ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

على من شرّك في الحلّيّة بين البيع والربى ، كما يفصح عنه قوله : «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا» ولا ريب في عدم إطلاق في المستثنى بحيث يعمّ حكمه المعاطاة.

ويدفعه : أنّ قوله : «وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا» (١) ظاهر في كونه ردّاً وتصديقاً لهم في قولهم «إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا» الظاهر في اعتقادهم بحلّيّة كلّ بيع وحلّيّة كلّ ربا ، فردّهم في الثاني ببيان تحريم كلّ ربى مع تصديقهم في الأوّل فيكون في معنى التعميم.

ومنها : أنّ من شرط حجّيّة إطلاق المطلق كونه متواطئاً في أفراده ، والتواطئ هنا منتف لانصراف البيع إلى البيع بالصيغة.

ويدفعه : أنّ الانصراف لا بدّ له من موجب ، وهو إمّا كمال الفرد فالمحقّقون من الاصوليّين إلى عدم صلاحيته موجباً له ، وإمّا غلبة وجود أو غلبة إطلاق فهما في جانب المعاطاة ، لما تقدّم في الجهة الاولى من أنّها غالب الوقوع في معاملاتهم الناس من أهل الأسواق وغيرهم ولا سيّما في المحقّرات ، ولو سلّم عدم كونهما في جانب المعاطاة فلا نسلّم كونهما في جانب البيع بالصيغة ، فالتواطؤ الّذي هو من شروط الحجّيّة حاصل في المقام.

ومنها : أنّ من شروط الحجّيّة أيضاً عدم كون المطلق مقيّداً بالمجمل ، وهو هنا مقيّد به ، لأنّ من البيوع ما هو صحيح ومنها ما هو فاسد ومنها ما هو مشكوك الحال ، فما علمناه صحيحاً نحكم بصحّته ، وما علمنا فاسداً نحكم بفساده ، وأمّا الفرد المشكوك فيه كالمعاطاة فلا نحكم عليه بالصحّة ولا بالفساد لاحتمال كونه من النوع الصحيح أو من النوع الفاسد ، وهذا ما يسمّى بالإجمال المصداقي لعدم وضوح دلالة المطلق بالقياس إلى الفرد المشتبه.

ويدفعه : منع كون ما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ تقييد المطلق بالمجمل مع كون الإجمال مصداقيّاً إنّما هو فيما لو كان للماهيّة نوعان ودلّ دليل من الخارج على تقييد المطلق بأحدهما المعيّن ، على معنى كون المراد منه للماهيّة من حيث تحقّقها في ضمن ذلك النوع القاضي بخروج النوع الآخر عن المراد ، ثمّ اتّفق مصداق خارجي يشكّ كونه

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

٥٠١

من أفراد النوع المراد أو من أفراد النوع الخارج عن المراد ، وحينئذٍ لا يمكن التمسّك بإطلاق المطلق لإجراء حكمه على ذلك المفرد لطروء الإجمال له ، بمعنى عدم اتّضاح دلالته على اندراج هذا المصداق في جملة أفراد النوع المراد ، فيرجع في حكم ذلك الفرد المشكوك فيه إلى الاصول العمليّة ، وذلك كما في قوله «أعتق رقبة» مع قيام دليل على تقييد الرقبة بالمؤمنة والشكّ في رقبة خارجيّة في إيمانها وكفرها ، بخلاف البيع في الآية فإنّ الصحّة ليست من القيود المنوّعة للماهيّة بل هي حكم شرعي عارض لها مستفاد من الآية ، ومن المحقّق أنّ الحكم المستفاد من الدليل لا يدخل في موضوعه. فالمراد من البيع الماهيّة القابلة للصحّة والفساد والآية دالّة بالمطابقة أو بالالتزام على صحّتها ، وينحلّ مفادها إلى أنّ كلّ بيع صحيح ، والأفراد المعلوم فسادها خرجت عن هذا العموم بالأدلّة المثبتة لشروط الصحّة. وكون الصيغة وغيرها من الألفاظ من شروط الصحّة أيضاً ليخرج به المعاطاة أيضاً من عموم الآية ممّا لا دليل عليه ، فيبقى المعاطاة مندرجة في العموم ، للإطلاق ، وأصالة عدم التقييد فيما فرض عدم دليل على الشرطيّة المستلزمة للتقييد.

وثالثها : قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» (١) وجه الاستدلال أنّ الآية مشتملة على النفي والاستثناء ، فبالنفي تدلّ على حرمة أكل المأخوذ بالطريق الباطل ، وبالاستثناء تدلّ على حلّيّة المال المأخوذ بطريق التجارة عن تراض ، فيندرج فيه المال المأخوذ بطريق المعاطاة والآية تدلّ على حلّيّة أكله وهو المطلوب.

والمناقشة فيه بأنّ المستفاد من الآية حكمان كلّيّان كبرويّان ، أحدهما : أنّ أكل كلّ مال مأخوذ بالطريق [الباطل] حرام ، والآخر : أنّ أكل كلّ مال مأخوذ بطريق التجارة عن تراضٍ حلال ، ولا كلام فيهما بل الكلام في الصغرى ، وهي كون أكل مال المعاطاة أكلاً للمال المأخوذ بالتجارة عن تراض لا بالباطل ، والآية لا تنهض بإثباتها فلا يتمّ الاستدلال.

__________________

(١) النساء : ٢٩.

٥٠٢

يدفعها : أنّ الصغرى محرزة بالفرض باعتبار كون المعاطاة المبحوث عنها من التجارة عن تراض ، فإنّ التجارة بحسب العرف واللغة هو الاكتساب وهو عبارة عن تحصيل المال على وجه الملك والتملّك ، والظاهر أنّ كلاًّ من المتعاطيين يقصد بدفع ماله وأخذ مال صاحبه عوضاً عنه تحصيل المال على الوجه المذكور ، فيكون أكله من أكل المال المأخوذ بطريق التجارة عن تراض إذ المفروض تراضيهما بما يقصدان بالأخذ والإعطاء.

لا يقال : إنّ قصارى ما يدلّ عليه الآية إنّما هو حلّيّة أكل هذا المال ، والحلّيّة حكم تكليفي لا يلازم الحكم الوضعي وهو الصحّة ، والكلام إنّما هو في الحكم الوضعي لا التكليفي فقط ، فالآية تنهض دليلاً للقائلين بالإباحة فلا يثبت بها الصحّة والملكيّة بل لو قدّرت كلمة «إلّا» وصفيّة على حدّ ما في قوله تعالى «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا» (١) كما احتمله بعضهم لم تفد الآية للمستثنى حكماً لا تكليفاً ولا وضعاً ، بل كان في حكم المسكوت عنه كما هو واضح.

لأنّا نقول ـ مع أنّ احتمال الوصفيّة ضعيف لا ينبغي الالتفات إليه لانتفاء ما هو من شروط الاستثناء الوصفي وهو نكارة المستثنى منه كما في الآية المشار إليها : إنّ الصحّة تستفاد من الآية باعتبار نفي البطلان أو رفع توهّمه بالاستثناء عن التجارة عن تراضٍ.

