ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

زرعت فلا بأس بما ذكرت» (١).

وخبر العيص [الفيض] بن المختار قال لأبي عبد الله عليه‌السلام : «جعلت فداك ما تقول في الأرض أتقبّلها من السلطان ثمّ أُؤاجرها اكرتي على أنّ ما أخرجه الله تعالى منها من كلّ شي‌ء لي من ذلك النصف أو الثلث بعد حقّ السلطان؟ قال : لا بأس به كذلك اعامل اكرتي» (٢).

ومنها : الأخبار المستفيضة المتقدّمة في حلّ جوائز السلطان الجائر وعمّاله ، بناءً على أنّ الغالب فيما في أيديهم من الأموال ما أخذوه باسم الخراج والمقاسمة ، أو بناءً على أنّه يغلب فيما وقع بأيديهم من الأموال ما يكون من قبيل الخراج والمقاسمة ، مع ملاحظة إطلاق الأجوبة فيها بالحلّ المفيد للعموم من جهة ترك الاستفصال ، وهي إن لم تتمّ دليلاً مستقلاًّ فلا تخلو عن تأييد ، بل تنهض مؤيّدة للأخبار السابقة ، وإلّا فهي على التقرير الأوّل لوجه الاستدلال دليل مستقلّ.

ثمّ إنّ في المقام مسائل كثيرة مهمّة تذكر من باب التفريع :

المسألة الاولى : في اشتراط قبض السلطان أو عامله في جواز القبول منه مجّاناً أو بعقد من عقود المعاوضة وعدمه ، حتّى أنّه لو أحاله على مستعمل الأرض أو وكّله في أخذه منه جاز الأخذ قولان ، عزي أوّلهما إلى صريح السيّد العميدي في شرحه للنافع حيث قال : «إنّما يحلّ ذلك بعد قبض السلطان أو نائبه ، ولذا قال المصنّف يأخذه» (٣) انتهى. وربّما استظهر ذلك من عبارات الأكثر لمكان عبارة «يأخذه» في كلامهم. خلافاً لصريح جماعة منهم ثاني الشهيدين في المسالك ومن تبعه فلم يشترطوا ذلك قال في المسالك. «لو أحاله به أو وكّله في قبضه أو باعه وهو في يد المالك أو ذمّته حيث يصحّ البيع كفى ووجب على المالك الدفع وكذا القول فيما يأخذه باسم الزكاة» (٤) انتهى.

وفي الرياض (٥) نفي الخلاف في عدم الفرق بين مقبوض السلطان وغيره ، وعن

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ١٢٧ / ٣ و ٤ ، ب ٢١ أحكام الإجارة ، الكافي ٥ : ٢٧٢ / ٢.

(٢) الوسائل ١٩ : ١٢٨ / ٥ ، ب ٢١ أحكام الإجارة ، رجال الكشّي ٢ : ٦٤٢ / ٦٦٣.

(٣) نقله عنه في المكاسب ٢ : ٢١١.

(٤) المسالك ٣ : ١٤٣.

(٥) الرياض ٨ : ١٩٩.

٤٤١

المحقّق الثاني (١) في الرسالة الإجماع على عدم الفرق ، ولا ينافيه ما في عبارة الأكثر من التعبير بـ «ما يأخذه» ، لقوّة احتمال إرادة المعنى الاستقبالي أي ما من شأنه أن يأخذه السلطان سواء أخذه فعلاً أو لم يأخذه بعد. وكان استظهار الخلاف منها بناءً على حملها على إرادة المعنى الحالي ، وهو محلّ منع ، ولو سلّم الظهور فهو لا يفيد الاعتبار ، لجواز كون بنائه على الغالب من كون أموال الخراج والمقاسمة مقبوضة للسلطان أو نائبه. وربّما يحمل على كون ذكره بعد جوائز السلطان كالمستثنى من جوائزهم الّتي حرم أخذها وبعد الأخذ وجب ردّها إلى مالكها إذا علمت كونها بعينها محرّمة كما تقدّم.

وعلى أيّ حال كان فالمعتمد هو عدم الاشتراط ، لما تقدّم من أخبار قبالة أرض الخراج وجزية الرءوس وخراج الشجر والنخل والآجام المعتضدة بفهم الجماعة بل الأكثر ، ونفي الخلاف ومنقول الإجماع لاختصاص مواردها بغير المقبوض.

المسألة الثانية : الرخصة الحاصلة من الأئمّة عليهم‌السلام في أخذ هذه الأموال من الجائر وقبولها مجّاناً أو بأحد عقود المعاوضة مختصّة بالآخذ المتقبّل المنتقل إليه في أخذه وقبوله غير متناولة للجائر في إعطائه ، فالأخذ منه من حيث إنّه فعل للآخذ جائز لا إعطاؤه من حيث إنّه فعل للجائر ، فإنّه كسائر تصرّفاته في هذه الأموال حرام ، حتّى أنّ أخذه إيّاها من مستعملي الأراضي حرام لكونه غاصباً غير مستحقّ له ، وأنت إذا تتبّعت عباراتهم لوجدتها مشحونة على التصريح بكونه غاصباً ، أو عدم استحقاقه له ، أو كونه منه حراماً ، وما يؤدّي مؤدّى ذلك على اختلاف العبارات.

ولذا قال الفاضل في التنقيح على ما حكي : «إنّ الدليل على جواز شراء الثلاثة من الجائر وإن لم يكن مستحقّاً له النصّ الوارد عنهم عليهم‌السلام والإجماع وإن لم يعلم مستنده ، ويمكن أن يكون مستنده أنّ ذلك حقّ للأئمّة عليهم‌السلام وقد أذنوا لشيعتهم في شراء ذلك فيكون تصرّف الجائر كتصرّف الفضولي إذا انضمّ إليه إذن المالك» (٢).

وقال أوّل الشهيدين في الدروس : «يجوز شراء ما يأخذه الجائر باسم الخراج والزكاة والمقاسمة وإن لم يكن مستحقّاً له» (٣).

__________________

(١) رسائل المحقّق الكركي ١ : ٢٧٨.

(٢) التنقيح ٢ : ١٨ ـ ١٩.

(٣) الدروس ٣ : ١٦٩.

٤٤٢

وقال ثانيهما في المسالك : «إلّا أنّ ما يأخذه الجائر في زمن الغيبة قد أذن أئمّتنا عليهم‌السلام في تناوله منه ، وأطبق عليه علماؤنا لا نعلم فيه مخالفاً وإن كان ظالماً في أخذه» (١).

قال العلّامة في التحرير : «ما يأخذه الظالم بشبهة الزكاة من الإبل والبقر والغنم ، وما يأخذه عن حقّ الأرض بشبهة الخراج ، وما يأخذه من الغلّات باسم المقاسمة حلال وإن لم يستحقّ أخذ ذلك» (٢).

قال في النافع : «يجوز أن يشترى من السلطان ما يأخذه باسم المقاسمة واسم الزكاة من ثمرة وحبوب ونعم وإن لم يكن مستحقّاً له» (٣).

وعن شرح القواعد للشيخ الغروي «ويقوى حرمة سرقة الحصّة وخيانتها والامتناع من تسليم ثمنها بعد شرائها إلى الجائر وإن حرمت عليه» (٤) ودخل تسليمها في الإعانة على الإثم في البداية أو الغاية ، وظاهر تحريم الحصّة عليه تحريمها بجميع تصرّفاته الّتي منها الأخذ والإعطاء وإلّا لم يكن تسليم ثمنها إليه إعانة على الإثم.

