ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

وتحقيق المقام : أنّ الجهة المقتضية لضمان البائع لما اغترمه المشتري إن كانت تدليسه استناداً إلى أخبار التدليس فالمتّجه عدم ضمان مع الجهل لعدم صدق التدليس بمعنى إخفاء العيب معه ، وكذلك إن كانت تغريمه لعدم صدق غرّه بمعنى خدعه معه ، وإن كانت تسبيبه لتضرّر المشتري فالمتّجه ضمانه لقاعدة نفي الضرر الّتي لا فرق فيها بين صورتي العلم والجهل ولا يعتبر فيه قصد الإضرار ، ولذا يضمن حافر بئر في الطريق بوقوع أعمى فيها وإن لم يكن بحفره قاصداً له ، ويؤيّده بل يدلّ عليه إطلاق قوله عليه‌السلام في خبر جميل : «ويرجع بقيمة الولد الّتي اخذ منه».

الثاني : لو تبرّع متبرّع بأداء ما ضمنه المشتري للمالك من الاجرة والقيمة وسائر ما في عهدته للمالك ، فالوجه سقوط ضمان البائع له وعدم استحقاقه للرجوع عليه بما دفع عنه المتبرّع ، لعدم وقوع ضرر مالي عليه ولم يؤخذ منه شي‌ء.

وتوهّم : أنّه مغرور من البائع في تصرّفاته وإتلافاتها فيرجع عليه بقاعدة «أنّ المغرور يرجع على من غرّه» مدفوع بأنّ المغرور يستحقّ الرجوع على الغارّ بما اخذ منه ، ومفروض المقام أنّه لم يؤخذ منه شي‌ء ، فمجرّد صدق كونه مغروراً غير مفيد.

وأولى منه بعدم استحقاقه الرجوع على البائع لو أبرأه المالك عمّا ضمنه له بإتلافاته وغيرها. وأمّا لو احتسبه عليه خمساً أو زكاة إذا كان من أهل استحقاقهما ففي رجوعه على البائع وعدمه احتمالان ، أوّلهما لا يخلو عن قوّة لأنّ الاحتساب بمنزلة أخذ المال منه فكأنّه دفع إليه الخمس أو الزكاة ثمّ اخذ منه في ما ضمنه فيكون ضرراً ، وأولى منه بالرجوع ما لو دفع إليه المالك ما يساوي ما في ذمّته خمساً أو زكاة ثمّ استردّه عمّا في ذمّته ، ونحو ما لو دفعه صدقة مستحبّة ثمّ استردّه عمّا في ذمّته.

الثالث : لو تلف عين المبيع في يد المشتري وكان قيمته يوم العقد ما يوازي الثمن المدفوع إلى البائع فرجع المالك عليه بقيمته فهو يستحقّ الرجوع على البائع بثمنه ، ولا يستحقّ الرجوع بالقيمة المأخوذة منه زائدة على الثمن لأنّها بمنزلة المبيع ، ولا يجوز الجمع بين العوض والمعوّض.

ولو أنّه رجع بعين المبيع المبتاعة بعشرة وقيمته يوم العقد عشرون فالمشتري لا يستحقّ من البائع ما زاد على العشرة الّتي دفعها إليه ثمناً من العشرة الاخرى لأنّه

٨٨١

لم يؤخذ منه تلك الزيادة ، والمالك إنّما أخذ منه عين ماله. ولو كان العين المبتاعة ما يساوي قيمته عشرين وقد باعها البائع بعشرة فتلفت في يد المشتري وغرمه المالك بعشرين فلا إشكال في أنّه يرجع على البائع بعشرة ثمنه ، وهل يرجع بالعشرة الزائدة أيضاً لأنّه ممّا اغترمه للمالك أو لا؟.

فقد يقال : بعدم الرجوع لأنّه إنّما أقدم على ضمان العين وأن يكون تلفه منه ، كما هو شأن فاسد كلّ عقد يضمن بصحيحه ، ومع الإقدام لا غرور ولذا لم نقل به في العشرة المقابلة للثمن.

وفيه : أنّه فرق واضح بين المقبوض بالعقد الفاسد وما نحن فيه ، إذ لا غرور في الأوّل أصلاً فيكون إقدامه على ضمان العين مؤثّراً في ضمانه للقيمة الواقعيّة وهي عشرون ، فلا يأخذ العشرة المدفوعة إلى البائع ثمناً ، ويردّ إليه العشرة الاخرى الزائدة على الثمن ، بخلاف ما نحن فيه فإنّه وإن كان أقدم على أن يكون العين في ضمانه فيضمن مع التلف قيمته الواقعيّة وهي عشرون ، غير أنّ إقدامه بالنسبة إلى العشرة الزائدة مسبّب عن غروره من البائع فيرجع بها أيضاً على من غرّه ، مضافاً إلى أنّ اغترامه لها ضرر عليه مسبّب عن البائع أيضاً فيضمنها له من جهة تسبيبه.

ولو فرض أنّ المالك أخذ من المشتري عشرين قيمة المبيع التالف في يده من غير أن يكون دافعاً للثمن إلى البائع حين قبض المبيع فإنّه حينئذٍ لا يرجع عليه بعشرة الثمن ، وإلّا لزم أن يكون تلفه من مال البائع من دون أن يغرمه في ذلك ، لأنّه لو فرض صدق البائع في دعوى الملكيّة لم يزل غرامته للبائع للثمن بإزاء المبيع التالف فهذه الغرامة للثمن لم ينشأ عن كذب البائع ، وأمّا العشرة الزائدة فإنّما جاء غرامتها من كذب البائع في دعواه فحصل الغرور فوجب الرجوع ، هذا إذا كانت زيادة القيمة موجودة حال العقد ، ولو تجدّدت بعده فالحكم بالرجوع فيها أولى منه في الزيادة الموجودة حال العقد.

وحكم ما يغرمه بإزاء الأجزاء في التلف حكم المجموع فيرجع في الزائد على ما يقابل ذلك الجزء من الثمن لا فيما يقابله ، وفي حكم الأجزاء أوصاف العين الّتي يتفاوت بها القيمة إذا زالت عند المشتري فرجع المالك عليه بالتفاوت ، كما لو كان عبداً كاتباً أو صانعاً فنسي الكتابة أو الصنعة فيرجع المشتري أيضاً على البائع بما اغترمه

٨٨٢

بإزاء الأوصاف ، وكذلك لو كان دابّة سمينة فهزلت عند المشتري فيرجع على البائع بما اغترمه للمالك من تفاوت القيمة ، لأنّ كلّ هذه غرامات وقعت عليه من تغريم البائع وتسبيبه ، هذا كلّه فيما اغترمه للمالك.

وكذلك الحكم فيما اغترمه للعين من النفقات والاجرات والمؤن لحفظه أو تربيته أو إصلاحه وعمارته أو رفع مفاسده وعلله ، كنفقة الدابّة واجرة خادمها ونفقة المملوك ومئونة مرضه أو تربيته ، ومئونة إصلاح الدار والعقار وعمارتها ورفع مفاسدها ، واجرة تعليم المملوك والمملوكة لواجباتهما وتعليمها القرآن والكتابة ورسوم الخدمة وآدابها ، ومؤن ختان العبد وما أشبه ذلك. وضابطه كلّما يترتّب على ملك العين من صرف المال مع المشروعيّة فيرجع في الجميع على البائع للغرور وتسبيبه الضرر. بخلاف ما لم يكن مشروعاً كما لو غذّى المملوك والمملوكة لحم الخنزير أو الميتة أو شربه الخمر أو سائر المسكرات ، أو بذل اجرة لتعليمه التغنّي أو الرقص وما أشبه ذلك فلا يرجع فيها من جهة انتفاء الغرور لسبق منع الشارع عنها.

