ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

ومجرّد احتمال عدم تعارفه لا يوجب الانصراف ولا يمنع شمول العموم والإطلاق لهما ، كما أنّ معلوميّة تعارف التعاقد بالماضي لا يستلزم العلم بعدم تعارفه بغير الماضي. وأمّا الشهرة محقّقة ومحكيّة والإجماع المنقول في التذكرة فلا ينهضان لتخصيص عمومات الأدلّة ولا لتقييد مطلقاتها ، لعدم بلوغهما حدّ الظنّ الاطمئناني.

الجهة الثالثة : فيما يشترط في الهيئة التركيبيّة الحاصلة من الإيجاب والقبول ، وفيه مسائل :

المسألة الاولى : في أنّه هل يشترط تقديم الإيجاب على القبول أو لا ، بل يجوز تقديم القبول؟ قولان ، أشهرهما على ما نصّ عليه جماعة (١) تبعاً للعلّامة في المختلف (٢) الاشتراط ، ونسب ذلك إلى الشيخ في الخلاف (٣) وابن حمزة في الوسيلة (٤) والحلّي في السرائر (٥) والعلّامة في جملة من كتبه (٦) والمحقّق الثاني في جامع المقاصد (٧) وصيغ العقود (٨) وتعليق الإرشاد (٩).

وعن المختلف (١٠) وشرح الإرشاد (١١) نسبته أيضاً إلى المبسوط. ولكن العبارة المنقولة عنها ليست بصريحة ولا ظاهرة في الاشتراط ، لأنّه قال : «وإن تقدّم القبول فقال : بعنيه بألف ، فقال : بعتك ، صحّ. والأقوى عندي أنّه لا يصحّ حتّى يقول المشتري بعد ذلك : اشتريت» (١٢) وهذا كما ترى ظاهر في كون عدم الصحّة الّذي قوّاه ثانياً بعد الحكم بالصحّة من جهة تقديم القبول إنّما هو لحيثيّة كون القبول المتقدّم المذكور بصيغة الأمر الدالّ على الاستدعاء لا لمجرّد التقديم ، فإنّ «بعنيه» مشتمل على حيثيّين ، بل حكمه بالصحّة أوّلاً المعلّق على عنوان تقديم القبول ربّما كان ظاهراً في أنّ الحيثيّة الموجودة في هذا اللفظ لو كانت منحصرة في التقديم كان حكمها الصحّة ، ولكنّ فيه حيثيّة اخرى هي موجبة لعدم الصحّة وهي كون القبول بالأمر الدالّ على الاستدعاء.

__________________

(١) كما في الإرشاد ١ : ٣٥٩ ، الإيضاح ١ : ٤١٣ ، التنقيح ٢ : ٢٤.

(٢) المختلف ٥ : ٥٢.

(٣) الخلاف ٣ : ٣٩ المسألة ٥٦.

(٤) الوسيلة : ٢٣٧.

(٥) السرائر ٢ : ٢٥٠. (٦) التذكرة ١٠ : ٨.

(٧) جامع المقاصد ٤ : ٦٠. (٨) رسائل المحقّق الكركي (صيغ العقود) ١ : ١٧٧.

(٩) حاشية الإرشاد : ١١٦. (١٠) المختلف ٥ : ٥٢.

(١١) شرح الإرشاد : ٤٦. (١٢) المبسوط ٢ : ٨٧.

٦٠١

وممّا يرشد إلى ذلك أنّ ما يقرب من هذه العبارة منقول أيضاً عن الغنية وهو كالصريح في كون عدم الصحّة لهذه الحيثيّة لا غير حيث قال : «واعتبرنا حصول الإيجاب من البائع والقبول من المشتري تحرّزاً من القول بانعقاده بالاستدعاء من المشتري وهو أن يقول : بعنيه بألف ، فيقول : بعتك ، فإنّه لا ينعقد حتّى يقول المشتري بعد ذلك : اشتريت أو قبلت» (١) انتهى.

ونسب في المسالك (٢) كما عن غاية (٣) المراد إلى الشيخ في الخلاف (٤) دعوى الإجماع على الاشتراط. وليس كما نسب حتّى أنّه قال في مفتاح الكرامة : «وهو وهم قطعاً ، لأنّي تتبّعت كتاب البيع فيه مسألة مسألة وغيره حتّى النكاح فلم أجده ادّعى ذلك ، وإنّما عبارته في المقام توهم ذلك للمستعجل وهي قوله : دليلنا أنّ ما اعتبرناه مجمع على ثبوت العقد به وما ادّعوه لا دلالة على صحّته» (٥) انتهى.

وهو كما ذكره ، فإنّ الإجماع على ثبوت العقد بتقديم الإيجاب ليس إجماعاً على اشتراط التقديم ولا على فساد ما قدّم فيه القبول ، ولذا ذكر في ردّ القول بجوازه أنّ ما ادّعوه لا دلالة على صحّته ، وهذا ظاهر كالصريح في كون مستند عدم صحّة ذلك عدم الدليل على الصحّة لا الدليل على عدم الصحّة ، فيرجع في الحقيقة إلى التمسّك بالأصل المقتضي للفساد إلّا ما اجمع على صحّته وهو ما قدّم فيه الإيجاب.

والقول بعدم الاشتراط لجماعة منهم المحقّق في الشرائع (٦) والشهيدان في الدروس (٧) واللمعة (٨) والمسالك ٩ والروضة (١٠) ولعلّه عليه أكثر متأخّري المتأخّرين (١١).

وفي المسالك كما عن الحاشية الميسيّة (١٢) والروضة (١٣) ومجمع البرهان (١٤) «أنّ موضع الخلاف ما لو كان القبول بلفظ : ابتعت أو اشتريت أو تملّكت منك كذا وبكذا ،

__________________

(١) الغنية : ٢١٤.

(٢ و ٩) المسالك ٣ : ١٥٣.

(٣) غاية المراد ٢ : ١٦.

(٤) الخلاف ٣ : ٤٠ المسألة ٥٦.

(٥) مفتاح الكرامة ١٢ : ٥٢٩.

(٦) الشرائع ٢ : ١٣.

(٧) الدروس ٣ : ١٩١. (٨) اللمعة : ١٠٩.

(١٠) الروضة ٣ : ٢٢٦. (١١) كما في مجمع البرهان ٨ : ١٤٥ ، والكفاية ٨٩ ، والحدائق ١٨ : ٣٤٩.

(١٢) نقله عنه في مفتاح الكرامة ١٢ : ٥٣٠.

(١٣) الروضة ٣ : ٢٢٦. (١٤) مجمع البرهان ٨ : ١٤٦.

٦٠٢

بحيث يشتمل على ما كان يشتمل عليه الإيجاب ، أمّا لو اقتصر على القبول وقال : قبلت ، وإن أضاف إليه باقي الأركان لم يكف بغير إشكال» (١) انتهى.

وهذا مبنيّ على ما تقدّم منه من أنّ الابتداء بـ «قبلت» غير ممكن بخلاف الابتداء بـ «ابتعت» وغيره فإنّه ممكن. وقد عرفت ضعف الفرق ، إلّا على تقدير إرادة معنى القبول اللغوي ، وهو موضع منع.

والمنقول من دليل القول بعدم الاشتراط وجوه أشار إليها ثاني الشهيدين في المسالك بقوله : «ووجه العدم أصالة الجواز ، وأنّه عقد فيجب الوفاء به ، ولتساويهما في كون كلّ منهما ينقل ملكه إلى الآخر فإذا جاز للبائع التقدّم جاز للمشتري ، ولأنّ الناقل للملك هو الرضا المدلول عليه بالألفاظ الصريحة ولا مدخل للترتيب في ذلك ، ولجواز تقديمه في النكاح بغير إشكال فليكن في غيره كذلك فإنّ النكاح مبنيّ على الاحتياط زيادة على غيره (٢).