ويظهر من تضاعيف كلمات صاحب الحدائق (٥) مع صاحب الكفاية انتصاراً للمحقّق الأردبيلي رحمه‌الله عليه كون الحرمة في تصرّفاته حتّى أخذه وإعطائه من المسلّمات عند الأصحاب الّتي يمكن دعوى الاتّفاق فيها (٦). نعم يظهر من صاحب الكفاية في تضاعيف كلماته مع الأردبيلي ميله إلى منع الحرمة حيث قال ـ في جملة كلام له ردّاً عليه في إيراداته على صحيحة أبي عبيدة الحذّاء المتقدّمة ـ : «إنّا لو سلّمنا أنّ أخذ السلطان وجمعه حتّى الخراج من الأرضين حرام مطلقاً ، حتّى لو كان مقصوده جمع حقوق المسلمين وصرفه في المصارف الشرعيّة بقدر طاقته كان حراماً أيضاً ، لكن لا نسلّم أنّ إعطاءه لأحد في صورة الهبة أو غير ذلك يكون حراماً إذا كان الآخذ مستحقّاً لمثله كالفقراء ، أو كونه من مصالح المسلمين كالغازي والقاضي والّذي له مدخل في امور الدين وإن كان الأخذ حراماً أوّلاً ، إذ لا أجد بحسب نظري دليلاً على ذلك ولا الأصل يقتضيه. ثمّ يظهر من الحديث أنّ تصرّف العامل بالبيع جائز إذ لو كان

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٤٢.

(٢) التحرير ٢ : ٢٧٢.

(٣) النافع : ١١٨.

(٤) شرح القواعد ١ : ٣٨.

(٥) الحدائق ١٨ : ٢٥٣.

(٦) مجمع الفائدة ٨ : ٩٨ ـ ٩٩.

٤٤٣

حراماً كان الظاهر أن يكون الاشتراء منه حراماً أيضاً لكونه إعانة على الفعل المحرّم ، وحيث ثبت أنّ التصرّف بنحو البيع والشراء جائز ظهر أنّ أصل التصرّف فيه ليس بحرام. وإذا قيل : إنّ بعض أنحاء التصرّفات كالإعطاء من غير عوض لمستحقّ له حرام كان محتاجاً إلى دليل لأنّ الأصل خلافه ، وإذا كان ذلك حراماً فإمّا أن يكون الواجب ضبطه وحفظه في الخزائن وهو بعيد جدّاً ، وإمّا أن يكون الواجب الردّ إلى من اخذ منه ، وذلك يقتضي تحريم بيعه والاشتراء لأنّ الواجب ردّ العين مع التمكّن لا القيمة مع أنّ الظاهر عدم القائل بالفرق بين الاشتراء وغيره» (١) انتهى.

وربّما استظهر ذلك من عبارة المسالك في باب الأرضين قائلاً : «وذكر الأصحاب بأنّه لا يجوز لأحد جحدها ولا منعها ولا التصرّف فيها بغير إذنه ، بل ادّعى بعضهم الاتّفاق عليه» (٢).

وقد يتوهّم أيضاً من عبارة المحقّق الكركي عن رسالته قائلاً : «ما زلنا نسمع من كثير ممّن عاصرناهم لا سيّما شيخنا الأعظم الشيخ عليّ بن هلال رحمه‌الله أنّه لا يجوز لمن عليه الخراج سرقته ولا جحوده ولا منعه ولا شي‌ء منه لأنّ ذلك حقّ واجب عليه» (٣).

وتوهّم أيضاً من عبارة الدروس «ولا فرق بين قبض الجائر إيّاها أو وكيله وعدم القبض ، فلو أحاله بها وقبل الثلاثة أو وكّله في قبضها أو باعها وهي في يد البائع أو في ذمّته جاز التناول ويحرم على المالك المنع ... إلى أن قال : ولا يحلّ تناولها بغير ذلك» (٤).

وفيه : أنّ كلام المسالك مفروض في صورة استيلاء الجائر على تلك الأراضي وعدم تمكّن السلطان العادل من التصرّف فيها وأخذ ما على مستعمليها من الخراج والمقاسمة ، فإنّ هذه الأراضي ملك للمسلمين فلا بدّ لها من اجرة على مستعمليها تصرف في مصالحهم ، ولا تسقط من مستعمليها في أزمنة الغيبة ولا غيرها من أزمنة استيلاء الجائر عليها ، فلا يحلّ لأحد الاستقلال بالتصرّف فيها من دون إذن العادل أو الجائر ، ولا تناولها من دون إذن أحدهما بل يجب على مريد التناول الاستئذان فيه إمّا

__________________

(١) الكفاية : ٧٨.

(٢) المسالك ٣ : ٥٥ ـ ٥٦.

(٣) رسائل المحقّق الكركي ١ : ٢٨٥.

(٤) الدروس ٣ : ١٧٠.

٤٤٤

من العادل أو نائبه الخاصّ إن أمكن ، ومع عدم الإمكان لاستيلاء الجائر فمن الجائر لا غير ، فيكون تقدير قوله : «ولا التصرّف فيها بغير إذنه» ولا التصرّف في أموال الخراج والمقاسمة بغير إذن الجائر المفروض استيلاؤه على تلك الأراضي وعلى مستعمليها ، وعليه يحمل عبارة المحقّق في الرسالة وعبارة الدروس فإنّ قوله : «على المالك المنع» عطف على «جاز التناول» أي جاز للمشتري مثلاً تناول ما باعه السلطان المفروض استيلاؤه ، ويحرم على المالك منع المشتري عن المبيع بأن لا يدعه إليه مثلاً ، وقوله : «ولا يحلّ تناولها بغير ذلك» يعني تناول أحد هذا المال بغير إذن السلطان المفروض استيلاؤه وإعطاؤه بأحد الوجوه المذكورة من الإحالة والتوكيل والبيع ، ومرجعه إلى الاستقلال بالتصرّف فيها وتناولها بدون الاستئذان من الجائر.

وممّا يكشف عن كون عبارة المسالك منزّلة على هذا المعنى قوله ـ بعد العبارة المتقدّمة بلا فصل ـ : «وهل يتوقّف التصرّف في هذا القسم على إذن الحاكم الشرعي إذا كان متمكّناً من صرفها على وجهها بناءً على كونه نائباً عن المستحقّ ومفوّضاً إليه ما هو أعظم من ذلك؟ الظاهر ذلك وحينئذٍ فيجب عليه صرف حاصلها في مصالح المسلمين ، ومع عدم التمكّن أمرها إلى الجائر. وأمّا جواز التصرّف فيها كيف اتّفق لكلّ واحد من المسلمين فبعيد جدّاً ، بل لم أقف على قائل به ، لأنّ المسلمين بين قائل بأولويّة الجائر وتوقّف التصرّف على إذنه وبين مفوّض الأمر إلى الإمام عليه‌السلام فمع غيبته يرجع الأمر إلى نائبه ، فالتصرّف بدونهما لا دليل عليه» (١) انتهى.

فظهر من جميع ما عرفت من فتاوي الأصحاب أنّ الّذي أمضاه الشارع إنّما هو إعطاء الجائر وإذنه بالقياس إلى من يتناول أو يقبل شيئاً من الخراج أو المقاسمة أو أرضاً من الأراضي الخراجيّة لا بالقياس إلى الجائر ، فالإمضاء بالقياس إليه أيضاً ليكون إعطاؤه أو إذنه تصرّفاً مأذوناً فيه من الشارع الّذي مرجعه إلى كون سلطنته واستيلائه ممّا أمضاه الشارع أيضاً يحتاج إلى دليل ، وبدونه يحرم لكونه غصباً وتصرّفاً غير مأذون فيه.

__________________

(١) المسالك ٣ : ٥٥.

