ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

المكره ولا إشكال في صحّته ، لصدوره باختياره ورضاه وعن طيب نفسه وإن كان الباعث عليه خوف الضرر ، بل أكثر البيوع الصادرة من الناس ولا سيّما أهل الأسواق ولا سيّما التجّار إنّما تصدر لخوف الضرر بتركها.

ويعتبر في تحقّقه أيضاً كون الإيعاد على ترك العقد على معنى كون المتوعّد على تركه نفس العقد لا أمراً آخر حاملاً للعاقد على اختيار العقد ، فمن اوعد على ترك دفع مال كالظالم إذا طلب منه مالاً ظلماً وأوعده على عدم دفعه ، وتوقّف دفعه على بيع بعض أمواله أو أملاكه أو عقاراته ، فباعه للتفصّي عن الضرر المتوعّد به على عدم دفع المال ، فبيعه ليس من عقد المكره ولا إشكال في صحّته ، لحصوله باختياره وعدم كرهه في أصل البيع وإن كان مكرهاً في دفع المال ، وهذا أيضاً كثير شائع وقوعه بين الناس.

ثمّ إنّهم اعتبروا في تحقّق موضوع الإكراه شروطاً ثلاث ذكروها في كتاب الطلاق في باب طلاق المكره : وهي أن يكون المكرِه ـ بالكسر ـ قادراً على فعل ما أوعد به من قتل أو جرح أو ضرب أو حبس أو إهانة أو استخفاف أو هتك عرض ، وغلبة ظنّ المكرَه ـ بالفتح ـ على أنّه يفعل ما أوعده به ، وأن يكون ما أوعده به مضرّاً بخاصّة نفسه أو متعلّقه كأبيه وابنه وامّه وأخيه.

والسرّ في اعتبار هذه الامور أنّ الأصل في أفعال الإنسان هو الاختيار ويعبّر عنه بـ «أصالة الاختيار» ومدركها الغلبة ، وأنّ الظاهر من العقد الصادر من البالغين الكاملين هو تحقّق القصود الأربع المتقدّمة الّتي رابعها قصد وقوع الأثر في الخارج والرضا به وطيب النفس فيه وعدم الكره فيه. فلا بدّ في صدق كون العاقد مكرهاً وتحقّق الكراهة فيه عند الإيعاد بالإضرار على تركه العقد من حصول ما يزاحم أصالة الاختيار والظهور اللفظي ، ويوجب الخروج عنهما بظهور عدم الاختيار وتحقّق الكره ـ أعني ما يكشف عن الكره وعدم الاختيار ـ وليس إلّا الإيعاد المقترن بالامور الثلاث ، ضرورة أنّ إيعاد من لا يقدر على فعل ما أوعد به ، أو إيعاد من لا يغلب على الظنّ أنّه يفعل ما أوعد به ، أو الإيعاد بما لا يكون مضرّاً بخاصّة نفس العاقد أو متعلّقه لا يكشف عن الكره وعدم الاختيار ، فيكون الأصل والظهور اللفظي على حالهما ويجب الأخذ بهما ومقتضاهما الصحّة.

وهل يعتبر في موضوع الإكراه عجز المكرَه عن التفصّي عن الضرر المتوعّد به

٧٠١

بما لا يوجب ضرراً آخر ، فمن يقدر على دفعه بفرار أو مقاومة أو استعانة ولم يدفعه فهو ليس بمكره أولا؟ فعن جماعة (١) منهم الشهيد (٢) الثاني اعتباره ، وقيل بالعدم.

وليعلم أنّ الصور المتصوّرة في المقام أربعة ، لأنّ المكرَه إمّا أن يدور أمره على سبيل منع الخلوّ بين أن يأتي بالفعل المكره عليه أو يمكّن نفسه عن تحمّل الضرر المتوعّد به ، أو بين أن يأتي بالفعل المكره عليه أو يمكّن نفسه عن تحمّل الضرر المتوعّد به أو يدفع الضرر بما يوجب ضرراً آخر مساوٍ للأوّل أو أشدّ منه أو أخفّ منه ، أو بين أن يأتي بالفعل المكره عليه أو يمكّن نفسيه من تحمّل الضرر المتوعّد به أو يدفعه بما لا يوجب ضرراً آخر أو بين أن يأتي بالفعل أو يمكّن نفسه من تحمّل الضرر أو يدفعه بما يوجب ضرراً آخر أو بما لا يوجب ضرراً آخر.

ولا ريب في تحقّق الإكراه في الصورة الاولى بل هو محلّ وفاق ، وكذلك الثانية لأنّ القدرة على دفع الضرر المتوعّد به بما يوجب ضرراً آخر في معنى عدم القدرة على دفع نوع الضرر فكونه مكرهاً حينئذٍ أيضاً محلّ وفاق ، وليس ذلك نظير دوران الأمر بين قبيحين أو ضررين أحدهما أشدّ من الآخر ، لأنّ وجوب اختيار الأقلّ حينئذٍ إنّما هو لانحصار الأمر في ارتكاب أحدهما ولم يكن مناص عنه ، ومحلّ الكلام ليس منه لأنّ الغرض دفع الضررين معاً بالإقدام على الفعل المكره عليه ، ولا ريب أنّه يصدق عرفاً أنّه مكره في فعله ، ولذا قيّد جماعة (٣) من الفحول القدرة على الدفع بما لا يوجب ضرراً آخر.

وأمّا الصورتان الاخريان فكلّ منهما من محلّ النزاع ، ومرجع الكلام فيهما إلى أنّ القدرة على دفع الضرر بما لا يوجب ضرراً آخر ، فمن لم يدفعه واختار الإتيان بالفعل المتوعّد على تركه هل يكشف عن الاختيار والرضا به وعدم كراهته أولا؟ فنقول : إنّ الإكراه الّذي رتّب عليه الحكم في الشرعيّات قسمان :

أحدهما : ما اعتبر في رفع الأحكام التكليفيّة في الواجبات والمحرّمات ، وهو الإكراه المسوّغ لتناول المحظورات وترك المفروضات ، بحيث لا يكون آثماً ولا مؤاخذاً

__________________

(١) كما في الحدائق ٢٥ : ١٥٩ ، والمستند ١٤ : ٢٦٧.

(٢) المسالك ٩ : ١٨ ـ ١٩.

(٣) كما في المستند ١٤ : ٢٦٨.

٧٠٢

ولا مخاطباً بكفّارة وغيرها من الآثار المترتّبة على مخالفة التكليف الإلزامي ، كما لو اكره على شرب الخمر أو أكل المال الحرام أو ترك الصلاة أو صيام نهار رمضان وما أشبه ذلك ، وهذا ممّا لا إشكال بل الظاهر أنّه لا خلاف في أنّه يعتبر في تسويغه المحظورات عجزه عن التفصّي عن الضرر المتوعّد به ، ومناطه توقّف دفع ضرر المكره على ارتكاب المكره عليه من فعل محرّم أو ترك فريضة ، وعليه يحمل الإكراه في حديث رفع المؤاخذة «عمّا استكرهوا عليه».

وثانيهما : الإكراه الرافع لآثار المعاملات ، وهذا هو محلّ البحث ، فنقول : إنّه ربّما يستظهر عدم اعتبار العجز من رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا يمين في قطيعة رحم ، ولا في جبر ، ولا في إكراه ، قلت : أصلحك الله ، وما الفرق بين الجبر والإكراه؟ قال : الجبر من السلطان ، ويكون الإكراه من الزوجة والامّ والأب وليس ذلك بشي‌ء ...» (١) الخبر. فإنّ المقابلة وبيان الفرق ظاهر في أنّ المراد بالجبر ما يبلغ حدّ الإلجاء والاضطرار ، ولا يكون إلّا حيث لم يكن له طريق إلى التخلّص ، ولذا خصّه بالسلطان الّذي يغلب فيه ذلك. فيكون الإكراه دونه وهو ما لا يبلغ الحدّ المذكور ، ولذا أضافه إلى الزوجة والامّ والأب الّذين يغلب فيهم وجود طريق التخلّص.