والعمدة من هذه الوجوه ثانيها ، لفساد وضع البواقي ، فإنّ الجواز في أصالة الجواز إن اريد به الجواز التكليفي قصداً إلى بيان أنّ من قدّم القبول فعل فعلاً مباحاً فلا يكون آثماً ولا يستحقّ به العقاب ، ففيه أنّه ليس بمحلّ كلام. وإن اريد به الجواز الوضعي وهو الصحّة واللزوم فمرجعه إلى الوجه الثاني فلا يكون دليلاً على حدة. وتساويهما فيما ذكر لا يوجب التعدّي ، لكونه قياساً ولا نصّ بالعلّة فتكون مستنبطة فيبطل. وعدم مدخليّة الترتيب في الناقل للملك مصادرة ، لأنّ القائل بالاشتراط يقول بأنّ الناقل هو الرضا المدلول عليه بالألفاظ الصريحة مع تقديم الإيجاب على القبول. وجواز تقديم القبول في النكاح على فرض تسليمه إنّما هو لمصلحة استحياء الأبكار المانع لهنّ من التقدّم ، فيكون ذلك فارقاً بينه وبين غيره ، فبطل به دعوى الأولويّة فيكون التعدّي من القياس الباطل.

واستدلّ لاشتراط تقديم الإيجاب بوجوه ، أشار إليها في مفتاح الكرامة (٣) :

منها : الأصل عدم العقد ، فإنّه قبل وقوع ما قدّم فيه القبول لم يكن العقد متحقّقاً ،

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٥٤.

(٢) المسالك ٣ : ١٥٣.

(٣) مفتاح الكرامة ١٢ : ٥٣٠.

٦٠٣

فإذا وقع يشكّ في تحقّقه ، والأصل يقتضي عدمه.

ومنها : الأصل بقاء الملك ، فإنّه قبل وقوع ما ذكر كان كلّ من مالي البائع والمشتري ملكاً له ، فإذا وقع يشكّ في بقائه ، والأصل يقتضي بقاءه.

ومنها : أنّ القبول إضافة ، فلا يصحّ تقدّمها على أحد المضافين ، وتوضيحه : أنّ القبول عبارة عن الرضا بالعوضيّة ، وهي تابعة لتمليك البائع ماله للمشتري ليكون مال المشتري عوضاً عنه ، والقبول بمعنى الرضا بالعوضيّة إضافة بينهما فلا يتقدّم على أحدهما ، فلا بدّ من تقديم الإيجاب المحقّق للمضافين.

ومنها : أنّ القبول فرع للإيجاب ، فلا يعقل تقدّمه عليه.

وهذه الوجوه كلّها مدخولة :

أمّا الأوّل : فلمنع الشكّ في تحقّق العقد بما ذكر ، لما ذكرنا مراراً من أنّ العقد عبارة عن الربط المعنوي بين شخصين فيما يتعلّق بالأموال ، والظاهر أنّ الربط لا بدّ له من رابط ، وهو كما يمكن أن يكون هو الموجب بأن يربط ماله بمال المشتري وهو أن يملّك ماله للمشتري ليكون مال المشتري عوضاً عنه ، فكذلك يمكن أن يكون هو المشتري بأن يربط ماله بمال البائع وهو أن يتملّك مال البائع ليكون ماله ملكاً له عوضاً عنه ، فالعقد يتحقّق في كلّ من صورتي تقديم الإيجاب وتقديم القبول قطعاً ، فلا معنى لأصالة عدمه في الصورة الثانية.

وأمّا الثاني : فلأنّه بعد ما تحقّق العقد في صورة تقديم [القبول] وصدق عليه ـ البيع بمعنى تمليك عين للغير على وجه التعويض ـ وصدق تجارة عن تراضٍ أيضاً ، يتناوله العمومات ، وبه يخرج عن أصالة بقاء الملك.

وأمّا الثالث : فلما أجاب به الشهيد في حواشي القواعد على ما حكي من «أنّ العوضيّة من الامور الإضافيّة المتعاكسة فلا مزيّة لأحدهما بالاختصاص» (١) وحاصل مراده أنّ العوضيّة أمر إضافي بين العوض والمعوّض ، ويتعاكس بأنّه كما يجوز أن يقال مال المشتري عوض عن مال البائع كذلك يمكن أن يقال مال البائع عوض عن مال المشتري ،

__________________

(١) نقله عنه في مفتاح الكرامة ١٢ : ٥٣٠.

٦٠٤

فلا مزيّة لأحدهما على الآخر ليختصّ بالتقدّم من جهتها فيجوز التقدّم لكلّ منهما.

وأمّا الرابع : فأُجيب عنه بأنّ القبول عبارة عن الرضا بالإيجاب سواء تحقّق قبله أو بعده ، فإنّ الرضا بشي‌ء لا يستدعي تحقّق ذلك الشي‌ء في الماضي ، إذ الإنسان قد يرضى بما يتحقّق في المستقبل ، ففرعيّة القبول للإيجاب لا يقتضي عدم معقوليّة تقدّمه.

وردّ بأنّ القبول ليس عبارة عن مطلق الرضا بالإيجاب بل الرضا بالإيجاب على وجه يتضمّن إنشاء نقل ماله في الحال إلى الموجب على وجه العوضيّة ، لأنّ المشتري ناقل كالبائع ، وهذا لا يتحقّق إلّا مع تأخّر الرضا عن الإيجاب ، إذ مع تقدّمه لا يتحقّق النقل في الحال ، فإنّ من رضي بمعاوضة ينشؤها الموجب في المستقبل لم ينقل في الحال ماله إلى الموجب ، بخلاف من رضي بالمعاوضة الّتي أنشأها الموجب سابقاً ، فإنّه يرفع بهذا الرضا يده من ماله وينقله إلى غيره على وجه العوضيّة.

أقول : وفيه من التحكّم ما لا يخفى ، فإنّ المعاوضة أمر لا يتحقّق إلّا بين اثنين ، وكما أنّ الموجب بإيجابه يقصد إنشاء نقل ماله إلى المشتري على وجه يكون مال المشتري عوضاً عنه ولا يتحقّق المعاوضة بمجرّده حتّى يلحقه القبول ، فكذلك القابل أيضاً برضاه يقصد إنشاء نقل ماله إلى البائع ليكون عوضاً عن مال البائع الّذي ينقله إليه في المستقبل ولا يتحقّق المعاوضة بمجرّده حتّى يلحقه الإيجاب ، وكما أنّ نقل ماله إلى الموجب لا يتحقّق في الحال حتّى يتحقّق المعاوضة بلحوق الإيجاب فكذلك نقل مال الموجب في صورة تقديم الإيجاب إلى القابل لا يتحقّق في الحال حتّى يتحقّق المعاوضة بلحوق القبول ، والفرق بين الصورتين في دعوى تحقّق نقل مال البائع في الحال في صورة تقديم الإيجاب وعدم تحقّق نقل مال المشتري في الحال في صورة تقديم القبول تحكّم.

وقد يجاب عن الاستدلال بالفرعيّة المقتضية للتبعيّة ، بأنّ تبعيّة القبول للإيجاب ليس تبعيّة اللفظ للّفظ ولا القصد للقصد حتّى يمتنع تقديمه ، وإنّما هو على سبيل الفرض والتنزيل ، بأن يجعل القابل نفسه متناولاً لما يلقي إليه الموجب والموجب مناولاً ، كما يقول السائل في مقام الإنشاء : أنا راضٍ بما تعطيني وقابل لما تمنحني ، فهو متناول قدّم إنشاءه أو أخّره ، فعلى هذا يصحّ تقديم القبول ولو بلفظ قبلت ورضيت إن

٦٠٥

لم يقم إجماع على خلافه» (١) انتهى.