٤٤٥

وتوهّم الدلالة عليه من صحيحة الحلبي المتقدّمة في أخبار القبالة ولذا ذكر غير واحد أنّها كالصريحة في أنّ حكم تصرّف الجائر في هذه الأراضي حكم تصرّف الإمام العادل ، يدفعه بعد تسليم الدلالة أنّ أقصاها أنّه في حكمه في إفادة الجواز بالقياس إلى المتقبّل لا في جواز التقبيل بالقياس إلى السلطان.

وأمّا ما تقدّم في كلام صاحب الكفاية من استظهار جواز تصرّف العامل بالبيع من صحيح الحذّاء بقوله : «ثمّ يظهر من الحديث أنّ تصرّف العامل بالبيع جائز ...» (١) إلى آخر ما ذكره.

ففيه : منع صدق الإعانة على الإثم مع انتفاء قصدها إذا كان مقصود المشتري التوصّل إلى غرض نفسه في اشتراء الحنطة والشعير وغيرهما ، لا لأن يتوصّل البائع إلى إثم البيع مع أنّ الإعانة على الإثم على ما بيّنّاه في باب بيع العنب والخشب ممّن يعملهما خمراً وصنماً عبارة عن إيجاد مقدّمة معصية الغير ، ومقدّمة معصية الغير عبارة عمّاله أو لبدله تأثير في وجود المعصية بحيث لو لا وجودهما لم توجد المعصية ، ومفروض المقام ليس من هذا القبيل لأنّ كلّ تصرّف الجائر في هذا المال حرام أعمّ من البيع وضدّه الوجودي ، ولا اختصاص للحرمة ببيعه ، بل لو ترك البيع كان ضدّه وضدّ ضدّه حتّى إمساكه أيضاً حراماً ، فالإثم واقع منه على كلا تقديري اشتراء المشتري وتركه فلا مدخليّة لوقوع الاشتراء في وجود الإثم بحيث لولاه لم يقع نوعه المتحقّق تارةً ببيعه من غير هذا المشتري واخرى في ضمن ضدّه الوجودي أو ضدّ ضدّه وهكذا ، هذا مع العلم العادي بوقوع شخص الإثم وهو البيع منه للقطع بأنّه كان بائعاً لهذا المال إمّا من هذا المشتري أو من مشتري ، فلا تأثير لترك هذا المشتري اشتراءه في عدم وقوع هذا الشخص من الإثم منه ، ولعلّه إلى هذا يشير قول أبي عبد الله عليه‌السلام في صحيح جميل بن صالح قال : «أرادوا بيع تمر عين أبي زياد وأردت أن أشتريه فقلت : لا حتّى استأمر أبا عبد الله عليه‌السلام فسألت معاذاً أن يستأمره ، فقال : قل له : يشتره فإنّه إن لم يشتره اشتراه غيره» (٢).

__________________

(١) الكفاية : ٧٩.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢٢٠ / ١ ، ب ٥٣ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٧٥ / ١٠٩٢.

٤٤٦

وبما بيّنّاه سقط ما ذكره صاحب الكفاية أخيراً إلزاماً للقائل بالحرمة بقوله : «وإذا كان ذلك حراماً فإمّا أن يكون الواجب ضبطه وحفظه ...» إلى آخر ما ذكره ، فإنّا نقول بأنّ ذلك حرام وضبطه وحفظه أيضاً من حيث إنّه من جملة تصرّفاته باعتبار كونه غاصباً في سلطنته أيضاً حرام ، ولا نقول بأنّه يجب عليه ردّه إلى من أخذه منه ، بل نقول بأنّه يجب عليه ردّه إلى المغصوب منه حقّه وهو الإمام العادل أو نائبه الخاصّ أو العامّ.

ولا ينافي جواز الأخذ والقبول حرمة الإيجاب والإعطاء بعد ما فرض كون الأوّل تصرّفاً مأذوناً فيه من الشارع ومن له ولاية هذه التصرّفات ، والثاني تصرّفاً غير مأذون فيه بل منهيّاً عنه بالخصوص. ولا ينافيه ما قيل : من أنّ النصوص والفتاوي دلّت على كفاية إذن الجائر في حلّ الخراج وكون تصرّفه بالإعطاء والمعاوضة والإسقاط وغير ذلك نافذاً ، إذ المراد من النفوذ هو النفوذ الوضعي على معنى ترتّب الآثار الشرعيّة بالقياس إلى المتقبّل المنتقل إليه ، فلا ينافي الحرمة من جهة الغصبيّة وعدم الاستحقاق بالنسبة إلى الجائر ، كما أنّ الحرمة المذكورة لا تنافي الصحّة والنفوذ في البيع وسائر المعاوضات ، لعدم كون الحرمة باعتبار كون بيع هذا المال من حيث البيعة معصية ومبغوضة للشارع ، بل باعتبار كون أصل تصرّف الجائر بجميع وجوهه الّذي هو خارج عن ماهيّة البيع مبغوضاً له ، نظير بيع الغاصب مع لحوق إجازة المالك ، فالنهي متعلّق بالمعاملة لأمر خارج لا لنفسها ولا لجزئها ولا لشرطها ولا لوصفها اللازم ، ونحو هذا النهي لا يقتضي الفساد ، مع أنّ في النصوص ما هو كالصريح في حرمة تصرّفاته حتّى أخذه ولو بضميمة عدم القول بالفصل.

ففي صحيحة العيص في الزكاة فقال : «ما أخذ منكم بنو اميّة فاحتسبوا به ولا تعطوهم شيئاً ما استطعتم» (١) وصحيحة الشحّام «أنّ هؤلاء المصدّقين يأتوننا فيأخذون منّا الصدقة فنعطيهم إيّاها يجزئ عنّا؟ فقال : لا ، إنّما هؤلاء قوم غصبوكم أموالكم وإنّما الصدقة لأهلها» (٢) قال في المستند : «أنّ ما ذكر وإن كان في الزكاة إلّا أنّه

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٥٢ / ٣ ، ب ٢٠ أبواب المستحقّين للزكاة ، التهذيب ٤ : ٣٩ / ٩٩.

(٢) الوسائل ٩ : ٢٥٣ / ٦ ، ب ٢٠ أبواب المستحقّين للزكاة ، التهذيب ٤ : ٤٠ / ١٠١.

٤٤٧

يثبت الحكم في الخراج والمقاسمة أيضاً بعدم القول بالفصل» (١).

أقول : يمكن إثبات الحكم في الرواية الاولى بقوله عليه‌السلام : «شيئاً» بضابطة أنّ الاعتبار بعموم اللفظ لا خصوص المورد ، وفي الرواية الثانية بالتعليل بقوله : «إنّ هؤلاء وإنّما الصدقة» فيكون من منصوص العلّة المفيد للعموم.

المسألة الثالثة : هل يشترط جواز الأخذ والقبول من الجائر في أزمنة الغيبة بإذن الحاكم الشرعي حيث أمكن استئذانه لعموم ولايته على المستحقّين وعلى نحو هذه الأموال والأراضي ، لأنّه نائب عن الإمام الوليّ العامّ؟ وجهان بل قولان ، أوّلهما خيرة ثاني الشهيدين في عبارته المتقدّمة عن المسالك (٢) ومن مشايخنا من جزم بالثاني تعليلاً «بأنّ المستفاد من الأخبار الإذن العامّ من الأئمّة عليهم‌السلام بحيث لا يحتاج بعد ذلك إلى الإذن الخاصّ في الموارد الخاصّة منهم عليهم‌السلام ولا من نوّابهم» (٣).

أقول : هذا هو الأجود ، لأنّ ما صدر من الأئمّة من الإذن في الأخذ والقبول إنّما صدر على وجه الإفتاء والإذن العامّ فلا يختصّ بزمانهم ، والمفروض أنّهم عليهم‌السلام لم يعتبروا استئذانهم في الموارد الخاصّة في أزمنة حضورهم فكيف يعتبر حينئذٍ استئذان نوّابهم في أزمنة الغيبة ، فإنّ الفرع لا يزيد على الأصل.

