ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

حكم مجهول المالك.

النوع الرابع : ما علم الحرام تفصيلاً سواء كان بجملته حراماً أو كان بعضه حراماً وهو معلوم بعينه ، ولا إشكال في حرمة أخذه وحرمة التصرّف فيه على كلّ حال ، ويجب ردّه إلى مالكه إجماعاً ونصّاً خصوصاً وعموماً ، كقوله عليه‌السلام : «على اليد ما أخذت» فلو أكله أو أتلفه ضمن بدله مثلاً أو قيمة ولا يجوز إعادته إلى الظالم اختياراً فلو أعاده كذلك ضمن ، ولو أخذ منه قهراً سقط الحرمة ، وهل يضمن؟ خلاف ، فقيل بالضمان مطلقاً لعموم «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (١) نقله جماعة منهم الشهيد الثاني في المسالك ثمّ اختار قولاً بالتفصيل بقوله : «والأقوى التفصيل ، وهو أنّه إن كان قد قبضها من الظالم عالماً بكونها مغصوبة ضمن واستمرّ الضمان وإن أخذت منه قهراً ، وإن لم يعلم حالها حتّى قبضها ثمّ تبيّن كونها مغصوبة ولم يقصّر في إيصالها إلى مالكها ولا في حفظها لم يضمن ، والفرق بين الحالتين واضح ، فإنّ يده في الأوّل عادية فيستصحب حكم الضمان كما لو تلفت بغير تفريط ، وفي الثاني يد أمانة فيستصحب كما لو تلفت بغير تفريط والفرض كون الأخذ قهريّاً» (٢) انتهى.

وفي إطلاق الأمانة على الثاني منع واضح ، وعموم «على اليد ما أخذت» محكّم ، والاستصحاب فرع على وجود الحالة السابقة ، هذا مع ما اورد عليه بأنّ المعروف من المسالك وغيره في مسألة ترتّب الأيدي على مال الغير ضمان كلّ منهم ولو مع الجهل ، غاية الأمر رجوع الجاهل على العالم إذا لم يقدم على أخذه مضموناً ، ولا إشكال عندهم ظاهراً في أنّه لو استمرّ جهل القابض المتّهب إلى أن تلف في يده كان للمالك الرجوع عليه ، ولا رافع لهذا المعنى مع حصول العلم بكونه مال الغير فيستصحب الضمان لا عدمه. وذكر في المسالك «فيمن استودعه الغاصب مالاً مغصوباً أنّه لا يردّه إليه مع الإمكان ولو أخذه منه قهراً ففي الضمان نظر والّذي يقتضيه قواعد الغصب أنّ للمالك الرجوع على أيّهما شاء وإن كان قرار الضمان على الغاصب» (٣) انتهى.

__________________

(١) عوالي اللآلي ١ : ٢٢٤ / ١٠٦ ، سنن البيهقي ٦ : ٩٥.

(٢) المسالك ٣ : ١٤٢.

(٣) المسالك ٥ : ٩٩ ـ ١٠٠.

٤٢١

والظاهر أنّ مورد كلامه ما إذا أخذ الودعي المال من الغاصب جهلاً بغصبه ثمّ تبيّن له ، وهو الّذي حكم هنا بعدم الضمان لو استردّه الظالم المجيز أو تلف بغير تفريط. أقول : محصّل الإيراد أنّ المسألتين من وادٍ واحد ، فالفرق بينهما تحكّم ، إذ الجهل في القبض إن صلح رافعاً للضمان وجب كونه رافعاً في المقامين ، وإلّا لم يزل الضمان فيهما معاً.

واختار العلّامة في التذكرة تفصيلاً آخر حيث قال : «ولا يجوز له إعادتها إلى الظالم ، فإن أعادها ضمن إلّا أن يقهره الظالم على أخذها فيزول التحريم ، أمّا الضمان فإن كان قد قبضها اختياراً لم يزل عنه بأخذ الظالم لها كرهاً ، وإن كان قد قبضها مكرهاً زال الضمان أيضاً» (١) انتهى.

ولعلّ مستنده رحمه‌الله قوله عليه‌السلام : «وما استكرهوا عليه» في حديث «رفع عن امّتي تسعة» بناءً على حمله على إرادة رفع جميع الأحكام الّتي منها الضمان. وفيه منع ، لكون المرفوع في التسعة بعد صرفه عن أعيانها هو المؤاخذة خاصّة.

ومن مشايخنا من فصّل بما محصّله «أنّه إن أخذها بنيّة الردّ إلى مالكها لا ضمان عليه بالاسترداد القهري لكونه محسناً ، فيعمّه نفي السبيل على المحسنين ، وهذا حاكم على عموم على اليد. وإن أخذها لا بنيّة الردّ ضمن ، سواء كان حين القبض عالماً بغصبيّته أو جاهلاً مختاراً في قبضه أو مكرهاً كالتقيّة ، لعموم على اليد» (٢).

لا يقال : إنّ الضمان بالقبض يتبع تحريمه ولا تحريم مع الإكراه والتقيّة فلا ضمان ، لوضوح منع الملازمة فإنّ الأحكام الوضعيّة لا تناط بشرائط الأحكام التكليفيّة ولا بموانعها وروافعها إلّا على تقدير حمل حديث رفع التسعة على رفع جميع الأحكام ، وقد عرفت منعه ، ولا عموم في أدلّة التقيّة بحيث يجدي في المقام ، لأنّ وظيفة التقيّة تتأدّى بالأخذ بقصد الردّ فيكون الأخذ لا بهذا القصد محرّماً وموجباً للضمان. ومن ذلك يظهر أنّه لو سلّمنا الملازمة المذكورة نمنع ارتفاع التحريم في مطلق القبض إذ لا إكراه في القصد. وهذا التفصيل جيّد ، لأنّه أوفق بالأدلّة والقواعد فهو المختار.

وهل يجب أخذها من الظالم بنيّة الردّ إلى المالك؟ الوجه لا ، لعدم العثور على دليل

__________________

(١) التذكرة ١٢ : ١٥٢.

(٢) المكاسب ١ : ١٨٢ ـ ١٨٣.

٤٢٢

الوجوب والأصل البراءة ، وغاية ما يعطيه نيّة الردّ هو جواز الأخذ لا وجوبه ، وفتوى الأصحاب بحرمته منزّلة على ما لو أخذها للأكل والتصرّف لا للردّ ، فالوجوب يحتاج إلى الدليل.

وتوهّمه من أنّ مال المسلم محترم فيجب حفظه وطريقه هنا الأخذ من الظالم الغاصب للإيصال إلى صاحبه ، يندفع بعدم العثور على دليل عامّ يقضي بوجوب الحفظ على هذا الوجه ، ولذا لا تجد في كلامهم الإفتاء به ، بل الموجود في كلام جماعة إطلاق الإفتاء بحرمة الأخذ وعموم نفي السبيل عن المحسن ، أقصاه الجواز أو هو مع الرجحان لا الوجوب ، ثمّ إن أخذها يجب عليه ردّها على المالك فوراً ويسقط الفوريّة بإعلامه به.

