ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

النكاح أو قبوله لغير بإذن الوليّ.

وممّا يرشد إلى ما بيّنّاه من الظهور في نفي الجواز المطلق ما في الروايات من تعليق جواز أمره في الشراء والبيع ببلوغه تسع سنين في الجارية وخمس عشر سنة في الغلام ، فلو كان لإذن الوليّ أو إجازته مدخليّة في جوازه قبل البلوغ وجب تعليقه بكلّ من الأمرين ، بأن يقول : لا يجوز أمره حتّى يجيزه وليّه ، أو يبلغ خمس عشر سنة ، لورودها في مقام الحاجة وعدم جواز تأخير البيان عن وقتها.

وقد يقال : بأنّه لا يبعد بناء المسألة على أنّ أفعال الصبيّ وأقواله شرعيّة أم لا؟ كما عن المحقّق الثاني «فحكم بأنّها غير شرعيّة وأنّ الأصحّ بطلان العقد» (١) وهذا غير واضح ، إذ لو اريد بأفعاله وأقواله ما يكون من قبيل المعاملات من العقود والإيقاعات والإقرارات فشرعيّتها عين المسألة فبناء المسألة عليها ممّا لا معنى له ، وإن اريد ما يكون من قبيل العبادات ففيه منع ابتناء المسألة على شرعيّة عباداته ممنوع ، لأنّ معنى شرعيّة عباداته على القول بها رجحان عباداته عند الشارع ومطلوبيّتها لديه بحيث يترتّب عليها الثواب ويعود الثواب إلى أبويه ، وهذا لا يلازم شرعيّة عباداته وضعاً في العقد أو الإيقاع بحيث يترتّب عليها الآثار الشرعيّة أصلاً ، بل الملازمة يحتاج ثبوتها إلى دليل عليها من نصّ أو إجماع والمفروض انتفاؤه.

واستدلّ أهل القول بصحّة عقده إذا بلغ عشراً أوإذا كان مميّزاً مطلقاً بوجوه غير تامّة :

منها : إطلاقات أدلّة صحّة البيع والشراء وغيره من العقود ، كقوله تعالى : «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» وقوله عليه‌السلام : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» ونحوهما عدا قوله تعالى : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فإنّه خطاب تكليفي يستحيل توجّهه إلى الصبيّ ، فلا يصحّ الاستدلال بعمومه على صحّة عقوده.

وتوهّم : أنّه يتضمّن حكمين : تكليفي وهو وجوب الوفاء ، ووضعي وهو الصحّة ، والمستحيل توجّهه إلى الصبيّ هو الأوّل دون الثاني ، فيجوز الاستدلال به بالنسبة إلى الثاني ، أو أنّ الأمر هنا إرشادي معرّى عن الطلب ، فالمقصود به الإرشاد إلى اللزوم

__________________

(١) جامع المقاصد ٥ : ١٩٤.

٦٨١

المقابل للجواز اللذين هما من الأحكام الوضعيّة فلا مانع من شموله للصبيّ فيصحّ الاستدلال به حينئذٍ.

يدفعه : بأنّ الحكم الوضعي تابع ، ومن المستحيل انفكاكه عن متبوعه ، فثبوت أحدهما يستلزم ثبوت الآخر ونفيه يستلزم نفيه ، فالتفكيك بينهما غير صحيح. وكما أنّ توجيه التكليف إلى الصبيّ غير صحيح فكذلك توجيه الخطاب إليه ولو كان إرشاديّاً غير صحيح ، مع أنّ قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» قبل قوله : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» قرينة واضحة على أنّ الخطاب مع البالغين الكاملين الموصوفين بالإيمان فلا يدخل فيه الأطفال.

وفيه : مع أنّ آية «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» أيضاً خطاب تكليفي سيّما مع ملاحظة عطف «وَحَرَّمَ الرِّبا» يجب الخروج عن الإطلاق أو العموم بالروايات الخاصّة المعتضدة بالإجماعات المنقولة والشهرة العظيمة.

ومنها : قوله تعالى : «وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» (١) فإنّه تعالى أمر بدفع أموال اليتامى إليهم عند استيناس الرشد وهو يعمّ ما قبل البلوغ لأنّ الرشد كثيراً يحصل قبله.

وفيه : ابتناء الدلالة على الوجه المذكور على جعل «حتّى» عاطفة مع تقدير ما يكون معطوفاً عليه قبلها بحيث يكون ما بعدها جزءاً ممّا قبلها المقدّر ليكون التقدير « ابْتَلُوا الْيَتامى في جميع أوقاتهم حتّى وقت بلوغهم النكاح فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً في أيّ وقت من هذه الأوقات فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ » وهذا غير واضح ، حيث لم نقف من أهل العربيّة ولا من أهل التفسير أنّه التفت إلى هذا الاعتبار مع استلزامه للحذف والتقدير الّذي ينفيه الأصل ويأباه ظهور الهيئة الكلاميّة في عدم حذف شي‌ء من أجزائه ، بل الوجه أنّها إمّا جارّة للغاية ويكون «إذا» بعدها في محلّ الجرّ بها كما عن ابن مالك في هذه الكلمة إذا دخلت على «إذا» الشرطيّة ، ومنه قوله تعالى : «وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها» (٢) فيكون تقدير الآية « وَابْتَلُوا الْيَتامى إلى وقت بلوغهم النكاح فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ » ويكون

__________________

(١) النساء : ٦.

(٢) الزمر : ٧١.

٦٨٢

الفاء للتعقيب بلا مهلة ، ومعناه أنّه إن آنستم منهم في وقت بلوغهم النكاح رشداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ، أو ابتدائيّة للدلالة على كون ما بعدها كلاماً مستأنفاً مع كون إذا في محلّ النصب بشرطها أو جوابها كما عن الجمهور ، واختاره ابن هشام في هذه الكلمة إذا دخلت على إذا ويكون تقدير الآية حينئذٍ « ابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ في ذلك الوقت رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ » بتقريب ما عرفت من كون الفاء للتعقيب بلا مهلة ، ويكون قوله : «فَادْفَعُوا» جواباً بالشرطين ، نظير ما لو قيل : إذا جاءك زيد فإن سلّم عليك فأكرمه ، فالآية على التقديرين تدلّ على وجوب دفع أموال اليتامى إليهم بشرطين «البلوغ والرشد» كما فهمه وصرّح به الطبرسي في مجمع البيان (١) فلا دلالة فيها على مطلوب المستدلّ.

وأمّا ما قد يقال في توجيه الاستدلال بها : من أنّه تعالى أمر باختبار اليتامى وامتحانهم لاستعلام رشدهم وهو إنّما يحصل بالبيع والشراء ، فأمره تعالى باختبارهم بالبيع والشراء يقتضي صحّة ما صدر منهم من الأمر ، إذ لا معنى للأمر باختبارهم بذلك مع عدم وقوعه صحيحاً. وهذا أضعف من سابقه ، لعدم انحصار طريق الاختبار في ذلك ، بل له طرق كثيرة يعرفها أهل الاختبار.

