ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

أو الخلّ ، وعدل المتاع أو الطحين ، وصندوق العنب وما أشبه ذلك ، وكذلك الدابّة المستأجرة الّتي يقبضها المستأجر للتوصّل إلى قبض المنفعة واستيفائها في الإجارة الفاسدة ـ فقد يحكى فيها قول بالضمان تبعاً لضمان العين تعليلاً بأنّ المالك لم يقبضها مجّاناً وبلا عوض فيكون مضمونة على قابضها.

وضعّف : بأنّها وإن لم يقبضها المالك مجّاناً إلّا أنّه لم يقبضها على وجه التعويض أيضاً بل إنّما أقبضها للتوصّل إلى إقباض العين ، فتكون في يد قابضها أمانة كما في صورة صحّة العين ، ومن حكم الأمانات عدم كونها مضمونة إلّا مع التفريط أو التعدّي ، غاية الأمر كون الأمانة فاسدة لفساد العقد فيشكّ في ضمان عوضها مثلاً أو قيمة على تقدير تلفها من غير تفريط ولا تعدّ ، والأصل براءة الذمّة لعدم الدليل على الضمان كما لا ضمان فيه على تقدير صحّة العقد ، مضافاً إلى قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفساده».

وممّا بيّنّاه انقدح أنّ ثمر البحث هنا يظهر في صورة التلف بلا تفريط ولا تعدّ ، فلو لم تتلف بأن تكون باقية في يد قابضها لا ينبغي الاسترابة في وجوب ردّها إلى المالك ، كما أنّها لو تلفت بالتفريط أو التعدّي لا ينبغي التأمّل في ضمان أعواضها مثلاً أو قيمة.

المسألة الرابعة : إنّه لو كان للعين المقبوضة منفعة استوفاها المشتري ـ كركوب الدابّة ، واستخدام العبد ، ولبس الثوب ، وسكنى الدار وما أشبه ذلك ـ ففي المنفعة فعليه عوضها الّذي يقال له اجرة المثل كما عليه بعض مشايخنا (١) ناسباً له إلى المشهور ، وعدمه كما عن الوسيلة (٢)؟ قولان. وقد يستظهر ممّا ذكره الحلّي في السرائر من كون هذا المال بمنزلة المغصوب الاتّفاق عليه ، لمكان الاتّفاق على ضمان منافع المغصوب المستوفاة.

واستدلّ عليه بعموم قوله : «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه» (٣) بناءً على صدق المال على المنفعة ، ولذا يجعل ثمناً في البيع ومهراً في النكاح.

وفيه : نظر بل منع ، لأنّ نفي الحلّيّة يلازم الحرمة أو عينها ، وأيّاً ما كان فهو غير الضمان الّذي هو حكم وضعي ، فلا يثبت به الحكم الوضعي إلّا إذا ثبت بينهما ملازمة ، وثبوتها يحتاج إلى دليل من إجماع أو نصّ غير هذا الخبر الّذي هو دليل الملزوم

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٢٠١.

(٢) الوسيلة : ٢٥٥.

(٣) عوالي اللآلئ ٢ : ١١٣ / ٣٠٩.

٦٤١

فلا يفي بالملازمة.

وإذا كان مبنى الاستدلال به على صدق المال على المنفعة كان الاستدلال بقوله عليه‌السلام «من أتلف مال الغير فهو ضامن» أولى وأسدّ. وأولى منه الاستدلال بعموم خبر «على اليد ما أخذت» بناءً على ما تقدّم في شرحه من أنّ الموصول كناية عن المال المأخوذ ، واليد عن صاحبها من إطلاق الجزء على الكلّ ، والأخذ عن الاستيلاء ، وظاهر أنّ المستوفي للمنفعة استولى عليها فكانت عليه وذمّته مشغولة حتّى تؤدّيها بردّ عوضها.

وعن الوسيلة (١) الاحتجاج بأنّ «الخراج بالضمان» كما في النبويّ المرسل (٢) والخراج عبارة عن الفائدة فيصدق على المنفعة ، والباء للسببيّة أي المنفعة تذهب بسبب الضمان أي في مقابله ، ومعناه كونها في مقابلة ضمان العين. وحاصل تفسير الخبر أنّ من تقبّل شيئاً لنفسه وضمنه فخراجه له ، والمشتري لمّا أقدم على ضمان المبيع وتقبّله على نفسه بتقبيل البائع وتضمينه إيّاه على أن يكون الخراج له مجّاناً ، كان اللازم من ذلك أن يكون خراجه له على تقدير الفساد ، كما أنّ الضمان عليه على هذا التقدير أيضاً. والحاصل أنّ ضمان العين لا يجتمع مع ضمان الخراج ، ومرجعه إلى أنّ الفائدة والغنيمة بإزاء الغرامة. قال شيخنا قدس‌سره : وهذا المعنى مستنبط من أخبار كثيرة متفرّقة مثل قوله في مقام الاستشهاد على كون منفعة المبيع في زمان الخيار للمشتري : «ألا ترى أنّها لو احترقت كانت من مال المشتري» (٣) ونحوه في الرهن (٤) وغيره (٥).

واجيب : بأنّ الضمان الّذي يوجب كون الخراج للضامن هو ما أقدم عليه المتبايعان وأمضاه الشارع كضمان الثمن المسمّى في البيع الصحيح ، ولذا يقع فوائد المبيع ومنافعه للمشتري مجّاناً وبلا عوض ، وما أقدم عليه المتبايعان في العقد الفاسد من ضمان الثمن المسمّى لم يمضه الشارع بحكم فساد العقد ، وما ورد على المشتري من ضمان العين وعوضه الواقعي مثلاً أو قيمة حكم قهريّ جاء من قبل الشارع من دون إقدامهما عليه

__________________

(١) الوسيلة : ٢٥٥.

(٢) عوالي اللآلئ ١ : ٢١٩ / ٨٩.

(٣) الوسائل ١٨ : ٢٠ / ٣ ، ب ١٨ أبواب الخيار ، التهذيب ٧ : ١٧٦ / ٧٨٠.

(٤) الوسائل ١٨ : ٣٨٧ / ٦ ، ب ٥ أحكام الرهن ، التهذيب ٧ : ١٧٢ / ٧٦٤.

(٥) المكاسب ٣ : ٢٠٢.

٦٤٢

ولا التزام المشتري به ، نظير ضمان المقبوض بالسوم وضمان المغصوب.

وربّما نقض ما ذكر في معنى الرواية بالعارية المضمونة ، من حيث إقدام المستعير على ضمانها مع عدم كون خراجها له لعدم تملّكه المنفعة ، وإنّما تملّك الانتفاع الّذي عيّنه المالك. ولا يخلو عن شي‌ء.

واورد على القول المذكور أيضاً بما ورد (١) في شراء الجارية المسروقة من ضمان قيمة الولد وعوض اللبن بل عوض كلّما انتفع بها. وردّ بأنّ الكلام في البيع الفاسد الحاصل بين مالكي العوضين من جهة أنّ مالك العين جعل خراجها للمشتري بإزاء ضمانها بالثمن ، لا ما كان فساده من جهة التصرّف في مال الغير قيل (٢) : وأضعف من ذلك الإيراد عليه بصحيحة أبي ولّاد (٣) المتضمّنة لضمان منفعة المغصوب المستوفاة ردّاً على أبي حنيفة القائل : «بأنّه إذا تحقّق ضمان العين ولو بالغصب سقط كراها» (٤) كما يظهر من تلك الصحيحة.