وفيه : نظر ، لمنع كون نظر الإمام في بيان الفرق إلى ما ذكر ، بل إلى اعتبارات اخر مثل أنّ السلطان يأمر بما يخاف الضرر على تركه من دون توعيد ، بخلاف الإكراه الّذي لا بدّ فيه مع الأمر من التوعيد ، أو أنّ جعل الجبر من السلطان باعتبار كونه عند العرف جابراً فأمره بخلاف العدل مع التوعيد على الترك جبر ، بخلاف الزوجة والامّ والأب لعدم صدق الجابر عليهم ، أو أنّ الجبر أمر بخلاف العدل مع خوف الضرر على المخالفة من غير توعيد ، بخلاف الإكراه الّذي هو أمر مع التوعيد ، فلا ظهور للرواية على عدم اعتبار العجز في موضوع الإكراه.

فالحقّ في المقام ما عليه الجماعة من اعتبار العجز عن التفصّي في مفهوم الإكراه لشهادة التبادر الوجداني والاستقرائي بذلك ، فإنّ المتبادر المنساق من لفظ الإكراه

__________________

(١) الوسائل ٢٣ : ٢٣٥ / ١ ، ب ١٦ كتاب الأيمان ، التهذيب ٨ : ٢٨٦ / ١٠٥٣.

٧٠٣

وتصاريفه مثل «أكرهته على كذا وأكرهني على كذا وما أشبه ذلك» هو أمر الإنسان بفعل مع التوعيد على تركه بما يعدّ في العرف ضرراً من قتل أو جرح أو ضرب أو حبس أو شتم أو هتك عرض أو إتلاف بحيث لم يتمكّن المأمور من التفصّي عادةً بوجه من الوجوه إلّا فعل المأمور به ، فيعتبر فيه الأمر بالفعل والتوعيد على تركه والعجز عن التفصّي إلّا بفعل المأمور به.

وكما أنّه لا إكراه مع انتفاء أصل الأمر وإن كان الحامل على الفعل دفع الضرر المترتّب على تركه كبيع الدار لدفع الضرر المترتّب على ترك البيع أو مع عدم كون الفعل الصادر منه نفس المأمور به المتوعّد على تركه بل من مقدّماته كبيع الدار لدفع ثمنه إلى ظالم يطلب منه مالاً ظلماً ، فكذلك لا إكراه فيما يقدر المأمور من التفصّي عن الضرر بغير فعل المأمور به ، فالأمر الحامل له على الفعل حينئذٍ ليس من موضوع الإكراه عرفاً ، فلا يرتفع به حكم تكليفي فيما لو تحقّق بالنسبة إلى ما رتّب عليه [الأحكام] التكليفيّة كالحرمة في شرب الخمر وغيره ، ولا حكم وضعي فيما لو تحقّق فيما رتّب عليه الأحكام الوضعيّة كالصحّة في البيع ونحوه.

والسرّ في انفهام العجز أنّ الظاهر المتبادر من التوعيد على ترك المأمور به كون الضرر المتوعّد به مترتّباً على ترك المأمور به بعينه كما في أمر الشارع مع التوعيد بالعقاب على المخالفة ، وهذا يقتضي اعتبار العجز عن التفصّي ، إذ مع القدرة عليه كان الضرر المتوعّد به مترتّباً على ترك المأمور به وترك التفصّي معاً لا على ترك المأمور به بعينه. وقضيّة ذلك أن يكون مختاراً في إتيانه بالمأمور به ، كما أنّه لو أقدم على التفصّي كان مختاراً فيه ، والّذي يكشف عن كونه مختاراً في التفصّي ـ مضافاً إلى الصدق العرفي ـ أنّ التفصّي مسقط عن الفعل المأمور به لا أنّه بدل له ، لأنّ الآمر لم يأمره بأحد الأمرين من فعل المأمور به أو التفصّي عن الضرر على وجه التخيير ، فإنّه لو كان كذلك لم يكن مختاراً لا في التفصّي على تقدير الإقدام عليه ولا في فعل المأمور به على تقدير الإقدام عليه ، وإنّما أمره بفعل المأمور به بعينه ، ووجود المسقط يوجب صدق كونه مختاراً في فعله كما أنّه مختار في فعل التفصّي.

وبالتأمّل في ذلك يظهر أنّه لا فرق في صدق الإكراه عرفاً في محلّ العجز عن

٧٠٤

التفصّي بين كون المأمور به المكره عليه أمراً واحداً شخصيّاً كما لو قال : «بع دارك وإلّا لأقتلنّك» أو أمرين على وجه التخيير الّذي صرّح به الآمر كما لو قال : «بع دارك أو طلّق زوجتك وإلّا لأقتلنّك» فاختار بيع الدار ، أو أمراً كلّيّاً حكم العقل بالتخيير بين أفراده كما لو قال : «بع واحداً من عبيدك وإلّا لأقتلنّك» وعنده عبيد متعدّدون فباع واحداً معيّناً منهم ، فإنّه في الجميع مكره في نظر العرف. وبالجملة تعدّد المكره على أحدهما أو كلّيّته لا يمنع من تحقّق موضوع الإكراه ، ولا يرفع صدق اسم المكره عرفاً فيما إذا اختار أحد الفردين المخيّر فيهما بنصّ الآمر أو بحكم العقل.

ثمّ إنّه هل يعتبر في الإكراه المانع من صحّة العقد مع العجز عن التفصّي عن الضرر العجز عن التورية لدهشة أو جهل بطريق التورية فالعقد مع القدرة عليها لا يدخل في عقد المكره ، أو لا يعتبر العجز منها فالعقد من القادر عليها ليس بخارج عن عقد المكره؟ قولان ، عزي (١) ثانيهما إلى الأكثر ، وهو ظاهر النصّ والفتاوى ومعاقد الإجماع في عقد المكره ، وظاهر خصوص النصوص الواردة في طلاق المكره وعتقه. وقيل بالأوّل. والصحيح ما عليه الأكثر.

والقول بالاعتبار إمّا أن يراد به اعتبار العجز عنها في موضوع الإكراه وصدق اسم المكره كالعجز عن التفصّي ، أو يراد به اعتباره في حكم الإكراه وهو إبطاله العقد على معنى كونه شرطاً تعبّديّاً فيه.

وأيّاً ما كان فهو غير سديد ، أمّا الأوّل : فلأنّ مناط موضوع الإكراه بالنسبة إلى المعاملة كونها لا عن طيب نفس ورضا بوقوع مضمون العقد وأثره في الخارج ، وهذا يجامع كلاًّ من عدم قصد ظاهر اللفظ مادّة أو هيئة وقصد خلاف ظاهره مادّة وهيئة وقصد ظاهره كذلك ، وقضيّة ذلك عدم توقّف تحقّق موضوعه وصدق اسمه على التورية ، سواء اريد بها عدم قصد الظاهر أو قصد خلاف الظاهر.

وأمّا الثاني : فلأنّ جعل العجز عن التورية شرطاً تعبّديّاً تقييد في نصوص الباب وفتاوى الأصحاب ومعاقد إجماعاتهم ، وهو يحتاج إلى دليل من نصّ أو إجماع ،

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٣١٣.

