الشيخ الطوسي مفسراً

خضير جعفر

الشيخ الطوسي مفسراً

المؤلف:

خضير جعفر


الموضوع : التراجم
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-589-X
الصفحات: ٣٢٠

ويعارضهم في أجناس المسائل ، ويفاوضهم في أنواع الفضائل ، فاجتمع عنده من كلّ طبقةٍ أعلاها ، وجنى له من كلّ ثمرةٍ أحلاها ١.

كما كان الوزير البويهي سابور بن أردشير نفسه أديباً فقيهاً ، من أهل الفضل والأدب ٢ عفيفاً عن الأموال كثير الخير سليم الخاطر ٣ ، ولذلك كان اهتمامه كبيراً بالعلوم والآداب ، واحترامه جماً للعلماء والاُدباء ، وكانت دار العلم التي أنشأها مكاناً لتجمعهم ونقطة اجتذاب لهم ، وقد آلت تلك الدار بعد وفاة مؤسسها سابور بن أردشير عام ٤١٦ ه‍ إلى الشريف المرتضى الذي عين عليها أبا عبد الله بن أحمد مشرفاً ٤ ، وقدبقيت هذه الدار عامرةً بالعلماء وطلاب العلوم إلى أن احترقت عام ٤٥١ ه‍ عند دخول طغرلبك ٥ أول سلاطين السلاجقة إلى بغداد ، بعد أن قضى على حركة مقدّم الأتراك ببغداد أبو الحرث أرسلان بن عبد الله البساسيري ٦ ، ولم تكن دار العلوم قد احترقت وحدها ، وإنما احترق قسم كبير من محال بغداد ٧ في وقتها ، هذا وقد امتاز عهد آل بويه بالتقدم الكبير في مجال العلوم والآداب سواء بتأثير البويهيين أنفسهم أو بتاثير وزرائهم الذين كان جلهم من العلماء والشعراء والكتاب ٨ ، مما حول بغداد إلى كعبة للعلم والعلماء ، يقصدها طلاب العلوم من كلّ مكانٍ ، خاصة بعد أن شيد الوزير البويهي أبو نصر سابور بن أردشير ( ٣٣٦. ٤١٦ ه‍ ) دارالعلم ، وأبو نصر هذا كان يلقب بهاء الدولة ، وهو من أكبر الوزراء لدى أبي نصر بن عضد الدولة

____________

١. الروذ راوري ، ذيل تجارب الاُمم ، ج ٣ ، ص ٦٨.

٢. بحر العلوم ، دليل القضاء الشرعي ، ج ٣ ، ص ١٨٠.

٣. ابن كثير ، البداية والنهاية ، ج ١٢ ، ص ١٩.

٤. الحموي ، معجم الاُدباء ، ج ٦ ، ص ٣٥٩.

٥. دائرة المعارف الإسلاميّة ، ماده طغرلبك ، ج ١٥ ، ص ٢٣٠.

٦. ابن الأثير ، اللباب ، ج ١ ، ص ١٢١ ، ابن الوردي ، التاريخ ، ج ١ ، ص ٥٠٧ ، القمي ، الكنى والألقاب ، ج ٢ ص ٧٤.

٧. الحموي ، معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٢٥٥.

٨. زيدان ، تاريخ آداب اللغة العربية ، ج ٢ ، ص ٢٢٧.

٦١

البويهي ، حيث جمعت فيه الدراية والكفاية ١ وكان بابه محط الشعراء والأُدباء ٢.

وتعتبر دار العلم أوّل مدرسةٍ وقفت على الفقهاء ٣ منذ أن تأسست عام ٣٨١ ه‍ ٤ في منطـقة الكرخ ببغداد في محلة تسمى بين السورين ٥ وكانت هذه المدرسة ملتقى الأُدباء والعلماء والباحثين ، وكان قد تردد عليها الشاعر المعروف أبو العلاء المعري عام ٣٩٩ ه‍ ، وأقام فيها سنة وسبعة أشهرٍ ، ثم غادرها إلى وطنه ٦ ، لينشد لهاقصيدة يقول فيها :

وغنت لنا في دار سابور قينة

من الورق مطراب الاصايل مهياب٧

وقد كانت هذه الدار على غرار بيت الحكمة الذي أنشأه الخليفة العباسي هارون الرشيد ( ١٧٠ ـ ١٩٣ ه‍ ) حيث استطاع سابور بن أردشير أن ينقل إليها كتباً كثيرةً ابتاعها ، وجمعها ، وعمل لها فهرستاً ، وردّ النظر في اُمورها ومراعاتها والاحتياط عليها إلى الشريفين أبي الحسين محمد بن الحسين بن أبي شيبة ، وأبي عبد الله محمد بن أحمد الحسني والقاضي أبي عبد الله الحسين بن هارون الضبي ، وكلف الشيخ أبابكر محمد بن موسى الخوارزمي ، فضل عناية بها ٨ وكان فيها أكثر من عشرة الآف مجلدٍ ٩ ولعل الاختلاف الذي وقع بين ما أورده ابن الجوزي في تاريخ إنشائها عام ٣٨١ ه‍ ١٠ ، وبين ماذكره ابن العماد في

__________________

١. ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، ج ٢ ، ص ٩٩.

٢. ابن الأثير ، الكامل ج ١ ، ص ٣ ، ابن العماد ، شذرات الذهب ، ج ٣ ، ص ١٠٤ ؛ ابن كثير ، البدايه والنهايه ، ج ١٢ ص ١٩.

٣. ابن كثير ، البداية والنهاية ، ج ١١ ، ص ٣١٢.

