ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

محترماً فلا يصحّ إطلاق القول ببيعه كذلك على مستحلّ الميتة ، والأولى إمّا العمل بمضمون الرواية لصحّتها أو إطراحها لمخالفتها الأصل. ومال الشهيد في الدروس (١) إلى عرضه على النار ، واختباره بالانبساط والانقباض كما يأتي في اللحم المطروح المشتبه. ويضعّف مع تسليم الأصل ببطلان القياس مع وجود الفارق ، وهو أنّ اللحم المطروح يحتمل كونه بأجمعه مذكّى وكونه غير مذكّى فكونه ميتة غير معلومة ، بخلاف المتنازع فإنّه مشتمل على الميتة قطعاً فلا يلزم من الحكم في المشتبه تحريمه كونه كذلك في المعلوم التحريم (٢).

أقول : مبنى هذه التجشّمات والتكلّفات والنقوض والإبرامات كلّها على توهّم كون المراد من البيع في الروايتين بيع المذكّى والميتة معاً ، وليس كما توهّم بل المراد بيع المذكّى منهما وحده حال الاشتباه بأن يتوارد إيجاب البائع وقبول المشتري على المذكّى لا غير ، ولعلّه مراد المحقّق من قصد المذكّى بالبيع لا مجرّد قصد البائع كون المبيع هو المذكّى مع إجراء العقد على الجميع.

والدليل على ما ذكرنا من نفس الروايتين إفراد الضمير في قوله عليه‌السلام : «باعه ويبيعه» فإنّه ليس إلّا من جهة عوده إلى المذكّى ، فلو كان المراد بيعهما جميعاً كان المناسب تثنية الضمير بأن يقول «باعهما ويبيعهما» كما أنّ الراوي في الرواية الثانية ثنّى الضمير بقوله : «الميّت والمذكّى اختلطا» ولو فرضنا عود الضمير فيهما إلى المشتبه أو المختلط فالمراد به أيضاً هو المذكّى من حيث طرأه الاشتباه والاختلاط ، فما ذكرناه قرينة واضحة على أنّ الإمام عليه‌السلام أراد بقوله : «باعه أو يبيعه» بيع المذكّى وحده. وهذا ليس من تجويز البيع للميتة ليكون مخالفاً لُاصول المذهب ، وصورته أن يقول البائع لمستحلّ الميتة : هذان أحدهما مذكّى والآخر ميتة وقد اختلطا بحيث لا يمكن لي التميّز وأنا أبيعك المذكّى منهما بكذا ، وإذا رضي المستحلّ بالاشتراء بقول البائع «بعتك المذكّى منهما بكذا» ويقول المشتري : قبلته أو ابتعته أو اشتريته بكذا ، وهذا هو معنى بيعه ممّن يستحلّ الميتة.

__________________

(١) الدروس ٣ : ١٤.

(٢) المسالك ٢ : ٢٤٢.

٦١

فاندفع بما بيّنّاه شبهة الحلّي حيث أورد على الرواية بكونها مخالفة لُاصول المذهب ، كما يندفع إشكال الشهيد الثاني باعتبار جهالة المبيع ، فإنّ التميّز إنّما يعتبر مقدّمة للإقباض الّذي إمكانه شرط في صحّة البيع ، وإقباض المبيع هنا يحصل بإقباض الجميع ، وعدم إمكان التميّز للمشتري غير قادح لأنّه لاستحلاله الميتة لا حاجة له إلى التميّز بينها وبين المذكّى لأنّهما عنده بحسب اعتقاده الفاسد في حلّية الأكل والانتفاع على حدّ سواء.

ولا يلزم من عدم التميّز في حقّه الإخلال بشرط الصحّة لحصول الإقباض بإقباض الجميع ، ويكون ذلك كشيئين أحدهما ملك لزيد والآخر ملك لعمرو واشتبها بحيث تعذّر عليهما التميّز وكانا في يد زيد مثلاً وحينئذٍ إذا باع زيد شقصه منهما على عمرو ثمّ أقبضه بإقباضهما معاً لم يكن مانع من الصحّة ، نعم إنّما يحتاج إلى التميّز إذا كان المشتري مسلماً غير مستحلّ للميتة ، وحيث تعذّر ذلك تعذّر إقباض المبيع فتعذّر قبضه فبطل معه البيع.

ومن هنا ظهر أنّه لا حاجة إلى ما تكلّفه العلّامة في المختلف من صرف ذلك عن حقيقة البيع إلى صورته للاستنقاذ ، ليرد عليه ما تقدّم من أنّه لا يتمّ فيمن لا يباح مال كما لو كان ذمّيّاً.

ولا إلى ما سمعت عن الشهيد في الدروس من العرض على النار والاختبار بالانقباض والانبساط ليتوجّه إليه ما عرفت عن المسالك.

ولا إلى ما تكلّفه بعض مشايخنا من حمل الروايتين على صورة قصد البائع المسلم أجزاءها الّتي لا تحلّها الحياة من الصوف والعظم والشعر نحوها ، قال : «وتخصيص المشتري بالمستحلّ لأنّ الداعي له على الاشتراء اللحم أيضاً ولا يوجب ذلك فساد البيع ما لم يقع العقد عليه» (١) ليتوجّه إليه البعد وكمال مخالفة الظاهر وعدم كونه حينئذٍ من بيع المذكّى ولا الميتة ، مع أنّ المشتري لا يشتري إلّا المجموع الّذي غرضه الأصلي منه اللحم وهو من المبيع في نظره فلم يتوارد الإيجاب والقبول على شي‌ء واحد ،

__________________

(١) الشيخ الأنصاري في المكاسب ١ : ٣٨.

٦٢

ولم يوافق قصداهما.

ويندفع بما بيّنّاه أيضاً جميع الإيرادات الّتي أوردها السيّد في المصابيح (١) ونقلها شيخنا في الجواهر ـ مضافة إلى ما عرفته عن المسالك من كون المبيع مجهولاً لا يمكن إقباضه ـ من أنّه «قد يأخذ أكثر من ثمن المذكّى إذا باع الاثنين ظاهراً فيكون أخذ الزائد أكلاً للمال بالباطل ، وأنّه يقصد الواحد والمشترى الاثنين فلم يوافق قصداهما ولم يتوارد الإيجاب والقبول على أمر واحد ، وأنّه مع قصد المذكّى لو صحّ البيع من المستحلّ لصحّ من غير المستحلّ أيضاً والفرق تحكّم ، وأنّ المستحلّ يشارك غيره في الحكم الّذي هو عدم جواز الانتفاع المقتضي لعدم صحّة البيع من غير المستحلّ بناءً على الأصحّ من مخاطبة الكافر بفروع هذه الشريعة» (٢) انتهى.

