ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

وجود اللفظ الغير العربي في الصحّة مع عربيّة نفس الصيغة المستعملة في إنشاء العنوان المقصود.

المسألة الثانية : في اعتبار الصراحة وعدمه ، فليعلم أنّ الصراحة في لسان العلماء تطلق على معان :

منها : ما يقابل الظهور ويقال له «النصوصيّة» أيضاً كما هو المتداول عند الاصوليّين.

ومنها : وضوح الدلالة ، أعني كون اللفظ واضح الدلالة على العنوان المقصود في العقد سواء كان بطريق النصوصيّة أو الظهور.

ومنها : ما يقابل الكناية ، كما في كلام جماعة (١) من معتبري الصراحة حيث يفرّعون عليه إخراج الكنايات ، والمراد بالكناية هنا ما أفاد لازم العنوان المقصود وإن لم يفد إرادة نفس العنوان وهو الملزوم إلّا بواسطة القرائن ، كما لو قال : جعلته لك بكذا أو أدخلته في ملكك بكذا أو سلّطتك عليه بكذا أو أعطيتكه بكذا وما أشبه ذلك ، فالصريح حينئذٍ ما أفاد نفس الملزوم وهو البيع.

ومنها : ما يرادف الحقيقة ، كما في كلام من ذكره وفرّع عليه إخراج المجازات ، ومنهم من عمّم المجاز المخرج باشتراط الصراحة بالقياس إلى القريب والبعيد والجامع بينه وبين سابقه على ما يظهر من جماعة ما كان دلالته على العنوان المقصود في العقد بالوضع لغة أو شرعاً ، فإنّ بذلك يخرج المجازات والكنايات معاً وإن شئت قلت إنّ ذلك هو المعنى الأخير ، ولكن يخرج به المجازات والكنايات أمّا خروج الاولى فلانتفاء الوضع ، وأمّا خروج الثانية فلكون إفادة اللفظ العنوان المقصود بالقرينة كما تقدّم إليه الإشارة لكون لازمه اللازم الأعمّ واللفظ الدالّ على الأعمّ بالأعمّ بالوضع لا يدلّ على الملزوم الأخصّ بنفسه.

ولكن ينبغي أن يقطع بعدم كون مرادهم هنا المعنى الأوّل ، لأنّ مقام التعاقد ليس بخارج عن سائر مقامات الخطاب الّتي يكون مدار الإفادة والاستفادة فيها على الظهورات النوعيّة المستندة إلى الأوضاع.

__________________

(١) في غاية المراد : ٨١ ، والتذكرة ١٠ : ٩ وإيضاح الفوائد ٣ : ١٢ والمسالك ٥ : ١٧٢.

٥٨١

ولا المعنى الثاني لعدم كونه مانعاً إن عمّم وضوح الدلالة بالقياس إلى ما كان بمعونة القرينة ـ لدخول ما كان من المجاز المشهور على القول بترجيح المعنى المجازي ، والمجاز القريب بضابطة أولويّة أقرب المجازات عند تعذّر الحقيقة ، والمجاز المقرون بقرينة موضحة للمراد والكلّ ينافي إطلاقهم عدم انعقاد البيع ولا مطلق العقد بالمجازات مع صريح بعضهم كشارح (١) القواعد على ما نمي إليه بعدم الفرق بين المجاز القريب والمجاز البعيد ـ وعدم كونه جامعاً إن لم يعمّم بأن يراد وضوح الدلالة بنفس اللفظ لأنّه يخرج حينئذٍ المشترك بقسميه من اللفظي والمعنوي ، فوجب أن لا يقع البيع بلفظ «بعت» ولا «شريت» ولا «ملّكت» في إيجاب عقده. وهو في الأوّل خلاف الإجماع ، وفي الأخيرين خلاف المشهور شهرة عظيمة تكاد تبلغ الإجماع لكون كلّ من الأوّلين مشتركاً لفظيّاً بين إيجاب البيع وقبوله اللذين يراد منهما في الترجمة الفارسية معنى «فروختن وخريدن» على ما هو المصرّح به في كلامهم. بل عن المصابيح «أنّه لا خلاف عندهم في وضعهما للمعنيين فيكونان من الأضداد» (٢) وكون الأخير من المشترك المعنوي على ما هو المصرّح به في كلام جماعة ، بل في كلام مفتاح الكرامة ما يظهر منه كونه محلّ وفاق عند الفقهاء وأهل اللغة حيث قال : «والحقّ أنّ ملكت مشترك معنوي عند الفقهاء وأهل اللغة كما يظهر ذلك على من تتبّع كتب الفريقين» (٣) انتهى.

ولا المعنى الثالث حتّى يكون مفاده انعقاد البيع بالمجازات فإنّه ينافي إطلاقهم العدم ، وتصريح بعضهم بعدم الفرق كما عرفت.

فتعيّن كون المراد به المعنى الرابع الّذي مفاده خروج المجازات والكنايات معاً ، وهو الّذي ينبغي أن يقطع به أمّا أوّلاً ، لحكاية الشهرة تارةً على عدم وقوع العقد بالمجازات ، واخرى على عدم وقوعه بالكنايات. وأمّا ثانياً ، لظهور دعوى الإجماع عليه من بعض العبارات كعبارة مفتاح الكرامة حيث قال :

«واعلم أنّ اشتراط الدلالة بالوضع هو الّذي يعبّرون عنه بالصراحة» (٤) وله كلام

__________________

(١) شرح القواعد ٢ : ١٤.

(٢) المصابيح : ٣٤.

(٣) مفتاح الكرامة ١٢ : ٤٨٤ ـ ٤٨٦.

(٤) مفتاح الكرامة ١٢ : ٤٨٤ ـ ٤٨٦.

٥٨٢

آخر متضمّن لدعوى الإجماع صريحاً على عدم وقوعه بالمجازات ولا بالكنايات حيث إنّه بعد ما فرّع على كون دلالة الصيغة على الرضا الباطني بمقتضى الوضع خروج المجاز قريباً كان أو بعيداً قال : «وهو الّذي طفحت به عباراتهم حيث قالوا في أبواب متفرّقة كالسلم والنكاح وغيرهما : إنّ العقود اللازمة لا تثبت بالمجازات ، فيأخذون هذه القضيّة مسلّمة في مطاوي الاحتجاج ، فلا ينعقد بشي‌ء من المجازات كالهبة والصلح والإجارة والكتابة والخلع قولاً واحداً ، وكذا لا ينعقد بشي‌ء من الكنايات كالتسليم والتصرّف والدفع والإعطاء والأخذ ونحو ذلك» (١) انتهى.

وقوله : كالهبة والصلح ... إلى آخر الأمثلة الأولة ، إمّا أمثلة لمجازات البيع على معنى إطلاق هذه الألفاظ وإرادة معنى البيع مجازاً كما يساعد عليه ذيل العبارة بل صوغها أيضاً ، أو أنّها أمثلة للعقود اللازمة الّتي لا تثبت بالمجازات ، وهو أقرب معنى بالنظر إلى بعد بعض هذه الألفاظ عن معنى البيع بل المنافرة بينهما كالكتابة والخلع. وكيف كان فغرضنا الاستشهاد بقوله : «قولاً واحداً».