وتوضيح المقام : أنّه قد اختلفت القراءة في إعراب «تجارة» من حيث الرفع والنصب ، ومنه اختلف القول في اعتبار «تكون» ناقصة أو تامّة ، وهاهنا اختلاف آخر في انقطاع الاستثناء ـ كما هو ظاهر الأكثر ـ واتّصاله ، قال الشيخ الطبرسي في تفسيره مجمع البيان : «قرأ أهل الكوفة تجارة نصباً والباقون الرفع ... إلى أن قال : من رفع فتقديره إلّا أن تقع تجارة عن تراض فالاستثناء منقطع لأنّ التجارة عن تراضٍ ليس من أكل المال بالباطل ، ومن نصب تجارة احتمل ضربين ، أحدهما : إلّا أن تكون التجارة تجارة عن تراض ، والآخر : إلّا أن تكون الأموال أموال تجارة ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، فالاستثناء على هذا الوجه أيضاً منقطع» (٢) انتهى.

أقول : جعل «تكون» تامّة بمعنى تقع على قراءة الرفع لعلّه ارتكاب خلاف ظاهر

__________________

(١) الأنبياء : ٢٢.

(٢) مجمع البيان ١ : ٥٨ ـ ٥٩.

٥٠٣

لا حاجة إليه ، لصحّة كونها ناقصة بجعل خبرها الظرف المقدّر قدّر بقرينة الظرف المتقدّم في قوله : «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ» أي لا يأكل بعضكم مال بعض آخر بواسطة الاكتساب الباطل ، حالكونه حاصلاً بينكم ، وفسّر في الخبر المرويّ عن الباقر عليه‌السلام «بالقمار والربى والنجش بالميزان والظلم» (١) وكأنّه عليه‌السلام أراد المثال فيقدّر مثل هذا الظرف في جانب المستثنى ، فيكون التقدير إلّا أن تكون بينكم تجارة عن تراضٍ ، والظرف باعتبار عامله المقدّر نصب على الخبريّة قدّم على الاسم للنكارة ، كما أنّه في جانب المستثنى منه نصب على الحاليّة قدّم على ذي الحال.

ولكن الأوجه هو قراءة النصب بأحد الوجهين اللّذين نقلهما المفسّر ، والاسم على الوجهين الضمير العائد إلى الباطل بمعنى الاكتساب والتجارة ، وتأنيثها على ثاني الوجهين واضح ، وأمّا على أوّلهما فلأنّ الباطل بمعنى الاكتساب يقدّر فيه باعتبار معنى التجارة تأنيث ، أو لأنّ الضمير المتوسّط بين مرجع مذكّر وخبر مؤنّث ممّا جاز فيه الأمران من حيث التأنيث والتذكير ، فالأوّل لمطابقة الخبر والثاني لمطابقة المرجع ، واختير في الآية الأوّل.

والظاهر أنّ الاستثناء على الوجهين منقطع قصد به رفع توهّم كون التجارة عن تراضٍ من الاكتساب الباطل ، فيحرم أكل المال المأخوذ بواسطتها على أوّل الوجهين ، أو رفع توهّم كون الأموال المأخوذة بواسطة التجارة عن تراضٍ من الأموال المأخوذة بواسطة الاكتساب الباطل فيحرم أكلها أيضاً ، وأيّاً ما كان فيفيد عدم بطلان التجارة عن تراضٍ بالمعنى المرادف للصحّة ، بناءً على كون الباطل من البطلان بهذا المعنى كما في قوله تعالى : «لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» (٢) أي لا تفسدوها بالعجب والرياء وغيرهما من أسباب الفساد الّتي منها قطع العمل على ما فهمه العلماء ، كما يكشف عنه استدلالهم بتلك الآية على حرمة قطع العمل في الفرائض وغيرها ، ولو قدّرنا الباطل بمعنى خلاف الحقّ ليكون معنى قوله «بِالْباطِلِ» أي بغير حقّ واستحقاق شرعي دلّ الاستثناء بمعنى رفع التوهّم على كون التجارة عن تراضٍ مفيدة للملكيّة ، إذ لا معنى لكون أكل أموال

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٥٨ ـ ٥٩.

(٢) محمّد : ٣٢.

٥٠٤

التجارة بحقّ واستحقاق شرعي إلّا من جهة إفادتها ملكيّة هذه الأموال.

ولو قدّرنا خلاف الحقّ في معنى الباطل باعتبار مجرّد الحرمة ، بتقدير أن يكون المراد منه المعاملات المحرّمة الّتي منع عنها الشارع ـ كالأمثلة المتقدّمة الواردة في الرواية ـ لكفى عدم كون التجارة عن تراض من الباطل بهذا المعنى في إثبات الدلالة على الصحّة من جهة الاستثناء ، لأنّ التجارة عن تراضٍ بمفهومها العرفي عبارة عن الاكتساب على وجه التمليك والتملّك ، ورفع توهّم المنع عنها على هذا الوجه بحسب متفاهم العرف في معنى إمضاء الشارع لها وترخيصه فيها على هذا الوجه ، فلولا كونها مفيدة للملك لم يصدق الإمضاء والترخيص على هذا الوجه. هذا كلّه على تقدير الاستثناء منقطعاً.

وأمّا تقديره متّصلاً فلا وجه يصحّحه إلّا جعل الباطل كناية عن مطلق الجهات أو المعاملات معرّاة عن وصف البطلان ، بتجريد المشتقّ عن معنى المبدأ واتّصاف الذات به ليدخل التجارة عن تراضٍ في جملة آحادها ، كما قد يتكلّف ويقال : إنّما اوتي بتلك العبارة رعاية لكمال البلاغة مع أداء المقصود بإعطاء حكمي التكليفي والوضعي من حرمة الأكل وبطلان ما سوى التجارة عن تراض بأخصر العبارات ، فكأنّه أتى بكلامين استثنائيّين مثل أن يقال : لا تأكلوا أموالكم بجهة من الجهات إلّا أن تكون الجهة تجارة عن تراضٍ ، لأنّ كلّ جهة باطلة إلّا التجارة عن تراضٍ ، وكان ذلك إعطاء للحكم ببيّنة وبرهان.

ونظير ذلك في كلام البلغاء كثير ألا ترى أنّه يقال في العرف : «لا تكرم الفسّاق إلّا عالم البلد» بجعل الفسّاق كناية عن أهل البلد ويراد به استثناء العالم من وصف الفسق الموجب لعدم شمول النهي له ، فكأنّه قيل لا تكرم أهل البلد إلّا العالم لأنّ كلّهم فسّاق إلّا العالم. وهذا التأويل في الآية بالنظر إلى قواعد الألفاظ كما ترى تكلّف ركيك ومجاز بعيد لا يصار إليه إلّا القرينة واضحة ، ومجرّد أصالة الحقيقة في أداة الاستثناء لا تصلح لها لكونها معارضة بمثلها في المشتقّ مع كونها أولى بالطرح ، فإنّ انقطاع الاستثناء وإن كان مجازاً إلّا أنّه مجاز شائع يكثر دورانه في الاستعمالات العرفيّة ، بخلاف تجريد المشتقّ عن وصف المبدأ وجعله للذات البحت المعرّاة عن الاتّصاف بمبدإ الاشتقاق فإنّه مجاز بعيد بل في غاية البعد لندرة وروده في الكلام ، ومن المحقّق أنّ أقرب

٥٠٥

المجازين وأشيعها وروداً في الكلام أولى وأرجح في مقام التعارض من الآخر ، ولذا لم يلتفت الأكثر إلى اتّصال الاستثناء هنا.