نعم لو كان القول المذكور موافقاً لقول أبي حنيفة في إطلاق القول «بأنّ الخراج بالضمان» انتهضت الصحيحة وما قبلها ردّاً عليه.

المسألة الخامسة : في ضمان المنافع الغير المستوفاة الفائتة على مالك العين في يد قابضها بالعقد الفاسد وعدمه ، وبما أخذناه في العنوان يظهر الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة ، فإنّ الموجب للضمان في المنافع المستوفاة إنّما هو إتلاف المنفعة ، ومحلّ البحث في هذه المسألة تلف المنفعة من غير إتلاف ، لأنّ المفروض عدم استيفاء من بيده العين وإنّما تلفت في يده ، فهل هو كالإتلاف في كونه موجباً للضمان أو لا؟ فيه خلاف على أقوال ، ضبطها بعض مشايخنا وجعلها خمسة :

أوّلها : الضمان مطلقاً نسبه في موضع (٥) إلى المشهور ، وفي آخر قال : «وكأنّه للأكثر».

__________________

(١) الوسائل ٢١ : ٢٠٤ / ٥٠٢ ، ب ٨٨ نكاح العبيد والإماء ، التهذيب ٧ : ٦٤ / ٢٧٦.

(٢) المكاسب ٣ : ٢٠٣.

(٣) الوسائل ٢٥ : ٣٩٠ / ١ ، ب ٧ أبواب الغصب ، التهذيب ٧ : ٢١٥ / ٩٤٣.

(٤) المغني لابن قدّامة ٥ : ٥٠١ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٣١.

(٥) المكاسب ٣ : ٢٠٤ ـ ٢٠٦.

٦٤٣

الثاني : عدم الضمان كما عن الإيضاح (١).

الثالث : الضمان مع جهل البائع بالفساد وعدمه مع علمه به ، كما عن بعض (٢) من كتب على الشرائع.

الرابع : التوقّف في هذه الصورة كما استظهره جامع المقاصد (٣) والعميدي (٤) من عبارة القواعد (٥).

الخامس : التوقّف مطلقاً كما عن الدروس (٦) والمسالك (٧) والتنقيح (٨) وعليه شيخنا المتقدّم قائلاً : «إنّ للتوقّف في المسألة مجالاً كما في المسالك تبعاً للدروس والتنقيح» (٩).

والأقوى هو القول بالضمان مطلقاً ، لعين ما تقدّم في المسألة السابقة من عموم خبر «على اليد» بناءً على كون الأخذ عبارة عن الاستيلاء ، فإنّ من استولى على العين وتمكّن من جميع تصرّفاتها واستيفاء منافعها صدق أنّه استولى على منافعها ، وحيث تلفت المنافع تحت يده ضمن عوضها. وأمّا سائر الوجوه المحتملة هنا من عموم خبر «لا يحلّ مال امرئ ...» الخ ، وخبر «من أتلف مال الغير» وقاعدتي «الاحترام والإقدام» فكلّها مدخولة. وأضعف من الجميع توهّم تناول منقول الإجماع في عبارة التذكرة قائلاً : «منافع الأموال من العبد والثياب والعقار وغيرها مضمونة بالتفويت والفوات تحت اليد العادية ، فلو غصب عبداً أو جارية أو عقاراً أو حيواناً مملوكاً ضمن منافعه سواء أتلفها بأن استعملها أو فاتت تحت يده بأن بقيت مدّة في يده لا يستعملها عند علمائنا أجمع» (١٠) انتهى. بناءً على كون مراده من اليد العادية مقابل اليد الحقّة لبعد هذا البناء خصوصاً مع ملاحظة تفريع الغصب.

المسألة السادسة : قد ظهر أنّ العين إذا تلفت وكانت مثليّة تضمن بالمثل على ما هو المعروف من مذهب الأصحاب ، وقد يقال «بلا خلاف» إلّا ما يحكى عن ظاهر الإسكافي (١١)

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٢ : ١٩٤. (٢) لم نقف عليه

(٣) جامع المقاصد ٦ : ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

(٤) كنز الفوائد ١ : ٦٧٦. (٥) القواعد ٢ : ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

(٦) الدروس ٣ : ١٩٤. (٧) المسالك ٣ : ١٥٤.

(٨) التنقيح ٢ : ٣٢. (٩) المكاسب ٣ : ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

(١٠) التذكرة ٢ : ٣٨١.

(١١) حكاه في المختلف ٦ : ١٣١ ، والشهيد في غاية المراد ٢ : ٣٩٨.

٦٤٤

وقد يعبّر عنه «بالإجماع» كما عن جامع المقاصد (١) وعن غاية المراد (٢) «أطبق الأصحاب على ضمان المثلي بمثله إلّا ما يظهر من ابن الجنيد».

وقد يقال في مذهبه : إنّ كلامه محتمل لأن يكون المالك مخيّراً في ضمان المثلي بين الأخذ بالمثل أو بالقيمة ولتعيّن القيمة إلّا إذا رضي المالك بالمثل عبارته المحكيّة في باب الغصب «إنّ ترك المغصوب ضمن قيمته أو مثله إن رضي صاحبه».

ومبنى الاحتمالين احتمال رجوع القيد إليهما ، واحتمال رجوعه إلى الأخير.

وقد تعرّض الأصحاب لتعريف المثلي دون القيمي اكتفاءً في اتّضاح حاله باتّضاح حال المثلي باعتبار قرينة المقابلة.

واختلفت كلماتهم في تعريف المثلي غاية الاختلاف ، وأجودها كما اعترف به غير واحد تعريفه بما يتساوى قيمة أجزائه كما في الشرائع (٣) وعن الشيخ (٤) وابن زهرة (٥) والعلّامة (٦) وغيرهم (٧) وفي كلام غير واحد (٨) وصفه بالمشهور. وظنّي أنّه لو عبّر مكان القيمة بالقيم كان أولى. وقد يعبّر عن أصل التعريف بما يتساوى أجزاؤه من حيث القيمة ، والمراد بأجزائه كما قيل : «ما يصدق على كلّ اسم الحقيقة» (٩) كما أنّ المراد بتساوي الأجزاء من حيث القيمة «تساويها فيها من حيث المقدار» ويلزم من ذلك أن يتساوى الأجزاء أيضاً من حيث المقدار إذ لو لا تساويها كذلك لم تتساو من حيث القيمة ، وقضيّة هذا كلّه أن يكون نسبة قيمة كلّ جزء إلى قيمة المجموع كنسبة نفس كلّ جزء إلى نفس المجموع ، وهذا ما يقال له بتساوي الأجزاء من حيث القيمة في النسبة.

وقد يفسّر ذلك بأن يكون قيمة كلّ بعض بالنسبة إلى قيمة البعض الآخر كنسبة نفس البعضين من حيث المقدار ، ولذا قيل في توضيحه : «أنّ المقدار منه إذا كان يستوي قيمة نصفه فنصفه يستوي نصف تلك القيمة» (١٠) ومن هنا رجّح الشهيد كون المصوغ

__________________

(١) جامع المقاصد ٦ : ٣٤٥.

(٢) غاية المراد ٢ : ٣٩٨. (٣) الشرائع ٣ : ٢٣٩.

(٤) المبسوط ٣ : ٥٩. (٥) الغنية : ٢٧٨.

(٦) القواعد ٢ : ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

(٧) كما في المهذّب البارع ٤ : ٢٥١ ، والمقتصر : ٣٤٢.

(٨) كما في المسالك ٢ : ٢٠٨ ، الكفاية : ٢٥٧ ، الرياض ١٤ : ٢٣.

(٩) المكاسب ٣ : ٢١٠.