ثمّ إنّ القول باشتراط الصراحة في الصيغة منسوب إلى جماعة وحكي عليه الشهرة بأنحاء مختلفة : فتارةً على نفس الاشتراط ، واخرى على عدم الوقوع بالكنايات ، وثالثة على عدم الوقوع بالمجازات ، واختاره شيخنا في الجواهر (٢) ، وقبله استاده في مفتاح الكرامة (٣) بل ادّعى عليه الإجماع وقد سمعت عبارته ، وقبلهما السيّد في المصابيح بل عنه دعوى الإجماع في موضعين ، أحدهما : في مساقاة المصابيح ادّعاه على أنّ العقود لا بدّ فيها من صيغة صريحة ، والآخر : في البيع حيث قال ـ على ما حكي ـ : «ولا ينعقد بسائر المجازات كالهبة والصلح والإجارة والكتابة والخلع قولاً واحداً ، ولا بالنكاح ولو كان المبيع أمة ، ولا بشي‌ء من الكنايات كالتسليم والتصريف والدفع والأخذ والإعطاء ونحو ذلك» (٤) واختاره العلّامة في التذكرة قائلاً : «الرابع التصريح فلا يقع بالكناية مع النيّة مثل أدخلته في ملكك أو جعلته لك أو خذه منّي أو سلّطتك عليه بكذا ، عملاً

__________________

(١) مفتاح الكرامة ١٢ : ٤٨٣ ـ ٤٨٤.

(٢) الجواهر ٢٢ : ٢٤٨.

(٣) مفتاح الكرامة ١٢ : ٤٨٣.

(٤) المصابيح : ٢٣٢.

٥٨٣

بأصالة بقاء الملك ، ولأنّ المخاطب لا يدري بم خوطب» (١) وعن السيّد أيضاً في الطبريّات «الإجماع عليه» (٢).

وفي مقابله القول بعدم اشتراطها في صيغة عقد البيع بل صيغ سائر العقود اللازمة ، بل يقع العقد بكلّ لفظ له ظهور عرفي في المعنى المقصود سواء كان ظهوره بالوضع أو بالقرينة ، فيقع باللفظ الحقيقي وباللفظ المجازي مع القرينة الموضحة للمراد ، وباللفظ الكنائي مع القرينة المفيدة للملزوم كما يقع بالمشترك اللفظي مع القرينة المعيّنة للمراد ، وبالمشترك المعنوي مع القرينة المفهمة للمراد من الخصوصيّة ، واختاره جماعة من مشايخنا (٣) وفي كلام بعضهم : أنّ هذا هو الّذي قوّاه جماعة من متأخّري المتأخّرين ، قال : وحكي عن جماعة ممّن تقدّمهم ومن هؤلاء الجماعة المحقّق وتلميذه الآبي في كشف الرموز حيث إنّ التلميذ نقل عن شيخه «أنّ عقد البيع لا يلزم فيه لفظ مخصوص واختاره هو أيضاً ويظهر ذلك من عبارة الشرائع حيث قال في تعريف عقد البيع أنّه اللفظ الدالّ على نقل الملك ... الخ ، ثمّ قال : ولا يكفي التقابض من غير لفظ ... الخ ثمّ قال : ويقوم مقام اللفظ الإشارة مع العذر ، ثمّ قال : ولا ينعقد إلّا بلفظ الماضي» (٤) فإنّ اللفظ المتكرّر في هذه العبارة مطلق يتناول إطلاقه اللفظ المجازي والكنائي ، ويؤيّده تعرّضه لاعتبار الماضويّة ولم يتعرّض الصراحة.

ويظهر اختياره من العلّامة في التحرير حيث أطلق اللفظ بقوله : «الإيجاب اللفظ الدالّ على النقل مثل بعتك أو ملّكتك أو ما يقوم مقامهما» (٥) وحكي ذلك أيضاً عنه في التبصرة (٦) والإرشاد (٧) وعن ولده في شرحه (٨) موافقته ، وعن الشهيد في حواشيه (٩) أنّه جوّز البيع بكلّ لفظ دلّ عليه مثل أسلمت إليك وعاوضتك ، وقد تقدّم في بحث المعاطاة أنّ الشهيد الثاني نقل في المسالك (١٠) عن بعض معاصريه أنّه اعتبر اللفظ وأطلق نافياً لاعتبار الصيغة المخصوصة في الصحّة واللزوم. وقيل : إنّه ظاهر كلّ من أطلق اعتبار

__________________

(١) التذكرة ١٠ : ٩. (٢) الناصريّات : ٣٣٠.

(٣) المكاسب ٣ : ١٢٠.

(٤) كشف الرموز ١ : ٤٤٦.

(٥) التحرير ٢ : ٢٧٥.

(٦) التبصرة : ٨٨. (٧) الإرشاد ١ : ٣٥٩.

(٨) نقله عنه في مفتاح الكرامة ١٢ : ٤٨٨.

(٩) نقله عنه في مفتاح الكرامة ٢ : ٤٨٧.

(١٠) المسالك ٣ : ١٤٧.

٥٨٤

الإيجاب والقبول فيه من دون ذكر لفظ خاصّ ، كالشيخ (١) وأتباعه (٢).

ومستند هذا القول العمومات والإطلاقات مثل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» و «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» و «البيّعان بالخيار» لصدق العقد والبيع والتجارة على ما يتحقّق بكلّ لفظ مفيد للمعنى المقصود من إنشاء تمليك العين على وجه التعويض بنفسه أو بمعونة القرينة. وإنكاره مكابرة ، كما أنّ القدح في تناول العموم والإطلاق مكابرة.

وأمّا أهل القول الأوّل فلهم على ما يعطيه التتبّع وجوه :

منها : الأصل الأوّلي المقتضي لفساد المعاملة مطلقاً إلّا ما أخرجه الدليل ، والقدر المقطوع خروجه بالدليل هو المعاملة الواقعة بالصيغة الصريحة فيبقى غيرها ممّا يقع بالصيغة الغير الصريحة تحت الأصل.

ومنها : ما اعتمد عليه العلّامة في التذكرة (٣) من العمل بأصالة بقاء الملك ، ولأنّ المخاطب لا يدري بم خوطب ، والأوّل يؤول إلى الوجه الأوّل.

ومنها : ما اعتمد عليه شيخنا في الجواهر (٤) ممّا ملخّصه مع تحرير وتوضيح منّا : أنّ غرض الخالق من خلق العالم وإيجاد بني آدم انتظام أمر المعاد ولا ينتظم إلّا بانتظام أمر المعاش ، ولا ينتظم إلّا بالمعاملات الموظّفة على كيفيّاتها المقرّرة ، ولا تنتظم المعاملات إلّا بأن شرّعت على وجه لم تكن مثاراً للتنازع والتجاذب والترافع ، ولا يتأتّى ذلك إلّا بأن يعتبر في وقوعها الصيغ المخصوصة الصريحة لأنّ الصيغ الغير الصريحة مثار للتنازع وأخويه وهو يوجب اختلال أمر المعاش ، ومنه يلزم اختلال أمر المعاد وهو نقض للغرض.

ومنها : الشهرة المحقّقة المعتضدة بالشهرات المحكيّة.

ومنها : الإجماعات المنقولة حسبما تقدّم.

وهذه الوجوه كما ترى كلّها مدخولة ضعيفة :

أمّا ضعف الوجه الأوّل : فلأنّ الأصل يخرج عنه بما ذكر في دليل أهل القول بعدم الاشتراط من عمومات أدلّة الصحّة وإطلاقاتها. وبذلك يظهر وجه ضعف أصالة بقاء

__________________

(١) الخلاف ٣ : ٧ المسألة ٦.

(٢) كما في المراسم : ١٧١ ، المهذّب ١ : ٣٥٠ ، الوسيلة : ٢٣٦.

(٣) التذكرة ١٠ : ٩.

(٤) الجواهر ٢٢ : ٢٤٨.

٥٨٥

الملك الّتي اعتمد عليها العلّامة ، فإنّها لا تعارض العموم والإطلاق.