وتوهّم : أنّ عدم اعتبارهم عليهم‌السلام استئذانهم في أزمنة حضورهم لعلّه لأنّ الغالب عليهم وعلى الشيعة في تلك الأزمنة إنّما هو التقيّة الناشئة عن استيلاء السلاطين الاموييّن والعبّاسييّن ، ولذا لم يعتبروا الرجوع إليهم واستئذانهم لمنافاته التقيّة الواجبة عليهم وعلى أصحابهم.

يدفعه : أنّ التقيّة إنّما تمنع الرجوع إليهم في العلانية لا في السرّ ، وقد كان أصحابهم يرجعون إليهم سواء فيما هو أعظم من ذلك مع إمكان بيان الحكم ولو لبعض الخواصّ ، مع أنّ الأحكام المبتنية على التقيّة مخصوصة بمواردها ولا تعمّ موارد انتفائها وهو نادرة.

نعم لو قيل بأنّ الإذن الصادر منهم عليهم‌السلام في الأخذ والقبول من الجائر في موارد النصوص المتقدّمة كانت على وجه الإمامة اتّجه القول بالرجوع إليهم أو إلى نوّابهم في

__________________

(١) المستند ١٤ : ٢٠٥.

(٢) المسالك ٣ : ٥٥.

(٣) المكاسب ١ : ٢٢٣.

٤٤٨

الموارد الخاصّة ، غير أنّك قد عرفت سابقاً أنّ النصوص الواردة فيه ظاهرة في الفتوى ، مع أنّ الأصل في تصرّفات المعصوم كونها على وجه الفتوى والحكم العامّ.

نعم إنّما يتّجه الاشتراط حيث وجب على مستعملي الأراضي دفع الخراج والمقاسمة إلى الحاكم الشرعي لتمكينه من أخذهما والتصرّف فيهما وصرفهما إلى وجوههما ، وحرم دفعهما إلى الجائر لتمكّنهم من عدم الدفع إن قلنا به ، فإنّ هذه المسألة أيضاً خلافيّة ولهم فيها قولان :

أحدهما : وجوب دفعهما إلى الجائر مطلقاً ولو مع التمكّن من منعهما عنه ، ودفعهما إلى الحاكم الشرعي حيث تمكّن من الأخذ والتصرّف والصرف في وجوههما نسب ذلك إلى جماعة (١) أطلقوا الحكم الشرعي بحرمة سرقتهما وجحدهما ومنعهما منه والتصرّف فيهما بدون إذنه ، ومنهم كثير من معاصري المحقّق الكركي على ما تقدّم ، وعن الكفاية «عن بعض الأصحاب الاتّفاق عليه» (٢).

وثانيهما : حرمة الدفع إليه مع التمكّن من عدم الدفع ، كما عن جماعة من أصحابنا لقولهم بعدم براءة الذمّة بالدفع اختياراً ، ومقتضاه عدم جوازه مع التمكّن ، وعن الفاضل القطيفي (٣) التصريح بذلك. وفي المستند «بل ظاهره دعوى الضرورة الدينيّة على العدم. ثمّ قال : ولا يخفى أنّ ذلك مقتضى الأصل لأنّهما كالزكاة حقّ لجماعة خاصّة ليس الجائر منهم ولا قيّماً عليهم ، فالأصل عدم جواز دفع حصّتهم إليهم ـ سيّما مع ما هم عليه من الفسق الواضح ـ ما دام يتمكّن من عدم الدفع ... إلى أن قال : فوجوب منعها عن الجائر مع التمكّن أظهر» (٤) انتهى.

وجزم به شيخنا في الجواهر (٥). وهو الصحيح والمعتمد ، لأصالة عدم جواز دفع الحقّ إلى غير مستحقّه ولا إلى من لا ولاية على مستحقّه اختياراً ، ولصحيحي العيص والشحّام المتقدّمين بعد حمل مطلقهما على مقيّدهما ، فعدم الإجزاء في الثاني محمول

__________________

(١) كما في المسالك ١ : ١٥٥ ، جامع المقاصد ٧ : ١١ ، الرياض ٨ : ١١٨ ، رسائل المحقّق الكركي ١ : ٢٧٤.

(٢) كفاية الأحكام : ٨٠.

(٣) كلمات المحقّقين : ٣٠٧.

(٤) المستند ١٤ : ٢٠٢.

(٥) الجواهر ٢٢ : ١٩٥.

٤٤٩

على الدفع اختياراً. ومن ذلك ظهر أنّ الدفع إلى الجائر مع التمكّن من عدمه كما أنّه يحرم كذلك لا يجزئ ولا يوجب براءة الذمّة ، وإذا حرم دفعهما إلى الجائر مع التمكّن وجب دفعهما إلى من له الولاية الشرعيّة على المستحقّين وهو الفقيه الجامع للشرائط ، إذ لا ولاية لغيره عليهم في أزمنة الغيبة ، كيف وأنّ الأصل فيهما في أزمنة الحضور وجوب دفعهما إلى السلطان العادل مع الإمكان ، فتعيّن في أزمنة الغيبة دفعهما إلى نوّابه لعموم ولايتهم من مقتضى النيابة. ولذا ذكر المحقّق الكركي في الرسالة على ما حكي :

«فإن قلت : فهل يجوز أن يتولّى من له النيابة حال الغيبة ذلك أعني الفقيه الجامع للشرائط؟.

قلنا : لا نعرف للأصحاب في ذلك تصريحاً لكن من جوّز للفقهاء حال الغيبة تولّي استيفاء الحدود وغير ذلك من توابع منصب الإمامة ينبغي له تجويز ذلك بطريق أولى ، لا سيّما والمستحقّون لذلك موجودون في كلّ عصر ، ومن تأمّل في أقوال كبراء علمائنا الماضين ـ مثل علم الهدى ، وعلم المحقّقين نصير الملّة والدين ، وبحر العلوم جمال الدين العلّامة رحمهم‌الله وغيرهم ـ نظر متأمّل منصف لم يشكّ في أنّهم يسلكون هذا المسلك ، وما كانوا يودعون في كتبهم إلّا ما يعتقدون صحّته» (١) انتهى. هذا في الخراج والمقاسمة.

وأمّا الزكوات فالظاهر مع إمكان منعها عن الجائر عدم وجوب دفعها إلى الفقيه بل غايته كونه أفضل ، كما قرّر في باب الزكاة لجواز دفعها للمالك إلى المستحقّين ، ولعلّه إلى ذلك أو ما يقرب منه ينظر ما روي من أنّ عليّ بن يقطين قال له الإمام عليه‌السلام : «إن كنت ولا بدّ فاعلاً فاتّق أموال الشيعة ، وأنّه كان يجبيها من الشيعة علانية ويردّها عليهم سرّاً» (٢) بناءً على أنّ المراد من أموال الشيعة المأمور باتّقائها زكاتهم ، فيكون المراد من ردّها عليهم سرّاً ردّها على مالكيها ليدفعوها بأنفسهم إلى مستحقّيها ، ويحتمل بعيداً أن يكون المراد من الردّ عليهم دفعها إلى مستحقّي الشيعة ، كأن يباشره ابن يقطين بإذن الإمام نيابةً عن المالكين المأخوذ منهم ظلماً. وأمّا احتمال أن يراد منها مع الزكوات

__________________

(١) رسائل المحقّق الكركي ١ : ٢٧٤.

(٢) الوسائل ١٧ : ١٩٣ / ٨ ، ب ٤٦ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٣٥ / ٩٢٧.