وردّ «بأنّ الرضا بما يصدر من الموجب في المستقبل من نقل ماله بإزاء مال صاحبه ليس فيه إنشاء نقل من القابل في الحال بل هو رضى منه بالانتقال في الاستقبال ، وليس المراد أنّ أصل الرضا بشي‌ء تابع لتحقّقه في الخارج أو لأصل الرضا به حتّى يحتاج إلى توضيحه بما ذكره من المثال ، بل المراد أنّ الرضا الّذي يعدّ قبولاً وركناً في العقد» (٢) انتهى.

وفيه ما عرفت من التحكّم ، والتوضيح بذكر المثال لبيان أنّ تبعيّة القبول للإيجاب عبارة عن تبعيّة القابل الموجب وهي فيه تبعيّة فرضيّة جعليّة من جعل نفس القابل وفرض نفسه متناولاً والموجب مناولاً ، وظاهر أنّ كلّ متناول تابع لمناوله كما في المثال ، ولا يتفاوت الحال في تحقّق هذا المعنى من التبعيّة فيه بين أن يقدّم إنشاءه أو يؤخّره أيضاً كما في المثال.

وقد أجاب عن الاستدلال بالفرعيّة أيضاً في مفتاح الكرامة بما ملخّصه «أنّ فرعيّة القبول لا تمنع من تقديمه على الإيجاب إلّا في لفظ قبلت وإلّا لما جاز ذلك في النكاح ، لأنّ المنع عند قائليه لو كان عقلي والمنع العقلي لا يقبل التخصيص فوجب أن لا يجوز تقديمه في النكاح وهو باطل بدليل الخلف لأنّ المفروض ثبوت جوازه فيه ، وهذا يكشف عن عدم كون الفرعيّة مانعة عنه عقلاً. وأمّا في لفظ قبلت فلا نزاع فيه كما صرّح به جماعة لا للتقديم بل لعدم صحّة هذا اللفظ ، وإنّما النزاع كما في الحاشية الميسيّة والمسالك والروضة ومجمع البرهان ، وهو الّذي نبّه عليه في نهاية الإحكام (٣) وكشف اللثام (٤) في باب النكاح فيما إذا أتى المشتري بلفظ ابتعت أو اشتريت أو نحو ذلك بحيث يشتمل على جميع ما يعتبر في صحّة العقد في صورة تقديم الإيجاب فحينئذٍ يمكن أن يقال : إنّه يصير المشتري موجباً والبائع قابلاً كما في مجمع البرهان (٥) أو يقال : إنّ تبعيّة القبول للإيجاب إنّما هي على سبيل الفرض والتنزيل ...» (٦) إلى آخر

__________________

(١) نقله في مفتاح الكرامة ١٢ : ٥٣١.

(٢) المكاسب ٣ : ١٤٥.

(٣) نهاية الإحكام ٢ : ٤٤٨.

(٤) كشف اللثام ٧ : ٤٧.

(٥) مجمع البرهان ٨ : ١٤٦.

(٦) مفتاح الكرامة ١٢ : ٥٣٠ ـ ٥٣١.

٦٠٦

ما نقله من الجواب المتقدّم عن استاده.

والظاهر أنّ نظره في عدم صحّة لفظ «قبلت» في صورة التقديم إلى عدم تحقّق معناه المقتضي للمسبوقيّة فيكون لغواً واللفظ خال عن الفائدة. ويرد عليه : أنّه بناء منه على لحاظ معناه اللغوي ، وهو في كلام الفقهاء في باب العقود محلّ منع ، بل القبول المقابل للإيجاب يراد به الرضا بما أوجبه الموجب وإنشاؤه من المعنى المقصود للمتعاقدين ، ولا ريب أنّ الألفاظ الثمانية المتقدّمة للقبول كلّها في الدلالة على الرضا على حدّ سواء ، وإن كانت هذه الدلالة في بعضها أصرح منها في غيره كلفظ «رضيت» ونحوه «قبلت» فقضيّة الأصل المستفاد من عمومات الصحّة جواز التقديم مطلقاً ، إلّا أن يقوم في خصوص «قبلت» إجماع على المنع ، وهو غير ثابت حتّى ظنّاً. ونفي الخلاف على ما في كلام الجماعة مستراب فيه فلا يفيدنا شيئاً ، لقوّة احتمال استناده إلى لحاظ المعنى اللغوي وقد عرفت فساده.

وقد يفصّل في المسألة ويقال «بأنّ القبول في العقود على أقسام ، لأنّه إمّا أن يكون التزاماً بشي‌ء من القابل كنقل مال عنه أو زوجيّة ، وإمّا أن لا يكون فيه سوى الرضا بالإيجاب.

والأوّل على قسمين ، لأنّ الالتزام الحاصل من القابل إمّا أن يكون نظير الالتزام الحاصل من الموجب كالمصالحة ، أو متغايراً كالاشتراء ، والثاني أيضاً على قسمين ، لأنّه إمّا أن يعتبر فيه عنوان المطاوعة كالارتهان والاتّهاب والاقتراض ، وإمّا أن لا يثبت فيه اعتبار أمر أزيد من الرضا بالإيجاب كالوكالة والعارية وشبههما ، وتقديم القبول على الإيجاب لا يكون إلّا في القسم الثاني من كلّ من القسمين» (١) انتهى. ومحصّله : عدم صحّة تقديم القبول في الرهن والقرض والهبة والصلح ، وصحّته في سائر العقود اللازمة والجائزة.

واستدلّ قبيل ذلك على عدم صحّته في الرهن «بأنّ اعتبار القبول فيه من جهة تحقّق عنوان المرتهن ، ولا يخفى أنّه لا يصدق الارتهان على قبول الشخص إلّا بعد تحقّق الرهن ، لأنّ الإيجاب إنشاء للفعل والقبول إنشاء للانفعال ، ثمّ قال : وكذا القول في الهبة والقرض ، فإنّه لا يحصل من إنشاء القبول فيها التزام بشي‌ء ، وإنّما يحصل به الرضا

__________________

(١) المكاسب ٣ : ١٥٥ ـ ١٥٦.

٦٠٧

بفعل الموجب ، ونحوها قبول المصالحة المتضمّنة للإسقاط أو التمليك بغير عوض» (١) يعني أنّ طريق الاستدلال المذكور يجري في الكلّ فيكون الإيجاب في كلّ واحد إنشاءً للفعل والقبول إنشاءً للانفعال حتّى المصالحة الغير المشتملة على العوض الّتي هي بالنسبة إلى ما في الذمّة في معنى الإبراء والإسقاط ، وبالنسبة إلى العين الخارجيّة في معنى الهبة الغير المعوّضة ، فإنّ إيجاب المصالح فيه إنشاء للفعل وهو الإسقاط وقبول المتصالح فيه إنشاء للانفعال وهو قبول الأثر قبالاً للفعل بمعنى التأثير ، ولذلك يكون في كلّ واحد من الامور المذكورة رضاً بالإيجاب على وجه المطاوعة الّذي هو أيضاً عبارة عن قبول الأثر.

وأمّا المصالحة المشتملة على العوض فاستدلّ لعدم تقديم القبول «بأنّه لمّا كان ابتداء الالتزام بها جائزاً من الطرفين وكان نسبتها إليهما على وجه سواء وليس الالتزام الحاصل من أحدهما أمراً مغايراً للالتزام الحاصل من الآخر كان البادئ منهما موجباً لصدق الموجب عليه لغة وعرفاً» (٢) انتهى. ومحصّله : أنّ كلّ من تقدّم من المتصالحين بالإنشاء كان هو الموجب وكان المتأخّر منهما قابلاً ، فلا يعقل لقبوله تقديم مع بقائه على وصف القبوليّة.

