ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

لو بذل مالاً لمن يصلح أمره عند الأمير أو غيره ، أو لحاكم الجور لرفع ظلم ظالم عنه ، أو لرفع يد غاصبة عن عينه المغصوبة ، أو لاسترجاع حقّه أو استيفاء دينه وما أشبه. ولو اطلق الرشوة على نحو ذلك في بعض الأحيان كان مجازاً لصحّة سلب الاسم.

ولو سلّم دخوله في الاسم فلا ينبغي التأمّل في خروجه من الحكم أخذاً وإعطاءً فلا يحرم ، إمّا لعدم عموم في أدلّة تحريمها حيث يشمل المقام والإطلاق في مطلقات تلك الأدلّة منصرف إلى غير ما نحن فيه ، أو لورود التخصيص عليها من جهة الإجماع فتوى وعملاً ، وممّا ينهض للتخصيص ما في الصحيح «عن الرجل يرشو الرجل على أن يتحوّل من منزله ليسكنه ، قال : لا بأس» (١) بناءً على كون المراد من المنزل ما يكون من الأوقاف كالمدرسة والخان والرباط وما أشبه ذلك ، كما فهمه صاحب الوسائل وتبعه غير واحد من مشايخنا (٢). نعم لو كانت الغاية المقصودة من البذل محرّمة ـ كما لو أعطى حاكم الجور ليعينه على ظلمه ، أو يقرّه عليه أو على غصبه أو على خوضه في معصية أو لأن يضرب أحداً ظلماً أو يأخذ منه مالاً بغير حقّ ـ فالظاهر كونه من الرشوة المحرّمة ، لصدق الاسم عليه عرفاً. ولو سلّم صحّة سلبه فالظاهر كونه حراماً أيضاً ، لكونه من أكل المال بالباطل ، فيختصّ الحرمة حينئذٍ بالآخذ ، إلّا إذا صدق على فعل المعطي الإعانة على الإثم فيحرم عليه أيضاً ، ولكنّه غير مطّرد.

ثمّ إنّ قضيّة كون الرشوة في موضع تحريمها سحتاً عدم خروجها عن ملك المعطي بل بقاؤها في ملكه ، فيجب على الآخذ ردّها إليه إن كانت عينها باقية إجماعاً كما في المستند (٣) ولو تلفت في يده ولو من غير تفريط ففي الضمان كلام ، فمن مشايخنا (٤) من استشكله مع علم الدافع لأنّه سلّطه على إتلاف ماله فلا يستحقّ عليه عوضاً ، وفي المستند «يجب عليه ردّ عوضها مع تلفها وإن لم يكن التلف بتفريطه وجوباً فوريّاً على المصرّح به في كلام الأصحاب». وهذا منه يؤذن بالإجماع على ضمان العوض مثلاً أو قيمة ، ثمّ قال : «وهو فيما إذا كان بذلها من غير رضى الباذل وطيب نفسه ظاهر ، وأمّا لو بذلها بطيب نفسه سيّما إذا حكم له بالحقّ فإن ثبت الإجماع على ثبوت غرامتها

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢٧٨ / ٢ ، ب ٨٥ أبواب ما يكتسب به.

(٢) كالنجفي في الجواهر ٢٢ : ١٤٨.

(٣) المستند ١٧ : ٧٤ ـ ٧٥.

(٤) الجواهر ٢٢ : ١٤٩.

٤٠١

عليه وضمانه إيّاها مطلقاً وإلّا فللتأمّل فيه للأصل مجال واسع» (١).

ومن مشايخنا من فصّل بين ما لو كان مبنى بذله على المعاوضة ، كما لو بذلها على وجه الاجرة أو الجعالة أو البيع أو الصلح المحابي على معنى اعتبار كون الحكم عوضاً عنه يجب عليه الضمان ، وما لم يكن كذلك كالبذل على وجه الإعطاء المطلق أو هبة مجّانيّة أو هديّة فالوجه عدم الضمان ، لعموم القاعدة كلّما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده المختصّة بعقود المعاوضة وعكسها كلّما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده المختصّة بغير عقود المعاوضة» (٢).

أقول : هذا التفصيل جيّد إلّا أن يكون إطلاق الضمان إجماعاً وليس بثابت ، وكونها من السحت لا يلازم الضمان ، وعموم على اليد مخصوص بما لم يكن مترتّباً على التسليط المجّاني ولذا لا يضمن بالهبة الفاسدة في غير هذا المقام.