وهاهنا شي‌ء يعجبني ذكره وهو أنّ الشهيد الثاني في شرح عبارة الشرائع حيث قال : «ولا يكفي التقابض من غير لفظ» الخ ذكر «هذا هو المشهور بين الأصحاب بل كاد يكون إجماعاً غير أنّ ظاهر كلام المفيد يدلّ على الاكتفاء في تحقّق البيع بما دلّ على الرضا به من المتعاقدين ... إلى أن قال : وقد كان بعض مشايخنا المعاصرين يذهب إلى ذلك لكن يشترط في الدالّ كونه لفظاً ، وإطلاق كلام المفيد أعمّ منه ، والنصوص المطلقة من الكتاب والسنّة الدالّة على حلّ البيع وانعقاده من غير تقييد بصيغة خاصّة تدلّ على ذلك ، فإنّا لم نقف على دليل صريح في اعتبار لفظ معيّن ، غير أنّ الوقوف مع المشهور هو الأجود ، مع اعتضاده بأصالة بقاء ملك كلّ واحد بعوضه إلى أن يعلم الناقل» (١) انتهى.

وهذا منه مع المناقشة في تنزيل إطلاق اللفظ في عبارة الشرائع إلى اللفظ المعيّن وهو الصيغة الخاصّة لا يخلو عن تهافت ، لأنّ دلالة النصوص المطلقة كتاباً وسنّة على ما ذهب إليه السيّد أو على ما ذهب إليه بعض معاصريه إن كانت مسلّمة عنده كما اعترف به بل اعترف بعدم وقوفه على دليل صريح في اعتبار لفظ معيّن كيف يصحّ الاعتضاد بأصالة بقاء الملك ، لكون هذه النصوص المطلقة الّتي سلّم دلالتها على عدم الاعتبار ناقلة عنها. وفي كلامه تهافت آخر وهو أنّ الدلالة المذكورة إن كانت مسلّمة مع الاعتراف بعدم الوقوف على دليل صريح في اعتبار اللفظ المعيّن كيف يجعل الوقوف مع المشهور أجود ، إلّا أن يعتذر بأنّ دلالة النصوص المطلقة باعتبار الإطلاق وإنّما يصحّ التعويل على الإطلاق مع قطع النظر عن الشهرة المذكورة الّتي هي عبارة عن مصير معظم الأصحاب إلى خلاف مقتضى هذا الإطلاق ، وأمّا مع ملاحظتها فيتوهّن بها الإطلاق فلا يحصل به ظنّ عدم الاعتبار بل بالشهرة يحصل ظنّ الاعتبار ، فيصحّ الاعتضاد بأصالة البقاء حينئذٍ ، كما يصحّ جعل الوقوف مع المشهور أجود الّذي هو عبارة عن التعويل على الشهرة. ولكنّه اعتذار ضعيف لما يظهر وجهه عند الجواب عن الشهرة.

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٤٧.

٥٨٦

وأمّا ضعف الوجه الثاني : الّذي اعتمد عليه العلّامة فلأنّه إن جعل محلّ النزاع في الكناية الغير المقرونة بقرينة تفيد إرادة المعنى المقصود فما ذكره من «أنّ المخاطب لا يدري بم خوطب» وإن كان صحيحاً غير أنّه ممّا لا كلام فيه ولا نظنّ بأحد من الأصحاب أنّه جوّز العقد بكناية لم تفد إرادته بل عباراتهم مشحونة باعتبار وضوح الدلالة والظهور العرفي ونحوه ، وإن جعله في الكناية مع القرينة المفيدة فيتوجّه إليه منع الملازمة ، فإنّ فائدة القرينة هو أن يفهم المخاطب ما خوطب به. وبملاحظة ما ذكرناه في الترديد ربّما أمكن القول بأنّ النزاع بين العلّامة ومخالفيه يعود لفظيّاً ، بتقريب أنّه منع الاكتفاء بالكناية بدون القرينة ومخالفوه جوّزوا الاكتفاء بها مع القرينة لا غير.

وقد ينزّل كلام العلّامة في تعويله على الوجه المذكور على كناية لم يكن قرينته لفظاً موضوعاً للعنوان المقصود منها على سبيل الكناية ، كأن يقول في الأمثلة المتقدّمة : أدخلته في ملكك بيعاً أو جعلته لك بيعاً أو خذه منّي بيعاً أو سلّطتك عليه بيعاً ، بل كانت قرينة حال أو مقام أو لفظ سابق على المخاطبة ، فإنّ الأوّل ممّا لا كلام لأحد في كفايته بخلاف الثاني فإنّه محلّ النزاع بينه وبين مخالفيه.

ولا يخفي بعده بالنظر إلى إطلاق كلامهم ، وربّما يأباه ظاهر عبارة التذكرة وهي قوله : «فلا يقع بالكناية مع النيّة» (١) فإنّه يعطي أنّ الكناية الّتي يأتي بها العاقد ليس معها إلّا نيّة القائل وقصده ، فلو كان نظره إليها مع القرينة الغير اللفظيّة كان المناسب أن يقول : فلا يقع بالكناية مع القرينة الغير اللفظيّة.

وأمّا ضعف الوجه الثالث فلوجوه :

الأوّل : أنّه وجه اعتباري لا اعتبار به في أدلّة الأحكام ، ولا يصلح مدركاً لحكم شرعي ، ولا ينهض مخصّصاً لعمومات أدلّة الصحّة ولا مقيّداً لإطلاقاتها.

الثاني : أنّه منقوض بالعقود الجائزة فإنّ محلّ النزاع هي العقود اللازمة كما يعطيه كلماتهم صراحة وظهوراً ، وأمّا العقود الجائزة فلا كلام لهم في الاكتفاء فيها بكلّ لفظ حتّى المجاز والكناية وربّما ادّعى الاتّفاق على ذلك ، فلو كان الإتيان بالصيغ الغير

__________________

(١) التذكرة ١٠ : ٩.

٥٨٧

الصريحة في المعاملات مؤثّراً في وقوع التنازع والترافع الموجب لاختلال نظم المعاش والمعاد ، لجرى ذلك في العقود الجائزة أيضاً فيلزم نقض الغرض.

الثالث : أنّه غير منطبق على مطلوبهم عكساً وطرداً ، أمّا العكس فلأنّه ينتقض بالحقيقة والصيغة الصريحة فإنّ جهات التنازع المفضي إلى الترافع كثيرة غير محصورة ، فكثيراً ما يتنازع في المعاملة بالصيغة الصريحة في أصل وقوعها ، وفي المعاملة الواقعة بالصيغة الصريحة في نوعها ككونها بيعاً أو إجارة ، بيعاً أو صلحاً ، بيعاً أو هبة وكون النكاح الواقع بين الزوجين دواماً أو انقطاعاً ، وفي نوع المعاملة الواقعة بالصيغة الصريحة في تعيين المورد ككون المبيع عبداً أو جارية ، وكون الثمن ديناراً أو درهماً ، وفي النقد والنسية وغير ذلك. وأمّا الطرد فلأنّ المجاز مع القرينة قد يكون أصرح وأوضح دلالة من الحقيقة ، فلا يقع مثاراً للتنازع فوجب أن يكتفى به.

الرابع : أنّ مقام التعاقد ليس إلّا كسائر مقامات الخطاب ، ومن المعلوم ضرورة جواز الإتيان في مقامات الخطاب بالألفاظ المجازيّة والكنائيّة بقرائنها المفيدة لمعانيها المقصودة ، وهذه طريقة مألوفة شائعة.

ودعوى : أنّ هذه طريقة أهل العرف لا أهل المعاملة وكلامنا في المعاملات لا غير ، يدفعها : أنّ أهل المعاملة ليس لهم طريقة متجدّدة مغايرة لطريقة أهل العرف في محاوراتهم ، كيف ولو كان لهم مثل هذه الطريقة لكانت متلقّاة من الشارع ويحتاج ثبوتها إلى دليل ولا دليل عليها ، حتّى أنّ القائل بثبوتها لم يأت إلّا بما سمعت من الوجه الاعتباري الّذي قد عرفت كونه قاصر الدلالة غير منطبق على مدّعاهم عكساً وطرداً.

