ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

أن يراد به الإباحة المالكيّة كما هو الظاهر ، أو الإباحة الشرعيّة على معنى أنّ الشارع أباحه للبائع من جهة تسليط البائع له على إتلافه ، وأيّاً ما كان فهو ليس بمسلّم.

أمّا الأوّل : فلأنّ المشتري لا يقصد بدفعه إنشاء الإباحة للبائع خصوصاً مع توقّعه لحوق إجازة المالك ، بل إنّما قصد به كونه عوضاً عمّا يأخذه من البائع ولو كان عالماً بالغصبيّة بل بفساد البيع لأنّ علمه ذلك لا ينافي قصد العوضيّة ، ولا ريب أنّ قصد العوضيّة بدفعه لا يتضمّن قصد إنشاء الإباحة للبائع مجّاناً.

وأمّا الثاني : فلأنّ الإباحة الشرعيّة تحتاج إلى دليل ، والمفروض أنّ المستدلّ لم يأت بما يصلح دليلاً ، بل ادّعى كون دفعه تسليطاً وكون التسليط إباحة ، وهذا مع منع صغراه مصادرة بالمطلوب في كبراه ، لأنّ كون التسليط إباحة شرعيّة أوّل المسألة.

وفي مفتاح الكرامة تبعاً للشيخ النجفي في شرحه للقواعد توجيه عدم جواز الرجوع «بأنّ من الجائز أن يكون عدم جواز الرجوع للمشتري عقوبة له حيث دفع ماله معاوضاً به على محرّم ، فيكون الغاصب البائع مخاطباً بردّه ، فإن بذله أخذه المشتري وإن امتنع منه بقي للمشتري في ذمّته ، وإن لم يجز له مطالبته كما هو الشأن فيما لو حلف المنكر كاذباً على عدم استحقاق المال في ذمّته» (١).

وهذا كما ترى أضعف من سابقه ، لأنّ كون شي‌ء عقوبة شي‌ء يذكره الأصحاب في بعض المقامات نكتة لحكم شرعي بعد وقوعه وثبوته ودلالة الدليل عليه ، كما ذكروه في باب الحجّ في مسألة إفساد الحجّ فيمن أفاض عن العرفات قبل الغروب ولم يعد ، فقد ثبت فيه بالنصّ والإجماع أنّه يجب عليه إتمام ذلك الحجّ وإعادته أيضاً في العام المستقبل ، ووجّهه الأصحاب بأنّ أحدهما عقوبة إمّا الإتمام أو الإعادة في القابل والآخر مأمور به ، وعلى هذا فالعقوبة فرع على ثبوت عدم جواز الرجوع مطلقاً بالدليل والمفروض عدمه ، والجواز العقلي مع عدم ثبوت عدم الجواز الشرعي لا يصلح دليلاً عليه.

وقد يستدلّ بفتوى الشيخ في النهاية بتقريب : أنّه لا يفتي فيها إلّا بمتون الروايات من غير اختلاف أو مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ من غير تغيير للمعنى ، فتكون

__________________

(١) مفتاح الكرامة ١٢ : ٦١٨.

٨٦١

رواية مرسلة منجبرة هنا بموافقة القدماء ، كابن إدريس وابني زهرة وحمزة وظاهر السيّد.

وهذا أيضاً كسابقيه في الضعف ، لمنع كونها رواية مرسلة ، ومنع انجبارها على تقدير التسليم بما ذكر لمنع وضوح الموافقة ، بل لم نجدها في كتبهم لا في باب البيع ولا في باب الغصب.

وقد يحتمل الاستدلال بالإجماعات المنقولة في عبائر العلّامة في كتبه المتقدّمة وعبارة الإيضاح ، المعتضدة بالشهرات المحكيّة المتقدّمة.

وفيه ـ مع عدم صراحة العبائر المتقدّمة في دعوى الإجماع ـ أنّها موهونة بمخالفة مدّعيها في صورة بقاء العين ، إذ قد عرفت أنّ العلّامة في الكتب المتقدّمة وولده في الإيضاح مع نسبتهما القول بعدم جواز الرجوع إلى علمائنا أو إلى الأصحاب رجّحا جواز الرجوع مع بقاء العين ، وهذا منهما يكشف عن عدم الإجماع عندهما في تلك الصورة بحيث لم يجز مخالفته. وأمّا الشهرات المحكيّة ـ فمع أنّها محكيّة وليست محقّقة ـ فهي أيضاً تتوهّن بالعلم بفساد مدرك المشهور ، إذ قد عرفت أنّ مستنده كما ذكره الشهيد (١) وغيره (٢) ما تقدّم من تسليط المشتري الموجب لكون دفعه إباحة مجّانية أو بمنزلتها ، وقد ذكرنا وجه فساده ، ولا عبرة بالشهرة حيث علم فساد مدركها.

المسألة الثانية : المعروف عدم رجوع المشتري على البائع مع تلف ثمنه في يده ، ونقل عليه الإجماع في مفتاح الكرامة (٣) ونسب نقله إلى العلّامة في التذكرة (٤) وقد عرفت عبارة نقله ، وحكي عن جامع المقاصد (٥) ومستندهم ما تقدّم من أنّ سلّطه على ماله مجّاناً وبلا عوض.

لا يقال : إنّما دفعه إليه بعوض ، وهو المبيع الّذي أخذه منه فإذا لم يسلم له العوض رجع عليه بما دفعه ثمناً ، فإذا فرض تلفه في يده استحقّ عوضه مثلاً أو قيمة.

لأنّا نقول : إنّما دفعه إليه بعوض هو مال غيره لا بعوض من ماله ليكون ذمّته مشغولة بعوضه من ماله على تقدير التلف.

__________________

(١) الدروس ٣ : ١٩٣.

(٢) كما في جامع المقاصد ٤ : ٧١.

(٣) مفتاح الكرامة ١٢ : ٦١٩.

(٤) التذكرة ١٠ : ١٨.

(٥) جامع المقاصد ٤ : ٧١.

٨٦٢

لا يقال : بناء المعاملة في بيع الغاصب على ادّعاء مالكيّته للمبيع ، فعوض الثمن وإن كان مال الغير في الواقع إلّا أنّه مال ادّعائي للبائع ، فالمشتري سلّطه على ماله بعوض هو مال ادّعائي للبائع فيتسلّط عليه بعوض ثمنه من ماله.

لأنّا نقول : إنّ ادّعاء الماليّة لا يوجب ضمانه بعوض الثمن المفروض تلفه في يده إلّا إذا كان ادّعائه بحيث أمضاه الشارع ، والمفروض بحكم فساد العقد أنّ الشارع لم يمض ادّعاءه فلا يؤثّر في كون الثمن معوّضاً به من مال البائع ليكون ضامناً بعوضه في ذمّته.

فإن قلت : إنّ المقتضي لضمانه العوض عموم قوله عليه‌السلام : «على اليد ما أخذت» (١) فإنّه كما يقتضي وجوب ردّ عينه مع البقاء كذلك يقتضي وجوب أداء بدله مع التلف.

قلت : عموم الخبر مخصّص بفحوى ما دلّ على عدم الضمان في موارد الأمانة ، كمن استأمنه المالك بدفع ماله إليه لحفظه كما في الوديعة ، أو للانتفاع به كما في العارية ، أو لاستيفاء منافعه المملوكة له كما في الإجارة ، فإنّ الدفع على هذا الوجه ـ مع عدم كونه تسليطاً على الإتلاف ـ إذا لم يوجب الضمان فالدفع التسليطي على الإتلاف أولى بعدم كونه موجباً للضمان.