٧٠٥

ولا دليل عليه ، مضافاً إلى أنّه ممّا لا يرجع إلى محصّل ولا يفيد أثراً ، لما عرفت من أدلّة بطلان عقد المكره كون الاختيار بالمعنى المرادف للرضا وطيب النفس شرط مستقلّ لصحّة العقد فانتفاؤه كافٍ في البطلان فيلغو اعتبار العجز عن التورية ، فالقدرة عليها لا تنافي الإكراه موضوعاً وحكماً ، ولا ينافيه ما اشتهر بين الأصحاب من وجوب التورية في الإكراه على الإتيان بكلام خبري غير مطابق حذراً عن الكذب المقتضي لاعتبار العجز عنها ، لأنّ المقصود بذلك إحراز الاضطرار إلى الكذب المسوّغ له الرافع لحرمته ، وهو مع القدرة على التورية من دون مراعاتها غير متحقّق ، فيكون في إتيانه بالخبر الغير المطابق قد فعل محرّماً فيكون آثماً. وهذا ممّا لا مدخل له في الإكراه المعتبر في رفع الآثار الوضعيّة المترتّبة على صيغ العقود والإيقاعات ، لكفاية انتفاء طيب النفس والرضا النفساني في ذلك.

وبهذا يعلم الحال في الكلام الخبري الصادر عن الإمام على وجه التقيّة كما لو قال : «غسل الرجلين في الوضوء واجب» فإنّ مصلحة التقيّة في نحوه تتأدّى تارةً بإرادة الظاهر من باب بيان خلاف الواقع ، واخرى بإرادة خلاف الظاهر من باب التورية كأن يريد من الغسل معنى المسح مجازاً من غير قرينة ، وهل يجوز له الأمران ، أو يتعيّن عليه الثاني ومرجعه إلى وجوب التورية عليه عليه‌السلام في الكلام الصادر عنه على وجه التقيّة أو لا؟ وقيل بالأوّل إذ لا اضطرار إلى الكذب مع إمكان التورية فيه فيكون مع عدم التورية قد فعل محرّماً وهو لا يناسب عصمته. والوجه عندنا على ما حقّقناه في الاصول هو التفصيل بين كون مصلحة التقيّة ملحوظة في حقّ الإمام فوجب عليه التورية حذراً عن الكذب المنافي لعصمته ، أو في حقّ السائل باعتبار اختلاطه مع المخالفين فوجب إرادة الظاهر ليعرف السائل حكمه المبنيّ على التقيّة ، وهو وجوب غسل الرجلين عليه في الوضوء ما دامت التقيّة قائمة في حقّه فليتدبّر.

ثمّ إنّ في المقام فروعاً تذكر في طيّ مسائل :

المسألة الاولى : قد ذكرنا سابقاً أنّ الإكراه الرافع لأثر العقد كما يتحقّق لشخص على فعل واحد كذلك يتحقّق لشخص على أحد الفعلين تخييراً كأن يقول : «بع دارك أو طلّق زوجتك وإلّا قتلتك» فباع داره فيقال عرفاً إنّه مكره على بيع داره لأنّه أحد

٧٠٦

البدلين المكره على أحدهما ، وقد يتحقّق أيضاً لأحد الشخصين على فعل واحد كفاية كأن يقول : «ليبع أحدكما داره وإلّا لأقتلنّكما» فباع أحدهما فإنّه مكره على بيع داره عرفاً.

المسألة الثانية : أنّ الإكراه قد يتحقّق للمالك العاقد ، وقد يتحقّق للمالك دون العاقد ، وقد يتحقّق للعاقد دون المالك.

أمّا الصورة الاولى : فقد تقدّمت أمثلتها الّتي منها أن يقول للمالك : «بع دارك وإلّا قتلتك» فباع مكرهاً ، ولا إشكال في كونه من عقد المكره.

وأمّا الصورة الثانية : فكأن يقول للمالك : «وكّل فلاناً لأن يبيع دارك وإلّا قتلتك» فوكّله مكرهاً فباع الفلان ، والوجه فيه كون البيع خارجاً عن عقد المكره إذ لا إكراه للعاقد على عقده بل للمالك على توكيله ، فعلى تقدير عدم تحقّق الوكالة بسبب الإكراه فالعقد المفروض داخل في عقد الفضولي ويلحقه حكمه. وليس من هذا الباب ما لو قال للمالك : «بع دارك وإلّا قتلتك» فقال المالك لغيره : «أنت وكيل في بيع داري» فباعها الوكيل ، إذ المالك ليس بمكره على التوكيل ، كما أنّ العاقد ليس بمكره على البيع ، فكلّ من عقد الوكالة وعقد البيع يقع صحيحاً لأنّ المالك مختار في توكيله لأصالة الاختيار والقصد ، وإذا صحّ عقد الوكالة ترتّب عليه صحّة عقد البيع لكونه من بيع الوكيل ، إلّا أن يقال : بأنّ قول المكره «بع دارك وإلّا قتلتك» إكراه على أحد الأمرين من المباشرة للبيع وتوكيل الغير فيه فيكون مكرهاً في توكيله كما أنّه على تقدير مباشرة البيع كان مكرهاً عليه ، وفيه منع واضح لعدم الانفهام العرفي.

وأمّا الصورة الثالثة : فلها فروض ثلاث :

الأوّل : أن يقول : «بع داري وإلّا قتلتك» فباعها مكرهاً ، ومثله ما لو قال : «طلّق زوجتي وإلّا قتلتك» فعن ثاني الشهيدين في المسالك احتمال عدم الصحّة نظراً إلى أنّ الإكراه أسقط حكم اللفظ كما لو أمر المجنون بالطلاق فطلّقها ، ثمّ ذكر الفرق بينهما «بأنّ عبارة المجنون مسلوبة ، بخلاف المكره فإنّ عبارته مسلوبة لعارض تخلّف القصد ، فإذا كان الآمر قاصداً لم يقدح إكراه المأمور» (١) انتهى. وهذا هو الوجه الصحيح لوقوع

__________________

(١) المسالك ٩ : ٢٢.

٧٠٧

العقد من المكره مقروناً برضا المالك وطيب نفسه فكان صحيحاً ، بل هذا أولى بالصحّة من عقد المالك المكره عليه إذا رضى به لاحقاً.

الثاني : ما لو قال للوكيل في بيع الدار لا للموكّل : «بع دار فلان وإلّا قتلتك» فباع الوكيل مكرهاً فذكر في المسالك «فيه وجهين : من تحقّق الاختيار في الموكّل المالك ، ومن سلب عبارة المباشر» (١). أقول : الأوجه الصحّة ، لمقارنة العقد لرضا المالك وطيب نفسه ، ولا أثر معه لكراهة العاقد الوكيل.

الثالث : ما لو قال لأجنبيّ : «بع دار فلان وإلّا قتلتك» فباع مكرهاً. والوجه فيه كونه من عقد الفضولي فيلحقه حكمه ، والفرق بينهما بأنّ العاقد الفضولي قاصد للأثر ، وهذا غير قاصد لا يوجب فرقاً في الحكم بعد لحوق الإجازة.