ويرجع أيضاً بما اغترمه في جناية العبد الجاني من الأرش كائناً ما كان وبالغاً ما بلغ ، وإن زاد على قيمة رقبته كما هو أحد القولين (١) في المسألة ، أو أقلّ الأمرين من الأرش ، أو قيمة رقبته على القول الآخر.

وربّما الحق به دية جناية الدابّة كما عن شرح (٢) القواعد للشيخ النجفي ، فحكم فيها أيضاً بالرجوع.

وردّ بأنّ جناية الدابّة إن لم تكن ناشئة عن تقصيره في الحفظ أو كانت ناشئة عن جهله بأنّ من شأنها الإفساد فهو حينئذٍ غير ضامن لدية الجناية ، فلو اخذ منه الدية والحال هذه فقد اخذت والمظلوم يرجع على ظالمه ، وإن كانت ناشئة عن تقصيره في الحفظ يضمن الدية لتقصيره ، ولا مدخليّة فيه لغروره فلا رجوع على التقديرين.

ولو بذل في نفقة العبد وكسوته ونفقة الدابّة وغيرها ما زاد على زيه وشأنه ، ففي رجوعه بالقدر الزائد إشكال ، ولا يبعد الرجوع لصدق الغرور.

__________________

(١) كما في الخلاف ٣ : ١١٨ مسألة ١٩٨.

(٢) شرح القواعد ٢ : ٢٣٨.

٨٨٣

ولو خرج منه في حفظه أو تربيته أعمال لها اجرة في العرف والعادة ففي رجوعه بأُجرة تلك الأعمال وجه قويّ ، لاحترام عمل المسلم وقد خرج منه لغروره من البائع.

ثمّ بقي في المقام فائدتان مهمّتان :

الفائدة الاولى : في أنّ المالك إذا لم يجز بيع الغاصب أو العقد الفضولي كان له الرجوع بماله على كلّ من البائع والمشتري ، لتعلّق الضمان بكلّ منهما على طريقة ضمان الأيادي المترتّبة على مال واحد. فإن كانت عين المال موجودة في يد المشتري ورجع عليه المالك وأخذ منه ماله سقط به ضمان البائع ، وإن رجع على البائع وجب عليه تخليصه عن المشتري ، وإن توقّف على بذل مال وبذل له ما بذل ثمّ ردّه إلى المالك. وإن كانت تالفة في يد المشتري يضمن كلّ منهما بدله مثلاً أو قيمة ، وللمالك الرجوع على كلّ منهما على البدل ، فإن رجع إلى المشتري وأخذ البدل منه سقط ضمانه عن البائع ، وإن رجع على البائع وأخذ البدل منه رجع البائع أيضاً على المشتري وأخذ ما اغترمه للمالك من بدل العين منه لفرض اشتغال ذمّته به ، فأداء البدل من اللاحق يوجب سقوطه من السابق ومن السابق لا يوجب سقوطه من اللاحق. وضمان الأيادي المتعاقبة كلّ واحد للعين وبدله إجماعيّ ، ومدركه عموم «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه».

وهاهنا إشكال مشهور ، وهو أنّ المال المضمون عيناً وبدلاً شي‌ء واحد فكيف يعقل استقراره في ذمم متعدّدة ، مع أنّ الموصول في قوله : «على اليد ما أخذت» كناية عن المال وهو شي‌ء واحد ، فكيف يكون على كلّ واحد من الأيادي المتعدّدة ، ولقد حقّق في فنون المعقول أنّ الشخص الواحد بوحدته الشخصيّة الّذي هو جزئي حقيقي ممّا يمتنع أن يتعدّد بتعدّد محالّه.

والتحقيق في دفع الإشكال منع استلزام ضمان كلّ واحد من الأيادي المتعاقبة لاستقرار مال واحد في ذمم متعدّدة وتعدّد شخص واحد على حسب تعدّد محالّه ، فإنّ ضمان كلّ واحد معناه كون كلّ واحد مخاطباً بردّ المال أو بدله مع التلف إلى مالكه ، وأيّاً ما كان فالمردود واحد والخطاب بالردّ متعدّد. والأصل فيه أنّ ضمان اليد واحدة أو متعدّدة مستفاد من خبر «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» وطريق الاستفادة ما شرحناه

٨٨٤

مبسوطاً في مسألة ضمان المقبوض بالعقد الفاسد.

وملخّصه : أنّ الاستعلاء المستفاد من كلمة «على» هنا استعلاء معنويّ ، وهو ما يلزم من الاستعلاء الحسّي المفسّر تارةً بالاستعلاء الركوبي ، واخرى بالاستعلاء الحملي ، ولكلّ منهما لوازم كثيرة أوفقها بالمقام هو الثقل على معنى كون ثقل الراكب على مركوبه وثقل المحمول على حامله ، فمعنى كون المال المأخوذ على اليد الآخذة له كون ثقله عليه باعتبار كونه مخاطباً بردّه وأدائه ، وهذا الثقل المسبّب عن الخطاب بالردّ والأداء يتعدّد عند تعدّد الأيادي ، وهو لا يستلزم تعدّد أصل المال عيناً ولا بدلاً ، فما يستقرّ في الذمم المتعدّدة إنّما هو الردّ والأداء لا نفس المال عيناً أو بدلاً.

وإن شئت [قلت] : إنّ التعدّد في إضافات المال الواحد باعتبار كون ثقله على كلّ واحد من الأيادي ، ومن المعلوم أنّ تعدّد إضافات الشي‌ء الواحد الشخصي لا يوجب تعدّد المضاف ، بل هو مع تعدّد الإضافات باقٍ على وحدته الشخصيّة كالصوفيّة والمغزوليّة والمنسوجيّة والملبوسيّة والعبائيّة المعتورة على صوف شخصي متّخذ عباءً ، فللمالك أن يرجع إلى كلّ واحد على البدل ويطالب منه عين ماله على تقدير البقاء وبدله على تقدير التلف ، فإن كان عين المال في تقدير البقاء في يد المرجوع إليه يردّه ، وإن كان في يد غيره يستردّه ويخلّصه ويردّه. وفي تقدير التلف يردّ المرجوع إليه بدله ، فإن كان المال قد تلف في يده فلا رجوع له إلى غيره من الأيادي السابقة ، وإن كان قد تلف في يد غيره فله أن يرجع إلى من تلف في يده ويأخذ منه ما اغترمه من البدل بالشرط الآتي.

وما ذكرناه في دفع الإشكال أسدّ وأجود ممّا في زبر غير واحد من الأصحاب المتعرّضين لبيان الإشكال ودفعه ، مثل ما في العناوين من قوله : «والّذي ينبغي أن يقال هنا : إنّ الحكم بظاهر دليل اليد ضمان كلّ واحد منهم ولا ينافيه كون الأداء غاية لأنّا نبيّن بعد ذلك في معنى الأداء أنّه أعمّ من المباشرة ، وأنّ المراد منه الوصول إلى صاحب الحقّ بأيّ نحو كان حتّى الإبراء.