فإن قلت : إنّ البائع حال كون عين الثمن باقية إمّا أن يكون مخاطباً بردّه إلى المشتري أو لا ، والثاني باطل ، لقوله تعالى : «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» (٢) فإنّ الآية لظهور النهي في التحريم تدلّ على أنّ كلّ أكل للمال بالباطل محرّم ، وقد استثني منه أكل المال المستند إلى تجارة عن تراضٍ ، وأكل البائع للثمن على معنى تصرّفاته فيه حال بقائه لم يكن أكلاً له عن تجارة عن تراض ، لمكان بطلان بيعه فلا يصدق عليه التجارة عرفاً مع كون المبيع مال الغير ، فيكون خارجاً عن المستثنى فيدخل في المستثنى منه فيكون أكلاً للمال بالباطل فيكون محرّماً. وقضيّة كونه محرّماً كونه مخاطباً بردّه إلى المشتري ، وإذا كان مخاطباً بردّه مع بقائه كان مخاطباً بردّ عوضه مثلاً أو قيمة مع تلفه ، ولا نعني من ضمانه العوض إلّا هذا.

قلت : كونه مخاطباً بردّه حال بقاء عينه إنّما يستتبع ضمانه العوض بعد تلفه إذا

__________________

(١) عوالي اللآلئ ١ : ٢٨٩ / ٢٢.

(٢) النساء : ٢٩.

٨٦٣

ثبت وجوب ردّ عينه حال البقاء بخبر «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» الّذي هو دليل على الضمان ، والمفروض عدم دلالة الخبر عليه ، لأنّ المراد باليد فيه إمّا اليد العادية على معنى الاستيلاء العدواني على مال الغير ، أو اليد الغير المأذون فيها على معنى الاستيلاء الغير المأذون فيه على مال الغير ، ولذا لا يتناول الخبر يد الأمانة بجميع أقسامها ، واستيلاء البائع على الثمن حال بقائه لم يكن استيلاءً عدوانيّاً ولا استيلاءً غير مأذون فيه ، لأنّ المشتري إنّما دفعه إليه بطيب نفسه. فإذا لم يدلّ الخبر على وجوب ردّه حال بقائه فلم يدلّ على ضمانه العوض بعد تلفه ، ولا ينافيه جواز رجوع المشتري عليه حال البقاء لأنّه غير وجوب ردّه إليه حال البقاء على البائع قبل رجوع المشتري ، ولا ملازمة بينهما.

نعم : إذا رجع عليه مع البقاء صار مخاطباً بردّه ، فإذا امتنع عن ردّه يصير يده يد عادية أو غير مأذون فيها فيتناوله الخبر حينئذٍ ، فإذا اتّفق تلفه والحال هذه صار ضامناً لعوضه مثلاً أو قيمة ، ولكنّ المفروض أنّ المشتري لم يرجع عليه حال بقائه بل رجع بعد تلفه.

وأمّا ثبوت وجوب ردّ العين بالآية حال البقاء بالتقريب المتقدّم وإن كان مسلّماً إلّا أنّه لا يستتبع ضمان العوض بعد تلفه ، لأنّ الآية مسوقة لبيان حكم تكليفي وهو تحريم أكل المال بالباطل ، وأمّا ضمان العوض مع التلف فهي ساكتة عنه نفياً وإثباتاً ، فلا بدّ في إثباته من دليل آخر ، والآية غير وافية بإثباته.

فإن قلت : إنّ ضمان العوض يثبت بقاعدة الإقدام ، وهو إقدام البائع على أن يكون الثمن في ضمانه ، ولذا دفع المبيع إلى المشتري عوضاً ، وقد استدلّ الشيخ (١) بها على الضمان في فساد ما يضمن بصحيحه.

قلت : إنّ البائع إنّما أقدم على ضمان الثمن بمال لغيره مع علم المشتري بكونه لغيره ولم يقدم عليه بمال لنفسه ، والموجب لضمان العوض على تقدير التلف مع عدم سلامة العوض الأوّل إنّما هو الثاني لا الأوّل.

فإن قلت : إنّ الضمان يثبت بقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» كما استدلّ

__________________

(١) المبسوط ٣ : ٨٥ و ٨٩.

٨٦٤

الأصحاب (١) بها لضمان المقبوض بالعقد الفاسد ، والمفروض أنّ الثمن المدفوع إلى البائع بعد فساد البيع بعدم إجازة المالك مقبوض بالعقد الفاسد فيضمنه قابضه ، لأنّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، فإذا اتّفق تلفه في يد القابض ضمن عوضه.

قلت : ما نحن فيه ليس من موارد القاعدة ، لأنّ معنى «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» أنّ كلّما يضمنه العاقد بمال نفسه في صحيح العقد يضمنه بمال نفسه أيضاً في فاسده ، ولا ريب أنّ الغاصب البائع وكذلك العاقد الفضولي على تقدير صحّة العقد بإجازة المالك لا يضمن الثمن بمال لنفسه بل الضامن له على هذا الوجه إنّما هو المالك المجيز ، فإذا لم يكن ضامناً له بمال لنفسه على تقدير الصحّة لم يكن ضامناً له بمال لنفسه على تقدير الفساد.

فإن قلت : يثبت الضمان بقوله عليه‌السلام : «لا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفسه» (٢) بتقريب أنّ المشتري وإن دفع الثمن إلى البائع بطيب نفسه لكن لا على كلّ تقدير بل على تقدير سلامة المبيع وبقائه في يده ، فإذا لم يسلم وانتزعه المالك عنه فالمال المدفوع إلى البائع حينئذٍ لم يكن مدفوعاً إليه بطيب نفس مالكه فيكون في ضمانه عيناً وعوضاً على تقديري البقاء والتلف.

قلت : هذه الرواية واردة في مساق الآية المتقدّمة ، فيكون مسوقة لبيان حكم تكليفي ساكتة عن الحكم الوضعي وهو الضمان.

فإن قلت : يثبت الضمان بقاعدة نفي الضرر المستفادة من قوله عليه‌السلام : «لا ضرر ولا ضرار» (٣) فلو لم يضمن البائع عوض الثمن يتضرّر به المشتري ، وهو منفيّ بعموم الخبر.

قلت : الخبر إنّما ينفي مجعوليّة كلّ حكم يترتّب عليه ضرر المسلم ، بحيث يسند الضرر إلى الشارع حيث جعل ذلك الحكم ، والضرر هنا يسند إلى فعل المشتري نفسه حيث دفع ماله إلى من لا يستحقّه وسلّطه على إتلافه في مقابل مال علم بعدم صلاحيته لكونه عوضاً عن ماله ، مع أنّه لا جعل هنا وعدم الضمان أمر عدمي ليس قابلاً للجعل

__________________

(١) كما في جامع المقاصد ٤ : ٦١ ، و ٦ : ٣٢٤ ، والمسالك ٣ : ١٥٤.

(٢) عوالي اللآلئ ٢ : ١١٣ / ٣٠٩.

(٣) الوسائل ٢٥ : ٤٢٩ / ٥ ، ب ١٢ إحياء الموات ، الكافي ٥ : ٢٩٤ / ٨.

٨٦٥

وإنّما يتعلّق الجعل بالامور الوجوديّة ، فالضرر لا يترتّب على حكم مجعول حتّى ينفي الخبر مجعوليّته.