خاتمة : في أخذ الاجرة على المندوبات ، واختلف في جوازه والعدم ، فقيل بالجواز كما عن الأكثر (٣) للأصل وانتفاء المانع ، وعن بعض الأصحاب (٤) ولعلّه ابن جنيد عدم الجواز في مستحبّات تجهيز الميّت لإطلاق النهي ، وكأنّه عثر على نصّ فيه نهى عن أخذها في تجهيز الميّت متناول إطلاقه لمستحبّاته فيكون ذلك بمثابة رواية مرسلة. وقد يفصّل «بين ما كان استحبابه ذاتيّاً فلا يجوز لمنافاة الإجارة للرجحان والقربة وما كان استحبابه توصّليّاً وكان له نفع للمستأجر فيجوز للأصل» (٥) وهذا هو القول الفصل.

وتفصيل القول فيه أنّ المندوب إمّا أن يكون مستحبّاً على المستأجر ، فجواز أخذ الاجرة عليه مبنيّ على أحد الأمرين : من قبوله النيابة كالحجّ المندوب ونحوه ، أو قبوله التسبيب كبناء المسجد ونحوه. وقد سبق بيان الفرق فيما بينهما مشروحاً وهذا بكلا قسميه خارج عن محلّ البحث ، لأنّ الكلام في أخذ الاجرة على ما يستحبّ على الإنسان نفسه لا على ما يستحبّ على غيره ، كالكلام المتقدّم في أخذ الاجرة على

__________________

(١) المستند ١٧ : ٧٤ ـ ٧٥.

(٢) المكاسب ١ : ٢٤٨ ـ ٢٤٩.

(٣) كما في المستند ١٤ : ١٨٢ ، السرائر ٢ : ٢١٧ ، نهاية الأحكام ٢ : ٤٧٤ ، جامع المقاصد ٤ : ٣٥ ، المسالك ٣ : ١٣٠.

(٤) حكاه في الإيضاح ١ : ٤٠٨ عن ابن البرّاج.

(٥) مفتاح الكرامة ١٢ : ٣١٢.

٤٠٢

الواجب أعنى ما يجب على الإنسان نفسه لا على غيره. فما قد يوجد في بعض العبارات من التمثيل لما يؤخذ عليه الاجرة من المندوبات بالاجرة على الحجّ ونظائره والاجرة على بناء المسجد وما أشبهه أو نقض القول بالمنع بنحو الامور المذكورة ، فليس على ما ينبغي.

أو يكون مستحبّاً على الأجير ، وهذا هو محلّ الكلام إذا اشتمل على فائدة ومنفعة تعود إلى المستأجر ، لأنّ ما لم يشتمل على نحو هذه الفائدة والمنفعة فهو ممّا لا يقع عليه عقد الإجارة من أصله وإن كان مباحاً لأنّ من شروط عقد الإجارة كون العمل المستأجر عليه مشتملاً على منفعة يصحّ عودها إلى المستأجر ، فيكون ما لا منفعة فيه تعود إليه خارجاً عن موضوع المسألة.

وتوهّم : أنّ هذا الفرض ممّا لا تحقّق له في المندوبات ، لأنّ أقلّ مراتب فائدة العمل المندوب الثواب المعدّ له المترتّب عليه ، وهذه الفائدة يمكن عودها إلى غير العامل ، بأن يبذل له الثواب ويأخذ بإزائه العوض.

يدفعه : أنّ الثواب ممّا لا يقابل بالعوض لما بيّنّاه سابقاً. ثمّ ما اشتمل من المستحبّات على منفعة يمكن عودها إلى غير عاملها لا يخلو إمّا أن يكون المنفعة المفروضة فيه مرتبطة بالإخلاص وقصد القربة بحيث يلزم من انتفائهما انتفاؤها كإعادة الفريضة لمن صلّاها فرادى لفائدة اقتداء الغير به فيها وإدراكه فضيلة الجماعة ، أو لم تكن مرتبطة بهما فلا يلزم من انتفائهما انتفاؤها ، كالسعي في قضاء حاجة المؤمن.