وهل يعتبر في الردّ الإقباض؟ قيل : ظاهر أدلّة وجوب ردّ الأمانة وجوب الإقباض إلّا أنّه ذكر غير واحد (١) ـ كما عن التذكرة (٢) والمسالك (٣) وجامع (٤) المقاصد ـ أنّ المراد بردّ الأمانة رفع يده عنها والتخلية بينه وبينها. وهو الوجه ، لصدق الردّ بذلك عرفاً ، ولأنّ الردّ إنّما وجب من جهة حرمة حبسها عن مالكها ويرتفع ذلك بالتخلية ورفع اليد ، ولكن يعتبر كونهما على وجه وفي موضع يتمكّن المالك من القبض ، وحينئذٍ خرج آخذها عن ضمانها ، فإذا تلف فيما بينهما وقبض المالك بعد تمكّنه من القبض لا شي‌ء عليه ، هذا كلّه إذا عرف المالك.

وأمّا إن جهله فالفاضلان في الشرائع (٥) والتذكرة ٦ وجماعة ممّن تبعهما أطلقوا الحكم بأنّه تصدّق بها ، ولعلّه منزّل على صورة اليأس عن معرفة المالك حصل ابتداءً أو بالفحص ، لأنّه حكم مجهول المالك كما ذكروه فيه في مواضع كثيرة من غير خلاف يظهر ، مع كونه في عدد غير محصور ولذا قيّد الشهيد في المسالك (٧) عبارة الشرائع باليأس من معرفته ، وأفرد عنه ما لو اشتبه المالك في قوم محصورين ، وتبعه بعض مشايخنا (٨).

وعلى هذا فينبغي التكلّم في مقامين:

__________________

(١) : الكفاية ١٣٣ ، والحدائق ٢١ : ٤٢٦.

(٢ و ٦) التذكرة ٨ : ١٥٢.

(٣) المسالك ٥ : ٩٧.

(٤) جامع المقاصد ٦ : ٤٣.

(٥) الشرائع ٢ : ١٣.

(٧) المسالك ٣ : ١٤١.

(٨) المكاسب ١ : ١٨٨.

٤٢٣

المقام الأوّل : فيما لو اشتبه المالك بين جماعة محصورين ، وقد حكم فيه في المسالك بأنّه يتعيّن عليه التخلّص من مال الغير ولو بالصلح معهم ، ونحوه ما في كلام شيخنا قدس‌سره وكان إطلاقه منزّل على ما لم يدعه واحد منهم ، وحينئذٍ يجب التخلّص بإباحة أو هبة أو صلح حطيط أو صلح عوض أو توزيع بينهم برضا كلّ واحد ، مع إسقاط كلّ حقّه الاحتمالي عن الباقين أو نحو ذلك.

وأمّا لو ادّعاه بعضهم مع عدم معارض له ففي سماع قوله مطلقاً ، أو هو مع الوصف المورّث لظنّ الصدق ، أو مع البيّنة؟ وجوه : من إلحاقه بمال وجد بين جماعة فادّعاه واحد منهم ، حيث حكموا من غير خلاف بأنّه يقضى له عملاً بصحيح منصور بن حازم الوارد في «كيس يكون بين عشرة كانوا جلوساً فسألوا ألكم الكيس؟ فقالوا : كلّهم : لا ، وقال واحد منهم : هو لي ، [فلمن هو؟] فقال عليه‌السلام : هو للّذي ادّعاه» (١).

ومن إلحاقه بلقطة وصفها المدّعي بصفات خفيّة لا يطّلع عليها إلّا المالك ، بحيث أوجب ظنّ صدقه الّتي صار المشهور فيها إلى جواز دفعها إلى المدّعي ، على معنى أنّه لو تبرّع بالتسليم اعتماداً على الوصف لم يمنع ، ولو امتنع لم تجبر.

ومن عموم «البيّنة على المدّعي» وحجّيتها عموماً وكونها علماً شرعيّاً.

غير أنّ أرجح الوجوه أخيرها بل هو المتعيّن ، لبطلان الأوّلين بكون كلّ منهما قياساً ، فإنّ ما نحن فيه ليس من اللقطة موضوعاً ، لدخول الضياع في مفهومها فيحرم التعدّي إلى غيرها ، والصحيح المذكور في كيس يكون بين عشرة ، غاية ما في الباب أنّ الأصحاب تعدّوا منه إلى مطلق مال وجد بين جماعة لا يد لأحد عليه ، لا إلى غيره من مجهول المالك الّذي حصل في يد إنسان وإن لم تكن يد مالكيّة.

ومن ذلك ظهر أنّ القياس هنا مع الفارق ، لأنّ المفروض حصول الجائزة في يد المجاز ، ووجه الفرق أنّه لا معارض لدعوى المدّعي في الأصل أصلاً ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ من حصل بيده مخاطب بإيصاله إلى مالكه ، والشغل اليقيني يستدعي يقين البراءة ، ويقوم مقامه العلم الشرعي والبيّنة علم شرعي. وكون قول المدّعي بمجرّده

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٧٣ / ١ ب ١٧ من أبواب كيفيّة الحكم ، الكافي ٧ : ٤٢٢ / ٥.

٤٢٤

علماً شرعيّاً بقول مطلق أوّل المسألة ، لعدم نهوض دليل عامّ عليه.

نعم يبقى الإشكال فيما لم يكن للمدّعي بيّنة على ما ادّعاه ، وما لم يكن في الجماعة من ادّعاه ، غير أنّهم امتنعوا عن الصلح وغيره ، وأبى كلّ واحد منهم إلّا عن أنّه إن كان له المال يدفع إليه بتمامه ، وإلّا لا حقّ له حتّى يصطلحه أو يقبل بعضه ، فهل يلحقه حينئذٍ حكم مجهول المالك وهو وجوب الصدقة ، أو يسلّمه إلى الحاكم حتّى يعمل فيه بموجب تكليفه الّذي يعرفه ، أو أنّه أجبرهم على الصلح ولو امتنعوا اصطلح عنهم قهراً عليهم لأنّه وليّ الممتنع؟ احتمالات ، أسلمها أوسطها ، وكلام الأصحاب غير محرّر هنا حتّى أنّ الشهيد وغيره ممّن تعرّض للمسألة لم يتعرّضوا للصورة المفروضة.

المقام الثاني : فيما لو جهل المالك في عدد غير محصور ، وحينئذٍ دخل المال في عنوان «مجهول المالك» كما هو المصرّح به في كلام جماعة (١) فيلحقه أحكامه الّتي نتكلّم فيها هنا بالبحث في جهات :

الجهة الاولى : في أنّه هل يجب الفحص عن المالك وطلبه حيثما احتمل الوصول إليه بالفحص أو لا؟عبارات الأصحاب كروايات الباب هنا مختلفة ، ففي كلام الفاضلين في الشرائع (٢) والتذكرة (٣) ومن تبعهما الحكم بالتصدّق من غير ذكر فحص عنه.

غير أنّ المعروف في مطلق مجهول المالك المصرّح به في كلامهم في مواضع كثيرة من غير خلاف يظهر هو وجوب الفحص حيث احتمل معرفته والوصول إليه ، وبه عدّة روايات (٤) وإن اختصّ بعضها بالدين وبعضها بالعين وبعضها محتمل الأمرين ، إلّا أنّ ظاهرهم عدم الفرق في وجوب الفحص والطلب بين دين مجهول مالكه أو عين مجهول مالكها.

وفي مقابلها عدّة روايات (٥) آمرة بالتصدّق أو غيره من غير ذكر الفحص والطلب ، ومن ذلك :

__________________

(١) كما في الجواهر ٢٢ : ١٧٧.

(٢) الشرائع ٢ : ١٣.

(٣) التذكرة ١٢ : ١٥٢.

(٤) الوسائل ٢٦ : ٢٩٦ / ١ و ٢ ، ب ٦ ميراث الخنثى ، الكافي ٧ : ١٥٣ / ١ و ٢.

