ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

بكذا ، أو بعتك إيّاه بكذا إن قبلت أو إن رضيت ، وإن كنت وليّاً على هذه الصغيرة فزوّجتها منك على مهر كذا ، وإن كان هذا عبدي فبعته بكذا أو فهو حرّ ، وإن متّ فاعطوا فلاناً كذا أو ثلث مالي له ، وإن كانت هند زوجتي فهي طالق ، وإن كان هذا ملكي فقد وقفته على كذا ، إلى غير ذلك من الأمثلة الّتي يلوح من عباراتهم في أبواب متفرّقة عدم خلافهم في عدم قدح هذا التعليق ، بل ربّما وقع في بعض كلماتهم في بعض الأمثلة دعوى الإجماع.

فأصل الحكم ممّا لا إشكال فيه ، بل الكلام في وجه الفرق بين الموارد المستثناة والمستثنى منه.

وقد يقال في الفرق : إنّ الموجود في الموارد المذكورة هو التعليق على الواقع في الحال وهو غير قادح ، وهو في المستثنى منه تعليق على ما يقع في المستقبل وهو القادح. وفيه ما لا يخفى ، فإنّا نطالبهم بلمّ هذا الفرق وسرّه ، والسرّ فيه أنّ التعليق في الموارد المستثناة تعليق صوري ، لأنّ كون المعلّق عليه ركناً في العقد أو شرطاً في مورده أو جزءاً للسبب يصرف الجملة الشرطيّة عن اقتضاء سببيّة الأمر المعلّق عليه ، فيبقى نفس الصيغة على مقتضى وضعها الشرعي ، والأصل ـ فيما ذكرناه ما تقرّر في الاصول أيضاً ـ في مثل إن قبضت في المجلس صحّ الصرف ، من أنّه لا يفيد السببيّة لثبوت كون القبض في المجلس شرطاً لصحّة الصرف فهذا قرينة تصرف الجملة الشرطيّة عمّا هي ظاهرة فيه.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ التعليق المنافي للتنجيز المخلّ بصحّة العقد إنّما هو التعليق الحقيقي ، لأنّه الّذي يصرف الصيغة في العقد أو الإيقاع عن مقتضى وضعها الشرعي ، لا التعليق الصوري المتحقّق في التعليق على الأركان والشرائط وهكذا ينبغي أن يحقّق المقام وهو فضل الله يؤتيه من يشاء.

تذنيب : لو قبض المشتري ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه وكان مضموناً (١) عليه ، وهذه قاعدة ذكرها جماعة (٢) في هذا المقام أو في باب الغصب أو في كلا البابين على

__________________

(١) في الأصل : مقبوضاً.

(٢) كما في المسالك ٣ : ١٥٤ ، و ١٢ : ١٧٤ ، وجامع المقاصد ٦ : ٣٢٤ ، والكفاية : ٢٦٠ ، والتذكرة ١٠ : ٢٩٠ ، جامع المقاصد ٤ : ٦١.

٦٢١

اختلاف مشاربهم. وينبغي التعرّض أوّلاً لبيان أجزاء القاعدة فمن جملتها «القبض» والمراد منه إثبات اليد على [العين] والاستيلاء عليه بحيث يتسلّط على التصرّف فيها كيف شاء والتقلّب به حيث أراد على حدّ ما هو معتبر في الغصب ليترتّب عليه الضمان ، فلا يكفي فيه مجرّد التخلية بينه وبين العين وإن لم يتمكّن من التصرّف فيه أو لم يثبت يده عليه ، ولا بدّ أن يكون المقبوض عيناً شخصيّة سواء كانت بنفسها مورداً للعقد أو كان قبضها منوطاً بالمعاملة الوفائيّة عن الكلّي.

و «المشتري» مثال أو مراد منه ما يعمّ البائع وهو المدفوع إليه المال ثمناً كان أو مثمناً ، إذ الحكم لا يختصّ بالمشتري بمعناه الأخصّ بوحدة المناط واتّحاد الطريق.

في المقبوض بالعقد الفاسد والمراد بـ «العقد الفاسد» ما حكم بفساده شرعاً ، إمّا في أصله كما لو كان الفساد لاختلاف شرط من شروط الصحّة سواء كانت من شروط الصيغة أو المتعاقدين أو العوضين ، أو لفساد شرط مأخوذ في متنه ، أو لسبب آخر كما لو كان فضوليّاً ولم يلحقه إجازة المالك بل لحقه ردّه.

وقد ذكر الأصحاب في هذه القاعدة حكمين ، أحدهما : أنّ القابض لا يملك العين المقبوضة ، ووجهه واضح لا يحتاج إلى البيان ولا إلى إقامة دليل ، فإنّ الفساد المفروض للعقد معناه عدم دخول العين المقبوضة في ملك القابض. وأمّا الضمان فله في كلام الأصحاب إطلاقات ، فقد يراد منه اشتغال الذمّة بمثل مال أو قيمته كما في الإتلاف يقال : إنّ المتلف يضمن المثل أو القيمة ، وقد يراد منه وجوب ردّ المال بعينه أو بمثله أو بقيمته كما في ضمان الغاصب حيث يجب عليه ردّ العين مع بقائها أو مثله أو قيمته مع تلفها ، وقد يراد منه التعهّد بمال من غير مشغول به وهو بهذا المعنى عقد مستقلّ ومعاملة برأسها.

وقضيّة كون ردّ العين على تقدير البقاء أولى بالوجوب من ردّ المثل أو القيمة في صورة التلف أن يكون المراد به في المقام هو المعنى الثاني ، خصوصاً على مقتضى كلام من جعل المقبوض بالعقد الفاسد كالمغصوب ، ومنه ما عن السرائر من «أنّ البيع الفاسد يجري عند المحصّلين مجرى الغصب في الضمان» (١).

__________________

(١) السرائر ٢ : ٢٨٥.

٦٢٢

وقضيّة كون وجوب ردّ العين في صورة البقاء من أحكام ملك العين وعدم دخولها بالعرض في ملك المشتري فلا كلام لأحد في وجوبه بل الكلام والخلاف لو كان فإنّما هو في وجوب ردّ المثل أو القيمة على تقدير التلف أن يكون المراد به المعنى الأوّل ، ولذا فسّره بعض مشايخنا (١) بكون تلفه عليه.

ثمّ إنّ القابض مع الدافع إمّا جاهلان بالفساد ، أو عالمان به ، أو القابض جاهل والدافع عالم ، أو بالعكس.

والقول بالضمان في جميع الصور الأربع لجماعة منهم الشيخان في المقنعة (٢) والنهاية (٣) والمبسوط (٤) والخلاف (٥) والفاضلان في الشرائع (٦) وجملة من كتب العلّامة (٧) وغيرهما (٨) ممّن تأخّر عنهما نظراً إلى إطلاق كلامهم ، بل قيل : هو المعروف حتّى أنّه لم نقف ممّن قبل ثاني الشهيدين في المسالك من احتمل خلاف الضمان في شي‌ء من صور المسألة.