٤. المعري ، شروح سقط الزند السفر الثاني ، ص ١٢٤٠.

٥. البغدادي ، مراصد الاطلاع ، ج ١ ، ص ٢٤٥ ، العمري ، غاية المرام ، ص ٢٦.

٦. أبو الفداء ، المختصر ، ج ٢ ، ص ١٧٦.

٧. أحمد أمين ، ظهر الإسلام ، ج ١ ، ص ٢٥١.

٨. ابن الجوزي ، المنتظم ، مادة بين السورين ، ج ٧ ، ص ١٧٢.

٩. السيوطي ، تاريخ الخلفاء ، ص ٤١٢.

١٠ ـ ابن كثير ، البداية والنهاية ، ج ١٢ ، ص ١٩ ، ابن الجوزي ، المنتظم ، ج ٨ ، ص ٢٢.

٦٢

شذرات الذهب عندما حدّد عام تأسيسها في ٣٨٣ ه‍ ١ ، سبُبه المدّة التي قضاها الوزير البويهي سابوربن أردشير بجمع الكتب والمخطوطات إليها ، لكي تحتوي فيما بعد على اصناف العلوم ، وتضم مائة مصحف بخطوط بني مقلة ٢ ، اذا لم تكن في الدنيا أحسن كتباً منها كلها بخطوط الأئمة المعتبرة واُصولها المحررة ٣.

وطبيعي جداً لإنشاء مكتبةٍ كهذه أنْ يستغرق إنشاؤها وجمع كتبها سنتين من الزمان ، فقدجمع فيها الوزير البويهي ماتفرق من كتب فارس والعراق ، واستكتب تأليف أهل الهندوالصين والروم ٤ ، كما وأخذ العلماء يهدون للوزير البويهي سابور بن أردشير مؤلفاتهم ، لأنّه كان من أهل الفضل والأدب ، فاصبحت مكتبته من أغنى دور الكتب ببغداد ٥.

كما واُنشئت دار اُخرى في بغداد من قبل الشريف الرضي ، وسماها دار العلم ٦ ، وفيها سكن للطلاب ، وقد وفر لهم جميع مايحتاجون إليه ٧ ، حيث يتبع الدار مخزنٌ كبيرٌ يحوي على كلّ الوسائل المادية التي يحتاجها الطلاب ، كما وتوجد إلى جانب هذا خزانةٌ كبيرةٌ منظمة تنظيماً حسناً ٨ وكانت تعرف بخزانة دار العلم. وقد ضمت بغداد مكتبة اُخرى للشريف المرتضى تحتوى على ثمانين ألف مجلدٍ ، ٩.

كان يؤمها الباحثون والعلماء والأُدباء بالاضافة إلى ذلك فقد دفع الشريف المرتضى

__________________

١. ابن العماد ، شذرات الذهب ، ج ٣ ، ص ١٠٤.

٢. القمى ، الكنى والألقاب ، ج ١ ، ص ٤١٨ ، متز ، الحضارة الإسلاميّة ، ج ١ ، ص ١٧٤.

٣. الحموي ، معجم البلدان ، ج ١ ، ص ٧١٩.

٤. محمد كردعلي ، خطط الشام ، ج ٦ ، ص ١٨٥.

٥. الطوسي ، الأمالي ، ج ١ ، ص ١١.

٦. ابن عتبة ، عمدة الطالب ، ص ١٩٩.

٧. الحلي ، مقدمة ديوان الرضي ، ص ٦٨.

٨. عواد ، خزائن الكتب القديمة في العراق ، ص ٢٣١.

٩. ابن عتبة ، عمدة الطالب ، ص ١٩٥.

٦٣

الحركة العلمية شوطاً بعيداً عندما أَوقف قرية على كاغد الفقهاء ١ ، هذا إلى جانب ماكان يقدم عليه المحسنون في بغداد من إنشاء المدارس ، ثم يوقفون عليها بعض أملاكهم لسد حاجات المدرسين والطلبة ٢.

كل هذه الأُمور أوجدت حركةً ثقافيةً وعلميةً ممتازةً في بغداد شجعت طلاب المعرفة إلى الهجرة إليها والاستزادة من علوم المدارس فيها ، وكان شيخنا الطوسي واحداً من بين العديدين من أولئك الذين آثروا الهجرة إلى بغداد والدراسة فيها.

ولم يكتب لهذه الحياة الرغيدة أن تدوم إذ تكدر صفو الأمن والهدوء في بغداد ، حيث إن الازدهار الثقافي والحركة العلمية التي تمت في أجواء الحريّة كانت قد أوجدت ردة فعلٍ معاكسةٍ وخطيرةٍ في نفوس السلفيين الذين جهدوا للحيلولة دون نمو التيار العقلي واستطاعوا فعلاً إقناع السلطة الحاكمة آنذاك لأن تضيق على رجال العلم وطلبة العلوم العقلية بعد أن صدّقوا مقولات السلفيين فيهم ، وعندها بدأت سياسة الإرهاب والكبت تأخذ طريقها إلى أكثر قطاعات الأُمّة على أوسع نطاقٍ ، بعد أن صعّد السلفيون من حملتهم على طلبة العلوم واعتبروهم خطراً على الدين ، فأصبح اضطهادهم ومطاردتهم أمراً يتمّ تحت أعين السلطة وعلمها ، حيث بعث الخليفة القادر باللّه ( ٣٨١. ٤٢٢ ) إلى السلطان محمود الغزنوي ٣ في بلاد فارس عام ٤٠٨ ه‍ ، يأمره ببث السنة بخراسان ٤.