وأمّا ما يستشمّ من بعض العبارات ممّا يمكن إنهاضه دليلاً عليها «من أنّ العقود اللازمة المؤثّرة في النقل والانتقال وغيرهما أسباب شرعيّة توقيفيّة موظّفة من الشارع ، فوجب الاقتصار فيها على موضع اليقين ولا يكون إلّا العقود الواقعة بصيغها المخصوصة ، وأمّا غيرها ممّا يقع بغير هذه الصيغ من الألفاظ المجازيّة والألفاظ الكنائيّة فتوظيف الشارع وتوقيفه غير ثابت فيها» ففيه أنّه حسن لو لا عمومات الصحّة وإطلاقاتها ، وقد عرفت نهوضها لإثبات التوقيف والتوظيف بالنسبة إلى ما عدا موضع اليقين فتكون حاكمة على قاعدة الاقتصار عليه.

٥٨٨

وأمّا ضعف الوجه الرابع : وهو الشهرة ، فلأنّ محقّقها غير ثابت ، ومحكيّها غير مفيد ، لأنّه لا ينهض لتخصيص العمومات وتقييد المطلقات ، على أنّه لو سلّمنا كونها محقّقة فهي أيضاً لا تجدي نفعاً لأنّها ليست حجّة لذاتها بل حيث كشفت كشفاً ظنّياً اطمئنانيّاً عن وجود دليل معتبر للمشهور لو عثرنا عليه لعملنا به ، وهي فيما نحن فيه ليست بتلك المكانة خصوصاً مع ملاحظة كثرة المخالف وكون جمع منهم من أساطين الطائفة ووجوههم ، وقضاء التتبّع بأن ليس لهم إلّا الوجوه المذكورة الّتي عمدتها الأصل وقد تبيّن ضعف الجميع. ومن هنا قد يجاب عن الشهرة أيضاً بأنّها إنّما تصير حجّة حيث لم يعلم بفساد مدركها ، وقد علمنا فساده هنا ، إذ لا مدرك لها إلّا الأصل الّذي قد ظهر حاله.

وأمّا ضعف الخامس : وهو الإجماعات المنقولة فلأنّها مستراب فيها ، بأنّ المسألة المبحوث عنها كيف تصير إجماعيّة مع مخالفة جماعة من متأخّري المتأخّرين وجماعة ممّن تقدّمهم مع كون جمع منهم من أساطين الطائفة ووجوههم. ومن هنا أنكر كلّاً من الإجماع والشهرة بعض مشايخنا قدس‌سرهم حيث إنّه بعد ما نقل في خصوص البيع عن الأصحاب من كلماتهم القاضية بوقوعه بألفاظ هي بالنسبة إليه إمّا من المجازات أو من الكنايات كالسلم والتولية والتشريك في المبيع والتقبيل في ثمرة النخيل وفي سائر العقود اللازمة من كلماتهم القاضية بوقوعها بكلّ لفظ أو بألفاظ مخصوصة هي بالنسبة إليها أيضاً إمّا من قبيل المجاز أو من قبيل الكناية قال : «ومع هذه الكلمات كيف يسند إلى العلماء أو أكثرهم وجوب إيقاع العقد باللفظ الموضوع له وأنّه لا يجوز بالألفاظ المجازيّة» (١) انتهى.

ومع الغضّ عن ذلك نقول : إنّ حجّيّة الإجماع المنقول عندنا إنّما هو من حيث إفادته الظنّ الاطمئناني وهو هنا لا يفيد لنا ظنّاً فضلاً عن بلوغه حدّ الاطمئنان.

وبعد اللتيّا والّتي لو سلّمنا الإجماع فيحتمل قويّاً كونه إجماعاً على اشتراط لزوم العقود اللازمة بالصراحة.

ويقرّبه ما في كلام مفتاح الكرامة الّذي من ناقلي الإجماع ناقلاً عن الأصحاب من

__________________

(١) المكاسب ٣ : ١٢٥.

٥٨٩

قوله حيث قالوا : «إنّ العقود اللازمة لا تثبت بشي‌ء من المجازات» (١).

ووجه التقريب أوّلاً : القاعدة المقرّرة من أنّ النفي الوارد عقيب كلام مقيّد ظاهر في الرجوع إلى القيد ، وقضيّة هذا الظهور كون الإجماع منقولاً على أنّ لزوم العقود اللازمة لا يثبت بشي‌ء من المجازات.

وثانياً : قرينة مقابلة العقود اللازمة للعقود الجائزة ، فإنّها تقضي بأنّ اختصاص العقود اللازمة بهذا الحكم لا بدّ وأن يكون لجهة مائزة بينها وبين العقود الجائزة وليست إلّا كونها لازمة ، فيكون المتوقّف منها على الصراحة لزومها لا صحّتها ، لأنّها جهة مشتركة بينها وبين العقود الجائزة ، وهي فيها ليست متوقّفة على الصراحة إجماعاً ، ولذا لو فرض جميع العقود جائزة أو فرض البيع جائزاً لم يكن لها ولا له حكم إلّا الصحّة بدون الصراحة.

وممّا يؤيّده أيضاً صريح عبارة جامع المقاصد في باب القراض فإنّه بعد ما بيّن أنّه جائز من الطرفين ذكر أنّ قبوله يقع بكلّ ما يدلّ على الرضا بالإيجاب ولو كان فعلاً ، وعلّله «بأنّه ليس كالعقد اللازم لأنّ الحكم بلزومه متوقّف على حصول السبب المعتبر شرعاً وهو اللفظ» (٢) انتهى.

وحينئذٍ فالّذي ينبغي أن يذعن به هو كون الصراحة كالعربيّة شرطاً في لزوم البيع وسائر العقود اللازمة لا في انعقادها وصحّتها ، والله العالم بحقائق أحكامه.

المسألة الثالثة : في بيان الألفاظ المخصوصة المستعملة في إيجاب البيع وفي قبوله بناءً على اعتبار الصراحة في الصحّة أو في اللزوم على المختار.

أمّا المستعملة منها في الإيجاب ، فالمعروف بينهم المصرّح به في كلام جماعة (٣) من أساطينهم أنّها «بعت وشريت وملّكت» وعن الجامع (٤) الاقتصار على الأوّلين ، وقالوا : إنّ «بعت وشريت» حيث يقع كلّ منهما إيجاباً يتعدّى إلى مفعولين ، فلو قال

__________________

(١) مفتاح الكرامة ١٢ : ٤٨٣.

(٢) جامع المقاصد ٨ : ٥٣.

(٣) كما في نهاية الإحكام ٢ : ٤٤٨ ، والتذكرة ١٠ : ٨ ، والدروس ٣ : ١٩١ ، والتنقيح ٢ : ٢٤ ، ورسائل محقّق الكركي (صيغ العقود) ١ : ١٧٨ ، والروضة ٣ : ٢٢٥.

(٤) الجامع للشرائع : ٢٤٦.

٥٩٠

البائع : «بعتك هذه أو شريتك هذه» يتعيّن للإيجاب من وجهين : أحدهما وقوعه من البائع ، والآخر تعديته إلى مفعولين. ولو قال : «بعتها أو شريتها» يتعيّن له من وجه واحد. وإذا وقع قبولاً يتعدّى إلى مفعول واحد فيقال «بعتها أو شريتها» ويجوز استعماله بحذف المفعول الواحد أيضاً فيقال «بعت أو شريت».