وقد يقدّر الاستثناء في الآية على تقدير الانقطاع مع قراءة النصب في «تجارة» بأنّ المعنى إلّا أن تكون السبب تجارة عن تراضٍ ، ولعلّه لإرجاع ضمير الاسم إلى مرجع معنوي ينساق من السببيّة المفهومة من كلمة «البا» في قوله «بِالْباطِلِ» بناءً على كونها سببيّة وتأنيثه حينئذٍ لرعاية المطابقة مع الخبر لا مع الاسم ، فيكون تقدير المستثنى والمستثنى منه في حاصل المعنى «لا تأكلوا أموالكم بينكم بسبب من الأسباب الباطلة إلّا أن يكون السبب تجارة عن تراضٍ» والأولى ما تقدّم في كلام المفسّر فليتدبّر.

وقد يستدلّ على القول المختار بوجهين آخرين :

أحدهما : قوله تعالى : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (١) بتقريب أنّ المعاطاة عقد كما تقدّم في الجهة الاولى فيشملها عموم الآية ، نظراً إلى أنّ وجوب الوفاء بالعقد فرع على صحّته وإفادته الملكيّة.

وهذا في ظاهر النظر لا يخلو عن وجه خصوصاً بملاحظة ما قرّرناه في رسالتنا المنفردة لتأسيس أصالة الصحّة في العقود من وجه دلالة الآية على ذلك الأصل ، وملخّصه : أنّ كلاًّ من المتعاقدين يربط ماله بصاحبه ويجعله بالقصد والنيّة ملكاً له في عوض ماله ، ومقتضى هذا الربط على حسب ما يجعلانه حصول الارتباط وهو صيرورة مال كلّ ملكاً لصاحبه ، والشكّ في صحّة عقد وفساده راجع إلى حصول ذلك الارتباط في الواقع وعدمه ، باعتبار الشكّ في إمضاء الشارع للربط المذكور على حسب ما جعله المتعاقدان وعدمه ، غير أنّه لو حصل فمقتضاه أن يجب على كلّ منهما أن يدفع ماله إلى صاحبه ويمكّنه من التصرّف فيه ولا يحول بينه وبين التصرّف فيما دخل في ملكه. وهذا كلّه ما يعبّر عنه بالقيام بمقتضى العقد الّذي يعبّر عنه بالوفاء والإيفاء ، فإنّ معناه القيام بمقتضى العقد بالمعنى المذكور فقوله «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» أمر بالوفاء بكلّ عقد بهذا المعنى ، والوجوب المستفاد من الأمر يلازم حصول الارتباط في الواقع ، فالأمر به

__________________

(١) المائدة : ١.

٥٠٦

كاشف عنه ودالّ على إمضاء الشارع للربط المذكور على حسب ما يقصدانه المتعاقدان ، فيدلّ بالالتزام على حصول الارتباط الواقعي.

ولكن بالقياس إلى المعاطاة في دقيق النظر محلّ نظر بل موضع منع ، لأنّ الاستدلال بالآية على الصحّة فيها إنّما يتمّ على القول باللزوم ، وأمّا على القول بالجواز والملك المتزلزل فلا ، لابتناء هذا القول على تخصيص الآية في دلالتها على وجوب الوفاء الملازم للصحّة بما اقترن من العقود بالصيغة المخصوصة الجامعة للخصوصيّات المعتبرة فيها من العربيّة والماضويّة والصراحة وغيرها ، ومرجع هذا التخصيص على ما حقّقناه في الرسالة المشار إليها إلى تقييد المادّة في العقود بحالة الاقتران بالصيغة ، وقضيّة هذا التقييد خروج ما لم يقترن بها ومنه المعاطاة ، فالآية عامّ فيما اقترن لا غير ، فلا يمكن الاستدلال بعمومها على صحّة ما لم يقترن ، فليتدبّر.

وثانيهما : قوله عليه‌السلام : «الناس مسلّطون على أموالهم» (١) فإنّ عموم سلطنة الناس على أموالهم يقتضي تسلّطهم على تمليك أموالهم للغير بطريق المعاطاة ، وهذا يقتضي كونها مفيدة للملك وهو المطلوب.

وفيه نظر بل منع أيضاً ، لأنّ هذا الحديث بعمومه يفيد تسلّط الناس على التمليك في أموالهم بما كان قابلاً لأن يملّك ، بأن يكون ممّا جعله الشارع سبباً ناقلاً للملك عن مالك إلى آخر كالبيع بالصيغة المخصوصة ، وحينئذٍ لو قلنا بعدم الصحّة في بعض أفراد كبيع المحجور عليه لفلس أو سفه ونحوه رجع ذلك إلى نفي السلطنة فيلزم التخصيص في الحديث.

وأمّا ما شكّ في صحّته وفساده باعتبار الشكّ في كونه قابلاً لأن يملّك ، أي كونه ممّا جعله الشارع سبباً مملّكاً ، فهو ليس شكّاً في صحّته لأمر يرجع إلى الناس وهو سلطنتهم على التمليك الّذي هو نوع من التصرّف في أموالهم ، بل لأمر يرجع إلى الشارع وهو جعله إيّاه سبباً مملّكاً ، فلو بنينا حينئذٍ على عدم الصحّة فيه استناداً إلى أصل أو دليل دلّ على الفساد لم يرجع ذلك إلى نفي السلطنة ، فلا يلزم تخصيص في

__________________

(١) عوالي اللآلي ١ : ٢٢١.

٥٠٧

حديث السلطنة الّذي هو عامّ في السلطنة على التمليك بما جعله الشارع سبباً مملّكاً ، والشكّ في صحّة المعاطاة راجع إلى جعل الشارع لا إلى سلطنة الناس على التمليك فيما جعله الشارع سبباً ، فلا يلزم تخصيص في الحديث لو قيل فيها بعدم الصحّة ، ولذا لا يلزم تخصيص فيه بالحكم بفساد المعاملة مع الصبيّ أو المجنون أو فيما ليس بمعلوم أو في المعاملة الربويّة ، لأنّه نفي لجعل السببيّة الّذي هو فعل للشارع لا نفي للسلطنة الّتي هي حالة في ملّاك الأموال.

والفارق أنّ الشكّ هنا ليس لعروض حالة للمالك أوجبت الشكّ في سلطنته ، بل نشأ عن عروض حالة للعقد وهو خلوّه عن الصيغة أوجبت الشكّ في سببيّته فليتدبّر.

فدليل القول المختار منحصر في السيرة وآية أحلّ الله البيع وآية تجارة عن تراض.

وأمّا أدلّة سائر الأقوال وهي القول بالفساد ، والقول بالإباحة ، والقول بالمعاملة المستقلّة ، فاستدلّ على القول بالفساد كما عليه العلّامة في النهاية بأمرين :

أحدهما : الأصل المقرّر تارةً بالقياس إلى الحكم التكليفي ، وهو حرمة تصرف كلّ من المتعاطيين في مال صاحبه قبل وقوع المعاطاة بينهما ، وقضيّة الأصل بقاؤها بعد وقوعها. واخرى بالقياس إلى الحكم الوضعي ، وهو الصحّة المتضمّنة لخروج مال كلّ من المتعاطيين عن ملكه ودخوله في ملك صاحبه وهما أمران حادثان ، وقضيّة الأصل عدم كلّ منهما ، ومرجعه إلى أصالة بقاء ملك الأوّل وعدم حدوث الملك للثاني.