نعم هو في الكتاب احتمل في صورتي علم الدافع عدم الضمان احتمالاً ، ثمّ عدل بعده إلى القول بالضمان في جميع الصور ، لأنّه قال عند شرح عبارة الشرائع : «لا إشكال في ضمانه إذا كان جاهلاً بالفساد ، لأنّه أقدم على أن يكون مضموناً عليه فيحكم عليه به وإن تلف بغير تفريط ... إلى أن قال : ولا فرق مع جهله بين كون البائع عالماً بالفساد أو جاهلاً مع احتمال عدم الضمان لو علم لتسليطه على إتلافه مع علمه بكونه باقياً على ملكه ، وكذا لو كانا عالمين بالفساد ، ولو كان البائع جاهلاً به والمشتري عالماً فالضمان أولى ، والأقوى ثبوته في جميع الصور» (٩) انتهى. حتّى عنه في كتاب الغصب إطلاق دعوى «الاتّفاق على أنّه يضمن» (١٠) وعن الشيخ (١١) في باب الرهن وفي موضع من البيع (١٢) الإجماع عليه صريحاً ، وقد عرفت عن الحلّي (١٣) نسبته إلى المحصّلين

__________________

(١) المكاسب ٣ : ١٨٠. (٢) المقنعة : ٦٠٧.

(٣) النهاية : ٤٠٢. (٤) المبسوط ٢ : ١٤٩.

(٥) الخلاف ٣ : ١٥٨ المسألة ٢٥١.

(٦) الشرائع ٢ : ١٣.

(٧) التذكرة ١٠ : ٢٩٢. والإرشاد ١ : ٣٦٢.

(٨) كما في جامع المقاصد ٤ : ٦ ، والمسالك ٣ : ١٥٤.

(٩) المسالك ٣ : ١٥٤.

(١٠) المسالك ١٢ : ١٧٤.

(١١) المبسوط ٢ : ٢٠٤. (١٢) المبسوط ٢ : ١٠٥.

(١٣) السرائر : ٢٨٥.

٦٢٣

مؤذناً بدعواه ، وعن الكفاية (١) في باب الغصب أنّه مقطوع به في كلام الأصحاب.

وفي مقابل الإطلاق المذكور ربّما فصّل في المسألة تفصيلاً ، وهو على وجوه ثلاث :

الأوّل : ما اختاره في مفتاح الكرامة بقوله «إذا تقرّر هذا فإن كانا جاهلين بالفساد فلا إشكال في ضمان كلّ منهما ما صار إليه لأنّه إنّما وقع الرضا بزعم الصحّة ، كما أنّه لا إشكال في إباحة التصرّف وعدم الضمان إذا كانا عالمين بالفساد وكان من نيّتهما المعاطاة ، وأمّا إذا علم أحدهما وجهل الآخر فلا ريب في ضمان غير الجاهل مال الجاهل» (٢).

الثاني : ما عن مجمع الفائدة من أنّه قوّى في صورة الجهل عدم الضمان ، ثمّ قال : «ومع علم الآخر أقوى» (٣) وهذا يقتضي ضمان العالم مع علم الدافع أيضاً أو مع جهله.

الثالث : ما عن الشيخ الغروي في شرحه للقواعد ، وهو أنّ الضمان إنّما يثبت إذا كان قصدهما تعلّق الملك بالناقلين حقيقة في الجاهلين حتّى يثبت الإقدام على الضمان من الجانبين ، فلو خلّي من جانب واحد كان الدافع إليه مضيّعاً لماله ، وكذلك في صورة العالمين لو أوقعا عناداً أو ابتداعاً أو اختراعاً ، تعليلاً بأنّ العقود المبتدعة المخترعة كبيع الحصاة والملامسة والمنابذة ونحوها من المخترعات لا تثمر ملكاً ولا إباحة ولو علم بالفساد (٤). والظاهر أنّه يرجع إلى التفصيل الأوّل.

وإن شئت بملاحظة ما تقدّم من تعميم المشتري بالقياس إلى البائع فعبّر عن القاعدة بأنّ المقبوض بالعقد الفاسد مضمون على قابضه ، وهذا يتناول المعاطاة الفاسدة أيضاً ، بل فاسد سائر العقود المعاوضيّة من الصلح والإجارة والهبة المعوّضة بل النكاح الفاسد بالقياس إلى المهر المقبوض ، لعموم القاعدة وعدم اختصاصها بالبيع.

وأمّا مدرك القاعدة فممّا استدلّ أو يمكن أن يستدلّ به ، وممّا هو صحيح أو غير صحيح وجوه :

الأوّل : الإجماعات المنقولة ـ المتقدّم إلى جملة منها الإشارة ـ المعتضدة بالشهرة العظيمة المحقّقة والمحكيّة بل ظهور الإجماع من تتبّع كلمة الأصحاب في أبواب

__________________

(١) الكفاية : ٢٦٠.

(٢) مفتاح الكرامة ١٢ : ٥٤١.

(٣) مجمع الفائدة ٨ : ١٩٢.

(٤) شرح القواعد : ٥٢.

٦٢٤

العقود ، فإنّها تفيد الظنّ البالغ حدّ الاطمئنان الّذي هو مناط الاستنباط في الأدلّة الظنّيّة وبه الكفاية.

الثاني : قاعدة الإقدام الّذي قد يعبّر عنه بقاعدة التضمين ، وقد يعبّر أيضاً بقاعدة التعويض. وتقريرها : أنّ القابض للمال بالعقد الفاسد أقدم على أن يكون مضموناً عليه بعوض ، وإذا لم يسلم له العوض المسمّى بعدم إمضاء الشارع إيّاه من جهة فساد العقد رجع إلى العوض الواقعي من مثل أو قيمة.

تمسّك بها جماعة منهم ثاني الشهيدين في المسالك (١) وقبله الشيخ في مواضع [من] مبسوطه (٢) إلّا أنّه عبّر عن الإقدام بالدخول ، وقرّره بأنّه دخل على أن يكون المال مضموناً عليه بالعوض ، فإذا لم يسلم له العوض المسمّى رجع إلى المثل أو القيمة.

وتوضيحها : أنّ الدافع والقابض لمّا تراضيا وتواطئا على العقد الفاسد ولو مع علمهما أو علم أحدهما بالفساد التزما بلوازم العقد الّتي منها ضمان كلّ منهما عوض ما قبضه ، وهذا هو معنى إقدام كلّ منهما على الضمان للعوض ، والمفروض عدم سلامة العوض المسمّى بسبب عدم إمضاء الشارع له ، فوجب على القابض ردّ ما قبضه بعينه إن كان باقياً وإلّا وجب ردّ مثله أو قيمته.

وهذا ينحلّ إلى الاستدلال بقياس ينتظم من صغرى وكبرى ، وهو أنّ القابض قد أقدم على ضمان المال بعوض لم يسلم له العوض ، وكلّ من أقدم على ضمان المال بعوض لم يسلم له العوض وجب عليه عوضه الواقعي من مثل أو قيمة.

واجيب (٣) عنه : بما يرجع إلى منع الصغرى ، وهو أنّهما إنّما أقدما وتواطئا على ضمان خاصّ وهو الضمان بالعوض المسمّى لا بمطلق العوض ، والمفروض انتفاء الخصوصيّة بعدم إمضاء الشارع لهذا الضمان الخاصّ ، والجنس لا يبقى بعد انتفاء الفصل ، ومطلق الضمان أعني الضمان بمطلق العوض ممّا لم يتواطآ ولم يقدما عليه حتّى يتقوّم بخصوصيّة اخرى وهو الضمان بالعوض الواقعي مثلاً أو قيمة ، فالضمان بالمثل أو القيمة حيثما ثبت تابع لدليله وليس ممّا أقدم عليه المتعاقدان.

__________________

(١) المسالك ٤ : ٥٦.

(٢) المبسوط ٣ : ٥٨ ، ٦٥ ، ٨٥ ، ٨٩.

(٣) المكاسب ٣ : ١٨٨ ـ ١٨٩.