٤٥٠

وجوه الخراج والمقاسمات فبعيد جدّاً ، لأنّ الخراج والمقاسمة لا يردّان ثانياً إلى مالكيهما ، إذ لا ولاية لهم في الصرف إلّا أن يكون ممّا اخذ منهم بهذين الاسمين ظلماً لا على وجه الاجرة على الأراضي الخراجيّة كما لو اخذ على الأملاك الخاصّة عن مالكها فليتدبّر.

المسألة الرابعة : فيما يعتبر وما لا يعتبر في الجائر وهي امور :

الأوّل : يعتبر فيه لنفوذ إذنه وتصرّفاته وتأثيرهما في حلّ ما يؤخذ منه أو من عمّاله الاستقلال ، على معنى كونه سلطاناً مستقلّاً مذكوراً في عداد السلاطين المعروفين ، فمن تغلّب وتسلّط على قرية أو بلدة خروجاً على سلطان الوقت فأخذ من أهلها حقوق المسلمين لا ينفذ إذنه وتصرّفه في حلّ ما يؤخذ منه أو يقبل ، بل يجب في نحو ذلك استئذان من له الولاية الشرعيّة لأصالة المنع وعدم نفوذ التصرّفات إلّا ما خرج بالدليل واقتصاراً في الحكم المخالف للأصل على موضع اليقين من النصّ والفتوى ، ونحن نقطع بعدم اندراج نحو هذا المتغلّب في مورد نصوص الباب ولا في معقد الإجماعات وفتاوى الأصحاب فيبقى تحت الأصل.

الثاني : عموم الرئاسة والسلطنة بأن يكون سلطاناً على إقليم أو مملكة واسعة ، فلا ينفذ إذن من اختصّ سلطنته ببلدة واحدة وتوابعها ، كما في بلاد الأفاغنة وحدود التركمانيّة لو وجد فيها أرض خراجيّة يضرب عليها الخراج والمقاسمة ، لما ذكر من الاقتصار فيما خالف الأصل والقاعدة على موضع اليقين من النصّ والإجماع ، فلا بدّ في نحو ذلك من الرجوع إلى من له الولاية الشرعيّة.

الثالث : استيلاؤه وشمول سلطنته ، فلو فرضت أرض خراجيّة خارجة عن تحت يده لقصور يده عنها لبعدها عن مملكته ، أو لوقوعها على الحدّ بينه وبين سلطان آخر وأهلها لا يطيعونهما ، أو لخروج أهلها عن طاعته بعد ما كانوا من قسم رعيّته ، فلا يجري فيها حكم نفوذ إذنه ومضيّ أمره ، لعدم جريان حكمه في سلطانه عليها ، بل يعتبر استئذان الحاكم الشرعي ، لما عرفت من الاقتصار خصوصاً مع ملاحظة ما تقدّم من إناطة الحكم في فتاوي الأصحاب باستيلاء الجائر.

الرابع : لا يعتبر في نفوذ إذنه وتصرّفه كونه معتقداً في نفسه الاستحقاق لأخذ

٤٥١

الخراج والمقاسمة والتصرّف في الأراضي الخراجيّة ، بل لو اعتقد في نفسه الغاصبيّة وعدم الاستحقاق كفى إذنه وأخذه في حلّ ما يؤخذ منه مجّاناً أو معاوضة ، عملاً بإطلاق النصّ والفتوى. فما يتراءى في بعض العبارات كعبارة المسالك (١) وتبعه شيخنا (٢) قدس‌سره من إناطة الحكم باعتقاده الاستحقاق وكونه مستحلّاً ، فلم نقف له على وجه يعتمد عليه ، خصوصاً وأنّ مورد الأخبار المتكفّلة لبيان نفوذ إذن الجائر ومضيّ تصرّفه أخذاً وإعطاءً المسئول عنه للأئمّة عليهم‌السلام إنّما هو سلاطين الاموييّن والعبّاسييّن ، وهم وإن كانوا في الظاهر يدّعون الخلافة وإمرة المسلمين. ويسمّون أنفسهم بأمير المؤمنين غير أنّ كلّهم أو جلّهم كانوا مذعنين في الباطن ببطلان دعواهم وعدم استحقاقهم وغاصبيّتهم ، وكون منصب الخلافة والإمامة لأهل بيت العصمة على ما علم من تتبّع السير والأخبار ، ولقد أجاد الشيخ الحائري في تعميمه عند تفسيره الجائر لكونه مستحلّاً وعدمه على ما حكي كما تسمع.

الخامس : الإسلام ، والظاهر اعتباره في نفوذ إذنه وتصرّفاته أخذاً وإعطاءً ، فلو اتّفق أرض خراجيّة تحت يد سلطان كافر من سلاطين الكفر كالروس والافرنج يعتبر في حلّ ما يؤخذ منه من الخراج والمقاسمة ويتقبّل من عين الأرض استئذان الحاكم الشرعي.

وتوهّم العموم من قوله عليه‌السلام : «إنّما هؤلاء قوم غصبوكم أموالكم» يدفعه أنّه عامّ في مورده ، وهو براءة ذمّة من عليه الحقّ لو أعطاه الجائر مجبوراً ومقهوراً عليه لا اختياراً ، وعدم براءته لو أعطاه اختياراً ، وكلامنا في مورد الإذن الحاصل من الأئمّة عليهم‌السلام وإمضاء الشارع لإذن الجائر ونفوذها في حلّ ما يؤخذ وينقل منه ، ولو فرض في بعض نصوص ذلك إطلاق فهو منصرف قطعاً إلى ما هو الغالب في مواردها من كون السلطان من المسلمين لا غير.

السادس : المخالفة أعني كونه من المخالفين قبالاً للسلطان المؤمن الإمامي ، ففي اعتباره والعدم على معنى اختصاص نفوذ إذن الجائر وسقوط اعتبار إذن الحاكم الشرعي بالمخالف للحقّ ، أو عمومه للموافق أيضاً كسلطان الشيعة ، خلاف على قولين :

__________________

(١) المسالك ٣ : ٥٦.

(٢) المكاسب ١ : ٢٢٥.

٤٥٢

أوّلهما : للمسالك (١) وإيضاح (٢) النافع والرياض (٣) والمستند (٤) وشيخنا (٥) في مكاسبه ، حتّى أنّ المحكيّ عن إيضاح النافع تفسير الجائر بمن تقدّم على أمير المؤمنين واقتفى أثر الثلاثة وإن كان لا يخلو عن اختلال لعدم التقدّم على أمير المؤمنين عليه‌السلام في جميع المخالفين ، وإن ادّعى كلّهم إمرة المؤمنين واقتفوا أثر الثلاثة ، بل المدّعي للتقدّم عليه إنّما هم الثلاثة ومعاوية وبعض الامويّة أو كلّهم لا العبّاسيّة ، فيلزم التفسير بالأخصّ إلّا أنّ الواو في عطف اقتفاء الثلاثة بمعنى أو.

وثانيهما : ما اختاره شيخنا الآخر في جواهره (٦) تبعاً لُاستاذه في شرح (٧) القواعد حاكياً لعبارته في تفسير الجائر بالمتغلّب بجنوده وأتباعه ذا طبل أو جمعة أو عيد أو لا ، فرعاً أو أصيلاً مؤمناً أو مخالفاً مستحلّاً أو لا.

مستند القول الأوّل الأصل المتقدّم ذكره الّذي قرّره في المسالك بأصالة المنع إلّا ما أخرجه الدليل ، قال : «وتناوله للمخالف متحقّق ، والمسئول عنه للأئمّة إنّما كان مخالفاً فيبقى الباقي وإن وجد مطلق ، فالقرائن دالّة على إرادة المخالف منه التفاتاً إلى الواقع أو الغالب» (٨).