وثانيهما : قوله عليه‌السلام : «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» المفيد للحصر ، فإنّ من أحكام البيع الصحيح المفيد للملكيّة أن يكون محلّلاً لما كان حراماً قبله ومحرّماً لما كان حلالاً قبله ، وقد دلّ الحديث على كون ذلك التحليل والتحريم منوطاً بالكلام وهو القول والنطق اللفظي ، ولا نعني من مدخليّة الصيغة في الصحّة إلّا هذا والمعاطاة لا كلام ولا لفظ فيها.

ويرد على الأصل بجميع تقاديره الخروج عنه بما تقدّم من أدلّة الصحّة.

وأمّا الخبر فلا بدّ للنظر في دلالته من ذكر الروايات المشتملة عليه بتمامها ، ففي صحيح يحيى بن الحجّاج قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يجي‌ء فيقول : اشتر لي هذا الثوب واربحك كذا وكذا ، قال:أليس إن شاء ترك وإن شاء أخذ؟قلت : بلى ، قال :

٥٠٨

لا بأس به ، إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» (١).

وصحيحة الحلبي قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يزرع الأرض فيشترط للبذر ثلثاً وللبقر ثلثاً ، قال : لا ينبغي أن يسمّي شيئاً ، فإنّما يحرّم الكلام» (٢).

وصحيحة سليمان بن خالد قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل زارع فيزرع أرض آخر فيشترط للبذر ثلثاً وللبقر ثلثاً ، قال : لا ينبغي أن يسمّي بذراً ولا بقراً ، فإنّما يحرّم الكلام» (٣).

وخبر أبي الربيع الشامي عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أنّه سئل عن الرجل يزرع أرض رجل آخر فيشترط عليه ثلثاً للبذر وثلثاً للبقر ، فقال : لا ينبغي أن يسمّي بذراً ولا بقراً ، ولكن يقول لصاحب الأرض : ازرع في أرضك ولك منها كذا وكذا نصفاً وثلثاً وما كان من شرط ، ولا يسمّي بذراً ولا بقراً فإنّما يحرّم الكلام» (٤)!

والتأمّل في مساق هذه الروايات ومفادها يشرف الفقيه على القطع بعدم دلالة المضمون المذكور على كون اللفظ المخصوص أو مطلق اللفظ معتبراً في صحّة العقد عموماً أو خصوصاً ، بل هي مسوقة لإعطاء حكم كلّي آخر لا تعلّق له بما نحن فيه ، وهو كونه شرحاً وبياناً لضابط الشرط المحرّم للحلال أو المحلّل للحرام على ما ورد في بعض الأخبار المعتبرة من قوله عليه‌السلام : «المؤمنون عند شروطهم إلّا شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً» (٥) وحاصل معناها أنّ الشرط المحرّم للحلال أو المحلّل للحرام هو الشرط الملفوظ به في متن العقد المصرّح به في ضمنه ، وهو المراد بالكلام لا مجرّد المنويّ في ضمنه من دون ذكره والتلفّظ به في متنه ، ولا مجرّد ما تواطئا عليه المتعاملان قبل العقد من دون أخذه قيداً لفظيّاً في ضمنه.

وقد اعتبروا نظير ذلك في صحّة الشروط السائغة المأخوذة في العقود اللازمة

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٥٠ / ٤ ، ب ٨ أبواب العقود ، التهذيب ٧ : ٥٠ / ٢١٦.

(٢) الوسائل ١٩ : ٤١ / ٤ ، ٨ أحكام المزارعة ، الكافي ٥ : ٢٦٧ / ٦.

(٣) الوسائل ١٩ : ٤١ / ٦ ، ب ٨ أحكام المزارعة ، الكافي ٥ : ٢٦٧ / ٥.

(٤) الوسائل ١٩ : ٤٣ / ١٠ ، ب ٨ أحكام المزارعة ، التهذيب ٧ : ١٩٤ / ٨٥٧.

(٥) الوسائل ٢١ : ٣٠٠ / ٤ ، ب ٤٠ أبواب المهور ، التهذيب ٧ : ٤٦٧ / ١٥٠٩.

٥٠٩

فقالوا : إنّ من شروط صحّة الشرط أن يلتزم به في متن العقد فلو تواطئا عليه قبله لم يكف في الإلزام والالتزام بالمشروط على المشهور ، بل يعلم فيه خلاف كما في كلام بعض مشايخنا وقال : إنّ الظاهر من كلمات الأكثر عدم لزوم الشرط الغير المذكور في متن العقد وعدم إجراء أحكام الشرط عليه وإن وقع العقد مبنيّاً عليه ، بل في الرياض «عن بعض الأجلّة (١) حكاية الإجماع على عدم لزوم الوفاء بما يشترط لا في عقد ، بعد ما ادّعى هو قدس‌سره الإجماع على أنّه لا حكم للشروط إذا كانت قبل عقد النكاح» (٢) وتتبّع كلماتهم في باب البيع والنكاح يكشف عن صدق ذلك المحكيّ فتراهم يجوّزون في باب الرباء والصرف الاحتيال في تحليل معاوضة أحد المتجانسين بأزيد منه ببيع الجنس بمساويه ، ثمّ هبة الزائد من دون أن يشترط ذلك في العقد ، فإنّ الحلّيّة لا تتحقّق إلّا بالتواطؤ على هبة الزائد بعد البيع والتزام الواهب بها قبل العقد مستمرّاً إلى ما بعده ... إلى آخر ما ذكره (٣).

وعلى هذا فحاصل المعنى المراد من قوله عليه‌السلام : «فإنّما يحرّم الكلام» في أخبار باب المزارعة هو أنّ تسمية كون ثلث من الحاصل للبذر وثلث منه للبقر على معنى التصريح بذكره في متن عقد المزارعة هو الشرط المحرّم للحلال ، ولا يقدح نيّته من دون تسمية في متن العقد ، فالحصر المستفاد من كلمة «إنّما» إضافي بالنسبة إلى مجرّد النيّة. والسرّ في تحريم التسمية بمعنى الاشتراط الملفوظ به في العقد ، أنّ مقتضى عقد المزارعة حلّيّة الحصّة المشترطة للمالك ـ كالثلث مثلاً ـ له ، وحلّيّة ما زاد عليها كالثلثين للزارع ، فاشتراط كون أحد الثلثين للبذر والآخر للبقر على معنى التصريح بذكره في متن العقد شرط حرّم الثلثين معاً على الزارع ، وإذا أخذهما بموجب هذا الشرط فقد أخذ حراماً.

وفي كلام محكيّ عن ابن الجنيد كون سبب الحرمة دخوله في عنوان الربا حيث قال : «ولا بأس باشتراك العمّال بأموالهم وأبدانهم في مزارعة الأرض وإجارتها إذا كان

__________________

(١) هو الفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٥٦.

(٢) الرياض ٨ : ٣٩٦ / ١٤ : ٣٣٦ ـ ٣٣٨.