فإنّ العقد إذا وقع على المذكّى بالخصوص مع قصدهما إيّاه لا غير لم يبذل ولم يؤخذ أكثر من ثمن المذكّى ولتوارد الإيجاب والقبول على الواحد وهو المذكّى لا غير ، وأنّ الفارق بين المستحلّ وغير المستحلّ أنّ عدم إمكان التميّز قادح في الثاني لعدم إمكان الإقباض معه فيه وغير قادح في الأوّل لحصول إقباض المبيع بإقباض الجميع مع عدم الحاجة له إلى التميّز لاستحلاله الجميع.

فإن قلت : الفرق بين المستحلّ وغير المستحلّ في كفاية إقباض المبيع في ضمن الجميع وعدم قدح عدم إمكان التميّز في الأوّل دون الثاني تحكّم ، بل هما مشاركان في الحكم نفياً وإثباتاً ، والسرّ فيه أنّ الإقباض من حيث إنّه إقباض ليس معتبراً في صحّة البيع ، فإنّ البيع ليس كالوقف والهبة ليكون الإقباض والقبض معتبراً في صحّته بل الشرط في الحقيقة هو سلامة المبيع عن موانع التصرّف فيه والانتفاع به ، فلو باع شيئاً مع ما يمنع المشتري عقلاً أو شرعاً من التصرّف والانتفاع وجب عليه رفع المانع إن قدر عليه ، ولو لم يقدر عليه كبيع العبد الآبق أو الطير في الهواء أو السمك في البحر كان البيع باطلاً لكونه حينئذٍ معاملة سفهيّة وهي باطلة غير مندرجة في عمومات الصحّة.

__________________

(١) مصابيح الأحكام : ١٤.

(٢) الجواهر ٣٦ : ٣٤٠.

٦٣

ولا ريب أنّ حرمة الانتفاع بالميتة واشتباه المذكّى بها على وجه لا يتميّز ووجوب الاجتناب عن المذكّى أيضاً من باب المقدّمة موانع من التصرّف فيه والانتفاع به ، وهي كما يمنع البائع عنهما كذلك يمنع المشتري أيضاً سواء كان مستحلّاً أو غير مستحلّ ، أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلمخاطبة الكافر بفروع الشريعة فيكون البيع والاشتراء معاملة سفهيّة مطلقاً لعدم سلامة المبيع عن موانع التصرّف والانتفاع مع عدم قدرة البائع على رفعها حتّى في حقّ المستحلّ.

قلت : حرمة الانتفاع بالميتة ووجوب الاجتناب عن المذكّى في صورة الاشتباه إنّما هو بحسب اعتقادنا لا في اعتقاد الكافر ، فإنّه لا يعتقد في حقّه حرمة ووجوباً فالبيع والاشتراء في حقّه ليس معاملة سفهيّة بحسب اعتقاده لعدم صدقها عليه عرفاً بل صدق المعاملة الغير السفهيّة ، وهذا هو معنى عدم قدح عدم إمكان التميّز هنا ، بخلاف ما لو كان المشتري غير مستحلّ فإنّه في حقّه معاملة سفهيّة قطعاً لعدم تمكّنه من التصرّف والانتفاع بالمبيع ، وإن حصل قبضه في ضمن قبض الجميع.

لا يقال : البائع لكونه مسلماً بمقتضى قاعدة الشبهة المحصورة ممنوع من هذا البيع لوجوب الاجتناب عليه عن جميع أطراف الشبهة ، وتجويز بيع المذكّى المشتبه ولو من المستحلّ ينافيه لأنّ وجوب الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة حكم ظاهري يثبت بقاعدة الاشتغال الجارية في الشكّ في المكلّف به الّذي لا يؤول إلى الشك في التكليف ، فيخرج عنه بالدليل وهو النصّ الصحيح الصريح في الجواز.

لا يقال : قاعدة الاشتغال المقتضية لوجوب الاجتناب عن المذكّى الواقعي قاعدة عقليّة فوجوب الاجتناب حكم عقلي والتخصيص في الأحكام العقليّة غير سائغ ، لأنّ هذا الحكم وإن كان عقليّاً إلّا أنّه حكم تعليقي معلّق على عدم ورود الدليل على جواز الارتكاب ، نظير الحظر العقلي والإباحة العقليّة في المنافع قبل ورود الشرع ، والمفروض وجود الدليل على جواز بيع المذكّى المشتبه بالميتة ممّن يستحلّها بالخصوص ، وهذا في الحقيقة ليس تخصيصاً بل هو إخراج للمورد عن موضوع حكم العقل.

٦٤

فتقرّر أنّ الأقوى في المسألة هو الجواز على الوجه الّذي قرّرناه عملاً بالصحيحة والحسنة.

وتوهّم مخالفتهما الشهرة الموهنة لهما ، يدفعه أوّلاً : أنّ هذه الشهرة على تقدير تسليمها لابتنائها على الاشتباه في فهم معنى الصحيحة حسبما عرفت لا تأثير لها هنا ، وثانياً : منع تحقّق شهرة الخلاف إن لم ندّع الشهرة في الجواز ، بل عن مجمع البرهان (١) حكاية الشهرة على العمل بالروايتين ، وأنّ ابن إدريس (٢) طرحهما على أصله.

__________________

(١) مجمع الفائدة ١١ : ٢٧١.

(٢) السرائر ٣ : ١١٣.

٦٥

المبحث الرابع

فيما يتعلّق بالدم

وله من حيث النجاسة والطهارة ، ومن حيث كونه من مأكول وغيره أنواع :

النوع الأوّل : الدم النجس بنوعه وهو دم ذي النفس المعبّر عنه في الآية والفتوى بالدم المسفوح ، ولا ينبغي التأمّل في حرمة التكسّب به ، للإجماع محصّلاً ومنقولاً في حدّ الاستفاضة ، ورواية تحف العقول في غير موضع ، وعموم الملازمة المستنبطة من النبوي. كما لا ينبغي التأمّل في حرمة الانتفاع به من غير جهة الأكل مطلقاً ، لعموم «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» وقوله تعالى : «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ» (١) في وجه ، وهو تناول إطلاق التحريم لجميع جهاته.