(٥) الوسائل ١٧ : ١٨٥ / ١ ، ب ٤٤ ما يكتسب به ، الوسائل ٢٥ : ٤٥ / ٢ ، ب ٧ أبواب اللقطة والوسائل ١٧ : ١٩٩ / ١ ، ب ٤٧ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٣١ / ٩٢٠.

٤٢٥

خبر عليّ بن أبي حمزة قال : «كان لي صديق من كتّاب بني اميّة ، فقال : استأذن لي على أبي عبد الله عليه‌السلام فاستأذنت له عليه ، فأذن له ، فلمّا أن دخل سلّم وجلس ثمّ قال : جعلت فداك إنّي كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً ، وأغمضت في مطالبه ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : لو لا أنّ بني اميّة وجدوا لهم من يكتب ويجي‌ء لهم الفي‌ء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقّنا ، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلّا ما وقع في أيديهم ، قال : فقال الفتى : جعلت فداك فهل لي مخرج منه؟ قال : إن قلت لك تفعل؟ قال : أفعل ، قال له : فأخرج ممّا كسبت في ديوانهم من عرفت منهم رددت عليه ماله ، ومن لم تعرف تصدّقت به ، وأنا أضمن لك على الله عزوجل الجنّة ، فأطرق الفتى طويلاً ثمّ قال له : لقد فعلت جعلت فداك. قال ابن أبي حمزة : فرجع الفتى معنا إلى الكوفة فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلّا خرج منه حتّى ثيابه الّتي كانت على بدنه. قال : فقسّمت له قسمة واشترينا له ثياباً وبعثنا إليه بنفقة ، قال : فما أتى عليه إلّا أشهر قلائل حتّى مرض فكنّا نعوده ، قال : فدخلت يوماً وهو في السوق ، قال : ففتح عينيه ، ثمّ قال لي : يا عليّ وفى لي والله صاحبك ، قال : ثمّ مات فتولّينا أمره فخرجت حتّى دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فلمّا نظر إليّ قال لي : يا عليّ وفينا والله لصاحبك ، قال : فقلت : صدقت جعلت فداك ، والله هكذا قال والله لي عند موته» (١).

إلّا أنّ غاية ذلك كغيره الإطلاق فيحمل هذه الأخبار المطلقة على الروايات الأوّلة المقيّدة ، باعتبار كونها آمرة بالفحص والطلب ، ولذا قيّد في المسالك (٢) عبارة الشرائع باليأس عن المالك ، وإطلاقه يتناول اليأس الابتدائي والحاصل بعد الفحص ، وظاهره يقتضي أنّ حدّ الفحص هو اليأس كما هو المصرّح به في كلام جماعة (٣) ، بل قيل هو الأصل في مجهول المالك الموافق للقاعدة ، لأنّ المال محترم وقضيّة الاحترام أن لا يتصرّف فيه إلّا بالإيصال إلى مالكه ، فإذا جهل المالك واحتمل الوصول إليه وجب الفحص إلى اليأس ، فعليه يحمل إطلاق الأخبار المطلقة ، وفي بعضها أيضاً ما يشير إليه

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٩٩ / ١ ، ب ٤٧ ما يكتسب به ، التهذيب ٢ : ١٠٠.

(٢) المسالك ٣ / ١٤١.

(٣) كما في جامع المقاصد ٤ : ٤٤.

٤٢٦

إن لم نقل بظهوره فيه كمفهوم قوله عليه‌السلام : «إذا كان كذا فبعه وتصدّق بثمنه» في خبر يونس ابن عبد الرحمن الآتي.

نعم ورد فيما أودعه اللصّ ما يقضي بتجديده بالحول ، كخبر حفص بن غياث عن الصادق عليه‌السلام «سأله رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعاً واللصّ مسلم هل يردّه عليه؟ قال : لا يردّه فإن أمكنه أن يردّه على صاحبه فعل ، وإلّا كان في يده بمنزلة اللقطة يصيبها فيعرّفها حولاً ، فإن أصاب صاحبها ردّها عليه وإلّا تصدّق بها ، فإن جاء صاحبها بعد ذلك خيّره بين الأجر والغرم ، فإن اختار الأجر فله ، وإن اختار الغرم غرم له وكان الأجر له» (١) وقد نسب إلى المشهور العمل بمضمونها.

ولكن يدفعه أنّ إجراء حكم ما أودعه اللصّ أو مطلق الوديعة المجهول مالكها في مطلق مجهول المالك يحتاج إلى دليل ، والرواية قاصرة عن إفادته ولم يظهر عامل بها فيما نحن فيه ، والمنزلة الموجودة فيها لا يتناول ما نحن فيه ، ولذا قيل : إنّ الأصحاب تعدّوا من اللصّ إلى مطلق الغاصب ولم يتعدّوا من الوديعة المجهول مالكها إلى مطلق ما يعطيه الغاصب ولو بعنوان غير الوديعة كما فيما نحن فيه ، حتّى أنّه يظهر من عبارة المسالك في اللقطة أنّه ليس من حكم مجهول المالك ، ولذا حمله على زيادة الاستظهار قائلاً : «إنّ مضمونه موافق للُاصول الشرعيّة فإنّه بعد التعريف يصير مالاً مجهول المالك ، وقد تقدّم أنّه يجوز الصدقة به عن مالكه ، ولا يقدح زيادة التعريف هنا لأنّه زيادة في الاستظهار والتفحّص من المالك» (٢) فإنّ ظاهره أنّ الفحص عن المالك يتمّ بأقلّ من تعريف السنة لأنّ حدّه اليأس وهو يحصل بأقلّ منها ، فاعتبار الزيادة في مورد الرواية زيادة في الاستظهار ، وقضيّة ذلك أنّهم لم يعملوا بالرواية في مطلق مجهول المالك ، وإن كان قد يورد على ما ذكره بمنع كون مبناها على زيادة الاستظهار لأنّ حدّ الفحص هنا إذا كان اليأس فهو قد يحصل بأقلّ من سنة وقد يحصل إلّا بأكثر منها كما أنّه قد لا يحصل إلّا بالسنة ، وعلى هذا فيمكن حملها على هذه الصورة ، على معنى أنّ

__________________

(١) الوسائل ٤٦٤٠٢٥ / ١ ، ب ١٨ أبواب اللقطة ، التهذيب ٦ : ٣٩٦ / ١١٩٢.

(٢) المسالك ٢ : ٣٠٤.

٤٢٧

الإمام عليه‌السلام علم في موردها أنّ اليأس لا يحصل إلّا بالسنة لئلّا يخالف القاعدة في مجهول المالك.

ثمّ إنّه لو احتاج الفحص إلى بذل مال كأُجرة دلّال يصيح عليها هل يجب عليه بذلها من ماله؟ إشكال : من أصالة البراءة ، ومن توقّف الواجب عليه. ولذا عن جماعة في اللقطة أنّ اجرة التعريف على الواجد ، وعن التذكرة (١) أنّه إن قصد الحفظ دائماً يرجع أمره إلى الحاكم ليبذل اجرته من بيت المال ، أو يستقرض على المالك ، أو يبيع بعضها إن رآه أصلح. وعن جامع المقاصد (٢) أنّه استوجهه ولا يبعد القول به هنا أيضاً.

