل في اغتياب صاحبها ، ويظهر ذلك بشكل خاص في التجسّس والغيبة ممّا جعل بعض المفسّرين يذهبون إلىٰ ان هذا المثال جاء مضروباً للمرضين الأخرين لا للغيبة وحدها.

وقد وردت روايات كثيرة في وجوب اجتناب الظنّ السيّء ، وروي عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : « ضع أمر أخيك علىٰ أحسنه حتىٰ يأتيك ما يقلبك منه ، ولا تظنّن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً » .

والمراد بالتجسّس : تتبّع ما استتر من اُمور الناس للاطلاع عليها في جانب الشرّ ، بينما التحسّس « بالحاء » يستعمل في جانب الخير ، وقد ورد النهي شديداً عن تتبّع عورات الآخرين.

والمراد الغيبة : فذكر أخيك بما يكره ، وقد وصفها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنها أشدُّ من الزنا ؛ لأن فاعل الزنا يتوب فيتوب الله عليه ، بينما المغتاب يجب عليه مراجعة من تناوله بالغيبة ليبرئه ، ولا تكفي التوبة وحدها في رفع العقوبة.

فقد تناول رجلان من المسلمين سلمان واُسامة بن زيد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما لي أرىٰ خضرة اللحم في أفواهكما » فقالا : يا رسول الله ما تناولنا في يومنا هذا لحماً ! قال « ظللتم تأكلون لحم سلمان واُسامة » (١).

وهذا التمثيل مستمد من المثل القرآني السابق ، وهو غاية في تأكيد المكروهية

_______________________

(١) مجمع البيان / الطبرسي ٩ : ١٣٥ جوامع الجامع / الطبرسي : ٤٥٩.

١٠٩

والتهويل من خطورة هذا المرض الخبيث ، حيث يصور القرآن الغيبة بأنها أكل للحوم الآدميين ، وأي آدميين ! فقد عبّر القرآن الكريم بقوله : ( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ) (١) وكان خطاب الآية نفسها للذين آمنوا ولا أخوة حقيقية في منطق القرآن إلّا للمؤمنين ، وما يجري في مجتمع المؤمنين أشدّ وأنكىٰ ، حتىٰ بلغ الأمر ببعضهم أن يجلسوا ويتشاوروا ويتناجوا من أجل تسقيط مؤمن ونزع اعتباره الاجتماعي حتىٰ لو اضطروا إلىٰ إضافة ولصق ما ليس فيه ، فهو بهتان أشدّ من الغيبة ، فلا يدرون وهم سادرون في ذلك حتىٰ تحترق حسناتهم ، فيقبلون علىٰ الله سبحانه بسيئاتهم وسيئات من تناولوه.

نقض العهود

( وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (٢).

وردت هذه الآية بعد آيتين تعرّضتا لمباديء أخلاقية أساسية كالأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربىٰ والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي والايفاء يعهد الله سبحانه ، وقد توسّع هذا العرض القرآني عند هذا الأساس الأخير ، فشدّد

_______________________

(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ١٢.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ٩٢.

١١٠

العقاب علىٰ ناقصي العهد في الدنيا بأن يذوقوا السوء ، وفي الآخرة بعذاب عظيم ، وضرب لذلك مثلاً زاد في ذلّة هذا الجمع اللامبارك الذي نقض عهده ، ونكثه من بعد قوّة عقده.

ويُروىٰ أن هناك امرأة كلبية كانت تجمع رفيقاتها أول الصباح فيغزلن حتىٰ إذا ما انتصف النهار أمرتهن بحلّ غزلهن وفرط هذه العقود المبرمة من الخيوط المغزولة ، وهذا دَيْدَنُها كلّ يوم ، قلا هي تقف علىٰ حدّ لهذا التهوّر ، ولا يثمر عملها مهما جهدت نفسها ورفيقاتها.

هذه الصورة التي تكشف عن حماقة لا متناهية وعقل ضعيف تجسّد بشاعة الناقضين لهذه العهود علىٰ معرفة ورضىٰ منهم وقت إبرامها ، فهم إذن ضعفاء ليس لديهم ثبات علىٰ أبرموه مع غيرهم.