نعم ينبغي أن يستثنى منه استعماله في الزروع والكروم واصول الأشجار ، لنفي الخلاف في المبسوط الّذي هو في معنى نقل الإجماع ، حيث قال : «وأمّا سرجين ما لا يؤكل لحمه وعذرة الإنسان وخرء الكلاب والدم ، فإنّه لا يجوز بيعه ويجوز الانتفاع به في الزروع والكروم واصول الشجر بلا خلاف» (٢) بناءً على رجوعه إلى الحكمين كما هو الظاهر.

فإنّه مع عدم العثور على ما ينافيه من النصوص والفتاوي ربّما يورث الظنّ القويّ بالجواز في المواضع الثلاث ويخرج به من القاعدة المستفادة من العموم ، ولو سلّم عدم إيراثه الظنّ بالجواز فلا أقلّ من توهينه العموم بحيث يتناول المواضع المذكورة فيرجع

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) المبسوط ٢ : ١٦٧.

٦٦

فيها إلى الأصل وهو كافٍ في التزام الجواز ، ولكنّ على كلّ تقدير وجب الاقتصار في الخروج عن القاعدة على هذه المواضع ولا يتعدّى إلى غيرها حتّى التداوي به للعين وغيرها والصبغ وغيره ، وإن كان ربّما يستشمّ من بعض العبائر جواز الصبغ لعدم وضوح دليل على شي‌ء ممّا ذكر سوى الأصل الغير الجاري في موضع الدليل.

نعم إذا عصى باستعماله في الصبغ مثلاً ينبغي القطع بجواز الانتفاع بالمصبوغ بعد التطهير ، لأنّ المحرّم إنّما هو الصبغ بالدم لا الانتفاع بالصفة الحادثة منه. ولا يخفى عليك أنّ جواز الانتفاع في الوجوه المذكورة لا يسوّغ البيع لأجلها ، لأنّه فيها من حلّ الانتفاع لا من حلّ المنفعة. وبجميع ما ذكر يظهر أنّه لا يجري على هذا الدم ملك المسلم ، لعموم «منهيّ عن ملكه» على ما تقدّم.

النوع الثاني : الدم الطاهر بنوعه ، وهو دم غير ذي النفس المعبّر عنه بغير المسفوح ، مع كونه من غير المأكول كدم الضفادع والقُراد والبراغيث والقماميل وما أشبه ذلك ، وحرمة المعاوضة عليها مبنيّة على كون هذا الدم محرّماً فإنّه قد حكي عن بعضهم (١) القول بحلّيّته استرابة في استخباثه. ويستفاد من صاحب الكفاية التردّد فيه قائلاً : «والكلام في حلّه وحرمته مبنيّ على استخباثه وعدمه» (٢) وهذا لا يخلو عن غرابة وإن كان وافقه غير واحد في التشكيك المذكور ، إذ لا ينبغي لأحد أن يرتاب في خباثة دماء هذه الحيوانات سيّما في أكثر أنواعها ، فإنّ الخبيث ما يتنفّر منه طباع أوساط الناس وهم المعتدلون منهم ، وهذا موجود في تلك الدماء ، فينبغي القطع بأنّ الحكم فيها هو حرمة الأكل لا غير ، لعموم قوله عليه‌السلام : «وحرّم عليكم الخبائث» (٣).

وقد يدّعى فيه الإجماع والسيرة القطعيّة بل الضرورة ، ويدلّ عليه قوله عليه‌السلام في رواية تحف العقول : «لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله وشربه» في تعليل تحريم بيع الامور المذكورة قبله الّتي منها الدم ، بناءً على تناوله لمحلّ البحث من الدماء المذكورة كما هو الأظهر لمكان جنسيّة اللام ، فتفيد تعليق الحكم على الماهيّة من حيث هي السارية في جميع مصاديقها الخارجيّة الّتي منها محلّ البحث. وبهذا التقريب يمكن الاستدلال أيضاً

__________________

(١) كما في التذكرة ١ : ٤٦٤.

(٢) الكفاية : ٢٥١.

(٣) البحار ٤٩ : ٧٦ مع اختلاف.

٦٧

بقوله تعالى : و «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ» (١) المتكرّر في سورتين إن لم يعارضه مفهوم الدم المسفوح في الآية الاخرى كما هو الأظهر على ما سنقرّره ، فإذا ثبت الحرمة الذاتيّة في هذا الدم يثبت حرمة المعاوضة عليه بقول مطلق ، لعين ما مرّ في تحريم المعاوضة على الدم النجس ولا حاجة إلى الإعادة.

وهل يحلّ الانتفاع بهذا الدم من غير جهة الأكل كالصبغ والتداوي في غير محلّ الضرورة وغير ذلك أو لا؟ مبنيّ على كون الأصل فيه حلّ الانتفاع بقول مطلق إلّا ما أخرجه الدليل ، أو أنّ الأصل فيه حرمة الانتفاع إلّا ما خرج بالدليل.

يمكن القول بالأوّل استناداً إلى الأصل بمعنى أصالة الإباحة الجارية في الأشياء النافعة الخالية عن أمارة المفسدة ، وأصالة البراءة الجارية في الشبهات التحريميّة المستفادة من العمومات ، مضافاً إلى عموم قوله تعالى : و «خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» (٢) أي لأجل انتفاعكم.

كما يمكن القول بالثاني استناداً إلى عموم قوله عليه‌السلام : «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» بعد فرض شمول قوله : «أو الدم» لمحلّ البحث كما نبّهنا عليه ويعضده طريقة الاحتياط. وهذا هو الوجه والمختار ، لأنّ الحكم المستفاد من العموم على وجه القاعدة أصل اجتهادي ، وبه يخرج عن الأصلين وروداً ، وعن العامّ المتقدّم تخصيصاً. ويستثنى منه استعماله في الوجوه المتقدّمة في الدم النجس إمّا لإطلاق معقد نفي الخلاف المتقدّم عن الشيخ في المبسوط ، أو للأولويّة بالنظر إلى جواز ذلك في الدم النجس المعتضدة بالأصل ، أو هو المستند في وجه على ما تقدّم ، ولكن لا يجوز بيعه وشراؤه في هذه الوجوه على ما بيّنّاه ، والكلام في عدم جريان الملك عليه كما تقدّم أيضاً.