ففعل ذلك وبالغ وقتل جماعة ونفى جماعة من المعتزلة ٥ ، والرافضة ٦

__________________

١. الأفندي ، رياض العلماء ، ج ٢ ، ص ٢٢٢.

٢. خدابخش ، الحضارة الإسلاميّة ، ص ١٧٢.

٣. محمود شريف ، العالم الإسلامى في العصر العباسى ، ص ٤٧٤ ، حسن إبراهيم ، تاريخ الإسلام السياسي ، ج ٣ ، ص ٨٧.

٤. القزويني ، آثار البلاد ، ص ٣٦١.

٥. المعتزلة : هم أصحاب واصل بن عطاء الغزال الذي اعتزل مجلس الحسن البصري حول مسأله مرتكب الكبيرة ، والقائل المنزلة بين المنزلتين ، ويدعي المعتزلة بأصحاب العدل والتوحيد والقدريه ، انظر الشهرستاني ، الملل والنحل ، ج ١ ، ص ٥٧.

٦. الرافضه : هم الذين رفضوا إمامة أبي بكر وعمر ، كما وأنه اسم يطلق على الذين رفضوا إمامة زيد بن علي

٦٤

والإسماعيلية ١ والجهمية ٢ والمشبهة ٣ ، وأمر بلعنهم على المنابر ، ٤ وقد استجاب السلطان الغزنوي لأوامر الخليفة العباسي ، واستن بسنته في قتل المخالفين ونفيهم وحبسهم ٥ ، وقد اعدم الكثيرين من رعاياه بتهمة الالحاد ٦ ، ولم يكتف بذلك ، بل قام هذا السلطان عام ٤٢٠ ه‍ باحراق ماوصلت إليه يداه من كتب المعتزلة والفلاسفة والروافض ٧.

ولعلّ من أهم الأسباب التي دعت العباسيين لأن يدعموا موقف السلفية هو رغبتهم في جعلها قوة مناوئة بوجه النفوذ الفاطمي الذي قويت شوكته في مصر ، ومن ثَمّ وجدتْ لها طريقاً سالِكاً باتجاه العراق ، فانتشرت دعوتهم في كلّ مكان منه ٨ ، الأمر الذي اغضب الخليفة العباسي واقلقه ، فحرض الغزنويين على البطش والفتك بكل من خرج عن المنهج السلفي ، ولذلك دعا الخليفة القادر ذوي المكانة الدينية والعلماء لشن حملة تشكيك مكثفةٍ ضد الفاطميين ، سواء من خلال الطعن بعلويتهم ، أو نسبهم إلى الكفر والفسق ونحو ذلك ٩ ، وأخذ يضطهد كل من له صلة بخليفة القاهرة.

__________________

بن الحسين عليه‌السلام الذي ثار أيام خلافه هشام بن عبد الملك سنه ١٢١ ه‍ ـ.

انظر الأشعري ، مقالات الإسلاميين ، ج ١ ، ص ٨٧ ؛ والمسعودي ، مروج الذهب ، ج ٣ ، ص ٢١٧.

١. الإسماعيلية : احدى فرق الشيعة التي تؤمن بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق ، انظر الشهرستاني ، الملل وانحل للشهرستاني ، ج ١ ، ص ٢٧٨ ؛ ودائرة المعارف الإسلاميه ، ماده الإسماعيليه ، ج ٢ ، ص ١٨٧.

٢. الجهمية : فرقه كلامية ، جبرية تقول بخلق القرآن وتنسب إلى جهم بن صفوان ، انظر الشهرستاني ، الملل والنحل ، ج ١ ، ص ١١٣ ؛ دائره المعارف الإسلاميه ، ماده جهم ، ج ٧ ، ص ١٩٥.

٣. المشبهة : فرقة من أهل الحديث تذهب إلى القول بالتجسيم ، الشهرستاني ، الملل والنحل ، ج ١ ، ص ١٤٥ ، ماده المشبهة.

٤. ابن العماد ، شذرات الذهب ، ج ٣ ، ص ١٨٦.

٥. متز ، الحضارة الإسلاميّة ، ج ١ ، ص ٣٦٣.

٦. ابو زهرة ، تاريخ المذاهب الإسلاميّة ، ج ١ ، ص ٦٤.

٧. المقريزي ، اتعاظ الحنفاء ، ص ٤٥.

٨. حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الدولة الفاطمية ، ص ٢٢٨.

٩. حسن إبراهيم حسنى ، تاريخ الدولة الفاطمية ، ص ١٦٩ ، القزويني ، آثار البلاد ، ص ٤١٨.

٦٥

إلا أن مثل هذه السياسة المتشددة التي أقدم عليها العباسيون لم تَحُلْ دون نجاح الدعوة الفاطمية ، وإنّما ازداد اقبال الناس عليها ، حتى في عاصمة الخلافة العباسية نفسها ، وقد تضاعف هذا الإقبال بشكل أشد بعد انتزاع البساسيري بغداد من أيدي العباسيين ودعوته الناس بشكلٍ علني للخليفة الفاطمي وذلك سنة ٤٥٠ ه‍ ، حيث خطب للمستنصرباللّه. ١

وقبل ذلك كان داعي الدعاة الفاطمي هبة الله الشيرازي ٢ يعمل لتكوين جبهةٍ معارضةٍ للعباسييّن من أُمراء العرب والأكراد ، فخلع عليهم الخلع الفاطمية النفيسة التي لم يشاهدوا لها مثيلاً ٣ ، كما واستطاع الشيرازي هذا أن يضم إبراهيم ٤ أخاطغرلبك إلى الفاطميين ٥.