(١٠) الرياض ١٤ : ٢٣ والمسالك ٢ : ٢٠٨.

٦٤٥

من النقدين قيميّاً قال : «إذ لو انفصلت نقصت قيمتها» (١) قال شيخنا قدس‌سره بعد نقل هذه الكلمات : «قلت : وهذا يوجب أن لا يكون الدرهم الواحد مثليّاً ، إذ لو انكسر نصفين نقص قيمة نصفه عن قيمة المجموع إلّا أن يقال : إنّ الدرهم مثليّ بالنسبة إلى نوعه ، وهو الصحيح ولذا لا يعدّ الجريش مثلاً للحنطة ، ولا الدقاقة مثلاً للُارز ، ومن هنا يظهر أنّ كلّ نوع من أنواع الجنس الواحد ، بل كلّ صنف من أصناف نوع واحد مثلي بالنسبة إلى أفراد ذلك النوع أو الصنف.

فلا يرد ما قيل (٢) : من أنّه [إن] اريد التساوي بالكلّيّة ، فالظاهر عدم صدقه على شي‌ء من المعرّف إذ ما من مثلي إلّا وأجزاؤه مختلفة في القيمة كالحنطة ، فإنّ قفيزاً من حنطة تساوي عشرة ومن اخرى تساوي عشرين. وإن اريد في الجملة فهو في القيمي موجود كالثوب والأرض (٣) انتهى. قال : وقد لوّح هذا المورد في آخر كلامه إلى دفع إيراده بما ذكرنا ، من أنّ كون الحنطة مثليّة معناه أنّ كلّ صنف منه متماثل الأجزاء ومتساوية القيمة ، لا بمعنى أنّ جميع أبعاض هذا النوع متساوية في القيمة فإذا كان المضمون بعضاً من صنف فالواجب دفع مساويه من هذا الصنف ، لا القيمة ولا بعض من صنف آخر.

لكنّ الإنصاف أنّ هذا خلاف ظاهر كلماتهم ، فإنّهم يطلقون المثلي على جنس الحنطة والشعير ونحوهما ، مع عدم صدق التعريف عليه. وإطلاق المثلي على الجنس باعتبار مثليّة أنواعه أو أصنافه وإن لم يكن بعيداً ، إلّا أنّ انطباق التعريف على الجنس بهذا الاعتبار بعيد جدّاً ، إلّا أن يُهملوا خصوصيّات الأصناف الموجبة لزيادة القيمة ونقصانها كما التزمه بعضهم ، غاية الأمر وجوب رعاية الخصوصيّات عند أداء المثل عوضاً عن التالف أو القرض ، وهذا أبعد.

هذا مضافاً إلى أنّه يشكل اطّراد التعريف بناءً على هذا ، بأنّه [إن] اريد تساوي الأجزاء من صنف واحد من حيث القيمة تساوياً حقيقيّاً ، فقلّما يتّفق ذلك في الصنف الواحد من النوع ، لأنّ أشخاص ذلك الصنف لا يكاد يتساوى في القيمة لتفاوتها

__________________

(١) المسالك ٢ : ٢٠٩.

(٢) مجمع الفائدة ١٠ : ٥٢٥ ـ ٥٢٦.

(٣) المكاسب ٣ : ٢١٠ ـ ٢١١.

٦٤٦

بالخصوصيّات الموجبة لزيادة الرغبة ونقصانها كما لا يخفى.

وان اريد تقارب أجزاء ذلك الصنف من حيث القيمة وإن لم يتساو حقيقة ، تحقّق ذلك في أكثر القيميّات ، فإنّ لنوع الجارية أصنافاً متقاربة في الصفات الموجبة لتساوي القيمة ، وبهذا الاعتبار يصحّ السّلَم فيها ، ولذا اختار العلّامة في باب القرض من التذكرة : أنّ ما يصحّ فيه السّلَم من القيميّات ، مضمون في القرض بمثله (١) وقد عدّ الشيخ في المبسوط (٢) الرطب والفواكه من القيميّات ، مع أنّ كلّ نوع منها مشتمل على أصناف متقاربة في القيمة بل متساوية عرفاً.

ثمّ لو فرض أنّ الصنف المتساوي من حيث القيمة في الأنواع القيميّة عزيز الوجود بخلاف الأنواع المثليّة ، لم يوجب ذلك إصلاح طرد التعريف ، نعم يوجب ذلك الفرق بين النوعين في حكمة الحكم بضمان المثلي بالمثل والقيمي بالقيمة» (٣) انتهى كلام الشيخ قدس‌سره.

والّذي ينبغي أن يقال في تحقيق المقام : هو أنّه لا جدوى في الإطناب بالتكلّم في تعريف المثلي بمثل ما عرفت وغيره ، مع أنّه لا يكاد يوجد تعريف له ممّا ذكره الأصحاب وغيرهم يكون سليماً عمّا يرد عليه في طرده أو في عكسه ، بل العمدة في المقام بيان مفهومي المثلي والقيمي حسبما يستفاد من النسبة ، فنقول : إنّ المثلي باعتبار هذه النسبة عبارة عن المال المنسوب إلى المثل ، وانتساب المال إلى المثل إنّما هو باعتبار كون ضمان تالفه بالمثل ، ومن ذلك يعلم وجه انتساب المال إلى القيمة في القيمي ، والمثل المأخوذ طرفاً في النسبة في المثلي لغة وعرفاً عبارة عن «شبه الشي‌ء وشبيهه» فإمّا أن يراد به ما يماثل التالف ويشابهه في الجنس ، أو في النوع أو في الجنس ، أو في الخصوصيّات الّتي لها مدخليّة في رغبات الناس احتمالات.

ينبغي القطع ببطلان ما عدا الأخير للزوم عدم اطّراد المثلي على غيره ، إذ ما من قيمي إلّا وله ما يماثله ويشابهه في الجنس بل وفي النوع أيضاً ، ووجود ما يماثله ويشابهه في الصنف أيضاً كثير في القيميّات ، وكلّ مثلي يوجد ما يماثله ويشابهه في الخصوصيّات الّتي لها مدخليّة في الرغبات ، ولو اتّفق نادراً ما لا يوجد له مثل بهذا

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٥.

(٢) المبسوط ٣ : ٩٩.

(٣) المكاسب ٣ : ٢١٠ ـ ٢١٣.

٦٤٧

المعنى فهو مندرج فيما تعذّر له المثل ، وسيأتي حكمه. ويغلب في القيمي عدم وجود المماثل والمشابه في جميع الخصوصيّات ، ولو اتّفق نادراً وجود المماثل على هذا الوجه فلا عبرة به إذ النادر بمنزلة المعدوم ، والعبرة بما هو الغالب من عدم وجود المماثل والمشابه ، فيكون الضمان في كلّ من الغالب والنادر بالقيمة. فتعيّن أن يكون المراد هو الأخير محافظة على الطرد ، ولأنّ الّذي يظهر من كلماتهم في الضمان بالمثل وهو المصرّح به في كلام غير واحد ، ومنه ما عرفت هو رعاية المماثلة والمشابهة في جميع الخصوصيّات الّتي لها مدخليّة في الرغبات ، وحيث إنّ مدرك كون ضمان المثلي بالمثل والقيمي بالقيمة فكلّ ما انعقد الإجماع على كونه مثليّاً فلا إشكال ، كما أنّ كلّما انعقد الإجماع على كونه قيميّاً فلا إشكال.