ولا يخفى ما في هذا التفصيل من التمحّل والتحكّم وما في دليله من التكلّف والتجشّم ، فإنّ القبول في جميع العقود اللازمة والجائزة عبارة عن الرضا بالإيجاب ، غاية الأمر أنّه قد لا يتضمّن التزاماً بشي‌ء من القابل للموجب كما في الرهن والهبة بغير عوض والمصالحة الغير المشتملة على العوض والوكالة والعارية ، وقد يتضمّن التزاماً منه بشي‌ء للموجب كنقل مال إليه على وجه العوضيّة كما في البيع ، أو عوضاً على وجه الشرطيّة كما في المصالحة المشتملة على العوض ، والهبة المعوّضة والنكاح بالنسبة إلى المهر. وإرجاعه في بعضها كالرهن والقرض والهبة والصلح بغير عوض إلى الانفعال واعتبار عنوان المطاوعة فيه لأجل ذلك اعتبار صرف لم يدلّ دليل على ثبوت ذلك الاعتبار في الشرع. واصطلاح محض لا يترتّب عليه ثمرة في الفروع ، إذ الانفعال

__________________

(١) المكاسب ٣ : ١٥٤ ـ ١٥٥.

(٢) المكاسب ٣ : ١٥٥ ـ ١٥٦.

٦٠٨

بالمعنى الحقيقي المصطلح عليه عند أهل المعقول عبارة عن التأثّر الّذي يقال له «قبول الأثر» قبالاً للفعل الّذي يقال له «التأثير» وهذا التأثّر يترتّب على الفعل بمعنى التأثير قهراً من غير تأثير من المنفعل ولا اعتبار أمر وجودي من قبله كما في الكسر والانكسار. والانفعال بهذا المعنى ممّا لا يمكن تحقّقه في شي‌ء من العقود ، لأنّ الأثر المقصود منها أثر يترتّب على المجموع من الإيجاب والقبول ولا يكفي فيه أحدهما ، وكما أنّ الإيجاب إنشاء للمعنى المقصود في العقد وهو فعل للموجب فكذلك القبول إنشاء للرضا بما أوجبه الموجب وهو فعل للفعل (١) والأثر المقصود يترتّب على مجموع هذين الفعلين ولا يكفي فيه أحدهما ، فجعل أحدهما فعلاً دون الآخر بجعله انفعالاً تحكّم ، لما عرفت من أنّه أيضاً فعل وليس فيه انفعال بالمعنى المذكور إلّا أن يجعل تسميته انفعالاً اصطلاحاً آخر غير ما ذكر فلا مشاحّة في الاصطلاح ، ولكنّه اصطلاح لا يترتّب عليه ثمرة في الفروع.

ودعوى : أنّ ثمرته عدم جواز تقديم القبول في العقود المذكورة ، يدفعها : أنّ الدليل الّذي استدلّ على هذا الحكم في هذه العقود ـ وهو أنّ اعتبار القبول في الرهن إنّما هو من جهة تحقّق عنوان المرتهن ولا يصدق الارتهان إلّا بعد تحقّق الرهن ، لأنّ الإيجاب إنشاء للفعل والقبول إنشاء للانفعال ونحوه القرض والهبة ـ مختلّ الوضع ، فإنّ الأثر المقصود في الرهن مثلاً وهو كون العين المرهونة وثيقة بإزاء دين المرتهن بعد حصوله وترتّبه على مجموع الإيجاب والقبول لزمه صدق كلّ من الارتهان والراهن والمرتهن دفعة واحدة وفي زمان واحد من غير ترتّب بينها ، فجعل عنوان المرتهن متأخّراً في تحقّقه عن عنوان الارتهان كجعل تحقّقه متأخّراً عن تحقّق الرهن مكابرة.

وأمّا ما ذكره في وجه عدم تقدّم قبول المصالحة المشتملة على العوض من «أنّ الالتزام المقصود فيها متساوي النسبة إلى المتصالحين فيكون البادئ منهما موجباً وغيره قابلاً ...» الخ ففيه : أنّ الفرق بين البيع والمصالحة أنّ العوض في الأوّل الّذي هو الثمن داخل في الماهيّة ومقوّم لها ، والعوض المعتبر في الثاني وهو مال المصالحة

__________________

(١) كذا في الأصل ، والظاهر : للقابل.

٦٠٩

خارج عن الماهيّة ويكون اعتباره فيه على وجه الشرطيّة ، فالقابل فيه من اعتبر في المال المنتقل عنه إلى صاحبه العوضيّة على وجه الشرطيّة ويقال له «المتصالح» فإن تأخّر عن الموجب في الإنشاء كان قبوله عبارة عن إنشاء الرضا بما تحقّق من الموجب وهو المصالح من نقل ماله إليه على أن يكون ما يخرج عنه من مال المصالحة عوضاً عنه ، وإن تقدّم عليه في الإنشاء كان قبوله عبارة عن إنشاء الرضا بما يتحقّق من الموجب من نقل له إليه على أن يكون ما يخرج عنه من مال المصالحة عوضاً عنه ، فهو المتصالح في الصورتين فيجوز كلّ من التأخّر والتقدّم في قبوله ، فدعوى عدم تصوّر تقديم فيه مع بقائه على وصف القبوليّة مكابرة.

وبالجملة تشخيص القابل عن الموجب في الصلح والبيع وغيرهما أمر عرفي منوط باعتبار المتعاقدين كما اعترف به المفصّل في جملة كلام له بعيد التفصيل المذكور قائلاً : «بأنّ مغايرة الالتزام في قبول البيع لالتزام إيجابه اعتبار عرفي ، فكلّ من التزم بنقل ماله على وجه العوضيّة لمال آخر يسمّى مشترياً ، وكلّ من نقل ماله على أن يكون عوضه مالاً من آخر يسمّى بائعاً. وبعبارة اخرى كلّ من ملّك ماله غيره بعوض فهو البائع ، وكلّ من ملك مال غيره بعوض ماله فهو المشتري ، وإلّا فكلّ منهما في الحقيقة يملّك ماله غيره بإزاء مال غيره ، ويملك مال غيره بإزاء ماله» (١).

وقد يجعل الضابط في تشخيص المشتري من البائع مقرونيّة سلعته في العقد بباء المقابلة ، فالمشتري في مثل «بعتك داري بدارك وقبلت دارك بداري» هو مالك الدار الثانية المقرونة بالباء.

المسألة الثانية : في اشتراط الموالاة بين الإيجاب والقبول ، وهذا الشرط كما قيل لم يذكره الأكثرون وإنّما ذكره جماعة أوّلهم الشيخ في المبسوط (٢) في باب الخلع وتبعه العلّامة (٣) في جملة من كتبه وبعده الشهيدان (٤) والمحقّق (٥) الثاني والفاضل (٦) المقداد. وقد يعبّر عن الموالاة باتّصال القبول بالإيجاب ، ويفسّران بأن لا يتخلّل بينهما سكوت

__________________

(١) المكاسب ٣ : ١٥٦.

(٢) المبسوط ٤ : ٣٦٢.

(٣) القواعد ٢ : ٤ و ٨٠.

(٤) الدروس ٢ : ٢٦٤ و ٣ : ١٩١ ، والمسالك ٦ : ٩ و ٩ : ٣٨٤.

(٥) جامع المقاصد ٤ : ٥٩.

(٦) التنقيح ٢ : ٢٤.