والأوّل : ما لا يجوز أخذ الاجرة عليه ، لأنّه يوجب انتفاء قصد القربة والإخلاص الموجب لانتفاء فائدة الاقتداء وفضيلة الجماعة الموجب لعدم جواز أخذ الاجرة عليه ، فيكون أخذ الاجرة ممّا يلزم من وجوده عدمه وهو محال ، ولا كلام في كبرى هذه القاعدة ، وأمّا صغراها فلأنّ قضيّة عقد الإجارة الوارد على عمل أن يكون الداعي المحرّك إلى الإتيان بالعمل المستأجر عليه هو استحقاق المستأجر له ، لا على معنى أنّه من شروط الصحّة بل بمعنى أنّه قهريّ الحصول في كلّ عمل مستأجر عليه ، وأنّه المركوز في الأذهان كما يشاهد في الخيّاط في خياطته والعامل في عمله ، حتّى أنّه لو سئل عن الجهة الباعثة عليه لعلّله باستحقاق المستأجر له ، ولا ريب أنّه ينافي قصد

٤٠٣

القربة بمعنى كون الداعي إليه امتثال الأمر الاستحبابي أو الإخلاص إن تحقّق معه داعي امتثال الأمر أيضاً ، وأيّاً ما كان فهو موجب لبطلان العمل ، وهو موجب لعدم حصول الفائدة المطلوبة منه ، وهذا هو معنى الاستدلال على المنع بمنافاة أخذ الاجرة لقصد القربة والإخلاص.

فما أورد عليه من منع المنافاة لأنّ أخذ الاجرة يؤكّد القربة والإخلاص لأنّ عقد الإجارة يقضي بوجوب العمل والوجوب زيادة على الاستحباب مؤكّدة للقربة والإخلاص لا أنّها تنافيهما ، واضح الدفع بأنّ حصول هذه الزيادة المؤكّدة فرع على صحّة العقد ، وهي مع تحقّق داعي استحقاق المستأجر في المستحبّ غير معقولة ، وهذا هو معنى ما ذكرناه من أخذ الاجرة يلزم من وجوده عدمه.

والثاني : ما يجوز أخذ الاجرة عليه ، لأنّ غاية ما يلزم من داعي استحقاق المستأجر للعمل المستأجر عليه خروج العمل الموجود في الخارج من كونه مستحبّاً ، لا انتفاء الفائدة المقصودة منه ، لفرض عدم ارتباطها بالقربة والإخلاص ، كقضاء الحاجة الغير المرتبط حصوله بحصول السعي على صفة الاستحباب.

ومن فروع هذا القسم جواز أخذ الاجرة على مستحبّات تجهيز الميّت ، كما أنّ من فروع القسم الأوّل عدم جواز أخذ الاجرة على الإمامة وهو الصلاة بالناس جماعة ، كما هو المصرّح به في كلام جماعة (١) وربّما نفي الخلاف (٢) فيه. ويدلّ عليه خبر محمّد بن مسلم المرويّ في باب شهادات الفقيه عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لا تصلّ خلف من يبغي على الأذان والصلاة بين الناس أجراً ، ولا تقبل شهادته» (٣) وهو نصّ في الحرمة بل كونه من الكبائر القادحة في العدالة ، ولذا لا يصلّى خلفه ولا يقبل شهادته ، نظراً إلى إطلاق الرواية الشامل لأخذها مرّة واحدة.

ويعضدها القاعدة الّتي ضابطها ما بيّنّاه ، وملخّصه أنّ ما كان انتفاع الغير به موقوفاً على وقوعه على وجه القربة والإخلاص ، وهذا لا يجامع ما يقع لأجل استحقاق الغير

__________________

(١) كما في النهاية : ٣٦٥ ، السرائر ٢ : ٢١٧ ، التذكرة ١ : ٥٨٣ ، مجمع الفائدة ٨ : ٩٣.

(٢) كما في الرياض ٨ : ١٨٢.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٣٧٨ / ٦ ، ب ٣٢ أبواب الشهادات ، الفقيه ٣ : ٢٧ / ٧٥.

٤٠٤

له فيفسد به صلاة الإمام فيتعذّر انتفاع الغير بها في الايتمام ، لأنّ من شرط صحّة صلاة المأموم صحّة صلاة الإمام.