الجهة الثانية : في أنّ هذا المال بعد اليأس عن مالكه هل يصير مال الإمام عليه‌السلام فيجب دفعه إليه لأنّه مالكه ، أو أنّه باقٍ على ملك مالكه المجهول ولكن ولايته إلى الحاكم لأنّه وليّ الغائب فيجب تسليمه إليه ليصنع فيه ما يراه ، أو يجب إبقائه أمانة في يده والوصيّة به عند موته ، أو أنّه يتصدّق به؟ وجوه ، أوجهها الأخير.

إلّا أنّه قد يتخيّل الأوّل استظهاراً له من خبر داود بن أبي يزيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رجل : إنّي قد أصبت مالاً ، وإنّي قد خفت فيه على نفسي ولو أصبت صاحبه دفعته إليه وتخلّصت منه قال : فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : والله إن لو أصبته كنت تدفعه إليه؟ قال : اي والله ، قال : فأنا والله ما له صاحب غيري ، قال : فاستحلفه أن يدفعه إلى من يأمره ، قال : فحلف ، فقال : فاذهب فاقسمه في إخوانك فلك الأمن ممّا خفت منه ، قال : فقسّمته بين إخواني» (٣).

وفيه منع الظهور ، لجواز كونه ممّا لا مالك له لموت مالكه ولا وارث له وقد علم به الإمام ، ولا ريب أنّ نحوه من الأنفال للإمام عليه‌السلام ولذا قال عليه‌السلام : «ما له صاحب غيري» وعلى هذا يمكن دعوى ظهوره في غير ما نحن فيه.

وقد يحتمل الثاني لما سمعت من أنّه وليّ الغائب ، فالدفع إليه أقرب طرق الإيصال ، لأنّ الإيصال إليه إيصال إلى المالك.

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٢٥٨.

(٢) جامع المقاصد ٦ : ١٦٢.

(٣) الوسائل ٢٥ : ٤٥ / ١ ، ب ٧ أبواب اللقطة ، الفقيه ٣ : ١٨٩ / ١٧.

٤٢٨

وردّ بأنّه حسن لو لا إطلاق الأمر بالتصدّق في النصوص ، فهي حاكمة على عمومات ولاية الحاكم على مال الغائب في مجهول المالك.

وتوهّم : أنّ الأمر بالتصدّق من باب إذن الإمام في أمر يرجع ولايته إليه فيكون من التصرّف بطريق الأمانة ، يدفعه : ظهور الأمر في كونه على وجه الفتوى ، فيكون حكم الله العامّ في واقعة مجهول المالك هو وجوب التصدّق على كلّ من هو بيده ، مع أنّ الأصل في تصرّفات المعصوم الدائرة بين الفتوى والإمامة ـ على ما حقّق في الاصول ـ كونها على وجه الفتوى ، لأنّها الغالب على المعصومين ، ولأنّه منصوب لتبليغ الأحكام.

نعم قد يقال : يجوز الدفع إليه من حيث ولايته على مستحقّي الصدقة ولأنّه أعرف بمواقعها ، ولكنّه لا يوجب التعيين بل أقصاه الجواز أو هو مع الرجحان.

وربّما قيل بالثالث كما عن الحلّي ناسباً للقول بالتصدّق إلى رواية أصحابنا ، ولعلّه بناءً منه على طريقته في أخبار الآحاد من عدم الحجّية ، فلا مناص من حفظ مال الغير بإبقائه أمانة والوصيّة به لئلّا يتلف ، والتصدّق تصرّف غير مأذون فيه. فيتّضح ضعفه حينئذٍ بما حقّق في الاصول ، من الحجّية عند اجتماع شرائطها خصوصاً مع انجبارها بالشهرة كما فيما نحن فيه ، فالرواية الّتي أرسلها وإن كانت مرسلة إلّا أنّها مجبورة بالشهرة فتصلح مستندة ، وضعّف أيضاً بأنّ إبقاء المال أمانة تعريض لها للتلف ولا يرضى به المالك البتّة.

وعلى هذا فتعيّن المصير إلى الرابع ، وهو المشهور ، للروايات المستفيضة الآمرة بالتصدّق الواردة في موارد مختلفة وإن اختصّ بعضها بمورد إلّا أنّه يظهر من ملاحظة المجموع أنّ هذا هو حكم مجهول المالك بعنوانه الكلّي :

منها : ما تقدّم (١) من رواية عليّ بن أبي حمزة في رجل من كتّاب بني اميّة.

وخبر إسحاق بن عمّار قال : «سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن رجل نزل في بعض بيوت مكّة فوجد فيه نحواً من سبعين درهماً مدفونة فلم تزل معه ولم يذكرها حتّى قدم الكوفة كيف يصنع؟ قال : يسأل عنها أهل المنزل لعلّهم يعرفونها قلت : فإن لم يعرفوها قال : يتصدّق بها» (٢).

__________________

(١) تقدّم في الصفحة : ٥٠٠ الرقم ١.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٤٤٨ / ٣ ، ب ٥ أبواب اللقطة ، التهذيب ٦ : ٣٩١ / ١١٧١.

٤٢٩

وخبر يونس بن عبد الرحمن قال : «سئل أبو الحسن الرضا عليه‌السلام وأنا حاضر ... إلى أن قال : فقال : رفيق كان لنا بمكّة فرحل منها إلى منزله ورحلنا إلى منازلنا فلمّا أن صرنا في الطريق أصبنا بعض متاعه معنا فأيّ شي‌ء نصنع به؟ قال : تحملونه حتّى تحملوه إلى الكوفة ، قال : لسنا نعرفه ولا نعرف بلده كيف نصنع؟ قال : إذا كان كذا فبعه وتصدّق بثمنه ، قال له : على من جعلت فداك؟ قال : على أهل الولاية» (١).

وخبر زرارة قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن اللقطة فأراني خاتماً في يده من فضّة؟ قال : إنّ هذا ممّا جاء به السيل وأنا اريد أن أتصدّق به» (٢).

وأيّدت بما ورد في تراب الصياغة من الأخبار الآمرة بالصدقة ، منها خبر عليّ بن ميمون الصائغ قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عمّا يكنس من التراب فأبيعه فما أصنع به؟ قال : تصدّق به فإمّا لك وإمّا لأهله ، قلت : فإنّ فيه ذهباً وفضّة وحديداً فبأيّ شي‌ء أبيعه؟ قال : بعه بطعام. قلت : فإن كان لي قرابة محتاج اعطيه منه؟ قال : نعم» (٣).

وبما ورد من الأمر بالتصدّق بغلّة الوقف المجهول أربابه ، وما ورد من الأمر بالصدقة بما يبقى في ذمّة الشخص الأجير استأجره ، وبأنّ التصدّق أقرب طرق الإيصال ، وبأنه إحسان على المالك ، وأنّ الإذن منه حاصل بشهادة الحال للقطع برضاه بانتفاعه بماله في الآخرة على تقدير عدم انتفاعه به في الدنيا.

وإن كان قد يزيّف هذه الثلاث بمنع كون الصدقة أقرب طرق الإيصال بل الأقرب دفعه إلى الحاكم الّذي هو وليّ الغائب ، ومنع جواز كلّ إحسان في مال الغائب ، وشهادة الحال غير مطّردة إذ بعض الناس لا يرضى بالتصدّق لعدم يأسه عن وصوله إليه ، خصوصاً إذا كان المالك مخالفاً أو ذمّيّاً لا يرضى بالتلف ولا يرضى بالتصدّق على الشيعة. فالعمدة في المقام النصّ ، ولا يمكن الإضراب عنه.

وحينئذٍ فهل التصدّق واجب على من هو في يده على التعيين أو على التخيير بينه وبين الدفع إلى الحاكم؟.