ثمّ إنّ كفاية لفظ «بعت» في إيجاب البيع ووقوع البيع به ممّا لا إشكال بل لا كلام فيه لأحد ، وفي كلام غير واحد (١) نفي الخلاف بل هو القدر المتّفق عليه من ألفاظ الإيجاب.

وأمّا «شريت» فالمصرّح به في كلام جماعة كفايته في الإيجاب ووقوع البيع به أيضاً ، بل قيل (٢) : «إنّه المشهور شهرة عظيمة تكاد تكون إجماعاً» وقد يستدلّ عليه بوضعه للبيع كما عن بعض أهل (٣) اللغة ، بل قد تقدّم عن سيّد المصابيح نفي الخلاف في وضعه مع بعت لمعنيين إيجاب البيع وقبوله. (٤) فيكون دلالته على البيع صريحة لاستنادها إلى الوضع ، غاية الأمر افتقاره من جهة الاشتراك إلى القرينة المعيّنة ويكفي فيها صدوره من البائع وتعديته إلى مفعولين.

وقد يستشكل فيه نظراً إلى قلّة استعماله عرفاً في البيع ، واحتياجه إلى القرينة ، وعدم نقل الإيجاب به في الأخبار ولا كلام القدماء. ومن مشايخنا من استوجهه بقوله : «ولا يخلو عن وجه» (٥).

ويدفعه : أنّ ندرة الاستعمال مع فرض وجود القرينة المعيّنة للمراد غير قادحة في الصراحة لاستناد أصل الدلالة إلى الوضع وعليها المدار في الصحّة أو اللزوم ، نعم لو بلغت الندرة إلى حيث هجر ذلك المعنى بحيث صار مجازاً فيه خرج عن كونه صريحاً ، وعدم الاكتفاء به حينئذٍ من هذه الجهة لا لمجرّد ندرة الاستعمال ، وكون الندرة المفروضة فيه بتلك المثابة أوّل المسألة بل موضع منع ولو من جهة الأصل ، ولذا لم يلتفت إليها الجماعة وعدّوه من ألفاظ الإيجاب. وأمّا الاحتياج إلى القرينة المعيّنة

__________________

(١) المكاسب ٣ : ١٣٠.

(٢) الجواهر ٢٢ : ٢٤٤.

(٣) الصحاح ٦ : ٢٣٩١ ، لسان العرب ٧ : ١٠٣ ، القاموس المحيط ٤ : ٣٤٧.

(٤) المصابيح : ٣٤.

(٥) المكاسب ٣ : ١٣١.

٥٩١

فهو أيضاً غير قادح ، بل القادح في الصراحة هو الاحتياج إلى قرينة المجاز لا مطلق القرينة. وأمّا عدم ورود الإيجاب به في الأخبار ولا في كلام قدماء الأصحاب فعلى تسليمه فهو أيضاً غير قادح بعد ما ورد إطلاقه على البيع في الكتاب العزيز بل شيوع ذلك ، كما في قوله عزّ من قائل : «وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ» (١) وقوله أيضاً : «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ» (٢) وقوله أيضاً : و «الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ» (٣) بل قيل (٤) : إنّه لم يستعمل في الكتاب العزيز إلّا في البيع. ومع الغضّ عن ذلك فالعبرة في الجواز بالصراحة والعبرة فيها بالوضع اللغوي.

وأمّا «ملّكت» بالتشديد فوقوع البيع به وجواز الاكتفاء به في الإيجاب منسوب إلى الأكثر (٥) وقد ينسب مع ذلك إلى المشهور ، وقد يعزى دعوى الإجماع عليه إلى ظاهر جامع المقاصد (٦) في تعريف البيع ، بل يظهر دعوى الاتّفاق عليه من المحكيّ عن نكت الإرشاد من قوله : «لا يقع البيع بغير اللفظ المتّفق عليه كبعت وملّكت» (٧).

نعم قد يسند الخلاف فيه إلى ظاهر الجامع (٨) نظراً إلى اقتصاره على لفظ «بعت» وشريت. وفيه نظر.

ومن مشايخنا من استشكل في الاكتفاء به بما ملخّصه «أنّ ملّكت وإن كان نصّاً في الإيجاب إلّا أنّه ليس نصّاً في البيع لاحتمال غيره كالهبة والصلح ، بل لا اختصاص للفظ التمليك بنقل الأعيان لوقوعه لنقل المنافع ، وفي نقل الأعيان لا اختصاص له بالبيع لصحّة وقوعه للهبة والصلح ، ولا يجدي تعلّقه في العقد بالعين لأنّ الهبة أيضاً متعلّقة بالأعيان ، ولا ذكر العوض لأنّ الهبة قد تكون معوّضة وكذلك الصلح ، إلّا أن يدفع بالتزام التقييد بالبيع كأن يقال : ملّكتك هذه العين بيعاً بكذا ، وبذلك يرتفع النزاع بين الأكثر حيث أطلقوا جواز إيجاب البيع بهذا اللفظ وبين الجامع (٩) حيث أطلق المنع بتنزيل

__________________

(١) يوسف : ٢٠. (٢) البقرة : ٢٠٧.

(٣) النساء : ٧٤.

(٤) المكاسب ٣ : ١٣٠ ، مفتاح الكرامة ١٢ : ٤٩٥.

(٥) مفتاح الكرامة ١٢ : ٤٩٢.

(٦) جامع المقاصد ٤ : ٥٥.

(٧) غاية المراد ٢ : ١٧.

(٨) الجامع للشرائع : ٢٤٦.

(٩) الجامع الشرائع : ٢٤٦.

٥٩٢

إطلاق الأكثر على صورة التقييد وحمل إطلاق الجامع على صورة ترك التقييد» (١).

وقد يذبّ عن الإشكال بالتمسّك بأصل ادّعاه شارح القواعد ، وهو أنّ الأصل في نقل الأعيان بعوض هو البيع وفي نقل المنافع بعوض هو الإجارة ، وحينئذٍ فلو أطلق التمليك مع اعتبار تعلّقه بالعين انصرف إلى البيع وإن لم يقصده من جهة الأصل المذكور.

وهذا في غاية الضعف ، لأنّ الأصل المذكور إن سلّمناه لا مدرك له إلّا الغلبة من حيث إنّ الغالب الوقوع في نقل الأعيان بعوض هو البيع لا الهبة والصلح وفي نقل المنافع هو الإجارة لا الصلح ، وهو إنّما يجدي في الشبهات الموضوعيّة عند الترافع فيما إذا اختلف المتعاملان على نقل عين بعوض بأن ادّعى أحدهما وقوعه بيعاً والآخر وقوعه صلحاً أو هبة معوّضة ، فللحاكم أن يقدّم قول المدّعي للبيعيّة تعويلاً على الأصل المذكور ، ولا يجدي في الشبهات الحكميّة ، والشبهة فيما نحن فيه حكميّة ، إذ الشكّ إنّما هو في كفاية لفظ «ملّكت» المقصود به التمليك البيعي في انعقاد البيع وعدمه.