ولا يمكن التمسّك لإثبات ضمان العوض باستصحاب الحالة السابقة بدعوى أنّ المشتري حال وجود الثمن في يد البائع كان متسلّطاً على الرجوع به على البائع وبعد تلفه يشكّ في بقاء تلك السلطنة والأصل بقاؤها ، لأنّ الاستصحاب مع عدم بقاء موضوع المستصحب ممّا لا معنى [له] ، والحالة السابقة في زمان اليقين هي السلطنة على عين الثمن وهي غير باقية ، والسلطنة على العوض غير ثابتة في الزمان السابق حتّى تستصحب.

وحينئذٍ نقول : إنّه إن شكّ في أمر يرجع إلى المشتري وهو أنّه هل يتسلّط على مطالبة عوض الثمن مثلاً أو قيمة ويستحقّه على البائع؟ فالأصل عدمه ، وإن كان في أمر يرجع إلى البائع وهو أنّه هل يجب عليه ردّ عوض الثمن إلى المشتري؟ فالأصل براءة ذمّته عنه.

فتلخّص بجميع ما قرّرناه في المسألتين أنّ الأقوى في رجوع المشتري على البائع هو ما عليه العلّامة ومتابعوه من التفصيل بين بقاء عين الثمن فيستحقّ الرجوع عليه به وتلفه فلا يستحقّ.

نعم يستثنى عن الحكم الثاني صور أربع :

الاولى : ما لو باع الغاصب أو الفضولي لنفسه أو للمالك ، واشتراه المشتري بتوقّع إجازة المالك ، واتّفق أنّه لم يجزه ورجع على المشتري وانتزع عنه المبيع.

الثانية : ما لو قبض البائع الثمن بلا إقباض من المشتري اختياراً إمّا قهراً عليه أو بخفية أو بحيلة اخرى.

الثالثة : ما لو شرط المشتري على البائع رجوعه عليه بثمنه لو رجع المالك عليه بانتزاع المبيع.

الرابعة : ما لو شرط المشتري لنفسه خيار الفسخ.

فهو في جميع هذه يستحقّ الرجوع بثمنه مطلقاً لأنّه لم يدفعه إليه فيها مجّاناً ولم يسلّطه على إتلافه بلا عوض. ولا ينافي هذا الاستثناء إطلاق الجماعة الحكم بعدم الرجوع مع التلف ، لأنّ إطلاقهم منزّل على ما عدا الصور المذكورة ، بل بمقتضى دليلهم

٨٦٦

وهو التسليط المجّاني على الإتلاف منصرف إلى ما عداها ، فهم أيضاً موافقون على استثنائها وإن لم يصرّحوا به في كلامهم.

المقام الثاني : في رجوعه عليه بما اغترم للمالك ـ من عوض المنافع المستوفاة والغير المستوفاة ، وقيمة النماءات المنتفع بها من لبن أو صوف أو ثمرة ، والنماءات التالفة تحت يده ، وزيادة قيمة عين المالك على تقدير تلفها الموجب للرجوع بالقيمة ـ أو للعين من نفقة أو مئونة عمارة أو اجرة خدمة أو حراسة أو نحو ذلك ، وعدمه.

فنقول : إنّه إن كان عالماً بالغصبيّة فالمصرّح به في كلامهم قولاً واحداً أنّه لا يستحقّ الرجوع عليه بما اغترم مطلقاً وقد يدّعى عليه الإجماع بقسميه ، لعدم الدليل عليه ، فالأصل عدم استحقاقه له كما أنّ الأصل براءة ذمّة البائع عمّا اغترمه. وليس لأحد أن يتوهّم قضاء قاعدة نفي الضرر باستحقاقه ، لأنّه بنفسه أقدم على ضرره وأدخله على نفسه حيث عرّض نفسه للغرامات مع علمه بالغصبيّة.

وإن كان جاهلاً ففيه من حيث عدم حصول نفع في مقابل ما اغترمه ـ كنفقة الدابّة ومئونة العمارة وزيادة القيمة ـ وحصول نفع في مقابله كعوض المنافع المستوفاة ونحوها مرحلتان :

المرحلة الاولى : فيما لم يحصل له في مقابله نفع ، والمعروف بين الأصحاب من غير خلاف يظهر أنّه يرجع على البائع بهذا النوع ممّا اغترمه ، وعن غصب الكفاية (١) والرياض (٢) نسبته إلى الأصحاب ، وفي مفتاح الكرامة (٣) كما عن شرح الإرشاد (٤) لفخر الإسلام دعوى الإجماع عليه ، وعن السرائر (٥) يرجع قولاً واحداً ، وعن المحقّق (٦) والشهيد (٧) الثانيين في كتاب الضمان نفي الإشكال عن ضمان البائع لدرك ما يحدثه المشتري إذا قلعه المالك.

وهو الحقّ الّذي لا محيص عنه ، لقاعدة الغرر فإنّ البائع لبيعه مال الغير من غير إعلام المشتري غيره أوقعه في هذه الغرامات والمغرور يرجع على من غرّ ، مضافاً إلى

__________________

(١) الكفاية : ٢٦٠.

(٢) الرياض ١٤ : ٤٦.

(٣) مفتاح الكرامة ١٢ : ٦٣١.

(٤) شرح الإرشاد للنيلي : ٤٧.

(٥) السرائر ٢ : ٤٩٣.

(٦) جامع المقاصد ٥ : ٣٤٠.

(٧) المسالك ٤ : ٢٠٥.

٨٦٧

قاعدة نفي الضرر السليمة عن مزاحمة الإقدام ، وإلى رواية جميل بن درّاج في خصوص قيمة ولد الجارية المنعقد حرّاً عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ، ثمّ يجي‌ء مستحقّ الجارية ، قال : يأخذ الجارية المستحقّ ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد ، ويرجع على من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد الّتي اخذت منه» (١).

وقيل في وجه الدلالة : «إنّ حرّية ولد المشتري إمّا أن يعدّ نفعاً عائداً إليه أو لا ، وعلى التقديرين يثبت المطلوب» (٢) والرواية بقرينة حرّية الولد ظاهرة في جهل المشتري.

وقد يقال : بأنّ في توصيف قيمة الولد بأنّها اخذت منه نوع إشعار بعلّية الحكم ، فيطّرد في جميع موارد ما اخذت.

ولا ينافيها في الدلالة على الرجوع بقيمة الولد رواية زرارة «في رجل اشترى من سوق المسلمين جارية فخرج بها إلى أرضه فولدت منه أولاداً ، ثمّ أتاها من يزعم أنّها له وأقام على ذلك البيّنة ، قال : يقبض ولده ويدفع إليه الجارية ، ويعوّضه من قيمة ما أصاب من لبنها وخدمتها» (٣) لأنّها مسوقة لبيان حكم المشتري مع المالك.

ودعوى : ورودها في مقام البيان بالنسبة إلى المشتري مع المالك وبالنسبة إليه مع البائع أيضاً ، فسكوتها في معرض البيان من الجهة الثانية عن بيان رجوع المشتري على البائع بما اغترم دليل على عدم استحقاقه له. يدفعها : أنّ دلالة السكوت من باب الظهور وهو لا يزاحم نصوصيّة الرجوع بقيمة الولد ، مع أنّ ما اغترمه في تلك الرواية من قيمة لبن الجارية وخدمتها من قبيل ما حصل في مقابله نفع للمشتري ، وعدم الرجوع بها على البائع لا ينافي استحقاقه الرجوع بما لم يحصل في مقابله النفع.

