الشيخ الطوسي مفسراً

خضير جعفر

الشيخ الطوسي مفسراً

المؤلف:

خضير جعفر


الموضوع : التراجم
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-589-X
الصفحات: ٣٢٠

٤٦. النهاية في مجرد الفقه والفتوى ١.

٤٧. هداية المسترشد وبصيرة المتعبد في الادعية والعبادات ، وقد ذكره الطوسي في الفهرست.

هذا وقد عثرنا على نموذج بخط الشيخ الطوسي ، فصورناه كما في نموذج رقم ١. وهومن كتاب الطهارة من التهذيب والموجود حاليا في مكتبة المرحوم اية الله العلامة محمدحسين الطباطبائي صاحب تفسير الميزان.

كما وعثرنا أيضاً على نموذج اخر بخط الشيخ الطوسي كتبه في الصفحة الاولى من الجزء الثالث من كتاب التبيان ، واصله مخطوط في المكتبة العامة لاية الله العظمى السيد شهاب الدين النجفي المرعشي في مدينة قم بايران ، وكما هو مبين في النموذج رقم ٢.

____________

١. الطهراني ، الذريعة ، ج ٤ ، ص ١٤٣.

٤١

مخطوطة

٤٢

مخطوطة

٤٣

الشيخ الطوسي وزعامته الفكريّة للإماميّة

بعد وفاة الشريف المرتضى عام ٤٣٦ ه‍ ـ استقل الشيخ الطوسي بالزعامة الدينيّة للمذهب الشيعي الإمامي ، وأصبح علماً من أعلام الإماميّة وزعيماً لهم ، وكانت داره في الكرخ ببغداد ماوى الأُمّة ومقصد الوفاد يؤمونها لحلِّ مشاكلهم وإيضاح مسائلهم ١ ، ولقب بالإمام ، وهو أسمى الألقاب العلميّة عند الشيعة الإماميّة ، وقدتقاطر العلماء للحضور تحت منبره حتّى بلغ عدد تلاميذه أكثر من ثلاثمائة من مختلف المذاهب الإسلاميّة ٢.

وقد أدركَ العباسيون مكانة الشيخ الطوسي العلمية فقام الخليفة العباسي القائم بأمر الله ٣ ( ٤٢٢. ٤٦٧ ه‍ ) بمنح شيخنا كرسي الكلام ، وكان هذا الكرسي لايعطى إلا لرئيس علماء وقته ٤ وقدحصل عليه الشيخ الطوسي رغم الاختلاف المذهبي القائم بينه وبين الخليفة العباسي ، ممايؤكد علو كعب الشيخ في بغداد ، وعدم وجود من يصلح له غيره ، ولا حتّى من يدانيه في العلم والمعرفة ، الأمر الذي اضطر معه القائم بأمر الله أنْ يمنح الكرسي العلمي لواحدٍ من علماء الشيعة وفقهائها ، ولم يَرقْ لحساد الطوسي ومخالفيه ان يتربع على كرسي الكلام ، فأثار ذلك حسدهم فوشوا به إلى الخليفة بتهمة شتم الصحابة وسبهم في كتابه المصباح ، فى زيارة عاشوراء حيث يقول فيها :

« اللهم خصّ أنت أول ظالمٍ باللعن منّي وإبدأ به أولاً ثمّ الثاني ثمّ الثالث ثمّ الرابع والعن يزيد خامساً ٥.

فارسل عليه الخليفة واستجوبه عنها ، فنفى عن نفسه التهمة قائلاً :

المراد بأول ظالم قابيل قاتل هابيل ، وهو أول من بدأ بالقتل وسنه ، والمراد بالثاني

__________________

١. بحر العلوم ، مقدمة الأمالي للشيخ الطوسي ، ج ١ ، ص ١٠.

٢. أسد حيدر ، الإمام الصادق ، ج ٢ ، ص ٣١٧ ، القمي ، الكنى والألقاب ، ج ٢ ، ص ٣٦٣.

٣. القائم بأمر الله هو عبد الله بن القادر باللّه أحمد.

٤. هروي ، حديقة الرضوية ، ص ١٩.

٥. المامقاني ، تنقيح المقال ، ج ٣ ، ص ١٠٥ ، التستري ، مجالس المؤمنين ، ص ٢٠١.

٤٤

عاقر ناقة صالح ، واسمه قيدار بن سالف ، والثالث قاتل يحيى بن زكريا ، وبالرابع عبدالرحمن بن ملجم قاتل علي عليه‌السلام ١.

فاقتنع الخليفة بالجواب وأكرم الشيخ الطوسي ، وانتقم ممن سعى به ٢.

ولم يكن شيخنا الطوسي أوّل من اتُّهِمَ من علماء الإماميّة بشتم الصحابة وسبهم ، بل هي ورقة طالما لعب بها أعداء التشيع لخلق الفتن وإثارة المشاكل والمتاعب لعلماء الشيعة وفقهائها ، وظلت مثل هذه الأساليب تُستغل وتُفتعل حتّى بلغت المحنة أشدها عندما دخل السلاجقة بغداد عام ٤٤٧ ه‍ ، فاستفحلت المشاكل ، وثارت القلاقل ، وحدثت الفتن بين جهلة الشيعة والسنة ٣ ، وامتدت لتصبح دار الطوسي ومكتبته ضحيّةً لها ، حيث كُبستْ داره ، ونهبت وأُحرقت ، كما وأُحرقت كتبه وآثاره ودفاتره مراتٍ عديدةٍ وبمحضرٍ من الناس ، ٤ وأُحرق كرسى التدريس الذي منحه الخليفة القائم له ٥.

وقدكتب الشيخ الطوسي أكثر مؤلفاته أثناء زعامته للمذهب الإمامي ، حيث كتب العدّة في أصول الفقه ، وقد تعرّض فيه لآراء من سبقه في هذا العلم ، وقفز به إلى مرحلة متطورةٍ من مراحل التكامل والنضج دون أن يقلّد في ذلك أحداً ، وإنّما كان مجتهداً مبدعاً في كلّ ماطرحه من المسائل في هذا الكتاب ، اذ لم يصنّف مثله قبله ، في غاية البسط والتحقيق ٦.