ومنها : الرواية المرسلة المتقدّمة عن الشيخ في المبسوط.

وفيه : أنّها ضعيفة بالإرسال ، وإعراض الأصحاب أو المعظم عنها ، وبأنّ الراوي لها ـ وهو الشيخ أيضاً ـ لم يعمل بها كما عرفت.

ومنها : السيرة المستمرّة المستقرّة على أنّ الصبيان يتعاملون في الأسواق ويبيعون ويشترون فتدلّ على صحّة جميع ذلك منهم.

وفيه : أنّ السيرة إن اريد بها سيرة الصبيان بأنفسهم فهي ليست بشي‌ء ، وإن اريد بها سيرة البالغين المكلّفين بدعوى استقرارها على المعاملة مع الأطفال ببيع أو شراء ، ففيه : أنّ السيرة في محلّ ثبوتها إجماع عملي ولا إجماع هنا ، إذ المتعاملون مع الأطفال ليسوا إلّا جمعاً من العوامّ المتسامحين في دينهم غير مبالين من المعاملات الفاسدة

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

٦٨٣

وأكل الأموال المحرّمة مع احتراز الصلحاء المتّقين المتورّعين العارفين للمسائل وكذلك أهل العلم والفقهاء عن المعاملة مع الأطفال ، حتّى أنّ العلماء والوعّاظ وناشري المسائل ينكرون على المتعاملين معهم ويمنعونهم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في منابرهم ومجالسهم ومحافلهم ويذكرون المنع في رسائلهم العمليّة لعمل العوامّ.

ومنها : صحّة وصيّته وعتقه وتدبيره وطلاقه إذا بلغ عشراً ، فإذا صحّ منه هذه الامور صحّ سائر العقود إمّا لعدم القول بالفصل أو لوحدة المناط ، فإنّ الأسباب الشرعيّة من باب واحد وإذا صحّ البعض صحّ البعض الآخر.

وفيه : منع عدم القول بالفصل ، فإنّ الصحّة في الامور المذكورة ليست بإجماعيّة والقائل بها مفصّل والمناط غير معلوم ، وما ذكر في توجيهه لا يرجع إلى محصّل إلّا دعوى المساواة ، فالتعدّي من حكم أحد المتساويين إلى آخر قياس. هذا كلّه في عدم صحّة عقود الصبيّ ومعاملاته وتصرّفاته على وجه الإجمال. وأمّا تفاصيل هذا الإجمال الّتي وقع في أكثرها الخلاف ففيها مسائل :

المسألة الاولى : في أنّ الوليّ إذا أذن الصبيّ في إيقاع العقد فهل يقع صحيحاً على معنى كون إذن الوليّ مصحّحة للعقد الصادر منه أو لا؟ فيه خلاف إلّا أنّ المشهور على ما حكي عدم الصحّة واختاره العلّامة في التذكرة (١) ونقله عن الشافعي (٢) وأحمد في إحدى الروايتين. خلافاً لأبي حنيفة وأحمد في الرواية الاخرى فصحّحاه مع إذن الوليّ (٣) وعزي اختياره إلى ولد العلّامة (٤) منّا ، وإلى الشيخ النجفي في شرحه للقواعد على ما يظهر من عبارته القائلة بعد المنع عن صحّة عقده أصالة ووكالة بأنّه «نعم ثبت الإباحة في معاملة المتميّزين إذا جلسوا مقام أوليائهم أو تظاهروا على رءوس الأشهاد حتّى يظنّ أنّ ذلك من إذن الأولياء خصوصاً في المحقّرات. ثمّ قال : ولو قيل بتملّك الآخذ منهم لدلالة مأذونيّته في جميع التصرّفات فيكون موجباً قابلاً لم يكن بعيداً» (٥) انتهى.

__________________

(١) التذكرة ١٠ : ١١.

(٢) المجموع ٩ : ١٥٥ ـ ١٥٨ ، الوسيط ٣ : ١٢.

(٣) بدائع الصنائع ٥ : ١٣٥ ، الوسيط ٣ : ١٢.

(٤) الإيضاح ٢ : ٥٥.

(٥) شرح القواعد ٢ : ٤١ في هامش الرقم ١ قال الشارح في كشف الغطاء ١ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

٦٨٤

والأقوى ما هو المشهور ، لنا إطلاق ما تقدّم من الروايات والإجماعات المعتضد بالشهرة العظيمة الظاهر في عموم المنع والبطلان ومسلوبيّة العبارة بالذات المفيد لشرطيّة البلوغ مطلقاً وهو مفقود مع إذن الوليّ أيضاً ، وقيامها مقام الشرط المفقود يحتاج إلى دليل مفقود أيضاً.

وعن أبي حنيفة الاستدلال بأنّ المقتضي للصحّة موجود والمانع مفقود ، إذ ليس إلّا الحجر وإذن الوليّ يرفعه.

ويزيّفه منع وجود المقتضي تارةً ، ومنع فقدان المانع اخرى :

أمّا الأوّل : فلأنّ المقتضى إن اريد به نفس العقد ، ففيه : أنّه إنّما يقتضي الصحّة إذا جامع الشروط ، والمقام فاقد لبعضها وهو البلوغ ، وكون إذن الوليّ قائمة مقامه أوّل المسألة. وإن اريد به العمومات القاضية بصحّة العقود ، ففيه : أنّها مع تسليم تناولها لعقود الصبيّ مخصّصة بدليل شرطيّة البلوغ مع عدم دليل على قيام الإذن مقامه. وإن اريد به أصالة الصحّة في أفعال المسلم وأقواله ، ففيه : أنّ أصالة الصحّة ليست مشرّعة بأن تفيد عدم شرطيّة البلوغ أو قيام إذن الوليّ مقامه ، وإنّما هي ملحقة لما اشتبه حاله من جهة الشكّ في تحقّق الشرائط الثابتة للعقد الصحيح ونحوه به.

وأمّا الثاني : فلأنّ الحجر على ما اعترف به المستدلّ كان متيقّن الثبوت ، وكون الإذن رافعة له يحتاج إلى الثبوت بدليل مفقود في المقام فيستصحب.

وعن فخر المحقّقين أنّ عقده المقترن بإذن الوليّ بمنزلة عقد الوليّ فيصحّ.

ويزيّفه ـ مع أنّه بظاهره مصادرة أو قياس ـ أنّه إن اريد أنّه بمنزلة عقد الوليّ في إفادة الصحّة ، ففيه : أنّ عقد الوليّ إنّما يصحّ لاجتماعه شروط الصحّة ، ومنها كونه معتبر العبارة في نظر الشارع ، وقد عرفت أنّ الصبيّ مسلوب العبارة وكون إذن الوليّ مصلحة لها لا يسلّم إلّا الدليل ولا دليل. وإن اريد أنّه بمنزلته في الدلالة على رضاه ، ففيه : أنّ مناط صحّة عقد الوليّ ليس مجرّد رضاه بل اجتماعه الشروط الّتي منها الرضا ومنها البلوغ ، والمقام ليس منه لعدم ثبوت قيام الإذن مقام البلوغ بالدليل. هذا كلّه في عقد الصبيّ.