وكذلك لا ينافيها لأجل السكوت رواية زريق المرويّة في الجواهر هكذا قال : «كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام يوماً إذ دخل عليه رجلان ... إلى أن قال : فقال : أحدهما إنّه كان عليّ مال لرجل من بني عمّار وله بذلك ذكر حقّ وشهود ، فأخذ المال ولم أسترجع منه الذكر بالحقّ ولا كتبت عليه كتاباً ولا أخذت منه براءة بذلك ، وذلك لأنّي وثقت به ، وقلت له : مزّق الذكر بالحقّ الّذي عندك ، فمات وتهاون بذلك ولم يمزّقه ، وعقيب هذا

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٥٩٢ / ٥ ، ب ٨٨ نكاح العبيد والإماء.

(٢) المكاسب ٣ : ٤٩٤.

(٣) الوسائل : / ٤ ، ب ٨٨ نكاح العبيد والإماء.

٨٦٨

طالبني بالمال ورّاثه وحاكموني وأخرجوا بذلك الذكر بالحقّ وأقاموا العدول فشهدوا عند الحاكم فأُخذت بالمال وكان المال كثيراً فتواريت عن الحاكم ، فباع عليّ قاضي الكوفة معيشة لي وقبض القوم المال ، وهذا رجل من إخواننا ابتلي بشراء معيشتي ، ثمّ إنّ ورثة الميّت أقرّوا أنّ المال كان أبوهم قد قبضه وقد سألوه أن يردّ عليّ معيشتي ويعطونه الثمن في أنجم معلومة ، فقال : إنّي احبّ أن أسأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن هذا ، فقال الرجل ـ يعني المشتري ـ جعلني الله فداك كيف أصنع؟ فقال : تصنع أن ترجع بمالك على الورثة وتردّ المعيشة إلى صاحبها وتخرج يدك عنها ، قال : فإذا أنا فعلت ذلك له أن يطالبني بغير هذا؟ قال : نعم له أن يأخذ منك ما أخذت من الغلّة من ثمن الثمار ، وكلّ ما كان مرسوماً في المعيشة يوم اشتريتها يجب أن تردّ ذلك ، إلّا ما كان من زرع زرعته أنت فإنّ للزارع إمّا قيمة الزرع ، وإمّا أن يصبر عليك إلى وقت حصاد الزرع ، فإن لم يفعل كان ذلك له ، وردّ عليك القيمة وكان الزرع له ، قلت : جعلت فداك فإن كان هذا قد أحدث بناءً أو غرساً؟ قال : له قيمة ذلك ، أو يكون ذلك المحدث بعينه يقلعه ويأخذه ، قلت : أرأيت إن كان فيها غرس أو بناء فقلع الغرس وهدم البناء؟ قال : يردّ ذلك إلى ما كان أو يغرم القيمة لصاحب الأرض ، فإذا ردّ جميع ما اخذ من غلّاتها إلى صاحبها وردّ البناء والغرس وكلّ محدث إلى ما كان أو ردّ القيمة كذلك يجب على صاحب الأرض أن يردّ عليه كلّ ما خرج منه في إصلاح المعيشة من قيمة غرس أو بناء أو نفقة في مصلحة المعيشة ، ودفع النوائب عنها كلّ ذلك فهو مردود إليه ...» (١) الخ (٢).

المرحلة الثانية : فيما حصل له في مقابله نفع ـ كأُجرة المنافع المستوفاة من سكنى دار وركوب دابّة ، واستخدام جارية واستيفاء بضعها وقيمة النماءات المنتفع بها من لبن وصوف وثمرة ونحوها ـ ففي رجوعه على البائع وعدمه قولان :

أحدهما : أنّه لا يرجع ، وهو للشيخ في الخلاف (٣) وموضع من المبسوط (٤) والآبي في كشف الرموز (٥) على ما نسب إليهم ، وهو ظاهر الحلّي أيضاً في السرائر حيث قال :

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٣٤٠ / ١ ، ب ٣ عقد البيع وشروطه.

(٢) «الخ» والظاهر أنّه لا وجه له ، لأنّ الحديث مذكور بتمامه.

(٣) الخلاف ٣ : ٤١٠ مسألة ٢٣.

(٤) المبسوط ٣ : ٧١.

(٥) كشف الرموز ٢ : ٣٨٤.

٨٦٩

«ويرجع المشتري بما غرمه من المنافع الّتي لم يحصل له في مقابلتها نفع إلّا أن يكون المشتري علم أنّه مغصوب» (١).

وثانيهما : أنّه يرجع عليه كما عن الشيخ في المبسوط (٢) أيضاً والفاضلين في القواعد (٣) والشرائع (٤) والنافع (٥) والشهيدين في الدروس (٦) والمسالك (٧) والروضة (٨) وفخر الإسلام في الإيضاح (٩) وشرح الإرشاد (١٠) والمحقّق الثاني في جامع المقاصد (١١) والأردبيلي في مجمع البرهان (١٢) واختاره جماعة (١٣) من مشايخنا قدّس الله أرواحهم وفي كلام بعضهم كونه المشهور.

وعن غير واحد حكاية القولين من غير ترجيح ، فيظهر منهم التردّد. وفي مفتاح الكرامة «أنّ القولين يلتفتان إلى أنّه لمّا حصل له نفع وحصل عنده عوضه ـ كأن سكن الدار وأكل الثمرة وشرب اللبن ـ كان كأنّه قد اشترى واستكرى فلم يحصل عليه ضرر ، وهو أوفق بالأصل ، مع عدم معلوميّة صلوح المعارض للمعارضة لعدم وضوح دليل على ترتّب الضمان على الغارّ بمجرّد الغرور وإن لم يلحقه ضرر كما هو المفروض ، ولم يثبت انعقاد الإجماع على هذه الكلّيّة بحيث يشمل ما نحن فيه. وإلى أنّه سلّطه عليه بأن يأكله مجّاناً ولا يعطي شيئاً غير ثمن المبيع ، ولعلّه لو علم أنّه ليس له لم ينتفع به ، فلم يسكن بأُجرة داراً أو لم يشرب بقيمة درّاً. فالظاهر الرجوع ، لحصول الضرر ، فكان الإجماع متناولاً لذلك ، ولأنّه بمنزلة ما لو قدّم إليه طعام الغير فأكله جاهلاً ... إلى أن قال : ويدلّ على بعض هذه الأحكام خبر (١٤) جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام» (١٥) الخ.

ويظهر من السيّد في الرياض (١٦) في باب البيع التوقّف لمكان استشكاله في الرجوع ، ووجّهه في كتاب الغصب بما ملخّصه «عدم وضوح دليل على ترتّب الضمان على الغارّ

__________________

(١) السرائر ٢ : ٣٢٥.

(٢) المبسوط ٣ : ٨٨. (٣) القواعد ١ : ١٢٤.

(٤) الشرائع ٣ : ٢٤٦. (٥) النافع : ٢٤٨.

(٦) الدروس ٣ : ١٩٣. (٧) المسالك ٣ : ١٩٠.

(٨) الروضة ٣ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨. (٩) الإيضاح ٢ : ٤٢٠ ـ ٤٢١.

(١٠) شرح الإرشاد للنيلى : ٤٧. (١١) جامع المقاصد ٤ : ٧٦ ـ ٧٧.