وأقرّ فيه حجية خبر الآحاد بعد أن أبطل العمل بها أُستاذه الشريف المرتضى ، ممّا يدلّ على ثقة الشيخ الطوسي بنفسه وأصالة تفكيره ، ثمّ ألّف بعد العدّة كتابه الآخر والموسوم بالمقدمة إلى علم الكلام حيث فرغ منه في رجب سنة أربع وأربعين وأربعمائة في مدينة

__________________

١. البحراني ، الدرة البهية ، ورقة ٦ آ ، ب ، التستري ، مجالس المؤمنين ، ص ٢٠١.

٢. نفس المصدر.

٣. بحر العلوم ، مقدمة الأمالي ، ج ١ ، ص ١٠.

٤. السبكي ، طبقات الشافعية ، ج ٤ ، ص ١٢٧.

٥. ابن الجوزي ، المنتظم ، ج ٨ ، ص ١٧٣.

٦. الصدر ، الشيعة وفنون الإسلام ، ص ٥٧.

٤٥

السلام ١.

ثمّ ألّف الشيخ الطوسي بعد ذلك المصباح الكبير وكان المقصود من هذا الكتاب مجرد العمل وذكر الأدعية ٢.

وقد أكثر الشيخ الطوسي من التأليف في هذه الفترة ، حيث كتب المبسوط في الفقه ، وهومن أهمّ الكتب الفقهية ، اذ اشتمل على ثمانين كتاباً ، فيه فروع الفقه كلّها ٣ ، ويعتبركتاب المبسوط تحولاً كبيراً في هذا المجال ، يشبه التحوّل الذي أحدثه كتاب العدّة في مجال الأُصول ، حيث كان الشيخ قد بلغ قمة النضوج الفكرى ، فكان مجتهداً في آرائه التي طرحها في كتابه الجديد ، ومن ذلك استدلاله بالأدلّة العقلية والبراهين القطعية وتجدد الرأي في المجتهدين ٤ ، وبذلك يكون الشيخ الطوسي قد قفزةً كبيرةً في هذا المضمار ، بعد أن كان كتابه النهاية لايعدو كونه محاولة لتجميع الروايات الفقهية ، فلنستمع إليه وهو يقول :

وكنتُ عملتُ على قديم الوقت كتاب النهاية ، وذكرت فيه جميع ما رواه أصحابنا في مصنفاتهم من المسائل ، وفرقوه في كتبهم ، ورتبته ترتيب الفقه ٥.

ويظهر من خلال النقلة التى أوجدها كتاب المبسوط أنّ شيخنا الطوسي كان صاحب مدرسة فقهية استطاعت أنّ تسهم في دفع الفقه الإمامي إلى الأمام وتطويره ، حيث العمق والأصالة والاتّساع ، ويعتبر كتاب المبسوط آخر كتب الفقه التي ألفّها الشيخ الطوسي ، وبهذا يشير ابن ادريس حين يقول :

وهذا الكتاب آخر ماصنّفه شيخنا أبو جعفر في الفقه ، فإنّه بعد النهاية والتهذيب والاستبصاروالجمل والعقود ومسائل الخلاف ٦.

__________________

١. الطوسي ، مصباح المتهجد ، ص ٢.

٢. نفس المصدر ، ص ٢.

٣. الطوسي ، الفهرست ، ص ١٨٩.

٤. سيد شفيع ، الروضة البهية ، ص ١٨٥.

٥. الطوسي ، المبسوط ، ص ٣.

٦. ابن ادريس ، السرائر ، باب في ذكر الأنفال ومن يستحقّها.

٤٦

كما كتب الشيخ الطوسي كتاباً قيّما في الفقه المقارن حمل اسم الخلاف أو مسائل الخلاف مع الكلّ في الفقه وكانت أجواءُ الانفتاح في بغداد هي التي دفعت الشيخ الطوسي لكتابه هذا الكتاب حيث كانت المناضرة والجدل والحوار سمةً من سِماتِ الحركةِ العلميّة في بغداد آنذاك ، وبذلك فإنّ كتابَ الخلافَ قد تضمّن الكثير من آراء المذاهبِ الإسلاميّة إضافةً إلى ما اجتمعت عليه الفرقةُ ـ الإماميّة ـ من مسائل الدينِ ١.

وفي مسائل الخلاف مع الكلّ في الفقه تألَّق نجم الشيخ الطوسي في دنيا الاجتهاد ، حيث كان يناقش الآراء ، وينتقدها مستنداً إلى الأدلّة العلميّة ، وقد بين ذلك في مقدمة كتابه إذ يقول :

وذكر مذهب كلّ مخالفٍ على التعيين وبيان الصحيح منه وماينبغي أن يعتقد ، وأن أقرن كلّ مسألةٍ بدليلٍ نحتج به على من خالفنا موجب للعلم من ظاهر قرآن أو سنةٍ مقطوعٍ بها أو اجماع أو دليل خطابٍ أو استصحاب حالٍ ـ على مايذهب إليه كثيرٌ من أصحابنا ـ أودلالة أصلٍ أو محتوى خطابٍ ٢.

ومما ألّف الشيخ الطوسي ـ إبّان زعامته الفكرية للإمامية وأثناء إقامته في بغداد ، والتي دامت اثنتي عشرةً سنةً من ٤٣٦ ه‍ ـ والى سنة ٤٤٨ ه‍ كتاب المفصح في الإمامة والغيبة والإيجاز في الفرائض والاقتصاد والجمل والعقود كما لايستبعد ضياع بعض آخر بسبب الفتن والاضطرابات التي عصفت ببغداد بعد دخول السلاجقة إليها عام ٤٤٧ ه‍ ، الأمر الذي اضطرمعه الشيخ الطوسي للهجرة إلى مدينة النجف الأشرف ، ليرسي هناك دعائم مدرسته الجديدة فيها ، والتي كتب لها أن تكون من أهم الجامعات الإسلاميّة في العالم وإلى يومنا هذا.