٦٢٥

ويمكن دفعه : بأنّ الإقدام على الضمان بمطلق العوض بل العوض الواقعي بالخصوص ممّا لا ينبغي إنكاره ، فإنّ من القضايا المركوزة في أذهان الناس من أهالي جميع الملل والأديان أنّه لا يخرج مال أحد إلى غيره في غير مقام الهديّة والعطيّة والهبة والصدقة مجّاناً وبلا عوض ، بل لا بدّ له من عوض ولا يكون إلّا عوضاً واقعيّاً ، وهذه كما يرشد إليه الوجدان الغنى عن إقامة البرهان مركوزة في ذهني المتعاقدين في عقود المعاوضة صحيحها وفاسدها ، وارتكازها في ذهنيهما هو الداعي لهما إلى التعويض والتزام كلّ بدفع العوض إلى صاحبه ، فهما متوافقان على هذه القضيّة المركوزة في الذهن ، وهذا هو معنى إقدامهما على الضمان بمطلق العوض بل خصوص العوض الواقعي.

نعم بعد توافقهما عليها يتواطآن في متن العقد المفروض وقوعه فيما نحن فيه على وجه الفساد على العوض المسمّى ، وكأنّه تراضٍ منهما وتواطؤ على إبدال العوض الواقعي بالعوض المسمّى ، والمفروض بحكم فساد العقد عدم إمضاء الشارع تواطأهما عليه فيبقى تواطؤهما على مطلق العوض بل خصوص الضمان بالمثل أو القيمة. فصغرى الدليل ممّا يدرك بالوجدان فلا مجال لإنكارها ، ومن أنكرها فقد كابر وجدانه.

نعم بقي الكلام في كبرى الدليل وإثبات الدليل عليها فإنّه لا يخلو عن خفاء وإن كان ظاهر اقتصار المتعرّضين للجواب عن الدليل على منع الصغرى أنّه لا كلام على تقدير ثبوت الصغرى في الكبرى بل هي جارية عندهم مجرى المسلّمات الّتي لا يمكن الاسترابة فيها ، غير أنّ العمدة بيان دليلها ، فإنّ مفادها يرجع إلى دعوى أنّ الدافع يملك عوض ما دفعه من المثل أو القيمة في ذمّة القابض ، وعليه يتفرّع ضمان أحدهما على معنى وجوب ردّه إلى الدافع لأنّه ملكه ، وظاهر أنّ تملّكه له في ذمّة القابض يقتضي سبباً ، وذلك السبب إمّا أن يكون هو العقد المفروض كونه فاسداً أو هو القبض المتحقّق بعده بانفراده ، أو تلف العين بانفراده ، أو القبض المتعقّب للتلف على معنى كون السبب هو المجموع منهما. ولا سبيل إلى الأوّل لأنّ فاسد العقد ما لا يترتّب عليه أثر فلا يعقل كونه سبباً مؤثّراً في تملّك شي‌ء في الذمّة ، ولا إلى الثاني وإلّا لزم جواز الرجوع بالمثل أو القيمة ولو مع بقاء العين أيضاً وهو باطل بالضرورة ، ولا إلى الثالث وإلّا لزم ضمان

٦٢٦

المشتري بتلف العين المعقود عليها قبل القبض وهو باطل لأنّه في ضمان البائع ، فتعيّن الرابع.

فيؤول الكبرى إلى أن يقال : إنّ كلّ من أقدم على ضمان مال بعوض لم يسلم له يضمن مثله أو قيمته ، لأنّ قبض ذلك المال المتعقّب لتلفه في يده علّة وسبب لتملّك الدافع مثله أو قيمته في ذمّته ، وهذه السببيّة كما ترى حكم شرعي يقتضي وسطاً.

ويمكن القول بأنّه يكفي فيه أيضاً القضيّة المركوزة في الأذهان ولكن بانضمام إمضاء الشارع لها ، فإنّها من الفطريّات الّتي مرجعها إلى كون معتقد العامّة بحسب الفطرة عدم خروج مال أحد إلى غيره إلّا بعوضه الّذي هو إمّا المثل أو القيمة الواقعيّة وقد أمضاه الشارع ، كما يكشف عنه تقرير أهل بيت العصمة الكاشف عن رضاهم الملازم لحقّيّة معتقد العامّة أو السيرة الّتي مرجعها إلى إجماع العامّة على الاعتقاد بمضمون القضيّة الكاشف عن رضا المعصومين بها الكاشف عن إمضاء الشارع ، وتوسيط الإقدام حينئذٍ لبيان أنّ المالك لم يسقط ضمان ماله عن القابض حيث أقبضه بالعقد الفاسد كما أسقطه بمقتضى «الناس مسلّطون على أموالهم» في الإباحات والهدايا والهبات والصدقات وغيرها ممّا لا يضمن فيه القابض للمال المدفوع إليه بالمثل والقيمة بالتصرّفات الإتلافيّة.

وبالجملة المراد بالإقدام المأخوذ وسطاً في الدليل إنّما هو عدم إسقاط المالك ضمان ماله المدفوع إلى القابض عنه ، ومبناه على أنّ الضمان بالمثل أو القيمة هو الأصل في المال ، وسقوطه يحتاج إلى إسقاط من المالك ، ولا مدرك للأصل المذكور إلّا القضيّة المركوزة في الأذهان المجمع عليها الّتي أمضاها الشارع. فدليل الإقدام على الضمان المترتّب على القبض المتعقّب للتلف تمام ، لتماميّة صغراه وكبراه معاً.

ولا فرق في الضمان بين كونهما عالمين بالفساد أو جاهلين به أو مختلفين مع علم الدافع وجهل القابض أو بالعكس ، لوحدة المناط واطّراده في جميع الصور.

وتوهّم : احتمال عدم الضمان في صورتي علم الدافع ، ضعيف ، وتعليله بتسليط الدافع القابض على إتلافه مع علمه ببقاء ملكه عليل ، لوضوح أنّ المسقط للضمان إنّما هو تسليطه على الإتلاف مجّاناً وهو غير متحقّق فيما نحن فيه ، لبناء العقد على المعاوضة وأخذ العوض ، وإن علم بعدم دخوله في ملكه بحيث لو لم يدفع ماله إلى القابض جزماً

٦٢٧

فهو من إبدال ماله بعوض رضي به ، وإذا فرض عدم إمضاء الشارع لهذا الإبدال بقي المال المدفوع في ضمان القابض بعوضه الواقعي. وعدم إمضاء الشارع للإبدال ليس إسقاطاً لهذا الضمان ، كما أنّ علم الدافع بعدم الإمضاء ليس إسقاطاً له ، وقد عرفت أنّ الضمان هو الأصل ، وسقوطه يحتاج إلى إسقاط المالك وهو غير متحقّق في مفروض المقام ، بشهادة ما ذكر من أخذ العوض الفاسد الّذي لولاه لم يدفع إلى القابض.

وأضعف من الاحتمال المذكور احتمال عدم الضمان مع جهل القابض كما احتمله المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة (١) لشبهة رجوع المغرور إلى من غرّ. ووجه ضعفه : أنّ الجهل بالفساد في القابض على تقدير كونه عذراً حتّى مع التقصير إنّما يوجب عدم كونه ما دام الجهل مخاطباً بردّ المثل أو القيمة ، وهذا لا ينافي ملك الدافع ذلك المثل أو القيمة في ذمّته لتحقّق سببه وهو القبض مع التلف ، وكونه حكماً وضعيّاً لا يختلف بالعلم والجهل وبذلك يندفع شبهة الغرور ورجوعه إلى الغار ، بل المقام عند التحقيق ليس من مجاري رجوع المغرور إلى من غرّ.