المسألة الثالثة : لو أكرهه على بيع عبد معيّن من عبديه اسمه المبارك فباع البشير ، أو أكرهه على بيع الواحد المعيّن فباعه وغيره معاً ، أو أكرهه على بيع واحد غير معيّن منهما فباعهما ، أو أكرهه على بيعهما فباع أحدهما ، أو أكرهه على بيع الدار فباع نصفها ، فالصور أربعة أو خمسة ، فهل هو في الجميع من عقد المكره أو لا في البعض ، أو لا في شي‌ء منها؟

وينبغي الإشارة إلى ضابط كلّي يعرف به حقيقة الحال فيها ، وهو أنّه قد ذكرنا سابقاً أنّ العقد إذا صدر عن الإنسان الكامل كان ظاهراً في قصد اللفظ وقصد المعنى مادّة وهيئة وقصد وقوع الأثر في الخارج ، والإكراه الحامل على إجرائه حيثما تحقّق قرينة مقام تزاحم ظهوره الأخير وتصرفه إلى خلافه بكشفها في نظر العرف عن كون الحامل له على إجرائه إنّما هو خوف الضرر المتوعّد وقصد دفعه لا غيره من الدواعي النفسانيّة ، وهذا هو معنى كشفها عن كراهة وقوع الأثر وعدم طيب النفس والرضا به ، ومن المعلوم ابتناء كشفه عن ذلك ودلالته عليه في نظر العرف بحيث ينهض قرينة صارفة للّفظ عن ظاهره على عدم اكتنافه بخصوصيّة اخرى باعتبار خصوص تزاحمه وتمنعه عن الدلالة على ما ذكر ، ومنشأ الإشكال في الصور المذكورة هو الإشكال في

__________________

(١) المسالك ٩ : ٢٣.

٧٠٨

كون خصوصيّة المقام المكتنفة بالقرينة المذكورة مانعة من دلالتها على الكراهة وانتفاء طيب النفس وعدمه.

وإذا عرفت هذا فنقول :

أمّا الصورة الاولى : فالخصوصيّة المكتنفة بالقرينة في مقام أمثلة هذه الصورة عدول المكره عمّا اكره عليه من بيع العبد المعيّن إلى بيع غيره ، والحقّ فيها إنّها تزاحم دلالة القرينة على الكراهة وانتفاء طيب النفس بالقياس إلى بيع غير المعيّن المكره عليه ، ولذا يصحّ عرفاً أن يقال : إنّه غير مكره في بيع البشير وأنّه مختار فيه ، فالعقد الواقع بالنسبة إليه باقٍ على ظهوره في قصد وقوع الأثر فيكون صحيحاً بلا إشكال.

وأمّا الصورة الثانية : فالخصوصيّة المكتنفة فيها بالقرينة إنّما هو الجمع بين المعيّن المكره عليه وبين غيره بالبيع ، فهل تزاحم دلالة القرينة على الكراهة وانتفاء طيب النفس فيهما معاً أو لا تزاحمها فيهما معاً ، أو تزاحمها بالقياس إلى غير المكره عليه ولا تزاحمها بالنسبة إلى المكره عليه؟ وجوه ، أوجهها الأخير لشهادة الوجدان والصدق العرفي ، فيصحّ أن يقال : إنّه ليس بمكره على بيع البشير ولا يصحّ ذلك بالقياس إلى بيع المبارك ، بل يقال : إنّه مكره عليه ، فيصحّ الأوّل ويفسد الثاني.

لا يقال : إنّ الصحّة والفساد وصفان متضادّان ، والعقد واحد فكيف يتّصف بوصفين متضادّين ، لأنّا نقول : لا منافاة بينهما هنا لتعدّد المتعلّق ، فإنّ الصحّة عبارة عن تأثير العقد في تحقّق الأثر بالنسبة إلى البشير كما أنّ الفساد عبارة عن عدم تأثيره في تحقّق الأثر بالنسبة إلى المبارك ، ومناط تأثيره في الأوّل وعدم تأثيره في الثاني وجود طيب النفس في بيع البشير وانتفاؤه في بيع المبارك ، هذا كلّه فيما إذا باعهما بعقد واحد من باب الصفقة الواحدة.

وأمّا لو باعهما بعقدين على التعاقب ، فإن قدّم بيع الشي‌ء المكره عليه ثمّ باع الآخر فلا إشكال في عدم دلالة القرينة على الكره بالنسبة إلى الثاني فهو ليس من عقد المكره بخلاف الأوّل ، وإن قدم غير المكره عليه ثمّ باع المكره عليه فهل هذه الخصوصيّة تمنع القرينة عن الدلالة مطلقاً نظراً إلى أنّه لو كان الحامل له على بيعه خوف الضرر المتوعّد به وقصد دفعه لناسب تقديمه فالعدول عنه إلى التأخير يكشف عن أنّ الحامل له غيره

٧٠٩

من الدواعي النفسانيّة ، أو لا تمنعها مطلقاً نظراً إلى الصدق العرفي لصحّة أن يقال : إنّه مكره على بيع المبارك وليس بمختار ، أو يفصّل بين ما لو كان بيع غير المكره عليه مقدّماً على بيع المكره عليه محصّلاً لغرض الأمر بإسقاطه المأمور به في نظره فلا يبقى إكراه في بيع المكره عليه فيكون صحيحاً وبين ما لو لم يكن محصّلاً لغرضه في الأمر ببيع المكره عليه فيكون من عقد المكره فيفسد؟ وجوه ، ولا يبعد تقوية الأخير. ويعلم كونه محصّلاً وعدمه باعتبار الخارج ، ولو شكّ فمحلّ إشكال من حيث إفضائه إلى الشكّ في دلالة القرينة على الكراهة وعدمها ، ومرجعه إلى إجمال القرينة وهو ربّما يسري إلى العقد بالنسبة إلى ظهوره في قصد وقوع الأثر كتعقّب الأمر للحظر الموجب لإجماله.

وأمّا الصورة الثالثة : فاستشكله العلّامة في التذكرة (١) وفصّل بعض مشايخنا «بأنّ بيع العبدين إن كان تدريجاً فالظاهر وقوع الأوّل مكرهاً دون الثاني ، مع احتمال الرجوع إليه في التعيين سواء ادّعى العكس أم لا. ولو باعهما دفعةً احتمل صحّة الجميع لأنّه خلاف المكره عليه والظاهر أنّه لم يقع شي‌ء منهما عن إكراه ، وبطلان الجميع لوقوع أحدهما مكرهاً عليه ولا ترجيح ، والأوّل أقوى» (٢).

أقول : وجه ظهور الأوّل أنّ أمر المكره ببيع أحدهما من غير تعيين قرينة مقام تزاحم ظهور العقد بالنسبة إلى بيع الأوّل ، ويدلّ على وقوعه لا عن طيب نفسه ، ولا تدلّ عليه بالنسبة إلى بيع الثاني فيرجع فيه إلى ظاهر اللفظ ، مضافاً إلى أنّه لا يقال عرفاً : إنّه مكره على بيع الثاني بل يقال : إنّه مختار فيه.

ووجه الثاني : وهو احتمال الرجوع إليه في التعيين وإن ادّعى العكس أنّه كما اكره على بيع أحدهما فكذلك يقال عرفاً بعد بيعهما تدريجاً : إنّه كان مكرهاً على بيع أحدهما وإنّما يكون كذلك باعتبار انتفاء طيب النفس عن أحدهما وهو أمر قلبي لا يعلم إلّا من قبله ، فيقبل قوله في التعيين عملاً بعموم قبول دعوى المدّعي فيما لا يعلم إلّا من قبله. وهذا أوجه.

ووجه الثالث : وهو صحّة الجميع أنّه كان مكرهاً على بيع أحدهما ، والواقع منه في

__________________

(١) التذكرة ١٠ : ١٤.

(٢) المكاسب ٣ : ٣٢٤.

٧١٠

الخارج بيعهما معاً وليس بمكره عليه عرفاً ، فيرجع إلى أصالة الاختيار وظهور اللفظ في قصد وقوع الأثر.