الشيخ الطوسي ومدرسته في النجف الأشرف

غادر الشيخ الطوسي بغداد مرغماً ، وتوجه صوب مدينة النجف ، حيث قبر أميرالمؤمنين علي بن ابي طالبٍ عليه‌السلام ، وقددخل المدينة عام ٤٤٨ ه‍ ، ويبدو أنّ اختيار الشيخ

__________________

١. بحر العلوم ، الرجال ، ج ٣ ، ص ٢٣٠.

٢. الطوسي ، الخلاف ، ج ١ ، ص ٢.

٤٧

‌الطوسي مدينة النجف الأشرف ، لأنَّ تكون مستقرّاً له كان له مرجحاتٌ عديدةٌ منها :

١. وجود نواةٍ لحركةٍ علميةٍ في تلك المدينة ، قد تسدّ فراغاً بعد بغداد ، فيجد فيها الشيخ ‌الطوسي بديلاً عن مدرسته في دار السلام.

٢. وقوع النجف الأشرف على مقربةٍ من الكوفة والتي هي موطن التشيع ، حيث سيجد الشيخ الطوسي فيها قاعدةً جماهيريّةً تتجاوب مع أفكاره ومتبنّياته ووجهات نظره المذهبية ، وبالتالي سوف لن يواجه مشكلةً أُخرى كتلك التي عانى منها كثيراً في بغداد بسبب الخلافات المذهبية.

٣. الموقع الجغرافي لمدينة النجف الأشرف ، وبعدها عن مركز الأحداث المتفاقمة عن العاصمة بغداد يؤهلها لأنْ تكون مكاناً آمناً خاصّةً لاولئك الذين صاروا وقوداً للفتنة ، وسُلِّطَت عليهم الأضواء ، وأصبحوا تحت المراقبة.

كلّ هذه الأُمور حفزت الشيخ الطوسي لأنّ يختار مدينة النجف الأشرف مكاناً لاستقراره ، وفعلاً فقدكان اختياره صائباً ، حيث استطاع أن يخلق من تلك المدينة مدرسةً علميةً كبرى يؤمها الناس من شتى أنحاء الدنيا.

وقدبقي الشيخ الطوسي في مدينة النجف الأشرف اثني عشر عاماً منذ أن نزلها عام ٤٤٨ ه‍ وحتى وفاته فيها سنة ٤٦٠ ه‍ ، ولا زال بيته موجوداً فيها ، وقدتحول فيما بعد إلى مسجد يحمل اسم الشيخ الطوسي ، ويقع شمال ضريح الامام علي عليه‌السلام وعلى مقربةٍ منه في الجهة اليسرى من شارع يحمل اسم الشيخ الطوسي أيضاً.

يعود تاريخ الحركة العلمية في النجف الأشرف إلى نهاية القرن الثاني الهجرى ، وبعد بناء مدينة بغداد على وجه التحديد ، حيث شيّد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عاصمته الجديدة على نهر دجلة في النصف الثاني من القرن الهجري الثاني ١ واتخذها عاصمةً له ، فاستقطبت تلك المدينة الحديثة علماء الكوفة وفقهاءها ، ونزلوا بها ، وتبعهم بذلك جمعٌ من طلبة العلوم ، مما اضعف مدرسة الكوفة ، وقد تزامن ذلك مع بدء الحركة العمرانية في النجف

__________________

١. النجاشي ، الرجال ، ص ٣١.

٤٨

الأشرف وتشييد مدرستها ، فانتقلت البقية الباقية من مدرسة الكوفة إليها وعند ذلك استوعبت النجف كلّ ما كان في الكوفة ١.

وفي نفس الوقت أيضاً أمر الداعي الصغير محمد بن زيدبن محمد العلوي ٢ وكان يؤمها ملكاً لطبرستان بأن يبني في النجف الأشرف قبةً وحائطاً وحصناً فيه سبعون طاقاً ٣ وهي على هيئة غرفٍ ليسكن بها طلاب العلوم ، كما وأنه قد وردت إشاراتٌ أُخرى تؤكد وجود حركةٍ علميةٍ في النجف الأشرف قبل وصول الشيخ الطوسي إليها ، حيث يقول صاحب كتاب فرحة الغري :

بأنّ عضد الدولة البويهي ( ٣٦٧. ٣٧٢ ه‍ ) كان قد زار النجف الأشرف عام ٣٧١ ه‍ ، وطرح في ضريح الإمام علي عليه‌السلام دراهم ، فاصاب كل واحدٍ منهم واحداً وعشرين درهما ، وكان عدد العلويين ألفاً وسبعمائة اسمٍ ، وفرق على المجاورين وغيرهم خمسمائة الف درهمٍ ، وعلى الفقراء والفقهاء ثلاثة آلاف درهمٍ ٤.

وقد بنى عضد الدولة الرواق العلوي في النجف الأشرف ، وإلى هذا البناء يشير صاحب كتاب تاريخ الجامعات فيقول :

أصبحت مدينة النجف عاصمة التدريس للفقه الجعفري وعلوم الدين منذ عصر آل بويه بعد إعمارهم المرقد العلوي واجزالهم الصلات والرواتب للمقيمين به ٥.

بالاضافة إلى ماتقدم فأنّ هناك بعض الأُسر العلمية المعروفة ، كانت قدسكنت أرض النجف الأشرف في القرن الهجري الرابع ، وقبل وصول الشيخ الطوسي لمدينة النجف ، ومن تلك الأُسر :

( آل شهريار ) ، وهم من البيوت النجفية الذين خدموا العلم والدين خدمة جليلةً ، وقضوا

__________________

١. اليعقوبي ، البلدان ، ص ٤١.

٢. بحر العلوم ، تحفة العالم ، ج ٩ ، ص ٢٧١.

٣. البخاري ، سر السلسلة العلوية ، ص ٢٦ ، بحر العلوم ، تحفة العالم ، ج ٩ ، ص ٢٧١

٤. ابن طاووس ، فرحة الغري ، ص ١١٤

٥. غنيمة ، تاريخ الجامعات ، ص ٤٩.

٤٩

أياماً عديدةً في السدانة العلويّة ١.

وقدنبغ من تلك الأُسرة السيد شريف الدين المعروف بابن سدرة المتوفّى سنة ٣٠٨ ، وأحمد بن عبدالملك الغروي ٢ الذي كان معاصراً للشيخ المفيد ٣.