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٤٥٠ / ٢ ، ب ٧ أبواب اللقطة ، التهذيب ٦ : ٣٩٥ / ١١٨٩.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٤٥١ / ٣ ، ب ٧ أبواب اللقطة ، التهذيب ٦ : ٣٩١ / ١١٧٢.

(٣) الوسائل ١٨ : ٢٠٢ / ١ ، ب ١٦ أبواب الصرف ، التهذيب ٧ : ١١١ / ٤٧٩.

٤٣٠

قد يقال : إنّ مقتضى الجمع بين النصّ بالتصدّق وبين دليل ولاية الحاكم هو التخيير بينه وبين الدفع إلى الحاكم فلكلّ منهما الولاية على هذا المال ، وهذا في غاية الإشكال ، لظهور الأمر في تعيين التصدّق خصوصاً وأنّ الأصل فيه التعيين ـ كما حقّق في محلّه ـ إلّا أن يدفع إليه الصرف في التصدّق كسائر الوجوه الّتي له ولاية الصرف في مستحقّيها.

ومن هنا قد يقال : بأنّه يجوز الدفع إليه من حيث ولايته على مستحقّي الصدقة وكونه أعرف بمواقعها ، بل قيل بأنّه لو أراد السلامة عن الضمان على تقدير عدم إجازة المالك يسلّمه إلى الحاكم ، إذ الإيصال إليه بمنزلة الوصول إلى المالك.

وكيف كان فالظاهر أنّ ذلك هو الأفضل ، خصوصاً بملاحظة ما ذكر من أنّه أعرف بمواقع صرفها ، بل قد يقال : بأنّ الأحوط خصوصاً بملاحظة ما دلّ على أنّ مجهول المالك مال الإمام عليه‌السلام هو مراجعة الحاكم بالدفع إليه أو استيذانه ، أقول : ويتأكّد ذلك فيما لو احتمل اندراجه في عنوان ما لا مالك له لقيام احتمال موت المالك وعدم وارث له. وقد يقال : يتأكّد أيضاً في الدين المجهول مالكه ، نظراً إلى أنّ الكلّي لا يتشخّص للغريم إلّا بقبض الحاكم الّذي هو وليّه ، وإن كان ظاهر الأخبار الواردة فيه ثبوت الولاية للمديون.

ثمّ لو كان المالك معلوماً بالتفصيل ولكن تعذّر الوصول وإيصال المال إليه ، فالمصرّح به في كلام جماعة تبعاً للمحقّق في الشرائع ، كونه كصورة اليأس من معرفته فيتصدّق به مستقلاًّ ، أو بإذنه وهو أحوط. وربّما يستشمّ من بعض أخبار تراب الصياغة كون ما لو خاف من هو بيده عن الاتّهام أيضاً كذلك ، كخبر عليّ الصائغ قال : «سألته عن تراب الصواغين وإنّا نبيعه؟ قال : أما تستطيع أن تستحلّه من صاحبه؟ قال : قلت : لا ، إذا أخبرته اتّهمني ، قال : بعه ، قلت : بأيّ شي‌ء نبيعه؟ قال : بطعام ، قلت : فأيّ شي‌ء أصنع به؟ قال : تصدّق به ، إمّا لك وإمّا لأهله ، قلت : إن كان ذا قربة محتاجاً أصله؟ قال : نعم» (١).

ثمّ إنّ مستحقّ هذه الصدقة الفقراء من أهل المعرفة بلا خلاف فتوى ونصّاً. وفي جواز إعطائها الهاشمي وعدمه قولان : من أنّها صدقة مندوبة على المالك وإن وجبت

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٢٠٢ / ٢ ، ب ١٦ أبواب الصرف ، التهذيب ٦ : ٣٨٣ / ١١٣١.

٤٣١

على من هي بيده لأنّه نائب كالوصيّ والوكيل ، ومن أنّه مال تعيّن صرفه بحكم الشارع لا بأمر المالك حتّى تكون مندوبة ، مع أنّ كونها من المالك غير معلوم فلعلّها ممّن تجب عليه. والأقوى الأوّل ، ويندفع وجه الثاني بأنّ غاية ما يلزم من التعيّن بحكم الشارع كونها صدقة واجبة. ويتطرّق المنع إلى منع الهاشمي من مطلق الصدقة الواجبة ، بل غاية ما يسلّم ممنوعيّته هي الزكوات من الصدقات لا غير ، لظهور النصوص المانعة فيها ولو بحكم الانصراف العرفي ، فيجوز للمعطي إعطاء ما عداها الهاشمي وإن كره أخذه للآخذ إلّا أن يكون مضطرّاً إليه.

الجهة الثالثة : في أنّه هل يضمن المتصدّق للمالك إذا ظهر ولم يجز الصدقة مطلقاً ، أو لا يضمن مطلقاً ، أو يفصّل بين ما لو كان يده في الأخذ يد ضمان ـ كما لو أخذها بقصد المالكيّة جاهلاً فعلم أو بقصد الأكل عالماً ثمّ بدا له أن لا يأكل بل يتصدّق ـ أو يد أمانة كما لو أخذها حسبة للإيصال إلى مالكه؟ وجوه :

من أنّ الأصل براءة ذمّة المتصدّق عن العوض مثلاً أو قيمة ، مع خلوّ أخبار الباب عن الأمر بالضمان وأصالة اللزوم الصدقة بمعنى عدم انقلابها عن الوجه الّذي وقعت عليه.

ومن عموم ضمان من أتلف ، ولا ينافيه إذن الشارع في التصدّق ، لأنّه أذن فيه على وجه الضمان على تقدير عدم إجازة المالك ، كما في اللقطة المتصدّق بها مع الضمان بلا خلاف ، وكما في وديعة اللصّ أو مطلق الغاصب.

وفيه : منع صدق الإتلاف على التصدّق ، خصوصاً مع وجود العين في يد المستحقّ المجمع على عدم الرجوع عليه بل هو إحسان عليه وإيصال للنفع إليه. وإن شئت قلت : إنّ ظاهر دليل الإتلاف هو الإتلاف على المالك وهذا إتلاف له وإحسان إليه ، ولو سلّم يتطرّق المنع إلى الكبرى لأنّ مقتضى الرواية هو الضمان المستقرّ بالإتلاف ، وهو فيما نحن فيه مراعى بعدم إجازة المالك ، وهو خارج عن مؤدّى الرواية ، فلا دليل عليه إلّا أن يقال : بأنّه هنا مستقرّ أيضاً والإجازة رافعة له ، ولعلّه موضع منع كما ستعرفه. فأصالة البراءة محكّمة مطلقاً إلّا أن يتشبّث بالاستصحاب فيما لو أخذه للتملّك والتصرّف لا حسبة فإنّه لا إشكال في الضمان حين الأخذ لعموم على اليد ، فيستصحب بعد التصدّق المشكوك في كونه رافعاً له وأصالة البراءة لا تعارضه ، فيتّجه التفصيل حينئذٍ ،

٤٣٢

ويتأكّد أصالة البراءة في صورة الأخذ حسبة باستصحاب عدم الضمان إلى ما بعد التصدّق المشكوك كونه موجباً للضمان.