وقد وردت روايات كثيرة علىٰ وجوب حفظ المواثيق ورعاية العهد الذي يأخذه المرء علىٰ نفسه حتىٰ بلغت الأهمية بهذا الأمر فنهت الشريعة عن نقض العهود مع غير المسلمين ، وهذا ما يكشف عن حرص الإسلام علىٰ توفير الطهر النفسي والابتعاد عن رذيلة الضعف أمام الثبات علىٰ القناعة والموقف المسؤول.

وقد حذّرت هذه الآية الكريمة من أن تتّخذ الأَيْمَان وسيلة للخدعة والتضليل ، كذلك حذّرت هذه الآية من المبرر الذي سمح به البعض لأنفسهم في نقض هذه العهود ، بأن حلفاءهم ومن عقدوا معهم هذا العقد أصبحوا ضعفاء فيميلون مع القوي ضاربين وراءهم عرض الجدار ما أرموه من عقد علىٰ أنفسهم.

لو أردنا تجسيد هذا النفس القرآني الكريم في مجتمع المسلمين أو في العائلة الواحدة أو في الجماعة الإسلامية أو في أية شريحة تشدّها علاقات الودّ والمحبّة الإسلامية ، فإننا ندرك عمق المسؤولية وعظمة هذا التحمّل في ممارسة العقود

١١١

والاتفاقات والروابط التي أخذ في نائها رضوان الله سبحانه حتىٰ اعتبرت من ضمن الابتلاء ، فقال تعالىٰ : ( إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ) (١) ومن خلال هذا الابتلاء تتمحّض النفوس وتتميّز المواقف ليعرف الثابتون من الناكثين ، والأقوياء في الله من الضعفاء أمام مصالح النفوس الضعيفة.

الصف الوحد

( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ) (٢).

تعالج سورة الصفّ جملة من الأغراض لعلّ أهمها :

١ ـ التأكيد علىٰ عقيدة التوحيد وحالة الانسجام بين رسل الله الكرام.

٢ ـ الإقرار بأنّ الإسلام هو الخلاصة والخاتمة في سير الرسالات ، والبشارة به ولزوم اتباعه.

٣ ـ الجهاد من أجل حفظ هذه العقيدة الإسلامية والدفاع عنها أمام المحاولات الرامية لاطفاء نور الله.

لقد عالجت الآيات الاُولىٰ من هذه السورة المباركة الموقف من الجهاد في سبيل الله.. وفي سبب النزول تبيّن الروايات أنّ جماعة من المسلمين سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أحبّ الأعمال فذكر لهم الجهاد ، ولما دعوا إليه كرهه بعضهم

_______________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٩٢.

(٢) سورة الصفّ : ٦١ / ٤.

١١٢

ولم يستجيبوا. لذلك جاء الردّ الإلهي قويّاً كاشفاً عن ذلك العيب الخطير في التردّد والنكوص ، وعن الهوة القاتلة بين ما يدّعيه الإنسان وبين فعله ، وأنّ ذلك يبعث علىٰ غضب الله ومقته ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) (١).

ثم تثير السورة مبدأً خلّاقاً يرسم للفرد حركته من خلال مجتمعه ليبادله الانسجام وينفعل في الاتجاه العام لهذه الحركة الاجتماعية من أجل أن تتناسب هذه الحركة مع عظمة الهدف الاسلامي المتمثل بالدفاع عن هذه العقيدة بوجه كلّ المحاولات الرامية لاطفاء النور الرسالي والنفحة الربّانية علىٰ وجود هذا الجسم المبارك ، ومن أجل أن يكون تحرّك هذا الفرد ضمن مجتمعه التوحيدي المسلم مثمراً متماسكاً قادراً علىٰ توجيه الضربة للأعداء ، ومن جهة اُخرىٰ يجب أن يوفّر القدره علىٰ دفع الخطر التياري الكافر.