نعم ربّما يشكل الحال في مسألتين :

أحدهما : ما لو باع بلا ثمن وأقبض المبيع ثمّ تلف في يد المشتري ، فإنّه من البيع الفاسد والمال المقبوض مقبوض بالعقد الفاسد ، ولا يجري فيه قاعدة الإتلاف المقتضية للضمان.

واخراهما : شراء المغصوب مع علم المشتري بالغصب ، وعدم لحوق إجازة المالك الّذي اشتهر بينهم أنّه لا يرجع على البائع بالثمن المدفوع إليه ، وفي تذكرة العلّامة «أنّه قول علمائنا» (٢) مؤذناً بدعوى الإجماع عليه ، وإطلاقه يقتضي منع المشتري من الرجوع على البائع حتّى مع بقاء العين أيضاً ، وربّما حكي عن بعضهم التصريح بذلك أيضاً. وذهب جماعة من المتأخّرين ومتأخّريهم إلى التفصيل بين تلف العين فلا يرجع وبقائها فيرجع ، وهذا أيضاً من المال المقبوض بالعقد الفاسد ولا ضمان فيه. والفرق بين المسألتين أنّ الاولى لا يجري فيها قاعدة الإقدام المقتضية للضمان أصلاً ، والثانية يجري فيها القاعدة ، ولا حكم لها على القول المذكور المدّعى عليه الإجماع.

__________________

(١) مجمع الفائدة ٨ : ١٩٢.

(٢) التذكرة ١٠ : ١٨.

٦٢٨

ويمكن الذبّ عن الإشكال في المسألة الاولى ، بأنّ غاية ما هنالك عدم جريان قاعدة الإقدام لا عدم كون المبيع في ضمان المشتري ، فإن كان في سائر أدلّة الضمان ما ساعد على الضمان فيه كخبر على اليد أو غيره فلا إشكال ، وإلّا فلا إشكال أيضاً لأنّ الضمان في المال المقبوض بالعقد الفاسد إنّما يثبت من باب القاعدة وهي قابلة للتخصيص ، ويكفي في تخصيصها سقوط ضمان ما نحن فيه بإسقاط المالك حيث باع بلا ثمن.

وأمّا المسألة الثانية فيمكن الذبّ عن الإشكال فيها أيضاً أوّلاً : بأنّ القول بعدم رجوع المشتري على البائع وإن كان مشتهراً إلّا أنّه صدر من قائليه على خلاف القواعد خصوصاً مع بقاء العين ، ويجوز مخالفته عملاً بالقواعد ، كما خالفه المحقّق على ما حكي عنه في بعض تحقيقاته من مصيره إلى جواز الرجوع مطلقاً ، فلا داعي إلى الالتزام به إلّا أن يكون إجماعاً كما أومأ إليه في التذكرة ، ولكن في ثبوته نظر لمخالفة المحقّق.

وثانياً : بأنّه لو سلّم الإجماع بناءً على عدم قدح خلاف المحقّق فيه ، لزم منه تخصيص القاعدة أيضاً بالقياس إلى هذا المورد ، ولا ضير فيه بعد وضوح المخصّص.

وثالثاً : بأنّ عدم رجوع المشتري على البائع لا ينافي ضمان البائع ، فإنّ قصارى ما هنالك ثبوت الإجماع على أنّ المشتري لا يرجع لا على أنّ البائع لا يضمن ، والأوّل حكم تكليفي صرف وهو حرمة الرجوع والمطالبة على المشتري عقوبة عليه من الشارع حيث دخل في المال المغصوب مع العلم بغصبيّته ، وهذا لا ينافي بقاء ملكه في الثمن وحرمة تصرّفات البائع فيه ووجوب ردّه إليه عيناً مع البقاء أو مثلاً أو قيمة مع التلف. ولو ردّه جاز له أخذه ، وله نظائر كثيرة :

منها : المال الّذي حلف عليه المنكر على خلاف الواقع مع علمه باستحقاق المدّعي له ، فإنّ المدّعي بعد الحلف لا يجوز له مطالبته بذلك المال ولا مقاصّته أيضاً من سائر أموال المنكر الحالف ، والحالف أيضاً لا يجوز التصرّف فيه ويجب عليه دفعه إلى مستحقّه ، وإذا دفعه جاز له أخذه.

الثالث : قاعدة الاحترام المستفادة من الأخبار الدالّة على كون مال المسلم وعمله وعرضه ودمه محترماً ، وكما لا يهراق دمه اقتراحاً وعدواناً فكذلك لا يذهب ماله إلى غيره مجّاناً ، وترى الأصحاب في أبواب المعاملات والعقود يتمسّكون بها لإثبات

٦٢٩

الضمان بثمن المثل أو اجرة المثل أو مهر المثل في جملة من العقود الفاسدة ، فالمال الّذي قبضه المشتري أو البائع في العقد الفاسد لكونه من مال المسلم المفروض احترامه يجب عليه ردّه إلى مالكه مع بقاء عينه ، أو ردّ مثله أو قيمته في صورة التلف.

أقول : ويمكن الخدشة فيه بأنّ احترام مال المسلم كدمه وإن كان مسلّماً ، ولكن في نهوضه دليلاً على الضمان بالمثل أو القيمة في صورة التلف نظر ، لأنّ احترام الشي‌ء عبارة عن عدم جواز انتهاكه فالمحترم هو ما لا يجوز انتهاكه ، والانتهاك هو تناول الشي‌ء والتعرّض له بما لا يحلّ ، وحاصله تناول الشي‌ء بغير وجه شرعي مجوّز له ، فحاصل معنى كون المال المعقود بالعقد الفاسد أنّه لا يجوز أخذه ولا التصرّف فيه بعد الأخذ ولا إمساكه وعدم ردّه إلى مالكه لأنّ كلّ ذلك انتهاك وتناول له بما لا يحلّ ومن غير وجه شرعي ، وقصارى ما فيه وجوب ردّه ما دامت عينه باقية ، ولا يقتضي ذلك وجوب ردّ مثله أو قيمته على تقدير التلف ، لأنّ الاحترام بالمعنى المذكور ليس بعين الضمان بالمثل والقيمة ولا من لوازمه ، وكونه ملزوماً له يتوقّف على ثبوت الملازمة بينهما بدليل آخر ولا يفي بإثباتها أدلّة الاحترام.

وبالجملة غاية ما ينساق من أدلّة الاحترام إنّما هو حكم تكليفي معلّق على بقاء عين المال ، وكلامنا في الضمان الّذي هو حكم وضعي معلّق على تلف العين ، وأحدهما ليس بعين الآخر ، وثبوت الملازمة بينهما يحتاج إلى دليل آخر غير أدلّة الملزوم ، وإن شئت زيادة توضيح لذلك فنظّره على حرمة أكل المال بالباطل المستفادة من آية «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» (١) فإنّها غير الضمان بالمثل أو القيمة بعد التلف ، فلا يمكن إثبات الضمان بنفس هذه الآية ، ولذا لم يتمسّك أحد منهم في شي‌ء من موارد الضمان لإثباته بهذه الآية. ومن هذا الباب أيضاً احترام دم المسلم فإنّ أقصى ما يقتضيه ذلك هو عدم جواز انتهاكه والتعرّض له بإراقته من دون مسوّغ شرعي ، وأمّا وجوب القصاص أو الدية بعد ما اهريق فهو حكم آخر يتوقّف ثبوته على دليل آخر ، ولا يفي بإثباته نفس أدلّة الاحترام.