وهل ينفذ سائر تصرّفاته الغير العقديّة كدعواه في مجلس المرافعة وإقراره وقبضه

٦٨٥

المال كقبض الوقف وقبض العين الموهوبة وقبض الدين من المديون له وقبض ما اعطي من خمس أو زكاة وقبض الوديعة والأمانة الشرعيّة؟ فهل يفيد صحّة الوقف والهبة؟ وهل يبرأ القبض في الأمثلة الاخر وإقباضه وإيصاله الهديّة إلى المهدي إليه وإذنه في الدخول في البيت ونحو ذلك ممّا لا يحصى وإن أذن له الوليّ في هذه التصرّفات ، أو لا ينفذ شي‌ء من تصرّفاته المذكورة؟ وهو الوجه ، لعموم ما دلّ على مسلوبيّة عبارته وعدم جواز شي‌ء من اموره وإن أذن له الوليّ ، وفاقاً لشيخنا الاستاد قائلاً : «بأنّ مقتضى ما تقدّم من الإجماع المحكيّ في البيع وغيره من العقود والأخبار المتقدّمة بعد انضمام بعضها إلى بعض عدم الاعتبار بما يصدر من الصبيّ من الأفعال المعتبر فيها القصد إلى مقتضاها كإنشاء العقود أصالة ووكالة والقبض والإقباض وكلّ التزام على نفسه من ضمان أو إقرار أو نذر أو إيجار» (١).

وقال في التذكرة : «فروع :

الأوّل : لو اشترى الصبيّ وقبض أو استقرض وأتلف فلا ضمان عليه ، لأنّ التضييع من الدافع ، فإن كان المال باقياً ردّه ، وعلى الوليّ استرداد الثمن ولا يبرأ البائع بالردّ إلى الصبيّ ، وبه قال الشافعي.

الثاني : كما لا يصحّ تصرّفاته اللفظيّة كذا لا يصحّ قبضه ، ولا يفيد حصول الملك في الهبة وإن اتّهب الوليّ له ولا لغيره وإن أمره الموهوب منه بالقبض. ولو قال مستحقّ الدين للمديون : سلّم حقّي إلى هذا الصبيّ ، فسلّم قدر حقّه ، لم يبرأ عن الدين وبقى المقبوض على ملكه ولا يضمنه الصبيّ ، لأنّ البراءة تستند إلى قبض صحيح ولم يثبت. ولو فتح الصبيّ الباب وأذن في الدخول عن إذن أهل الدار وأوصل هديّة إلى إنسان عن إذن المهدي فالأقرب الاعتماد ، لتسامح السلف فيه» (٢) انتهى.

هذا على ما في النسخة الحاضرة عندنا ، وربّما يحكى عنه علاوة على ما سمعت مع اختلاف يسير في بعض ألفاظ ما سمعت ، فحكى عقيب قوله : وبقى المقبوض على ملكه ، هكذا «ولا ضمان على الصبيّ لأنّ المالك ضيّعه حيث دفعه إليه وبقى الدين لأنّه

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٢٨٤.

(٢) التذكرة ١٠ : ١٢.

٦٨٦

في الذمّة ولا يتعيّن إلّا بقبض صحيح ، كما لو قال : ارم حقّي في البحر ، فرمى مقدار حقّه. بخلاف ما لو قال للمستودع : سلّم مالي إلى الصبيّ أو ألقه في البحر ، لأنّه امتثل أمره في حقّه المعيّن. ولو كانت الوديعة للصبيّ فسلّمها إليه ضمن وإن كان بإذن الوليّ ، إذ ليس له تضييعها بإذن الوليّ. وقال أيضاً : لو عرض الصبيّ ديناراً على الناقد لينقده أو متاعاً إلى مقوّم ليقوّمه فأخذه لم يجز له ردّه إلى الصبيّ بل على وليّه إن كان ، فلو أمره الوليّ بالدفع إليه فدفعه إليه برئ من ضمانه إن كان المال للوليّ وإن كان للصبيّ فلا ، كما لو أمره بإلقاء مال الصبيّ في البحر فإنّه يلزمه ضمانه. وإذا تبايع الصبيان وتقابضا وأتلف كلّ واحد منهما ما قبضه ، فإن جرى بإذن الوليّين فالضمان عليهما ، وإلّا فلا ضمان عليهما بل على الصبيّين ويأتي في باب الحجر تمام الكلام. ولو فتح الصبيّ الباب وأذن في الدخول على أهل الدار ، أو أدخل الهديّة إلى إنسان عن إذن المهدي فالأقرب الاعتماد لتسامح السلف فيه» (١) انتهى.

أقول : في التعليل بالنسبة إلى الأمرين الأخيرين نظر ، إذ لو اريد بتسامح السلف في الاعتماد على قول الصبيّ قلّة مبالاتهم في أمر الدين حيث اعتمدوا على ما لا ينبغي الاعتماد عليه ، فهو مع ما فيه من كونه في معنى تفسيقهم أنّه لا يكشف عن الجواز ، وإن اريد به عدم مداقّتهم ليتحرّوا في تحصيل العلم ، فيكشف ذلك عن جواز الاعتماد على هذا الخبر في خصوص الأمرين ، وان لم يفد الأمرين ففيه منع واضح ، لأنّ هذا الخبر في غالب موارده محفوف بقرينة العلم بالصدق ، فاعتماد السلف إنّما كان على العلم بالصدق لا على نفس خبر الصبيّ وإن لم يعلم صدقه ، فالوجه في الأمرين أنّ خبره ما لم يفد العلم بصدقه بمعونة قرائن الحال والمقام لم يجز أخذ الهديّة منه ولا الدخول في البيت ، فالمدار على العلم بصدقه لا على نفس الخبر الغير المفيد له.

وأمّا وكالته عن الوليّ في إجراء العقد إيجاباً أو قبولاً على ماله أو على مال الوليّ لنفسه أو لغيره أو عن غير الوليّ لنفسه أو لثالث ، فالوجه فيها أيضاً عدم صحّة الوكالة وعدم صحّة عقده بموجب هذه الوكالة الفاسدة ، لعموم ما دلّ على مسلوبيّة عبارته

__________________

(١) نهاية الاحكام ٢ : ٤٥٤.

٦٨٧

وعدم جواز أمر من اموره من النصّ والفتوى المعتضدين بإطلاق الإجماعات المنقولة والشهرة العظيمة من غير خلاف من أهل القول بعدم صحّة عقوده ، ولذا يذكرون في باب الوكالة البلوغ من شروط الوكيل المعتبرة في الصحّة من غير خلاف يظهر ولا نقل قول بالخلاف ثمّة.