ومن فروع القسم الأوّل أيضاً عدم جواز أخذ الاجرة على الأذان للصلاة في الجماعة الّذي ينتفع به غير المؤذّن من الإمام وغيره من المأمومين في الاجتزاء به ، كما هو المصرّح به في كلام جماعة (١) ونسبه في الذكرى (٢) إلى أكثر الأصحاب ، وعن المختلف (٣) أنّه المشهور ، وعنه أيضاً كما عن جامع المقاصد (٤) أنّه مذهب الأصحاب إلّا من شذّ ، وعن الشيخ في الخلاف (٥) الإجماع عليه ، خلافاً للسيّد (٦) على ما حكي لمصيره إلى الجواز على كراهية تسوية بين الاجرة وبين الرزق ، واستوجهه في الذكرى ، وتبعهما جماعة من متأخّري المتأخّرين كما في المدارك (٧) وعن مجمع (٨) البرهان والبحار (٩).

والصحيح هو المشهور ، للقاعدة ، وخبر محمّد المتقدّم (١٠) الصريح في دلالته المعتبر في سنده بل المصحّح سنده في المستند (١١) مضافاً إلى خبر السكوني المرويّ عن الشيخ مسنداً ، وعن الفقيه مرسلاً عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليه‌السلام قال : «آخر ما فارقت عليه حبيب قلبي أن قال يا عليّ : إذا صلّيت فصلّ صلاة أضعف من خلفك ولا تتّخذن مؤذّناً يأخذ على أذانه أجراً» (١٢).

ورواية زيد بن عليّ عن أبيه عن آبائه عن عليّ عليهم‌السلام «أنّه أتاه رجل فقال له : والله إنّي احبّك لله ، فقال له : لكنّي أبغضك لله ، قال : ولِمَ؟ قال : لأنّك تبغي في الأذان أجراً ، وتأخذ على تعليم القرآن أجراً» (١٣) ونحوه في الفقيه مرسلاً إلّا أنّه ذكر في الفقرة الاولى في موضع أجراً «كسباً».

__________________

(١) كما في السرائر : ٤٤ ، الخلاف ١ : ٢٩٠ المسألة ٣٦.

(٢) الذكرى ٣ : ٢٢٣. (٣) المختلف ٢ : ١٣٤.

(٤) جامع المقاصد ٢ : ١٧٦. (٥) الخلاف ١ : ٢٩ المسألة ٣٦.

(٦) حكى عن مصباح السيّد المحقّق في المعتبر ١ : ١٣٤.

(٧) المدارك ٣ : ٢٧٦. (٨) مجمع البرهان ٨ : ٩٢.

(٩) البحار ٨٤ : ١٦١.

(١٠) تقدّم في الصفحة : ٤٠٤.

(١١) المستند ١٤ : ١٨٣.

(١٢) الوسائل ٥ : ٤٤٧ / ١ ، ب ٣٨ الأذان والإقامة ، الفقيه ١ : ١٨٤ / ٨٧٠ ، التهذيب ٢ : ٢٨٣ / ١١٢٩.

(١٣) الوسائل ١٧ : ١٥٧ / ١ ، ب ٣٠ ما يكتسب به ، الفقيه ٣ : ١٠٩ / ٤٦١.

٤٠٥

وقوله عليه‌السلام في رواية حمران الواردة في فساد الدنيا واضمحلال الدين «ورأيت الأذان بالاجرة والصلاة بالأجر» (١).

وأسانيد هذه الروايات ما عدا خبر محمّد ضعيفة جدّاً ، ودلالتها على التحريم قاصرة قطعاً ، ولعلّه لذا صار الجماعة إلى الكراهة تسامحاً في أدلّتها ، والمرتضى لا يعتبر أخبار الآحاد.

وربّما يؤيّدها الاعتبار من حيث إنّ أخذ الاجرة على الأذان يوجب خروج الأذان الموجود في الخارج عن الاستحباب لا صيرورتها بسبب انتفاء القربة والإخلاص محرّماً ، فلا يفسد الإجارة مع فرض اشتماله على المنفعة العائدة إلى غير المؤذّن.

ولكن يدفعه : أنّ المنفعة المفروضة في هذا الأذان إن كان اجتزاء الغير به لصلاته ، ففيه منع انفكاك هذه المنفعة عن الإخلاص والقربة ، فإنّ الأذان الّذي يقوله المكلّف لصلاته فرادى أو جماعة عبادة صرفة فيفسد بانتفاء الإخلاص والقربة ، ولذا لا يجتزأ به هو لنفسه فكيف بغيره.