ووجه الرابع : وهو بطلان الجميع أنّه وإن كان مكرهاً على بيع أحدهما إلّا أنّ بيعهما معاً لا ينافي صدق أنّه كان مكرهاً على بيع أحدهما ، ولكنّه غير معيّن ولا مرجّح ، فيحكم ببطلان الجميع لعدم إمكان الترجيح بلا مرجّح.

وفيه : نظر ، لإمكان الرجوع إليه في التعيين ، لأنّ انتفاء طيب نفسه عن بيع أحدهما لا يعلم إلّا من قبله فيقبل قوله وهو المرجّح. فالأقوى صحّته في أحدهما ويرجع إليه في التعيين. ولو ادّعى الكراهة فيهما معاً لم يقبل ، لعدم دلالة القرينة عليه فيبقى ظهور اللفظ سليماً. ولو امتنع عن التعيين يجبره الحاكم.

وأمّا الصورة الرابعة : فقال شيخنا «بأنّه إن باع النصف بعد الإكراه على الكلّ بقصد النصف الآخر امتثالاً للمكره ـ بناءً على شمول الإكراه لبيع المجموع دفعتين ـ فلا إشكال في وقوعه مكرهاً عليه ، وإن كان لرجاء أن يقنع المكره بالنصف كان أيضاً إكراهاً ، لكن في سماع دعوى البائع ذلك مع عدم الأمارات نظر» (١) انتهى.

لعلّ وجه النظر احتمال وقوع بيع النصف لداع آخر من الدواعي النفسانيّة الخارجة عن الإكراه. ويشكل بأنّ هذا الاحتمال مع تسليم شمول الإكراه لبيع المجموع دفعتين متدرّجتين ممّا لا يلتفت إليه ، لأنّ مبناه على ظهور أمر المكره من جهة إطلاق البيع في إرادة بيع المجموع كيفما اتّفق سواء كان دفعةً أو دفعتين ، وهذا الظهور كافٍ أمارة على صدق دعوى البائع ، فإنّ العدول عن البيع دفعة إليه (٢) دفعتين بمقتضى الظهور المذكور لا يكون إلّا لقصد بيع النصف الآخر فيما بعد ، أو لرجاء أن يقنع المكره بالنصف الأوّل ، والاحتمال الآخر خلاف الظاهر. ومثل هذين الوجهين بيعهما معاً دفعتين متعاقبتين من غير فصل بينهما.

المسألة الرابعة : قد ظهر من تضاعيف كلماتنا السابقة أنّ الإكراه الرافع للحكم التكليفي أخصّ من الإكراه الرافع للحكم الوضعي وهو الصحّة في المعاملات ، فإنّ

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

(٢) كذا في الأصل ، والظاهر : إلى.

٧١١

الأوّل يعتبر فيه البلوغ إلى حدّ الإلجاء والاضطرار بخلاف الثاني ، فلو اكره على أحد الأمرين من «شرب الخمر أو أكل لحم الخنزير» فارتكب إحدى الخصوصيّتين كان من الإكراه الرافع لحرمته ، من جهة الاضطرار إليه باعتبار الاضطرار إلى القدر المشترك ، فإنّ القدر المشترك بين المحرّمين محرّم ولا مندوحة عنه من جهة الفرار عن الضرر المتوعّد به ، فاختيار أحد الخصوصيّتين لا يرفع أثر الإكراه ، بخلاف ما لو قال : «اشرب الخمر أو اشرب الماء وإلّا قتلتك» فاختار شرب الخمر فإنّه حينئذٍ فعل محرّماً فكان آثماً وإن كان مكرهاً على القدر المشترك بينهما ، فإنّ القدر المشترك بين المحرّم والمباح ليس بمحرّم فلم يضطرّ إلى فعل المحرّم ، لأنّ له مندوحة عنه وهو أن يختار للفرار عن الضرر المتوعّد به فعل المباح.

ونحوه ما لو قال : «بع دارك أو اشرب الخمر» فاختار شرب الخمر فإنّه لم يضطرّ إليه وإن كان مكرهاً عليه لمكان المندوحة باختيار البيع فيكون آثماً ، فهذا ممّا لم يتحقّق فيه الإكراه الرافع للحكم التكليفي ، وأمّا لو اختار البيع فهو من الإكراه الرافع للحكم الوضعي لأنّه إن اختار بدله يترتّب عليه الضرر الاخروي وهو العقاب ، وإن اختار ترك البدلين معاً يترتّب عليه الضرر الدنيوي وهو الضرر المتوعّد به فلا محيص له عن البيع دفعاً للضررين فيكون مكرهاً عليه عرفاً ولغة ، لأنّ الحامل له الفرار من بدله ووعيد المكره المضرّين معاً.

ومن هذا الباب ما لو اكره على البيع أو إعطاء مال غير مستحقّ عليه بأن يقول : «بع دارك أو أعطني مائة درهم وإلّا قتلتك» فاختار البيع فإنّه إنّما فعله فراراً عن الضرّ المتوعّد به وأخذ المال الّذي هو أيضاً ضرر غاية الأمر هنا كون الضررين دنيويّين ، بخلاف ما لو اكره على البيع أو إعطاء مال مستحقّ عليه كأداء دَين أو إنفاق زوجة وما أشبه ذلك ، كأن يقول : «بع دارك أو أدّ دَينك أو أنفق على زوجتك وإلّا قتلتك» فاختار البيع فإنّه حينئذٍ ليس بمكره عليه ، لأنّه ليس للفرار عن الضررين ضرر البدل وضرر الوعيد ، فإنّ البدل وهو أداء الدين أو إنفاق الزوجة طريق تخلّص عن الضرر المتوعّد ، به فإذا اختار البيع كان مختاراً فيه.

وفيه نظر : لأنّ أداء الدين أو إنفاق الزوجة بدل لا أنّه مسقط ، فاختيار كلّ منهما

٧١٢

لا يخرجه عن صدق كونه مكرهاً على أحدهما وإن كان أحدهما حقّاً والآخر غير حقّ ، ولذا لو اختار أداء الدين أو إنفاق الزوجة يقال : إنّه أداء دَين أو إنفاق زوجة حصل لا عن طيب نفس ، ولزم منه أنّه لو اختار البيع كان واقعاً لا عن طيب نفسه.

وأمّا ما يقال : من أنّه لو اكره على بيع مال أو إيفاء مال مستحقّ لم يكن إكراهاً ، لأنّ القدر المشترك بين الحقّ وغيره إذا اكره عليه لم يقع باطلاً وإلّا لوقع الإيفاء أيضاً باطلاً ، فإذا اختار البيع صحّ لأنّ الخصوصيّة غير مكره عليها والمكره عليه وهو القدر المشترك غير مرتفع الأثر.

ففيه : أنّ إيفاء الدين لكونه أداءً لحقّ الغير لم يؤثّر الكراهة وانتفاء طيب النفس في بطلانه ، والمفروض عدم كونه من قبيل العقد ليكون الرضا وطيب النفس معتبراً في صحّته ، بخلاف البيع لو اختاره فإنّه عقد والكراهة رافعة لصحّته ، إلّا أن يلتزم فيه بعدم الكراهة ، وفيه منع واضح ، فكون أحد البدلين حقّاً لا يخرج القدر المشترك بينهما عن حدّ الإكراه ، فيكون الحامل له على فعل كلّ منهما الفرار عن الضرر المتوعّد به لا غير ، وهو آية الكراهة وانتفاء طيب النفس.