ومستند الآخرين على ما أشار إليه في المسالك إطلاق النصّ والفتوى ، وعن شرح القواعد الاحتجاج بالعموم في الروايات وأكثر العبارات وبعض منقول الإجماعات. ويزيّفه أنّه لم نقف في روايات المسألة ما يوهم الإطلاق إلّا صحيحة الحلبي المتقدّمة «لا بأس بأن يتقبّل الرجل الأرض وأهلها من السلطان» (٩) وصحيحة محمّد بن مسلم «كلّ أرض دفعها إليك سلطان فعليك فيما أخرجه منها الّذي قاطعك عليه» (١٠).

ويدفعه : الانصراف إلى المعهود في أزمنة الصدور وليس إلّا المخالفين ، مع إمكان دعوى الورود مورد بيان حكم آخر كجواز إدخال أهل الأرض الخراجيّة معها في تقبّل

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٤٤.

(٢) نقله عنه في مفتاح الكرامة ١٣ : ٩١.

(٣) الرياض ٨ : ١٩٥.

(٤) المستند ١٤ : ٢٠٤.

(٥) المكاسب ١ : ٢٢٧.

(٦) الجواهر ٢٢ : ١٩١. (٧) شرح القواعد ١ : ٨١. (٨) المسالك ٣ : ١٤٤.

(٩) الوسائل ١٩ : ٤٢ / ٨ ، ب ٨ أحكام المزارعة.

(١٠) الوسائل ٩ : ١٨٨ / ١ ، ب ٧ أبواب زكاة الغلّات ، التهذيب ٤ : ٣٦ / ٩٣.

٤٥٣

الأرض في الصحيحة الاولى ، دفعاً لتوهّم حرمة ذلك واشتغال الذمّة بما قاطعه عليه السلطان دفعاً لتوهّم عدم إفادة دفع الجائر له ، فلا يلزم بإرادة المقيّد من المطلق منافاة حكمة ولا إغراء بجهل من جهة السكوت عن بيان القيد لعدم كون الخطاب مسوقاً لبيان أصل جواز التقبيل من السلطان.

وممّا بيّنّاه ظهر ما في دعوى العموم في الروايات لمنع الظهور في العموم إن اريد به العموم الإطلاقي في نحو ما ذكر ، ومنع وجود لفظ عامّ إن اريد به غير ما ذكر.

نعم قد تقدّم في صحيحة الشحّام قوله عليه‌السلام : «إنّما هؤلاء قوم غصبوكم أموالكم ، وإنّما الزكاة لأهلها» وهذا يفيد إناطة بوصف الغاصبيّة ، والوصف عامّ لسلاطين الشيعة أيضاً فيعمّ الحكم على حدّ عموم العلّة المنصوصة ، ولكن يخدشه أنّه عامّ في مورده وهو الإجزاء وعدم الإجزاء فيما يدفع اختياراً أو إجباره إلى الجائر وعمّاله من الزكاة ، وكلامنا في مسألة حلّ ما يؤخذ من الجائر من مال الخراج والمقاسمة وحلّ التصرّف فيما يقبله من الأرض الخراجيّة ، ولذا لم يتمسّك أحد في هذه المسألة بهذه الرواية ، مع أنّ سلطان الشيعة لا يدخل في موردها من جهة ، لأنّ أخذ صدقات الناس وزكواتهم قهراً عليهم من رسوم المخالفين لا سلاطين الشيعة. وبملاحظة جميع ما ذكر في تزييف دعوى الإطلاق أو العموم في الروايات يتوهّن إطلاق الفتاوى ومعاقد الإجماعات.

لا يقال : قضيّة لزوم الحرج العظيم والعسر الشديد من عدم حلّ الأخذ ممّا يأخذه الجائر باسم الخراج والمقاسمة كما تمسّك به جماعة في أصل المسألة عدم الفرق بين المخالف والمؤالف ، لاختلال كبرى هذه القاعدة ، ومنع صغراها :

أمّا الأوّل : فلعدم انحصار ما في يد السلطان الموافق وعمّاله على ما نشاهده فيما يأخذونه من الخراج والمقاسمة على الأراضي الخراجيّة لو فرض عندهم أرض خراجيّة ، بل لا يميّزون بينها وبين سائر الأراضي ، فيضربون الخراج والمقاسمة على الأملاك الخاصّة الّتي في يد مالكيها ، وعلى الأملاك المغصوبة الّتي في أيديهم مع معلوميّة مالكيها تفصيلاً أو إجمالاً ، وعلى الأملاك الموقوفة ، وعلى الأملاك المجهولة المالك المعدودة من الأنفال. ولا ريب أنّ الأراضي الخراجيّة في جنبها مستهلكة ، وهم مع هذه الأموال يأخذون العشور من الناس ويأخذون منهم سائر الأموال ظلماً ، وهم

٤٥٤

يعاملون الناس بجميع هذه الأموال عطيّة أو معاوضة ، فوجب استباحة الجميع دفعاً للحرج ولم يقل به أحد ، مع وضوح بطلانه بحكم الأدلّة القطعيّة والقواعد المحكّمة المتقنة بل الضرورة الدينيّة.

وأمّا الثاني : فلمنع لزوم الحرج في التجنّب عمّا يأخذونه في الأراضي الخراجيّة باسم الخراج والمقاسمة ، ولو اضطرّ أحد إلى أخذ شي‌ء من ذلك أمكن التوصّل إلى حلّه باستئذان الحاكم الشرعي ، فقاعدة نفي الحرج غير وافية بالمدّعى أصلاً ، حتّى أنّه فيما يؤخذ من الجائر المخالف لو لا النصوص الخاصّة والإجماعات المنقولة لم يمكن إثبات الحكم المخالف للأصل والقاعدة بهذه القاعدة المدخولة هنا في كلّ من صغراها وكبراها.

وقد تقدّم في فروع جوائز الظلمة ما يبيّن أحكام ما عدا الخراج والمقاسمة المأخوذين على الأراضي الخراجيّة من الأموال الواقعة في أيدي سلاطين الشيعة وعمّالهم من الوجوه المذكورة وغيرها ، ثمّ يقع منها في يد إنسان آخر جائزة وعطيّة أو غيرها فإنّه لا يخلو عن أحد الأقسام المتقدّمة في باب الجوائز ، وقد عرفت أحكام الجميع فلا بدّ من إجراء هذه الأحكام هنا.

المسألة الخامسة : لا يعتبر في حلّ الخراج والمقاسمة المأخوذين من الجائر أن يكون المأخوذ منه الّذي أخذ منه الجائر أو عمّاله ممّن يعتقد في الجائر استحقاقه للأخذ منه ، ككونه مخالفاً يعتقد في سلطانهم ولاية الأمر ، بل لو كان مؤمناً شيعيّاً أو كافراً لا يعتقد ذلك في سلاطين الإسلام ، لإطلاق الفتاوى ومعاقد الإجماعات وإطلاق جملة من النصوص المتقدّمة ، وخصوص صحيحة الحذّاء الظاهرة في كون موردها المؤمن الغير المعتقد للاستحقاق في سلاطين المخالفين ، وظهور مورد صحيحة إسماعيل بن الفضل المتقدّمة في أخبار القبالة في الاختصاص بالكافر الذمّي حيث سئل فيه عن الرجل يتقبّل بخراج الرجال وجزية رءوسهم وخراج النخل والشجر والآجام والمصائد والسمك والطير فلا يختصّ حلّ الأخذ بكون المأخوذ منه كالآخذ من المخالفين وفاقاً لشيخنا قدس‌سره قائلاً : «والأقوى أنّ المسألة أعمّ من ذلك وأنّ الممضى فيما نحن فيه تصرّف الجائر في تلك الأراضي مطلقاً» (١).