إنّ أية مساهمة يبذلها كلّ منّا كأفراد مسلمين يجب ألّا تكون بمعزل عن الآخرين بل يجب أن تعتمد برنامجاً نابعاً من قلب التشريع ، قادراً علىٰ جمع وتثوير هذه الأمة المسلمة ضمن منطلقات واحدة وصوب هدف مشترك ، وعلى هدىٰ بيّن من غير تبعيض لهذا التوجّه أو تسويف بوحدتها.

وتأتي الآية المباركة ملقية حبّ الله المتعال علىٰ المقاتلين في سبيله في تيار متين واحد ، وهم يمثّلون صفّاً واحداً متماسكاً مرصوصاً كالبُنيان الذي اصطفت لبناته وتآخت مع بعضها متساندة متجاورة تتعانق من أجل وحدة الصفّ وقوّته.

_______________________

(١) سورة الصف : ٦١ / ٢ ـ ٣.

١١٣

ومن نافلة القول أن نذكر بأننا مطالبون اليوم بوحدة متراصة متآخية متآلفة للوقوف صفّاً واحداً بوجه أعداء العقيدة الإسلامية ومصالح امتنا المظلومة ، ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (١).

_______________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٠٣.

١١٤

المحتويات

مقدمة المركز ........................................................  ٥

مقدمة المؤلف .......................................................  ٧

المثل القرآني .........................................................  ٩

سلاح الكلمة .....................................................  ١١

خطاب المبعوثين ...................................................  ١٤

التناجي بالإثم والعدوان .............................................  ١٦

الاستقامة طريق العمل ..............................................  ١٨

الاستقامة لا الانكباب .............................................  ٢٠

شجاعة التصدّي ..................................................  ٢٢

الحواريون .........................................................  ٢٤

الظاهرة والضرورة ..................................................  ٢٤

الأمة الوسط ......................................................  ٢٦

الوحدة مبدأ حضاري ...............................................  ٢٨

اعرف الحقّ تعرف أهله .............................................  ٢٩

لكي لا تضيع المقاييس .............................................  ٣٢

المواقف ...........................................................  ٣٤

بين الظن والابتلاء .................................................  ٣٤

١١٥

بلاء النعمة .......................................................  ٣٦

من اللجاجة الىٰ التشدّد ............................................  ٣٨

الأنداد الضالون ...................................................  ٤١

الغرور القاتل ......................................................  ٤٣

الدنيا متاع الغرور ..................................................  ٤٥

الدنيا هشيم يحترق .................................................  ٤٧

الفرد المخدوع .....................................................  ٤٩

لا حوار مع اللّاغين ................................................  ٥٠

المودّة المذبوحة .....................................................  ٥٢

خطر النفاق ......................................................  ٥٥

هوية المنافق .......................................................  ٥٦

المنافقون هم العدوّ .................................................  ٥٩

ظلمة النفاق ......................................................  ٦٢

ضياع المنافقين .....................................................  ٦٤

النفاق تشكيك وطعون .............................................  ٦٦

نماء الإنفاق .......................................................  ٦٨

آفة الانفاق .......................................................  ٧٠

الهداية حياة .......................................................  ٧٣

الهداية بعد الانشراح ................................................  ٧٥

فضيلة البصير .....................................................  ٧٧

١١٦

العبودية المعطَّلة ....................................................  ٧٩

حين تتعملق القيم .................................................  ٨١

صنميّة الإتباع لدى المشركين ........................................  ٨٤

الكشّاف .........................................................  ٨٦

ولاية العنكبوت ...................................................  ٨٩

المملوك الشريك ...................................................  ٩١

القلوب أوعية المعاني ...............................................  ٩٣

خشوع الجبل ......................................................  ٩٦

الحمل لا التحميل .................................................  ٩٧

العمل أوّلاً ........................................................  ٩٩

النية في العمل الصالح ............................................  ١٠٢

حين يكون العمل كالسراب .......................................  ١٠٤

قساوة القلوب ...................................................  ١٠٦

لا تأكلوا لحوم الناس .............................................  ١٠٨

نقض العهود ....................................................  ١١٠

الصف الواحد ...................................................  ١١٢

المحتويات ........................................................  ١١٥

١١٧