٦١٠

ولا كلام. وقد يقيّد السكوت بالطويل ، فلا يضرّ القليل كمقدار نفس ونحوه. وعن المحقّق الثاني تقييد الكلام بكونه «أجنبيّاً» وإن قلّ ولو نحو ذكر سبحان الله ، خلافاً لبعض العامّة كالشافعي فقال : «بأنّه لا يضرّ قول الزوج بعد الإيجاب : الحمد لله والصلاة على رسول الله قبلت نكاحها» (١) واحترز بالتقييد عن غير الأجنبيّ وهو ما يرتبط بالعقد كوصف الثمن أو المثمن وشرط الخيار وشرط التعجيل في ردّ الثمن أو تسليم المثمن وضرب الأجل أو تعيينه في النسيئة والسلم ونحوه ، فإنّه غير قادح. وقد يدّعى على ذلك إطباقهم.

وعن قواعد الشهيد في بيان مدرك الموالاة «وهي مأخوذة من اعتبار الاتّصال بين المستثنى والمستثنى منه» (٢).

واورد عليه بأنّ الإيجاب والقبول ليسا من المستثنى والمستثنى منه ، فكيف يقال يكون موالاتهما مأخوذة من اعتبار الاتّصال بينهما؟.

ويدفعه : عدم كون مراده بذلك كون العقد الكلام المركّب من الإيجاب والقبول من جنس الكلام الاستثنائي ، بل مراده كون شرط الموالاة هنا مأخوذاً من دليل شرط الاتّصال في الكلام الاستثنائي ، ومرجعه إلى الاستدلال على الاشتراط بوحدة المناط ، فإنّ مناط اعتبار الاتّصال بين المستثنى والمستثنى كون المركّب منهما كلاماً واحداً فيعتبر عرفاً فيه هيئة اتّصاليّة ، فإذا تخلّل بينهما سكوت طويل أو كلام أجنبيّ زالت الهيئة الاتّصاليّة فلم يرتبط المستثنى بالمستثنى به فيكون لغواً ، وهذا المناط جارٍ في العقد المركّب من الإيجاب والقبول فإنّه أيضاً يعدّ في نظر العرف كلاماً واحداً وإن قام جزءاه بشخصين ، فيعتبر فيهما عند العرف هيئة اتّصاليّة ، والسكوت الطويل أو الكلام الأجنبيّ يخلّ بها فلا يرتبط القبول بالإيجاب فيكون لغواً. وقد يجعل ذلك من باب الجواب المعتبر عرفاً اتّصاله بالسؤال ، فلو تخلّل بينهما سكوت طويل أو كلام أجنبيّ لم يرتبط الجواب بالسؤال ، وكذلك القبول بالنسبة إلى الإيجاب ، والمراد به أيضاً كونه بمنزلته لوحدة المناط لا كونه جواباً على الحقيقة.

__________________

(١) المجموع ١٧ : ٣٠٧.

(٢) القواعد والفوائد ١ : ٢٣٤.

٦١١

ثمّ إنّه لا يدرى أنّ الموالاة عند معتبريها هنا هل هي معتبرة في الموضوع فلا يصدق العقد ولا البيع ولا التجارة على ما لم يتّصل قبوله بإيجابه فلا يتناوله أدلّة الصحّة من قوله تعالى : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» و «إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» أو أنّها معتبرة في الحكم أعني الصحّة وترتّب الأثر إمّا بدعوى عدم الدليل عليها بناءً على انصراف أدلّتها إلى المتعارف الشائع وقوعه وهو ما اتّصل قبوله بإيجابه أو بدعوى الدليل على عدم الصحّة فلا بدّ أن يكون الدليل لو كان بحيث ينهض لتخصيص العمومات المذكورة؟ احتمالات :

منشأها اختلاف كلمة المتعرّضين للمسألة واختلاف مؤدّيات الوجوه المتمسّك بها لاعتبار هذا الشرط ، فإنّ قضيّة التمسّك بكون الإيجاب والقبول كالمستثنى والمستثنى منه أو كالجواب والسؤال في كون العقد المركّب منهما كلاماً واحداً عند العرف ويعتبر فيه عندهم صورة اتّصاليّة والفصل بينهما تخلّ بالهيئة الاتّصاليّة وبعد فواتها لا يرتبط القبول بالإيجاب فيلغو فلا يكون مفيداً ، كونها معتبرة في الموضوع ، إذ معنى عدم كونه مفيداً عدم إفادته بعد اللغويّة لتحقّق العقد أو البيع أو التجارة عن تراضٍ.

وقضيّة التمسّك بانصراف أدلّة الصحّة إلى المعهود المتعارف دون غيره وليس إلّا ما اتّصل قبوله بإيجابه لأنّه الغالب وجوده والشائع وقوعه في جميع الأمصار والأعصار حتّى زمان صدور الخطاب وما لم يتّصل قبوله بإيجابه نادر فلا يتناوله أدلّة الصحّة ، كونها معتبرة في الحكم ، مع كون الجهة في اعتبارها فيه عدم الدليل على الصحّة بدونها.

وقضيّة التمسّك بأنّ العقد يعتبر فيه الصراحة ـ بأن يكون صريح الدلالة على إنشاء المعنى المقصود من الموجب وإنشاء الرضا بما أوجبه الموجب من القابل ، ولا يكون صريحاً إلّا ما اتّصل قبوله بإيجابه ، لأنّ القبول الغير المتّصل محتمل لغير إنشاء الرضا بما أوجبه الموجب ، إمّا لاحتمال العدول من الموجب ، أو لاحتمال كونه رضا بما يتحقّق من الموجب في المستقبل ، لا بما تحقّق منه في الماضي من القابل ـ كونها معتبرة في الحكم ، لقيام الدليل على عدم الصحّة بدونها ، وهو أنّ الشرط ينتفي بانتفائه.

غير أنّ هذا الوجه الأخير أضعف الوجوه المتمسّك بها هنا ، لمنع صغراه تارةً إمّا لعدم اطّراد احتمال العدول في الموجب ، أو لعدم اطّراد احتمال قصد إنشاء الرضا

٦١٢

بما يتحقّق كما لو اخذ في عبارة القبول ما يوجب كونه صريحاً في الرضا بما تحقّق. ومنع كبراه اخرى إمّا لعدم اعتبار الصراحة في الصحّة كما اخترناه في محلّه المتقدّم بل هي معتبرة في اللزوم ، أو لأنّ الصراحة على تقدير اعتبارها في الصحّة ـ كما تقدّم تفسيرها سابقاً ـ عبارة عن كون دلالة الصيغة على العنوان المقصود منها بالوضع ليخرج به المجاز والكناية ، لا الصراحة بالمعنى المرادف للنصوصيّة ، وقيام أحد الاحتمالين إن صحّ واطّرد يرفع النصوصيّة ، لا أنّه يوجب المجازيّة في صيغة الإيجاب ولا صيغة القبول كما هو واضح ، إلّا أن يراد بالمجازيّة ما يلزم في المركّب باعتبار الوضع التركيبي بفوات الهيئة الاتّصاليّة.

وقد يفصّل في كونها شرطاً في الموضوع أو للحكم بين العقد أو البيع والتجارة ، فيقال : بأنّه لو كان حكم الملك واللزوم منوطاً بصدق العقد عرفاً ـ كما هو مقتضى التمسّك بآية الوفاء بالعقود وبإطلاق كلمات الأصحاب في اعتبار العقد في اللزوم بل الملك ـ فما ذكر من كون الموالاة معتبرة في العقد حسن ، فإنّ المعاقدة لا يصدق إذا كان الفصل مفرطاً في الطول كسنة أو أزيد. وإن كان منوطاً بصدق البيع أو التجارة عن تراضٍ فلا يضرّه عدم صدق العقد ، أي لا يضرّ الحكم المنوط بصدق البيع أو التجارة ، أو لا يضرّ صدق البيع أو التجارة عدم صدق العقد.