وبهذا اشتد الصراع السياسي ، ولم يكن بمقدور السلطة القائمة انذاك السيطرة على الموقف ، وفي سنة ٤١٦ ه‍ كثرت أعمال السلب والنهب ، وقد زاد من سوء الأوضاع سيطرة الأتراك على بغداد عام ٤١٧ ، فاكثروا مصادرات الناس ، وعظم الخطب ، وزاد الشر ٦ ، واستمرت الحالة في التردي حتى وصلت أوجها عندما استولى السلاجقة الذين كانوا يمتازون بالتطرف والانحياز لصالح الاتجاه السلفي على بغداد عام ٤٤٧ ه‍ ، فاسرفوا في البطش والإرهاب بكل من خالف مذهبهم ، وعاش العراقيون أشد سنيهم بين عامي ( ٤٤٧ و ٤٤٩ ه‍ ) ، حيث عمت المجاعة ، وكثر الغلاء ، وأكل الناس الميتة ، ولحقهم وباء عظيم ، فكثرالموت ، حتى دفن الموتى بغير غُسلٍ ولاتكفين بعد أن عجز الناس عن دفن موتاهم ٧ ،

__________________

١. حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الدولة الفاطمية ، ص ١٦٩ ، القزويني ، آثار البلاد ، ص ٤١٨.

٢. حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام السياسي ، ج ٣ ، ص ٦١.

٣. المؤيد في الدين ، ديوان المؤيد ، ص ٤٣.

٤. شلبي : التاريخ الإسلامي ، ج ٤ ، ص ٥٤.

٥. حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الدولة الفاطميّة ، ص ٢٣٣.

٦. ابو الفداء ، المختصر ، ج ٥ ، ص ١٥٦.

٧. ابن الأثير ، الكامل ، ج ٩ ، ص ٢٦٦.

٦٦

وقد فقد الأمن واضطرب النظام فنهبت الرصافة وتَرِبَ الخلفاءُ ١.

كلّ هذا كان يجري وإلى جانبه يضيع الكثير من التراث الإسلامي ، ويأفل نجم الفكروالعلم والأدب ، ويتعرض رجاله للاضطهاد والتعذيب ، وكان شيخنا الطوسي واحداً من بين العديدين من العلماء الذين تعرضوا للأذى ، حيث كبست داره واُحرقت كتبه ٢ ، وفي عام ٤٥١ ه‍ اُحرقت بغداد الكرخ وبين السورين واحترقت فيه خزانة الكتب التي أَوقفها أردشير الوزير ٣.

ومن الجدير بالذكر أن مكتبة الوزير البويهي سابور بن أردشير غدت من أهم مراكزالتشيع واهم الوسائل لبث الدعوة الشيعية آنذاك ٤.

مما حمل السلاجقة على شن هجوم عنيفٍ ضد كل المؤسسات الدينية والتعليمية للشيعة بما فيها أوقاف التعليم ٥ ، الأمر الذي أفقد المكتبة الإسلاميّة نفائس الكتب التي صارت هدفاً لأطماع الموظـفين وأصحاب الغنائم الخاصة ٦ ، بالإضافة إلى ذلك فقدعمد السلاجقة إلى تأسيس المدرسة النظاميّة في بغداد كوسيلة لمقاومة التشيع على الصعيد الفكري ٧ ، ولغرض إيقاف التيار العقلي الذي كان ينتهجه الشيعة والمعتزلة أيضاً ، وقد بذل الوزير السلجوقي في هذا السبيل جهوداً كبيرة وأموالاً كثيرة ، يظهر ذلك بوضوحٍ من خلال قراءة بعض ماجاء برسالته إلى ألب أرسلان والتي يقول فيها :

جعلت لك من خراسان جنداً ينصرونك ولايخذلونك ، ويرمون دونك بسهامٍ لاتخطئ ، وهم العلماء والزهاد ، فقد جعلتهم بالإحسان إليهم من أعظم أعوانك ٨.

__________________

١. الحموي ، معجم البلدان ، ج ٢ ، ص ٧٨٤ ، ابن الأثير ، الكامل ، ج ٩ ، ص ٢٥٥.

٢. السبكي ، طبقات الشافعيه ، ج ٤ ، ص ١٢٧ ؛ ابن كثير ، البداية والنهاية ، ج ١٢ ، ص ٧١.

٣. ابن الأثير ، الكامل ، ج ١٠ ، ص ٣.

٤. غنيمة ، تاريخ الجامعات ، ص ٥٨.

٥. فياض ، تاريخ التربية ، ص ٢٦١.

٦. ابن الأثير ، الكامل ، ج ١٠ ، ص ٣.

٧. فياض ، تاريخ التربية ، ص ١٠٢.

٨. ابن الأثير ، الكامل ، ج ١٠ ، ص ١٥.

٦٧

وقد لقيت المدارس النظاميّة موجة من المقاومة أثارها الحنابلة ١ ، لأن تلك المدارس كانت تدعو للمذهب الشافعي ، فاشتدّ الصراع بين المذهبين ، وأصبحت بغداد كغيرها من الأمصار الإسلاميّة ميداناً للخلافات المذهبية التي عصفت بالهدوء والنظام معاً.

أما شيخُنا الطوسي فقد اضطر إلى الهجرة باتجاه النجف الأشرف بعد ما رأى الخطرمحدقاً به ٢ ، حيث توسعت الفتنة لتشمل شيخ الطائفة وأصحابه ، فاحرقوا كتبه وكرسيه الذي كان يجلس عليه.