وليس في الروايات ما يدلّ على خلاف ذلك عدا ما رواه في الكافي عن محمّد ابن عيسى عن سلمة الخطّاب عن حسن بن عليّ بن يقطين عن عاصم بن حميد عن إبراهيم بن أبي يحيى عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : تزوّج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امّ سلمة ، والمزوّج لها ابنه أبو سلمة زوّجها إيّاه وهو صبيّ لم يبلغ الحلم» (١) وجه الدلالة أنّ أبا سلمة ربيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوج امّه إيّاه وهو غير بالغ ، فلولا وكالة الصبيّ صحيحة في إجراء عقد النكاح لما كان لذلك وجه.

وفيه أوّلاً : ضعف سند الرواية لسلمة الخطّاب البراوستاني نسبة إلى براوستان ، فإنّ النجاشي (٢) والخلاصة (٣) ذكرا أنّه كان ضعيفاً في حديثه ، وزاد الخلاصة قال الغضائري : إنّه كان يكنّى أبا محمّد وضعّفه. نعم ربّما يذكر أمارات لو لا الجرح الصريح كانت ظاهرة في اعتبار روايته غير أنّها لا تنهض لمعارضة الجرح.

وثانياً : أنّها ممّا لم يعمل بها الأصحاب كما يفصح عنه ما عرفت من جعلهم البلوغ شرطاً في الوكيل ، فتسقط عن درجة الاعتبار وإن صحّحنا السند ، مع ما ذكر فيها من التأويلات المخرجة لها عن صلاحية الدلالة ، مثل احتمال كون أبو سلمة واسطة بينهما لا مجرياً للعقد وكالة عن امّه. ولو سلّم فمن المحتمل كونه قد نسخ. ولو سلّم فمن المحتمل كونه من الخصائص كهبة المرأة نفسها منه ، فإنّه يوجب حلّ البضع بمجرّد ذلك من غير عقد.

المسألة الثانية : هل يستثنى من قاعدة عدم صحّة عقد الصبيّ وعدم نفوذ تصرّفاته معاملاته ببيع أو شراء في الأشياء الحقيرة أو لا؟ المشهور العدم فلا فرق في عدم

__________________

(١) الوسائل ٢٠ : ٢٩٥ / ١ ، ب ١٦ عقد النكاح وأولياء العقد ، الكافي ٥ : ٣٣٩١ / ٧.

(٢) رجال النجاشى : ١٨٧.

(٣) خلاصة الأقوال في معرفة الرجال : ٣٥٤.

٦٨٨

الصحّة بين الأشياء الخطيرة والأشياء الحقيرة ، وهو الأقوى ، عملاً بإطلاق النصّ والفتوى والإجماعات المنقولة. خلافاً لما عن المحدّث الكاشاني من قوله : «الأظهر بيعه وشراؤه فيما جرت العادة به من الأشياء اليسيرة دفعاً للحرج» (١) انتهى.

وهذا كما ترى نقض لإطلاق الأدلّة ودفع لعموم قوله : «الغلام لا يجوز أمره في البيع والشراء حتّى يبلغ خمس عشرة سنة» (٢) فلا بدّ له من دليل ولا دليل ، والتعليل بدفع الحرج عليل لمنع الملازمة ، إذ لا يستريب أحد في أنّه لو لا معاملات الأطفال في الأشياء اليسيرة لا يلزم حرج أصلاً ، سواء اريد بالنفي في قولنا لو لا منع الأطفال من البيع والشراء أو منع البالغين المكلّفين من المعاملة معهم ببيع أو شراء منهم أو منع الأولياء من نصب الأطفال في الأسواق للبيع والشراء ، فدعوى لزوم الحرج تحرّج من غير أن يكون هناك حرج.

لا يقال : إنّ دليل المسألة هو ما أشار إليه بقوله «فيما جرت به العادة» فإنّ جريان العادة عبارة عن استقرار السيرة بذلك ، لمنع استقرار السيرة الكاشفة أيضاً فإنّها في موارد وجودها إجماع عملي يكشف عن رأي المعصوم ورضاه ، وهو ليس بمتحقّق هنا ، إذ الناس أصناف :

منهم : العلماء والمجتهدون خلفاً عن سلف ، ونقطع بأنّهم لا يتعاملون مع الصبيان أصلاً لا في الأشياء الخطيرة ولا الحقيرة.

ومنهم : الصلحاء المتورّعون المتّقون من العوامّ العارفين بالمسائل ، ونقطع بأنّهم أيضاً يحترزون عن المعاملة مع الصبيان حتّى في الأشياء الحقيرة.

ومنهم : العوامّ الجاهلون بالمسائل وبعدم صحّة عقد الصبيّ وعدم نفوذ تصرّفاته ، وهم قد يتعاملون مع الصبيان ولكن لجهلهم بحكم المسألة.

ومنهم : العوامّ الغير المبالين في امور دينهم فيتعاملون مع الأطفال ويبيعون ويشترون منهم ، لعدم مبالاتهم من العقود الفاسدة وأكل الأموال المحرّمة ، وهم الّذين يشترون الأموال المسروقة مع العلم بالسرقة ، والّذين يأكلون الربا ، والّذين يبيعون

__________________

(١) المفاتيح ٣ : ٤٦.

(٢) الوسائل ١٧ : ٣٦٠ / ١ ، ب ١٤ عقد البيع ، الكافي ٧ : ١٩٧ / ١.

٦٨٩

ويشترون الأشياء الموزونة والمكيلة من دون وزن وكيل ، والّذين يبيعون ويشترون من دون مراعاة لمعلوميّة الثمن ولا تعيين جنسه ، وهم الذين يتعاملون مع الظلّام فيأخذون منهم الأموال المحرّمة مع العلم بالحرمة. فأين إجماع المسلمين على المعاملة معهم في الأشياء اليسيرة حتّى ينعقد به السيرة المستمرّة.

المسألة الثالثة : في أنّ السيّد صاحب الرياض (١) قد صحّح معاملات الصبيّ في الأشياء الحقيرة إذا كان بمنزلة الآلة لمن له أهليّة التصرّف في المال ، لاستقرار السيرة واستمرارها بذلك.

وهذا القول محدث منه رحمه‌الله ولم يسبقه إليه أحد ممّن تقدّمه ظاهراً فيكون ضعيفاً ، ويكفي في ضعفه أنّ الآليّة مفهوم اعتباري وأمر انتزاعي لم يؤخذ عنواناً في الأدلّة الشرعيّة ، ولم يرتّب عليه حكم في الشريعة ولم يوجد له أثر في نصوص الباب وفتاوى الأصحاب الّتي هي معاقد الإجماعات ، فلا يترتّب عليها أثر في المقام فلا تصلح مصحّحة لمعاملة الصبيّ الصادرة على وجه الآليّة لا على وجه الاستقلال إلّا لدليل ولا دليل عليه.