(٣) المكاسب ٦ : ٥٦.

٥١٠

على كلّ واحد قسط من المئونة وله جزء من الغلّة ، ولا يقول أحدهم ثلث للبذر وثلث للبقر وثلث للعمل ، لأنّ صاحب البذر يرجع إليه بذره وثلث الغلّة من الجنس وهذا رباً ، فإن جعل البذر ديناً جاز ذلك» (١).

وعن حواشي المجلسي أنّ قوله «للبذر ثلثاً» يحتمل وجهين :

أحدهما : أنّ اللام للتمليك والنهي لكونهما غير قابلين للملك ، وثانيهما : أن يكون المعنى ثلث بإزاء البذر وثلث بإزاء البقر فالنهي لشائبة الربا في البذر.

أقول : ويمكن أن يكون النهي لجهالة المشروط به من عوض البذر واجرة البقر ، فالثلثان من الحلال على الزارع الّذي حرّمهما عليه الكلام على معنى الاشتراط الملفوظ به في العقد.

وبالتأمّل فيما بيّنّاه يظهر حقيقة المراد من حديث يحيى الحجّاج ، فإنّ الضمير المجرور في قوله عليه‌السلام : «لا بأس به» راجع إلى قول السائل يقول : «اشتر لي هذا الثوب وأربحك كذا وكذا» وحاصل معناه بعد قول السائل «بلى» في جواب قوله عليه‌السلام : «أليس إن شاء أخذ وإن شاء ترك» أنّه استدعاء ووعد ولا بأس به ، بل البأس بالكلام المحلّل للحرام والمحرّم للحلال ، والمراد به الشرط الملفوظ به في متن عقد لازم الّذي يكون محلّلاً لحرام أو محرّماً لحلال ، وهو غير متحقّق في مورد السؤال بدليل ما فرض من كون الرجل بحيث إن شاء أخذ وإن شاء ترك ، أي إن شاء اشترى الثوب من الرجل المأمور باشترائه من مالكه بعد الاشتراء وأعطاه ربح كذا وكذا حسبما وعده ، وإن شاء لم يشتره منه لأنّ الرجل المأمور لم يشترط عليه الاشتراء في ضمن عقد لازم وهو أن يلزمه بأن يشتري منه بالربح الموعود بعد ما اشتراه من مالكه ، فإنّه على تقدير وقوعه من الشرط المحلّل للحرام.

والسرّ فيه أنّ الاشتراط المذكور على تقدير وقوعه في عقد لازم يرجع من الرجل الشارط إلى إثبات سلطنة لنفسه على صاحبه ، بأن يلزمه بالاشتراء وإعطاء الربح وإن انصرف عنه ولم يشأه أي وإن لم يرض به ، ولا ريب في حرمته بحسب أصل الشرع

__________________

(١) نقله عنه في المختلف ٦ : ١٩١.

٥١١

لأنّه من الإجبار على الاشتراء ، وهو مع الإجبار على البيع سيّان في الحرمة. والأصل في ذلك بناء العقود شرعاً وعقلاً نصّاً وإجماعاً على رضا الطرفين ، ومن شئونه ما ورد من «أنّه لا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفسه» (١).

ولا ينتقض ذلك بإجبار الحاكم في بعض الموارد المالك على بعض ماله لأداء حقّ واجب عليه وإن امتنع يتولّى بيعه الحاكم ، لأنّه عبارة عن الإجبار على البيع عن الرضا وطيب النفس وإن امتنع يتولّى الحاكم ، لأنّ الشارع أسقط حينئذٍ رضا المالك وأقام رضا الحاكم مقام رضاه.

ومن جزئيّات القاعدة ما أفتى به الفاضلان في الشرائع (٢) والتذكرة (٣) وغيرهما من جواز اشتراء البائع متاعه ممّن باعه منه بشرط أن لا يشرط في بيعه الأوّل بيعه منه. وظاهر عبارة الحدائق كون هذا الشرط وفاقيّاً بين أهل القول بصحّة الاشتراء ، وعلى اعتبار هذا الشرط حمل ما رواه الحسين بن المنذر قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يجيئني الرجل فيطلب العينة فأشتري له المتاع مرابحة ثمّ أبيعه إيّاه ثمّ أشتريه منه مكاني ، قال : إذا كان بالخيار إن شاء باع وإن شاء لم يبع وكنت أنت بالخيار إن شئت اشتريت وإن شئت لم تشتر فلا بأس ...» (٤) الخ ، قال : وفي هذا الخبر إيماء إلى أنّه مع الشرط لا يصحّ البيع» (٥).

وأظهر منه في ذلك ما رواه في قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم ثمّ اشتراه بخمسة دراهم يحلّ؟ قال : إذا لم يشترط ورضيا فلا بأس» (٦).

أقول : وفي معناهما روايات مستفيضة اخر ، فوجه المنع من الاشتراط على ما بيّنّاه ليس لزوم الدور كما فهمه العلّامة في التذكرة ٧ ولا عدم حصول القصد إلى نقله عن البائع ، لاندفاع الأوّل بأنّ الموقوف على حصول الشرط هو لزوم البيع الأوّل لا إفادته الملكيّة للمشتري ، واندفاع الثاني بأنّ الفرض حصول القصد.

__________________

(١) الوسائل ٥ : ١٢٠ / ٣ ، ب ٣ مكان المصلّي.

(٢) الشرائع ٢ : ٢٨.

(٣) ٣ و ٧ التذكرة ١٠ : ٢٥١.

(٤) الوسائل ١٨ : ٤١ / ٤ ، ب ٥ أحكام العقود ، التهذيب ٧ : ٥١ / ٢٢٣.

(٥) الحدائق ١٨ : ١٢٨.

(٦) الوسائل ١٨ : ٤٢ / ٦ ، ب ٥ أحكام العقود ، قرب الإسناد : ١١٤.

٥١٢

وبالجملة شرط اشتراء المتاع في ضمن العقد اللازم على وجه يكون مفاده إلزام المشروط عليه بالاشتراء وإجباره عليه وإن لم يشأه ولا يرضى به من الشرط المحلّل للحرام ، لأنّ إلزام الإنسان باشتراء ما لم يشأ اشتراءه ولا يرضى به حرام ولا يضرّ قصده من غير شرط. وما ذكرناه في ردّ الاستدلال أولى وأسدّ ممّا ذكره في الرياض ومن تبعه «من أنّها محمولة على اللزوم وعلى ما بعد الرجوع جمعاً بينها وبين ما دلّ على الإباحة بالتراضي من الإجماع في الغنية (١) وشرح القواعد (٢) وعدم الخلاف بين الطائفة» (٣) كما يظهر بالتأمّل للمنصف.

واستدلّ على القول بالإباحة بعد نفي البيعيّة لما تقدّم في الجهة الاولى لنفي النقل والانتقال بالأصل ولإباحة التصرّفات بإجماع الغنية ـ كما أشار إليه السيّد (٤) في كلامه المتقدّم ـ وبسيرة المسلمين كافّة.