__________________

(١) النساء : ٢٩.

٦٣٠

الرابع : الخبر المشهور المستدلّ به على الضمان في أكثر موارده وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (١) كما في جملة من العبارات ، أو «حتّى تؤدّيه» كما في بعض العبارات ، أو «حتّى تؤدّيه إلى أهله» كما في عبارة ثالثة. وهذا الخبر باعتبار السند وإن كان عامّياً بل مرسلاً أيضاً بل مقطوع الإسناد على ما هو مذكور في كتب القوم ، إلّا أنّه مشهور بين الفريقين مجمع عليه عندهما متلقّى بالقبول لدى كافّة الأصحاب حتّى القائلين من القدماء ـ كالسيّدين والحلّي وأضرابهما ـ بعدم قبول الأخبار إلّا في مواضع العلم بصدورها لتواتر أو احتفاف بقرائن القطع ، فهو من الأخبار المقطوع بصدورها ، فلا ينبغي التأمّل فيه من حيث السند ، لانجبار ضعفه بالعامّيّة والإرسال وغيرهما بما ذكر بل بالقطع بصدوره.

بل العمدة في إنهاضه دليلاً على الضمان التكلّم في دلالته المتوقّف على النظر في معاني مفرداته ومعناه التركيبي ، فنقول : إنّ مفرداته كلمة «على» وهي على ما حقّق في العلوم العربيّة وصرّح به في كتب اللغة للاستعلاء ، وهو على ما ذكره النحاة وإن انقسم إلى الحسّي والمعنوي الّذي قد يعبّر عنه بالمجازي ، إلّا أنّه حقيقة ظاهراً في الحسّي الّذي قد يعبّر عنه بالركوبي ، كما في «زيد على فرسه أو على السفينة» وقد يعبّر عنه بالحملي وهو أن يكون المستعلي محمولاً ومدخولها حاملاً له ، وهذا أعمّ. من الأوّل لصدقه في مثل «زيد على السطح» دون الركوبي وهو أن يكون المستعلي راكباً ومدخولها مركوباً ، والظاهر أنّها حقيقة في الأعمّ وأيّاً ما كان فله لوازم كثيرة قد يكنّى في الاستعمال بها ، لها كلّ في مقامه المناسب له.

فمنها : الثقل على معنى كون ثقل الراكب على المركوب وثقل المحمول على الحامل ، ومنه عليّ دَين وعليه قضاء أو قصاص أو دية أو نحو ذلك ، ومعناه أنّ ثقله المعنوي من جهة كونه مخاطباً بأدائه عليه.

ومنها : اللزوم على معنى كون الراكب أو المحمول لازماً لمركوبه أو حامله ، ومنه و «عَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» (٢) و «توكّلت على الله» ومعناه لزوم العبد في حوائجه

__________________

(١) عوالي اللآلي ١ : ٢٢٤ / ١٠٦.

(٢) إبراهيم : ١٢.

٦٣١

ومآربه لذيل رحمة ربّه ، ويعبّر عنه بالانقطاع عن الخلق والاعتماد على الخالق ، ومنه أخذ عليك زيداً أي ألزمه ، وقد يجعل من هذا الباب مثل عليه قضاء أو قصاص أو دية.

ومنها : التفوّق على معنى كون المستعلي متفوّقاً على مدخولها كما في الراكب والمحمول ، ومنه قوله تعالى : «فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ * (١) وفَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» (٢).

ومنها : التطلّع على معنى كون المستعلي مطلعاً على مدخولها كما في الراكب والمحمول أيضاً ، ومنه قوله تعالى : «أَوْ أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدىً» (٣).

وهذه اللوازم كلّها يعبّر عنه بالاستعلاء المعنوي لعدم كونه مدركاً إلّا في الذهن وعند العقل ، وكونه مجازيّاً باعتبار كون اللازم خارجاً عن الملزوم الّذي وضع له اللفظ وكون إطلاق اللفظ عليه من باب الكناية والمجاز الّذي يتحقّق بذكر الملزوم وإرادة اللازم.

وهي في الخبر ليست على حقيقتها قطعاً لاستحالة كلّ من الركوب والحمل ، ولا أنّها كناية عن التفوّق والتطلّع جزماً. وفي كونها كناية عن الثقل كما في عليه دَين ، أو عن اللزوم كما في عليك زيداً وتوكّلت على الله وجهان ، من صحّة كلّ منهما ، والظاهر أنّهما متلازمان ، فإنّ كون ثقل المال المأخوذ على آخذه يلزمه كونه لازماً عليه غير منفكّ منه ، كما أنّ لزومه له يلزمه كون ثقله عليه فيصحّ الحمل على كلّ منهما ، والمطلب يثبت بكلّ ولا قرينة على التعيين.

ثمّ إنّ «على» مع مجرورها من قبيل الظرف المقدّر عامله ، والأصل فيه كونه من ألفاظ العموم على ما حقّقه النحاة نظراً إلى الظهور اللفظي ، فيكون التقدير «ثبت على اليد أو كان عليه» واحتمال كونه فعلاً خاصّاً كوجب أو فرض مدفوع بما ذكر ، مضافاً إلى أنّه لا يلائمه الفاعل الّذي هو عبارة عن المال وهو من الأعيان فلا يضاف إليه الوجوب أو الفرض كما هو الحال في التحليل والتحريم. وبذلك اندفع الخدشة في الدلالة على الضمان بأنّ كلمة «على» ظاهرة في الحكم التكليفي فلا تدلّ على الضمان الّذي هو حكم وضعي ، فإنّ هذا الظهور إنّما يسلّم فيما اسند الظرف إلى فعل من أفعال المكلّفين ، وهو هاهنا مضاف إلى المال كما في عليه دَين. ولو قدّر معه ما يصحّ إضافة

__________________

(١) البقرة : ٢٥٣.

(٢) البقرة : ٤٧.

(٣) طه : ١٠.

٦٣٢

الوجوب أو الفرض إليه من فعل المكلّف كالردّ أو التأدية ليكون التقدير وجب أو فرض ردّه أو تأديته ، ففيه ـ مع أنّ التقدير والإضمار خلاف الأصل ـ أنّه لا يلائمه قوله «حتّى تؤدّي» بل فسد معه المعنى رأساً ، لأنّ الردّ والتأدية بمعنى ، فيكون التقدير : وجب أو فرض على اليد ردّ ما أخذته أو تأدية ما أخذته حتّى تؤدّيه ، وفيه ما فيه.

ثمّ «اليد» وإن كانت حقيقة في الجارحة المخصوصة إلّا أنّ الحقيقة متعذّرة هنا لوجهين :

الأوّل : أنّ الثقل واللزوم في معنى كلمة الاستعلاء إنّما يعتبران بالقياس إلى صاحب الجارحة لا إلى نفسها.

الثاني : أنّ جملة «أخذت» ظاهرة في الإسناد إلى الفاعل الحقيقي ، ولا يكون إلّا صاحب اليد لأنّه فاعل الأخذ والاستيلاء حقيقة ، والجارحة المخصوصة كغيرها من الفم والرجل آلة لا أنّه فاعل. ومن ذلك ينقدح وجه ثالث وهو أنّ الأخذ الموجب للضمان كما يتأتّى باليد كذلك يتأتّى بالفم وبالرجل وبغيرهما من الجوارح وغيرها ، فيكون المراد بها صاحبها كالإنسان تسمية للكلّ باسم الجزء ، كما في إطلاق الرقبة عليه ، والنكتة فيه كون هذا الجزء ممّا يغلب به وقوع أخذ المال والاستيلاء فيكون كالجزء المقوّم ، كما في إطلاق العين على ربيئة القوم لأنّ الشغل المطلوب من الربيئة وهو التطلّع على العدوّ وإنّما يتأتّى غالباً بواسطة العين.