بالإضافة لذلك فقدسكن النجف عدد من العلماء المشهورين قبل هجرة الشيخ الطوسي إليها ، ومن أُولئك العلماء أبوغالب أحمد بن محمد بن سليمان الشيباني الزراري المتوفّى سنة ٢٦٨ ، حيث كان مقيماً في مدينة النجف الأشرف ، والزراري هذا من أفاضل الثقاة والمحدثين وشيخ علماء عصره وأُستاذهم ، وله مؤلفات عديدة منها : كتاب التاريخ وآداب السفر ، والإفضال ، ومناسك الحج ، ورسالة في ذكر آل أعين ٤.

من كلّ ماتقدم يستنتج الباحث أنّ الشيخ الطوسي كان قد وصل النجف ، وفيها بذرةٌ علمية وحركةٌ دراسيةٌ ، استطاع أن يطورها ، ليجعل بذلك مدينة النجف الأشرف مثابة العلماء ومحطَّ الفقهاء ومنتجع الأفاضل ٥ ، وليتخرّج منها

خلال القرون المتطاولة مايعد بالآلاف من أساطين الدين وأعاظم الفقهاء وكبار الفلاسفة ونوابغ المتكلمين وأفاضل المفسرين ، وأجلاء اللغويين وغيرهم ممن خبرالعلوم الإسلاميّة بأنواعها ٦.

ويبدو أن الشيخ الطوسي كان قد أنشأ مدرسته الجديدة في النجف الأشرف كما يحب ، وكماكان يتمنى مستفيداً من تجربته الطويلة في بغداد ومدارسها ، ومستثمراً الجو الهادئ الذي كانت تنعم به هذه المدينة بسبب بعدها عن مسارح الأحداث والتيّارات السياسية المتصارعة ، فقصر الدراسة في مدرسته الحديثة على مذهب أهل البيت (ع) فقط ليعطيه

__________________

١. بحر العلوم ، مقدمة الأمالي ، ج ١ ، ص ١٥.

٢. حسن الأمين ، دائرة المعارف الإسلاميّة الشيعية ، ج ١٢ ، ص ٢٣٠.

٣. محبوبة ، ماضي النجف ، ج ٢ ، ص ٤٠٤.

٤. كحالة ، معجم المؤلفين ، ج ٢ ، ص ١٠٨ ، الشيخ حبيب الله الكاشاني ، لباب الألقاب ، ص ٢٦.

٥. مجلة رسالة الإسلام ، السنة الخامسة ، العدد ١ ، ص ٨٧ ، مقالة الدكتور حسين علي محفوظ.

٦. بحر العلوم ، مقدمة الأمالي ، ج ١ ، ص ١٤.

٥٠

مايستحقّه من الدرس والبحث والتوسعة والاستقصاء ، ولذلك كثف جهوده في هذا المجال ، وظلّ ملازماً لحلقات التدريس حتّى آخر سني حياته ، وفي ذلك يقول تلميذه ابن شهريار أبو عبد الله محمد بن أحمد الخازن :

حدثنا الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي رحمه‌الله بالمشهد المقدس الغروي ، وعلى ساكنه أفضل الصلوات في شهر رمضان من سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ١.

ولعلّ انشغال الشيخ الطوسي بالتدريس وعمله المتواصل في بناء وتطوير مدرسته الجديدة كان السبب وراء الانتاج الفكري للشيخ وقلة التاليف عنده ، إذ أنّه لم يكتب غير الأمالي واختيار الرجال وشرح الشرح رغم أنّه عاش اثني عشر عاماً في النجف الأشرف ( ٤٤٨. ٤٦٠ ه‍ ) منذ هجرته إليها وحتّى وفاته رحمه‌الله فيها.

وقد انفردت مدرسة الشيخ الطوسي في النجف بمميزات خاصة منها :

١. إنها أحادية الإتجاه ، حيث كان مذهب أهل البيت هو المادة الأساسية في تلك المدرسة ، بعد أن كانت مدرسته في بغداد تشتمل على أكثر من اتجاهٍ من مختلف المذاهب الإسلاميّة ، ولعل هذا يعود إلى أسباب عدة منها : انعدام التنافس المذهبي والصراع الفكري ، لأنّ سكان النجف وطلبتها كلهم من المنتمين لمذهب أهل البيت.

ثمّ خلو النجف الأشرف من العلماء الكبار الذين كان يجد أمثالهم في مدارس بغداد ، والذين كانوا يشكلون عنصر التحدي الذي لايملك الشيخ الطوسي أمامه إلا الدفاع عن كلّ شبهة ، أو الرد على أي رأي لايعتقد بصوابه ، وذلك من خلال المناظرات وحلقات الجدل والحوار التي كانت تزخر بها بغداد ومدارسها ، بالاضافة إلى ذلك فإنّ ابتعاد النجف الأشرف عن مركز الخلافة ساهم إلى حدٍّ بعيد في خلق أجواء هادئة قليلة التاثر بالمنازعات والصراعات السياسية التي كانت لها انعكاساتها المباشرة على الآراء المذهبية.

٢. ومما امتازت به مدرسة النجف الأشرف الجديدة كونها تسير ضمن حلقاتٍ دراسيةٍ

____________

١. ابن طاووس ، مهج الدعوات ، ص ٢١٨.

٥١

خاصّةٍ ، يجتمع فيها الشيخ بتلاميذه ، ويملي عليهم معارفه في التفسير والحديث وعلم الرجال والفقه والأُصول ، وهو مالم تشهد مثيله الدراسة من قبل ، ولعل كتاب الأمالي للشيخ ‌الطوسي يعطينا صورةً واضحةً عن سير تلك الدراسة ، حيث تضمن الكتاب موضوعاتٍ مختلفةٍ في شتى العلوم والفنون الإسلاميّة.