ونفي البيعيّة مندفع بما مرّ في الجهة الاولى مشروحاً ، والأصل مندفع بما تقدّم من أدلّة الصحّة ، وإجماع الغنية بعدم مقاومته السيرة القائمة بالملكيّة من ابتداء الأمر وإجراء أحكامها ، والسيرة مندفعة بأنّها [لا] تثبت أزيد من إباحة التصرّفات. مع أنّ الإباحة المجرّدة عن الملك إن اريد بها الإباحة المالكيّة ، فهي غير مقصودة للمتعاطيين بل المقصود هو التمليك والتملّك الّذي من أحكامه شرعاً جواز التصرّفات قصده المتبايعان أو لا فما قصداه لم يقع وما وقع لم يقصداه فيبطل ، وإن اريد بها الإباحة الشرعيّة فلا بدّ لها من دليل وأدلّة إثباتها على ما عرفت مدخولة.

وممّا يرد على هذا القول أنّه لو لا الملك في الأموال المأخوذة بالمعاطاة لأشكل الحال في وطء الجارية ولمسها وسائر الاستمتاعات بها ، لأنّ حلّ هذه الامور إمّا بملك اليمين أو التحليل أو النكاح والكلّ منتف ، أمّا انتفاء الأوّل فلأنّه المفروض ، وأمّا انتفاء الثاني فلأنّ له صيغة مخصوصة ولم يتحقّق من مالكها في المقام ، وأمّا انتفاء الثالث فواضح. وكذلك الإشكال في عتقها إذ لا عتق إلّا في ملك ، وإرثها إذ الوارث يتلقّى

__________________

(١) الغنية : ٥٨٦.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.

(٣) الرياض ٨ : ٢١٤.

(٤) الرياض ٨ : ٢١٤.

٥١٣

الملك من مورثه وإذ لا ملك للمورّث لا إرث لوارثه. وكذلك في الوقف والرهن والهبة والبيع والإجارة وغيرها من التصرّفات المتوقّفة على الملك.

وقد يتفصّى عن الإشكال بأحد وجهين :

الأوّل : منع توقّف التصرّفات المذكورة على الملك بقول مطلق ، لجواز تخصيص القاعدة العامّة الثانية بأدلّة اشتراط هذه التصرّفات بالملك فتخصّص بما عدا الأموال المأخوذة بالمعاطاة ، ويقال بأنّها في هذه الأموال لا تتوقّف على الملك فإنّه ليس بعادم النظير ، بل له في الشريعة نظائر كثيرة :

منها : ثلث الميّت يبيعه الوصيّ وهو ليس بملك أحد من الوصيّ والوارث والميّت ، أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلاختصاص ملكه بما زاد على الثلث ، وأمّا الثالث فلعدم كونه قابلاً لأن يملك ، لأنّ الملك عرض فيحتاج إلى محلّ يقوم به والميّت غير صالح له.

ومنها : الأراضي الخراجيّة يتصرّف فيها الوالي ببيع وصلح ونحوه إذا اقتضته المصلحة ليصرف ثمنها في مصالح المسلمين.

ومنها : الأوقاف العامّة إذا حصل لبيع شي‌ء منها جهة مسوّغة فيبيعه الحاكم أو الناظر.

ومنها : شراء المملوك من تركة من لا وارث له سواه ليعتق حتّى ينتقل إليه سائر التركة ، نظراً إلى أنّ الرقّية من حواجب الإرث فلا بدّ من زوالها بالعتق يتولاهما الحاكم أو غيره من عدول المؤمنين ، مع أنّ الثمن ليس ملكاً حال الشراء.

الثاني : منع انتفاء الملك في محلّ هذه التصرّفات مطلقاً ، لجواز حدوثه آناً ما من حين التصرّف المتوقّف عليه قهراً من الله سبحانه ، كما وقع نظيره في شراء من ينعتق على المشتري كأحد العمودين على القول بأنّه يملكه آناً ما فينعتق عليه بعده.

ولا يخفى ما فيهما من الضعف خصوصاً ثانيهما ، ولذا قيل بأنّ التزام حدوث الملك عند التصرّف المتوقّف عليه لا يليق بمتفقّه فضلاً عن الفقيه.

أمّا ضعف الأوّل فلأنّ تخصيص القاعدة لا بدّ له من دليل والتزامه بدونه غير سائغ ، ولا دليل عليه. والاستشهاد بالأمثلة المذكورة يدفعه منع انتفاء الملك فيها ، أمّا ثلث الميّت فلأنّه ملك له كما هو ظاهر الأخبار المتكفّلة لبيان أنّ له ثلث ماله أو ليس له إلّا ثلث ماله. ودعوى : أنّه غير قابل لأن يملك ، لا دليل عليها من عقل ولا نقل. وكون

٥١٤

الملك عرضاً وكون العرض ممّا يفتقر إلى المحلّ مسلّم ، وعدم كون الميّت صالحاً له غير مسلّم إلّا باعتبار كونه معدوماً ، والمعدوميّة ممنوعة لأنّ محلّ الملك في حال الحياة هو النفس الإنسانيّة وهي باقية بعد الموت ، غاية الأمر زوال ملكيّة الزائد على الثلث بسبب انتقاله بالموت إلى الوارث فيبقى الثلث على كونه ملكاً له ولو بحكم الاستصحاب.

وأمّا الأرض الخراجيّة فلأنّ الأراضي الخراجيّة ملك لجميع المسلمين ، ولمّا كان اجتماع الكلّ على بيع شي‌ء منها متعذّراً فيقوم الوالي مقامهم ، فهو بيع للملك صدر ممّن يقوم مقام المالك.

وأمّا الوقف العامّ فلأنّ انتفاء الملك في الأوقاف العامّة مبنيّ على كون الوقف فكّ ، وأمّا على القول بكونه نقلاً للملك إلى الموقوف عليهم أو إلى الله سبحانه فلا ، والحاكم أو الناظر عند قيام الجهة المسوّغة للبيع يقوم مقام المالك فهو أيضاً بيع للملك صدر من يقوم مقام المالك.

وأمّا ثمن شراء المملوك من تركة من لا وارث له سواه فلجواز بقاء جميع التركة في نحو هذه الصورة في ملك الميّت إلى أن يحصل من يصلح وارثاً بزوال رقّيته مثلاً ، ودعوى الاستحالة مردودة على مدّعيها كما عرفت.

وأمّا ضعف الثاني فلأنّ حدوث الملك آناً حين التصرّف يقتضي سبباً ولا سبب له سوى المعاطاة السابقة ومقتضاها حصول الملك من ابتداء الأمر ، وتنظير المقام بشراء أحد العمودين على القول بأنّه يملكه المشتري آناً ما مقايسة باطلة ، لأنّ حصول الملك له سببه وهو البيع الواقع على الملك ثمناً ومبيعاً متحقّق وكونه آناً ما لما دلّ على أنّ الإنسان لا يملك العمودين حملاً له على الاستقرار والدوام جمعاً. ولأجل ما ذكرنا ذكر الشيخ قدس‌سره في شرحه للقواعد في تزييف القول بالإباحة بما ملخّصه من أنّ القول بالإباحة من غير ملك مع قصده حين المعاملة دون الإباحة يستلزم إمّا إنكار ما ثبت بالضرورة والسيرة القطعيّة جوازه أو إحداث قواعد جديدة حيث قال ـ في ردّ هذا القول المدّعى عليه الشهرة والإجماع ـ : «وهو مردود بالسيرة المستمرّة القاطعة في إجراء حكم الأملاك على ما اخذ بالمعاطاة ، من إيقاع عقد البيع والإجارة والهبة

٥١٥

والصلح والصدقة وجميع العقود ممّا يتعلّق بتمليك الأعيان أو المنافع عليه ، وتعلّق العتق والوقف والحبس والرهن والربى والنذور والايمان والوصايا ونحوها به ، وكذا حكم المواريث والأخماس والزكوات واستطاعة الحجّ ، والنظر إلى الجواري ولمسهنّ ووطئهنّ وتحليلهنّ وتزويجهنّ ونحو ذلك ، فيلزم إمّا إنكار ما جاز بداهة أو إثبات قواعد جديدة» (١) انتهى.