وتحقيق المقام : أنّ محلّ النزاع إن كان لفظ «ملّكتك» المقصود به التمليك البيعي على وجه المجاز بدخول الخصوصيّة في المراد ، فالمانع يقول بعدم وقوع البيع به لخروجه عن الصراحة ودخوله في المجازات ، والأكثر يجوّزون وقوعه به فيكون ذلك منهم بمنزلة الاستثناء عمّا ذكره في اعتبار شرط الصراحة من عدم انعقاد البيع بالمجازات ، ولكنّه خلاف ظاهرهم في إطلاق هذا القول ، وخلاف ظاهرهم في تجويز وقوعه بهذا اللفظ ، لظهور كلامهم في كونه بناءً على كون هذا اللفظ من الألفاظ الصريحة كلفظ «بعت». وإن كان هذا اللفظ المقصود به التمليك البيعي على وجه الحقيقة بفرض إرادة الخصوصيّة من خارج لا من اللفظ من باب تعدّد الدالّ والمدلول ، فالمانع من وقوعه مستظهر لخروجه بمقتضى الفرض أيضاً عن الصراحة ، بناءً على تفسيرها المتقدّم من كون دلالة اللفظ على العنوان المقصود بالوضع والدلالة على خصوص البيع الّذي هو العنوان المقصود ليست بوضع «ملّكت» بل بالخارج ، اللهمّ إلّا أن يلتزم باعتبار كون الخارج الّذي هو القرينة المفهمة لفظاً دالّا على العنوان الخاصّ

__________________

(١) الجواهر ٢٢ : ٢٤٦.

٥٩٣

بوضعه كلفظ البيع وما يرادفه ، بأن يقول «ملّكتك بيعاً». فالمتّجه حينئذٍ ما عليه الأكثر بناءً على أنّ الوضع في تفسير الصراحة أعمّ من وضع نفس الصيغة الدالّة على الإنشاء ووضع قرينتها اللفظيّة إذا كانت من المشتركات المعنويّة فيصدق على مجموع «ملّكتك بيعاً» أنّ دلالته على التمليك البيعي وضعيّة ، وإن كانت بالنسبة إلى أصل التمليك بوضع «ملّكت» وعلى خصوص كونه بيعيّاً بوضع لفظ «البيع». وهذا في توجيه كلام الأكثر هو مقتضى الجمع بين قولهم باشتراط الصراحة وأنّه لا يقع بالمجازات وقولهم بوقوعه بلفظ «ملّكت». ولا بدّ حينئذٍ من تقييد كلامهم هذا بأمرين : أحدهما عدم إرادة الخصوصيّة من اللفظ ، وثانيهما كون قرينته لفظاً دالّا على العنوان بالوضع ، فليتدبّر.

ولكن ربّما يظهر من المحكيّ عن فخر الدين في شرح الإرشاد من قوله : «معنى بعت في لغة العرب ملّكت غيري» (١) كون التمليك حقيقة خاصّة في البيع بدخول الخصوصيّة في وضعه فيكون ملّكت مرادفاً لبعت ، ووجه الظهور أنّ قوله «معنى بعت ...» الخ ظاهر في كون «ملّكت غيري» تمام معنى «بعت» ولا يكون تمام معناه إلّا إذا دخل خصوص كون التمليك بيعيّاً في وضع ملّكت غيري ومعناه ، وهذا إن تمّ سلم به ظاهر إطلاق الأكثر ، ولا حاجة إلى اعتبار عدم إرادة الخصوصيّة ولا إلى اعتبار القرينة المفهمة فضلاً عن كونها لفظيّة ، لعدم اعتبار ملّكت حينئذٍ غير البيع من الصلح والهبة فيكون ملّكت وبعت سيّان في الصراحة.

ولكنّه محلّ إشكال ، لأنّه ـ مع مخالفته لصريح جماعة من أساطين الطائفة بكونه مشتركاً معنويّاً ـ ممّا يكذّبه عدم صحّة سلب اسم التمليك عن الهبة بغير عوض ، بل لو أنكر الواهب بعد هبة عينه بقوله «ما ملّكتها» ، صحّ تكذيبه وردّه بعبارة «ملّكتها» وهذا آية عدم دخول خصوصيّة البيع في وضع التمليك.

نعم قد يقال : إنّ مادّة التمليك مشتركة معنىً بين التمليك المعاوضي وهو البيع خاصّة والتمليك المجّاني وهو الهبة بلا عوض ، فإن اتّصل بالكلام ذكر العوض أفاد المجموع المركّب بمقتضى الوضع التركيبي البيع ، وإن تجرّد عن ذكر العوض اقتضى

__________________

(١) شرح الإرشاد : ٤٦ ، نقله في مفتاح الكرامة ١٢ : ٤٩٣.

٥٩٤

تجريده الملكيّة المجّانيّة وهي الهبة بغير عوض ، فلو اريد ممّا اتّصل به ذكر العوض الهبة المعوّضة أو قصد به المصالحة بنى صحّته على صحّة عقد بلفظ غيره مع النيّة ، ومرجعه إلى دعوى اختصاص اشتراكه معنىً بالبيع والهبة المجّانيّة ، ويتعيّن لأحدهما في العقد بذكر العوض وتجريده عنه ، فإذا ذكر معه العوض كان ذلك قرينة لإفهام البيعيّة ولا يحتمل حينئذٍ المصالحة ولا الهبة المعوّضة حتّى أنّه لو اريد به أحدهما احتاج إلى قرينة تفيده بل كان مجازاً ، وصحّته حينئذٍ مبنيّة على صحّة العقد بالمجاز ، ولا حاجة في تخصيصه بالبيع إلى اعتبار قرينة اخرى ولا إلى اعتبار ذكر البيع معه بعبارة قولنا «ملّكتك بيعاً بكذا».

وهذا في غاية المتانة ، ووجهه بالنسبة إلى المصالحة واضح ، وبالنسبة إلى الهبة المعوّضة فيه نوع خفاء فإنّ المصالحة مسالمة من الصلح بمعنى السلم ولذا كان تعديته إلى المفعول الثاني بكلمة المجاوزة ولا يتعدّى إليه بنفسه ، فمدلوله المطابقي المجاوزة عن مال مثلاً في مقابلة مال آخر ، ويلزمه الملكيّة أعني ملكيّة المال الأوّل للمتصالح وملكيّة المال الثاني الّذي يقال له مال المصالحة للمصالح فالتمليك مدلول التزامي له ، فلو اريد من لفظ «ملّكتك» معنى «صالحتك» صار مجازاً ووجب تعديته حينئذٍ بكلمة المجاوزة بأن يقال «ملّكتك عن هذا بكذا» مكان «صالحتك عن هذا بكذا» ويحتاج إفادته لإرادة هذا المعنى إلى قرينة مجاز. وقضيّة ذلك أن لا يحتمل مطلقه المصالحة فلا حاجة إلى أن يعتبر معه قرينة تخرجها.

وأمّا عدم احتماله الهبة المعوّضة فتوضيحه : أنّ مفهوم التمليك بحسب الوضع اللغوي جنس مشترك بين ماهيّتين نوعيّتين ، وهما نوع البيع وهو التمليك المعاوضي ونوع الهبة بلا عوض وهو التمليك المجّاني ، ولذا ذكرنا في تعريف البيع أنّه تمليك عين على وجه التعويض ، وقلنا إنّ اعتبار كونه على وجه التعويض يخرج به الهبة المعوّضة لظهور القيد في كونه من لوازم الماهيّة ، والعوض في الهبة المعوّضة من عوارض الشخص ، فهو بذكر العوض معه الظاهر في كونه لازماً للماهيّة ينصرف إلى البيع ، ولا يحتمل غيره ممّا يكون العوض من عوارض شخصه وهو الهبة المعوّضة ، لأنّ الماهيّة تتمّ بدون العوض فقولنا «ملّكتك داري بكذا» هو بعينه معنى البيع بناءً على

٥٩٥

التعريف المذكور ، فلا يحتمل غيره حتّى يحتاج إلى اعتبار قرينة معه تخرجه.