وهذا غير جيّد ، لأنّ القبول إذا صار لغواً بتخلّل الفصل وغير مفيد باعتبار اللغويّة فلا يتفاوت فيه الحال بين العقد والبيع والتجارة ، فلا يفيد تحقّق شي‌ء من ذلك.

فالأقوى حينئذٍ اشتراط الموالاة في الصحّة ، للوجهين الأوّلين ، ويؤيّدهما الوجه الثاني (١) وإن كان باعتبار كون النكتة في عدم انصراف أدلّة الصحّة إلى ما لم يتّصل قبوله بإيجابه عدم تحقّق موضوع العقد ولا البيع ولا التجارة ليتناوله العمومات والإطلاقات.

ثمّ إنّه كما أنّ مدرك اعتبار الموالاة هو العرف فتحديدها أيضاً موكول إلى العرف ، فالسكوت الغير المفرط كمقدار نفس وما يقرب منه وكذلك السعال والعطاس والكلام الأجنبيّ في غير مدّة طويلة كما لو قال «اسقني» وما أشبه ذلك غير مضرّ في نظر

__________________

(١) كذا في الأصل.

٦١٣

العرف. ومن ثمّ قد يقال : بأنّه يجوز الفصل بين الإيجاب والقبول بما لا يجوز بين كلمات كلّ واحد منهما ، ويجوز بين الكلمات بما لا يجوز بين الحروف كما في الأذان والقراءة.

المسألة الثالثة : في المطابقة بين الإيجاب والقبول الّتي عدّها من شروط صحّة العقد جماعة (١) تبعاً للشيخ في المبسوط (٢) وليس المراد بها المطابقة بينهما في اللفظ بحسب المادّة بأن يكون قبول بعت ابتعت ، وقبول شريت اشتريت ، لعدم اعتبار المطابقة بهذا المعنى قولاً واحداً ، فيجوز اشتريت في قبول بعت ، وابتعت في قبول شريت ، وفي النكاح قبلت النكاح في قبول زوّجت ، وقبلت التزويج في قبول أنكحت. بل المراد به ورود القبول على ما ورد عليه الإيجاب على الوجه الّذي ورد.

وبعبارة اخرى أن يعتبر في مورد القبول ثمناً ومثمناً ومشترياً كلّما اعتبره الموجب في مورد إيجابه ذاتاً ووصفاً وشرطاً وكمّاً وزماناً ومكاناً وغير ذلك من القيود والخصوصيّات. فلو قال البائع «بعتك داري بمائة» لم يصحّ الجواب بأنّه «اشتريتها لموكّلي» ولو قال «بعت موكّلك» لم يصحّ الجواب بأنّه «اشتريتها لنفسي» ولو قال «بعتك العبد» لم يصحّ الجواب بـ «اشتريت الجارية» ولو قال «بعت الجارية الحبشيّة» لم يصحّ الجواب بـ «اشتريت الروميّة» ولو قال «بعتك الفرس بمائة» لم يصحّ الجواب بـ «اشتريت الفرس والحمار بمائة» ولو قال «بعتك الفرس بمائة دينار» لم يصحّ الجواب بـ «اشتريته بألف درهم» ولو قال «بعته بعشرة دراهم» لم يصحّ الجواب بـ «اشتريته بدينار» ولو قال «بعته بمائة» لم يصحّ الجواب «بخمسين».

والأصل في هذا الشرط أنّ القبول عبارة عن الرضا بما أوجبه الموجب ، ولا يتحقّق إلّا مع المطابقة ، إذ مع عدمها كان رضا بغير ما أوجبه.

وقد يقرّر الدليل بأنّ قضيّة آية التجارة عن تراضٍ كون التراضي شرطاً في الصحّة ، وهو تفاعل يعتبر في صدقه حصول الرضا من الجانبين ، فإذا ورد القبول على غير ما ورد عليه الإيجاب فقد رضي القابل بغير ما رضي به الموجب ، فلم يتحقّق التراضي

__________________

(١) كما في الشرائع ٢ : ٢٧٣ ، جامع المقاصد ١٢ : ٦٨ ، كشف اللثام ٧ : ٤٤ ، نهاية الإحكام ٢ : ٤٥٠.

(٢) المبسوط ٢ : ١٢٨.

٦١٤

ولزمه الفساد.

وقد يستدلّ أيضاً بعدم شمول أدلّة الصحّة ، لعدم صدق [العقد] ولا البيع على ما لم يطابق قبوله لإيجابه فيبقى تحت الأصل المقتضي للفساد. أمّا عدم صدق العقد فلأنّ الربط المعنوي غير حاصل فيما لو قال البائع «بعتك هذا الفرس بمائة» فقال المشتري «اشتريت الحمار بمائة» ولا فيما لو قال البائع «بعتك هذين العبدين بمائة» فقال المشتري «اشتريت أحدهما بخمسين» ولا فيما لو قال «بعتك هذا بشرط كذا بكذا» فقال المشتري «اشتريته لا بشرط كذا».

ولا يفرّق في ذلك بين كون البعض ممّا يباع في ضمن الكلّ تبعاً كرجل الفرس مثلاً أو أصالة كنصف الدار أو إحدى الصفقتين ، وأمّا ما يرى من الصحّة في البعض في مسألة تبعّض الصفقة كما لو باع مملوكاً وغير مملوك ـ كالشاة مع الكلب أو الخنزير ـ فيصحّ في المملوك دون غيره فإنّما هو بدليل من الخارج ، وإلّا فمقتضى القاعدة عدم الصحّة فيه أيضاً.

وأمّا عدم صدق البيع فلأنّه لو قال المشتري «اشتريت أحد هذين» أو «اشتريت الحمار» أو «اشتريته بمائة» بعد ما أوجب البائع في المجموع أو في الفرس أو بألف لا يقال إنّه باع ذلك أو باع بكذا ، فما أوجبه الموجب في الصور المذكورة ونظائرهما لم يقبله القابل ، وما قبله القابل لم يوجبه الموجب ، فلم يتحقّق بينهما ربط ولا بيع ولا تجارة ، وإذا انتفى الصدق انتفى شمول الأدلّة من قوله تعالى «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و «أَحَلَّ اللهُ» و «إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» وقضيّة ذلك بقاء كلّ في ملك صاحبه وعدم حصول نقل ولا انتقال.

ثمّ إنّ هاهنا فروعاً كثيرة ينبغي الاطّلاع عليها ، فلو قال «بعتك هذين بمائة» واتّحدا جنساً وتساويا قيمة فقال المشتري «اشتريت أحدهما بخمسين» لم يصحّ من جهة الجهالة في المبيع ومن جهة عدم المطابقة ، فإنّ الإيجاب وقع على المجموع بإزاء المجموع ، وربّما يكون في الانضمام غرض للموجب وهو غير حاصل مع عدم الانضمام. ولو قال «اشتريت هذا بعينه بخمسين» يفسد بالجهة الثانية ، ولو قال البائع «بعتك إيّاهما هذا بخمسين وهذا بخمسين» فقبل أحدهما بخمسين أو هذا بخمسين لم

٦١٥

يصحّ من الجهتين في الاولى ومن الثانية في الثانية ، ولو قال المشتري «اشتريت أحدهما بستّين أو أربعين» فسد من الجهتين مضافاً إلى جهة ثالثة ، وهي عدم كون الثمن ممّا ذكر في الإيجاب فيكون قبولاً لما لا إيجاب فيه.

نعم لو قال «بعتك هذا بخمسين ، وهذا بخمسين» فقبل أحدهما المعيّن صحّ في جميع الجهات ، ولو قبل أحدهما لا بعينه احتمل الصحّة والأقرب الفساد ، لعدم ورود القبول على ما ورد عليه الإيجاب من المتعيّن. والقاعدة في القيميّات تقتضي اعتبار التعيين ، ولو اشترى نصف الصفقة مشاعاً بأن يقبل نصفها على سبيل الإشاعة بنصف الثمن المسمّى في الإيجاب احتمل الصحّة فيحصل الشركة ، والأقرب خلافه لعدم المطابقة.