والتمسّك باستقراء السيرة بذلك إن اريد به أنّ السيرة مستمرّة من قديم الأيّام على استعمال الصبيان في المعاملات على وجه الآليّة لا على الاستقلال ، ففيه ما لا يخفى إذ المعتبرون من المسلمين كالعلماء والصلحاء من العوامّ لا يستعملون الأطفال في المعاملات أصلاً لا بالاستقلال ولا على وجه الآليّة ، وأمّا الباقون فالأكثرون منهم لا يراعون جهة الآليّة ولا يلتفتون إليها حين البعث أو النصب والأخذ والإعطاء فلا يبقى إلّا الأقلّون منهم ولا يتحقّق بعملهم إجماع عملي بين المسلمين.

وإن اريد به أنّ المعاملة الواقعة بتوسّط الصبيّ على وجه الآليّة بأن يكون الصبيّ واسطة بين الفاعل والمنفعل وهو المعاملة القائمة بالكاملين اللذين هما الفاعل ممّا استقرّت السيرة على تصحيحها وترتيب الآثار عليها ، ففيه منع استقرار السيرة على التصحيح إلّا على تقدير كون المعاملة المفروضة جامعة لشروط الصحّة الّتي منها أن يقصد كلّ من الكاملين عند رفع كلّ من العوضين إلى الصبيّ ليوصله إلى صاحبه إنشاء

__________________

(١) الرياض ٨ : ٢١٧.

٦٩٠

تمليكه من صاحبه عوضاً ومنها اتّصال القبول بالإيجاب بعدم تخلّل فصل زماني طويل بينهما ، ومن المعلوم ضرورة عدم اطّراد تحقّق هذه الشروط سيّما الأخير إذا كان أحد الكاملين المرسل للصبيّ في بيته والآخر في السوق وكان بينهما مسافة بعيدة إلّا أن يلتزم بسقوط اعتبار شرط الاتّصال في المعاطاة ، بدعوى أنّه كما ثبت مشروعيّة أصل المعاطاة بالسيرة فكذلك يثبت عدم اعتبار الاتّصال فيها بالسيرة ، ومرجعه إلى أنّ الاتّصال إنّما يعتبر في البيع بالصيغة المخصوصة لا في المعاطاة بدلالة السيرة على ذلك ، فيشكل الحال حينئذٍ في تماميّة السيرة بحيث تكشف عن رضا المعصوم ، لعدم معلوميّة كونها قديمة مستمرّة من أعصار أهل بيت العصمة إلى يومنا هذا. فجعل هذه المعاطاة الّتي لا اتّصال فيها بين إيجابها وقبولها الفعليّين من الكاملين الغائب كلّ منهما عن صاحبه ، بيعاً صحيحاً مفيداً للملك استناداً إلى السيرة مع خروجها عن معاملة الصبيّ في غاية الإشكال.

نعم لو جعلت من الإباحة المشروطة بإباحة إذا علم كلّ منهما من جهة القرائن برضا صاحبه بالتصرّف في ماله المدفوع إليه بواسطة الصبيّ نظير الهديّة الواصلة إليه بواسطته لم يكن بعيداً. لكنّ الأقرب بالتقوى والأوفق بطريقة الاحتياط الّذي هو سبيل النجاة هو مراعاة التوكيل ، بأن يوكّل أحد الكاملين صاحبه خصوصاً في واقعة خاصّة أو عموماً ، في أنّه عند مجي‌ء الصبيّ من قبله وإتيانه بالثمن يبيع المتاع منه ويقبل البيع من قبله فيسلّمه للصبيّ ليوصله إليه.

٦٩١

المبحث الثاني

في العقل وهو ثاني شروط المتعاقدين المعتبرة في صحّة العقد ، وفرّع عليه عدم صحّة عقد المجنون والمغمى عليه والسكران ، وربّما يستشكل في التفريغ نظراً إلى أنّ العقل يطلق على معنيين :

أحدهما : ما يتميّز به الإنسان عن سائر أنواع الحيوان ، وهو القوّة العاقلة الإنسانيّة وهي الملكة النفسانيّة الّتي يصدر منها الآثار على وجه الاعتدال ، وهو أن يشبه الأفعال والتروك الصادرة من صاحبها بأفعال العقلاء وتروكهم.

ثانيهما : الحالة النفسانيّة المترتّبة على المعنى الأوّل وهو التعقّل المفسّر بالإدراك الفعلي للمنافع والمضارّ والتمييز بين المصالح والمفاسد ، والفرق بين المعنيين مع اشتراكهما في كونهما من الكيفيّات النفسانيّة ، أنّ الأوّل من قبيل الملكات والثاني من قبيل الحالات ، فلو اريد به في محلّ الاشتراط المعنى الأوّل لم يصحّ تفريع عدم صحّة عقد المغمى عليه والسكران عليه لأنّهما ليسا بفاقدين للمعنى الأوّل بل المعنى الثاني ، ولو اريد به المعنى الثاني لم يصحّ تفريع عدم صحّة عقد المجنون عليه ، لأنّ ظاهرهم كونه باعتبار انتفاء القوّة العاقلة. ولكنّ الأمر في دفعه سهل ، فإنّ شرط الصحّة هو التعقّل وهو لا ينافي ظهور كلامهم في كون عدم الصحّة في المجنون لكونه فاقداً للقوّة العاقلة ، نظراً إلى أنّ انتفاء التعقّل قد يكون لفقد المقتضي ، وقد يكون لوجود المانع ، أما الأوّل فكما في المجنون لأنّ القوّة العاقلة بالنسبة إلى التعقّل والإدراك الفعلي من باب المقتضي لا العلّة التامّة ، وأمّا الثاني فكما في المغمى عليه والسكران لأنّ كلاًّ من الإغماء والسكر مانع من التعقّل والإدراك الفعلي.

٦٩٢

والسرّ في كون التعقّل معتبراً في الصحّة أنّ العقد بمعنى الربط المعنوي بين المتعاقدين لا يتحقّق إلّا بتعقّل كلّ منهما وإدراكه لمدلول الإيجاب والقبول ، والدليل على الشرطيّة مضافاً إلى ذلك الإجماع بقسميه ، بل المنقول منه على ما في كلامهم مستفيض ، وقد اعترف بعضهم بأنّ الدليل منحصر في الإجماع.

نعم قد يستدلّ عليه مضافاً إلى الإجماع بالخبر النبويّ المتقدّم في شرط البلوغ «رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبيّ حتّى يبلغ ، وعن المجنون حتّى يفيق ، وعن النائم حتّى يستيقظ» (١) بناءً على أنّ المراد رفع جميع الأحكام الّتي منها صحّة العقود.

وفيه : منع الدلالة عليه بسند متقدّم في البلوغ ، وملخّصه : أنّ ظاهر الخبر بملاحظة إضافة الرفع إلى القلم رفع قلم الكتابة ، ومعناه أنّه لا يكتب عليه في صحيفة الأعمال من الأفعال والتروك الصادرتين عنه ما لو صدر من البالغ العاقل كان من السيّئات كالقتل والجناية والضرب والشتم ، وأكل المال المحرّم وترك الصلاة والصوم وما أشبه ذلك ، واللازم منه أن لا يؤاخذ بتلك الأفعال والتروك ، وهذا لا يلازم عدم صحّة عقوده.