وأمّا الألفاظ المستعملة في قبول البيع فهي على ما يستفاد من مجموع كلم الأصحاب بعد التتبّع التامّ من غير خلاف يظهر ثمانية ألفاظ ، وهي «قبلت ، ورضيت ، واشتريت ، وابتعت ، وملكت بالتخفيف ، وتملّكت ، وبعت ، وشريت» بناءً على اشتراكهما بين الإيجاب والقبول كما تقدّم ، ويتعيّن كلّ منهما لأحدهما بالقرينة ، ولم نقف على مخالف في بعض هذه الألفاظ ولا على نقل قول بالخلاف عدا ما ينسب إلى المحقّق الثاني في تعليق الإرشاد (١) من تردّده في لفظ «رضيت» تعليلاً باحتمال توقّف النقل على الصيغة المعيّنة. ويزيّفه أنّ مجرّد الاحتمال لا ينشأ منه التردّد وإلّا لجرى ذلك في أكثر الألفاظ المذكورة بل فيما عدا لفظ «قبلت» مع أنّ معيار القبول هو الدلالة على الرضا بما أوجبه الموجب ، ولا ريب أنّ لفظ رضيت أصرح في الرضا من لفظ قبلت.

نعم ربّما يوهم الخلاف اختلاف كلماتهم في الاقتصار على ذكر البعض واحداً أو اثنين أو ثلاثاً ، وممّن اقتصر على ذكر واحد العلّامة في التبصرة (٢) على ما حكي عنه من أنّه ذكر للقبول لفظ «اشتريت» فقط ، وكذلك الشيخ في المبسوط (٣) وعن الغنية (٤) أنّه ذكر اثنين «قبلت واشتريت» وذكر جماعة منهم الشهيدان في الدروس (٥) والمسالك (٦) ثلاثاً «ابتعت واشتريت وتملّكت» وفي التذكرة (٧) وعن نهاية الإحكام (٨) أربعاً «قبلت وابتعت واشتريت وتملّكت» وعن نسخة من التنقيح (٩) خمساً «ابتعت واشتريت وشريت وتملّكته وقبلته».

وهذا الاختلاف يوهم الخلاف ، ودفعه غير واحد من الأساطين (١٠) بالحمل على المثال لا تخصيص الحكم ، وممّا يرشد إليه اقتصار المبسوط والتبصرة على «اشتريت» مع وقوع القبول بـ «قبلت» محلّ وفاق ، ويرشد إليه كلام العلّامة في التحرير في بيان معنى الإيجاب والقبول بقوله : «الإيجاب هو اللفظ الدالّ على النقل مثل بعتك أو ملّكتك

__________________

(١) حاشية الإرشاد : ١١٥.

(٢) التبصرة : ٨٨. (٣) المبسوط ٢ : ٨٧.

(٤) الغنية : ٢١٤. (٥) الدروس ٣ : ١٩١.

(٦) المسالك ٣ : ١٥٤. (٧) التذكرة ١٠ : ٨.

(٨) نهاية الإحكام ٢ : ٤٤٨.

(٩) التنقيح ٢ : ٢٤.

(١٠) الجواهر ٢٢ : ٢٤٧.

٥٩٦

أو ما يقوم مقامهما ، والقبول اللفظ الدالّ على الرضا مثل قبلت واشتريت ونحوهما» (١) وفيه مواضع من الدلالة خصوصاً ظهوره في بيان ضابط القبول وهو الدلالة على الرضا وهي موجودة في الجميع. ونحوه قوله «ونحوهما» فإنّه يعمّ الجميع فلا ينبغي الاسترابة في صحّة القبول بكلّ واحد.

فرعان : الأوّل ظاهرهم كون ألفاظ الإيجاب كلّها اصولاً ، ونسب ذلك إلى ظاهرهم في ألفاظ القبول أيضاً خلافاً للمسالك (٢) كما عن نهاية الإحكام (٣) أيضاً فجعلا الأصل منها «قبلت» وأنّ ما عداه قائم مقامه وفروع له ، وعلّلاه بأنّ القبول على الحقيقة ما لا يصحّ الابتداء به كـ «قبلت» ، والابتداء بما عداه كـ «ابتعت واشتريت وتملّكت» ممكن. وردّ بأنّهما لحظا في القبول معناه اللغوي فإنّه يقتضي سبق إيجاب. ويزيّفه أنّ القبول عندهم اصطلاح فيما يقابل الإيجاب وهو ما يدلّ على الرضا بما أوجبه الموجب كما عرفته في كلام العلّامة ، وعلى هذا فالكلّ على حدّ سواء من دون أصليّة بعض وفرعيّة غيره.

الثاني : لو أوقع المتبايعان العقد بالألفاظ المشتركة بين الإيجاب والقبول مثل «بعت أو شريت» ثمّ اختلفا في تعيين الموجب والقابل إمّا بناءً منهما على جواز تقديم القبول على الإيجاب أو من جهة اختلافهما في المتقدّم والمتأخّر بناءً على عدم الجواز ، فقيل (٤) : لا يبعد الحكم بالتحالف ، ثمّ عدم ترتّب الآثار المختصّة بكلّ من البيع والاشتراء على واحد منهما مثل خيار تأخير الثمن المختصّ بالبائع وخيار الحيوان المختصّ بالمشتري.

وقد يفصّل بما ملخّصه : أنّ الحاكم إمّا أن يكون رأيه عدم جواز تقديم القبول على الإيجاب ، أو يكون جواز التقديم ، وعلى التقديرين إمّا أن يكون رأيه عدم جواز تقديم القبول على الإيجاب ، أو يكون جواز التقديم ، وعلى التقديرين إمّا أن يكون المتقدّم منهما معلوماً ، أو يكون مشتبهاً بسبب الاختلاف فيه.

وعلى التقادير إمّا أن يكون اللفظ الصادر منهما معاً «بعت أو شريت» أو يكون من أحدهما «بعت» ومن الآخر «شريت» فإن كان رأي الحاكم عدم جواز تقديم القبول

__________________

(١) التحرير ٢ : ٤١٣.

(٢) المسالك ٣ : ١٥٤.

(٣) نهاية الإحكام ٢ : ٤٤٨.

(٤) المكاسب ٣ : ١٣٤.

٥٩٧

وكان المتقدّم منهما معلوماً حكم بكون المتقدّم موجباً ، لأصالة الصحّة في العقد الواقع بينهما. ولو كان رأيه جواز تقديم القبول وكان المتقدّم أيضاً معلوماً حكم أيضاً بكون المتقدّم موجباً ، استناداً إلى الظهور الناشئ من الغلبة فإنّ الغالب الوقوع في الخارج هو تقديم الإيجاب ، مع ظهور آخر لو كان الصادر من المتقدّم لفظ «بعت» ومن المتأخّر لفظ «شريت» لأنّ الغالب في الأوّل استعماله في البيع وفي الثاني استعماله في الاشتراء ، مضافاً إلى ظهور الأوّل بنفسه في البيع دون الاشتراء وإن كان مشتركاً بينهما لغة.

وإن كان المتقدّم مشتبهاً من جهة الاختلاف وكان اللفظ الصادر من أحدهما «بعت» ومن الآخر «شريت» حكم بكون لافظه موجباً ، للظهورين المذكورين. وإن كان الصادر منهما «بعت أو شريت» حكم بالتحالف ثمّ المنع من ترتيب الأحكام المختصّة بكلّ من البيع والاشتراء على واحد منهما كما تقدّم. ونحوه في الحكم بالتحالف ما لو كان المتقدّم معلوماً وكان الصادر منه لفظ «شريت» ومن المتأخّر لفظ «بعت» لتعارض الظهورين.