يقول ابن الأثير الجزري في التاريخ الكامل في حوادث سنة ٤٤٩ ه‍ :

نهبت دار أبي جعفر الطوسي بالكرخ ، وهو فقيه الإماميّة ، وأخذ مافيها ، وكان قدفارقها إلى المشهد الغروي.

ويبدو أن كتب الشيخ الطوسي قد اُحرقت عدة نوبٍ بمحضرٍ من الناس في رَحبةِ جامع النصر.

وفي عام ٤٤٩ ه‍ ـ كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلّم الشيعة بالكرخ ، وأُخذ ماوجد من دفاتره وكرسي كان يجلس عليه للكلام ، واُخرج إلى الكرخ ، وأُضيف إليه ثلاثة سناجق ٣ بيض كان الزوار من أهل الكرخ قديماً يحملونها معهم إذا قصدوا زيارة الكوفة فأُحرق الجميع ٤.

وهناك في مدينة النجف الأشرف استقر الطوسي ، حيث وجد فيها حركةً علميةً ، فسعى إلى تنميتها ، وقد تمكن بعد سنواتٍ قليلةٍ من أن يجعل هذه المدينة مركزاً للتخصص في الفقه والأُصول ، بعد أن أنشأ الحوزة العلمية فيها والتي تحولت بفضلها إلى واحدة من اكبر الجامعات الإسلاميّة في العالم.

ولعلّ أهمّ مايثير انتباه الباحث في دراسته لأحوال الشيخ الطوسي ، هو إصراره على

__________________

١. متز ، الحضارة الإسلاميّة ، ج ١ ، ص ٣٧٦.

٢. الطوسي ، الأمالي ، ج ١ ص ١٣.

٣. السنجق : بكسر السين المهملة هو اللواء وجمعه سناجق زنة فاعل.

٤. ابن الجوزي ، المنتظم ، ج ٨ ، ص ١٧٣.

٦٨

مواصلة الدَرْب في منهجه التعليمي رغم كلّ مالقيه من متاعب ومشاكل على هذا الطريق ، فلم تُثْنِ المحنُ والمشاكلُ من عزمه ، بل عاودَ نشاطه في موطنه الجديد في مدينة النجف الأشرف ، وجمع حوله العديد من طلبة العلوم الدينية ، ليكمل رسالته التي هَجَرَ مسقطَ رأسه من أجلها.

٦٩
٧٠

الباب الثاني

منهجية الشيخ الطوسي في تفسيره

الفصل الأول : نشأة التفسير وتطوّر مناهجه ، وصف مجمل لتفسير التبيان

الفصل الثاني : الجانب العقلي في التبيان

الفصل الثالث : الجانب الاثري في التبيان

الفصل الرابع : الجانب اللغوي في التبيان

٧١
٧٢

الفصل الاول :

نشأة التفسير وتطوّر مناهجه

وصف مجمل لتفسير التبيان

لما كان القرآن الكريم كتاب الله الذي أنزله على رسوله الأمين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور ، فإنّه لابد للمسلمين من أنْ يتفهموا معانيه ، ويفقهوا آياته ليتمكنوا من العمل على ضوء تعاليمه ووفق مفاهيمه وعلى وحي من هداه ، وكان لابد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أن يبين للناس ما في هذا الكتاب العزيز ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )١ ، خاصة وأنّ القرآن الكريم قداحتوى المحكم والمتشابه من الآيات والمطلق والمقيّد من الأحكام ، فضلاً عن تضمنه الحقيقة والمجازوالتصريح والكناية ، وفعلاً فقد تولّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مسؤولية التفسير والشرح لآيات الكتاب طيلة سنِّي حياته ، ليوضح أسباب النزول ويبين مايحتاج إلى البيان من المجمل والمتشابه والناسخ والمنسوخ ، كما ويشرح عمليّاً بعض الأحكام العبادية والواجبات الشرعية التي جاء بها الكتاب المجيد ، وفي هذا الصدد كان هناك رأيان حول ما إذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بيّن للصحابة كتاب الله كلّه ، ألفاظه ومعانيه أم لا؟ فابن تيمية يؤكّد أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد بيّن

__________________

١. النحل ( ١٦ ) الآية ٤٤.

٧٣

للصحابة القرآن كلّه ألفاظَه ومعانيه ١ ، في حين يؤكدالزركشي أنّ تفسير القرآن وتأويله بجملته لم ينقل الينا عن الصحابة ، فنحن نحتاج إلى ماكانوا يحتاجون إليه ٢ ، والواقع أنّ فهماً إجماليا للقرآن كان قد توفر للعديد من الصحابة ، ولكن فجوات التباين بين أفهامهم بقيت كبيرة ، وتشهد كتب الصحاح بذلك ، وهي تروي لنا ماوقع فيه الصحابة من أخطاء في تفسير آيات القرآن الكريم ، ومردّ ذلك إلى اختلاف مداركهم ومعارفهم واستيعابهم للغة ومدى التصاقهم بالرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وقربهم منه.

فقد روي عن عدي بن حاتم قوله :

لمّا نزلت ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ ) ٣ عمدت إلى عقال أبيض فجعلته تحت وسادتي ، فجعلت أنظر في الليل فلايستبين لي ، فغدوت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فذكرت له ذلك ، فقال : إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار ٤.

وعن ابن عباس روي قوله :

كنت لا أدري ما ( فاطِر السَّمواتِ والأَرضِ ) حتّى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي أنا ابتدأتها ٥.