النوع الثالث : الدم الطاهر الغير المسفوح من مأكول اللحم كدم السمك ، وهل يحرم المعاوضة عليه أو لا؟ وجهان مبنيّان على كونه محرّم الأكل أو محلّله ، إذ على الأوّل يلزم حرمة المعاوضة عليه لعين ما مرّ في النوعين الأوّلين ، وعلى الثاني يلزم جوازها وصحّتها للعمومات أجناساً وأنواعاً وأصنافاً ، فينبغي لاستعلام الحلّ والحرمة في

__________________

(١) المائدة : ٣ والبقرة : ١٧٣.

(٢) البقرة : ٢٩.

٦٨

المعاوضة من صرف النظر في مسألة حلّ أكل هذا الدم وحرمته.

فنقول : قد اختلف فيه الأصحاب ، فعن ظاهر المعتبر (١) والغنية (٢) والسرائر (٣) والمختلف (٤) والمنتهى (٥) ونهاية الإحكام (٦) القول بحلّيّته ، وربّما يعزى إلى ظاهر الأوّل دعوى الإجماع عليه.

ونسب في الكفاية إلى ظاهر كثير من عبائرهم المصير إلى الحرمة قائلاً : «وظاهر كثير من عبائرهم تخصيص التحليل بالدم المتخلّف في الذبيحة وتعميم التحريم في غيره من الدماء قال : وعن بعضهم التصريح به والتنصيص على دم السمك» (٧) انتهى.

ومن المعلوم أنّ محلّ النزاع ما تميّز عن اللحم وانفصل منه حيّاً أو ميّتاً إن فرض له دم بعد الموت يمكن انفصاله منه ، دون ما اختلط باللحم بعد ذكاته بالصيد ممّا لا يمكن تخليصه منه ، فإنّه في حكم الدم المتخلّف في الذبيحة من المأكول المختلط باللحم بحيث يتعذّر تخليصه منه وإن غسل بالماء مرّة بعد اولى وكرّةً بعد اخرى ، فإنّه معفوّ مباح تبعاً للّحم ، للإجماع والسيرة القطعيّة بل ضرورة الدين ، مضافاً إلى العسر والحرج المنفيّين في الدين.

ومستند المبيحين على ما يستفاد من عباراتهم وتضاعيف كلماتهم وجوه :

الأوّل : الأصل المحتمل لإرادة أصالة الإباحة المقرّرة في الأشياء النافعة الخالية عن أمارة المضرّة ، أو أصالة البراءة المقرّرة في الشبهات التحريميّة.

الثاني : قوله عزّ من قائل : «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ» (٨) فإنّه تعالى قيّد الدم بالمسفوح وخصّ التحريم بذلك المقيّد ، والمسفوح على ما ذكره الأصحاب تبعاً لأهل اللغة (٩) من السفح بمعنى الصبّ أي المصبوب ، وفسّروه بدم ذي النفس المحكوم عليه بالنجاسة. ولذا قال في المسالك في شرح عبارة الشرائع عند ذكر الدم المسفوح وغير المسفوح : «إنّ الأوّل

__________________

(١) المعتبر ١ : ٤٩١.

(٢) الغنية : ٤١.

(٣) السرائر ١ : ١٧٤.

(٤) المختلف ١ : ٤٧٤.

(٥) المنتهى ٣ : ١٩١.

(٦) نهاية الإحكام ١ : ٢٦٨.

(٧) الكفاية : ٢٥١. (٨) الأنعام : ١٤٥.

(٩) كما في لسان العرب ٦ : ٢٧٥ ، تاج العروس ٦ : ٤٧٥ (سفح).

٦٩

الدم الّذي يخرج بقوّة عند قطع عرق الحيوان أو ذبحه ، والثاني هو الدم يخرج بتثاقل كدم السمك» (١).

وتخصيص التحريم بالدم المسفوح يقتضي حلّيّة غير المسفوح إمّا بحكم الأصل أو المفهوم أو الحصر المستفاد من النفي والاستثناء ، ولا يعارضه قوله تعالى : و «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ» (٢) لأنّ الدم في هذه الآية مطلق وفي الآية الاولى مقيّد ، ومن الواجب حمل المطلق على المقيّد كما زعمه في المسالك تعليلاً باتّحاد الموجب ، فالمراد في الآية الثانية أيضاً هو الدم المسفوح لا غير.

الثالث : السيرة القطعيّة بين المسلمين المستقرّة على عدم التحرّز عن دم السمك.

الرابع : العسر والحرج المنفيّين في تحريم دم السمك.

وضعف الكلّ واضح ، إذ الأصل يخرج منه بدليل الحرمة وسيظهر ، وتحريم الدم المسفوح لا ينافيه تحريم مطلق الدم لأنّ المسفوح أيضاً من جمله أفراد الماهيّة ، فالآيتان من قبيل العامّ والخاصّ المتوافقي الظاهر فيعمل بهما من غير محذور.

ودعوى : أنّ المطلق يحمل على المقيّد لاتّحاد الموجب ، يدفعها أوّلاً : أنّ المقام ليس من موارد قاعدة حمل المطلق على المقيّد لكون حكميهما تحريميّين وقد اتّفقوا على عدم الحمل فيهما ، ولذا لا حمل في مثل : لا تعتق مكاتباً ولا تعتق مكاتباً كافراً ، بخلاف مثل : أعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة أو لا تعتق رقبة كافرة.

وثانياً : أنّ الحمل في باب المطلق والمقيّد فرع على التنافي بين مقتضاهما ، والتنافي المتوهّم هنا إن كان بين منطوقي الآيتين ففيه منع التنافي لتوافق المنطوقين ، وإن كان بين منطوق المطلق ومفهوم المقيّد فهو فرع على ثبوت المفهوم هنا ، وهو محلّ منع لكونه من مفهوم الوصف الّذي ـ هو على المشهور وهو الأصحّ ـ ليس بحجّة في نفسه ، فتعليق تحريم الدم على وصف المسفوح لا يفيد نفي الحكم عن غير المسفوح ، والنكتة في ذكر الوصف حينئذٍ إمّا شدّة الاهتمام في المنع والتحريم بشأن المسفوح فإنّه لنجاسته أشدّ حرمة من غير المسفوح ، أو لأنّ الّذي اوحي إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيّن له إلى زمان

__________________

(١) المسالك ٢ : ٢٤٥.

(٢) المائدة : ٣.