الجهة الثانية : فيما يشترط في الهيئة المعتبرة في كلّ من الإيجاب والقبول بانفراده ، وهو على ما هو المعروف بينهم الماضويّة ، وهو ينحلّ إلى أمرين :

أحدهما : كون كلّ من صيغتي الإيجاب والقبول جملة فعليّة ، فلا ينعقد البيع ولا غيره من العقود اللازمة بالجملة الاسميّة كأن يقول «هذا مبيع لك بكذا» أو «ملك لك بكذا» والظاهر أنّ ذلك ممّا لا خلاف فيه عندهم بل من مسلّماتهم ، كما ربّما يكشف عنه عدم تعرّض كثير ممّن تعرّض لبيان اعتبار الماضويّة لبيانه ، فتأمّل. ولا تنتقض بالعتق والطلاق والنذر نظراً إلى وقوع كلّ منها بالجملة الاسميّة مثل «أنت حرّ لوجه الله» «وأنت طالق» «ولله عليّ كذا» لكون هذه المذكورات من قسم الإيقاع وكلامنا في العقود ، مع أنّ ما ذكر في المذكورات حكم ثبت فيها بدليل خاصّ بالمورد فلا يتعدّى إلى غيره.

وثانيهما : كون الفعل المأخوذ فيها ماضياً ، فلو قال «أبيعك أو اشتر أو ابتع» لم ينعقد وكذا في جانب القبول لو قال «أشترى منك أو بعني» كما هو المصرّح به في كلام

٥٩٨

جماعة كالوسيلة (١) والشرائع (٢) والشهيدين في الدروس (٣) واللمعة (٤) والمسالك (٥) والروضة (٦) والعلّامة في القواعد (٧) والتذكرة (٨) والمختلف (٩) ونهاية الإحكام (١٠) والإرشاد (١١) والتحرير (١٢) وولده في شرح الإرشاد (١٣) والمحقّق الثاني في صيغ العقود (١٤) وتعليق الإرشاد (١٥) وغيرهم ، وفي كلام جماعة حكاية الشهرة فيه بل في بعض العبارات وصفها لكونها عظيمة ، وفي التذكرة دعوى الإجماع عليه قائلاً : «لو قال أبيعك أو قال أشتري لم يقع إجماعاً» (١٦).

خلافاً للقاضي ابن البرّاج في الكامل (١٧) والمهذّب (١٨) فصحّحه بالمضارع والأمر على ما حكي ، وللأردبيلي في مجمع البرهان (١٩) فنفى عنه البأس نظراً منه إلى أنّه عقد فيشمله عموم ما دلّ على لزوم الوفاء بالعقود كما حكي ، وهذا هو مستند القول المذكور.

وربّما ايّد بما ورد في بيع الآبق وبيع اللبن في الضرع من النصّ الدالّ على انعقاد البيع بالمضارع مثل قوله عليه‌السلام في الأوّل : «تقول أشتري منكم جاريتكم فلانة وهذا المتاع بكذا وكذا درهماً» (٢٠) ونحو ما ورد في اللبن (٢١).

وردّه في مفتاح الكرامة «بأنّ العقود الّتي امرنا بالوفاء بها هي كلّ ما كان متداولاً في زمن الخطاب لا مطلقاً ، وكون ما نحن فيه منها غير معلوم ، وهذا كافٍ في منع العموم وقال ـ في موضع آخر أيضاً ـ : والحاصل أنّه إن كان الإجماع منعقداً على اشتراط الماضويّة كان الإجماع قرينة على عدم تسمية الخالي عنها عقداً في زمانهم عليهم‌السلام وإلّا فالشهرة معلومة ومنقولة فيحصل لنا بسببها الشكّ في كونه عقداً في ذلك الزمان والشكّ

__________________

(١) الوسيلة : ٢٣٧. (٢) الشرائع ٢ : ١٣.

(٣) الدروس ٣ : ١٩١. (٤) اللمعة : ١٠٩.

(٥) المسالك ٣ : ١٥٣. (٦) الروضة ٣ : ٢٥٥.

(٧) القواعد ٢ : ١٧. (٨) التذكرة ١٠ : ٨.

(٩) المختلف ٥ : ٥٣. (١٠) نهاية الإحكام ٢ : ٤٤٩.

(١١) الإرشاد ١ : ٣٥٩. (١٢) التحرير ٢ : ٢٧٥.

(١٣) شرح الإرشاد : ٤٦. (١٤) رسائل المحقّق الكركي (صيغ العقود) ١ : ١٧٧.

(١٥) حاشية الإرشاد : ١١٥ (مخطوط).

(١٦) التذكرة ١٠ : ٨. (١٧) نقله عنه في المختلف ٥ : ٥٣.

(١٨) المهذّب ٢ : ٣٥٠. (١٩) مجمع البرهان ٨ : ١٤٥.

(٢٠) الوسائل ١٧ : ٣٥٣ / ١ ، ب ١١ أبواب عقد البيع ، التهذيب ٧ : ١٢٤ / ٥٤١.

(٢١) الوسائل ١٧ : ٣٤٩ / ٢ ، ب ٨ أبواب عقد البيع ، التهذيب ٧ : ١٢٣ / ٥٣٨.

٥٩٩

كافٍ في المقام ، وكون ذلك الآن عقداً لا يجدي كما هو الشأن في المكيل والموزون» (١).

وأمّا التأييد بما ورد في الآبق واللبن ، ففيه : أنّه لا دلالة للنصّ الوارد فيهما على الاجتزاء بلفظ المضارع ، خصوصاً مع ملاحظة أنّه في الآبق وارد في مقام حكم آخر وهو اعتبار الضميمة في بيعه ، مع أنّه ظاهر في المساومة من غير دلالة أنّ المتعاقدين تعاقدا بمثل ذلك اللفظ.

ومستند القول باشتراطها أوّلاً : أصالة عدم النقل والانتقال إلّا فيما تيقّن كونه موجباً لهما ، وهو ما كان بصيغة الماضي.

وثانياً : الشهرة المحقّقة المعتضدة بالمحكيّة منها في كلام جماعة (٢).

وثالثاً : الإجماع المنقول في التذكرة.

ورابعاً : اشتراط الصراحة في الصيغة فإنّها كما هي معتبرة في المادّة كذلك معتبرة في الهيئة ، ولا صراحة في إنشاء المعنى المقصود في العقد إلّا للماضي لكونه منقولاً من الإخبار إلى الإنشاء ، بخلاف المضارع والأمر فإنّهما لا يحتملان الإنشاء المقصود في المقام بالوضع ، بل المضارع صريح في الوعد والأمر في الاستدعاء. فلو اريد منهما الإنشاء المقصود في المقام كان مجازاً ، وقد تقدّم أنّ العقود اللازمة لا تنعقد بالمجازات.

وتحقيق المقام : أنّ اشتراط الماضويّة إن كان متفرّعاً على اشتراط الصراحة كما هو قضيّة الوجه الأخير ، فقد عرفت في بحثها أنّها عندنا معتبرة في اللزوم لا في الصحّة. فهذا هو المختار هنا أيضاً ، لتحقّق العقد بمعنى الربط بالمضارع والأمر المقصود بهما إنشاء العنوان المقصود في العقد حيث ساعد على إرادته القرينة المعتبرة كما هو المفروض في محلّ البحث ، وصدق البيع بمعنى تمليك العين على وجه التعويض أو مبادلة عين بعوض ، وصدق تجارة عن تراضٍ فيشمله العمومات والإطلاقات ، وبذلك يخرج من الأصل المتقدّم غاية اندراجه في أقسام المعاطاة ولا ضير فيه.

ودعوى : انصراف أدلّة الصحّة المذكورة إلى ما تعارف وتداول في زمن الخطاب ، ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه ، لمنع معلوميّة عدم تعارف التعاقد بالمضارع والأمر ثمّة ،

__________________

(١) مفتاح الكرامة ١٢ : ٥٢٤.

(٢) كما في مجمع البرهان ٨ : ١٤٥ ، والمفاتيح ٣ : ٤٩.

٦٠٠