٣. كان الشيخ الطوسي يُلقي دروسه بمشهد الإمام علي عليه‌السلام ، وبذلك أصبحت مدرسته متصلةً اتصالاً وثيقاً بالمسجد ، وليست من المدارس المستقلة عن الجوامع ١ كما هوالحال في مدارس بغداد ، وقد ظلت هذه الميزة قائمةً إلى يومنا هذا لتصبح تقليداً خاصاً بمدرسة النجف الأشرف وحوزتها العلمية على غرار الحوزة التي أنشأها الشيخ الطوسي قبل مايقرب من ألف عام ، والتي صارت فيما بعد شجرةً مباركةً تؤتي أُكلها كلّ حين علماء وكُتّاباً وفقهاء وأُ دباء وخطباء وشعراء ، ساهموا في إغناء المكتبة الإسلاميّة والإنسانية ، وتركوا آثارهم وبصماتهم واضحةً على كل مجتمعٍ عاشوا فيه.

أولاده

خلّف الشيخ الطوسي ولده الشيخ أبا علي الحسن بن أبي جعفر محمد الطوسي ، وقدخلف أباه في العلم والعمل والتدريس والفتيا وإلقاء الحديث ، وكان من مشاهير رجال العلم وكبار رواة الحديث ، قرأ على والده جميع تصانيفه ٢.

وأجازه والده في النجف سنة ٤٤٥ هـ. وقدكان عالماً فاضلاً فقيهاً محدثاً جليلاً ثقة ٣.

تتلمذَ عليه جماعةٌ كثيرةٌ من أعيان الأفاضل ، وإليه ينتهي كثير من طرق الإجازات إلى المؤلفات القديمة والروايات ٤.

كما وخلّف الشيخ الطوسي ابنتين كانتا عالمتين من أهل الرواية والدراية ، أجاز لهما

__________________

١. ناجي معروف ، علماء النظاميات ، ص ١٤١.

٢. منتجب الدين ، الفهرست ، ص ٤.

٣. الحر العاملي ، أمل الآمل ، ٤٦١.

٤. أسداللّه التستري ، مقابس الانوار ، ص ٩.

٥٢

أبوهما الشيخ الطوسي رواية ماصنّف ١.

وفاة الشيخ الطوسي

تباينت الروايات في تحديد سنة وفاة الشيخ الطوسي ، فرواية تقول : أنّه توفّي سنة ٤٥٨ ه‍ ٢ ، وأُخرى تقول : إنّ سنة وفاته كانت ٤٥٩ ه‍ ٣ ، وثالثةٌ تقول : إنّ الشيخ ‌الطوسي توفّي عام ٤٦٠ ه‍ ٤ ، ويبدو أن الرواية الثالثة هي أصدق الروايات وأدقها ، لأنّ المعروف عن الشيخ الطوسي أنّه بقي بعد وفاة أُستاذِه الشريف المرتضى أربعة وعشرين عاماً ٥ ، وحيث إنّ الشريف المرتضى كان قد توفّي سنة ٤٣٦ ه‍ ، فهذا يعني أن وفاة الشيخ الطوسي كانت في سنة ٤٦٠ ه‍ ، باضافة أربعةٍ وعشرين سنةً عاشها بعده ، وبهذا يكون الشيخ الطوسي قد عمر خمسة وسبعين عاماً من عام ٣٨٥ ه‍ وحتّى عام ٤٦٠ ه‍ ، والذي يؤكد هذه الرواية أيضاً هو إقامة الشيخ الطوسي مدة اثنتي عشرة سنة في النجف من ٤٤٨ إلى سنة ٤٦٠ ه‍ ٦.

وكما اختلف الرواة في تعيين عام وفاته ، فإنّهم اختلفوا أيضاً في تحديد يوم وفاته ، فمنهم من يقول :

إنّها كانت في ليلة الثاني عشر من المحرم ٧ ، بينما يقول غيرهم : إنّها كانت في الثاني والعشرين منه ٨ ، وقدتولى غسل الشيخ ودفنه جماعةٌ من خيارتلاميذه ، حيث يقول الحسن بن مهدي السليقي :

__________________

١. كاشف الغطاء ، الحصون المنيعة في طبقات الشيعة ، ج ١ ، ص ٣٢٨.

٢. ابن شهر آشوب ، معالم العلماء ، ص ١٠٢ ، الكنتوري ، كشف الحجب ، ص ٥٦.

٣. الصفدي ، الوافي بالوفيات ، ج ٢ ، ص ٣٤٩ ، زيدان ، تاريخ آداب اللغة العربية ، ج ٣ ، ص ١١.

٤. بحر العلوم ، موسوعة العتبات المقدسة ، ج ٢ ، ص ٤٢.

٥. نفس المصدر.

٦. الطهرانى ، مقدمة التبيان ، ج ١ ، ص ٤٥.

٧. فنديك ، اكتفاء القنوع بما هو مطبوع ، ص ١٨١.

٨. العلامة الحلي ، الرجال ، ص ٢٤٨ ، الخوانسارى ، روضات الجنات ، ص ٥٨١ ، البحراني ، لؤلؤة البحرين ، ص ٢٩٣ ؛ الطهراني ، مقدمة التبيان ، ج ١ ، ص ٤٥.

٥٣

توليت انا والشيخ أبو محمد الحسن بن عبدالواحد العين زربي والشيخ أبو الحسن اللؤلؤي غسله في تلك الليلة ودفنه ١.

وقد دُفن في الموضع المعروف اليوم ، وهو بيته ٢ الذي تحول فيما بعد إلى مسجدٍ أُطلق عليه اسم مسجد الشيخ الطوسي ، والذي أصبح من المزارات المعروفة ٣ ، إضافةً إلى كونه مدرسة يدرس فيها طلبة العلوم الدينية في حوزة النجف الأشرف ضمن حلقاتٍ خاصّةً مختلف العلوم الإسلاميّة ، وقبر الشيخ الطوسي يتوسط المسجد ٤ ، ويرتفع عن سطح الأرض حوالي مترٍ واحد ، وعلى جدار المسجد الذي يرقد فيه شيخنا الطوسي كتبت أبياتٌ من الشعر ، تؤكّد أنّ وفاة الشيخ كانت سنة ٤٦٠ ه‍ ، والأبيات هي :

يامَرْقَدَ الطوسيَّ فيك قَدِ انطوى

محيي العلوم فكنت أَطْيَبَ مَرْقَدِ

بك شيخ طائفة الدعاة إلى الهدى

ومُجَمَّعُ الأحكام بعد تَبَدُّدِ

أودى بشهرِ محرمٍ فأضافَهُ

حُزناً بفاجع رزئه المُتَجَدِّد

وبكى له الشرُع الشريف مؤرِّخاً

( أبكى الهدى والدين فقدُ محمّدِ ) ٥

ويقع قبر الشيخ الطوسي في محلة المشراق ، وهي أقدم محلةٍ في مدينة النجف الأشرف.