وربّما استوجه الضمان مطلقاً استناداً إلى عدم القول بالفصل ، أو لاستفادته من خبر وديعة اللصّ بدعوى أنّه يستفاد منه أنّ الصدقة بهذا الوجه حكم. وهو مشكل ، لعدم ثبوت الإجماع على عدم الفصل ، ولو سلّم فهو يفيد الملازمة بين شطري الإجماع المركّب في الحكم الواقعي لا الحكم الظاهري ، مع تطرّق المنع إلى استفادة الحكم المذكور من خبر الوديعة بعد البناء فيه على الاقتصار على المورد هذا. ولكنّ الأحوط هو الضمان مطلقاً.

وفي كون الضمان حينئذٍ ثابتاً بمجرّد التصدّق إن كان مدركه دليل الإتلاف غاية الأمر كون الإجازة على تقدير لحوقها رافعة ، أو يثبت بالردّ من حينه أو من حين التصدّق على معنى كونه كاشفاً لأصالة البراءة قبل الردّ ولرواية الوديعة الظاهرة في كون كلّ من الغرم والأجر من حين التصدّق متزلزلاً؟ إشكال ، وإن كان استصحاب الضمان السابق في صورة يد الضمان يقتضي الوجه الأوّل ، بل يقتضيه ممّا قبل التصدّق.

ولو مات المالك ففي قيام وارثه مقامه في الإجازة والردّ وعدمه وجهان ، أقواهما الأوّل لأنّ ذلك من قبيل الحقوق المتعلّقة بالأموال فيورث كغيره من الحقوق ، ووجه العدم لزوم التصدّق بالنسبة إلى العين فليس لأحد فيها حقّ والمتيقّن من جواز الرجوع إلى القيمة هو المالك.

ولو مات المتصدّق فردّ المالك ، فقيل : الظاهر خروج الغرامة من تركته ، لأنّه من الحقوق الماليّة اللازمة عليه بسبب فعله.

فأمّا لو دفعه إلى الحاكم فتصدّق به الحاكم ، فالظاهر عدم الضمان عليه ولا على الحاكم ، لبراءة ذمّة الأوّل بالدفع إلى وليّ الغائب وتصرّف الوليّ كتصرّف المولّى عليه ، نعم لو كان الدفع إلى الحاكم من حيث ولايته على المستحقّ وكونه أعرف بمواقع الصرف ففي ضمان الدافع احتمال غير بعيد ، لأنّ الحاكم حينئذٍ كالوكيل ، والغرامة تلزم على الموكّل ، إذ المال إذا وقع في يد الدافع كان هو المكلّف بالفحص ثمّ بالتصدّق ثمّ بالغرامة فتأمّل.

٤٣٣

تذنيب : يجوز أن يؤخذ مجّاناً أو معاوضة في عقد بيع أو صلح أو هبة من السلطان الجائر ما كان قد أخذه من الغلّات باسم المقاسمة وهي حصّة من حاصل الأرض تؤخذ عوضاً عن زراعتها ، أو من الأموال باسم الخراج وهو مقدار من المال يضرب على الأرض أو الشجر حسبما يراه الحاكم ، أو من الأنعام أو الغلّات أو الأموال باسم الزكاة ، وإن كان السلطان ظالماً في أخذه غاصباً في تصرّفه غير مستحقّ للأخذ والتصرّف.

ولعلّ النكتة في الجواز على ما ذكره الفاضل المقداد في التنقيح (١) كما حكي أنّ أخذ هذه الأموال وإن كان حقّاً للأئمّة عليهم‌السلام وقد غصبه الجائر إلّا أنّهم عليهم‌السلام أذنوا لشيعتهم في أخذها وشرائها ، فيكون تصرّف الجائر كتصرّف الفضولي إذا لحقه إجازة المالك ، وقيل : الأولى أن يقول إجازة متولّي الملك.

ودليل الجواز بعد الإجماع المستفيض نقله في كلام جماعة من أساطين الطائفة ـ كما في المسالك (٢) وعن التنقيح (٣) وجامع المقاصد (٤) وقاطعة اللجاج في حلّ الخراج (٥) وهي رسالة للمحقّق الكركي ، والمصابيح (٦) وتعليق الإرشاد (٧) وأنّه لولاه لزم العسر العظيم بل اختلال النظم ـ الأخبار المدّعى كونها متواترة كما عن جامع المقاصد (٨).

منها : الروايات المتقدّمة في مسألة أخذ الجوائز من السلطان الغير الخالية عادةً عن هذه الأموال ، وقيل : خصوصاً الجوائز العظام الّتي لا تحتمل عادةً كونها من غير الخراج.

ومنها : صحيحة أبي عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان من إبل الصدقة وغنمها وهو يعلم أنّهم يأخذون أكثر من الحقّ الّذي يجب عليهم ، فقال : ما الإبل والغنم إلّا مثل الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به حتّى يعرف الحرام بعينه ، قيل له : فما ترى في مصدّق يجيئنا فيأخذ منّا صدقات أغنامنا ، فنقول : بعناها فيبيعناها فما تقول في شرائها منه؟ فقال : إن كان قد أخذها وعزلها فلا بأس. قيل له : فما ترى في الحنطة والشعير يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظّنا ويأخذ حظّه فيعزله بكيل فما ترى في شراء ذلك الطعام منه؟ فقال : إن كان قبضه بكيل

__________________

(١) التنقيح ٢ : ١٩. (٢) المسالك ٣ : ١٤٢.

(٣) التنقيح ٢ : ١٩. (٤) جامع المقاصد ٤ : ٤٥.

(٥) قاطعة اللجاج (رسائل المحقّق الكركي) ١ : ٢٧٤.

(٦) المصابيح : ٢٦.

(٧) تعليق الإرشاد : ٩٨.

(٨) جامع المقاصد ٤ : ٤٥.

٤٣٤

وأنتم حضور ذلك فلا بأس بشرائه منه من غير كيل» (١).

وهذه الرواية واضحة الدلالة على المدّعى فتدلّ عليه في كلّ من الأسئلة الثلاث باعتبار التقرير والقول معاً ، لظهورها في عدم شبهة للسائل في جواز أصل الشراء وكون جوازه معتقداً له مفروغاً عنه عنده ، بل كانت اشتباهه لحيثيّات اخر طارئة للمورد مثل العلم بأنّ سلاطين الجور كانوا يأخذون أكثر من الحقّ الّذي كان يجب على المالك في مورد السؤال الأوّل فأجاب الإمام عليه‌السلام بما يقضي بجواز شراء ما لم يعلم حرمته بعينه ، باعتبار عدم العلم بكون المأخوذ صدقة من الزيادة على الحقّ الواجب ، ويكشف عن تقريره عليه‌السلام السائل على معتقده. ومثل كون المبيع الّذي يشتريه المالك من العامل عين ماله الّذي دفعه بعنوان الصدقة ، فأجاب الإمام عليه‌السلام بما يقضي بجواز شرائه بعد العزل والأخذ لأنّه حينئذٍ خرج عن ملكه فلا حجر في شرائه حينئذٍ ، ويكشف عن تقريره السائل على معتقده. ومثل الاكتفاء في شرائه بالكيل الأوّل من غير اعتبار كيل آخر للاشتراء ، فأجاب الإمام عليه‌السلام بما يقضي بجوازه بشرط حضور المشتري حين الكيل ، ويكشف عن تقريره على معتقده.

ونوقش في دلالتها على الإباحة بوجوه :

فأوّلاً : قوله «لا بأس به حتّى يعرف الحرام بعينه» فلم يتّضح دلالته على الإباحة لمعلوميّة حرمتها إجماعاً ، فيحتمل كونه كناية عن الحرمة ، وكان منشأ الإجمال التقيّة.