٧٠

صدور الآية إنّما هو تحريم المسفوح فقط ، وهذا لا ينافي كون غير المسفوح ممّا بين تحريمه فيما بعد نزول الآية ، ويؤيّده امور :

منها : التعبير عن نفي تحريم ما عدا الثلاثة بعدم وجدان محرّم غيرها وتقييده بما اوحي إليه ، وهذا يشعر بأنّ في علم الله سبحانه محرّمات اخر لم يوح تحريمها إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعمد ، ويجوز كون غير المسفوح من جملتها.

ومنها : عدم انحصار محرّمات الأكل في الثلاثة المذكورة في الآية بحكم الضرورة بل هي غير محصورة ، ومن جملتها لحوم السباع والمسوخ والوحوش وأكثر الطيور وغيرها ، ولا محالة قد اوحي إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحريمها ، وقضيّة حصر ما اوحي إليه في الثلاثة كون غيرها إنّما اوحي إليه بعد نزول الآية بالتدريج ، ويجوز كون غير المسفوح من جملتها.

ومنها : أنّ هذه الآية مذكورة في سورة الأنعام ، وآية إطلاق التحريم متكرّرة في سور ثلاث البقرة والمائدة والنحل ، وقد قيل كما في المستند (١) في سورة الأنعام وسورتي البقرة والمائدة : إنّ الاولى مكّيّة وهاتان مدنيّتان ، وذكر الطبرسي (٢) في تفسيره أنّ هذه السورة ـ يعني الأنعام ـ مكّيّة والمائدة مدنيّة ، فيجوز أن يكون غير ما في الآية من المحرّمات إنّما حرّم فيما بعد ويجوز أن يكون غير المسفوح منها.

والسيرة القطعيّة المدّعاة إنّما تسلّم في المختلط باللحم الّذي يتعذّر تخليصه منه ، لا في المتميّز المنفصل منه ، ولا في ما يمكن انفصاله من غير عسر.

وقاعدة نفي العسر والحرج أيضاً تسلّم في المختلط لا في غيره.

وعلى هذا فالعمل بإطلاق التحريم متّجه ، لسلامة الآية المتضمّنة له عن المعارض ، وتكرّرها في السور الثلاث يوجب قوّة اخرى في دلالتها ، ومقتضى إطلاق التحريم ثبوته في جميع الأنواع الثلاث من الدم خصوصاً المسفوح منها لنجاسته ، بل قضيّة اندراجه في الإطلاق تحريم جميع أفراده في جميع أحوالها حتّى ما كان منها من الذبيحة من المأكول فضلاً عن غير المأكول ، فيحرم ما في القلب والكبد والطحال وإن طهرت مع إشكال في طهارة ما في الطحال.

__________________

(١) المستند ١٥ : ١٦١.

(٢) مجمع البيان ٣ و ٤ : ٢٩٩ و ٣.

٧١

نعم يستثنى منها الدم المختلط باللحم المنبثّ فيه بحيث تعذّر أو تعسّر التحرّز منه فإنّه معفوّ مباح تبعاً للّحم إجماعاً ضروريّاً بل للسيرة القطعيّة مضافاً إلى الأدلّة النافية للعسر والحرج ، ويترتّب على التحريم في الجميع حرمة التكسّب والمعاوضة وعدم كونه متموّلاً ولا جارياً عليه الملك مطلقاً ، وعدم جواز الانتفاع من غير جهة الأكل مطلقاً حتّى في دم السمك ، عدا ما استثنى من استعماله في الزروع والكروم واصول الشجر عملاً بإطلاق معقد إجماع الشيخ أو للأولويّة.

٧٢

المبحث الخامس

فيما يتعلّق بأبوال وأرواث ما لا يؤكل لحمه

وقد تحقّق في باب النجاسات من كتاب الطهارة كونهما من الأعيان النجسة ، إذ ليس المراد ممّا لا يؤكل لحمه هنا ما لم يجر العادة بأكله كلحوم الفرس والبغال والحمير بل ما يحرم أكل لحمه ، وحيث إنّ هذه الأبوال والأرواث من الأعيان النجسة فتدرجان في عموم أحكامها المتقدّمة على وجه القاعدة وفيه الكفاية ، إلّا أنّه نزيد هنا. ونقول : إنّ المعاوضة على الأبوال النجسة محرّمة قولاً واحداً ، وشربها أيضاً محرّم قولاً واحداً ، بل سائر الانتفاعات بها مطلقاً محرّم قولاً واحداً ، وهذا ينحلّ إلى أنّه ليس للأبوال النجسة منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء ، ولا يحلّ الانتفاع بها أيضاً وإن لم يكن من قبيل المنفعة ، ولا تكون متموّلة قولاً واحداً ، ولا يجري عليها الملك قولاً واحداً ، مضافاً في الجميع إلى عمومات رواية تحف العقول وغيرها ، وعموم آية الخبائث بالنسبة إلى الشرب ونحوه.

وأمّا الأرواث أعني الفضلات النجسة الّتي كثيراً ما يعبّر عنها بالسرجين النجس ، فالمشهور فيها حرمة التكسّب والمعاوضة بقول مطلق ، بل عن الخلاف «إجماع الفرقة على تحريم بيع السرجين النجس» (١) وفي التذكرة «لا يجوز بيع السرجين النجس إجماعاً منّا» (٢) وعن النهاية «بيع العذرة وشراؤها حرام إجماعاً» (٣) وعن المنتهى «الإجماع على تحريم بيع العذرة» (٤).

__________________

(١) الخلاف ٣ : ١٨٥.

(٢) التذكرة ١ : ٤٦٤.

(٣) نهاية الإحكام ٢ : ٤٦٣.

(٤) المنتهى ٢ : ١٠١٠.

٧٣

ويدلّ عليه عمومات رواية تحف العقول والخبر النبويّ وفيه الكفاية إلّا أنّه استدلّ عليه أيضاً بخبر يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ثمن العذرة من السحت» (١) وعن الدعائم مرسلاً عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام عن عليّ عليه‌السلام «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن بيع العذرة» (٢) ولكن يعارضه خبر محمّد بن مضارب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا بأس ببيع العذرة» (٣).

وعن السبزواري «احتمال حمل رواية المنع على الكراهة جمعاً» (٤).

ولا خفاء في بعده لعدم تحمّل لفظ «السحت» هذا الحمل ولفظ «النهي» أيضاً ظاهر كالنصّ في التحريم.

وأبعد منه ما عن المجلسي في الجمع بينهما باحتمال «حمل خبر المنع على بلاد لا ينتفع فيها بالعذرة ، وحديث الجواز على بلاد ينتفع (٥) بها» فإنّ اختلاف البلدان في جريان العادة بالانتفاع بها وعدمه لا يوجب اختلافاً بينها في الحكم لأصالة الاشتراك في التكليف ، فحكم بيع العذرة واحد بالقياس إلى الجميع.