ورغم كلّ ذلك فقدكان القرآن في عصر الرسالة قريباً إلى عقول الناس وأفهامهم ، وإن تفاوتت تلك الأفهام في درجة المعرفة والإدراك ٦.

وعندما فجع المسلمون بوفاة المفسر الأوّل صلى‌الله‌عليه‌وآله لجأوا بعد ذلك إلى صحابته الذين عاشروه وسمعوا منه وتفقهوا على يديه ، يسألونهم تفسير مايستغلق على أذهانهم فهمه من مفردات القرآن الكريم وآياته ، فيروي لهم الصحابة ماسمعوه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك ،

__________________

١. مقدمة في اُصول التفسير لابن تيمية ، تحقيق عدنان زرزور ، ص ٣٥ ، بيروت مؤسسة الرسالة ، ١٩٧٢ م ، ط ٢.

٢. البرهان في علوم القرآن ، تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم ، ص ١٥ ، بيروت دار المعرفة ، ١٩٧٢ م ، ط.

٣. البقرة ( ٢ ) الآية : ١٨٧.

٤. صحيح البخاري ، كتاب الصوم ، باب قوله تعالى : ( َكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ ).

٥. تفسير الطبري ، ج ١١ ، ص ٢٨٣ ، الآية : الأنعام ( ٦ ) ١٤.

٦. حسن الأمين ، دائرة المعارف الإسلاميّة الشيعية ، ج ١١ ، ص ٦٥.

٧٤

ولايتردد بعضهم من الاعتراف بجهله في معاني بعض الكلمات تنزيهاً للقرآن من التفسير بالرأي والظن ١ ، ومن ذلك ماروي عن الخليفة الثاني عمربن الخطاب أنّه قرأ ( وَفاكِهةً وأبّاً ) فقال : هذه الفاكهة قدعرفناها فما الأبّ؟ ثم قال : « قد نُهينا عن التكلف »٢ ومع كثرة الصحابة الذين عايشوا رسول الله وعاصروه وسمعوا منه الحديث إلا إننا لانكاد نجد من بينهم نسبةً عالية من المفسّرين ، وفي هذا المجال يصرّح السيوطي في الإتقان بقوله :

اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة : الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس وأُبي بن كعب وزيدبن ثابت وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن الزبير. أما الخلفاء فأكثر من روي عنه منهم علي بن أبي طالب ، والرواية عن الثلاثة الآخرين نزرة جداً ، وكان السبب في ذلك تقدّم وفاتهم كما أن ذلك هو السبب في قلّة رواية أبي بكر للحديث ولا أحفظ عن أبي بكر في التفسير إلا آثاراً قليلة جداً لاتكاد تجاوز العشرة ٣.

أمّا روايات أهل البيت عليهم‌السلام وروايات اُخرى عن الصحابة ، فإنّها تؤكد أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد اختصّ الإمام عليّاً عليه‌السلام بالتعليم وبيان كتاب الله ، وأنّ أهل البيت عليهم‌السلام قد ورثوا علوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهم رفقاء القرآن ، لاينفكون عنه ، فقد روى المسلمون بالتواتر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : إنّي مخلف فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي...

لذا فهم المرجع بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في التفسير وبيان الأحكام ، ومع ذلك فقد برزت مدرستان في التفسير : مدرسة تعتمد على ما صدر عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام كمراجع للتفسير ، ومدرسة تعتمد على ما صدر عن الصحابة وحدهم فيما لم يرد فيه بيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومدرسة التفسير عند الصحابة تعتمد المصادر التالية :

١. القرآن الكريم : لمايشتمل عليه من عموم وخصوص وإطلاق وتقييد وإجمال وتبيين وإيجاز وإطناب ، وفي ذلك يقول الإمام علي عليه‌السلام في معرض وصفه للقرآن ينطق بعضه

__________________

١. السيد أبوالقاسم الخوئي ، البيان ، ج ١ ، ص ٢٧٨.

٢. الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٣١٧ ، الآية : عبس ( ٨٠ ) ٣١.

٣. السيوطي ، الإتقان ، ج ٢ ، ص ٣٢١.

٧٥

ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ١ ، وإلى هذا المعنى يشير الزمخشري في الكشاف إلى أنّه « أسد المعاني مادل عليه القرآن »٢ ، وفي هذا الصدد جاءت الآيات الكثيرة وهي تفسر أخواتها وتشرح مفرداتها ومضامينها فابن كثير مثلاً يذكر في تفسيره قول الله تعالى ( وَفِصالُهُ في عامَيْنِ ... ) الآية :

إنّ جماعة من الصحابة استنبطوا أنّ أقل مدة للحمل ستةِ أشهر لقوله تعالى ( وَحَمْلُهٌ وَفِصالُهُ ثَلاثُون شَهْراً ) ٣ و ٤.

٢. الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : حيث كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يبيّن للصحابة ماخفي عليهم ولذلك حفظوا عنه من الاحاديث شيئاً كثيراً كانوا قد استعانوا بها فيما بعد على تفسير آيات الكتاب العزيز وبذلك صار الحديث النبوي الشريف مصدراً مهمّاً من مصادر التفسير في عصر الصحابة ومابعده أيضاً.

٣. الاجتهاد في الرأي : ـ والصحابة لايلجؤون إلى هذا اللون من التفسير إلا بعد أنْ عدم التيسير لهم للأخذ عن القرآن أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لذلك يضطرّون إلى إعمال رأيهم في تفسير بعضٍ من آيات القرآن المجيد يساعدهم في ذلك معرفتُهم بمفردات اللغة وصياغتها وأسرارها.