وثانياً : أنّها مختصّة بالشراء فلا تتناول غيره حتّى الأخذ مجّاناً أو هبة فليقتصر في مخالفة القواعد عليه.

وثالثاً : احتمال الشراء فيها استنقاذ الحقّ لا المعاملة الحقيقيّة ، بناءً على كون موردها صدقات المشتري خاصّة.

ورابعاً : احتمال كون المصدّق من قبل العدل لا الجائر.

وخامساً : عدم دلالتها على جواز شراء الخراج والمقاسمة ، بل غايتها الدلالة على الجواز في الزكاة.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢١٩ / ٥ ، ب ٥٢ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٧٥ / ١٠٩٤.

٤٣٥

وسادساً : احتمال كون القاسم زارع الأرض أو وكيله لا عامل الجائر.

وفي الجميع من الضعف ما لا يخفى :

أمّا الأوّل : فلعدم وضوح معنى الإجمال ، مع كون قوله عليه‌السلام : «لا بأس به» واضح الدلالة على إباحة شراء ما لم يعلم كونه من الزيادة المحرّمة ، وكون قوله عليه‌السلام : «حتّى يعرف الحرام بعينه» واضح الدلالة على حرمة الزيادة ، إلّا أن يوجّه بإرادة الإجمال في المركّب الطارئ له بملاحظة دعوى معلوميّة حرمتها إجماعاً ، بتقريب أنّ قوله : «لا بأس به حتّى يعرف الحرام بعينه» يقتضي انقسام المال المأخوذ صدقة إلى ما علم حرمته بعينه وما لم يعلم حرمته بعينه ، وهو بملاحظة معلوميّة حرمته إجماعاً لا يصلح مقسماً في هذا التقسيم ، فيتطرّق الإجمال حينئذٍ إلى المعنى المراد من قوله «لا بأس به» وقوله «حتّى يعرف الحرام بعينه» المقتضيين للانقسام. ويمكن أن يحمل قوله «لا بأس» على إرادة عدم الإباحة وإن كان غير واضح الدلالة عليه ، وهو أيضاً من الإجمال غير أنّه لا ضير فيه إذا كان منشؤه التقيّة.

ويزيّفه أنّ منشأ الإجمال المتوهّم في الحقيقة هو الّذي ادّعاه من معلوميّة حرمة الصدقة الّتي أخذها الجائر بالإجماع ، ويدفعه أنّه إن اريد من الحرمة حرمتها على الجائر فهي مسلّمة والإجماع عليه أيضاً مسلّم ، إلّا أنّ حرمتها عليه لا يلازم حرمتها على الشيعة بعد ورود الرخصة والإذن من الأئمّة عليهم‌السلام في شرائها الّتي مرجعها إلى إمضاء أخذ الجائر لها في حقّ الشيعة ، والكلام إنّما هو على هذا التقدير والرواية منزّلة على هذا المعنى فصحّ التقسيم حينئذٍ ، ويصلح الصدقة المأخوذة مقسماً فيه بالقياس إلى ما علم كونه من القدر الزائد على القدر الواجب وما لم يعلم كونه منه ، فالأوّل حرام على الجائر وعلى غيره أيضاً فلا يجوز شراؤه ، والثاني حلال على غيره وإن حرم عليه فيحلّ شراؤه ، ومعنى حلّيّته عدم المنع للشيعة من قبول هبته وقبول بيعه وغيره من المعاوضة عليه.

وإن اريد منها حرمتها على غير الجائر أيضاً حتّى الشيعة حتّى بعد إمضاء الأئمّة عليهم‌السلام أخذ الجائر في حقّهم فدعوى معلوميّتها مردودة على مدّعيها. ودعوى

٤٣٦

الإجماع على الحرمة على هذا الوجه كذب وفرية ، كيف وقد سمعت استفاضة نقل الإجماع على عدمها.

وأمّا الثاني : فلأنّ هذه الأموال إذا كانت حلالاً من قبل الأئمّة على شيعتهم على معنى جواز التصرّفات المعامليّة لهم فيها ، فلا يتفاوت فيها الحال بين الاشتراء الّذي هو قبول البيع وقبول الهبة الّتي هو الأخذ مجّاناً ، ونحوه قبول الهديّة. وربّما يستشمّ من تضاعيف عبارات الرياض (١) عدم الخلاف في عدم الفرق ، بل الإجماع على عدم الفصل ، ونحوه نقل عن المحقّق الكركي (٢).

وأمّا الثالث : فلظهور القاسم في آخذ المقاسمة للاشتراك في المبدأ ، مضافاً إلى التفكيك بين مورد السؤال الأخير وسابقه بالتعبير بالمصدّق وهو آخذ الصدقة ثمّة والقاسم هنا ، فلو كان مورده حنطة الصدقة وشعيرها كما أنّ المورد في السابق أغنام الصدقة ولذا عبّر بالمصدّق لناسب التعبير بالمصدّق أيضاً ، مع أنّ حكم الحنطة والشعير من الصدقة قد ظهر في الجملة من جواب السؤال الأوّل ، حيث قال عليه‌السلام : «ما الإبل والغنم إلّا مثل الحنطة والشعير» وغير ذلك بل دلّ ذلك على كونه معلوماً لدى السائل أيضاً ، وإذا ثبت الجواز في الحنطة والشعير من المقاسمة بالرواية يتمّ في الباقي حتّى الخراج بعدم القول بالفصل.

وأمّا الرابع : فلبعد احتمال كون المصدّق من قبل العدل ، بل ظاهر سياق الرواية كونه من قبل الجائر ، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ الأئمّة عليهم‌السلام في تلك الأعصار لم يكونوا متصرّفين لمغصوبيّة حقوقهم وكونهم في شدّة التقيّة. واحتمال كون المنصوب من قبل الجائر لتصحيح أعماله استأذن في الخفاء من العدل أيضاً في غاية البعد ، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ سلاطين الجور وولاتهم كانوا لا يستعملون غالباً إلّا أتباعهم من المخالفين والناصبين للأئمّة عليهم‌السلام ومبغضيهم.

وأمّا الخامس : فلأنّ صرف البيع والشراء المتكرّر في الرواية عن المعاملة الحقيقيّة وحملها على الاستنقاذ أبعد شي‌ء ذكر في المقام ، كيف واستنقاذ الحقّ من يد الغاصب

__________________

(١) الرياض ٨ : ١٩٩.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٤٥.

٤٣٧

لكلّ من تمكّن منه لم يحتج جوازه إلى السؤال ثمّ التكرار فيه ، والجواب بجواز أيضاً لا يقتضي التعرّض لبيان شروط المعاملة الحقيقيّة كما هو واضح.

وأمّا السادس : فلبعد احتمال إرادة الزارع أو وكيله من لفظ القاسم.

ومنها : حسنة أبي بكر الحضرمي قال : «دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام وعنده ابنه إسماعيل ، فقال : ما يمنع ابن أبي سمّاك أن يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس ، ويعطيهم ما يعطي الناس ، ثمّ قال : لِمَ تركت عطاءك؟ قلت : مخافة على ديني ، قال : ما منع ابن أبي سمّاك أن يبعث إليك بعطائك ، أما علم أنّ لك في بيت المال نصيباً» (١).