(١٢) مجمع البرهان ٨ : ١٦٤. (١٣) كما في المكاسب ٣ : ٤٩٨ ، والجواهر ٢٢ : ٣٠١.

(١٤) الوسائل ١٤ : ٤٩٢ / ٥ ، ب ٨٨ نكاح العبيد والإماء.

(١٥) مفتاح الكرامة ١٢ : ٦٣٣ ـ ٦٣٤.

(١٦) الرياض ٨ : ٢٢٨.

٨٧٠

بمجرّد الغرور وإن لم يلحقه ضرر ، كما فيما نحن فيه بمقتضى الفرض ، لاستيفائه المنفعة في مقابلة ما غرمه ، والإجماع على هذه الكلّيّة غير ثابت بحيث يشمل نحو مفروض المسألة ، نعم ربّما يتوجّه الرجوع حيث يتصوّر له الضرر بالغرور ، كما إذا اخذت منه قيمة المنافع أزيد ممّا يبذله هو في مقابلتها من غير ملكه ونحو ذلك» (١) انتهى.

وظاهره انحصار دليل ضمان البائع في قاعدة الغرور وأنّ مدرك هذه القاعدة قاعدة نفي الضرر.

وردّ بأنّ المستفاد من كلمات الأصحاب أنّها قاعدة اخرى غير مبتنية على الضرر ، فتراهم يتمسّكون بها في موارد لا يتحقّق فيها ضرر كما في خيار العيب ، فإنّ كلّ عيب لا يعدّ ضرراً بل ربّما يعدّ نفعاً ويوجب منافع كما لو اشترى عبداً فخرج خصيّاً فإنّ الخصاء ربّما يوجب زيادة القيمة ويكون مرغوباً إليه ومطلوباً للعقلاء ، وكما لو زوّج الأبرص ببرصاء وهو مغرور فيه وغير عالم بكونها برصاء فإنّه عيب يوجب خياراً له مع عدم كونه ضرراً في العرف والعادة.

وقد يستدلّ للمشهور وهو ضمان البائع الغارّ لما غرمه المشتري المغرور بقاعدتهم المعروفة من «أنّ السبب أقوى من المباشر» فإنّ إتلاف المنافع وإن كان بمباشرة المشتري غير أنّه لمّا كان مغروراً فكان إتلافه مسبّباً عن البائع ، فكان البائع هو السبب الّذي هو أقوى من المباشر فيغرم بما غرم به المباشر ، لأنّ الفعل في الحقيقة راجع إليه ، نظير ما لو دفع غاصب مال الغير إليه بدعوى أنّه ملكه فوهبه له أو أباحه له ليأكله فأكله ثمّ تبيّن كونه مال الغير فجاء المالك وأخذ منه القيمة ، فله الرجوع على الغاصب الغارّ لأنّه السبب في إتلافه.

وقد يستدلّ أيضاً : على ضمانه بقاعدة الضرر ، فإنّ تغريم من أقدم على إتلاف شي‌ء من دون عوض مغروراً من آخر بأنّ له ذلك مجّاناً من دون الحكم برجوعه على من غرّه في ذلك ضرر عظيم ، ومجرّد رجوع عوضه إليه لا يدفع الضرر ، وكيف كان فصدق الضرر وإضرار الغارّ به ممّا لا يخفى خصوصاً في بعض الموارد.

__________________

(١) الرياض ١٤ : ٤٧.

٨٧١

وفي كلام بعض مشايخنا «لا بدّ من الرجوع إلى قاعدة كون الغارّ سبباً في تغريم المغرور فكان كشاهد الزور في ضمان ما يؤخذ بشهادته ، أو قاعدة الضرر ، أو الإجماع المدّعى في الإيضاح (١) على تقديم السبب إذا كان أقوى ، أو الأخبار الخاصّة الواردة في الموارد المتفرّقة (٢) ولا ريب في ثبوت هذه الوجوه فيما نحن فيه» (٣).

أقول : ينبغي النظر في تتميم هذه الوجوه وعدمه.

أمّا الوجه الأوّل : فالنظر فيه يقتضي التكلّم تارةً في صغرى قاعدة الغرور ، واخرى في كبراها.

أمّا الصغرى فالتكلّم فيها تارةً ببيان معنى الغرور ومفهومه عرفاً ولغة ، واخرى ببيان تحقّق هذا المفهوم في محلّ البحث.

أمّا الأوّل فنقول : إنّ جماعة من أهل اللغة (٤) كالجوهري والفيروزآبادي وابن السكّيت والأصمعي وابن الأثير والأزهري والهروي والطريحي ذكروا لمادّة الغرّ والغرور والغرر والغرّة بالكسر والغرّة بالضمّ معاني متعدّدة ، إلّا أنّ ما يناسب منها مباحث الفروع ويرتبط بمقاصد الفقهاء في المسائل الفرعيّة معنيان :

أحدهما : معنى الغرر وهو الخطر بمعنى الهلاك ، وعليه حمل الحديث النبويّ المتلقّى بالقبول عند الخاصّة والعامّة «نهى النبيّ عن بيع الغرر» (٥) وهو بيع يكون محلاًّ للخطر باعتبار كون أحد العوضين فيه في معرض الهلاك مشرفاً للتلف من جهة عدم الوثوق بالعوض الآخر المقابل له ، لقيام احتمال لا يتسامح فيه عند العقلاء ومن شأنه أن يحترز عنه في العرف والعادة بحيث من لم يلتفت إليه ولا يعتني به وأقدم على عدم الاحتراز عنه كان محلاًّ للتوبيخ ومستحقّاً للّوم عند العقلاء ، من جهة تضييعه ماله وتعريضه للتلف وخروجه عنه بلا عوض ، أو بعوض غير مطابق لغرضه ، إمّا لكون العوض الآخر المقابل في معرض تعذّر الوصول إليه كبيع السمك في الماء وبيع الطير

__________________

(١) الإيضاح ٢ : ١٩٢.

(٢) الوسائل ١٤ : ٥٩٣ / ٤ و ٥ وب ٨٨ نكاح العبيد والإماء.

(٣) المكاسب ٣ : ٤٩٩ ـ ٥٠٠.

(٤) كما في القاموس ١ : ٦٢٧ ، ومجمع البيان ٣ : ٤٢٢ ـ ٤٢٣ (مادّة غرّ).

(٥) الوسائل ١٧ : ٤٤٨ / ٣ ، ب ٤٠ آداب التجارة.

٨٧٢

في الهواء وبيع الآبق بلا ضميمة وما أشبه ذلك ، أو في معرض عدم الدخول في الوجود الخارجي كبيع الملاقيح وبيع الحمل والجنين في بطن امّه ، أو في معرض عدم مطابقته للغرض والمطلوب كبيع ما جهل جنسه أو صنفه أو وصفه ، فهذا المعنى خارج عن محلّ البحث لكونه معتبراً في بيع الغرر الّذي يذكر في مقامات اخر.

وثانيهما : معنى الغرور وهو على ما في القاموس وغيره «غرّه غرّاً وغروراً وغرّة بالكسر فهو مغرور وغرير خدعه وأطمعه بالباطل ، واغترّ به خدع به» (١) فالغرور بمعنى الخداع والخدعة وهو في الفارسيّة «فريفتن وفريب دادن» والغارّ والغرور بالفتح «فريب‌دهنده» والمغرور والغرير «فريب داده شده» واغترّ به «فريب داده شد» وهذا هو المعنى المراد من الغرور في قاعدة الغرور الّتي يعبّر عنها بأنّ كلّ مغرور يرجع إلى من غرّه.