٤. كتب الديانات الاُخرى كالإنجيل والتوراة : حيث اعتمد الصحابة عليها في معرفة قصص الأنبياء والاُمم الغابرة ، وقدكان الصحابة يرجعون في ذلك إلى من دخل في الإسلام من أهل الكتاب مثل كعب الأحبار وعبدالله بن سلام وأمثالهما.

وفي عهد التابعين أُضيف إلى هذه المصادر الأربعة مصدر آخر في التفسير ، كان التابعون يولونه شيئاً من الاهتمام ، وهو أقوال الصحابة فصارت مصادرهم التفسيرية القرآن الكريم وروايتهم عن الصحابة أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقوال الصحابة واجتهاد التابعين أنفسهم

__________________

١. محمد عبده ، شرح نهج البلاغة ، ج ٢ ، ص ١٧ ، بيروت.

٢. الزمخشري ، الكشاف ج ٢ ، ص ١٩٣.

٣. إنّ الذى بيّن هذا الإمام على عليه‌السلام كما وضحت الروايات ذلك ، انظر الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٤٠.

٤. ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، ج ٣ ، ص ٤٤٥.

٧٦

واستنباطهم وأهل الكتاب ١.

ثم جاء عهد الفتوحاتِ الإسلاميّة ، فاحدثت تلك الفتوحاتُ تغييراً مهمّاً في ثقافة المسلمين وحياتهم ، إذ أن التلاقح الفكري والحضاري الذي حدث بين أفكار الشعوب المفتوحة والفكر الإسلامي كان عاملاً مهمّاً في التاثير على المسلمين أنفسهم حيث امتزجت العاداتُ والتقاليد والنظم ، فنشأت مذاهب جديدةٌ طغت على بعضها الخرافات والبدع ٢.

وفي أواخر أيام الحكم الاُموي بدأ عصر التدوين لأحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان التفسير باباً من الأبواب التي شملها تدوين الحديث ، حيث لم يُفرًد له في بداية الأمر تأليف خاص يفسر القرآن من البداية إلى النهاية ، ولكن ذلك لم يدمْ طويلاً حيث بدأ التفسير ينفصل عن الحديث فأصبح علماً قائماً بنفسه ، ووضع لكلّ آية من القرآن تفسير ، ورتب ذلك على حسب ترتيب المصحف ، كما هو الحال في جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري ( ت ٣١٠ ه‍ ) ٣.

وهنا لابد لنا من ذكر المناهج التفسيرية التي درج عليها المفسرون في تفاسيرهم والتي يمكن تقسيمها من حيث الأساس إلى :

١. التفسير بالماثور

٢. التفسير بالراي

٣. التفسير اللغوي

١ ـ التفسير بالمأثور : ويشمل هذا النوع من التفسير كل ماجاء في القرآن نفسه من تفسير الآيات بعضها للبعض الآخر ، ومانقل عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومانقل عن الصحابة ٤ وعن التابعين ٥

__________________

١. الذهبي ، التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٩٩.

٢. الشحات سيد زغلول ، الاتجاهات الفكرية في التفسير ، ص ١١٠.

٣. الذهبي ، التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ١٤٠

٤ و ٥. وللشيعة الإماميّه آراء مخالفه لهذا الاتجاه.

٧٧

أيضاً ١ ، وهذا النوع من التفسير هو أوّل أنواع التفسير ظهوراً ٢ ، ويبدو أنّ هناك اعتراضات من قبل بعض المفسرين حول اعتبار ماينقل من التابعين من قبيل المأثور ، وفي هذا الصدد يقول ابن تيميّة وهو يتحدث عن أقوال التابعين :

انها ليست بحجة على غيرهم ممن خالفهم ، أما إذا اجتمعوا على الشيء فلايرتاب في كونه حجةً ، فإن اختلفوا فلايكون قول بعضهم حجةً على بعض ولاعلى من بعدهم ، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب أو أقوالِ الصحابة.

وهناك من يعتبر أقوال التابعين من قبيل الرأي ٣ ولايعدُّها من المأثور.

ويعتبر تفسير الطبري من أهم وأول كتب التفسير بالمأثور ، ويمتاز تفسيره بإسناد الأقوال إلى أصحابها مسلسلة ، والتعويل على ماروي عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والصحابة والتابعين٤.

وقد توسع بعض المفسرين في هذا المنهج ، ونقلوا عن أهل الكتاب شيئاً كثيراً ، وخاصّةً في مجال القصص النبوي وأحوال الاُمم الغابرة مبررين كثرة النقل عن هؤلاء بأنّ مثل هذه المنقولات ليست مما يرجع إلى الأحكام والعقائد ، فتساهلوا في ذلك ، وملأوا تفسيراتهم بمنقولات عن عامة أهل التوراة ٥ ، ولعل التفسير الكبير لأحمد بن محمد بن إبراهيم الثعالبي النيسابوري ( ت ٤٢٧ ه‍ ) كان واحدا من بين اكثر كتب التفسير نقلاً عن أهل الكتاب ، وكان لكثرة النقل عن أهل الكتاب أكبر الأثر في تضعيف التفسير بالمأثور ، وذلك بسبب ماخالطه من الوضع والإسرائيليات التي كانت لاتعبر عن وجهة نظر إسلامية إطلاقاً ، والتي كانت تحمل بين طياتها أهدافاً شريرةً ، القصد منها الإساءة للإسلام ولرسوله ولسائر الأنبياء عليه‌السلام ، كما ساهم في تضعيف التفسير بالمأثور أيضاً حذف الأسانيد من الروايات ، وخاصّة بعد

__________________

١. السيد الخليل ، نشأة التفسير في القرآن والكتب المقدسة ، ص ٣٤.