وفيها موضعان من الدلالة :

أحدهما : قوله ـ بالقياس إلى شباب الشيعة ـ : «ويعطيهم ما يعطي الناس» فإنّه يدلّ على حلّيّة ما يعطي من بيت المال اجرة ونحوها ، والغالب فيه ما يجتمع من أموال الخراج والمقاسمة. والمناقشة فيه باحتمال كون ما يعطي الشيعة لعلّه من الأموال المنذورة أو الموصى بها للشيعة أو غلّة الأملاك الموقوفة عليهم وما أشبه ذلك ، يدفعها بعد ذلك خصوصاً مع ندرة اتّفاق نحو هذه الأموال ثمّ إحرازها في بيت المال.

وثانيهما : قوله ـ بالنسبة إلى الراوي ـ : «لِمَ تركت عطاءك» ثمّ قوله : «أن يبعث إليك بعطائك» ثمّ قوله : «أما علم أنّ لك في بيت المال نصيباً» والتقريب ما عرفت.

وتوهّم والمناقشة فيه أيضاً باحتمال كون ما يعطي السائل ونصيبه من بيت المال من الزكوات المجتمعة ، وهذا أيضاً ضعيف خصوصاً مع قلّة الزكوات وندرة إحرازها فيه ، لأنّ لها أهلاً يعطون فلا تحرز في بيت المال ، مع أنّ الغالب دفع المالك إيّاه من دون إرجاعه إلى سلطان الجائر أو منصوبه.

وتوهّم أنّ قول الراوي : «مخافة على ديني» ربّما يدلّ على حرمته إذ لا جهة للمخافة على الدين بدونها ، يدفعه قوّة احتمال كون المخافة على الدين لأجل استلزام مطالبة النصيب والعطاء الركون إلى الظالم أو الحضور في مجالسه الّذي يوجب أن لا يصيبوا من دنياهم شيئاً حتّى أصابوا من دينه مثله.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢١٤ / ٦ ، ب ٥١ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٣٦ / ٩٣٣.

٤٣٨

ومنها : موثّقة إسحاق بن عمّار قال : «سألته عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم؟ قال : يشتري منه ما لم يعلم أنّه ظلم فيه أحداً» (١).

وصحيحة معاوية بن وهب قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أشتري من العامل الشي‌ء وأنّا أعلم أنّه يظلم؟ فقال : اشتر منه» (٢).

ومرسلة محمّد بن أبي حمزة عن رجل قال : «قلت لأبي عبد الله : أشتري الطعام فيجيئني من يتظلّم ويقول : ظلمني ، فقال : اشتره» (٣).

ورواية عبد الرحمن ابن أبي عبد الله قال : «سألته عن الرجل أيشتري من العامل وهو يظلم؟ فقال : يشتري منه» (٤).

وظاهر الاشتراء من العامل الاشتراء ممّا هو عامل فيه ، ولا يكون في الغالب إلّا من طعام المقاسمة أو الصدقة ، وظاهر كونه يظلم مع أنّ أصل عمله ظلم باعتبار كونه من قبل ظلمه يأخذ الزيادة على الحقّ ، فأسئلة هذه الروايات موافق لصدر صحيحة الحذّاء ، كما أنّ جواب الإمام عليه‌السلام في الموثّق يوافق جوابه في الصحيحة ، فيحمل عليه الجواب فيما عداه حملاً للمطلق على المقيّد فهي واضحة الدلالة على الحلّ ، وان كان المرسلة لا ظهور فيها في كون عنوان السؤال هو الاشتراء من العامل.

وربّما نوقش في الموثّقة باحتمال كون مراد السائل الشراء من أملاك العامل منه مع علمه بكونه ظالماً غاصباً فيكون سؤالاً عن معاملة ، ويدفعها كون الاحتمال خلاف الظاهر ، ويبعده أنّه لو كان منظوره السؤال عن معاملة الظلمة لناسب جعل عنوان السؤال هو الظالم.

ومنها : الروايات الدالّة على جواز قبالة الخراج والجزية من السلطان الّتي يستفاد من مجموعها مسلّم الجواز عندهم ، مثل صحيحة إسماعيل بن الفضل عن أبي عبد الله قال : «سألته عن رجل يتقبّل بخراج الرجال وجزية رءوسهم وخراج النخل والشجر

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢٢١ / ٢ ، ب ٣ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٧٥ / ١٠٩٣.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢١٩ / ٤ ، ب ٥٢ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٣٧. / ٩٣٨

(٣) الوسائل ١٧ : ٢١٩ / ٣ ، ب ٥٢ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٣٧ / ٩٣٧.

(٤) الوسائل ١٧ : ٢٢١ / ٣ ، ب ٥٣ ما يكتسب به ، التهذيب ٧ : ١٣٢ / ٥٨٢.

٤٣٩

والآجام والمصائد والسمك والطير ، وهو لا يدري لعلّ هذا لا يكون أبداً أو يكون أيشتريه وفي أيّ زمان يشتريه ويتقبّل؟ فقال : إذا علمت أنّ من ذلك شيئاً واحداً قد أدرك فاشتره وتقبّل» (١).

وموثّقه أيضاً عن أبي عبد الله : «في الرجل يتقبّل بجزية رءوس الجبال أو بخراج النخل والآجام والطير ، وهو لا يدري ولعلّه لا يكون ...» (٢) إلى آخر ما تقدّم في صحيحه بأدنى تفاوت. قيل : «وظاهرهما أنّ غرض السائل متعلّق بالسؤال من حيث إنّه لا يدري يكون من ذلك شي‌ء أم لا ، ولذلك لم يذكر خراج الأرض ، فكان أصل الجواز من حيث كون ذلك خراجاً أمر مسلّم عندهم» (٣).

وصحيح الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في جملة حديث قال : «لا بأس بأن يتقبّل الرجل الأرض وأهلها من السلطان ، وعن مزارعة أهل الخراج بالربع والنصف والثلث ، قال : نعم لا بأس به ، وقد قبّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيبر أعطاها اليهود حين فتحت عليه بالخُبر والخُبْر هو النصف» (٤). قيل : «وهذا كالصريح في أنّ حكم تصرّف الجائر في هذه الأراضي حكم تصرّف الإمام العادل» (٥).

وصحيح إسماعيل بن الفضل أيضاً عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : «سألته عن رجل استأجر من السلطان أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام مسمّى ، ثمّ آجرها وشرط لمن يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقلّ من ذلك أو أكثر فله ذلك؟ قال : نعم إذا حفر لهم نهراً أو عمل لهم شيئاً يعينهم بذلك فله ذلك. قال : وسألته عن رجل استأجر أرضا من أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام معلوم فيؤجرها قطعة قطعة أو جريباً جريباً بشي‌ء معلوم ، فيكون له فضل فيما استأجره من السلطان ولا ينقص منه شيئاً ، أو يؤاجر تلك الأرض قطعاً قطعاً على أن يعطيهم البذر والنفقة فيكون له في ذلك فضل على إجارته وله تربية الأرض أو ليست له؟ فقال : إذا استأجرت أرضاً فأنفقت شيئاً أو

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٣٥٥ / ٤ ، ب ١٢ عقد البيع ، الفقيه ٣ : ١٤١ / ٦٢١.

(٢) التهذيب ٧ : ١٢٤ / ٥٤٤ ، الكافي ٥ : ١٩٥ / ١٢.

(٣) الكفاية : ٧٩.

(٤) الوسائل ١٩ : ٥٩ / ٣ ، ب ١٨ أحكام المزارعة والتهذيب ٧ : ٢٠١ / ٨٨٨.

(٥) الحدائق ١٨ : ٢٥٧ ، الرياض ٨ : ١٩٩ ، الجواهر ٢٢ : ١٨٧.

٤٤٠