وممّا ذكر تبيّن حال غير المتحدين جنساً وغير متساوي القيمة مع اتّحاد الجنس ، فإنّ عدم المطابقة فيهما أولى بالقدح من المتحدين المتساويين ، فلو جمع بين الدار والثوب مع تساويهما قيمة فقال «بعتك إيّاهما بألف» فقال المشتري «قبلت أحدهما بخمسمائة ، أو قبلت هذا بخمسمائة» لم يصحّ للجهالة وعدم المطابقة في الأوّل ، ولعدم المطابقة في الثاني. فلو قال «بعتك إيّاهما بمائة» ولكن قيمة أحدهما تساوي سبعين والآخر ثلاثين فقال «قبلت أحدهما بسبعين أو ثلاثين أو قبلت هذا بسبعين أو ذلك بثلاثين» لم يصحّ إمّا للجهالة في المبيع والثمن أو في أحدهما أو لعدم المطابقة في الجميع.

ولو قال في المثليّات «بعتك برطلين من الصبرة بمائة» فقال «قبلت رطلاً بخمسين أو أربعين أو ثلاثين» لم يصحّ أمّا في الأوّل لعدم المطابقة ، وفي الأخيرين له ولعدم تعيّن الثمن في العقد. ولو قال «بعتك رطلين أحدهما بخمسين والآخر بستّين» فقال «قبلت أحدهما» لم يصحّ ، وكذلك لو قال «قبلت هذا» لعدم المطابقة. ولو قال «بعتك رطلاً بخمسين ورطلاً آخر بخمسين» مثلاً فقبل أحدهما بأحدهما صحّ لعدم المنافاة. وكذلك في القيميّات مع تساوي القيمة ، كما لو قال «بعتك إيّاهما هذا بخمسين وهذا بخمسين» فقال «اشتريت هذا بخمسين».

ومن الفروع ما وقع فيه نوع اختلاف في كلامهم وإن صار الكلمة بالأخرة واحدة ، مثل أنّه لو قال «بعتك هذين بألف» فقال «قبلت أحدهما بخمسمائة» صرّح جماعة (١)

__________________

(١) كما في المبسوط ٢ : ١٢٨ ، الدروس ٣ : ١٩١ ، جامع المقاصد ٤ : ٦٠.

٦١٦

بعدم الصحّة ، وعن جامع المقاصد احتمال الصحّة «لأنّه في قوّة عقدين» وردا على شيئين فقبل المشتري أحدهما. وفيه ضعف لا يخفى على المتأمّل ، كما تنبّه هو عليه أيضاً لأنّ الإيجاب وقع على المجموع ، وقد يكون للبائع غرض في الانضمام لم يحصل مع الانفراد فلا تراضي.

ومثل أنّه لو قال «بعتكما هذا بألف» فقال أحدهما «قبلت نصفه بنصف الثمن» فصرّح جماعة (١) بأنّه لم يقع ، وعن التذكرة (٢) أنّه استشكل فيه ثمّ قرب الصحّة وثبوت الخيار للبائع ، وعن المختلف «أنّهما الأقوى» (٣) أمّا الصحّة فلأنّ البائع إنّما قصد تمليك كلّ واحد منهما نصف المبيع وقد أتى باللفظ الدالّ عليه وضعاً فيجب الحكم بالصحّة ، كما لو قال «بعتكما هذا العبد بألف نصفه مثلاً بخمسمائة ونصفه الآخر بخمسمائة» وأمّا ثبوت الخيار فلأنّ البائع قصد تمليك كلّ واحد بشرط تملّك آخر فإذا فقد الشرط وجب له الخيار.

وفيه : أنّ التراضي بالنسبة إلى البائع حصل في المجموع بالمجموع ومع عدم المطابقة لا تراضي ، فإنّ في الانضمام غرضاً له وهو لا يحصل مع الانفراد فلا رضا له ، ولا ينتقض ببيع ما يملك وما لا يملك كالشاة والكلب ، حيث إنّه يصحّ في الأوّل ويفسد في الثاني بحصول التراضي منهما في المجموع وحصول السبب المؤثّر بتمامه من الإيجاب والقبول مع التطابق بينهما بالنسبة ، وانتفاء الصحّة في البعض إنّما هو من جهة انتفاء شرط التأثير بالنسبة إلى ذلك البعض لا من جهة انتفاء المطابقة.

المسألة الرابعة : في اشتراط العقد بالتنجيز ، وهو أن لا يكون معلّقاً على شي‌ء بأداة الشرط ، فالتعليق مبطل له في العقود اللازمة والجائزة ، ذكره الشيخ والحلّي في المبسوط (٤) والسرائر (٥) والعلّامة في القواعد (٦) والنهاية (٧) والشهيدان في القواعد (٨) وتمهيد (٩) القواعد والمحقّق الثاني وفخر الدين في جامع المقاصد (١٠) وشرح الإرشاد (١١)

__________________

(١) كما في المبسوط ٢ : ١٢٨ ـ ١٢٩ ، الخلاف ٣ : ٤٠ المسألة ٥٨ ، نهاية الإحكام ٢ : ٤٥٠ تلخيص المرام : ٣٣٨ ، المهذب ٣ : ١١١. (٢) التذكرة ١٠ : ١٠. (٣) المختلف ٥ : ١٨٦.

(٤) المبسوط ٢ : ٣٩٩ ، والخلاف ٣ : ٣٥٤ المسألة ٢٣.

(٥) السرائر ٢ : ٩٩. (٦) القواعد ٢ : ٣٤٩.

(٧) نهاية الإحكام ٢ : ٤٥١. (٨) القواعد والفوائد ٢ : ٧٩.

(٩) تمهيد القواعد : ٥٣٣. (١٠) جامع المقاصد ٨ : ١٨٠.

(١١) شرح الإرشاد : ٤٦.

٦١٧

ونسب إلى جميع من تأخّر عن العلّامة ، ونسبه في التذكرة (١) إلى علمائنا مؤذناً بدعوى الإجماع عليه في باب الوكالة ، وعن تمهيد القواعد (٢) دعوى الإجماع على عدم صحّة تعليق العقود على شرط ، قيل وقد تلوح هذه الدعوى عن كاشف اللثام (٣) وعن فخر الدين في باب الوكالة من شرح الإرشاد «أنّ تعليق الوكالة على الشرط لا يصحّ عند الإماميّة وكذا غيره من العقود لازمة كانت أو جائزة» (٤) قيل وظاهر المسالك في مسألة اشتراط التنجيز في الوقف «الاتّفاق عليه» (٥) والظاهر عدم الخلاف فيه كما اعترف به غير (٦) واحد.

والمراد بالشي‌ء المعلّق عليه في معقد كلامهم على ما صرّح به جماعة أعمّ ممّا كان متوقّع الوقوع في المستقبل بحيث يحتمل عدمه كما لو قال : بعتك هذا بكذا إن قدم الحاج أو إن جاء زيد وما أشبه ذلك ويسمّى شرطاً ، وما كان متيقّن الوقوع فيه كما لو قال : بعتك هذا بكذا إن طلعت الشمس أو إن دخل يوم الجمعة ونحو ذلك ويسمّى صفة ، وهما اصطلاحان لهم في هذا المقام وإلّا فهما بكليهما على الاصطلاح الاصولي مندرجان في الشرط ، ولعلّ المراد من الشرط في معقد إجماعي التمهيد وشرح الإرشاد ما هو بحسب الاصطلاح الاصولي أعني ما يعمّ القسمين. وقد اضطربت كلمتهم في جهة المنع فالمستفاد من أكثرها صراحة وظهوراً أنّ المنع شرعي ثبت بالإجماع ، ومعناه أنّ التنجيز في العقود شرط تعبّدي ثبت بالإجماع على مانعيّة التعليق من الصحّة.