__________________

(١) المكاسب ١ : ٢٢٣.

٤٥٥

المسألة السادسة : هل يعتبر في حلّ أخذ شي‌ء من الخراج أو المقاسمة أو الزكاة من الجائر مجّاناً كون الآخذ من أهل استحقاق ما يأخذه من المال ، بأن يكون ممّن له مدخليّة في مصالح المسلمين الّتي يصرف فيها بيت المال الّذي منه الخراج والمقاسمة ، أو يكون في الزكاة من أصناف مستحقّيها ككونه فقيراً أو مسكيناً أو غارماً ونحوه أو لا يعتبر ذلك؟ خلاف. وإنّما قيّدنا عنوان المسألة بالأخذ المجّاني احترازاً عن الاشتراء وغيره ممّا يدخل في المعاوضة حتّى تقبيل الأرض الخراجيّة في مقابلة إقطاعها ، إذ لا يعتبر في المشتري وغيره ممّن يدفع العوض وجود صفة الاستحقاق قولاً واحداً ، ووجهه واضح من حيث وقوع العوض المدفوع إلى الجائر للمستحقّين فلم يكن أخذه المال أخذ الحقّ الغير من غير استحقاق.

وعبارات المتعرّضين للمسألة في محلّ الخلاف مختلفة ، فمنهم من يظهر منه المصير إلى الاشتراط كثاني الشهيدين في المسالك قائلاً ـ في بيان شروط جواز أخذ الزكاة من الجائر ـ : «وأن يكون صرفه لها على وجهها المعتبر عندهم بحيث لا يعدّ عندهم غاصباً ، إذ يمتنع الأخذ منه عندهم أيضاً. ويحتمل الجواز مطلقاً نظراً إلى إطلاق النصّ والفتوى ، ويجي‌ء مثله في المقاسمة والخراج لأنّ مصرفهما بيت المال وله أرباب مخصوصون عندهم أيضاً» (١) انتهى.

ومن مشايخنا من جزم بعدم الاشتراط قائلاً في ردّ الكركي في توقّفه : «لا مجال للتوقّف بعد ما عرفت من إطلاق النصّ والفتوى بالإذن الموافق لسهولة الملّة ورفع الحرج عن الشيعة الّذين لهم المهنأ وعليه الوزر» (٢) انتهى.

ويظهر من الكركي في عبارته المحكيّة عن الرسالة الميل إلى التوقّف حيث قال : «هل يكون الأخذ حلالاً مطلقاً حتّى لمن لم يكن مستحقّاً للزكاة ولا ذا نصيب في بيت المال حين وجود الإمام ، أو إنّما يكون حلالاً بشرط الاستحقاق حتّى أنّ غير المستحقّ يجب عليه صرف ذلك إلى مستحقّه؟ إطلاق الأخبار وكلام الأصحاب يقتضي الأوّل ، وتعليلهم بأنّ للآخذ نصيباً في بيت المال وأنّ هذا حقّ الله مشعر بالثاني وللتوقّف فيه

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٤٣.

(٢) الجواهر ٢٢ : ١٩٣.

٤٥٦

مجال» (١) انتهى.

ومن مشايخنا من استشكل في المسألة من غير أن يرجّح شيئاً في الخراج والمقاسمة ، ثمّ قال : «أشكل من ذلك تحليل الزكاة المأخوذة منه لكلّ أحد كما هو ظاهر إطلاقهم القول بحلّ اتّهاب ما يؤخذ باسم الزكاة» انتهى.

وقد ظهر أنّ مستند المطلقين إطلاق النصّ والفتوى كما أشار إليه في المسالك والرسالة. ويشكل بعدم الوقوف في روايات المسألة بنصّ وارد في خصوص الأخذ المجّاني وكان مطلقاً حتّى يتمسّك بإطلاقه. والأخبار المتقدّمة منها ما كان مختصّاً باشتراء الإبل والغنم من الصدقة من السلطان أو من عامله ، ومنها ما كان مختصّاً بالاشتراء من العامل ، ومنها ما كان مختصّاً بتقبّل الأرض الخراجيّة وجزية رءوس أهلها.

نعم ربّما يتوهّم الإطلاق من رواية أبي بكر الحضرمي في قضيّة ابن أبي سمّاك بالنسبة إلى شباب الشيعة لأنّهم أعمّ من كونهم ذوي حصص من بيت الله. ويشكل بقوّة احتمال كونهم ذوي حصص ويقوّيه ما في ذيله بالنسبة إلى الراوي من قوله عليه‌السلام : «أما علم أنّ لك في بيت المال نصيباً» (٢) مع إمكان المراد من الإخراج في الصدر إخراجهم إلى عمل يرجع إلى مصالح المسلمين ويوجب الاستحقاق من بيت المال كحفظ الثغور والحدود ومقاتلة أهل الحرب ودفع قطّاع الطرق وعمالة تعمير المساجد والربط وما أشبه ذلك ، فلا يبقى إطلاق يعتمد عليه ، فالرواية لا دلالة فيها من حيث الإطلاق على عدم الاشتراط ، كما أنّه لا دلالة فيها على الاشتراط.

فتوهّم الدلالة عليه من الذيل كما عرفته من عبارة الكركي ، واضح الدفع بأنّ غاية ما دلّ عليه الذيل هو أنّ كلّ من له نصيب في بيت المال جاز له الأخذ من الجائر ، لا أنّ كلّ من لا نصيب له لا يجوز له الأخذ. وربّما ينزّل إطلاق الأخبار على الأخبار المتقدّمة في جوائز السلطان وعمّاله ، نظراً إلى أنّ الغالب من الأموال الواقعة في أيديهم إنّما هو من الخراج والمقاسمة وليس إطلاقها بحيث يطمئنّ به النفس ويحصل به الظنّ

__________________

(١) رسائل المحقّق الكركي ١ : ٢٥٨.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢١٤ / ٦ ، ب ٥١ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٣٦ / ٩٣٣.

٤٥٧

الاطمئناني بعدم الاشتراط ، خصوصاً مع ملاحظة أنّه يتوهّن بأنّ الشهيد لم يلتفت إليه وكذلك المحقّق الكركي ، ومع ملاحظة ما قيل من أنّ تلك الأخبار واردة أيضاً في أشخاص يحتمل كونهم ذوي حصص من بيت المال. فالمسألة قويّة الإشكال جدّاً خصوصاً في الزكوات فكيف يستبيحها غير المستحقّ ، وهي بحسب أصل الشرع محرّمة عليه ، فالاحتياط فيها بعدم الأخذ من الجائر أو ردّه إلى مستحقّه على تقدير الأخذ أو استحلاله منه لا يترك.

المسألة السابعة : يشترط في جواز تناول المقاسمة أو الخراج من الجائر أو عمّاله كونهما مأخوذين على الأراضي الخراجيّة ، فلو اخذا على الأملاك الخاصّة للناس أو للإمام عليه‌السلام من غير جهة الإمامة أو على الأراضي الّتي أسلم أهلها طوعاً لا إشكال في عدم حلّ تناوله ، فلو اتّفق أنّه أخذه اختياراً أو اضطراراً كما في صورة التقيّة وجب ردّه إلى مالكه.

وفيما يأخذه على الأرض المجهول المالك باعتقاد استحقاقه لها فقال شيخنا : فيه وجهان (١).