وربّما : حمل خبر المنع على التقيّة ، لكونه مذهب أكثر العامّة. وهذا أيضاً ضعيف لأنّ هذا الحمل ترجيح سندي باعتبار مخالفة العامّة يقتضي طرح الخبر الموافق ، والمرجّحات السنديّة إنّما يرجع إليها بعد العجز عن الجمع والترجيح باعتبار الدلالة.

وقد قيل كما عن الشيخ «بأنّ الجمع بينهما بحسب الدلالة ممكن ، وهو حمل رواية المنع على عذرة الإنسان ورواية الجواز على عذرة الدوابّ المأكول لحومها ، وعنه في الاستبصار حملهما عليه ، ووجّه بأنّ الأوّل نصّ في عذرة الإنسان ظاهر في غيرها والثاني بالعكس ، فيطرح ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر» (٦).

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٧٥ / ١ ، ب ٤٠ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٧٢ / ١٠٨٠.

(٢) دعائم الإسلام ٢ : ١٨.

(٣) الوسائل ١٧ : ١٧٥ / ٣ ، ب ٤٠ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٧٢ / ١٠٧٩.

(٤) كفاية الأحكام ١ : ٤٢٢.

(٥) حكاه المجلسي في ملاذ الأخيار ١٠ : ٣٧٩ / ٢٠٢ عن والده قدس‌سرهما.

(٦) الاستبصار ٣ : ٥٦ / ١٨٣ ، التهذيب ٦ : ٣٧٢ / ١٠٨١.

٧٤

وبذلك إن تمّ يندفع أيضاً ما يقال : من أنّ العلاج في الخبرين المتنافيين على وجه التباين الكلّي هو الرجوع إلى المرجّحات الخارجيّة ثمّ التخيير أو التوقّف لا إلغاء ظهور كلّ منهما ، فإنّ الجمع على الوجه المذكور حيثما ساعد عليه شاهدان متعيّن ولا يعدل مع إمكانه إلى الترجيح السندي.

نعم يرد على الشيخ أنّه إن أراد بما ذكره التبرّع في الجمع محافظة على الرواية المأثورة عن أهل بيت العصمة عن الطرح من دون جعله مستنداً للحكم الشرعي كما هو دأبه في كتابي الحديث ، فلا حجر منه. وإن أراد به الالتزام به على وجه يكون مدركاً للحكم الشرعي ، ففيه : أنّه لا مورد له في المقام لأنّه من أحكام التعارض وهو فرع على المقاومة بل الحجّيّة الذاتيّة. والروايتان ضعيفتان للجهالة ، أمّا الاولى فلوجود عليّ بن مسكين أو ابن سكن ـ على اختلاف النسخة ـ في سندها ، وهو مجهول غير مذكور في الرجال بمدح ولا قدح. وأمّا الثانية فلوجود الحجّال في سندها وهو أيضاً مجهول ، مع ما في الراوي أيضاً من الجهالة كما لا يخفى على الخبير البصير.

وتوهّم انجبار ضعف الاولى بالشهرة والإجماعات المنقولة إن سلّمنا الانجبار لا يجدي نفعاً في انجبار الثانية ، مع تطرّق المنع إلى صلاحية ما ذكر للجبر ، فإنّ جابر الرواية الضعيفة ليس إلّا عمل الأصحاب كلّهم أو معظمهم أو جماعة من معتبريهم وهو غير واضح ، والشهرة فتوائيّة وكونها استناديّة غير واضح ، والإجماع المنقول أقصاه إفادة الظنّ بالحكم الشرعي من غير تعرّض فيه للرواية ليكشف عن كون معقده عن الاستناد إليها.

ومع الغضّ عن ذلك فيتوجّه إلى الجمع المذكور أنّه في المتباينين يحتاج إلى شاهدين في كلّ من المتعارضين أوجب طرح ظاهره وهو مفقود فيهما.

وما تقدّم من التوجيه واضح الدفع بأنّ النصوصيّة في كلّ منهما ـ مع كون مورديهما العذرة وهي حقيقة في عذرة الإنسان لا غير ـ غير معقولة ، واختلاف التركيب الكلامي لا يوجب في نحو المقام اختلافاً في معنى اللفظ ، إلّا أن يقال : بأنّ الشاهد المعتبر وجوده في كلّ منهما قد يكون خارجيّاً ، ويمكن إثبات وجوده هنا بموثّقة سماعة بن مهران قال : «سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا حاضر فقال : إنّي رجل أبيع العذرة فما تقول؟

٧٥

قال : حرام بيعها وثمنها ، وقال : لا بأس ببيع العذرة» (١). فإنّ التناقض في كلام واحد من متكلّم واحد محال خصوصاً إذا كان المتكلّم معصوماً. وهذا ينهض قرينة على أنّه عليه‌السلام أراد من الأوّل تحريم بيع عذرة الإنسان ومن الثاني تجويز بيع غيره من الأرواث الطاهرة ، وكأنّه عليه‌السلام علم من حال السائل أنّه يبيع كلا النوعين فأجابه بحكم كلّ منهما. وينهض ذلك بعد استظهار هذا المعنى منه شاهداً بالتأويل المذكور في الروايتين.

وعلى أيّ حال كان فالدليل على تحريم بيع العذرات النجسة من غير جهة الرواية المتعارضة واضح لا حاجة معه إلى تجشّم علاج التعارض فيها ، كوضوح الدليل على تحريم أكلها مع كونها من الخبائث وتحريم مطلق وجوه الانتفاع عدا الاستعمال في الزروع والكروم واصول الشجر لما تقدّم في مبحث الدم من نفي الخلاف عن مبسوط الشيخ (٢) مع السيرة القديمة في الجملة ، وعلى عدم كونها متموّلة ولا مملوكة أصلاً.