أقول : بطلان اللازم الأوّل واضح ، لأنّ الضرورة والسيرة القاطعة لا تقابل بالإنكار. وأمّا بطلان اللازم فالإذعان به يستدعي ذكر القواعد الجديدة الّتي ذكرها ونقلها بعين عبارته قدس‌سره.

فأوّل ما ذكره من القواعد قوله : «إنّ العقود وما يقوم مقامها لا تتبع القصود ، وقصد الملك والتملّك عند المعاملة والبناء عليهما لا محض الإباحة لا ينافيها» انتهى.

وملخّصه : أنّ قضيّة هذا القول وقوع الإباحة الغير المقصودة في محلّ قصد الملك والتملّك دونهما ، وهو باطل لأنّ العقود تتبع القصود فما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد.

ونوقش بأنّه ليس إحداثاً لقاعدة جديدة بل هو تخصيص لقاعدة شرعيّة ، ويكفي في دليله الإجماع المنقول على نفي البيعيّة ، وقوله عليه‌السلام : «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» على نفي الملكيّة وإنّما صيّر إلى الإباحة مع عدم كونها مقصودة لقضاء السيرة القاطعة بذلك ، وظاهر أنّ المرء متعبّد بالدليل الشرعي فلزوم مخالفة القاعدة غير ضائر.

ويدفعه ـ بعد الإغماض عمّا يرد منقول الإجماع على نفي البيعيّة وعلى دلالة الرواية ممّا ذكرناه مشروحاً ـ أنّ هذه السيرة المتمسّك بها على اختيار الإباحة الغير المقصودة بنفسها على بطلان دعوى تخصيص القاعدة وفساد دليله ، وذلك لأنّها قديماً وحديثاً مستقرّة في الالتزام بالبيعيّة والالتزام بالملكيّة والالتزام بجواز عموم التصرّفات ، على أنّه من أثار الملك لا على أنّه من توابع الإباحة المالكيّة.

وثانيها : أنّ إرادة التصرّف من المملّكات فتملّك العين والمنفعة بإرادة التصرّف بها أو معه دفعة وإن لم يخطر ببال المالك الأوّل الإذن في شي‌ء من هذه التصرّفات لأنّه

__________________

(١) شرح القواعد ٢ : ٢٢ ـ ٢٣.

٥١٦

قاصد للنقل من حين الدفع وأنّه لا سلطان له بعد ذلك بخلاف من قال : أعتق عبدك عنّي وتصدّق بمالي عنك» انتهى. والضمير في قوله «بها» راجع بإرادة التصرّف وإنّما ذكره تأكيداً لقوله «بإرادة التصرّف» للتنبيه على أنّ المقصود في المعطوف عليه فرض إرادة التصرّف سبباً تامّاً ، وفي المعطوف بأو وهو قوله «أو معه» فرضها مع نفس التصرّف سبباً على أن يكون كلّ واحد جزءاً للسبب فتملّك بهما دفعة واحدة أي في آن واحد ، وهو آن التصرّف لتقدّمه على الملك باعتبار كونه جزءاً للسبب ذاتاً وإن قارنه زماناً فتأمّل. وقوله : «بخلاف من قال» الخ قصد بذلك إلى رفع توهّم كون المملّك في هذين المثالين هو إرادة التصرّف ، وحاصل ما قصد به من الدفع إبداء كون المملّك فيهما الهبة الضمنيّة فتأمّل.

وثالثها : أنّ الأخماس والزكوات والاستطاعة والديون والنفقات وحقّ المقاصّة وحقّ الشفعة والمواريث والربى والوصايا تتعلّق بما في اليد مع العلم ببقاء مقابله وعدم التصرّف به أو عدم العلم فينفى بالأصل فتكون متعلّقة بغير الأملاك ، وأنّ صفة الغنى والفقر تترتّب عليه كذلك فيصير ما ليس من الأملاك بحكم الأملاك» انتهى.

ومراده بما في اليد الّذي تتعلّق به الامور المذكورة ما فيها من الأموال المأخوذة بالمعاطاة فإنّها غير مملوكة على الفرض ، وتتعلّق بها ما من حقّه أن يتعلّق بالأموال المملوكة ، وهذا هو مخالفة القواعد المشهورة الشرعيّة ، وإذا جاز ذلك صار قاعدة جديدة ، وبطلان اللازم في أكثر هذه الامور مسلّم ، وفي بعضها محلّ منع كاستطاعة الحجّ فإنّها تحصل بأدون من الأموال المباحة الواصلة في اليد كبذل ما يكفيه في زاده وراحلته فلئن يحصل بتلك الأموال طريق الأولويّة لأنّ المناط صدق أنّه يستطيع إليه سبيلاً ، ولا يتوقّف ذلك على ملكيّة المال الكافي في الزاد والراحلة ، وفي بعضها محلّ تأمّل فإنّ أداء الدين من هذه الأموال وإيجابه البراءة للذمّة لا يقصر عن أداء المتبرّع وصدق اليسار مع وجودها الّذي عليه مدار وجوب الإنفاق على من عليه نفقته من الزوجة والمملوك والدابّة وغيرها ممّن ذكر في باب النفقات.

ورابعها : كون التصرّف من جانب مملّكاً للجانب الآخر مضافاً إلى غرابة استناد الملك إلى التصرّف.

٥١٧

وخامسها : جعل التلف السماوي من جانب مملّكاً للجانب الآخر والتلف من الجانبين معيّناً للمسمّى ، ولا رجوع إلى قيمة المثل حتّى يكون له الرجوع بالتفاوت ومع حصوله في يد الغاصب أو تلفه فيها ، فالقول بأنّه المطالب لأنّه تملّك بالغصب والتلف في يد الغاصب غريب ، والقول بعدم الملك بعيد مع أنّ التلف القهري أنّ ملك التالف قبل التلف فهو عجيب ، ومعه بعيد لعدم قابليّته حينئذٍ وبعده ملك معدوم ومع عدم الدخول في الملك يكون ملك الآخر بغير عوض ونفي الملك مخالف للسيرة وبناء المتعاطيين.

وسادسها : أنّ التصرّف إن جعلناه من النواقل القهريّة فلا يتوقّف على النيّة فهو بعيد ، وإن أوقفناه عليها كان الواطئ للجارية من غيرها واطئاً بالشبهة ، والجاني والمتلف جانياً على مال الغير ومتلفاً له.

وسابعها : أنّ النماء الحادث قبل التصرّف إن جعلنا حدوثه مملّكاً له دون العين فبعيد ومعها فكذلك وكلاهما منافٍ لظاهر الأكثر ، وشمول الإذن له غير خفيّ.