وأمّا ما يؤخذ على الأرض الخراجيّة فهل يعتبر في حلّ تناوله كون الأرض خراجيّة بحسب الواقع ، أو يكفي فيه اعتقاد الجائر بكونها خراجيّة كما لو كانت من الأنفال؟ عندنا إشكال وإن عزي إلى المحقّق الكركي (٢) أنّه استظهر في رسالته الإطلاق من كلمات الأصحاب وإطلاق الأخبار. ولعلّ نظره في كلمات الأصحاب إلى عباراتهم لعنوان المسألة بلفظ «ما يأخذه الجائر باسم المقاسمة أو باسم الخراج أو باسم الزكاة» فإنّها مطلقة ويتأكّد إطلاقها بالتعبير باسم المقاسمة واسم الخراج واسم الزكاة ، وما في جملة من كتب العلّامة من التعبير بـ «ما يأخذه الجائر لشبهة المقاسمة أو لشبهة الخراج» فإنّ الشبهة إنّما يكون عند اعتقاد الخلاف.

ولكنّها معارضة بجملة كثيرة من عبائرهم في تضاعف المسألة كما تقدّم عن الشهيدين ومعاصري الكركي وغيرهم من التصريح بمنع سرقته وخيانته وجحوده ومنعه ، مع التعليل بأنّه حقّ واجب لله عليه ، وفي بعضها التصريح بكون الأراضي الخراجيّة

__________________

(١) المكاسب ١ : ٢٢٦.

(٢) رسائل المحقّق الكركي ١ : ٢٨٣.

٤٥٨

ملكاً للمسلمين ولا بدّ لها من اجرة تصرف في مصالحهم ، فإنّها يقتضي الاختصاص إذ لا اجرة ولا حقّ لغير الأراضي الخراجيّة حتّى ما يكون من الأنفال ، لأنّ الأئمّة عليهم‌السلام أباحوها للشيعة ، نعم لو كان مستعملوها من غير الشيعة أمكن تعلّق اجرة بها للشيعة.

وبالجملة عبارات الأصحاب مختلفة مضطربة. وأمّا إطلاق الأخبار فهو في بعضها غير بعيد ، إلّا أنّ المسألة مع هذا محلّ إشكال ، وللتوقّف فيها مجال وطريق الاحتياط واضح.

المسألة الثامنة : يشترط في كون الأرض خراجيّة بحيث يترتّب على ما يؤخذ من الجائر فيها ما تقدّم من أحكام الخراج وما يأتي منها امور :

الأوّل : كونها مفتوحة عنوة أو صلحاً على أن يكون الأرض للمسلمين ، وتوضيح المقام أنّ الأراضي على ما ذكره الأصحاب في كتاب الجهاد أربعة أقسام يختلف أحكامها ، وهي ـ على ما لخّصه في مفتاح الكرامة ـ «أرض أسلم عليها أهلها طوعاً ، وأرض صولح عليها أهلها ، وأرض الأنفال ، وأرض فتحت عنوة ، قال كما في المقنعة (١) والنهاية (٢) والمبسوط (٣) والمراسم (٤) والوسيلة (٥) والغنية (٦) والسرائر (٧) والشرائع (٨) والنافع (٩) والتذكرة (١٠) والتحرير (١١) وغيرها (١٢) ذكروا الضروب الأربعة وذكروا أحكامها ، وكثير منهم عيّن أشخاصها ونحن نجري على هذا المنوال على سبيل الإجمال فنقول :

الضرب الأوّل : أرض أسلم عليها أهلها طوعاً ، فهذه ملك لأهلها يصحّ لهم التصرّف فيها بسائر أنواع التصرّفات إذا عمّروها وقاموا بعمارتها ، وهي أرض المدينة والطائف واليمن وبعض الديلم كما نصّ عليه جماعة (١٣) والديلم قوم من مشركي العجم ، والظاهر أنّ بلادهم طبرستان كما نقل تعيين ذلك عن الاستاد ... إلى أن قال :

الضرب الثاني : الأرض الّتي صولح عليها أهلها ، وهذا على ضربين : أحدهما : أن يكونوا صولحوا على أنّ الأرض لهم وعليهم طسقها وهي تسمّى أرض الجزية يلزمهم

__________________

(١) المقنعة : ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

(٢) النهاية : ١٩٤ ـ ١٩٦. (٣) المبسوط ١ : ٢٣٤.

(٤) المراسم : ١٤٢. (٥) الوسيلة : ١٣٢.

(٦) الغنية : ٢٠٤. (٧) السرائر ١ : ٤٧٦.

(٨) الشرائع ١ : ٣٢٢. (٩) النافع : ١١٤.

(١٠) التذكرة ٩ : ١٨٣ ـ ١٨٥.

(١١) التحرير ٤ : ٤٨١. (١٢) كإرشاد الأذهان ١ : ٣٤٧.

(١٣) كما في الدروس ٢ : ٣٩ ، والمسالك ٣ : ٥٨.

٤٥٩

ما يصالحهم الإمام عليها ويصحّ بيعها والتصرّف فيها بجميع أنواعها ، فإذا أسلموا كان حكمهم حكم من أسلم عليها أهلها طوعاً. والثاني : أن يكونوا صولحوا على أنّ الأرض للمسلمين ولهم السكنى وعلى رقابهم الجزية ، وهذه حكمها حكم الأرض المفتوحة عنوةً ، وهذه كبعض أرض خيبر.

الضرب الثالث : أرض الأنفال ، وهي أقسام الأرض الّتي انجلى أهلها عنها ، أو كانت مواتاً فأُحييت ، أو كانت آجاماً وغيرها ممّا لا يزرع فاستحدثت مزارع ، وكلّ أرض لم يوجف بخيل ولا ركاب ورءوس الجبال وبطون الأودية ، فهذه كلّها للإمام خاصّة ليس لأحد معه فيها نصيب ، ويجوز للشيعة حال الغيبة التصرّف فيها ، وليوطّن المتصرّف نفسه أنّه فيها يؤدّي طسقها إذا طلبه الإمام منه.

الضرب الرابع : الأرض الّتي فتحت عنوةً أي بالقهر والغلبة والسيف ، وهذه للمسلمين قاطبة بإجماع علمائنا قاطبة ، وقد نقل الإجماع على ذلك في الخلاف (١) والتذكرة (٢) والمنتهى (٣) كسواد العراق وبلاد خراسان والشام ومكّة المشرّفة على ما عدّه المؤرّخون كما في المسالك (٤)» انتهى (٥).

ثمّ إنّه يثبت كون الأرض مفتوحة عنوةً بالعلم العقلي وبالعلم الشرعي القائم مقامه ، ومن العلم العقلي الشياع القطعي ونقل المعتبرين من المؤرّخين حيث أفاد العلم لاتّفاقهم عليه أو لاحتفافه بقرائن الصدق ، ومن العلم الشرعي شهادة عدلين من الأحياء كانا أو من الأموات ، وإقرار ذي اليد ، وخبر الواحد المأثور عن المعصوم عليه‌السلام مع اعتضاده بما يوجب الوثوق والظنّ الاطمئناني بالصدق والصدور ، بناءً على المختار في حجّيّة أخبار الآحاد من إناطتها بالوثوق بالصدور ، وفي خبر العدل الواحد إشكال بل منع وإن أفاد الظنّ ، لعدم قيام دليل على كفايته في الموضوع وأصالة عدم حجّية الظنون المطلقة في الموضوعات الخارجيّة إلّا ما أثبته الدليل.

ومنه يعلم عدم ثبوته بالظنّ المطلق من أيّ سبب حصل كالشهرة والشياع الظنّي

__________________

(١) الخلاف ٥ : ٥٣٥ المسألة ٣٣.

(٢) التذكرة في إحياء الموات ٢ : ٤٠٢.

(٣) المنتهى في الجهاد ٢ : ٩٣٤.

(٤) المسالك ٣ : ٥٤.

(٥) مفتاح الكرامة ١٣ : ٦٥ ـ ٦٧.

٤٦٠