وإن كان الإعلام بدخول الوقت ، ففيه : أنّه لا يتمّ مطّرداً إلّا في الأذان الإعلامي لقوّة احتمال كونه من القسم الثاني أعني المستحبّ التوصّلي ، فغاية ما يترتّب على انتفاء الإخلاص والقربة عدم ترتّب الثواب لا عدم حصول فائدة الإعلام ، ومحلّ البحث هو أذان الصلاة في الجماعة ، إلّا أن يدفع ذلك ويقال : إنّ محلّ بحث الأصحاب هو الأذان الإعلامي كما جزم به صاحب الحدائق (٢) وهو ظاهر كلام شيخنا (٣) قدس‌سره أيضاً ، غير أنّه خلاف الإنصاف لظهور كلمات الأصحاب خصوصاً كلام المعتبر (٤) والذكرى (٥) وغيرهما في أذان الصلاة في الجماعة ، وممّا يشهد بذلك ما في المدارك وغيره من ذكر الاجرة على الإقامة أيضاً هنا ناقلاً عن العلّامة في نهاية الإحكام منع الاستيجار عليها قائلاً : «والظاهر أنّ الإقامة كالأذان وحكم العلّامة في النهاية بعدم جواز الاستيجار عليها وإن قلنا بجواز الاستيجار على الأذان فارقاً بينهما بأنّ الإقامة لا كلفة فيها

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٢٧٥ / ٦ ، ب ٤١ الأمر والنهى ، الكافي ٨ : ٣٦ / ٧.

(٢) الحدائق ٧ : ٣٥١.

(٣) الجواهر ٩ : ٧٣.

(٤) المعتبر ٢ : ١٣٣.

(٥) الذكرى ٣ : ٢٢٣.

٤٠٦

بخلاف الأذان فإنّ فيه كلفة بمراعاة الوقت ، وهو غير جيّد إذ لا يعتبر في العمل المستأجر عليه اشتماله على الكلفة» (١).

وأمّا ضعف الروايات ، فيمكن انجباره بالشهرة كإمكان انجبار قصور دلالتها بفهم المعظم ، مع ما عرفت من صراحة دلالة خبر محمّد بن مسلم وقوّة سنده إن لم نقل بصحّته ، فالقول بالمنع والتحريم متعيّن.

ويمكن طرد المنع إلى الأذان الإعلامي أيضاً عملاً بإطلاق النصّ ، ولا يبعد دعوى إطلاق فتوى الأكثر أيضاً ، وإن كان كلمات جماعة منهم كما عرفت أظهر في أذان الصلاة في الجماعة. ويمكن تطبيقه على الاعتبار أيضاً ، بدعوى ظهور إطلاق النصّ في كون مطلق الأذان حتّى الإعلامي عبادة محضة فلا يقع عليه عقد الإجارة إلّا بوصف كونه عبادة راجحة ، وهذا لا يجامع أخذ الاجرة المخرج له عن الرجحان بسبب انتفاء القربة أو الإخلاص.

ثمّ إنّ المصرّح به في كلام جماعة من أساطين (٢) الطائفة جواز ارتزاق المؤذّن من بيت المال ، مصرّحين بعدم كونه من باب الاجرة لأنّ الاجرة إذا كانت حراماً فلا يتفاوت فيه الحال بين كونها من بيت المال أو من غيره ، بل هو استحقاق شرعي حصل للمؤذّن باعتبار كونه كأذانه من مصالح المسلمين وبيت المال معدّ لمصالحهم ، ونحوه إمام الجماعة والقاضي لجواز الارتزاق للجميع ، فلا يكون الارتزاق على وجه المعاوضة ، ولذا لا يراعى في مورده عقد إجارة ولا جعالة ، ولا يعتبر فيه تعيين الاجرة ولا ضبطها جنساً ووصفاً وقدراً ، بل ينوط بنظر الحاكم فقد يساوي اجرة مثل العمل وقد ينقص منه وقد يزيد عليه ، ويعتبر فيه الحاجة عند جماعة بل الأكثر بخلاف الاجرة ، ونحو استحقاقه الرزق من بيت المال استحقاقه من غلّة الوقف كاستحقاق إمام الجماعة والقاضي أيضاً من ذلك فيما وقف على المؤذّنين أو أئمّة الجماعة أو القضاة ، فإنّه في

__________________

(١) المدارك ٣ : ٢٧٦.