وثامنها : قصر التمليك على التصرّف مع الاستناد فيه إلى أنّ إذن المالك فيه إذن في التمليك ، فيرجع إلى كون المتصرّف في تمليك نفسه موجباً قابلاً ، وذلك جارٍ في القبض بل هو أولى منه لاقترانه بقصد التمليك دونه» انتهى.

قال شيخنا قدس‌سره : «والمقصود من ذلك كلّه استبعاد هذا القول ، لا أنّ الوجوه المذكورة تنهض في مقابل الاصول والعمومات ، إذ ليس فيها تأسيس قواعد جديدة لتخالف القواعد المتداولة بين الفقهاء» (١) ثمّ أطنب قدس‌سره في الجواب عن جميع الامور المذكورة ومن يطلبه يراجع كتاب متاجره ، والّذي يسهّل الخطب في المقام أنّها استبعادات واستغرابات لا تقاوم دليل هذا القول على نفي البيعيّة ونفي الصحّة بمعنى ترتّب الأثر المقصود وعلى إثبات الإباحة إن تمّ دلالته وسنده فالقائل على تقدير تماميّة دليله يلتزم بجميع اللوازم المذكورة ولا يلتفت إلى الاستبعادات ، والعمدة إبطال دليله وقد ذكرناه بما لا مزيد عليه.

الجهة الثالثة : في مدخليّة الصيغة أو مطلق اللفظ في اللزوم وعدمه ويرجع البحث

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٤٦.

٥١٨

في ذلك إلى أنّ المعاطاة هل تقع لازمة من ابتداء الأمر مطلقاً كما هو المعروف عن المفيد (١) بناءً على ظاهر عبارته ، أو بشرط كون الدالّ على التراضي لفظاً كما حكاه في المسالك (٢) عن بعض معاصريه (٣) وربّما قوّاه جماعة (٤) من متأخّري المحدّثين ، أو تقع جائزة مطلقاً فيجوز لكلّ منهما الرجوع على صاحبه فيما دفعه إليه كما عليه أكثر (٥) القائلين بالملك بل قيل كلّهم عدا من عرفت؟

والأصل العملي مع الأصل الاجتهادي عموماً وخصوصاً يساعد على الأوّل.

أمّا الأصل العملي فهو استصحاب الملك المشكوك في زواله بمجرّد رجوع مالكه الأصلي.

والمناقشة فيه بأنّ الثابت هو الملك المشترك بين المستقرّ والمتزلزل ، والأوّل لا يقين بحدوثه من أصله والثاني لا شكّ في ارتفاعه بعد الرجوع فلا معنى لاستصحابه مدفوعة ، «لا لما قيل من أنّ انقسام الملك إلى المتزلزل والمستقرّ ليس باعتبار اختلاف في حقيقته وإنّما هو باعتبار حكم الشارع عليه في بعض المقامات بالزوال برجوع المالك الأصلي ، ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف حقيقة السبب المملّك لا اختلاف حقيقة الملك فجواز الرجوع وعدمه من الأحكام الشرعيّة للسبب لا من الخصوصيّات المأخوذة في المسبّب إذ لا اختلاف في حقيقة السبب سواء اريد به حقيقته الجنسيّة وهي العقديّة أو حقيقته النوعيّة وهي البيعيّة ولا شبهة في شي‌ء منهما على ما تقدّم تحقيقه في الجهة الاولى وليس للمعاطاة حقيقة اخرى سواهما» بل لعدم انقسام الملك إلى قسمين ليكون الثابت في المحلّ أمراً مشتركاً مردّداً بين القسمين حتّى لا يمكن استصحابه.

وذلك أنّ التزلزل في الملك المتزلزل ليس صفة منوّعة ليكون المتزلزل نوعاً آخر من الملك مقابلاً للملك المستقرّ ، بل هي صفة انتزاعيّة تنتزع من الملك باعتبار كونه

__________________

(١) المقنعة : ٩١.

(٢) المسالك ٣ : ١٤٧.

(٣) هو السيّد حسن بن السيّد جعفر.

(٤) كما في الحدائق ١٨ : ٣٥٥.

(٥) التحرير ١ : ١٦٤ ، مجمع الفائدة ٨ : ١٣٩ ـ المفاتيح ٣ : ٤٨ ، الكفاية : ٨٨.

٥١٩

بحيث يرتفع بطروء ما جعله الشارع رافعاً له ، فالشكّ في المقام إنّما هو لطروء ما يشكّ في رافعيّته وهو رجوع المالك الأصلي ، وإلّا فالملك ليس إلّا نوع واحد وهو ملك مستقرّ ثابت كالطهارة المسبّبة من الوضوء مثلاً ، وقد جعل الشارع له روافع كالإقالة والفسخ فيما خياره لأحد المتبايعين بأصل الشرع أو لاشتراطه في ضمن العقد ، كما جعل للطهارة روافع من البول والغائط والريح والنوم فهي بحيث ترتفع بطروء ما جعله الشارع رافعاً لها ، ولا يلزم من ذلك أن يكون لها قسمان ولذا جارٍ استصحابها عند الشكّ في رافعيّة المذي الخارج من المتطهّر ، وكذلك الملك فلا مانع من استصحابه عند الشكّ في ارتفاعه للشكّ في رافعيّة الرجوع ، وإنّما اختصّ ذلك الشكّ بالمعاطاة لأنّ الصيغة في البيع بالصيغة أوجبت سقوط حقّ الرجوع المطلق من المتبايعين واللزوم إنّما هو من جهته.

وأمّا الأصل الاجتهادي العامّ فهو أصالة اللزوم في العقود إلّا ما خرج بالدليل ، والمعاطاة عقد ودليله عموم آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» على ما حقّقناه في رسالة منفردة. وأمّا الأصل الاجتهادي الخاصّ فهو أصالة اللزوم في البيع إلّا ما خرج بالدليل ، ودليله الأخبار المثبتة للخيارات الّتي منها صحيحة الفضيل قال : «قلت له : ما الشرط في الحيوان؟ قال : ثلاثة أيّام للمشتري ، قلت : وما الشرط في غير الحيوان؟ قال : البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» (١) فإنّها في إثبات الخيار في فروض مخصوصة من البيع تدلّ التزاماً على أنّ الأصل فيه أن يكون لازماً ، خرج عنه الفروض المشار إليها كخيار المجلس وخيار الحيوان وخيار تأخير الثمن وخيار الرؤية وخيار الغبن وخيار العيب وما أشبه ذلك ، فدليل هذا القول قويّ جدّاً.

وأمّا القائلون بعدم اللزوم فليس لهم في مقابله إلّا الإجماع ، ويمكن تقريره بوجهين :

أحدهما : الإجماع المحصّل المستفاد من كلماتهم صراحة وظهوراً على أنّ الصيغة المخصوصة لها أثراً خاصّاً ، ومن مشايخنا (٢) «من ادّعى الإجماع المحصّل والمنقول بل الضرورة على أنّ للصيغ المخصوصة أثراً بيّناً» ويؤذن بذلك ما في شرح القواعد من

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٦ / ٣ ، ب ١ أبواب الخيار ، التهذيب ٧ : ٢٠ / ٨٥.

(٢) الجواهر ٢٢ : ٢١٢.

٥٢٠