وقد يستشمّ من بعضهم كون المنع عقليّاً ، ومن ذلك ما عن القواعد (٧) والتمهيد (٨) للشهيدين من تعليل عدم الصحّة «بأنّ الانتقال مشروط بالرضا ولا رضا إلّا مع الجزم ولا جزم مع التعليق لأنّه معرضة عدم الحصول ، قالا : ولو قدّر علم حصوله كالمعلّق على الوصف الّذي يعلم حصوله عادةً كطلوع الشمس ، لأنّ الاعتبار بجنس الشرط دون أنواعه وأفراده اعتباراً بالمعنى العامّ دون خصوصيّات الأفراد كما في نظائرها من

__________________

(١) التذكرة ١٠ : ١٠.

(٢) تمهيد القواعد : ٥٣٣.

(٣) كشف اللثام ٧ : ٤٧.

(٤) حكاه عنه في المفتاح الكرامة ٧ : ٥٢٧.

(٥) المسالك ٥ : ٣٥٧.

(٦) كما في التحرير ١ : ٢٨٤ ، والكفاية : ١٤٠ ، والمفاتيح ٣ : ٢٠٧.

(٧) القواعد والفوائد ٢ : ٧٩.

(٨) تمهيد القواعد : ٥٣٣.

٦١٨

القواعد الكلّيّة المعلّلة بامور حكميّة تتخلّف في بعض مواردها الجزئيّة».

أقول : الحقّ أنّ المنع شرعي لكن لا بالبيان المذكور بل ببيان آخر موافق للتحقيق والنظر الدقيق ، وهو أنّ التعليق يخرج الصيغة في الإيجاب والقبول عن مقتضى الوضع الشرعي ، فإنّ مقتضى الوضع الشرعي في صيغتي الإيجاب والقبول أن يقصد الموجب بصيغة «بعتك» مثلاً إيجاد المعنى المقصود أعني نقل ملك العين ، والقابل بصيغة «قبلت» مثلاً إيجاد الرضا بما أوجبه الموجب ، بحيث يكون السبب التامّ المؤثّر في وجود المعنى المقصود الّذي يقال له ترتّب الأثر نفس الصيغتين ، ولذا يقال للعقود والإيقاعات أنّها أسباب شرعيّة قرّرها الشارع ، وإطلاق السبب على الصيغة شائع في كلامهم ، والتعليق بأحد الوجهين يخرجها عن كونها سبباً ومؤثّراً إلى جعل الشي‌ء المعلّق عليه سبباً مؤثّراً في وجود المعنى المقصود.

والأصل في ذلك ما حقّق في الاصول من أنّ الجملة الشرطيّة بما اخذ فيها من التعليق تفيد سببيّة الشرط للجزاء ، كما في قولنا : إن جاءك زيد فأكرمه أو أكرم زيداً إن جاءك ، فإنّه يدلّ على كون مجي‌ء زيد سبباً لوجوب إكرامه فيوجد الوجوب عند وجوده وينتفى عند انتفائه ، وعلى هذا فقول الموجب «بعتك هذا بكذا إن قدم الحاجّ أو إن طلعت الشمس» مع قول القابل «قبلت» يقتضي بطبعه باعتبار وضع الجملة الشرطيّة كون السبب المؤثّر في النقل والانتقال هو قدوم الحاجّ أو طلوع الشمس لا نفس الصيغة ، وبالجملة الموجب والقابل بما يأخذان من التعليق يقصدان السببيّة والتأثير من الشرط المعلّق عليه لا من نفس الصيغة ، وهو خلاف الوضع الشرعي في العقود والإيقاعات ، لأنّ الشارع إنّما جعل السبب المؤثّر نفس الصيغة لا أمراً آخر غيرها فوجب البطلان ، والظاهر أنّ هذا هو مدرك الإجماع على عدم صحّة تعليق العقود على الشرط لازمة أو جائزة.

وبما قرّرناه في وجه مانعيّة التعليق يعلم أمران :

أحدهما : الفرق بين قولي الموكّل : أنت وكيلي في بيع عبدي إن دخل يوم الجمعة ، وأنت وكيلي في بيع عبدي في يوم الجمعة ، المصرّح في كلامهم من غير خلاف بصحّة

٦١٩

الثاني وبطلان الأوّل ، بل العلّامة في التذكرة (١) ادّعى الإجماع على الحكمين لا لما ذكره جماعة من أنّ التعليق في الأوّل في أصل الوكالة وفي الثاني في الموكّل فيه ، للعلم بأنّ المعنى المقصود في العبارتين واحد ، وهو إيقاع البيع في يوم الجمعة ، بل لأنّه لا تعليق في الثاني بالمعنى المتقدّم ، وهو التعليق بأداة الشرط المقتضي للسببيّة في الشرط المعلّق عليه لا في نفس الصيغة ، فالأثر المقصود فيه وهو نيابة الوكيل أو صيرورته نائباً عن الموكّل يترتّب على نفس الصيغة ، وقوله «في يوم الجمعة» تقييد للإذن في التصرّف ، ومفاده حصول الإذن في هذا المقدار أعني بيع العبد في يوم الجمعة. بخلاف الأوّل فإنّه تعليق حقيقة ويصرف الصيغة عن مقتضى وضعها الشرعي إلى جعل دخول يوم الجمعة سبباً.

وفي معنى الثاني على ما ذكره في التذكرة أيضاً ما لو قال : أنت وكيلي في بيع عبدي إذا قدم الحاجّ ، بناءً على كون «إذا» للتوقيت لا شرطيّة. وفي معناه أيضاً ما لو قال : وكّلتك في بيع العبد ولا تبعه إلّا في يوم الجمعة ، كما ذكره فيها وصرّح بكونه صحيحاً. وقد يحكى عنه دعوى الإجماع على عدم صحّة ما لو قال : أنت وكيلي ولا تبع عبدي إلّا في يوم الجمعة ، ولم نجده في التذكرة ، ولعلّه منقول عن كتاب آخر له.

وعن جماعة (٢) الاعتراف في توجيه عدم الصحّة فيه بأنّه في معنى التعليق ، وهذا واضح المنع ، إذ لا مقتضي فيه للتعليق ، بل الظاهر أنّ وجهه أنّ قوله «أنت وكيلي» لا يكفي في انعقاد الوكالة فيبطل لعدم ذكر الموكّل فيه معه ، وقوله «ولا تبع ...» الخ لا يصلح كونه تعرّضاً لذكر الموكّل فيه لأنّ واو الاستئناف يقطع ما بعدها عمّا قبلها فلا يرتبط ذلك بسابقه ، وإن كان الاستثناء من المنع يفيد الإذن إلّا أنّه أيضاً لا يكفي في انعقاد الوكالة ، لوضوح الفرق بين الإذن في التصرّف مطلقاً وبين الوكالة. ويظهر الفائدة في الأحكام الخاصّة بالوكالة فإنّها لا تجري في مطلق الإذن.

وثانيهما : وجه استثناء التعليق على ما هو من أركان العقد أو شرائط مورده من المبيع أو الثمن أو البائع أو المشتري مثلاً ، كما لو قال : إن كان هذا لي أو ملكي فبعته

__________________

(١) التذكرة ٢ : ١١٤ ، والعبارة منقولة بالمعنى.

(٢) كما في المسالك ٥ : ٢٤٠ ، ومفتاح الكرامة ٧ : ٥٢٧.

٦٢٠