فنقول : إذا أدّى أحدهم فقد أدّى عن الباقين لأنّه حقّ واحد ، فإذا أدّى سقط الضمان كما لو تبرّع الأجنبيّ ، فيصير ذلك من باب الواجب التخييري في التكاليف على

٨٨٥

ما يراه الإماميّة من وجوب الكلّ والسقوط بفعل أحدها ولا مانع من ذلك عقلاً. فلا يتوهّم : أنّ الواجب التخييري طلب يمكن تعلّقه بامور متعدّدة يسقط بفعل أحدها بخلاف المقام ، فإنّ الحقّ الواحد لا يعقل تعلّقه بالذمم المتعدّدة وليس ذلك على سبيل التبعيض والتجزية حتّى يمكن ، لأنّا نقول لا بأس بأن نلتزم بتعدّد الحقّ في الذمم بظاهر دليل اليد ، فإنّ كلاً منهم مشغول الذمّة على المالك بالحقّ ، فإذا أدّى أحدهم جعل الله ذلك مسقطاً عن الباقين» (١) انتهى.

ولا يخفى ما فيه :

أمّا أوّلاً : فلأنّه جعل ضمان الأيادي المتعاقبة نظير الواجب التخييري مع أنّه أشبه شي‌ء بالواجب الكفائي ، لأنّ التعدّد في المكلّف وهو الضامن مع وحدة المال لا في المكلّف به مع وحدة المكلّف.

وأمّا ثانياً : فلأنّ ما نسبه إلى الإماميّة من تفسير الواجب التخييري بوجوب الكلّ والسقوط بفعل أحدها سهو ، بل هو قول ضعيف نسب إلى بعض المعتزلة القائل بوجوب الجميع والسقوط بفعل البعض ، وأمّا الإماميّة فقالوا : إنّ الواجب التخييري كلّ واحد على البدل فلا يجب الجميع ولا يجوز الإخلال بالجميع وأيّها أتى به فهو نفس الواجب لا بدله.

وأمّا ثالثاً : فلأنّ ما التزمه في المقام من تعدّد الحقّ في الذمم استناداً إلى ظاهر دليل اليد بالنسبة إلى عين المال غير معقول لوحدته الشخصيّة ، وبالنسبة إلى بدله مع تلف العين غير صحيح ، لأنّ المالك كما أنّه في صورة بقاء العين لا يستحقّ إلّا مالاً واحداً فكذلك في صورة التلف لا يستحقّ إلّا بدلاً واحداً لا أبدالاً متعدّدة.

لا يقال : إنّ البدل مثلاً أو قيمة على تقدير التلف كلّي ومن حكم الكلّي أن يتعدّد أفراده فلِمَ لا يجوز أن يتعلّق كلّ فرد منها بذمّة ، لأنّه وإن كان كلّيّاً ولكنّه بالنسبة إلى أفراده المتمايزة بالمشخّصات الخارجيّة لا بالنسبة إلى الأفراد المتمايزة بتمايز الذمم. ودعوى ظهور دليل اليد في الثاني ممنوعة.

__________________

(١) العناوين الفقهيّة ٢ : ٤٤٤.

٨٨٦

ومثل ما عن فخر الدين (١) والشهيد (٢) أنّهما حكيا عن العلّامة أنّه ذكر في درسه من أنّه لا مانع من ضمان الاثنين على وجه الاستقلال ، قال : «ونظيره في العبادات الواجب الكفائي وفي الأموال الغاصب من الغاصب.

وهذا غير مفهوم المراد ، إذ لو أراد من ضمان الاثنين على وجه الاستقلال ضمان كلّ على وجه يتعدّد المال المضمون فهو محلّ الإشكال. وتنظيره بالغاصب من الغاصب غير صحيح ، لأنّه من أفراد المسألة. وتوهّم : إرجاعه إلى ما عليه العامّة من باب الضمان من جعله ضمّ ذمّة إلى ذمّة اخرى فاسد ، لأنّه خلاف ما أجمع عليه الأصحاب من جعله عبارة عن نقل المال عن ذمّة إلى ذمّة اخرى لإجماعهم على بطلان الأوّل ، تعليلاً بأنّ المال الواحد لا يتعدّد على حسب تعدّد الذمم.

وإن أراد منه ضمانهما على وجه يتعدّد الخطاب بالردّ وإن لم يتعدّد معه المال ، فهو في نفسه وإن كان صحيحاً وتنظيره بالواجب الكفائي وإن كان لا ضير فيه غير أنّه مجمل لم يتعرّض فيه لبيان كيفيّة كلّ واحد على وجه الاستقلال بحيث لا يتعدّد معه المال.

ومن مشايخنا من قال : «معنى كون العين المأخوذة على اليد كون عهدتها ودركها بعد التلف عليه ، فإذا فرض أيدي متعدّدة تكون العين الواحدة في عهدة كلّ من الأيادي ، لكن ثبوت الشي‌ء الواحد في العهدات المتعدّدة معناه لزوم خروج كلّ منها عن العهدة عند تلفه ، وحيث إنّ الواجب هو تدارك التالف الّذي يحصل ببذل واحد لا أزيد ، كان معناه تسلّط المالك على مطالبة كلّ منهم الخروج عن العهدة عند تلفه ، فهو يملك ما في ذمّة كلّ منهم على البدل ، بمعنى أنّه إذا استوفي في أحدها سقط الباقي لخروج الباقي عن كونه تداركاً لأنّ المتدارك لا يتدارك ... إلى أن قال : ويتحقّق ممّا ذكرنا أنّ المالك إنّما يملك البدل على سبيل البدليّة إذ يستحيل اتّصاف شي‌ء منها بالبدليّة بعد صيرورة أحدها بدلاً عن التالف واصلاً إلى المالك» (٣) انتهى.

ولا بأس بشرح بعض فقرات كلامه قدس‌سره ليتّضح به مرامه ثمّ اتباعه بما يتوجّه إليه ، فنقول : إنّ الظاهر في عطف «دركها» على «عهدتها» عدم كونه عطف تفسير كما يوهمه

__________________

(١) الإيضاح ٢ : ٨٩.

(٢) لم نعثر عليه في كتبه.

(٣) المكاسب ٣ : ٥٠٥ ـ ٥٠٧.

٨٨٧

ابتداء النظر ، وتوضيحه : أنّ العهدة والعهد والذمّة بحسب أصل اللغة على ما ستفاد من كلام أئمّة اللغة بمعنى ، والأصل في معنى الذمّة المرادفة للعهدة ما عن أبي عبيدة من قوله : الذمّة التذمّم ممّن لا عهد له ، وهو أن يلزم الإنسان نفسه ذماماً أي حقّاً يوجّه عليه. وفي التفسير من المسامحة ما لا يخفى ، إذ قضيّة جعل الذمّة بمعنى التذمّم أن يفسّر التذمّم بالالتزام وهو الحقّ الّذي لا محيص عنه. فالذمّة بحسب أصل اللغة كلّ التزام للإنسان بحقّ على نفسه سواء كان بسبب اختياري من قبله كالنذر والعهد واليمين والشرط في ضمن العقد اللازم والإتلاف والتسبيب للتلف والإضرار والغصب والجناية وما أشبه ذلك ، أو بسبب قهري من الخالق ـ كالخمس والزكاة واستطاعة الحجّ والنفقة فيمن يجب عليه إنفاقه وما أشبه ذلك ـ أو من المخلوق كالغرور من الغاصب وغيره الموجب لوقوعه قهراً في ضمان مال الغير ونحوه ، فالعهدة المرادفة له حينئذٍ بمعنى التعهّد وهو الالتزام بالحقّ أيضاً على الوجه المذكور. فمعنى كون المال الفلاني في ذمّة فلان أو في عهدته كونه في التزامه بحيث يجب عليه الخروج عن الالتزام بأدائه عيناً أو بدلاً على تقدير التلف.