وأمّا الثاني : فالظاهر بل المقطوع به تحقّق هذا المفهوم فيما نحن فيه ، بل الظاهر عدم الخلاف في ذلك عند الأصحاب ، إذ لم نقف على أحد ناقش في التمسّك بقاعدة الغرور لتغريم البائع ما اغترمه المشتري للمالك بمنع صغرى القاعدة ، بل كلّ من ناقش فيه فإنّما ناقش من جهة الكبرى بمنع قيام دليل تامّ عليها من غير جهة الضرر والإضرار ، فإنّ البائع غرّ المشتري وخدعه حيث باعه مال الغير ولم يعلمه أنّه مال الغير ، فهو لجهله زعمه مال نفسه وملكه من جهة البيع فأتلف منافعه ونماءاته فغرمه المالك بأخذ عوض المنافع وقيمة النماءات منه ، فإنّه لو كان عالماً بالغصبيّة لم يكن يشتريه وعلى تقدير الاشتراء بتوقّع إجازة المالك لم يتلف منه شيئاً حتّى يستقرّ حاله فيكون مغروراً في اشترائه وتصرّفه وإتلافه من البائع فيكون البائع غارّاً.

وقد يقرّر الصغرى بأنّ مفهوم الغرور الموجب للرجوع في باب الإتلاف وإن كان غير منقّح إلّا أنّ المتيقّن منه ما كان إتلاف المغرور لمال الغير وإثبات يده عليه ، لا بعنوان أنّه مال الغير بل قصده إلى إتلافه مال نفسه أو مال من أباح له الإتلاف فيكون غير قاصد لإتلاف مال الغير ، فيشبه المكره في عدم القصد.

وأمّا الكبرى فالغرض من التكلّم فيها هو النظر في مدرك هذه الكلّيّة ممّا استدلّ به

__________________

(١) القاموس ١ : ٦٢٧.

٨٧٣

أو يمكن أن يستدلّ به بحيث يشمل المقام ، ويكون نتيجته ضمان البائع الغارّ للمشتري فيما اغترمه للمالك فنقول : إنّه قد استدلّ عليها بوجوه ، منها : قاعدة تقديم السبب على المباشر إذا كان أقوى منه المدّعى عليه الإجماع في الإيضاح (١).

وفيه : نظر ، أمّا أوّلاً : فلمنع كون البائع السبب لإتلاف المنافع والنماءات أقوى من مباشرة الّذي هو المشتري ، فإنّ ملاك تمييز الأقوى منهما من الأضعف هو أنّ التلف المبحوث عنه إن كان بحيث يسند في العرف والعادة إلى السبب لا إلى المباشر بل كان المباشر في نظر العرف بمنزلة الآلة ـ كما في المكره على إتلاف شي‌ء إكراهاً سالباً لاختياره بحيث صدر الفعل منه بلا قصد وشعور ـ كان السبب فيه أقوى من المباشر ، وإن انعكس الأمر كان المباشر أقوى فيه من السبب.

ولا ريب أنّ المقام ليس من قبيل الأوّل ، لأنّ المشتري فيما صدر منه من الإتلافات لا يعدّ في العرف بمنزلة الآلة بل الإتلاف يسند إليه إسناداً حقيقيّاً لا يشوبه شكّ وريبة ، ولو سلّم صحّة إسناده إلى البائع أيضاً لتسبيبه فهو يوجب التساوي لا الأقوائيّة المقتضية لتقديم السبب في الضمان ، فالإتلاف يسند إلى كلّ من المشتري والبائع ، أمّا الأوّل فلمباشرته ، وأمّا الثاني فلتسبيبه ، نظير فتح البلد الّذي يصحّ إسناده إلى العسكر لمباشرته وإلى الأمير لتسبيبه.

وأمّا ثانياً : فلأنّ أقوائيّة السبب حيث سلّمناها إنّما ينتج تضمين السبب ابتداءً على معنى إرجاع الضمان المترتّب على الإتلاف الدائر بين السبب والمباشر إلى السبب ، وملخّصه كون البائع الّذي هو السبب الأقوى ضامناً لإعواض ما أتلفه المشتري بحيث يستحقّ المالك الرجوع عليه لا على المشتري وهذا خلاف المطلوب. وبعبارة اخرى نتيجة قاعدة كون السبب أقوى من المباشر تغريم البائع للمالك ، والمقصود من التمسّك بقاعدة الغرور تغريم البائع للمشتري بما اغترمه للمالك لا تغريم البائع للمالك ابتداءً.

وإن شئت قلت : إنّ المالك في أخذه عوض المنافع وقيمة النماءات من المشتري إمّا أن يستحقّ الرجوع على المشتري أو لا يستحقّ الرجوع عليه؟ فإن كان الأوّل يبقى

__________________

(١) الإيضاح ٢ : ١٩٢.

٨٧٤

أقوائيّة السبب بالنسبة إلى البائع بلا فائدة ، وإن كان الثاني فكان المالك في رجوعه على المشتري وأخذه العوض والقيمة منه ظالماً فوجب أن يرجع المشتري بما اغترمه عليه لا على البائع ، لأنّ كلّ مظلوم يرجع على ظالمه لا على غير ظالمه ، فبقى تغريم البائع للمشتري بما اغترمه للمالك بلا دليل.

فإن قلت : أسباب الضمان كثيرة منها المباشرة ومنها التسبيب ، فالمشتري ضامن للمالك لمباشرته إتلاف منافع عينه ونماءاته ، والبائع ضامن للمشتري لتسبيبه فإنّ اغترام المشتري للمالك ضرر بلغه من البائع فكان البائع سبباً لذلك الضرر فيضمنه لأجل ذلك.

قلت : هذا إثبات لتغريم البائع بقاعدة نفي الضرر وسيأتي الكلام فيه ، والمقصود من الاستدلال إثباته بقاعدة الغرور المستدلّ عليها بقاعدة تقديم السبب الأقوى على المباشر ، وقد عرفت أنّ الدليل لا ينتجه ، وإثباته بقاعدة الضرر عدول عن الدليل المستدلّ به.

ومنها : قاعدة العَدْوى على معنى العدوان المستفادة من قوله عزّ من قائل : «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» (١) بتقريب أنّ اغترام المشتري عدوان بلغه من البائع فبمقتضى قوله : «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى» (٢) يرجع المشتري على البائع ويأخذ منه مثل ما أخذ منه.

لا يقال : اغترام المشتري للمالك ليس اعتداءً لأنّ المالك إنّما غرّمه بحقّ فالآية لا تتناول المقام ، لأنّا نقول : إنّ اغترام المشتري له نسبة إلى المالك من حيث إنّه أخذ عوض ما أتلفه ونسبة إلى البائع من حيث إنّه صار سبباً لذلك الاغترام وأخذ الغرامة منه ، فهو باعتبار نسبته إلى المالك وإن لم يكن اعتداء إلّا أنّه باعتبار نسبته إلى البائع اعتداء ، والآية تتناوله بهذا الاعتبار لا بالاعتبار الأوّل ، ولا يخلو عن وجه.

ومنها : قاعدة نفي الضرر المستفادة من قوله عليه‌السلام : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (٣) فإنّ اغترام المشتري غرور وضرر بلغه من البائع فوجب عليه جبرانه بضمانه للمشتري بما اغترمه للمالك.