نعم لو أكرهه على غير حقّ مع التوعيد بحقّ ، كأن يقول : «بع دارك وإلّا أخذت منك دَيني أو ديتي» فهو خارج عن موضوع الإكراه رأساً ، لعدم كون ما توعّد به مضرّاً به ، فلا يكون حامله على البيع هو الفرار عن الضرر ، بل حبس حقّ الغير أو تأخير أدائه وهو من الدواعي النفسانيّة الخارجة عن الإكراه الموجبة لتحقّق الرضا وطيب النفس في اختيار البيع.

ويمكن أن يقال في الفرع السابق : إنّ الحامل له على اختيار البيع هو المجموع المركّب من الفرار عن الضرر المتوعّد به ومنع ذي الحقّ عن حقّه ، وهذا أمر ربّما يرفع الكراهة ويوجب طيب النفس في البيع ، وغاية ما هنالك الشكّ فيرجع إلى أصالة الاختيار وظهور اللفظ لسلامته عمّا يزاحمه من طرف القرينة لمزاحمة الخصوصيّة لها ، فالمتّجه حينئذٍ وقوع البيع صحيحاً.

المسألة الخامسة : في الإكراه بحقّ كما لو أكره الحاكم من عليه حقّ للغير على بيع مال أو ملك أو عقار له في إيفاء حقّ الغير من أداء دَين أو ردّ دية أو إنفاق زوجة أو

٧١٣

نحو ذلك من الأمثلة الّتي ذكرها في المسالك ، فالمصرّح به في كلام جماعة منهم ثاني الشهيدين وقوع البيع صحيحاً من حينه ، وظاهرهم بل هو صريح بعضهم عدم وقوفه على لحوق رضا المالك وإجازته. ووجّه بأنّ رضا المالك هنا ملغى ومرجعه إلى تخصيص أدلّة اشتراط الصحّة برضاه ، أو لأنّ رضا الحاكم قائم مقام رضاه ، كما أنّ رضا الوليّ في بيع مال الصبيّ ورضا الوكيل في بيع مال الموكّل قائم مقام رضا المولّى عليه والموكّل.

وقد يستشكل بأنّ صحّة البيع مع عدم رضا المالك مقارناً ولاحقاً ممّا لم نتحقّق معناه ، بل الوجه هنا تولّي الحاكم للبيع لا أمر المالك به لأنّه وليّ الممتنع ، فإنّ المالك لمّا امتنع من إيفاء حقّ الغير وهو متوقّف على بيع مال له فيتولّاه الحاكم.

وظنّي أنّ هذا الاستشكال ممّا لا يرجع إلى محصّل ، لأنّ رضا الحاكم إذا صلح أن يؤثّر في صحّة العقد الصادر منه مع عدم رضا المالك فيصلح أن يؤثّر في صحّة العقد الصادر من المالك مكرهاً عليه ، ودليل الملازمة عموم الولاية فإنّه على تقدير ثبوته يقتضي التسوية بين المقامين. والظاهر أنّ مراد الجماعة من الاستثناء بيان أنّ الإكراه بحقّ الصادر من الحاكم لا يؤثّر في عدم صحّة العقد المكره عليه ووقوفه على لحوق الرضا المتأخّر من المالك ، لا بيان أنّ الحاكم ليس له تولّي العقد ، نعم يتعيّن عليه التولّي إذا امتنع المالك من المباشرة مع الإكراه أيضاً.

المسألة السادسة : عن الفاضلين (١) والشهيدين (٢) وفخر الإسلام (٣) وغير [ه] أنّ المكره إذا رضي بما فعل نفذ ويترتّب عليه الأثر ، ونسب (٤) إلى المشهور بين المتأخّرين ، ونحوه ما في مفتاح الكرامة (٥) إلّا أنّه أطلق ، وفي الرياض (٦) كما عن الحدائق (٧) «ظاهرهم الاتّفاق عليه» ونقل دعوى [الإجماع] عن شرح القواعد (٨) أيضاً. خلافاً للمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة قائلاً : «بأنّ الظاهر عدم صحّته بذلك» (٩) وعن

__________________

(١) كما في الشرائع ٢ : ١٤ ، والقواعد ٢ : ١٧ ، والتحرير ١ : ١٦٤.

(٢) كما في الدروس ٣ : ١٩٢ ، والمسالك ٣ : ١٥٥ ـ ١٥٦ ، الروضة ٣ : ٢٢٦.

(٣) الإيضاح ٢ : ٤١٣.

(٤) المكاسب ٣ : ٣٢٨.

(٥) مفتاح الكرامة ١٢ : ٥٥٤.

(٦) الرياض ٨ : ٢١٨.

(٧) الحدائق ١٨ : ٣٧٣.

(٨) شرح القواعد ٢ : ٤٣. (٩) مجمع الفائدة ٨ : ١٥٨.

٧١٤

الكفاية «أنّ فيه إشكالاً» (١) وتظهر عن المحكيّ عن جامع المقاصد التأمّل فيه قائلاً : «إن كانت المسألة إجماعيّة فلا بحث ، وإلّا فللنظر فيها مجال» (٢).

حجّة المشهور على ما يستفاد من كلماتهم وجود المقتضي للصحّة ، وفقد مانعه :

أمّا الأوّل : فالإطلاقات والعمومات مثل «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» و «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فإنّ موردها ما اجتمع شرائط الصحّة رضا المالك وطيب نفسه ، وعقد المكره الملحوق به رضا المالك فيشمله الإطلاقات والعمومات.

وأمّا الثاني : فلأنّه لا مانع إلّا دعوى اعتبار مقارنة للعقد.

ويدفعها أوّلاً : النقض بعقد الفضولي لانتفاء المقارنة فيه أيضاً.

وثانياً : أنّ اعتبار المقارنة ممّا لا شاهد له من الأدلّة بحيث ينهض لتقييد المطلقات وتخصيص العمومات ، فيرجع إلى الأصل المقرّر لنفي الشرطيّة في المعاملات.

وإلى هذا الطريق من الاستدلال ينحلّ ما نقله السيّد في الرياض من التعليل «بأنّه بالغ رشيد قاصد إلى اللفظ دون مدلوله ، وإنّما منع عدم الرضا فإذا زال أثّر العقد أثره كعقد الفضولي» (٣).

وقد يقرّر بأنّه عقد حقيقي فيؤثّر أثره مع اجتماع باقي شرائط البيع وهو طيب النفس ، وايّد بأدلّة نفوذ عقد الفضولي بلحوق الرضا والإجازة لوحدة المناط وهو الرضا المتأخّر الغير المقارن ، بل بفحوى تلك الأدلّة فإنّ الإجازة المتأخّرة في عقد الفضولي عبارة عن إمضاء المالك الغير ، ومعناه طيب النفس بمضمونه وإذا أثّر طيب النفس بمضمون عقد الغير في صحّته فطيب نفسه بمضمون عقده أولى بالتأثير.

وتوهّم : وجود الفارق وهو أنّ عقد الفضولي غير خالٍ عن الرضا وطيب النفس رأساً وهو رضا العاقد وطيب نفسه بخلاف ما نحن فيه لخلوّه عنهما رأساً ، يدفعه : أنّ الشارع لم يعتبر رضا غير المالك ، لا على أنّه مؤثّر تامّ ، ولا على أنّه جزء للمؤثّر فيكون ملغى على معنى كون وجوده بمثابة عدمه ، فهو مع عقد المكره يتساويان من حيث خلوّهما عن مقارنة الرضا وطيب النفس.

__________________

(١) الكفاية : ٨٩.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٦٢.

(٣) الرياض ٨ : ٢١٨.