ثمّ الذمّة بالخصوص في عرف أهل الشرع بدليل قوله «اشتغال الذمّة ، أو مشغول الذمّة ، أو ذمّة فلان مشغولة ، أو ذمّتي مشغولة» حيث يسند الاشتغال إلى الذمّة لا العهدة استعيرت عن الالتزام بالحقّ الّذي هو في حاصل المعنى عبارة عن جعل الحقّ لازماً للنفس أو للعنق إلى النفس أو إلى العنق ، فمعنى اشتغال ذمّة الإنسان بالحقّ اشتغال نفسه أو عنقه به باعتبار كونه لازماً له.

والأظهر هو الثاني كما يرشد إليه استعمالات أهل الفرس وغيرهم وتعبيراتهم حيث يعبّرون عن الذمّة بـ «گردن» وغيره من مرادفاته ممّا عدا اللغة العربيّة ، وإنّما استعيرت إلى العنق لكونه الجزء المقوّم للإنسان. وإنّما خصّصنا الاستعارة إليه بالذمّة ، لعدم إسناد الاشتغال في إطلاقات العرف إلى العهدة فلا يقال : اشتغال العهدة ولا عهدة فلان مشغولة ولا عهدتي مشغولة. وإنّما التزمنا الاستعارة ، لعدم صحّة إسناد الاشتغال إلى نفس الالتزام. ومن الذمّة بمعنى الالتزام بالحقّ اخذ الذمّة في أهل الذمّة في أهل الكتاب الملتزمين بالفدية وغيرها من الشرائط الموجبة لدخولهم في عنوان

٨٨٨

«الصاغرين». وعلى ما ذكرنا فالذمّة بمعنى التذمّم والعهد والعهدة بمعنى التعهّد والضمان كلّها عبارة عن الالتزام بالحقّ ، وإن كانت الذمّة تطلق أيضاً على العنق أو النفس.

وأمّا الدرك بالفتح فهو في أصل اللغة بمعنى التبعة ، ومنه قوله : «إذا لحقك درك فعليّ إصلاحه» والتبعة لغة لمعنيين ، أحدهما : ما فيه الإثم أو أصل الإثم ، وإطلاقها عليه في الأدعية كثير ، ومنه «لا تجعل لك عندي تبعة إلّا وهبتها». والآخر : المظلمة ، والظاهر أنّ المراد بالمظلمة حقوق الناس ترد على الإنسان باعتبار ظلمه لا مطلق الظلم. وهذا هو المناسب للمقام في إطلاقات العرف وأهل الشرع ، ولك أن تقول : بأنّه في لسان أهل الشرع استعيرت لكلّ غرامة ماليّة ترد على الإنسان ويتوجّه إليه بسبب من الأسباب الاختياريّة أو القهريّة ، ومنه ضمان الدرك في باب البيع ، وعلى هذا فالدرك بحسب المعنى يغاير العهدة فلا يكون عطفه للتفسير. وحينئذٍ فتخصيصه لكون العين المأخوذ على اليد الّذي هو عبارة عن ضمان اليد المستفاد من خبر «على اليد ما أخذت» بكون عهدتها بعد التلف عليه ، غير واضح الوجه ، لأنّ ضمان اليد إنّما يثبت في العين على تقدير البقاء والبدل على تقدير التلف معاً ، لا في البدل فقط على تقدير التلف ، فإنّ العين أيضاً في عهدة آخذها والتزامه حتّى تؤدّيها وتخرج عن عهدتها بردّها إلى المالك. نعم إذا تلفت يكون بدلها مثلاً أو قيمة في عهدتها والتزامها.

ثمّ الظاهر من قوله : «فإذا استوفي أحدها سقط الباقي لخروج الباقي عن كونه بدلاً أن يتعدّد بدل التالف في أوّل تعلّقه بالعهدات والذمم» وهذا أيضاً غير واضح الوجه ، بل التحقيق أنّ التعدّد في الالتزام لا في البدل الملتزم به ، بأنّ الشارع جعل لكلّ مال في الواقع بدلاً واحداً ، ومعنى كونه في العهدات المتعدّدة التزام كلّ من المتعدّدين بردّ ذلك البدل الواقعي الواحد إلى مالكه ، ولوحدته في الواقع جاء البدليّة في ملك المالك له في ذممهم ، فهو يرجع على وجه البدليّة على كلّ منهم أراد ويطالب منه البدل الواحد الواقعي ، فإذا أخذه منه سقط الالتزام والخطاب بالأداء من الباقين لبقائه بلا موضوع ، فالساقط عنهم هو الالتزام والخطاب بأداء بدل التالف لا نفس البدل لارتفاع موضوع الخطاب.

ثمّ اعلم : أنّ ضمان اليد في الأيادي المتعدّدة معناه أنّ كلّ واحد منهم بأخذه مال الغير واستيلائه عليه يضمن الأمر الدائر بين العين والبدل إلّا أنّه يضمن العين منجّزاً

٨٨٩

والبدل معلّقاً على تلف العين لأنّ المالك لا يملك البدل إلّا بعد تلف العين ، فلا يستحقّ مطالبة البدل ما دامت العين باقية يمكن الوصول إليها ، وإذا تلفت العين فله الرجوع إلى كلّ واحد منهم على البدل سواء كان من تلف المال في يده أو غيره ، فإن رجع إلى من تلف المال في يده وأخذ منه البدل فإن كان مغروراً من سابقه بأن كان جاهلاً بالغصبيّة رجع إليه بما اغترمه للمالك من البدل ، وإن لم يكن مغروراً من سابقه باعتبار علمه بالغصبيّة لم يرجع إليه بما اغترمه لاستقرار الضمان عليه ، وإن رجع على غير من تلف المال في يده وأخذ منه بدل التالف فإن كان غارّاً لمن تلف المال في يده لا يرجع إليه بما اغترمه من البدل ، إذ لا معنى لرجوعه إلى من لو رُجِعَ إليه لرَجَع إليه ، وإن لم يكن غارّاً له رجع عليه أو على غيره من الوسائط ، وإن لم يتلف في يده كما هو المصرّح به في كلامهم ، والظاهر أنّ هذا الحكم محلّ وفاق فلا كلام فيه.

وإنّما الكلام والإشكال في وجه استحقاقه للرجوع بما دفعه إلى المالك من بدل التالف على كلّ واحد من الأيادي اللاحقة على البدل ممّن تلف المال في يده ومن غيره من الوسائط ، فإنّه في معنى ضمان كلّ واحد من اللواحق للسابق الدافع لبدل التالف إلى مالكه بعد الرجوع عليه لا للمالك ، لخروجهم عن ضمانه بحصول أداء بذل ماله من الدافع ، وإن شئت قلت : إنّه من انقلاب ضمان كلّ منهم للمالك ببدل التالف إلى ضمان كلّ منهم للسابق الدافع للبدل بما دفعه لا ببدل التالف. ومحلّ الإشكال هو حدوث الضمان الثاني لا عدم بقاء الضمان فإنّه على القاعدة ، إذ لا معنى لبقاء ضمان بدل التالف للمالك بعد ارتفاع موضوعه ، بضابطة أنّ البدل المتدارك لا يتدارك ثانياً.

فقد يقال في وجه رجوعه ـ أي رجوع غير من تلف المال في يده إلى من تلف في يده على تقدير رجوع المالك إليه ـ إنّ ذمّة من تلف بيده مشغولة للمالك بالبدل ، وإن جاز له إلزام غيره باعتبار الغصب بأداء ما اشتغلت ذمّة من تلف بيده ، فيملك حينئذٍ من أدّى البدل بأدائه ما للمالك في ذمّة من تلف بيده بالمعاوضة الشرعيّة القهريّة ، وبناه على الفرق بين من تلف بيده وبين غيره في أنّ خطاب الأوّل بأداء البدل ذمّي وخطاب الثاني به شرعي إذ لا دليل على شغل ذمم متعدّدة بمال واحد ، وحينئذٍ يرجع عليه

٨٩٠

ولا يرجع هو. هكذا وجّهه شيخنا في الجواهر (١) في باب الغصب.