__________________

١. العلامة الحلي ، الرجال ، ص ١٤٨ ، البحراني ، لؤلؤة البحرين ، ص ٢٩٣.

٢. الصدر ، عيون الرجال ، ص ٧٤ ، كمال الدين ، فقهاء الفيحاء ، ص ٨١ ، سركيس ، معجم المطبوعات ، ج ٢ ، ص ١٢٤٨.

٣. بحر العلوم ، الرجال ، ج ٣ ، ص ٢٣٩.

٤. زرت قبر الشيخ الطوسي أكثر من مرة عند زيارتي لمدينة النجف الأشرف ، آخرها كانت عام ١٣٩٩ ه‍ ـ.

٥. البيت يؤرخ وفاة الشيخ الطوسي بسنة ٤٦٠ ه‍ ، انظر كتاب ضبط التاريخ بالأحرف ، ص ١٣ ، للشيخ جعفر النقدي.

٥٤

الفصل الثاني :

عصر الطوسي

عصر الشيخ الطوسي

تميز القرنان الرابع والخامس بعد الهجرة النبوية الشريفة بتلاحق الأحداث المختلفة والمتأرجحة بين الشدة والرخاء والحرية والاضطهاد تبعاً للظروف السياسية ، وحسب طبيعة الخلفاء المتعاقبين على السلطة ، وكانت تلك المتغيرات والتقلبات السياسية قدتركت بصماتها على الشيخ الطوسي ، كما تركت آثارها على غيره من أبناء ذلك العصر.

وقدشهد إقليم خراسان نوعاً من الاضطهاد والقهر بسبب السياسة المتزمّتة التي اتّسمت بطابعٍ قمعي أبان حكم السلطان محمود الغزنوي ، والتي نال من ويلاتها طلبة العلوم العقلية نصيباً ليس بالقليل باعتبارهم انداداً ومعارضين للسلفيين من أتباع المذهب السني ، حيث قد بالغ السلطان محمود الغزنوي في تعذيبهم والإساءة إليهم ، فنفي خلقاً كثيراً من المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والجهمية والمشبهة ، وأمر بلعنهم على المنابر ١. كما لم يسلم الفلاسفة من اضطهاده ، حيث قد جدّ في تعقبهم وإبادتهم ، وكان كذلك متمّماً لسياستِه في تعقب القرامطة الذين تغلب عليهم ، حتى شنق بأمره في يومٍ واحدٍ مئتان بتهمةِ

__________________

١. ابن العماد ، شذرات الذهب ، ج ٣ ، ص ١٨٦ ، اليافعي ، مراة الجنان ، ج ٣ ، ص ٢٢.

٥٥

الاعتزال وسوءِ المذهب.

ثم أعقب ذلك تفاقم الأوضاع وسوء الحالة ، حينما تضاعفت حالة الاضطهاد المذهبي ، واشتدّت في خراسان خاصّةً بعد وصول الدعوة الإسماعيليّة المصريّة إليها ١ ، الأمرالذي أدى بالشيخ الطوسي كما أدى بغيره من العلماء وطلاب العلوم من غيرِ أبناء المذهب السني لأن يهربوا من جحيم الاضطهاد إلى بلد آخر ، فكانت بغداد محط الرحال لهم ، والتي لم تكن هي أيضاً بمنجى عن آثار هذه السياسة الجائرة ، وإن كانت أحسن حالاً من غيرها بسبب وجود البويهيين على رأس الحكم فيها.

ولعل تاريخ الاضطهاد الفكري في العصر العباسي يعود إلى ماقبل وصول الشيخ ‌الطوسي إلى بغداد بكثيرٍ ، حيث كان السبب في هذا الاضطهاد هو الصراع الفكري القائم بين المدارس الكلاميّة والفقهيّة ، والتي يشكل الخلاف الحاد بين أصحاب النزعة السلفيّة والنزعة العقليّة أهم مظاهره ، مما أثار غـضب السلطة العباسية أيام المتوكّل على الله ( ٢٣٢. ٢٤٧ ه‍ ) ، والذي كان منحازاً وبشكل متطرفٍ إلى المدرسة السلفية ، تلك المدرسة التي أخذت تضطهد الفئات المخالفة لها كالمعتزلة والشيعة ، وكل من يحاول التوفيق بين أحكام العقل وأحكام الشرع ٢ ، وبانحياز الخليفة لهذا الإتجاه يكون السلفيون قد زادوا من نفوذهم ، وصاروا يُلَوِّحون بعصا التهديد لمن خالفهم ، حتى صاروا « حكومةً داخل حكومةٍ »٣.

وقد تدخّلوا في شؤون الناس الخاصة ، مما سبب الاستياء العام بعد أن عجزت السلطة عن ردعهم ، الأمر الذي شجع الاُمراء على الخروج عن أوامر السلطة المركزيّة ، فاعلنوا استقلالهم ، مما أثار غـضب الخليفة المستكفي باللّه ( ٣٣٣. ٣٣٤ ه‍ ) على الأتراك الذين كانوا يتولون اُمور البلاد ، وضبط الأمن فيها ، واضطر عندها للاستنجاد بالبويهيين ليتسلّموا

__________________

١. مصطفى جواد ، مقالة في مجلة المجمع العلمي العراقي ، مج ٤ ، ج ٢ ، ص ٥١٢.

٢. المسعودي ، مروج الذهب ، ج ٤ ، ص ٨٦.

٣. أحمد أمين ، ضحى الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٠٠.

٥٦

السلطة في العراق ، ووضع حدّ للارتباك والفوضى ١.