ثمّ ينبغي إتباع المبحث بالكلام في الأبوال والأرواث الطاهرة كأبوال وأرواث البهائم والأنعام من الإبل والبقر والغنم والفرس والحمار والبغل والجاموس ، وهذه لطهارتها وإن كانت خارجة عن عنوان الأعيان النجسة إلّا أنّ الفقهاء لمّا تكلّموا في أحكامها فنحن نقتفي أثرهم ونتكلّم فيها استتباعاً ، والكلام فيها يقع في مقامين :

المقام الأوّل في الأرواث الطاهرة ، فنقول : المعروف المشهور جواز التكسّب بها مطلقاً. وعن الشيخ في الخلاف (٣) «نفي الخلاف» وعن السيّد «الإجماع عليه» (٤) وإن ناقش فيه بعضهم. ولم يظهر خلاف فيه عدا ما عن مختلف (٥) العلّامة من نسبة الخلاف إلى المفيد والسلّار حيث منعا عن بيع الأبوال والأرواث عدا بول الإبل ، ولكن عبارتهما المنقولة عن المقنعة والمراسم لا تساعد عليه.

فعن الأوّل «بيع العذرة والأبوال كلّها حرام إلّا أبوال الإبل خاصّة ، فإنّه لا بأس ببيعها والانتفاع بها واستعمالها لضرب من الأمراض» (٦).

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٧٥ / ٢ ، ب ٤٠ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٧٢ / ١٠٨١.

(٢) المبسوط ٢ : ١٦٧.

(٣) الخلاف ٣ : ١٨٥.

(٤) الانتصار : ٢٠١.

(٥) المختلف ٥ : ٥.

(٦) المقنعة : ٥٨٧.

٧٦

وعن الثاني «التصرّف في الميتة ولحم الخنزير وشحمه والدم والعذرة والأبوال ببيع وغيره حرام إلّا بول الإبل خاصّة» (١).

وليس في العبارتين إلّا لفظ «العذرة» وهي حقيقة في عذرة الآدميّين ولا تشمل غيرها من أنواع السرجين النجس فضلاً عن الأرواث الطاهرة ، ويؤيّده إفراد العذرة وجمع الأبوال ، ولو سلّم عموم فيها ولو في إرادة القائل فغايته العموم بالنسبة إلى أنواع النجس ، فليس في عبارتيهما دلالة صريحة ولا ظاهرة على النسبة المذكورة. ولذا ناقش فيها في المصابيح بقوله : «وهو غير واضح» وقال في موضع آخر : «بل الظاهر أنّ جواز بيع الأرواث محلّ وفاق بين الأصحاب ، ونسبة المنع منه إلى الشيخين وسلّار غير ثابتة» (٢) انتهى.

وكيف كان لنا على المختار ـ بعد ما أشرنا إليه من نفي الخلاف ومنقول الإجماع إن صحّ ـ السيرة القطعيّة المستمرّة بين المسلمين في جميع الأعصار والأمصار على بيعها وشرائها وأخذ الأعواض والأثمان في مقابلتها من غير نكير ولا منع من أحد ، مضافاً إلى عمومات عقود المعاوضة من البيع والصلح والهبة المعوّضة وغيرها أجناساً وأنواعاً وأصنافاً كقوله تعالى : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (٣) و «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» (٤) و «إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» (٥) «والصلح جائز بين المسلمين» (٦) وما أشبه ذلك ، ويؤيّدها الأخبار النافية للبأس عن بيع العذرة بناءً على حملها على إرادة الأرواث الطاهرة كما صنعوه.

وليس للقول بالمنع إن ثبت إلّا ما قد يحتمل من الاستناد إلى وجهين :

أحدهما : عموم تحريم الخبائث في الآية (٧) بناءً على تناول إطلاقه للبيع والشراء ، والأرواث من الخبائث جزماً فيحرم بيعها وشراؤها.

وثانيهما : عموم النبويّ «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» وهذه منه.

ويضعّفهما أنّ المراد بالأوّل بقرينة المقابلة تحريم خصوص الأكل والشرب لأنّهما متعلّق التحليل في آية تحليل الطيّبات ، وظاهر الثاني إمّا تحريم جميع المنافع أو تحريم

__________________

(١) المراسم : ١٧٠.

(٢) مصابيح الأحكام : ١٨.

(٣) المائدة : ١.

(٤) البقرة : ١٨٨.

(٥) البقرة : ٢٧٩.

(٦) الوسائل ١٨ : ٤٤٣ / ٢ ، ب ٣ كتاب الصلح ، الفقيه ٣ : ٢٠ / ٥٢.

(٧) الأعراف : ١٥٧.

٧٧

المنافع المقصودة ، وأيّاً ما كان فالمحرّم في الأرواث إنّما هو أكلها وهو ليس منفعة مقصودة منه ، والمنفعة المقصودة منه إنّما هو الإيقاد وجريها مجرى الحطب والتسميد وما أشبه [ذلك] ، وهذه ليست محرّمة ، فالأرواث لا تندرج في عموم النبويّ ، فعمومات الجواز والصحّة حينئذٍ سليمة عمّا يزاحمها.

لا يقال : البيع مشروط بالملك ولا يصحّ بيع ما لا يملك ، وجريان الملك في الأرواث محلّ منع ، وإلّا لوجب ضمانها بالإتلاف وغيره من أسباب الضمان ولتحقّق فيها الغصب ولتحقّق فيها السرقة ، واللوازم بأسرها باطلة وكذا الملزوم ، كما قيل نظيره في الأبوال استناداً إلى الوجوه المذكورة على ما ستعرفه.

لأنّ الصحيح المقطوع به جريان الملك في الأرواث الطاهرة ، للسيرة القطعيّة في جميع الأعصار والأمصار المستقرّة على تملّك المسلمين لها وترتيب آثار الملك عليها من غير نكير ، مضافاً [إلى] أنّها تملك بالحيازة بلا خلاف لعموم «على اليد ما أخذت» (١) وبقاعدة النمائيّة القاضية بتبعيّة النماء للعين في الملك كما في اللبن والشعر والصوف والوبر وما أشبه ذلك ، ولا ريب أنّ الأرواث نماءات لهذه الحيوانات فتكون مملوكة لصاحبها تبعاً.