واعترض عليه شيخنا الآخر أوّلاً : بأنّه لا وجه للفرق بين من تلف المال بيده وبين غيره في الخطاب بجعله في الأوّل ذمّياً وفي الثاني شرعيّاً ، والمفروض أنّه لا خطاب فيهما إلّا خبر «على اليد ما أخذت» ودلالته على الضمان بالنسبة إليهما على نهج سواء.

وثانياً : بأنّه لا يكاد الفرق بين الخطاب الشرعي بالأداء والخطاب الذمّي.

وثالثاً : بأنّه لا يكاد يعرف خلاف من أحد في كون كلّ من ذوي الأيدي مشغول الذمّة بالمال فعلاً ما لم يسقط بأداء أحدهم أو إبراء المالك ، نظير الاشتغال بغيره من الديون في إجباره على الدفع أو الدفع عنه من ماله ، وتقديمه على الوصايا ، والضرب فيه مع الغرماء ، ومصالحة المالك عنه مع آخر إلى غير ذلك من أحكام ما في الذمّة.

ورابعاً : بأنّ تملّك غير من تلف المال بيده لما في ذمّة من تلف المال في يده بمجرّد دفع البدل لا يعلم له سبب اختياري ولا قهري ، بل المتّجه سقوط حقّ المالك عمّن تلف في يده بمجرّد أداء غيره ، لعدم تحقّق موضوع التدارك بعد تحقّق التدارك.

وخامساً : بأنّ اللازم ممّا ذكره أن لا يرجع الغارم فيمن لحقه في اليد العادية إلّا إلى من تلف في يده ، مع أنّ الظاهر خلافه فإنّه يجوز له أن يرجع إلى كلّ واحد ممّن بعده.

نعم لو كان غير من تلف بيده فهو يرجع إلى أحد لواحقه إلى أن يستقرّ على من تلف في يده (٢).

ووجّهه شيخنا المعترض بما ملخّصه مع تحرير منّا : بأنّ كلّ واحد من اللواحق يضمن لشخصين على البدل : أحدهما المالك فيضمن كلّ واحد له بدل التالف ، والآخر السابق على تقدير رجوع المالك عليه ، فيضمن كلّ واحد له ما دفعه إلى المالك ، فضمانهم للمالك تنجيزي فعلي وللسابق تعليقي لكونه معلّقاً على دفعه البدل إلى المالك ، ولذا لا يجوز له الدفع إليه قبل دفعه إلى المالك ، كما أنّ المضمون عنه لا يدفع إلى الضامن قبل دفع الضامن إلى المالك.

وإن شئت عين عبارته فلاحظ قوله : «إنّ الوجه في رجوعه هو أنّ السابق اشتغلت

__________________

(١) الجواهر ٣٧ : ٣٤.

(٢) المكاسب ٣ : ٥٠٩ ـ ٥١٠.

٨٩١

ذمّته له بالبدل قبل اللاحق ، فإذا حصل المال في يد اللاحق فقد ضمن شيئاً له بدل ، فهذا الضمان يرجع إلى ضمان واحد من البدل والمبدل على سبيل البدل ، إذ لا يعقل ضمان المبدل معيّناً من دون البدل ، وإلّا خرج بدله عن كونه بدلاً ، فما يدفعه الثاني فإنّما هو تدارك لما استقرّ تداركه في ذمّة الأوّل ، بخلاف ما يدفعه الأوّل فإنّه تدارك نفس العين معيّناً إذا لم يحدث له تدارك آخر بعد ، فإن أدّاه إلى المالك سقط تدارك الأوّل له ، ولا يجوز دفعه إلى الأوّل قبل دفع الأوّل إلى المالك ، لأنّه من باب الغرامة والتدارك فلا اشتغال للذمّة قبل فوات المتدارك ، وليس من قبيل العوض لما في ذمّة الأول.

فحال الأوّل مع الثاني كحال الضامن مع المضمون عنه في أنّه لا يستحقّ الدفع إليه إلّا بعد الأداء.

والحاصل : أنّ من تلف المال في يده [ضامن] لأحد الشخصين على البدل من المالك ومن سبقه في اليد ، فيشتغل ذمّته إمّا بتدارك العين ، وإمّا بتدارك ما تداركها ، وهذا اشتغال شخص واحد بشيئين لشخصين على البدل ، كما كان في الأيدي المتعاقبة اشتغال ذمّة أشخاص على البدل لشي‌ء واحد لشخص واحد» (١).

ويشكل : بأنّه قدس‌سره لم يأت في كلامه بدليل الضمان المذكور ، ولم يتعرّض لبيان أنّه من أيّ قسم من أقسام الضمان ، نظراً إلى أنّه ليس من ضمان الغصب بالمعنى الأعمّ الّذي يقال له ضمان اليد ، لأنّ اللاحق لم يغصب مالاً للسابق ، ولا من ضمان الإتلاف بالمباشرة لأنّه لم يتلف مالاً للسابق ، ولا من ضمان التسبيب للتلف لعدم تسبيبه لتلف مال للسابق ، ولا من ضمان التفريط ولا التعدّي كما في الأمانات لعدم مال في يده للسابق على سبيل الأمانة حتّى يتحقّق منه ترك ما وجب فعله فيه وهو التفريط أو فعل ما حرّم فعله فيه وهو التعدّي ، ولا من ضمان الغرور لعدم كون السابق مغروراً من اللاحق.

وبالجملة : لا كلام لنا في أنّ اللاحق يضمن لكلّ من المالك والسابق على تقدير الرجوع عليه ، فللمالك يضمن بدل التالف ، وللسابق المرجوع عليه يضمن ما دفعه إلى المالك. ولكنّ الكلام في أنّ ضمانه للسابق المرجوع عليه هل هو من توابع ضمان اليد ،

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٥٠٨ ـ ٥٠٩.

٨٩٢

أو أنّه ضمان مستقلّ أثبته دليل آخر غير دليل ضمان اليد؟ نظير ضمان السابق الغارّ لكلّ من المالك واللاحق المغرور على تقدير رجوع المالك ، فيضمن للمالك بدل التالف وللّاحق المغرور بما اغترمه للمالك ، وهذا ضمان أثبته قاعدة «أنّ المغرور يرجع على من غرّه» فهو ضامن للمالك بغصبه وللّاحق بتغريره.

فنقول : يمكن أن يقال بأنّه من توابع ضمان اليد المستفاد من خبر «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» بملاحظة الغاية الموجودة فيه ، فإنّ قوله : «على اليد» يدلّ على كون ثقل المال المأخوذ على آخذه ، والغاية تدلّ على استمرار ذلك الثقل إلى غاية الأداء عيناً أو بدلاً على تقدير التلف من الآخذ ، فما لم يؤدّ البدل على تقدير التلف إمّا إلى المالك لو رجع عليه أو إلى السابق المرجوع عليه ، وأيّاً ما كان فلا يخرج عن كونه أداءً للبدل ، غير أنّه في ظرف التحليل على الأوّل كان بدلاً للتالف ، وعلى الثاني بدلاً لبدل التالف ، فما لم يحصل الأداء منه بأحد الوجهين كان الثقل باعتبار خطابه بالأداء باقياً عليه. ولا ينتقض ذلك بأداء المتبرّع أو بإبراء المالك ، لكون كلّ منهما قائماً مقام أدائه مسقطاً لخطابه بالأداء ورافعاً للثقل المذكور عنه.