ثمّ إنّ كلمة «ما» فاعل للظرف باعتبار عامله المقدّر ، وهي كناية عن المال المأخوذ ، فإمّا أنّها نكرة موصوفة والجملة المتلوّة لها صفة ، أو موصولة والجملة المتلوّة صلة ، وحيث لا قرينة للعهد في جملة الصفة أو الصلة فيوجب ذلك ظهور كلمة «ما» في المعنى الجنسي ، فيكون الجملة صفة للجنس أو كالصفة له وهو من أسباب العموم ، كما في قوله تعالى : «وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ» (١) فيشمل الحكم كلّ مال مأخوذ ، وبذلك يندفع الشبهة في عموم الموصول. وفي الكناية بهذه الكلمة عن المال لطف بليغ في الدلالة على أنّ منافع الحرّ لا تدخل في ضمان من أتلفها ، لكونها بحسب الوضع لغير

__________________

(١) الأنعام : ٣٨.

٦٣٣

ذوي العقول فلا يصرف إلى غيرها من دون قرينة. ولا ينتقض ذلك بالمملوك من عبد أو أمة ، لأنّه باعتبار صفة المملوكيّة يعدّ من غير ذوي العقول.

وأمّا جملة «أخذت» فلكونها من الأفعال المسندة إلى ذوي الشعور والإرادة كانت ظاهرة في الأخذ الاختياري ، وهو ما حصل عن قصد وإرادة ، فخرج به الأخذ الغير الاختياري فإنّه بمقتضى هذا الظاهر لا يوجب ضمان اليد ، كالثوب إذا أطارته الرياح حتّى وقع في يد إنسان فألقاه من حينه على الأرض ، والمال المغصوب إذا وضعه الغاصب في يد غيره قهراً عليه فألقاه في الأرض.

ثمّ إنّها ظاهرة في حدوث الأخذ ، ويدلّ على كون الموجب للضمان هو الأخذ الحادث ، فيخرج به استمرار القبض كالمبيع إذا لم يردّه البائع مع التمكّن بعد العقد ، وكذلك الثمن فإنّه وإن كان يجب عليهما ردّه وكان كلّ منهما في ضمان من هو بيده حتّى أنّه لو تلف قبل القبض ضمن المثل أو القيمة بضابطة «كلّ مبيع تلف قبل القبض فهو من مال بائعه» إلّا أنّ هذا الضمان لا بدّ له من دليل آخر ولا يفي به خبر «على اليد» ونحوه الوديعة إذا مات المالك فإنّها تنتقل بالموت إلى الورثة وتخرج عن كونها وديعة ، ويكون حينئذٍ في ضمان الودعي ، ولكن لا بدّ له من مدرك آخر غير هذا الخبر ، لانتفاء الأخذ الحادث.

وفيما لو أطارته الريح حتّى وقع في يد إنسان أو ما وضعه الغاصب قهراً في يده ، فأمسكه بقصد الفساد فتلف في يده ففي ضمانه المثل أو القيمة من جهة هذا الخبر وعدمه وجهان : من أنّ الإمساك ليس بحدوث أخذ ، ومن أنّه يعدّ في العرف ابتداء أخذ ، ولعلّه الأظهر.

وهل يعتبر في الأخذ الموجب للضمان كونه بغير إذن المالك ، أو كونه على وجه العدوان ونيّته الفساد ، أو لا يعتبر شي‌ء من ذلك ، بل لو حصل بإذن من المالك أو رضاه كان موجباً للضمان؟ احتمالات ، أظهرها أخيرها ، نظراً إلى الإطلاق. ومن ثمّ كان المقبوض بالسوم في ضمان قابضه ، وكذلك المقبوض بالعقد الفاسد عند الأصحاب استناداً إلى هذا الخبر.

وأمّا «تؤدّيه» فالمراد به الأداء الكافي في فراغ الذمّة والخروج عن العهدة ، وهو

٦٣٤

التخلية بينه وبين المالك بحيث يتمكّن من أخذه والتصرّف فيه فلا يكفي غيره.

والمراد من «أهله» ربّ المال أو من يقوم مقامه من وكيل له أو وليّ إجباري أو شرعي له ، فلا يكفي الأداء إلى غيرهما.

وكلمة «حتّى» للغاية ، ومفاده استمرار الحكم إلى غاية التأدية. وفي تغيية الحكم بغاية التأدية لطف بليغ في الدلالة على ضمان المثال أو القيمة في صورة التلف ، لكون المعنى أنّ ثقل المال المأخوذ أو لزومه مستمرّ إلى أن يحصل التأدية ، وظاهر أنّ التلف ليس بتأدية حتّى يرتفع به الثقل واللزوم. وقضيّة بقائهما حال التلف وبعده كونه مخاطباً بتأدية المثل في المثلي والقيمة في القيمي ، لتعذّر تأدية العين.

وبالتأمّل في ذلك يندفع ما أورده الفاضل النراقي (١) من منع دلالة الخبر على ضمان المثل أو القيمة في صورة التلف ، بل غايته الدلالة على ضمان العين استناداً إلى وجهين :

أحدهما : الموصول مع صلته وهو قوله عليه‌السلام : «ما أخذت» فإنّه يدلّ على أنّ المضمون هو ما أخذته اليد ، ولا يكون إلّا العين ، لعدم كون شي‌ء من المثل والقيمة بعد تلف العين ممّا أخذته اليد.

وثانيهما : ضمير «تؤدّيه» محذوفاً ومذكوراً فإنّه لعوده إلى الموصول الّذي هو كناية عن العين المأخوذة يدلّ على أنّ الّذي يجب تأديته هو العين ، لوضوح أنّ دفع المثل أو القيمة ليس أداءً لما أخذته اليد ، بل لا دلالة في لفظ الخبر على صورة التلف فضلاً عن دلالته على حكمها من ضمان المثل أو القيمة.

ووجه الاندفاع : أنّ الخبر كما يدلّ باعتبار الموصول وصلته على كون ما أخذته اليد مضموناً ، فكذلك يدلّ باعتبار الغاية على كون هذا الضمان مستمرّاً إلى أن يحصل تأديته إلى المالك باعتبار دلالته على استمرار الثقل واللزوم المدلول عليهما بكلمة الاستعلاء إلى هذه الغاية ، ومعناه كون رافع الثقل واللزوم والضمان هو التأدية ، وذكرنا أنّ التلف المفروض تحقّقه ليس تأدية له ليرتفع به الضمان والثقل. وقضيّة استمراره إلى الغاية المذكورة أن يحصل تأديته بردّ المثل أو القيمة ، لتعذّر ردّ العين.

__________________

(١) المستند ١٤ : ٢٩٤.

٦٣٥

لا يقال : إنّ التلف وإن لم يكن تأدية إلّا أنّه يحتمل كونه كالتأدية رافعاً للثقل الّذي هو عبارة عن الضمان ، وهذا الاحتمال يوجب الشكّ في بقاء الضمان وارتفاعه. فغاية ما هنالك للمستدلّ أن يتمسّك لإثبات البقاء باستصحاب الحالة السابقة ، والاستصحاب مع الشكّ في قدح العارض كالاستصحاب مع الشكّ في عروض القادح حجّة. ويرد عليه بطلان الاستصحاب في خصوص المقام لعدم بقاء موضوع المستصحب بدليل عدم كون القضيّة المشكوكة باعتبار الموضوع بعين القضيّة المتيقّنة ، فإنّ موضوع القضيّة المتيقّنة هو عين المال الّذي أخذته اليد وموضوع القضيّة المشكوكة مثله أو قيمته وكلّ منهما غير المال المأخوذ فلا معنى للاستصحاب.