ومن طريق هذا المنع يعلم منع الدلالة أيضاً فيما لو استدلّ بالخبر المرويّ عن قرب الإسناد بسنده عن أبي البختري عن أبي جعفر عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام عن عليّ عليه‌السلام أنّه قال : «المجنون والمعتوه الّذي لا يفيق ، والصبيّ الّذي لم يبلغ عمدهما خطأ يحمله العاقلة ، وقد رفع عنهما القلم» (٢).

فإنّ رفع القلم هنا أيضاً ظاهر في رفع قلم الكتابة لسيّئاتهما في صحائف الأعمال ، وهذا لا يلازم عدم صحّة عقودهما ، إلّا أن يستظهر الدلالة من ذلك باعتبار كونه لتعليل الحكم المستفاد من قوله : «عمدهما خطأ» نظراً إلى أنّ العمد هنا عبارة عن القتل العمدي الصادر منهما عن قصد ورويّة ، ومعنى كون قصدهما خطأ» أنّه بمنزلة العدم في نظر الشارع ، على معنى أنّه لم يعتبر قصدهما ولم يرتّب عليه الآثار الشرعيّة المترتّبة على القصد ، ولذا رفع عنه القصاص وجعل الدية على العاقلة ، وقضيّة ذلك من جهة

__________________

(١) عوالي اللآلي ١ : ٢٠٩ / ٤٨.

(٢) الوسائل ٢٩ : ٩٠ / ٢ ، ب ٣٦ أبواب القصاص في النفس ، قرب الإسناد : ١٥٥ / ٥٦٩.

٦٩٣

عموم العلّة المنصوصة أن لا يكون قصدهما معتبراً في العقود أيضاً. ولكن ذلك مبنيّ على التزام تحقّق القصد من المجنون وأنّ عدم صحّة عقده باعتبار كون هذا القصد كلا قصد ، ومرجعه إلى أنّ القصد الّذي هو ملاك صحّة العقود على ما سيأتي هو القصد الناشئ عن القوّة العاقلة والملكة النفسانيّة لا مطلق القصد وإن لم ينشأ منها ، فليتدبّر.

فرعان :

أحدهما : إذا أوجب أحد المتعاقدين وهو عاقل وصاحبه غير عاقل ولمّا فرغ أفاق صاحبه فقبل عاقلاً ، أو أنّه لمّا فرغ جنّ فقبل الآخر حال جنونه ، فقد يقال فيه بالصحّة. ولا يخلو عن إشكال ، لظهور معاقد الإجماعات في اعتبار وجود العقل لكلّ من الموجب والقابل حال تلفّظه بما هو وظيفته من صيغتي الإيجاب والقبول وتلفّظ صاحبه بما هو وظيفته أيضاً ، مع أنّ الربط المعنوي لا يتحقّق بينهما إلّا على تقدير تعقّل كلّ منهما وفهمه لمدلولي الصيغة الصادرة منه والصيغة الصادرة من صاحبه.

ثانيهما : لو وقع العقد والتقابض بين ناقصين كصبيّين أو مجنونين أو صبيّ ومجنون فتلف ما في يد كلّ منهما بإتلافه أو بغير إتلافه كان الضمان عليهما إن لم يأذنهما وليّهما في التعاقد ، وعلى وليّهما إن أذنهما فيه لأنّه السبب بإذنه في الإتلاف والتلف. وقد يفرّط في تضمين الوليّين وإن لم يأذنهما فيه إذا اطّلعا وعلما بإرادتهما وقصّرا في منعهما لأنّ الوليّ منصوب لحفظ المولّى عليه وحفظ ماله فتلفه يستند إلى تقصيره ، وليس ببعيد. ولو وقع العقد والتقابض بين كامل وناقص لا ضمان على الناقص ، لأنّ الكامل ضيّع ماله حيث دفعه إلى الناقص وسلّطه على إتلافه ، بخلاف الكامل فإنّه يضمن مال الناقص لعموم «على اليد» وعموم «من أتلف».

٦٩٤

المبحث الثالث

في الاختيار الّذي جعله الأصحاب ثالث شروط المتعاقدين المعتبرة في الصحّة ، وفرّعوا عدم صحّة عقد المكره.

وليعلم أنّ الاختيار له معنيان :

أحدهما : ما يقابل الجبر ، وهو أن يكون الفاعل مجبوراً في فعله ، ومنه أفعال العباد على مذهب الجبريّة القائلة بكونهم مجبورين في أفعالهم لاستناد صدورها إلى إرادة قديمة وهي إرادة الله سبحانه من دون إرادة منهم أو مع إرادة غير مؤثّرة ، خلافاً للعدليّة القائلين بكونهم مختارين في أفعالهم لصدورها عنهم بإرادة حادثة وهو إرادة العبد من دون مدخليّة للإرادة القديمة فيها. والاختيار بهذا المعنى ملاك التكاليف الشرعيّة ، وعليه مدار اتّصاف الأفعال بالحسن والقبح ، وهو مناط الثواب والعقاب.

ثانيهما : ما يقابل الإكراه ، وهو أن يكون الحامل له على الفعل توعيد الغير وتهديده على تركه بقتل أو جناية أو ضرب أو أخذ مال منه بقهر ونحو ذلك ، فالاختيار أن يكون الحامل له على الفعل شي‌ء من الدواعي العادية الباعثة على صدوره عن رضاه وطيب نفسه. والمراد به في محلّ البحث هو هذا المعنى على ما يقتضيه كلمة الأصحاب نصوصيّة وظهوراً ، ولأنّهم باعتبار هذا الشرط احترزوا عن عقد المكره.

واستدلّ على الشرطيّة بعد الأصل بالإجماع والكتاب والسنّة.

أمّا الإجماع فبقسميه ، بل المنقول منه مستفيض.

٦٩٥

وأمّا الكتاب فقوله تعالى : «إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» (١) يدلّ على أنّ كلّ تجارة ليس فيها تراض ورضاً نفساني فأكل المال المأخوذ من جهتها أكل بالباطل ، ولا يكون كذلك إلّا من جهة البطلان ، بناءً على أنّ بطلان عقد المكره باعتبار انتفاء الرضا لا غير.

وأمّا السنّة : فقوله عليه‌السلام : «لا يحل مال امرئ إلّا عن طيب نفسه» (٢) بناءً على ما عرفت من كون بطلانه باعتبار انتفاء الرضا وطيب النفس.

واستدلّ أيضاً بالنبوي المتّفق عليه بين المسلمين المعمول به عند الفريقين العامّة والخاصّة «رفع عن امّتي تسعة ، وذكر منها ما استكرهوا عليه» (٣) ولا ينافيه ظهوره في رفع المؤاخذة ، لأنّ المراد به رفع المؤاخذة على مخالفة الإلزامات الشرعيّة الحاصلة في الواجبات ، ويكون كناية عن ارتفاع أصل الإلزامات بسبب طروء إحدى الأعذار التسعة الّتي منها الإكراه ، فيدلّ بعمومه على رفع الإلزام في عقد المكره إذا امتنع بعد العقد عن ردّ المثمن أو الثمن إلى صاحبه عند ارتفاع الإكراه بعد العقد وقبل الردّ بموت المكره ونحوه ، وهو يستلزم عدم صحّة العقد وعدم انتقال المال عن المكره إلى صاحبه بذلك العقد.