ويمكن أن يكون ضماناً مستقلّاً ثبت بقاعدة نفي الضرر ، فإنّ ضمان السابق للمالك على تقدير الرجوع عليه مع عدم استحقاقه للرجوع على اللاحق بما دفعه إلى المالك من بدل التالف حتّى على من تلف المال بيده ضرر عليه مسند إلى الله سبحانه حيث حكم بضمانه وعدم استحقاقه ، والضرر منفيّ بعموم قوله عليه‌السلام : «لا ضرر ولا ضرار» بناءً على أنّ مفاده نفي مجعوليّة الحكم الضرري الّذي يترتّب عليه ضرر المسلم ، ومعنى نفيه هنا نفي الحكم بعدم استحقاق السابق الدافع لبدل التالف إلى المالك للرجوع إلى اللاحق ، ونفيه إثبات لاستحقاقه وهو المطلوب.

ويمكن أن يستدلّ لهذا الضمان بالأدلّة النافية للظلم عن الله سبحانه من العقل والنقل ، فإنّ حكمه تعالى بضمان السابق المرجوع إليه للمالك ببدل التالف وعدم استحقاقه للرجوع على اللاحق خصوصاً من تلف المال بيده مع عدم كونه غارّاً ولا ضارّاً وعدم تحقّق في يده ظلم عليه ، والظلم قبيح عقلاً ومنفيّ نقلاً بقوله تعالى :

٨٩٣

«إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئاً (١) وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ» (٢) وما أشبه ذلك. وقضيّة قبحه عقلاً ونفيه نقلاً أن لا يحكم تعالى بعدم استحقاق السابق للرجوع على اللاحق بما دفع إلى المالك ، فيثبت به استحقاقه وهو يلازم ضمان اللاحق له بما دفعه. فهذه وجوه ثلاث لإثبات هذا الضمان ، أوجهها الأوّل ، ودونه الثاني ، ودونهما الثالث.

تذنيب : لو كانت العين في يد المشتري على تقدير عدم إجازة المالك تالفة يرجع المالك ببدلها مثلاً لو كانت من المثليّات أو قيمة لو كانت القيميّات ، وهذا هو الأصل الكلّي المجمع عليه في ضمان البدل ولا كلام فيه. وإنّما الكلام في تعيين القيمة في القيمي أهو قيمة يوم التلف ، أو قيمة يوم القبض الّذي هو في باب الفضولي أعمّ من الغصب باعتبار علم المشتري بالفضوليّة أو الغاصبيّة وجهله بهما ، أو أعلى القيم من قيمة يوم القبض إلى يوم التلف؟ ولقد سبق منّا الكلام في تحقيق هذا المقام مشروحاً في باب ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ، وذكرنا ثمّة أنّ الأصل في ضمان القيمة هو قيمة يوم التلف لأنّه يوم انتقال الضمان من العين إلى القيمة إلّا فيما أخرجه الدليل ، كما في العين المغصوبة المختلف في تعيين قيمتها المضمونة بين قيمة يوم الغصب وأعلى القيم من يوم الغصب إلى يوم التلف على قولين ، ومنشأ الاختلاف اختلاف النظر في فقه صحيحة أبي ولّاد المتقدّمة في الباب المذكور ، ونحن قد استظهرنا في موضعين منها الدلالة على اعتبار قيمة يوم الغصب. فمن هنا يعلم أنّ المتّجه فيما نحن فيه هو التفصيل بين ما لو كان المشتري في قبضه غاصباً باعتبار علمه بالفضوليّة أو الغاصبيّة فيضمن قيمة يوم القبض عملاً بالصحيحة ، وما لو لم يكن غاصباً باعتبار جهله بهما فيضمن قيمة يوم التلف عملاً بالأصل.

الفائدة الثانية : في أنّه لو باع الفضولي مال غيره مع مال نفسه ، فهل يصحّ فيهما ، أو يبطل فيهما ، أو يصحّ في ماله ويبطل في مال غيره؟ ولقد عبّر في الشرائع عن العنوان «بأنّه لو باع ما يملك وما لا يملك مضى بيعه فيما يملك ، وكان فيما لا يملك موقوفاً على الإجازة» (٣) وقضيّة كلامه هو الصحّة في الجميع على تقدير الإجازة. وهذا لازم

__________________

(١) يونس : ٤٤.

(٢) آل عمران : ١٨٢.

(٣) الشرائع ٢ : ١٥.

٨٩٤

كلّ من يقول بصحّة الفضولي مع الإجازة. وهو الحقّ الّذي لا محيص عنه بناءً على المختار.

فلا ينبغي التكلّم في عنوان هذه المسألة من حيث كون البائع بالنسبة إلى بعض المبيع فضوليّاً ، إذ لا يتفاوت في بحث الفضولي من حيث الصحّة مع الإجازة والبطلان رأساً بين كون العاقد فضوليّاً في الجميع أو في البعض ، وأدلّة القول بالصحّة مع أدلّة القول بالبطلان جاريتان في المقامين ، ولم يعهد قول بالتفصيل من أحد أيضاً. فالمقصود الأصلي في عنوان هذا المقام إنّما هو التكلّم في البيع المذكور بالنسبة إلى مال البائع على تقدير عدم إجازة مالك بعض المبيع في ماله ، وهو من جهات :

الجهة الاولى : في صحّته وفساده بالنسبة إلى البعض الّذي هو مال البائع ، فنقول :

المعروف من مذهب الأصحاب هو القول بالصحّة فيقسّط الثمن على المجموع ويأخذ البائع حصّته منه. وفي الرياض (١) وجواهر (٢) شيخنا نفي الخلاف في الصحّة ، مع استظهار الإجماع عليها في الثاني ، ويظهر دعواه من تذكرة (٣) العلّامة حيث نسب القول بالصحّة إلى علمائنا ، قبالاً للشافعي النافي للصحّة ، بل عن غنية (٤) ابن زهرة دعوى الإجماع عليه صريحاً ، وعن شرح القواعد (٥) للشيخ النجفي الاستدلال عليها بالإجماع محصّلاً ومنقولاً.

ولم نقف على قائل بالبطلان من أصحابنا ولا على من احتمله إلّا المحقّق الأردبيلي ، فاحتمل البطلان فيه على تقدير عدم إجازة المالك ، واحتمله (٦) أيضاً على القول ببطلان الفضولي رأساً ، واستند له إلى أنّ التراضي الّذي هو شرط لصحّة التجارة بحكم آية «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» (٧) إنّما حصل في المجموع وهو غير حاصل ، وما حصل من البعض لم يحصل فيه التراضي.

وقضيّة ذلك خروج البيع بالنسبة إلى مال البائع عن المستثنى ودخوله في المستثنى منه ، فيكون أخذ بعض الثمن بإزاء بعض المبيع أكلاً للمال بالباطل. ولأجل ذلك قد

__________________

(١) الرياض ٨ : ٢٢٩.

(٢) الجواهر ٢٢ : ٣٢٠.

(٣) التذكرة ١٠ : ٢١٨.

(٤) الغنية : ٢٠٩.

(٥) شرح القواعد ٢ : ١١٤.

(٦) مجمع البرهان ٨ : ١٦٢.

(٧) النساء : ٢٩.

٨٩٥

يقال : بأنّ الأصل في المقام هو البطلان ، مراداً به الأصل الاجتهادي المستفاد من الآية.