(٢) كما في المبسوط ٨ : ١٦٠ ، السرائر : ٢١٥ ، الشرائع ٢ : ١١ ، القواعد ٢ : ١٠ ، الدروس ٣ : ١٧٢ ، المدارك ٣ : ٢٧٧.

٤٠٧

جميع ذلك استحقاق من الواقف حيث وقف على هؤلاء.

تذنيب : صرّح جماعة (١) بجواز الاجرة على إجراء عقد النكاح وحرمتها على تعليمه ، وهو كذلك ، ووجه الفرق أنّ إجراء العقد من الأعمال المباحة المحترمة وهو قابل للوكالة فيجري عليه عقد الإجارة وعقد الجعالة ويقابل بالمال اجرة وجعلاً ، وتعليمه عبارة عن تعليم صيغة النكاح وكيفيّتها حسبما وردت في الشرع ، فتكون من قبيل المسائل الشرعيّة الواجب على العالم بها عيناً أو كفاية تعليمها الجاهل بها فلا يقابل بالعوض لتعيّن بذله مجّاناً هذا.

وينبغي ختم باب المكاسب المحرّمة بإيراد مسائل مهمّة :

المسألة الاولى : صرّح جماعة كالعلّامة (٢) في جملة من كتبه والشهيد في الدروس (٣) والمحقّق الثاني في جامع المقاصد (٤) بحرمة بيع المصحف ، وظاهر المحكيّ عن نهاية (٥) الإحكام اشتهاره بين الصحابة حيث تمسّك على الحرمة بمنع الصحابة. ومرادهم حرمة بيع الخطّ لا آلات من الورق والجلد وغيره كما هو صريح المحكيّ عن الدروس قائلاً : «ويحرم بيع خطّ المصحف دون الآلة».

خلافاً للسيّد الطباطبائي في المصابيح (٦) لمصيره إلى كراهة بيعه وشرائه ، ووافقه شيخنا في الجواهر (٧).

مستند الأوّلين ظواهر روايات مستفيضة كخبر عبد الرحمن بن سيّابة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سمعته يقول : إنّ المصاحف لن تشترى ، فإذا اشتريت فقل : أشتري منك الورق وما فيه من الأديم وحليته وما فيه من عمل يدك بكذا وكذا» (٨).

وخبر سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن بيع المصاحف وشرائها؟ فقال : لا تشتر كتاب الله ولكن اشتر الحديد والورق والدفّتين وقل : أشتري منك هذا بكذا

__________________

(١) كما في مجمع الفائدة ٨ : ٩٤ ، والمستند ١٤ : ١٨٧ ، جامع المقاصد ٤ : ٣٧ ، الجواهر ٢٢ : ١٢٤.

(٢) كما في التذكرة ١ : ٥٨٢.

(٣) الدروس ٣ : ١٦٥.

(٤) جامع المقاصد ٤ : ٣٣.

(٥) نهاية الإحكام ٢ : ٤٧٢.

(٦) المصابيح : ٢٨.

(٧) الجواهر ٢٢ : ١٢٥.

(٨) الوسائل ١٧ : ١٥٨ / ١ ، ب ٣١ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٢١ / ١

٤٠٨

وكذا» (١).

ورواية عثمان بن عيسى قال : «سألته عن بيع المصاحف وشرائها؟ فقال : لا تشتر كلام الله ولكن اشتر الحديد والجلود والدفتر ، وقل : أشتري هذا منك بكذا وكذا» (٢).

ورواية عبد الله بن سليمان قال : «سألته عن شراء المصاحف؟ فقال : إذا أردت أن تشتري فقل : أشتري منك ورقه وأديمه وعمل يدك بكذا وكذا» (٣).

ورواية جرّاح المدائني عن أبي عبد الله عليه‌السلام في بيع المصاحف قال : «لا تبع الكتاب ولا تشتره ، وبع الورق والأديم والحديد» (٤).

ورواية سماعة بن مهران قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لا تبيعوا المصاحف ، فإنّ بيعها حرام ، قلت : فما تقول في شرائها؟ قال : اشتر منه الدفّتين والحديد والغلاف ، وإيّاك أن تشتري منه الورق وفيه القرآن مكتوب ، فيكون عليك حراماً وعلى من باعه حراماً» (٥).