وفيه : أنّ قاعدة نفي الضرر إن صلحت دليلاً على ضمان البائع لما اغترمه المشتري

__________________

(١) البقرة : ١٩٤.

(٢) البقرة : ١٩٤.

(٣) سنن البيهقي ٦ : ٦٩.

٨٧٥

فهي بنفسها كافية في إثباته ولا حاجة إلى توسيط قاعدة الغرور وستعرف نهوضها وعدم نهوضها عليه ، مع أنّ النسبة بين القاعدتين بحسب الموارد عموم وخصوص من وجه فلا تصلح إحداهما دليلاً على الاخرى.

ومنها : ما اشتهر بينهم من الخبر المعروف وهو «أنّ المغرور يرجع إلى من غرّه» (١) ذكره في العناوين معترفاً بأنّه لم يقف عليه في كتب الأخبار ثمّ قال : «ولكنّ الظاهر من سياق كلامهم أنّه مرويّ وحيث إنّ مضمونه مجمع عليه فلا يحتاج إلى ملاحظة سند ونحوه» (٢) انتهى.

وفيه : نظر ، بل منع ، لأنّ ذلك كما لا يوجد في كتب الأخبار فكذلك لم نقف على ذكره بعنوان الخبريّة في كتب الاستدلال بل المذكور فيها هذا المضمون بعنوان القاعدة ولم يذكره مشايخنا المصنّفين قدّس الله أرواحهم في تصانيفهم ، نعم ذكره في المستند (٣) حاكياً نقله عن المحقّق الشيخ عليّ في حاشيته على الإرشاد. وعلى هذا فلو سلّم وروده خبراً فالإجماع على مضمونه لا يصلح جابراً لضعف سنده من جهة الإرسال ، فإنّ غايته أنّه يكشف عن صدور هذا المضمون عن اهل بيت العصمة عليهم‌السلام وأمّا كشفه عن صدور الخبر المذكور بهذا المتن وتلك العبارة فلا. وهذا نظير الشهرة الجابرة لضعف سند الرواية الضعيفة من حيث إنّ المعتبر في الجبر الشهرة الاستناديّة لا مجرّد الشهرة في الفتوى إذا وافقت مضمون رواية ضعيفة من دون استناد إليها ، فإنّه لا يكفي في جبر السند بحيث أوجبت الوثوق والاطمئنان بصدورها من المعصوم.

ومنها : الإجماع المحصّل من تتبّع كلامهم في مقامات الغرور ، حيث يحكمون برجوع المغرور على الغارّ فضلاً عن الإجماعات المحكيّة ، ذكره أيضاً في العناوين ٤ ومن مشايخنا (٥) أيضاً من ادّعى الاتّفاق عليها مصرّحاً بأنّه يكشف عن وجود دليل معتبر عليها عندهم وإن لم نعثر عليه تفصيلاً. وهذا لا ضير فيه ، وموارد هذا الإجماع كثيرة ومن موارده ضمان من دفع مالاً إلى غيره بادّعاء المالكيّة فملكه أو أباح له إتلافه

__________________

(١) سنن البيهقى ٧ : ٢١٩.

(٢) ٢ و ٤ العناوين الفقهيّة ٢ : ٤٤٣.

(٣) المستند ١٤ : ٢٩٦.

(٥) المكاسب ٣ : ٤٩٤.

٨٧٦

فبان بعد الإتلاف أنّه مال الغير فجاء المالك وغرم المدفوع إليه فيرجع الغريم إلى الدافع بما اغترمه إجماعاً لكونه مغروراً منه ، ونحوه ما لو أحضر عنده مال نفسه وهو جاهل به فبان بعد إتلافه كونه مال نفسه فيرجع إلى الدافع ويأخذ عوضه منه لكونه مغروراً منه في إتلافه.

ومنها : تغريم من زوّج رجلاً بامرأة على أنّها حرّة أو بنت مهيرة أو باكرة فبانت أمة أو بنت أمة أو ثيّبة بمهرها أو نصف مهرها المأخوذ من الزوج ، وكذا مدّعي الوكالة عن رجل في تزويج امرأة فظهر كذبه فإنّه يضمن نصف مهرها لكونه غارّاً.

وأمّا الوجه الثاني (١) : فلأنّ عدم ضمان البائع للمشتري فيما اغترمه للمالك في إتلافاته المستندة في تسليط البائع عليها مجّاناً ضرر ، والضرر منفيّ في الإسلام ، ونفي عدم الضمان إثبات له فهو المطلوب.

ويشكل بأنّ عدم الضمان أمر عدمي وخبر «لا ضرر ولا ضرار» الّذي هو مدرك القاعدة لا يتناول الامور العدميّة ، لأنّ مفاده نفي جعل الأحكام الّتي يترتّب عليها ضرر المسلم بحيث يسند الضرر إلى الله تعالى من حيث إنّه جعلها ، فيختصّ بالأحكام الوجوديّة لأنّها مجعولات الشارع ، والامور العدميّة ليست من مجعولاته بل ولا قابلة للجعل ، فلا تكون مشمولة للخبر.

ويمكن الذبّ بأن ليس في متن الخبر لفظ الجعل ولا الحكم بل كلمة «لا ضرر» لتعذّر حقيقته وهو نفي ماهيّة الضرر حذراً عن الكذب تحمل على نفي الامور الموجبة للضرر من الأحكام المعدودة من شرع الإسلام الّتي يتديّن بها المسلمون ، بحيث يسند الضرر المترتّب عليها إلى الشارع سواء كانت أحكام وجوديّة أو عدميّة ، إذ كما أنّ وجوب الصلوات الخمس في الليل والنهار من شرع الإسلام ويتديّن به المسلمون ، فكذلك عدم وجوب ما زاد عليها ، والخبر ينفي ما يعمّهما إذا ترتّب على وجود الأوّل أو عدم الثاني ضرر المسلم بحيث يسند الضرر إليه تعالى من حيث جعله الأوّل وعدم جعله الثاني.

__________________

(١) تقدّم الوجه الأوّل في ص ٨٧٢.

٨٧٧

وبالجملة الأحكام الضرريّة وجوديّة كانت أو عدميّة ، وضابطها ترتّب الضرر على وجودها أو على عدمها ، فكما يجب في حكمة الشارع عدم جعل الأحكام الّتي يلزم من وجودها ضرر المسلم ، فكذلك يجب في حكمته جعل الأحكام الّتي يلزم من عدمها ضرر المسلم ، وهذا هو مفاد الخبر الوارد في مقام الامتنان الّذي هو بالنسبة إلى الأحكام الوجوديّة عدم جعلها وبالنسبة إلى الأحكام العدميّة جعلها.

ونقول : فيما نحن فيه أنّ عدم ضمان البائع للمشتري فيما اغترمه حكم ضرري يترتّب الضرر على عدمه ويسند الضرر إلى الشارع لعدم جعله الضمان ، وينفيه عموم الخبر ونفيه إثبات لجعل الضمان. ويؤيّده مورد الخبر فإنّ عدم سلطنة الأنصاري على قلع عذق سمرة بن جندب ليمرّ إليها سمرة من دون استئذان الأنصاري ضرر على الأنصاري ، كما أنّ سلطنة سمرة على المرور إليها من دون استئذان ضرر عليه ، وقد أثبت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأنصاري سلطنة القلع نافياً لسلطنة سمرة بقوله : «اذهب فاقلعها وارم بها إليه أنّه لا ضرر ولا ضرار» (١).