وقدكان البويهيون آنذاك قوةً لايستهان بها ، لذلك أصبحوا فيما بعد السادة الجدد للخلافة العباسية ٢ ، عام ٣٣٤ ه‍ مستفيدين من تجربة القمع الفاشلة والتي لم يجن أصحابها نفعا ، فسلكوا طريقاً وسطاً بانتهاجهم سياسيةً معتدلةً مع كل الفرق وأصحاب المدارس والاتجاهات ، بغية إقرار الأمن وبسط النظام وإعادة هيبة الدولة ، وقد أرادوا أن يثبتوا للناس انفتاحهم وعدم انحيازهم لفئةٍ من خلال فرضهم الأوامر المشددة ضد الشيعة ، رغم انتمائهم المذهبي للتشيّع ، حيث قد بلغوا حدّاً منعوهم معه من إقامة شعائرهم الدينية ٣. كما وأقدموا على نفي الشيخ المفيد عن بغداد ، فغادرها عام ٣٩٣ ه‍ ٤.

وقد تبيّن لعامة الناس أن البويهييّن كانوا أفضل ممن سبقهم من الحكّام ، إذ أنهم ورغم كونهم شيعةً ، لم يحاولوا تسليط أبناء مذهبهم على أهل السنة ، فساد الهدوء في عصرهم ، وازدهرت العلوم بسبب سياسة الانفتاح واللين التي مارسوها ، ولاطلاقهم الحرية الدينية والحرية الفكرية والحرية القلميّة ٥. وقد ظهر ذلك واضحاً في عهد عضد الدولة ٦ ( ٣٦٧ ـ ٣٧٢ ) الذي كان يؤثر مجالسة الاُدباء على منادمة الأُمراء ٧. وله دار بشيراز وخزانة للكتب عليها وكيلٌ وخازنٌ ومشرفٌ من عدول البلد ، ولم يبق كتاب صنّف إلى وقته من أنواع العلوم كلها ، إلا وحصّله فيها ، والدفاتر منضدة على الرفوف ، ولكلّ نوع بيوتٌ ، وفهرستات

__________________

١. مسكويه ، تجارب الأُمم ، ج ٦ ، ص ٨٥.

٢. السامر ، الدولة الحمدانية ، ج ١ ، ص ٢٥٧.

٣. ابن الجوزى ، المنتظم ، ج ٨ ، ص ١٤٠.

٤. ابن الأثير ، الكامل ، ج ٩ ، ص ٨٦.

٥. عضدالدوله ، هو أبو شجاع فنا خسرو بن ركن الدولة أبي الحسن بن أبي شجاع بويه ، انظر القمي ، الكني والألقاب ، ج ٢ ، ص ٣٣٣ ؛ وابن الوردي ، التاريخ ، ج ١ ص ٤٢٤.

٦. الثعالبى ، يتيمة الدهر ، ج ٢ ، ص ٢١٦.

٧. المقدسي ، أحسن التقاسيم ، ص ٤٤٩.

٥٧

فيها أسامي الكتب ١.

وقد كرم عضد الدولة العلماء من الفلاسفة ، وأفرد لهم في داره موضعاً يقرب من مجلسه ، يجتمعون فيه للمفاوضة ، وكان هو نفسه مشاركاً في عدة من فنون الأدب ، وأخرج من بيت المال أموالاً عظيمة صرفت في أبواب العلم وتحصيله ، وعلى الصدقات لذوي الحاجة من أهل الملة ، وتجاوزهم إلى أهل الذمة ٢.

كما عمل على النهوض بمرافق بلاده بشكل مثير ، فعمد إلى تشجيع العلماء والقراء ، وشيّد المساجد والمستشفيات وغيرها من المنشات العامة ، وأصلح القنوات والآبار ، فامتلأت بالمياه ، كما خصص جزءاً من أموال الدولة للترفيه عن الفقراء ٣.

وقد صحب عضد الدولة عدد كبير من العلماء والكتاب ، وصنّفوا له كتباً قيمةً مثل كتابي الايضاح وكتاب التكملة في النحو الذي صنفه الشيخ أبوعلي الحسن بن أحمد بن عبدالغفارالفارسي النحوي ( ٢٨٨. ٣٧٧ ه‍ ) ٤.

وكان إمام زمانه في علم النحو ، وكذلك كتاب التاجي في أخبار بني بويه لأبي إسحاق إبراهيم بن هلال بن هارون الحراني الصابي ( ٣٢٠ ـ ٣٨٤ ه‍ ) ٥ ، الذي كان كاتب الإنشاء ببغداد في عهد الدولة البويهية.

ولا غرابة أن تزدهر العلوم في مثل هذا العهد ازدهاراً سريعاً ، وينبغ العديد في مختلف العلوم والفنون والآداب ، سيما وأن العهد البويهي جاء بعد فترة من الاضطهاد الفكري الخانق ، فتفتقت الطاقات ونمت المواهب في ظل عهد يحترم العلم ، ويكرم العلماء ، ولذلك تزخرُ أيام البويهيين بأصحاب الفكر والأدب والفقه والتفسير والشعر والحديث ، وغيرها من

__________________

١. زيدان ، تاريخ آداب اللغة.

٢. مسكويه ، تجارب الاُمم ، ج ٦ ، ص ٤٠٨.

٣. دائرة المعارف الإسلاميّة ، ماده بابويه ، ج ٤ ، ص ٣٥٧.

٤. الزركلى ، الأعلام ، ج ٢ ، ص ١٩٣ ، ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، ج ١ ، ص ٣٦١.

٥. زيدان ، تاريخ آداب اللغة العربية ، ج ٢ ، ص ٢٧٥ ، ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، ج ١ ، ص ٣٤.

٥٨

أمثال الشيخ المفيد أبوعبد الله محمد بن محمد بن النعمان ( ٣٣٦. ٤١٣ ه‍ ) ١ ، والشريف الرضي أبوالحسن محمد بن الحسين ( ٣٥٩. ٤٠٦ ) ٢ ، حيث كان نقيب النقباء وشاعرعصره ، وإليه كانت إمارة الحج والمظالم.