٧١٥

نعم هاهنا كلام آخر وهو دعوى اعتبار المقارنة في مفهوم العقد ، ويلزمه أن لا يكون عقد الفضولي عقداً على الحقيقة ، ولا أظنّ أحداً يرضى بذلك ، ويردّه مضافاً إلى ذلك منع اعتبارها في مفهومه ، فإنّ العقد مفهومه الربط المعنوي الّذي يوجده المتعاقدان فيما بينهما ، ويكفي فيه التلفّظ بالصيغة مع القصد إليه وإلى المعنى المادّي والإنشاء والرضا بوقوع الأثر وأن حصل ذلك الأخير متأخّراً عن التلفّظ.

لا يقال : إنّ الربط لا يتحقّق إلّا بعد حصول الارتباط وهو لا يحصل إلّا بوقوع الأثر في الخارج ، والمفروض أنّ وقوعه في الخارج إنّما هو حين لحوق الرضا فيكون الربط المستتبع للارتباط المتوقّف على وقوع الأثر متحقّقاً حين الرضا ، وقضيّة ذلك أن يكون العقد هو الرضا لا غير ، وهذا باطل بضرورة من العرف واللغة ، لأنّ تحقّقه من ذلك الحين مسلّم ، ولكن لا لأنّ الرضا نفس العقد بل لأنّه جزء أخير من العلّة التامّة المركّبة من التلفّظ والقصود المذكورة ، وبدون البعض لا ربط وإن حصل الرضا وطيب النفس بوقوع الأثر في الخارج.

ومستند القول بمنع نفوذ عقد المكره بلحوق الرضا على ما يوجد في كلماتهم نقلاً وتحصيلاً امور :

منها : النقض بما يصدر من الهاذل ، مع أنّهم لم يقولوا بصحّته بعد لحوق الرضا.

ومنها : قوله تعالى : «إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» (١) يدلّ على اعتبار كون العقد واقعاً عن التراضي.

ومنها : النبويّ (٢) المشهور الدالّ على رفع أحكام العمل المكره عليه ، ومنه عقد المكره ، ومن حكمه المرفوع بالإكراه نفوذه بلحوق الرضا.

وفي الجميع من الضعف ما لا يخفى :

أمّا الأوّل : فلأنّ ما يصدر من الهاذل وهو فاعل السخريّة والتهكّم خالٍ عن قصد المعنى المادّي أو عن قصد الإنشاء على وجه منع الخلوّ من حين التلفّظ ، فهو خالٍ عمّا هو العمدة من أركان العقد والرضا اللاحق لا يعطيه الوجود حتّى يؤثّر ، بخلاف عقد المكره الّذي قد عرفت سابقاً أنّه لخلوّه عن الرضا وطيب النفس صار محلّ كلام عندهم ،

__________________

(١) النساء : ٢٩.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٤٩ / ٢ ، ب ٣٠ أبواب الخلل ، الفقيه ١ : ٣٦ / ١٣٢.

٧١٦

لأنّ قرينة المقام وهو الفرار عن الضرر المتوعّد به لا تزاحم من ظهورات اللفظ إلّا ظهوره في الرضا وطيب النفس بمضمونه ، فهو قبل لحوق الرضا متأهّل للصحّة والنفوذ.

وأمّا الثاني : فلأنّ كون التجارة واقعة عن تراضٍ صادقة مع الرضا المتأخّر ، إذ التجارة تتحقّق من حينه ، مع منع دلالة الآية على عدم صحّة ما لم يكن وقوعه عن تراضٍ ، لأنّها لو دلّت لدلّت باعتبار مفهوم الوصف وهو خلاف التحقيق ، مع أنّه عند معتبريه مقيّد بعدم ورود القيد مورد الغالب ، ولذا لا مفهوم في قوله تعالى : «وَرَبائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ» (١) ودعوى كونه هنا للاحتراز لا شاهد لها. وتوهّم الدلالة من جهة مفهوم الحصر ، يندفع بأن لا حصر في الآية ، لأنّ الاستثناء منقطع غير مفرّغ لكون المستثنى منه مذكوراً وعدم كون المستثنى من جنسه.

وأمّا الثالث : فلظهور الرواية في رفع المؤاخذة أو رفع الأحكام الموجبة للمؤاخذة ، وحاصل معناه أنّ الأعمال الّتي إذا صدرت في غير مقام الإكراه يؤاخذ بها ، فهي بحيث إذا صدرت عن إكراه لا يؤاخذ بها كالأفعال المحرّمة المكره عليها ، وهو كناية عن كون الإكراه رافعاً لحرمتها ، وهذا المعنى لا يشمل عقد المكره ، إذ ليس الكلام في أنّ عقد المكره محرّم أم لا؟ وأنّه آثم في فعله وأنّه يؤاخذ عليه أم لا؟ بل في أنّه إذا لحقه الرضا هل ينفذ أو لا؟ فلا يكون مشمولاً لحديث رفع المؤاخذة أو الأحكام الموجبة للمؤاخذة.

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : هل يعتبر في الرضا اللاحق بالعقد لحوقه بسرعة وبلا فصل زماني أو لا ، بل إذا لحقه بعد فصل زماني طال أم لا؟ ظاهر إطلاق الأكثر وهو ظاهر النصوص الثاني.

وربّما قيل بالأوّل ولازمه بطلان العقد بتخلّل الفصل بينه وبين الرضا ، تعليلاً بأنّ الكراهة المتخلّلة بينه وبين الرضا يجري مجرى الردّ في عقد الفضولي ، وكما أنّ الردّ مبطل لعقد الفضولي ولا ينفعه الإجازة بعد الردّ فكذلك الكراهة مبطلة لعقد المكره فلا ينفعه الرضا بعدها.

وفيه : أنّ مبنى نفوذ عقد المكره بعد لحوق الرضا على كون الرضا شرطاً لا على كون الكراهة مانعة وإلّا لبطل من حينه ، ومعنى عدم كونها مانعة أن لا تأثير لها في

__________________

(١) النساء : ٢٣.

٧١٧

البطلان ، فكيف تكون جارية مجرى الردّ في الفضولي؟

لا يقال : القدر المسلّم من عدم المانعيّة هو في الكراهة المقارنة للعقد ، وكلامنا في الكراهة المتأخّر عنه المتخلّلة بينه وبين الرضا ، لأنّ مانعيّة الكراهة المتأخّرة على معنى كونها مؤثّرة في البطلان مع تسليم عدم كونها مؤثّرة حال العقد يحتاج إلى دليل دلّ على أنّ الشارع جعلها مؤثّرة ، ولا دليل عليه ، والأصل عدمه ، بل عدم تأثيرها السابق مستصحب.

لا يقال : كون هذه الكراهة مؤثّرة في البطلان باعتبار ما يقارنها وهو عدم الرضا الّذي هو عدم شرط ولا ريب أنّ المشروط عدم عند عدم شرطه ، لابتنائه على كون شرط الصحّة هو الرضا المتّصل بالعقد وهو أوّل المسألة ، بل الشرط هو أصل الرضا قارن العقد أو لا ، اتّصل به أو لا ، طال الزمان الفاصل أو لا؟.

الثاني : إنّما يبطل عقد المكره أي يخرج عن تأهّله للصحّة وترتّب الأثر كعقد الفضولي بالردّ ، وتفصيل القول في الردّ وما به يتحقّق الردّ يأتي في باب الفضولي ، وبيانه هنا على وجه الاختصار أنّ الردّ إمّا قولي كقول «رددت العقد أو فسخته أو أبطلته أو أفسدته أو رفعته» أو فعلي وهو أن يفعل المالك في المبيع مثلاً ما ينافي وقوع أثر العقد فيه وهو نقل الملك ، كإتلافه أو نقله إلى الغير أو عتقه أو تزويجه وما أشبه. وقد يعدّ من الردّ الامتناع من الرضا ، وليس ببعيد.