لأنّا نقول : أوّلاً لا حاجة في تتميم الاستدلال بالخبر على ضمان المثل أو القيمة إلى توسيط التمسّك بالاستصحاب ليخدشه نحو ما ذكر ، بل المستند في إثبات البقاء والاستمرار بعد التلف هو الظهور المستند إلى الإطلاق ، فإنّ قوله : «حتّى تؤدّيه» في الدلالة على استمرار الثقل والضمان إلى زمان حصول التأدية مطلق بالقياس إلى صورتي تلف العين وبقائها ، ولا ريب أنّ الظهور الناشئ من الإطلاق المذكور كافٍ في ثبوت بقاء الضمان واستمراره حال التلف وبعده إلى أن يحصل تأديته بردّ المثل أو القيمة الملازم لنفي رافعيّة التلف من غير حاجة إلى الاستصحاب.

وثانياً : على تقدير الحاجة إلى الاستصحاب نقول بصحّة التمسّك به بمنع عدم بقاء موضوع المستصحب ، فإنّ المال المكنّى عنه بالموصول في الوضع العرفي اسم للقدر الجامع بين العين وعوضه من المثل في المثلى والقيمة في القيمي ، كما يكشف عنه الصدق العرفي في قضيّة قول المالك «أعط مالي» عند مطالبة ماله المغصوب عن غاصبه في صورتي بقاء عينه في يد الغاصب وتلفه في يده ، فإنّ المال المطلوب صادق في كلتا الصورتين ، ومطالبته بإضافة المال إلى نفسه صحيحة فيهما ، مع أنّ المقصود المطويّ في الضمير في صورة البقاء مطالبة العين الموجودة وفي صورة التلف مطالبة عوضه الدائر بين المثل أو القيمة ، ولو استردّ العوض مثلاً أو قيمة منه في صورة التلف يقول : أخذت مالي ، ولا يصحّ تكذيبه ، وليس هذا كلّه إلّا من جهة كون المال في العرف والعادة عبارة عمّا يعمّ العين والعوض الواقعي. والأصل في ذلك ما قدّمنا توضيحه في

٦٣٦

تتميم قاعدة الإقدام من القضيّة المركوزة في الأذهان ، من أنّه لا يذهب مال أحد إلى غيره مجّاناً وبلا عوض بل لا بدّ له من عوض لا يكون إلّا المثل أو القيمة ، وعلى هذا فالثقل والضمان الّذي هو المستصحب من أوّل الأمر كان متقوّماً بالقدر الجامع الّذي هو مع بقاء العين متقوّم بها ومع تلفها متقوّم بعوضها مثلاً أو قيمة ، فاستصحاب الثقل أو الضمان المتقوّم بالقدر الجامع المتقوّم مع التلف بالعوض ليس من استصحاب الشي‌ء مع عدم بقاء موضوع المستصحب ، وكون المأخوذ هو العين لا ينافي تقوّم ثقلها بها من حيث إنّها أحد فردي القدر الجامع الّذي مرجعه إلى تقوّمه بالقدر الجامع على وجه يكون العين أصلاً في مقام الردّ والتأدية على تقدير بقائها والعوض فرعاً.

وبالتأمّل فيما بيّنّاه يظهر وجه اندفاع الوجه الثاني ممّا تمسّك به الفاضل المتقدّم ، فإنّ الضمير محذوفاً أو مذكوراً وإن كان عائداً إلى ما أخذته اليد ، إلّا أنّه باعتبار المفهوم العامّ العرفي يعمّ العوض مثلاً أو قيمة فيكون دفع كلّ منهما على تقدير تلف العين أداءً لما أخذته اليد. وبما بيّنّاه من استظهار الإطلاق من الغاية بالقياس إلى صورتي بقاء العين وتلفها يندفع ما ذكره الفاضل أخيراً من قوله : «بل لا دلالة في لفظ الخبر على صورة التلف ...» الخ فإنّ الإطلاق المتناول للصورتين في الدلالة على استمرار الحكم إلى غاية حصول الأداء كافٍ في الدلالة على صورة التلف وعلى حكمها كما لا يخفى على المتأمّل المنصف. هذا تمام الكلام في بيان معاني مفردات الخبر وأجزائه.

وأمّا معناه التركيبي : فقد يورد عليه بالإجمال ، لأنّ الجمل المؤوّلة إلى الإنشاء لا ظهور لها في الإيجاب ، ولو سلّم فهو حكم تكليفي والضمان حكم وضعي. وفيه ـ مع أنّ المحقّق في محلّه من ظهور الجمل المذكورة في إنشاء الوجوب ـ أنّه لا داعي هنا إلى التأويل ، بل لو حمل قضيّة الخبر على الإخبار ليكون من باب بيان الواقع تمّ المقصود ، فيكون تقديره في حاصل المعنى «أنّه ثبت على الإنسان ما أخذه أي ثقله واستمرّ إلى أن يؤدّيه أي يؤدّي المال المأخوذ بالمعنى الجامع للعين والعوض» وهذا كما ترى عين الضمان.

الخامس : «قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» تمسّك بها جماعة (١) ونحن

__________________

(١) كما في غاية المراد ٢ : ٣٦ ، المسالك ٣ : ١٥٤ ، جامع المقاصد ٤ : ٦١ ، مجمع البرهان ٨ : ١٩٢.

٦٣٧

قد بسطنا الكلام في تحقيق هذه القاعدة في رسالة منفردة فلا نطيل القول فيها هنا ، بل الّذي ينبغي أن يذكر هنا هو أنّا في غناء عن التمسّك بها وجعلها دليلاً على حدة على ضمان المال المقبوض بالعقد الفاسد ، بناءً على ما تقدّم من تعميم العقد لكلّ عقد فاسد من عقود المعاوضة فيساوق القاعدة المذكورة لما نحن فيه ، مع كون مدركها على ما يستفاد من كلامهم جميع ما عرفته من أدلّة ما نحن فيه من الإجماعات المنقولة ، وقاعدة الإقدام ، وقاعدة الاحترام ، وقاعدة ضمان اليد ، وعلى هذا فهي على مذاقنا لا تصلح مدركاً لما نحن فيه. نعم على مذاق من اقتصر فيما نحن فيه على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد كما في عبارة الشرائع (١) وغيره (٢) ممّن تبعه فلا بأس بأخذها مدركاً له من باب تفريع الحكم الجزئي على الكلّي والخاصّ على العامّ.