نعم : يشكل الحال في الموارد المشتبهة باعتبار وقوع الاختلاف في المثليّة والقيميّة ، كما في الذهب والفضّة الغير المسكوكين لما عن الشيخ (١) من التصريح بكونهما من القيميّات وعن ظاهر غيره (٢) كونهما مثليّين ، والحديد والنحاس والرصاص لما عن ظاهر عبائر المبسوط (٣) والغنية (٤) والسرائر (٥) من كونها قيميّة وعن عبارة السرائر كونها صريحة في «أنّ اصول هذه الأشياء مثليّة وإن كان المصوغ منها قيميّاً» ولما عن الشيخ من المبسوط (٦) من التصريح بكون «الرطب والعنب قيميّاً ، والتمر والزبيب مثليّاً» وعن المختلف (٧) الاستشكال في الفرق بينهما ، ونقل شيخنا قدس‌سره عن بعض (٨) من قارب عصره التصريح «بكون الرطب والعنب مثليّين» (٩) وعن موضع من جامع المقاصد «أنّ الثوب مثلي» (١٠) والمشهور خلافه ، إلى غير ذلك من موارد الخلاف ، ونحوها سائر الموارد المشتبهة ، فهل الأصل فيها الضمان بالمثل أو بالقيمة أو تخيير

__________________

(١) المبسوط ٣ : ٦١.

(٢) كما في الشرائع ٣ : ٢٤٠ ، التحرير ٢ : ١٣٩ ، التذكرة ٢ : ٣٨٤ ، المختلف ٦ : ١٢٢ ، الدروس ٣ : ١١٦ ، والكفاية : ٢٥٨.

(٣) المبسوط ٣ : ٦٠.

(٤) الغنية : ٢٧٨.

(٥) السرائر ٢ : ٤٨٠.

(٦) المبسوط ٣ : ٩٩ ـ ١٠٠.

(٧) المختلف ٦ : ١٣٥.

(٨) صرّح به المحقّق القمىّ في جامع الشتات ٢ : ٥٤٣ ـ ٥٤٤.

(٩) المكاسب ٣ : ٢١٦.

(١٠) جامع المقاصد ٦ : ٢٥٠.

٦٤٨

المالك أو تخيير الضامن؟.

فقد يقال : لا يبعد أن يقال : إنّ الأصل تخيير الضامن لأصالة براءة ذمّته عمّا زاد على ما يختاره ، إلّا أن يقوم الإجماع على خلافه ، فالأصل تخيير المالك لأصالة عدم براءة ذمّته بدفع ما لا يرضى به المالك.

ويخدشه : أنّ المقام ليس من الشكّ من التكليف ، ولا ممّا يؤول إليه من الشكّ في المكلّف به كما لو دار الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر ، بل من الشكّ في المكلّف به الدائر بين المتباينين وهما الضمان بالمثل أو بالقيمة ، نظراً إلى أنّ المثل من حيث مثليّته في مقابل القيمة ، لا باعتبار قيمته ليئول مع القيمة المقابلة له إلى الأقلّ والأكثر ، فلا يجري أصل البراءة بل الأصل هو تخيير المالك لأصالة الاشتغال ، فإنّ يقين الشغل بأداء عوض العين التالفة يستدعي يقين البراءة ، ولا يحصل إلّا بأداء ما يرضى به المالك فيجب.

ويخدشه أيضاً : أنّ الضابط في جريان أصل الاشتغال وجود القدر المتيقن ممّا يحصل به الامتثال وهو غير موجود في محلّ المقال ، لدوران الأمر بين المحذورين ، وهما تعيين المثل بحيث لم يكن للمالك مطالبة القيمة ولا للضامن الامتناع منه ، وتعيين القيمة بحيث لم تكن للمالك مطالبة المثل ولا للضامن الامتناع منها ، فلا يمكن البراءة اليقينيّة.

وقيل : يمكن أن يقال : إنّ القاعدة المستفادة من إطلاقات الضمان في المغصوبات والأمانات المفرّط فيها وغيرها هو الضمان بالمثل لأنّه أقرب إلى التالف من حيث الماليّة والصفات ، ثمّ بعده بقيمة التالف من النقدين وشبههما لأنّه أقرب إليه من حيث الماليّة ، ولأجل الاتّكال إلى هذا الظهور أهمل الشارع بيان الحكم للموارد المشتبهة مع عموم البلوى بها.

أقول : ويساعد عليها ظاهر خبر «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» فإنّ الثقل المستفاد من كلمة على ـ كما قرّرناه ـ مستصحب إلى أن يحصل التأدية بما هو أقرب إلى العين في الماليّة والصفات ، ومع تعذّره يعدل إلى ما هو أقرب إليه في الماليّة وهو القيمة. فقد تلخّص من جميع ما ذكرناه أنّ ما أجمع على كونه مثليّاً يضمن بالمثل وتعني به ما يماثل التالف ويشابهه في الجنس والنوع والصنف والصفات الّتي لها مدخليّة في الرغبات ، سواء ساوى قيمته قيمة التالف أو نقص عنها أو زاد عليها.

٦٤٩

وتوهّم : الضرر على المالك في صورة نقصان القيمة ، يدفعه أنّ ماله الّذي في ذمّة الضامن هو المثل كائناً ما كان لا القيمة. كما أنّ توهّم لزومه على الضامن في صورة الزيادة ، يندفع بأنّ ما خوطب بردّه هو ذلك لا القيمة نظير الدين في ذمّة المديون في القرض ، فإنّ اختلاف القيمة لا يعدّ ضرراً.

وما أجمع على كونه قيميّاً يضمن بالقيمة وإن وجد له مثل أو كان مثله في ذمّة الضامن ، لعدم كون بنائهم فيه على التهاتر القهري.

وما يشكّ في كونه قيميّاً أو مثليّاً يلحق بالمثلي. وقد يقيّد بعدم اختلاف قيمتي المدفوع والتالف ، وأمّا مع الاختلاف فيلحق بالقيمي. ووجهه غير واضح ، ولعلّه ما تقدّم في وجه أصالة الضمان بالمثل من كون مناطه كون المثل أقرب إلى التالف في الماليّة ، فإذا نقص المثل من حيث القيمة وجب العدول إلى قيمة التالف رعاية إلى الأقرب إليه من حيث الماليّة.

ويشكل بأنّ مناط الأصل المذكور هو الأقربيّة من حيث الماليّة والصفات معاً ، والعدول إلى القيمة فيما نحن فيه وإن كان محصّلاً للأقربيّة من حيث الماليّة إلّا أنّه مفوّت للأقربيّة من حيث الصفات ، وقد يكون مطلوب المالك المرغوب فيه عنده هو الصفات لا الماليّة ، كما أنّه قد يكون مطلوبه المرغوب فيه هو الماليّة لا الصفات ، فلا بدّ من طرح إحدى الأقربيّتين فيما نحن فيه ، والطرح ليس من وظيفة الضامن بل من وظيفة المالك ، لأنّ كلاًّ منهما في صورة الإمكان حقّه ، فالوجه حينئذٍ إناطة تعيين أحد الأمرين من المثل الموافق للتالف في الصفات أو القيمة الموافقة لها في الماليّة باختيار المالك هذا ، مضافاً إلى أصالة عدم براءة ذمّة الضامن بدفع ما لا يرضى به المالك.