والوجوه المستدلّ بها على نفي الملكيّة مدخولة ، لوضوح منع بطلان اللوازم فإنّها تضمن بالإتلاف ، لعموم «من أتلف مال الغير فهو ضامن» وبالغصب ، لعموم «على اليد ما أخذت» ويتحقّق فيها الغصب سواء فسّرناه بالاستيلاء على مال الغير عدواناً أو بأخذه ظلماً. ويتحقّق فيها السرقة إن فسّرناه بمفهومه اللغوي أعني أخذ الشي‌ء خفية ، وإن فسّر بلازمه الشرعي وهو ما يوجب القطع فلعلّ عدم تحقّقه حينئذٍ لعدم تحقّق شرائط القطع فيها ـ من بلوغ المسروق ربع دينار وكونه أخذ من المحرز ـ ولو فرض تحقّق الشرائط يتوجّه المنع إلى عدم صدق ما يوجب القطع ، وغاية ما هنالك أنّ القطع غير واقع. ولعلّه من جهة المسامحات العرفيّة لخساسة هذه الأشياء. وعلى هذا فلا يجوز إتلافها عدواناً ويحرم غصبها ، فلو غصبها وجب ردّها إن كانت العين باقية ، وإلّا وجب

__________________

(١) عوالي اللآلي ١ : ٢٢٤ / ١٠٦ ، المستدرك ١٧ : ١٨ / ٤ ، ب ١ كتاب الغصب.

٧٨

ردّ عوضها مثلاً إن كانت من المثليّات وإلّا وجب ردّ قيمتها.

المقام الثاني في الأبوال الطاهرة ـ أعني أبوال الأنعام والحمولة ـ وفيها مسائل :

الاولى : جواز الانتفاع فيما عدا الأكل والشرب اختياراً ، كالصبغ وعجن الجصّ والزروع والكروم واصول الشجر وما أشبه ذلك.

والظاهر جوازه بلا خلاف يظهر ، ولم يعرف من الأصحاب من أنكره وإن كان ربّما ينسب إلى مراسم سلّار (١) المنع منه استظهاراً له من عبارته المتقدّمة بقرينة استثناء بول الإبل ، فإنّه كون المراد من الأبوال ما يعمّ الأبوال الطاهرة لم يتمّ هذا الاستثناء الّذي الأصل فيه الاتّصال. أقول : لو صحّ هذا الاستظهار لجرى في عبارة نهاية الشيخ لأنّه ـ على ما حكي ـ قال فيها : «جميع النجاسات يحرم التصرّف فيها والتكسّب بها على اختلاف أجناسها من سائر أنواع العذرة والأبوال وغيرهما إلّا أبوال الإبل خاصّة فإنّه لا بأس بشربه والاستشفاء به عند الضرورة» (٢) وكيف كان فيزيّف الاستظهار المذكور ظهور الأبوال بقرينة السياق وذكرها في قرن النجاسات وعدادها في إرادة الأبوال النجسة. وأمّا الاستثناء فالتزم السيّد في مصابيحه (٣) بجعله للانقطاع. ويرد عليه أنّ الالتزام بذلك لكونه مجازاً غير لازم ، لإمكان الاتّصال بحمل أبوال الإبل على النجسة منها ، وهي أبوال الإبل الجلّالة والموطوءة.

ولنا على الجواز ـ بعد عدم ظهور الخلاف بل ظهور الإجماع ـ الأصل السليم عمّا يزاحمه ويخرج عنه. والقول بالمنع ـ مع شذوذه وعدم ظهور قائل به ـ لا مستند له عدا ما قد يحتمل من الاستناد إلى آية تحريم الخبائث ، بناءً على شموله جميع المنافع والانتفاعات. ويزيّفه ما أشرنا إليه سابقاً من قضاء قرينة المقابلة لتحليل الطيّبات بكون متعلّق التحريم خصوص الأكل والشرب لا سائر الانتفاعات.

المسألة الثانية : جواز الانتفاع بها وعدمه في الأكل والشرب بأن يطبخ به المطبوخات من اللحم والخبز وغيرهما ويشرب بانفراده أو في سائر المشروبات ، فقد اختلف فيه الأصحاب على أقوال :

__________________

(١) المراسم : ١٧٠.

(٢) النهاية ٢ : ٩٨.

(٣) مصابيح الأحكام : ١٨.

٧٩

ثالثها : المنع فيما عدا بول الإبل والجواز فيه.

والقول بالمنع مطلقاً للشيخ (١) وابن حمزة (٢) على ما حكي عنهما ، والمحقّق في الشرائع (٣) والعلّامة في عدّة من كتبه (٤) والشهيدين في اللمعة (٥) والروضة (٦) والسيّدين في المصابيح (٧) والرياض (٨).

والقول بالجواز عن السيّد في الانتصار (٩) وقبله ابن جنيد (١٠) وعن السيّد الإجماع عليه ، وتبعهما على ما حكي الحلّي في السرائر (١١) وجماعة من المتأخّرين منهم المحقّق الأردبيلي (١٢) والسبزواري (١٣) والحرّ العاملي (١٤).

والقول بالفرق ربّما عزي إلى المفيد (١٥) وسلّار (١٦) استظهاراً من عبارتيهما المتقدّم إليهما الإشارة بناءً على إرادة ما يعمّ النجسة والطاهرة من الأبوال المستثنى منها ، وقد عرفت منعه.

والأصحّ الأقوى المنع مطلقاً ، لعموم تحريم الخبائث الوارد في سورة الأعراف في قوله تعالى : «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (١٧) فإنّ الطيّب على ما يتبادر منه عند الإطلاق ونصّ عليه الطبرسي في تفسيره (١٨) والطريحي في مجمعه (١٩) وفهمه محقّقو أصحابنا «ما تستلذّه النفوس وتميل إليه الطباع».

ولا يصادمه المعاني الاخر الّتي ورد إطلاقه عليها كـ «المحلّل» ومنه قوله تعالى :

__________________

(١) النهاية ٢ : ٩٨. (٢) الوسيلة : ٣٦٤.

(٣) الشرائع ٣ : ٢٢٧. (٤) الإرشاد ٢ : ١١١ ، التحرير ٢ : ١٦١ ، القواعد ٢ : ١٥٨ ، المختلف ٨ : ٣٣٧.

(٥) اللمعة : ٦١. (٦) الروضة ٧ : ٣٢٤.

(٧) مصابيح الأحكام : ١٨. (٨) الرياض ١٣ : ٤٦٢.

(٩) الانتصار : ٤٢٤. (١٠) نقله عنه في المختلف ٨ : ٣٣٧.

(١١) السرائر ٣ : ١٢٥. (١٢) مجمع الفائدة ١١ : ٢١٤.

(١٣) الكفاية : ٢٥٢. (١٤) الوسائل : ١٢ : ١٧٦.

(١٥) المقنعة : ٥٨٧. (١٦) المراسم : ١٧٠.

(١٧) الأعراف : ١٥٧. (١٨) مجمع البيان ٤ : ٤٠٥.

(١٩) مجمع البحرين ٣ : ٨٠ (طيب).

٨٠