لا يقال : عدم ضمان البائع قد يكون باعتبار حكم الشارع بعدمه ، وقد يكون بمعنى حكمنا به باعتبار عدم الدليل على وجوده ، والخبر إنّما يكون نافياً له على الأوّل لا على الثاني ، لعدم كون الضرر حينئذٍ مسنداً إلى الشارع فلا يعمّه الخبر على الثاني ، وهو المراد من عدم ضمان البائع للمشتري لأنّا نفرض قضيّة البائع والمشتري من حيث الضمان وعدمه واقعيّة ، والنقيضان كما لا يجتمعان في الواقع كذلك لا يرتفعان في الواقع.

فنقول : إنّ الشارع في الواقع إمّا جعل الضمان على البائع للمشتري فيما اغترمه للمالك أو لم يجعله ، ولا سبيل إلى الثاني للزوم الضرر بحيث يسند لزومه إلى الشارع بسبب عدم جعله الضمان وهو منفيّ بعموم الخبر فتعيّن الأوّل ، إذ لا واسطة بين الجعل وعدم الجعل وهو المقصود بالاستدلال.

وأمّا الوجه الثالث : وهو الإجماع فقد ذكره شيخنا قدس‌سره وقال : «إنّه وإن لم يرد في خصوص المسألة إلّا أنّ تحقّقه في نظائر المسألة كافٍ ، فإنّ رجوع آكل طعام الغير إلى

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٤٢٨ / ٣ ، ب ١٢ كتاب إحياء الموات ، التهذيب ٧ : ١٤٦ / ٦٥١.

٨٧٨

من دفعه هبة أو إباحة مورد الإجماع ، وكذلك رجوع المحكوم عليه إلى شاهدي الزور بعد رجوعهما عن الشهادة» (١) ومراده قدس‌سره الإجماع على القاعدة المستنبط من الإجماعات المتحقّقة في الموارد الخاصّة ، وهو ضمان كلّ من صار سبباً لضرر الغير بتدليس ونحوه ، فلا يضرّه وجود الخلاف في خصوص المسألة لاندراجها في القاعدة المجمع عليها فتأمّل.

وأمّا الوجه الرابع : وهو الأخبار فهي أيضاً وإن لم ترد في خصوص المسألة ، إلّا أنّ ورودها في الموارد الجزئيّة من نظائر المسألة كافٍ لاستفادة عموم القاعدة من ملاحظة مجموعها والإشعارات والتعليلات الواقعة في جملة منها ، فإنّ رجوع المحكوم عليه إلى شاهدي الزور مورد للأخبار.

ومن الأخبار أيضاً رواية جميل المتقدّمة بناءً على أنّ حرّية الولد نفع حصل لمشتري الجارية في مقابل ما اغترمه من قيمة الولد ، وقيل : «إنّ في توصيف قيمة الولد بأنّها اخذت منه نوع إشعار بعلّة الحكم فيطّرد في سائر ما اخذت منه» (٢).

ومنها : رواية أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «في رجل تزوّج امرأة من وليّها فوجد بها عيباً بعد ما دخل بها ، قال : فقال : إذا دلّست العفلاء والبرصاء والمجنونة والمفضاة ومن كان بها زمانة ظاهرة فإنّها تردّ على أهلها من غير طلاق ، ويأخذ الزوج المهر من وليّها الّذي كان دلّسها ...» (٣) الخ. والتعليق على التدليس والتوصيف به أيضاً يفيد العلّيّة فيطّرد الحكم في جميع موارد العلّة.

ومنها : رواية رفاعة بن موسى قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام إلى أن ، قال : وسألته عن البرصاء؟ فقال : قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في امرأة زوّجها وليّها وهي برصاء أنّ لها المهر بما استحلّ من فرجها ، وأنّ المهر على الّذي زوّجها ، وإنّما صار عليه المهر لأنّه دلّسها» (٤) والعلّة المنصوصة عامّة لجميع مواردها الّتي منها ما نحن فيه ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٥٠٠ ـ ٥٠١.

(٢) المكاسب ٣ : ٤٩٥.

(٣) الوسائل ٢١ : ٢١١ / ١ ، ب ٢ العيوب والتدليس ، التهذيب ٧ : ٤٢٥ / ١٦٩٩.

(٤) الوسائل ٢١ : ٢١٢ / ٢ ، ب ٢ العيوب والتدليس ، التهذيب ٧ : ٤٢٤ / ١٦٩٧.

٨٧٩

وأمّا القول بعدم الرجوع فلم نقف له على مستند ، ولعلّه الأصل بادّعاء عدم الدليل على استحقاق الرجوع ، وقد عرفت الدليل عليه فانقطع به الأصل.

والعجب عن صاحب الحدائق (١) حيث زعم أن لا رجوع للمشتري على البائع بشي‌ء سوى الثمن ، واستند في ذلك إلى أنّه لم يذكر شي‌ء من ذلك في خبر زريق المتقدّم مع كونه في مقام بيان.

واجيب عنه : بأنّ من لحظ الخبر ظهر له أنّه عليه‌السلام إنّما كان جوابه فيما سأله السائل على وفق سؤاله ، ولم تكن همّة السائل في فقرات سؤاله إلّا في تخليص نفسه وتفريغ ذمّته من حقّ المالك ، ومن المعلوم أنّه لو لم يسأله ثانياً وثالثاً لاقتصر عليه‌السلام على جوابه الأوّل ، أتراك تقدر أن تقول بأنّه عليه‌السلام لو اقتصر على جوابه الأوّل ليس للمالك إلّا أخذ معيشته ، كلّا ولا يظنّ بأحد أن يتفوّه بذلك.

فروع :

الأوّل : لا يعتبر في رجوع المشتري على البائع بما اغترم علم البائع بأنّه مال الغير أو أنّه غير مأذون ولا وكيل ، فلو باعه باعتقاد أنّه مال نفسه أو باعتقاد المأذونيّة أو الوكالة فبان الخلاف ضمن ما اغترمه المشتري للمالك كما هو الظاهر من إطلاق أكثر الفتاوي وصريح العناوين ، حيث إنّه في بيان تفصيل قاعدة الغرور قال : «وأمّا لو كان عالماً ولم يكن قاصداً للتغرير ولكنّه أثّر فعله في الغرور فالظاهر صدق الغارّ عليه ، وأمّا لو كان جاهلاً بالواقع كمن اعتقد أنّه مال نفسه فبذله لغيره فتبيّن أنّه مال الغير فهل يصدق عليه الغارّ أم لا؟ احتمالان. ومثله ما لو زعم أنّه مأذون في الدفع أو اعتقد أنّه وكيل أو نحو ذلك من الطرق الرافعة للضمان باعتقاده فبان خطؤه ، والّذي يقوى في النظر حينئذٍ أنّ ذلك أيضاً يعدّ غروراً ، فإنّ فعله قد غرّ الآخذ» (٢) ويظهر ذلك أيضاً من شيخنا في الجواهر حيث قال : «لتعميم الضمان من جهة قاعدة الغرور وإن لم يقصد التغرير» (٣) خلافاً لما في مستند النراقي من تخصيصه الضمان بصورة علم البائع «بأنّه مال الغير لتحقّق التغريم والتدليس» (٤).

__________________

(١) الحدائق ١٨ : ٣٩٣ ـ ٣٩٤.

(٢) العناوين الفقهيّة ٢ : ٤٤١.

(٣) الجواهر ٢٢ : ٣٠١.

(٤) المستند ١٤ : ٢٩٦.

٨٨٠