وقد يدّعى فيه الأصل الأوّلي العملي وهو أصالة عدم ترتّب الأثر وعدم النقل والانتقال وبقاء الملك السابق وعدم تجدّد ملك لاحق ، للاسترابة في عموم آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» من جهة الاسترابة في صدق العقد على هذا البيع بالنسبة إلى بعض المبيع ، بتقريب أنّ العقد عبارة عن الشدّ والربط بين المالين المبيع والثمن ، وإنّما حصل ذلك في المجموع في مقابل المجموع والمفروض عدم حصول المجموع ، وما حصل من البعض ليس ممّا شدّه وربطه المتعاقدان بجزء الثمن.

ويمكن الاسترابة في عموم «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» أيضاً ، لأنّ قصد إنشاء تمليك العين إنّما حصل بالنسبة إلى المجموع بإزاء المجموع ، وأمّا الجزء من المبيع فلم يقصد البائع إنشاء تمليكه بإزاء جزء من الثمن ، فيرجع في حكمه إلى أصالة الفساد.

وكيف كان فقد أجاب السيّد في [الرياض] عن احتمال البطلان «بأنّ البائع مأمور بالوفاء بالعقد في ماله ، وعدم إجازة المالك لا يرفع الأمر المستقرّ في الذمّة» وكأنّه رام بذلك التمسّك باستصحاب الحالة السابقة على ردّ المالك وهو وجوب الوفاء بالعقد على البائع في ماله الثابت قبل لحوق ردّ المالك في ماله ، فإنّ الاستصحاب مع الشكّ في قدح العارض كالاستصحاب مع الشكّ في عروض القادح في الحجّيّة.

وفيه ـ مع أنّه لا يتوجّه إليه إلّا على بعض تقارير الشبهة ، وهو الاستناد في احتمال البطلان إلى منع عموم آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» لا إلى انتفاء التراضي ـ أنّك إمّا أن تقول بكون صحّة البيع في مال البائع مرتبطة بصحّته في مال غيره قطعاً ، أو تقول بعدم كونها مرتبطة بها قطعاً ، أو تقول بأنّي أشكّ في الارتباط والعدم وهو يوجب الشكّ في بقاء الحالة السابقة وارتفاعها فنستصحب. ولا مجال للاستصحاب في شي‌ء من التقادير ، أمّا على التقدير الأوّل : فلأنّ عدم إجازة المالك البيع في ماله مع فرض الارتباط بعنوان كما يكشف عن انتفاء الصحّة في ماله فكذلك يكشف عن انتفائها في مال البائع قطعاً ومعه لا معنى للاستصحاب ، والأصل فيه أنّ ارتفاع أحد المنتسبين يستلزم ارتفاع المنتسب الآخر ، وهذا حكم عقلي قطعي وارد على الاستصحاب رافع لموضوعه.

٨٩٦

وأمّا على التقدير الثاني : فلأنّ المناسب لدفع الشبهة ممّن يدّعي القطع بعدم الارتباط إقامة الدليل على نفيه لا التمسّك بالاستصحاب ، فإذا ساعد دليل على صحّة البيع في مال البائع وعدم ارتباطها بصحّته في مال الغير فارتفع به موضوع الاستصحاب أيضاً.

وأمّا على التقدير الثالث : فلأنّ الشكّ في الارتباط يوجب الشكّ في وجوب الوفاء على البائع من أوّل الأمر وهو من الشكّ الساري ، ولا معنى للاستصحاب مع سريان الشكّ ، كما حقّقناه في الاصول.

فالحقّ أنّ القول بالصحّة ممّا لا مدفع له ، لنا عموماً جميع عمومات الصحّة ، وخصوصاً صحيحة صفّار.

أمّا الأوّل : فأوّلاً آية «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» ودعوى : أنّ التراضي إنّما حصل في مجموع المبيع بإزاء مجموع الثمن لا في الجزء بإزاء الجزء ، يدفعها : أنّ التراضي في الكلّ يتضمّن التراضي في كلّ جزء من أجزائه ، بل لا معنى لوجود الكلّ إلّا وجودات أجزائه ، ألا ترى أنّ صبغ الثوب المشتمل على أجزاء يتضمّن صبغ كلّ واحد من تلك الأجزاء ، ولا يعقل من أحد أن يقول : إنّ الصبغ في الكلّ بمعنى مجموع الأجزاء لا في كلّ جزء جزء.

لا يقال : إنّ التراضي بالنسبة إلى كلّ جزء إنّما حصل بشرط انضمامه إلى الجزء الآخر ، والشرط في مفروض المقام منتف ، وانتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط. لأنّا نقول : إنّ التراضي بالنسبة إلى مال البائع إنّما حصل في حال انضمامه إلى مال الغير لا بشرط انضمامه إليه ، فالانضمام لا مدخليّة له في التراضي ولا يوجب تقييد العقد به ، على أنّ المعتبر في الشروط المأخوذة في العقود الموجبة لتقييد العقد بمورد حصول الشرط هو ما صرّح به في متن العقد ، ولا يكفي الشرط المطويّ في ضمير المتعاقدين من دون ذكره صريحاً في العقد ، بل هو في نظر الشارع ملغى فيبقى التراضي على إطلاقه.

فإن قلت : لو لم يكن للانضمام مدخليّة في التراضي كيف يثبت خيار تبعّض الصفقة للمشتري في صورة الجهل؟.

قلت : ثبوت هذا الخيار ليس من جهة مدخليّة الانضمام في التراضي وإلّا كان مقتضاه بطلان العقد رأساً لا ثبوت الخيار الّذي هو فرع على صحّة العقد ، بل الخيار إنّما

٨٩٧

يثبت من جهة قاعدة نفي الضرر لئلّا يتضرّر المشتري بعدم حصول جزء المبيع ، إذ كثيراً ما يكون في الهيئة الاجتماعيّة غرض للمشتري فيتضرّر بعدم حصول غرضه.

وثانياً : آية وجوب الوفاء بالعقد ، فإنّ ربط مجموع المالين بالثمن المسمّى يتضمّن ربط كلّ منهما بما يقابله من الثمن ، بل هو بملاحظة أنّ الكلّ لا وجود له إلّا وجودات أجزائه عينه ، فالعقد صادق على ربط البائع ماله بما يقابله من الثمن فيشمله عموم الآية.

وتوهّم : لزوم تحقّق عقود متعدّدة على حسب تعدّد الأجزاء ، وهو باطل لشهادة الحسّ بأنّه ليس إلّا عقداً واحداً.

يدفعه : أنّ العقد إن اريد به مصطلح الفقهاء وهو الصيغة المخصوصة ولذا يقولون بأنّه مركّب من الإيجاب والقبول ، فالملازمة ممنوعة بالبداهة ، بل الّذي يلزم هو تأثير العقد بهذا المعنى في بعض الأجزاء بإزاء ما يقابله من الثمن وعدم تأثيره في البعض الآخر ولا ضير فيه. وإن اريد به المعنى اللغوي وهو الربط ـ كما بيّنّاه ـ فهو في تعدّده واتّحاده أمر اعتباري منوط باعتبار المعتبر ، فإن أخذ مقيساً إلى الكلّ بما هو كلّ يقال له ربط واحد ، وإن أخذ مقيساً إلى كلّ واحد من الأجزاء فهو ربطات متعدّدة ، فبطلان اللازم على هذا التقدير ممنوع لأنّ المحسوس عند الوجدان هو التعدّد.