نعم يمكن أن يقال : إنّ العبرة في أقربيّة المثل إلى التالف ليست بالماليّة والقيمة ، بل بالمماثلة والمشابهة له في الجنس والنوع والصنف والصفات ، ومع وجود المثل بهذا المعنى كان مال المالك المضمون به ولا يتسلّط على مطالبة غيره ولو مع اختلاف القيمتين ونقصان قيمة المثل عن قيمة التالف ، ولذا حكموا على ما حكي بأنّ تنزّل قيمة المثل حين الدفع عن يوم التلف لا يوجب الانتقال إلى القيمة ، بل عن بعضهم أنّه احتمل ذلك مع سقوط المثل في زمان الدفع عن الماليّة كالماء عند شاطئ البحر والثلج في

٦٥٠

الشتاء. وعلى هذا كلّه فللمالك مطالبة مثل ماله في كلّ مكان يكون ولو في غير مكان التلف ، لعموم «الناس مسلّطون» من غير فرق في صورة اختلاف المكانين بين كون قيمته في مكان المطالبة أزيد من قيمته في مكان التلف أو لا ، كما حكي عن ظاهر السرائر (١) والتذكرة (٢) والإيضاح (٣) والدروس (٤) وجامع المقاصد (٥) وعن السرائر «أنّه الّذي يقتضيه عدل الإسلام والأدلّة واصول المذهب.

وعلى هذا فما عن القواعد من «أنّه لو لم يوجد المثل إلّا بأكثر من ثمن المثل ففي وجوب الشراء تردّد» (٦) لا وجه له ، بل الوجه هو وجوب الشراء وإن صار قيمته أضعاف قيمة التالف يوم تلفه ، سواء كان صيرورته كذلك لارتفاع قيمته السوقيّة أو لعدم وجوده إلّا عند من يبيعه بأكثر من ثمن المثل ولو لعناد أو غرض آخر له ، وعن الخلاف نفي الخلاف ، وإطلاقه يشمل الصورتين قائلاً : «إذا غصب ماله مثل كالحبوب والادهان فعليه مثل ما تلف في يده يشتريه بأيّ ثمن كان بلا خلاف» (٧) ويدلّ عليه إطلاق النصّ والفتوى ، ويؤيّده فحوى حكمهم بأنّ تنزّل قيمة المثل حين الدفع عن يوم التلف لا يوجب الانتقال إلى القيمة. وتوهّم : الفرق بين الصورتين بدعوى إمكان التردّد في الصورة الثانية تعليلاً بأنّ بذل ما يزيد مالك المثل بإزائه يعدّ ضرراً في العرف ، تحكّم.

المسألة السابعة : لو تعذّر المثل في المثلي فله صور :

الاولى : أن يتواطأ المالك والضامن على القيمة فلا إشكال فيه ، لعموم «الناس مسلّطون على أموالهم» المقتضي لسلطنة المالك على إبدال ماله في ذمّة الضامن بقيمته ، وإذا دفعها الضامن برئت ذمّته.

الثانية : أن يتواطآ على الصبر والانتظار إلى أن يوجد المثل وإن طال مدّة الصبر ، فإذا وجد وجب دفعه. ولا إشكال فيه ، لأجل العموم المذكور ، وأصالة براءة الضامن عن القيمة.

الثالثة : أن يطالب المالك قيمة المثل المتعذّر في العاجل والضامن لا يرضى بها آمراً له بالصبر إلى أن يوجد المثل تعليلاً بأنّ حقّك فيه لا في القيمة ، فقد يقال : بأنّ مقتضى القاعدة مع مطابقة المالك وجوب دفع القيمة ، لأنّ منع المالك ظلم وإلزام

__________________

(١) السرائر ٢ : ٤٨٠.

(٢) التذكرة ٢ : ٣٨٣. (٣) الإيضاح ٢ : ١٧٨.

(٤) الدروس ٣ : ١١٣. (٥) جامع المقاصد ٦ : ٢٦٠.

(٦) القواعد ٢ : ٢٢٧ ـ ٢٢٨. (٧) الخلاف ٣ : ٤١٥ المسألة ٢٩.

٦٥١

الضامن بالمثل منفيّ بالتعذّر فوجبت القيمة جمعاً بين الحقّين ، ولقوله تعالى : «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» (١) فإنّ الضامن إذا الزم بالقيمة مع تعذّر المثل لم يعتد عليه أزيد ممّا اعتدى.

أقول : إن كان إجماعاً فلا كلام ، وإلّا ففيه نظر ، لضعف الوجهين :

أمّا القاعدة فلأنّ منع المالك عن مطالبته للصبر والانتظار إلى وجود المثل الّذي حقّه فيه لو كان ظلماً ، فإلزام الضامن بدفع القيمة مع كون ما في ذمّته المثل لا القيمة أولى بكونه ظلماً ، بل الإنصاف أنّ الثاني ظلم دون الأوّل ، بل هو كإنظار المديون المعسر إلى اليسار ، نعم منع المالك عن حقّه مطلقاً حتّى المثل المتعذّر في زمان وجوده ظلم.

وأمّا الآية فلأنّها على تقدير وفائها بالضمان المالي فمفادها الرخصة في الاعتداء بمثل ما اعتدى ، لا المنع من أزيد ممّا اعتدى ، وقد بيّنّا سابقاً أنّ المثل في متفاهم العرف ظاهر فيما يماثل الشي‌ء ويشابهه من جميع الجهات ، فلا يشمل القيمة فالإلزام بها وإن لم يصدق عليه الاعتداء بأزيد ممّا اعتدى إلّا أنّه لم يصدق عليه الاعتداء بمثل ما اعتدى ، فالرخصة المستفادة من الآية لا يشملها.

لا يقال : إنّ المنع عن الاعتداء بأزيد ممّا اعتدى ينساق من تبادر المماثلة في المقدار من المثل ، لأنّ هذا المتبادر من جملة الجهات الّتي يتبادر من المثل المماثلة فيها ، ومن جملتها الجنس والنوع والمثل والصفات الّتي لها مدخليّة في الرغبات.

الرابعة : أن لا يطالب المالك قيمة ماله بل يصبر إلى وجود المثل ، ولكنّ الضامن لا يرضى به بل يريد دفع القيمة ، هل له إلزام المالك بقبولها؟ الظاهر العدم ، لأصالة بقاء حقّ المالك في المثل ، وعدم سقوط حقّه عن المثل مع عدم الدليل على إلزامه بقبولها.

وقد يعلّل أيضاً بأنّ المتيقّن أنّ دفع القيمة علاج لمطالبة المالك ، وجمع بين حقّه بتسليطه على المطالبة وحقّ الضامن بعدم تكليفه بالمعذور أو المعسور ، أمّا مع عدم المطالبة فلا دليل على سقوط حقّه عن المثل.

وهذا مبنيّ على تماميّة القاعدة المذكورة في الصورة السابقة ، وقد سمعت المناقشة

__________________

(١) البقرة : ١٤٩.

٦٥٢

فيها. وأمّا عدم الدليل على سقوط حقّ المالك عن المثل فحقّ لا سترة عليه.

ثمّ بعد ما وجبت القيمة إمّا للتواطؤ أو على القول بوجوبها مع مطالبة المالك مطلقاً ، فهل المعتبر فيها قيمة يوم الدفع ، أو قيمة يوم التعذّر ، أو قيمة يوم المطالبة ، أو قيمة يوم تلف العين؟ احتمالات ، وربّما يذكر فيه احتمالات اخر سيأتي بيانها ، إلّا أنّ المشهور كما حكي (١) المنسوب إلى الأكثر وهو الأقوى كون العبرة فيها بقيمة يوم الدفع ، كما نسب التصريح به إلى المحقّق (٢) وهو ظاهر المحكيّ عن التذكرة (٣) والإيضاح (٤) وهو أنّ المثل لا يسقط بالإعواز ، ألا ترى أنّ المغصوب منه لو صبر إلى زمان وجدان المثل ملك المطالبة به وإنّما المصير إلى القيمة وقت تغريمها (٥) انتهى. وعلّل الحكم بأنّ المثل ثابت في الذمّة إلى ذلك الزمان ولا دليل على سقوطه بتعذّره كما لا يسقط الدين بتعذّر أدائه ، وهو المستفاد أيضاً من عبارتي التذكرة والإيضاح لمكان قولهما «لو صبر إلى زمان وجدان المثل ملك المطالبة به» وفيه نوع قصور. والأولى أن يقال : إنّ انتقال المثل المضمون به المفروض تعذّره إلى القيمة إنّما هو بإبداله بالقيمة ، وهو إنّما يتحقّق في زمان الدفع الّذي هو وقت إقباض القيمة.