وكذلك الشريف المرتضى أبوالقاسم علي بن الحسين الموسوي المعروف بعلم الهدى ( ٣٥٥. ٤٣٦ ه‍ ) ٣ ، ومن ثمّ صاحبنا الشيخ الطوسي ، ومن قبله كان أبوجعفر محمدبن يعقوب الكليني ( ت سنة ٣٢٩ ه‍ ) ٤ ، وهو أحد شيوخ الشيعة الإماميّة وصاحب كتاب الكافي ، أحد الأصول الأربعة عندهم ، وكذلك أبوالقاسم جعفربن محمد بن جعفربن موسى بن قولويه ٥ ، والذي يعتبر من كبار علماء الإماميّة ، وأُستاذ الشيخ المفيد والمدفون حالياً في مدينة الكاظمية ببغداد بجوار الإمامين موسى الكاظم ومحمدالجواد عليهما‌السلام ، والذي كانت وفاته سنة ٣٦٨ ه‍ ، وكذلك الشيخ الصدوق أبوجعفر محمد بن على بن بابويه القمي ٦ الذي يعتبر رئيس المحدثين واحد شيوخ الشيعة الإماميّة ، ويعد كتابه من لايحضره الفقيه أحد الأصول الأربعة عند الإماميّة ، وقد توفّي عام ٣٨١ ه‍ ، كما ونبغ في هذا العصر الكثيرون من شيوخ وأصحاب الفرق الكلاميّة مثل :

الماوَردي ابوالحسن علي بن محمد بن حبيب البصري ٧ صاحب كتاب الأحكام

__________________

١. الطوسي ، الرجال ، ص ٤٥٨.

٢. الثعالبي ، يتيمة الدهر ، ج ٣ ، ص ١٣٧ ، متز ، الحضارة الإسلاميّة ، ج ١ ، ص ٣١٢ ، ابن الجوزى ، المنتظم ، ج ٧ ، ص ٢٨١ ؛ ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، ج ٤ ، ص ٤٤ ؛ الطريحي ، مجمع البحرين ، ج ١ ، ص ١٨٩ ؛ التستري ، قاموس الرجال ، ج ٨ ، ص ١٤٨.

٣. الطوسي ، الفهرست ص ٩٨ ـ ١٠٠.

٤. القمي ، الكنى والألقاب ، ج ٢ ، ص ١٠٣ ، بحرالعلوم ، الرجال ج ٣ ، ص ٣٢٥ ، ابن شهر آشوب ، معالم الرجال ، ص ٨٨.

٥. الطوسي ، الرجال ، ص ٤٥٨ ، ابن حجر ، لسان الميزان ، ج ٢ ، ص ١٢٥ ، القمي ، الكنى والألقاب ، ج ١ ، ص ٣٨٥.

٦. القمي ، الكنى والألقاب ، ج ١ ، ص ٢١٦ ، بروكلمان ، تاريخ الأدب العربي ، ج ٣ ، ص ٣٤٣ ؛ الطوسي ، الفهرست ، ص ٦٧.

٧. ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، ج ٢ ، ص ٤٤٤ ، الطاهر ، الشعر العربي ، ج ١ ، ص ٦٥.

٥٩

السلطانية ، وهو أحد فقهاء الشافعية ، وقد توفّي في بغداد سنة ٤٥٠ هـ.

والجويني امام الحرمين أبوالمعالي ضياءالدين عبدالملك بن عبد الله بن يوسف ( ٤١٩. ٤٧٨ ه‍ ) ١ ، وهو أحد فقهاء الشافعية ، والباقلاني أبوبكر محمد بن الطيب بن محمد ، توفّي في بغداد عام ٤٠٣ ه‍ ٢ ، وهو أشعري المذهب ، وقد انتهت إليه رياسة المذهب الأشعري ، وكان ممن صنّف في علم الكلام ، والبصري أبوالحسين محمد بن علي الطيب المتوفّى سنة ٤٣٦ ه‍ ٣ ، ويعتبر من أكبر شيوخ المعتزلة ، وكان إمام وقته في علم الكلام ، وابن الصباغ أبونصر عبدالسعيد بن محمد بن عبدالواحد ( ٤٠٠ ـ ٤٧٧ ) ٤ ، وقد درس في المدرسة النظاميّة ببغداد ، واعتبر فقيه العراقيين في عصره ، وكان شافعي المذهب ، والدامغاني أبوعبد الله محمدبن علي ( ٣٩٨. ٤٧٨ ه‍ ) ٥ ، وكان أُستاذ المذهب الحنفي ، وقد عين بمنصب قاضي القضاة سنة ٤٤٧ ه‍ ، والبغدادي أبوالوفاء علي بن محمد بن عقيل الظفري المقرئ ( ٤٣١. ٥١٣ ه‍ ) ٦ ، وهو أحد شيوخ الحنابلة وكان فقيهاً وأُصولياً متكلماً وواعظاً.

ومثل هذا الخليط من العلماء والفقهاء والمتكلمين والمنتمين إلى مذاهب شتى يعكس لنا بوضوح طبيعة الأجواء العلمية السائدة في العصر البويهي ، ويؤكد وجود الحرية الفكرية والانفتاح العلمي على كل المذاهب ، دون أن يختص الاهتمام البويهي بطائفة من الناس على حساب غيرهم ، حيث كان الإمامي والشافعي والحنفي والحنبلي والأشعري والمعتزلي كلهم يلقون الرعاية والعون والحماية ، ومما يؤكد هذا أن عضد الدولة نفسه كان يكرم العلماء أَوْفَى إكرامٍ ، وينعم عليهم أهنأَ إنعامٍ ويُقربهم من حضرته ، ويُدنيهم من خدمته ،

__________________

١. السبكي ، طبقات الشافعيه ج ٥ ، ص ١٦٥ ، ابن خلكان ، وفيات الاعيان ، ج ٢ ، ص ٣٤١.

٢. ابن خلكان ، وفيات الاعيان ، ج ٣ ، ص ٤٠٠.

٣. نفس المصدر ، ج ٣ ، ص ٤٠١.

٤. الطاهر ، الشعر العربي ، ج ١ ، ص ٦٦ ، ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، ج ٢ ، ص ٣٨٥.

٥. الطاهر ، الشعر العربي ، ج ١ ، ص ٦٦.

٦. البغدادي ، الذيل على طبقات الحنابلة ، ج ١ ، ص ١٤٢.

٦٠