ثمّ إنّ في المقام فروعاً كثيرة تذكر في طيّ مسائل :

المسألة الاولى : أنّ ردّ المال المقبوض بالعقد الفاسد إلى مالكه كما هو مقتضى ضمان العين هل يجب فوراً ـ كما جزم به شيخنا قدس‌سره قائلاً : «والظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه على تقدير عدم جواز التصرّف فيه» (٣) فيأثم بالتأخير من غير عذر ـ أو على التراخي فلا يأثم بالتأخير كما يظهر من الشيخ فيما حكي عنه في المبسوط من عدم الإثم في قبضه معلّلاً «بأنّه قبضه بإذن مالكه» (٤) نظر [اًإلى] انّ تعليله يقتضي عدم الإثم في إمساكه أيضاً لأنّ القبض إذا كان بإذن المالك فجميع الأفعال المترتّبة عليه الّتي منها الإمساك أيضاً تكون بإذنه ، بل عن التحرير (٥) التصريح بعدم الإثم في إمساكه ، وكذلك عن السرائر (٦) ناسباً له إلى الأصحاب مؤذناً بدعوى الإجماع عليه؟ قولان ، أقواهما الأوّل : إمّا لأنّ الإمساك تصرّف في مال الغير بغير إذنه فيحرم ، وهو يلازم وجوب ردّه فوراً. ويدلّ على حرمة التصرّف قول الحجّة عجّل الله فرجه المرويّ مرسلاً : لا يجوز لأحد أن يتصرّف في مال غيره إلّا بإذنه» (٧). وتوهّم : أنّه مأذون فيه لأنّه قبضه بإذن المالك وهو يلازم الإذن في جميع الأفعال المترتّبة عليه ومنها الإمساك وإن صدق عليه

__________________

(١) الشرائع ٣ : ١٣.

(٢) كما في الإرشاد ١ : ٣٦٢ ، وجامع المقاصد ٤ : ٦١.

(٣) المكاسب ٣ : ١٩٩.

(٤) المبسوط ٢ : ١٤٩.

(٥) التحرير ٢ : ٢٧٧.

(٦) السرائر ٢ : ٢٨٥. (٧) الوسائل ٢٥ : ٣٨٦ / ٤ باب ١ من أبواب الغصب.

٦٣٨

التصرّف ، مدفوع بأنّه إنّما دفعه إليه على وجه التعويض وإذا لم يسلم له العوض كما هو مقتضى فساد العقد انتفى الإذن في كلّ من القبض والتصرّف والإمساك.

أو لأنّه من الأفعال المتعلّقة بالعين الّتي دلّ على تحريمها عموم قوله عليه‌السلام : «لا يحلّ مال امرئ مسلم لأخيه إلّا عن طيب نفسه» (١) فإنّ الحلّ المنفيّ المضاف إلى العين يقتضي عدم الحلّ في جميع الأفعال المتعلّقة بها الّتي منها الإمساك وإن بنينا على عدم صدق التصرّف عليه. وتوهّم : أنّ القبض إذا كان عن طيب نفسه فجميع الأفعال المترتّبة عليه أيضاً يكون عن طيب نفسه ، يدفعه ما عرفت من عدم سلامة العوض الموجبة لانتفاء طيب النفس حتّى عن القبض فضلاً عن سائر الأفعال المترتّبة عليه. وأمّا النسبة إلى الأصحاب المؤذنة بدعوى الإجماع على ما سمعته عن السرائر ، فضعّفت تارةً بعدم ثبوتها ، واخرى بتنزيلها على صورة الجهل بالفساد. وكذلك نسبة عدم الإثم في القبض إلى المبسوط. وعلى المختار فليس للمشتري حبسه لاسترداد الثمن كما نصّ عليه في التذكرة (٢) لمنافاته وجوب الردّ فوراً ، فقضيّة عبارة التذكرة أيضاً هي فوريّة الردّ.

المسألة الثانية : لو توقّف ردّ العين على مئونة كأُجرة الحمّال أو الدابّة أو نحو ذلك ففي كون المئونة على القابض مطلقاً كما صرّح به في التذكرة (٣) وعن جامع المقاصد أيضاً «لوجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به» (٤) أو على المالك مطلقاً ـ لمنع توقّفه على تحمّل القابض للمئونة لأنّه كما يتأتّى بتحمّل القابض كذلك يتأتّى بتحمّل المالك فلا يكون ممّا لا يتمّ الواجب إلّا به ، والأصل براءة ذمّة القابض عنها خصوصاً إذا كثرت ، لأدلّة نفي الضرر ـ أو أنّها عليه إذا قلّت لا إذا كثرت لأدلّة نفي الضرر كما احتمله شيخنا (٥) قدس‌سره؟ وجوه ، أقواها الأوّل ، لقوّة دليله ، وضعف دليلي الآخرين.

أمّا ضعف أوّلهما : فلأنّ تحمّل المالك لها لا يمنع مقدّمية تحمّل القابض ولا يرفع وجوب المقدّمة ، غاية الأمر أنّه حيثما حصل كان مسقطاً لوجوب المقدّمة المقدورة ، فالمقدّميّة مشتركة بين المقدورة والغير المقدورة ، والوجوب المقدّمي يحصل في الاولى

__________________

(١) الوسائل ٥ : ١٢٠ / ٣ ، ب ٣ مكان المصلّي ، عوالي اللآلي ٢ : ١١٣ / ٣٠٩.

(٢) التذكرة ١٠ : ١٨٠.

(٣) التذكرة ١٠ : ٢٩٣.

(٤) جامع المقاصد ٤ : ٤٣٥.

(٥) المكاسب ٣ : ١٩٩.

٦٣٩

والثانية مسقطة.

وأمّا ضعف ثانيهما : فأوّلاً لأنّ أدلّة نفي الضرر لو جرت هنا وقضت بنفي وجوب المئونة على القابض فلا يتفاوت فيها الحال بين قليل الضرر وكثيره ، فإنّ تحمّل المئونة القليلة أيضاً ضرر.

وثانياً : لأنّ وجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به حكم عقلي لا يقبل التخصيص ، والتفصيل موجب له فيبطل.

لا يقال : إنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به إنّما يتمّ إذا كان الواجب مطلقاً لا مشروطاً ، ومن الجائز كون الردّ واجباً مشروطاً بحصول تحمّل المئونة من المالك أو غيره ممّن عدا القابض ، فلا يجب مقدّمته على القابض لعدم وجوب ذي المقدّمة ما لم يحصل شرط وجوبه.

لأنّا نقول : إنّ فوريّة وجوب الردّ المسبّبة عن حرمة الإمساك تقضي بكون الردّ واجباً مطلقاً ، لأنّ دليل حرمة الإمساك إنّما قضى بالحرمة مطلقاً.

المسألة الثالثة : أنّ العين المقبوضة بالعقد الفاسد قد يصاحبها امور في القبض تبعاً ، فهل يتبعها في الضمان على معنى كونها مضمونة على القابض ،كما أنّ العين الّتي هي مورد العقد مضمونة عليه أو لا؟ فنقول : إنّ هذه الامور المصاحبة على قسمين :

أحدهما : ما يدخل في ملك القابض تبعاً لملك العين على تقدير صحّة العقد ـ كصوف الغنم وشعر المعز ، وأغصان الشجر وأوراقه فيما كان لأوراقه ماليّة كورق التوت وورق السدر ، ونغل الدابّة ، وثياب العبد على القول بدخولها في المبيع تبعاً وما أشبه ذلك ـ ولا إشكال في كونها كالعين مضمونة ولا أظنّ خلافاً في ذلك ، لعين ما دلّ على ضمان العين من الأدلّة المتقدّمة الّتي عمدتها خبر «على اليد» فإنّ الامور المذكورة كالعين من مال الغير وباقية في ملك المقبض ، وكما أنّها تتبع العين في الملك على تقدير صحّة العقد فكذلك تتبعها في الضمان على تقدير فساد العقد.

وثانيهما : الامور الّتي لا تتبع العين في الملك ولا تنتقل إلى قابض العين على تقدير صحّة العقد ولكن تقبض تبعاً لقبض العين لكون قبضها من مقدّمات قبض العين ، على معنى كون قبضها ممّا يتوقّف عليه قبض العين ـ كماعون الدهن أو الدبس ، وقربة الماء

٦٤٠