وعن جماعة كالحلّي في البيع الفاسد (٦) والعلّامة في التحرير في باب القرض (٧) والمسالك (٨) اعتبار قيمة يوم التعذّر ، وعلّلوه بأنّه وقت الانتقال إلى القيمة.

وفيه من المصادرة على المطلوب ما لا يخفى ، مع توجّه المنع إلى دعوى كونه وقت الانتقال إلى القيمة ، فإنّ الانتقال إليها مبنيّ على الإبدال وهو يتحقّق في وقت الدفع ، كما في انتقال الزكاة المتعلّقة بالعين إلى ذمّة المالك بتقبّلها بقيمتها الّذي يوجب الانتقال إلى القيمة في الذمّة وقت التقبّل ، فيكون العبرة فيها بقيمة ذلك الوقت.

وممّا بيّنّاه ينقدح ضعف احتمال كون العبرة بقيمة يوم المطالبة ، إذ الانتقال إلى القيمة إذا كان منوطاً بالإبدال فهو لا يتحقّق بمجرّد مطالبة المالك ، غاية الأمر أنّه

__________________

(١) حكاه السيّد المجاهد في المناهل : ٨.

(٢) القواعد ٢ : ٢٢٦.

(٣) التذكرة ٢ : ٣٨٣.

(٤) الإيضاح ٢ : ١٧٥.

(٥) الإيضاح ٢ : ١٧٥.

(٦) السرائر ٢ : ٢٨٥.

(٧) تحرير الأحكام ١ : ٢٠٠.

(٨) المسالك ٣ : ١٧٤.

٦٥٣

يستحقّ مطالبتها وهي بمجرّدها لا توجب الانتقال المذكور بحيث ينقلب المثل المضمون قيمته في الذمّة.

على أنّا نقول في توضيح بطلان هذا الاحتمال وسابقه : إنّ القيمة المنتقل إليها إمّا قيمة المثل المتعذّر ، أو قيمة العين التالفة ، فإن كان الأوّل فلا مناص من اعتبار قيمة يوم الدفع لأنّه لا يسقط عن الذمّة ولو بحكم الأصل إلّا بأداء عوضه وهو القيمة ، وإن كان الثاني فلا محيص من اعتبار قيمة يوم تلف العين ، فالواسطة من اعتبار قيمة يوم المطالبة واعتبار قيمة يوم التعذّر منتفية.

ومن ذلك ظهر بطلان اعتبار أعلى القيم بجميع محتملاته. وما ذكرناه من المختار هو مقتضى الأصل والقاعدة ، ولا يقدح فيه لو ثبت اعتبار شي‌ء ممّا عدا قيمة يوم الدفع بدليل خاصّ في بعض الفروض ، فإنّه من باب تخصيص القاعدة.

وأمّا تحقيق أنّ القيمة المنتقل إليها هو قيمة المثل المتعذّر لا قيمة العين التالفة ، فلأنّ كونها قيمة العين التالفة معناه كون المضمون به من حيث تلف العين هو القيمة لا المثل ، وهذا لا يتمّ إلّا بدعوى انقلاب المثلي في مسألة تعذّر المثل قيميّاً. وهذه الدعوى لكونها على خلاف مقتضى دليل كون ضمان المثلي بالمثل تحتاج إلى دليل ولا دليل عليها. وتوهّم : الدليل عليها من فرض كون تعذّر المثل حاصلاً من حين تلف العين ، بتقريب أنّ الخطاب بردّ المثل حينئذٍ مع تعذّره تكليف بالممتنع وهو قبيح ، فهذا الخطاب بقبحه ساقط ولازمه توجّه الخطاب إلى ردّ القيمة ولا يعنى من انقلاب المثلي قيميّاً إلّا هذا. يدفعه : أنّ هذا مع أنّه لا يتّفق إلّا في فرض نادر لا يوجب التكليف بالممتنع إلّا إذا فرض المثل المتعذّر من حين تلف العين بحيث لا يرجى وجوده في الأزمنة المتأخّرة أيضاً بأن يكون تعذّره دائميّاً ، إذ مع كونه بحيث يوجد في الأزمنة المتأخّرة لا يكون الخطاب به تكليفاً بالممتنع ، إذ ليس المراد من الخطاب به أداؤه حال تعذّره بل أداؤه حين يوجد ، نظير الأمر المشروط بالفعل حال عدم وجوده الّذي لا يقصد منه الإتيان بالفعل حال عدم وجود الشرط بل الإتيان به بعد وجود الشرط ، فإذا فرض الانقلاب المذكور في صورة التعذّر الدائمي فنحن نلتزم به إلّا أنّه لا يوجب كون الحكم الكلّي في مسألة تعذّر المثل في المثلي هو الانتقال إلى القيمة على أنّها

٦٥٤

قيمة العين التالفة لا قيمة المثل المتعذّر ، بل غايته أنّه حكم جزئي يلتزم به في بعض الفروض النادرة بدليله من باب تخصيص القاعدة المذكورة حسبما أشرنا إليه.

ولكن العلّامة في القواعد قال في باب الغصب : «ولو تلف المثلي في يد الغاصب والمثل موجود فلم يغرّمه حتّى فقد ففي القيمة المعتبرة احتمالات :

الأوّل : أقصى قيمته من يوم الغصب إلى التلف ، ولا اعتبار بزيادة قيمة الأمثال.

الثاني : أقصى قيمته من وقت تلف المغصوب إلى الإعواز.

الثالث : أقصى القيم من وقت الغصب إلى الإعواز.

الرابع : أقصى القيم من وقت الغصب إلى وقت دفع القيمة.

الخامس : القيمة يوم الإعواز».

وقال المحقّق الثاني في ترجيح الاحتمال الخامس : «هذا هو الأصحّ ، لأنّ الواجب هو المثل ، فإذا دفع بدله اعتبرت البدليّة حين الدفع فحينئذٍ يعتبر القيمة» (١) انتهى.

والعلّامة هاهنا لم يرجّح شيئاً إلّا أنّه قبل أن يذكر عنوان هذه الاحتمالات بأسطر متضمّنة لذكر فروع قال : «وغير الحيوان يجب ضمانه بالمثل إن كان مثليّاً ، وهو ما تتساوى قيمة أجزائه ، فإن تعذّر فالقيمة يوم الإقباض لا الإعواز» (٢) وعلّله المحقّق المذكور في شرحه بما يوافق ما ذكره في وجه ترجيح الاحتمال الخامس بقوله : «وذلك لأنّ الواجب في الذمّة هو المثل فعند إرادة التسليم ينتقل إلى القيمة لو تعذّر المثل ، فلو وجبت القيمة وقت الإعواز لكان إذا تمكّن من المثل بعد الإعواز ولم يسلّم العوض لا يجزئ تسليم المثل ، لاستقرار القيمة في الذمّة والأصل بقاؤها والتالي بطلانها» (٣) انتهى.