واستدلّ أيضاً بالأخبار (٤) الواردة في بطلان طلاق المكره مع انضمام الإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.

والعمدة في المقام هو التكلّم في تحقيق موضوع المسألة الّذي هو مورد الأدلّة ومعقد الإجماعات المنقولة ، فنقول : إنّ العقد اللفظي مشتمل على لفظ وهو الصيغة المخصوصة كصيغة «بعت» مثلاً في البيع ، وعلى مدلول مادّي وهو معنى «البيع» وعلى مدلول هيئي وهو المعنى الإنشائي أعني إيجاد معنى البيع وإيقاعه بنفس الصيغة ، وعلى مدلول التزامي هو الحاصل من المعنى الإنشائي أعني مضمون العقد الواقع في الخارج كتمليك العين المستتبع لتملّكها من حيث إنّه الواقع في الخارج ، وهو المقصود بالأصالة والمطلوب بالذات من إجراء العقد. ومن المعلوم أنّ العقد المشتمل على الامور

__________________

(١) النساء : ٢٩.

(٢) عوالي اللآلئ ٢ : ١١٣ / ٣٠٩.

(٣) عوالي اللآلئ ١ : ٢٣٢ / ١٣١.

(٤) الوسائل ٢٢ : ٨٦ / ٦ ، ب ٣٧ مقدّمات الطلاق.

٦٩٦

المذكورة لا ينعقد صحيحاً إلّا بقصود أربع على معنى توقّف انعقاده على هذه القصود ، وهي القصد إلى التلفّظ بهذا اللفظ الخاصّ ، والقصد إلى مدلوله المادّي ، والقصد إلى مدلوله الهيئي أعني قصد الإنشاء وهو إيجاد المدلول المادّي وإيقاعه حال التلفّظ بنفس الصيغة المتلفّظ بها ، والقصد إلى وقوع ما قصد إيقاعه في الخارج وقد يعبّر بالقصد إلى وقوع مضمون العقد في الخارج. ولا ريب أنّ قصد الإيقاع لا يستلزم قصد الوقوع في الخارج ، نعم انتفاء قصد الوقوع يستلزم انتفاء الوقوع في الخارج ، وهو يستلزم عدم تحقّق الإيقاع وإن قصد ، لأنّ صدق الإيقاع باعتبار تحقّق الوقوع في الخارج فإذا لم يتحقّق لانتفاء القصد إليه لم يصدق الإيقاع فلا يبقى إلّا قصده.

وكيف كان فإذا انتفى القصد إلى التلفّظ كالصيغة الصادرة من النائم أو الغافل أو الغالط ، أو القصد إلى المدلول المادّي كما إذا صدرت من الهاذل أو المورّي في بعض فروضهما ولو باعتبار إرادة معنى لفظ آخر في التورية كالإجارة أو الصلح أو النكاح ، أو القصد إلى المدلول الهيئي كما في الهاذل أو المورّي في فرض آخر ولو باعتبار إرادة الإخبار لا الإنشاء فلا عقد. ولو انتفى القصد إلى وقوع المضمون في الخارج فلا نفوذ بل يقف النفوذ على لحوق الرضا به بلحوق الإجازة الكاشفة عنه.

وبهذا يعلم أنّ القصد الرابع يغاير غيره ممّا قبله ذاتاً ، بكونه عبارة عن الرضا المقابل للكراهة ، والمراد به عدم كراهة وقوع مضمون العقد في الخارج ويطلق عليه لفظ الاختيار. قال في المجمع : «قوله ورضيت بالشي‌ء رضا اخترته ، وارتضيته مثله» (١) وهما معاً بمعنى طيب النفس ، ولذا قال في المجمع أيضاً : «قول العرب طاب لي هذا أي فارقته المكاره وطاب له العيش فارقه المكاره» (٢) وحاصل معنى مفارقة المكاره إيّاه أن لا يكرهه ، ومنه قوله عزّ من قائل : «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» (٣) وطبت به نفساً وطابت نفسي به يراد بهما رضا النفس به أي كونه بحيث لا تكرهه النفس ، فطيب النفس بالقياس إلى مضمون العقد رضاها بوقوعه في الخارج وعدم كراهتها إيّاه.

ووصفاً بإمكان حصول كلّ ممّا قبله بمجرّد الإكراه بأن يكون الحامل له على قصد

__________________

(١) مجمع البحرين ١ : ١٨٧ (رضا).

(٢) مجمع البحرين ٢ : ١١١.

(٣) النساء : ٣.

٦٩٧

التلفّظ بالصيغة أو قصد معناها المادّي أو الهيئي هو التخلّص عن الضرر المتوعّد به بخلاف القصد بمعنى الرضا والاختيار وعدم الكراهة ، لعدم إمكان حصوله بمجرّد الإكراه بل حصوله منوط بدواعي نفسانيّة أو دواعي خارجيّة موجبة لرجحان وقوع مضمون العقد في الخارج على عدم وقوعه الّذي هو الحامل على الرضا به والباعث على ارتفاع الكراهة ، ولا ريب أنّ الإكراه ليس منها بل الإكراه ما دام باقياً لا يعقل حصول وزوال الكراهة ، فإنّه عبارة عن حمل الغير على أمر كرهاً أي حمله على ما يكرهه. ومن هنا يقال : إنّ الإكراه على القصد غير ممكن ، إذ لا يصحّ تنزيل القصد في هذه القصد إلى ما عدا القصد بمعنى الرضا بوقوع مضمون العقد في الخارج.

وقد اضطربت كلمة الأصحاب في أنّ الجهة المقتضية لبطلان عقد المكره هل هي انتفاء القصد إلى مدلوله ، أو انتفاء الرضا من المكره؟ فقد يسند إلى ظاهر جماعة منهم الشهيدان (١) أنّ المكره قاصد إلى اللفظ غير قاصد إلى مدلوله ، بل يظهر ذلك من بعض كلمات العلّامة (٢) أيضاً ، وظاهر هذه العبارة كما ترى اعتبار انتفاء القصد إلى مطلق المدلول في عقد المكره. ولذا قد يعترض عليهم أخذاً بظاهر كلامهم بعدم كون المنتفى عن عقد المكره ـ الّذي هو موضوع المسألة ومعقد الأدلّة ـ هو القصد إلى المدلول بل المنتفي عنه إنّما هو الرضا.

وقد يوجّه كلامهم بعدم كون المراد من القصد إلى المدلول المدّعى انتفاؤه في عقد المكره القصد إلى مطلق المدلول حتّى المعنى المادّي والهيئي وهو الإنشاء ، بل القصد إلى وقوع مضمون العقد في الخارج فإنّه أيضاً من مدلول العقد.