وثالثاً : آية «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» فإنّ تمليك العين على وجه التعويض المتعلّق بالمالين بإزاء الثمن المسمّى متعلّق بكلّ منهما بإزاء ما يقابله من الثمن ، فالبائع ملّك عين ماله بما يقابله من الثمن ، فهو بيع حقيقة فيشمله العموم أيضاً.

وقد يستدلّ أيضاً على الصحّة بوجوه غير تامّة : مثل الخبر المرويّ من قوله عليه‌السلام : «الميسور لا يسقط بالمعسور» (١). وقوله عليه‌السلام أيضاً : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (٢). وأنّ الأسباب الشرعيّة كالأسباب العقليّة تؤثّر في القابل ولا تؤثّر في غير القابل ، وذلك كالنار مثلاً إذا أصابت شجراً أو حجراً فإنّها تحرق الشجر ولا تحرق الحجر ، وكذلك الأسباب الشرعيّة فيؤثّر العقد في مال البائع لأنّه قابل للتأثير ولا يؤثّر في مال غيره لعدم قبوله بعدم إجازته التأثير.

__________________

(١) عوالي اللآلئ ٤ : ٥٨.

(٢) عوالي اللآلئ ٤ : ٥٨.

٨٩٨

وفي الأوّل : أنّه مخصوص بموارد التكليف وهي العبادات وغيرها من الواجبات المركّبة إذا تعذّر بعض أجزائها لعذر عقلي أو شرعي فصار بهذا الاعتبار معسوراً وباقي الأجزاء الّتي لم يطرأها عذر عقلاً ولا شرعاً ميسور ، ومفاد الرواية حينئذٍ أنّ هذا الميسور لا يسقط بالمعسور ، على معنى أنّ التكليف لا يسقط عن الجزء الغير المتعذّر بسقوطه عن الجزء المتعذّر.

وهذا هو معنى الخبر الآخر أيضاً ، وحاصله : أنّ كلّ عبادة مركّبة إذا لم يدرك كلّ أجزائها لطروء عذر عقلي أو شرعي لا يترك كلّها حتّى أجزائها الّتي لم يطرأها عذر ، أي لا يجوز ترك أجزائها الباقية ويجب الإتيان بها.

ومحلّ البحث من موارد الوضع لأنّ الكلام في صحّة البيع في مال البائع بعد فساده في مال غيره بعدم إجازته ، والصحّة والفساد من الأحكام الوضعيّة فلا يتناوله الخبران. وإن اوّل بإرجاعه إلى موارد التكليف بالنظر إلى وجوب الوفاء بالعقد فيقال : إنّ وجوب الوفاء بالعقد في مال البائع الّذي هو ميسور لا يسقط بسقوطه في مال غيره الّذي صار معسوراً بعدم إجازته فيتناوله الخبران ، لورد عليه أنّ هذا متّجه لو كان الخطاب بالوفاء متوجّهاً إلى شخص واحد وهو البائع كما في موارد التكليف ومحلّ البحث ليس كذلك ، لأنّ وجوب الوفاء في بعض المبيع خطاب البائع وفي البعض الآخر خطاب غيره على تقدير إجازته ، ولمّا كان التقدير تقدير عدم الإجازة فلم يتوجّه إليه خطاب الوفاء بالعقد فلا ميسور ولا معسور بالنسبة إليه ولا بالنسبة إلى البائع. نعم يبقى الكلام في أنّه هل توجّه ذلك الخطاب إلى البائع في ماله أو لا؟ وهو أوّل المسألة فكيف يشمله الخبران!!.

ولو قيل : إنّ وحدة المخاطب في خطاب الوفاء بالعقد متحقّقة بالنسبة إلى المشتري ، فيصدق في حقّه أنّ تكليفه بالوفاء بالعقد بالنسبة إلى مال البائع لكونه ميسوراً لا يسقط عنه بسقوطه في مال غيره لصيرورته بعدم إجازته معسوراً.

لقلنا : إنّ وفاء المشتري بالعقد على تقدير صحّته بالنسبة إلى جزئي المبيع عبارة عن إقباضه الثمن وتسليمه إيّاه إلى مالكي المبيع ، ولم يتعذّر عليه شي‌ء بل هو متمكّن عن تسليم كلّ من حصّتي مالكي المبيع ، غير أنّه لمّا لم يجز مالك أحد جزئيه العقد في ماله ارتفع موضوع الوفاء بالنسبة إليه ، فسقط عن المشتري وجوب الوفاء بالنسبة إليه

٨٩٩

من جهة ارتفاع موضوعه وهو العقد ، لا من جهة صيرورة تسليم حصّته من الثمن معسوراً عليه فلا يشمله الخبران.

وفي الثالث : أنّه بين قياس ومصادرة ، إذ لو اريد بكاف التشبيه التفريع بمعنى إلحاق الفرع على الأصل بإجراء حكم الأسباب العقليّة في الأسباب الشرعيّة لجامع بينهما وهو السببيّة ، ففيه : أنّه قياس وليس من مذهبنا.

ولو اريد به التنظير على معنى أنّه كما أنّ الأسباب العقليّة تؤثّر في القابل ولا تؤثّر في غيره فكذلك الأسباب الشرعيّة ، ففيه : أنّه مصادرة ، إمّا لمنع كون مال البائع بعد عدم إجازة مالك غيره العقد قابلاً لتأثير العقد فيه فلا بدّ من إثبات القابليّة فيه بالدليل ، أو لأنّ مجرّد قابليّة المحلّ لتأثير العقد فيه لا يلازم فعليّة التأثير ، بل فعليّة التأثير تحتاج إلى إثبات بالدليل. فالوجوه الثلاثة لإثبات صحّة البيع في مال البائع كلّها ضعيفة.

وأضعف منها : ما عن الشافعي القائل بالفساد ، من الاستناد إلى أنّ اللفظة الواحدة لا يتأتّى تبعيضها ، فإمّا أن يغلب الصحيح على الفاسد أو بالعكس ، والثاني أولى ، لأنّ تصحيح العقد في الفاسد ممتنع وإبطاله في الصحيح غير ممتنع ، ولأنّه لو باع درهماً بدرهمين أو تزوّج بأُختين حكم بالفساد ، ولأنّ الثمن المسمّى يتوزّع عليهما ولا يدرى حصّة كلّ واحد منهما عند العقد ، فيكون الثمن مجهولاً وصار كما يقال : بعتك عبدي هذا بما يقابله من الألف إذا وزّعت عليه وعلى عبد فلان ، فإنّه لا يصحّ.

ويندفع الأوّل : بأنّ تصحيح العقد في الفاسد أي فيما فرض كونه فاسداً بالنسبة إليه وإن كان ممتنعاً ولكن إبطاله في الصحيح أي فيما فرض صحيحاً بالنسبة إليه ممّا لا موجب له. وتوهّم : لزوم تبعيض اللفظة الواحدة ، يندفع بأنّه ليس من تبعيض اللفظة الواحدة ، بل هو من تأثيرها في بعض المبيع لاحتوائه شرائط التأثير ، وعدم تأثيرها في البعض الآخر لعدم احتوائه بعض الشرائط وهو إجازة المالك ، ولا محال فيه.

ويندفع الثاني : بأنّ بيع درهم بدرهمين لكونه ربى فاسد ، فإمّا أن يحكم بفساده في أحدهما دون الآخر أو يحكم به فيهما ، والأوّل باطل للزوم الترجيح من غير مرجّح فتعيّن الثاني. والعقد في تزويج اختين لكونه جمعاً بين الاختين فاسد ، والحكم بالفساد في إحداهما ترجيح بلا مرجّح فتعيّن الحكم به فيهما معاً ، والحكم بصحّة العقد في مال

٩٠٠