والظاهر أنّه فرض التعذّر هاهنا أيضاً بعد وجوده حال تلف العين ، فالموضعان سيّان من حيث كون المفروض ما إذا طرأ تعذّر المثل بعد وجوده في بعض أزمنة التلف ، لا ما تعذّر المثل ابتداءً من حين التلف.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ ضمير «قيمته» في الاحتمال الأوّل يعود إلى المثل كما فهمه المحقّق المذكور ، لا إلى «المغصوب» لشهادة وحدة سياق الاحتمالات الخمس من حيث إنّ

__________________

(١) جامع المقاصد ٦ : ٢٥٥.

(٢) القواعد ٢ : ٢٢٦.

(٣) جامع المقاصد ٦ : ٢٤٥.

٦٥٥

المبحوث عنه المطلوب معرفة قيمته هو المثل ، ولا ريب أنّ ضمير «قيمته» في الاحتمال الثاني ظاهر كالصريح في العود إلى المثل ، كما أنّ القيمة في بقيّة الاحتمالات ظاهرة في قيمة المثل فيبعد إرجاعه إلى المغصوب كما عن الشارحين ، مضافاً إلى استلزامه الاستخدام فيه وفي ضمير الاحتمال الثاني ، وهو خلاف ظاهر لا داعي إلى ارتكابه.

والاستشهاد له بقوله : «ولا اعتبار بزيادة قيمة الأمثال» مع قوله : «من يوم الغصب إلى يوم التلف» بدعوى أنّ المفهوم منه من يوم غصبه إلى يوم تلفه.

يدفعه : أنّ المثل المتعذّر بعد ما كان جارياً مجرى المغصوب في الوجوب ، وتعذّره جارياً مجرى تلف المغصوب كما عليه مبنى الاحتمال الأوّل على ما ستعرفه ، صحّ أن يقال : إنّ المعتبر زيادة قيمته من وقت الغصب إلى يوم التلف. ولا اعتبار بزيادة قيمة الأمثال ، ولا ينافيه كون المفهوم من يوم الغصب إلى يوم التلف من يوم غصبه إلى يوم تلفه كما لا يخفى على المتدبّر.

وممّا يؤيّد ما رجّحناه عبارة التذكرة فإنّه على ما حكي قال في بيان الاحتمال الأوّل : «إنّ الواجب أقصى قيمته من يوم الغصب إلى التلف ولا اعتبار بزيادة قيمة أمثاله بعد تلفه كما في المتقوّمات ، ولأنّ المثل جارٍ في الوجوب مجرى المغصوب ، فإذا تعذّر صار بمنزلة تلف المغصوب ، والمغصوب إذا وجب قيمته وجب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف» (١) انتهى. قال المحقّق المذكور : والتعليل الثاني كالصريح في أنّ المراد قيمة المثل.

وكيف كان فقد عرفت أرجح الاحتمالات ، وأقواها هو الاحتمال الخامس ، وقد سمعت وجهه. وأمّا الاحتمالات الأربع الاولى فقد ذكر لها وجوه مزيّفة :

فوجه الاحتمال الأوّل ما ذكره العلّامة في العبارة المتقدّمة المحكيّة عن التذكرة وملخّصه : أنّ المثل في مسألة التعذّر يجري مجرى المغصوب في الوجوب ، وتعذّره بمنزلة تلف المغصوب ، وحكم المغصوب أنّه إذا تلف ووجب قيمته وجب أعلى قيمه من حين الغصب إلى وقت التلف.

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٣٨٣.

٦٥٦

وفيه : منع المقدّمتين ، أمّا المقدّمة الاولى فلأنّ المثل يجري مجرى المغصوب في الوجوب من حين تلف المغصوب لا من حين غصبه ، وأمّا المقدّمة الثانية فلمنع كون تعذّر المثل بمنزلة تلف العين إلّا أنّه كان تعذّره ابتداءً من حين تلف المغصوب ولا يرجى وجوده فيما بعد أصلاً ، فحينئذٍ ينقلب المثلي قيميّاً فيجب أعلى قيمه من يوم الغصب إلى يوم التلف ، لا إذا طرأ تعذّره بعد ما كان موجوداً حال تلف المغصوب ، ولذا لو تمكّن من المثل بعد ذلك كان للمالك مطالبته ويجب على الضامن تأديته ، فما دام لم يأخذ المالك القيمة فالمثل باقٍ في الذمّة ، وتعذّره لا يسقطه عن الذمّة ولو بحكم الاستصحاب وأصالة البقاء.

ووجه الاحتمال الثاني ما قرّره المحقّق المذكور من «أنّ انتقال الحكم إلى البدل الّذي هو المثل إنّما هو حين تلف المغصوب ، إذ مع وجوده يجب ردّه وبعد تعذّره انتقل الفرض إلى القيمة» (١) انتهى.

وفيه : أنّ انتقال الحكم إلى المثل حين تلف المغصوب وإن كان مسلّماً إلّا أنّه لا ينتج اعتبار أعلى القيم من ذلك الحين إلى التعذّر ، إلّا بانضمام مقدّمة اخرى إليه ، وهي كون تعذّر المثل بمنزلة تلفه ، وهذا التنزيل موضع منع لعدم الدليل عليه.

ووجه الاحتمال الثالث : ما ذكره أيضاً بقوله : «ووجهه يعلم من الوجهين في الاحتمالين الأوّلين ، فإنّ المثل لمّا جرى مجرى المغصوب كانت قيمته في جميع أزمان ضمان المغصوب مضمونة إلى زمان تعذّره» (٢) وملخّصه : أنّ المثل جارٍ مجرى المغصوب في وجوبه من حين الغصب وتعذّره بمنزلة تلفه.

وفيه : منع المقدّمتين ، وسند المنع ما عرفت من أنّ المثل إنّما يجب حين تلف المغصوب لا من حين غصبه ، وإنّ تعذّر المثل لا يوجب سقوطه عن الذمّة كما عرفت فهو مستصحب فيها إلى أن يحصل المسقط ، ومسقطه القيمة يوم الإسقاط ، وهو يوم الدفع لا يوم التعذّر.

ووجه الاحتمال الرابع : ما ذكره أيضاً من «أنّ قيمة المثل معتبرة من زمان وجوبه

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٣٨٣.

(٢) جامع المقاصد ٦ : ٢٥٥.

٦٥٧

أو وجوب مبدله فإنّها مضمونة لضمان أصلها ، فيجب الأقصى تفريعاً على إيجاب أعلى القيم في القيمي» (١).

وفيه : منع التفريع لعدم دليل عليه ، ومنع كون قيمة المثل معتبرة من زمان وجوبه أو وجوب مبدّله ، ومنع كونها مضمونة لضمان أصلها بل المضمون من حين تلف المضمون هو المثل ، ولا يسقط بتعذّره بل بالإسقاط في زمانه وهو يوم الإقباض لا الإعواز.

ثمّ إنّه قد عرفت أنّ المأخوذ في عنوان الاحتمالات المذكورة في عبارة القواعد صورة وجود المثل حين تلف المغصوب ثمّ إعوازه في بعض أزمنة ما بعد التلف ، وقضيّة ذلك عدم جريان الاحتمالات فيما لو تعذّر المثل ابتداءً على معنى حصول التلف حال إعواز المثل وتلفه. وفي جامع المقاصد أنّه يتعيّن حينئذٍ قيمة يوم التلف على معنى قيمة التالف يوم تلفه ، وكأنّه لانقلاب المثلي حينئذٍ قيميّاً ، ووجّه بعدم تنجّز التكليف بالمثل عليه في وقت من الأوقات. ويرد عليه أنّه يتمّ كما ذكرناه سابقاً في الإعواز الدائمي وإلّا فلا حجر من التكليف به كما في الأمر المشروط بالفعل حال عدم وجود الشرط.