٢. الذهبي ، التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ١٥٢.

٣. محمود بسيوني فودة ، التفسير ومناهجه في ضوء المذاهب الإسلاميّة ، ص ٢١.

٤. السيد خليل ، نشأة التفسير ، ص ٥٤.

٥. ابن خلدون ، المقدّمة ، ص ٣٦٧ ، السيد خليل ، نشأة التفسير ، ص ٣٤.

٧٨

تفسير الطبري ١ ، وهو مالجأ إليه بعض المفسرين بقصد الاختصاركماحدث للبغوي الفراء ( ت ٥١٠ ه‍ ) وابن كثير ( ت ٧٧٤ ه‍ ) والسيوطي ( ت ٩١١ ه‍ ) الذي يقول في مقدّمة الدر المنثور :

فلمّا ألفت كتاب ترجمان القرآن ، وهو التفسير المسند عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه رضي الله عنهم ، وتم بحمداللّه في مجلدات ، فكان ما أوردته فيه من الآثار بأسانيد الكتب المخرج منها ورأيت قصور أكثر الهمم عن تحصيله ورغبتهم في الاقتصار على متون الأحاديث دون الإسناد وتطويله فلخصت منه هذا المختصر مقتصرا فيه على متن الأثر مصدّراً بالعزو والتخريج إلى كلّ كتاب معتبر وسميته بالدرّ المنثور في التفسير بالمأثور ٢.

ويقف مفسرو الإماميّة من المأثور ولايعتبرون إلا بما جاء في القرآن الكريم من بيان وتفصيل ، وماروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام ، وهذا ما أشار إليه الشيخ ‌الطوسي في تفسيره فقال :

إنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حث على قراءة القرآن والتمسّك بما فيه ، ورد إليه مايرد من اختلاف الاخبار في فروع ، ثم اردف قائلاً :

إنّ أصحابنا ـ يعني الإماميّة ـ ذكروا بأنّ تفسير القرآن لايجوز إلا بالأثر الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن الائمة عليه‌السلام الذين هم قولهم حجة كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ٣.

وفيما عدا ذلك فالإمامية لاتعتبر أي نقل حجة ، وفي ذلك يقول السيد محمدتقي الحكيم : وأما ما نقل عن الصحابة والتابعين فليس بحجة في ذاته ٤ ، ولدى الإماميّة تفاسير عديدة عنيت بالمأثور منها :

١. تفسير العياشي لمحمد بن مسعود بن عياش ، وهو من فقهاء الشيعة الإماميّة في القرن

__________________

١. الذهبي ، التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ١٥٧.

٢. السيوطي ، الدر المنثور ، ج ١ ، ص ٣.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ١ ، ص ٣.

٤. الحكيم ، الأُصول العامة للفقه المقارن ، ص ١٣٥.

٧٩

الثالث الهجري ، وللعياشي هذا أكثر من مائتي مصنّف ١.

٢. تفسير فرات لفرات بن محمد بن فرات الكوفي ، وهو من علماء القرن الثالث للهجرة ٢.

٣. تفسير القمي لعلي بن إبراهيم بن هاشم القمي ، وهو من رجال القرن الثالث والرابع للهجرة النبوية الشريفة ٣.

٢ ـ التفسير بالرأي : ويعني تفسير القرآن بالاجتهاد ٤ ، والراي لغة هو الاعتقاد والقياس والاجتهاد ، ويعتبر أصحاب القياس من أصحاب الرأي ، لأنّهم يقولون برأيهم فيمالم يجدوا فيه حديثا أو أثراً ٥ ، واعتماد الرأي في التفسير جاء متأخّراً ، وان كانت هناك محاولات تفسيرية من قبل بعض المسلمين في عصر النبوة ، حيث كانوا يعملون نظرهم في القرآن ، عندما لم يتيسر لهم لقاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوجد في تلك الفترة من كان يفسر القرآن برأيه ٦.

وهذا اللون من التفسير قد تعرض إلى هجوم شديد من قبل بعض المسلمين ، حتّى كان بعضهم يحرمونه وينهون عنه ٧ مستندين في ذلك إلى قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

من قال في القرآن برأيه فاصاب فقد أخطأ ٨ ، بينما أجاز هذا النوع من التفسير قوم آخرون مستدلين بما جاء في القرآن الكريم من دعوة وحثٍّ على النظر في كتاب الله ، كما في قوله تعالى ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ) ٩.

__________________

١. الأمينى ، أعيان الشيعة ، ج ١ ، ص ٣٦٦.

٢. نفس المصدر ، ج ١ ، ص ٣٦٦ ، الخوانساري ، روضات الجنات ، ج ٥ ، ص ٣٥٣.

٣. الذهبي ، التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٢٥٥.

٤. نفس المصدر.

٥. القاموس المحيط ، فصل الراء باب الواو والباء.

٦. الشحات زغلول ، الاتجاهات الفكرية في التفسير ، ص ٨١.

٧. نفس المصدر.

٨. انظر سنن الترمذي ، أبواب تفسير القرآن ، باب ماجاء في الذي يفسر القرآن برأيه.

٩. ص ( ٣٨ ) الآية : ٢٩.

٨٠