وهذا هو الصحيح بوجوه :

منها : ما عرفت سابقاً من أنّهم فرّعوا عدم صحّة عقد المكره على شرطيّة الاختيار ، وقد عرفت لاحقاً أنّ الاختيار والرضا لمعنى وهما مع طيب النفس لمعنى ، ويراد من الجميع ما يقابل الكراهة ، ورجع ذلك إلى أنّ شرط صحّة العقد المعتبر وجوده في المتعاقدين هو الرضا وأنّ كراهة المالك مانع ، ومن المعلوم أنّه يكره الأثر ووقوعه

__________________

(١) كما في الدروس ٣ : ١٩٢ ، المسالك ٣ : ١٥٦ ، الروضة ٣ : ٢٢٦ ـ ٢٢٧.

(٢) التحرير ٢ : ٥١.

٦٩٨

في الخارج فيكون فساد عقده لانتفاء الرضا لا غير.

ومنها : ما سيأتي من أنّ المشهور المدّعى عليه الاتّفاق صحّة عقد المكره ونفوذه بلحوق الرضا الملازم لارتفاع الكراهة ، وظاهر أنّ لحوق الرضا المتأخّر إنّما يصحّحه إذا كان المنتفى عنه هو الرضا بعد تحقّق القصد إلى المعنى المادّي والهيئي معاً ، لا إذا كان فاقداً لهذا القصد أيضاً فإنّه حينئذٍ يصير بمنزلة ما يصدر من الهازل والمورّي ولا يعقل أن يصحّحه الرضا المتأخّر. والسرّ في الفرق أنّ العقد سبب للأثر المترتّب عليه وقصد معنى اللفظ مادّة وهيئة معتبر في تحقّق ذات السبب فإذا انتفى انتفى ذات السبب ، والرضا المتأخّر لا يعطيه الوجود بخلاف الرضا مع تحقّق شرط تحقّق الذات ، فإنّه شرط لتأثيره فإذا انتفى انتفى التأثير لا الذات ، وإذا لحقه الرضا أو الإجازة الكاشفة عن الرضا يؤثّر أثره ، غاية الأمر رجوع ذلك إلى أنّ هذا الشرط للتأثير لا يعتبر فيه المقارنة للعقد ، ولا ضير فيه إذا ساعد عليه الدليل.

ومنها : ما يجده المتتبّع في تضاعيف كلماتهم ، من أنّ عقد المكره يجري عندهم في البطلان والصحّة مع الإجازة الكاشفة عن الرضا مجرى عقد الفضولي ، ولا ريب أنّ عقده فاقد لرضا المالك لا القصد إلى مدلول اللفظ مادّة أو هيئة وكذا ما يجري مجراه. وأيضاً يوجد في مطاوي عباراتهم التعبير عن الشرط المفقود في عقد المكره تارةً بالقصد إلى مدلول اللفظ ، واخرى بالرضا مكان القصد ، وثالثة بالقصد والرضا معاً في موضع واحد أو موضعين من كتاب واحد ، ومن ذلك ما في الرياض من نقل تعليلهم لصحّة عقده بعد الإجازة «بأنّه بالغ رشيد قاصد إلى اللفظ دون مدلوله ، وإنّما منع عدم الرضا ، فإذا زال أثّر العقد كعقد الفضولي حيث انتفى القصد إليه من مالكه مع تحقّق القصد إلى اللفظ في الجملة ، فلمّا لحقته إجازة المالك [أثّرت] ولا يعتبر مقارنته للعقد للأصل ، بخلاف العقد المسلوب بالأصل كعبارة الصبيّ فلا يجبره إجازة الوليّ ولا رضاه بعد بلوغه» (١) انتهى.

فلاحظ ما في عبارة الدليل ، أوّلاً :من فرض انتفاء القصد إلى مدلول اللفظ ، وثانياً :

__________________

(١) الرياض ٨ : ٢١٨.

٦٩٩

حصر الجهة المقتضية للمنع في عدم الرضا ، وثالثاً : جعل المفقود في عقد الفضولي القصد إليه من مالكه ، وهذا كلّه يعطي مرادفة الرضا للقصد إلى مدلول اللفظ عندهم ، ولا يتمّ إلّا إذا كان مدلول اللفظ مراداً به الأثر المعبّر عنه بمضمون العقد.

ومنها : أنّهم حكموا بعدم وجوب التورية في التفصّي عن الإكراه توصّلاً إلى إفساد العقد الصادر منه ، والسرّ فيه أنّه في عقده إن لم يكن كارهاً لوقوع مضمونه في الخارج فهو ليس بمكره وعقده خارج عن موضوع عقد المكره ، وحينئذٍ فإن ورّى كان فساده من جهة التورية لا من جهة عقد مكره ، وإن كان كارهاً فكراهته كافية في فساده من غير حاجة إلى التورية لكون الرضا المرادف للاختيار من شروط الصحّة وهو لا يجامع الكراهة.

فبجميع ما ذكرنا ظهر وجه صحّة التوجيه المتقدّم لكلام الجماعة من كون المكره قاصداً للّفظ غير قاصد لمدلوله ، ويجري نحوه فيما ذكره العلّامة في التحرير من أنّه لو اكره على الطلاق فطلّق ناوياً فالأقرب وقوع الطلاق إذ لا إكراه على القصد انتهى. وحاصله أنّ هذا الطلاق من جهة تحقّق نيّة الطلاق على معنى قصد وقوع أثره في الخارج ليس من طلاق المكره ، ليفسد من جهة النصوص الدالّة على فساد طلاق المكره. وقوله : «إذ لا إكراه على القصد» (١) يعني أنّ طلاق المكره المحكوم على فساده ما اكره على القصد على معنى كون الإيعاد بالإضرار على ترك الطلاق موجباً لوقوعه عن كره ولا عن طيب نفس ، وهذا ليس كذلك لوقوعه عن قصد وقوع أثره.

ثمّ ينبغي الكلام في موضوع المكره ، وما يعتبر في تحقّق الإكراه وما لا يعتبر ، فنقول : إنّ المكره مفعول من الإكراه وهو إفعال من الكره فبضابطة أنّه يعتبر في صدق المشتقّ تحقّق المبدأ لا بدّ في صدق المكره من تحقّق الإكراه المتوقّف على تحقّق الكره ، فنقول : إنّ ظاهر كلماتهم يعطي اتّفاقهم على اعتبار الإيعاد في تحقّقه ، بأن يكون الحامل له على إجراء العقد إيعاد الغير بالإضرار على تركه ، فمن لا إيعاد من الغير في عقده فليس بمكره ، وإن كان الحامل له على العقد خوف التضرّر بتركه ـ كما لو باع ملكه أو عقاره أو متاعه دفعاً للضرر المترتّب على ترك البيع ـ فإنّه ليس من عقد

__________________

(١) التحرير ٢ : ٥١.

٧٠٠