وعلى هذا فما قيل في وجه عدم تنجّز التكليف به من «أنّ أدلّة وجوب المثل ظاهرة في صورة التمكّن وإن يكن مشروطاً به عقلاً فلا تعمّ صورة العجز ، نعم إذا طرأ العجز فلا دليل على سقوط المثل وانقلابه قيميّاً» إن اريد به عدم شمولها صورة العجز الدائمي لظهورها في صورة التمكّن من المثل ابتداءً وإن طرأ العجز بعده أو التمكّن منه بعد إعوازه وتعذّر فحسن ، وإلّا فغير جيّد.

ولذا اورد على المحقّق فيما ذكره «من تعيّن قيمة التالف يوم تلفه لصورة تعذّر المثل ابتداءً» من أنّ اللازم ممّا ذكره أنّه لو ظفر المالك بالمثل قبل أخذ القيمة لم يكن له مطالبته ، ولا يظنّ على أحد أنّه يلتزمه.

والظاهر أنّه إيراد على إطلاق كلامه وإلّا فمع الإعواز الدائمي لو اتّفق لا يجري عثور المالك بالمثل حتّى ينظر في حكمه ، وأنّه هل له مطالبته أم لا؟

__________________

(١) جامع المقاصد ٦ : ٢٥٥.

٦٥٨

ثمّ بقي من مسألة انتقال الحكم من المثلي إلى القيمة لتعذّر المثل امور ينبغي ذكرها من باب الفروع :

الأوّل : أنّ الموجب لانتقال الحكم هل هو إعواز المثل أو تعذّره؟ احتمالان ، نظراً إلى اختلاف عبارات الأصحاب في التعبير تارةً بالإعواز واخرى بالتعذّر ، حتّى أنّ العلّامة في عبارة القواعد عبّر بـ «الإعواز» كما سمعت ، وفي عبارة التذكرة عبّر بـ «التعذّر» والمحقّق الثاني (١) في شرح عبارة القواعد المشتملة على ذكر الاحتمالات الخمس المتقدّمة عبّر مكان الإعواز بـ «التعذّر».

والفرق بينهما أنّ الإعواز بحسب المفهوم أخصّ من التعذّر ، لأنّ التعذّر قد يكون بغير إعواز كما لو كان المثل موجوداً عند من لا يبيعه ولو بأزيد من ثمن المثل.

ويمكن أن يقال بأنّ اختلاف العبارات في مجرّد التعبير لا في المعنى ، إمّا بإرجاع الإعواز إلى معنى التعذّر ، أو بإرجاع التعذّر إلى معنى الإعواز. والأظهر الأوّل لوحدة المناط ، فإنّ مناط انتقال الحكم عدم التمكّن من أداء المثل ولو كان لعدم إمكان الوصلة إليه مع فرض وجوده عند من لا يبيعه أصلاً.

الثاني : أنّ المراد بإعواز المثل على ما عن العلّامة في التذكرة «أن لا يوجد في البلد وما حوله» (٢) وعن المسالك (٣) «أنّه زاد قوله ممّا ينقل عادةً منه إليه» ويشكل بأنّ هذا التحديد ممّا لا دليل عليه من نصّ أو إجماع فلا يكون مقبولاً.

وعن جامع المقاصد «الرجوع فيه إلى العرف» وهذا أيضاً غير واضح ، لأنّ الرجوع إلى العرف إنّما يستقيم في معرفة موضوعات الأحكام المأخوذة في النصوص أو معاقد الإجماعات ، والإعواز لم يرد ذكره في نصّ بل هو واقع في كلام الفقيه. نعم لو ثبت الإجماع على انتقال الحكم إلى القيمة عند إعواز المثل كان للإرجاع إلى العرف وجه ، ولكنّه غير واضح.

فالوجه حينئذٍ ما قيل : من أنّ مقتضى عموم «وجوب أداء مال الناس» (٤)

__________________

(١) جامع المقاصد ٦ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

(٢) التذكرة ٢ : ٣٨٣.

(٣) المسالك ١٢ : ١٨٣.

(٤) الوسائل ٢٥ : ٣٨٥ / ١ ، ب ١ من أبواب الغصب ، التهذيب ٦ : ٢٢٥ / ٥٤١.

٦٥٩

و «تسلّطهم على أموالهم» (١) أعياناً خارجيّة كانت أم أعواضاً في الذمّة وجوب تحصيل المثل أينما كان ولو كان في تحصيله مئونة كثيرة ، ولذا يجب شراؤه على تقدير وجوده بأيّ ثمن يكون (٢). ويؤيّده أنّ العلماء إذا كانوا بين معبّر بالإعواز ومعبّر بالتعذّر كان المتيقّن الرجوع إلى الأخصّ وهو التعذّر لأنّه المجمع عليه.

وقد يستأنس لما عن التذكرة بما ورد في بعض أخبار السّلَم (٣) من أنّه إذا لم يقدر المسلم إليه على إيفاء المسلم فيه تخيّر المشتري ، إذ من المعلوم أنّ المراد بعدم القدرة ليس التعذّر العقلي المتوقّف على استحالة النقل من بلد آخر ، بل الظاهر منه عرفاً ما عن التذكرة (٤) وفيه نظر.

الثالث : أنّ المثل إذا كان معدوماً في صورة الإعواز ، فقيمته لدفعها إنّما تعرف بتقدير وجوده ، وقد يشكل الأمر فيما اختلف قيمته بحسب اختلاف حالاته على تقدير وجوده الدائرة بين العزّة والابتذال والمتوسّط بينهما ، كالعنب مثلاً في أوائل بلوغه وأواخر شيوعه والمتوسّط بينهما ، وله في كلّ حالة قيمة وأعلى قيمه قيمة حالة عزّته ، والظاهر أنّ العبرة بقيمة حالة عزّته تحصيلاً للمبرئ اليقيني ، فإنّ المثل على مفروض المسألة لا يسقط عن الذمّة إلّا بإسقاط ، ومسقطه المبرا لها دفع القيمة والمتيقّن منه إنّما هو قيمة حالة العزّة.

ولكن ينبغي أن يراعى العادة في كلّ من وجوده المقدّر وقيمته المفروضة ، بأن يقدّر وجوده في زمان يعتاد وجوده فيه ولو عزيزاً فلا يكفي الوجود الغير المعتاد كبعض الفواكه الّذي يقتنى إلى غير موسمه الّذي يعتاد وجوده فيه ، وأن يكون القيمة المفروضة له بحيث يعتاد بذلها في البيع والشرى لغرض عادي يرغب لأجله الراغبون في بيع هذا الجنس وشرائه ، فلا عبرة بتقدير وجوده عند من يستغني عن بيعه بحيث لا يرغب في بيعه إلّا بعوض لا يرغب في بذله الراغبون في هذا الجنس بمقتضى رغبتهم إلّا لغرض غير عادي الجأهم إلى بذل هذا العوض ، مثل مداواة مريض مشرف

__________________

(١) عوالي اللآلئ : ٢٢٢ / ٩٩.

(٢) المكاسب ٣ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

(٣) الوسائل ١٨ : ٣٠٥ / ٧ ، ب ١ أبواب السلف ، التهذيب ٧ : ٢٩ / ١٢٤.

(٤) التذكرة ٢ : ٣٨٣.

٦٦٠