الثالث : الكلام في كون الرضا المتأخّر المصحّح لعقد المكره ناقلاً أو كاشفاً بالكشف الحقيقي أو الحكمي كالكلام في إجازة الفضولي ، وتحقيق القول في ذلك وترجيح أحد الأقوال يأتي مشروحاً في باب الفضولي ، ولا بأس بالإشارة إلى ما هو الحقّ هنا ، فنقول : إنّ الأصل والظاهر يساعدان على النقل ، أمّا الأصل فهو أصالة عدم حصول الملك وعدم ترتّب الأثر إلى أن يلحقه الرضا ، وأمّا الظاهر فظهور النصّ كتاباً وسنّة كقوله تعالى : «إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» (١) وقوله عليه‌السلام : «لا يحلّ مال امرئ إلّا عن طيب نفسه» (٢) لظهورهما في كون التجارة وحلّيّة المال ناشئة عن نفس الرضا ، لا عن أمر منتزع عنه عارض للعقد ، وهو تعقّبه للرضا ، كما تكلّف القائل (٣) بالكشف

__________________

(١) النساء : ٢٩.

(٢) عوالي اللآلئ ٢ : ١١٣ / ٣٠٩.

(٣) المكاسب ٣ : ٣٣٤.

٧١٨

كونه شرطاً ، تخلّصاً عن محذور تأخّر الشروط عن المشروط.

وقد يقال : إنّ مقتضى الأصل هنا وفي الفضولي هو الكشف ، لأنّ مقتضى الرضا بالعقد السابق هو الرضا بما أفاده من نقل الملك حين صدوره ، فأمضاه الشارع للرضا بهذا المعنى وهو النقل من حين العقد ، وترتّب الآثار عليه لا يكون إلّا بالحكم بحصول الملك في زمان النقل.

وفيه : منع كون العقد السابق مفيداً لنقل الملك حين صدوره ، بل المفيد له على هذا الوجه هو العقد الجامع للشروط الّتي منها الرضا المقارن له وهو فاقد له ، فلم يفد حين صدوره نقل الملك وإن اشتمل على قصد إنشاء نقله ، بل هو متأهّل لأن يؤثّر في نقل الملك بعد الرضا ، فالرضا عبارة عن الرضا بوقوع نقل الملك في الخارج ، وقولنا «في الخارج» ظرف لوقوع نقل الملك وإمضاء الشارع تابع له ، ومعناه حكم الشارع بوقوع نقل الملك في الخارج على حسبما قصده المالك.

وقد يستدلّ على القول بالكشف بأنّه على القول بالنقل «ما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد» وهو باطل لضابطة أنّ العقود تابعة للقصود ، وبيان الملازمة أنّ العاقد قصد نقل الملك حين العقد وهو على النقل غير واقع ، وما وقع من نقل الملك حين الرضا غير مقصود.

وهذا أضعف من سابقه ، لابتنائه على الخلط بين قصد إنشاء نقل الملك وقصد وقوع نقل الملك في الخارج ، وما قصده العاقد هو الأوّل لا الثاني ، فلا يلزم ما ذكر.

وأضعف من ذلك ما استدلّ به أيضاً ، من أنّ الرضا يؤثّر في صحّة العقد ، وظرف الصحّة هو العقد لا الزمان المتأخّر بل الزمان المتأخّر ظرف للرضا.

وفيه : أنّ الصحّة عبارة عن وقوع نقل الملك في الخارج والرضا يؤثّر فيه ، لا بمعنى أنّه المؤثّر التامّ بل بمعنى أنّه جزء المؤثّر باعتبار كونه شرطاً ، والمؤثّر التامّ هو العقد المقصود به التلفّظ والمعنى والإنشاء الملحوق به الرضا ، فزمان الرضا من تتمّة زمان المؤثّر التامّ ، ونقل الملك حاصل فيه لا في زمان العقد الخالي عن الرضا.

الرابع : هل يعتبر في الرضا المتأخّر اللاحق بالعقد أن يكون باللفظ ، أو يكفي الرضا النفساني المنقدح في الضمير ، وعلى الأوّل فهل يعتبر في اللفظ كونه عربيّاً؟ احتمالات ، أجودها الأوّل ، وهو كفاية الرضا النفساني وعدم اعتبار لفظ معه ، لأنّ اعتبار الرضا في

٧١٩

العقد باعتبار كونه من شروط الصحّة ، والشرط نفس الرضا لا اللفظ الدالّ عليه ، ولذا لا يعتبر في الرضا المقارن للعقد لفظ آخر سوى لفظ العقد ، فالمكره إذا انقدح في نفسه الرضا نفذ عقده فيما بينه وبين الله سبحانه ووجب عليه أن يرتّب عليه الآثار. نعم لمّا كان رضاه أمراً نفسانيّاً لا يطّلع عليه غيره إلّا بواسطة ما يكشف فيعتبر لاطّلاع غيره عليه حتّى يرتّب غيره أيضاً آثاره عليه وجود كاشف عنه ، ولا ينحصر الكاشف في اللفظ بل كثيراً ما يكون أمراً آخر غير اللفظ ، كالتصرّف في الثمن المقبوض ، ومطالبة الثمن الغير المقبوض ، وتسليم المبيع أو الثمن وما أشبه ذلك. نعم قد ينحصر الكاشف في اللفظ ويسمع دعواه في الرضا ، لأنّه لا يعلم إلّا من قبله.

الخامس : إذا مات العاقد المكره قبل الرضا بما فعله ، فهل يبطل ويخرج عن تأهّله للصحّة لكون الموت كالردّ مبطلاً أو لا؟ ويظهر الثمرة في رضا الوارث إذا لحق عقد المورّث فهل يجدي في نفوذه أو لا؟ ومبنى المسألة على أنّ الرضا المصحّح لعقد المكره هل هو كالخيار لذي الخيار ينتقل بالموت إلى الوارث أو لا؟ والّذي يساعد عليه النظر هو الثاني ، لعدم كون الرضا من قبيل الحقوق حتّى ينتقل بالإرث ، بل هو كإجراء العقد على الملك والمال ، ونقله إلى الغير وسائر التصرّفات فيه من توابع الملك والسلطنة على المال ، ولذا لا يقبل الانتقال إلى الغير بالصلح ولا السقوط بالإسقاط. فتعيّن بطلان العقد بالموت ، لتعذّر لحوق الشرط ، والمشروط عدم عند عدم الشرط.

السادس : هل للطرف الغير المكره أن يفسخ العقد قبل لحوق رضا المكره ، أو لا؟ الظاهر أنّه على القول بالنقل لا ينبغي التأمّل في الفسخ إذ لا مانع منه إلّا اللزوم وهو فرع على الصحّة وهي غير حاصلة بالفرض ، بخلافه على القول بالكشف لأنّ العقد متزلزل بين الصحّة والفساد باعتبار أنّ الشرط على هذا القول هو الأمر الاعتباري المعبّر عنه بتعقّب العقد للرضا ، وهو إمّا حاصل في علم الله فالعقد حينئذٍ صحيح لازم في الواقع ولا يقبل الفسخ ، أو غير حاصل في علم الله فالعقد فاسد ولا فائدة في فسخه ، فلو فسخ والحال هذه لا يمكن الحكم بانفساخه لكونه دائراً بين اللزوم والفساد فلا تأثير للفسخ على التقديرين ، وسيأتي مزيد تحقيق في نظيره في باب الفضولي.

٧٢٠