وفي مقابلها خبران دالّان على الجواز مثل رواية روح بن عبد الرحيم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن شراء المصاحف وبيعها؟ فقال : إنّما كان يوضع الورق عند المنبر ، وكان ما بين المنبر والحائط قدر ما تمرّ الشاة أو رجل منحرف ، قال : فكان الرجل يأتي فيكتب من ذلك ، ثمّ إنّهم اشتروا بعد ، قلت : فما ترى في ذلك؟ فقال لي : أشتري أحبّ إليّ من أن أبيعه ، قلت : فما ترى أن اعطي على كتابته أجراً؟ قال : لا بأس ، ولكن هكذا كانوا يصنعون» (٦).

ورواية أبي بصير قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن بيع المصاحف وشرائها؟ فقال : إنّما كان يوضع عند القامة والمنبر ، قال : كان بين الحائط والمنبر قدر ممرّ شاة أو رجل وهو منحرف ، فكان الرجل يأتي فيكتب البقرة ، ويجي‌ء آخر فيكتب السورة كذلك كانوا ،

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٥٨ / ٢ ، ب ٣١ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٢١ / ٢.

(٢) الوسائل ١٧ : ١٥٨ / ٣ ، ب ٣١ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٦٥ / ١٠٤٩.

(٣) الوسائل ١٧ : ١٥٩ / ٦ ، ب ٣١ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٦٥ / ١٠٥٠.

(٤) الوسائل ١٧ : ١٥٩ / ٧ ، ب ٣١ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٦٦ / ١٠٥١.

(٥) الوسائل ١٧ : ١٦٠ / ١١ ، ب ٣١ ما يكتسب به ، التهذيب ٧ : ٢٣١ / ١٠٠٧.

(٦) الوسائل ١٧ : ١٥٨ / ٤ ، ب ٣١ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٢١ / ٣.

٤٠٩

ثمّ إنّهم اشتروا بعد ذلك ، فقلت : فما ترى في ذلك؟ فقال : أشتريه أحبّ إليّ من أن أبيعه» (١).

ومعارضتهما للروايات المذكورة واضحة ، وهما مع وضوح دلالتهما على الجواز جامعان سنداً لشرائط الحجّيّة ، لكون الأوّل من الموثّق والثاني من الصحيح ، فلا يسوّغ طرحهما رأساً ، ولا يقبلان تأويلاً قريباً يساعد عليه فهم العرف ، بخلاف الروايات المانعة لقبولها الكراهة فتحمل عليها جمعاً. وفي قوله عليه‌السلام : «أشتريه أحبّ إليّ من أن أبيعه» أيضاً دلالة عليها.

وكون الاشتراء أحبّ إليه عليه‌السلام إمّا من جهة انتفاء الكراهة من الاشتراء واختصاصها بالبيع ، أو من جهة كون الكراهة في الاشتراء أخفّ ، والسرّ فيه أنّ تعريض المصحف بخطّه للبيع ومقابلته بحطام الدنيا وأخذ المال بإزائه ولو باعتبار كونه جزءاً من المبيع مع كونه كلام الله العزيز وكتابه المجيد المستحقّ لحسن الأدب معه والتعظيم له بل الّذي لا قيمة له في الحقيقة لعظم شأنه وعلوّ قدره ، ابتذال له وإساءة للأدب معه ، وهذا شي‌ء يجي‌ء من قبل البائع أو أنّه فيه أكثر وأظهر.

وفي الخبر الأوّل حيث قال : «ولكن هكذا كانوا يصنعون» دلالة على كون اشتراء المصحف بعد كثرة نسخه وشيوعها واقعاً على وجه الشيوع والاستمرار في زمان الوحي أيضاً ، فيستكشف من ذلك تقرير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ومن ذلك يظهر بطلان دعوى اشتهار الحرمة بين الصحابة وبطلان التمسّك والاستناد إلى منعهم.

ولكن قد يمنع دلالة الخبرين على جواز اشتراء خطّ المصحف بل يدلّان على أنّ تحصيل المصحف في الصدر الأوّل كان بمباشرة كتابته. ثمّ قصرت الهمم فلم يباشروها بأنفسهم وحصّلوا المصاحف بأموالهم شراءً واستيجاراً ، ولا دلالة فيهما على كيفيّة الشراء وأنّ الشراء والمعاوضة كانا واقعين على ما يعمّ الخطّ أو على ما عداه من الأوراق والجلود وغيرها ، والروايات المانعة تنهض بياناً.

ويدفعه : أنّ البيع والشراء المضافين إلى المصحف ظاهران في التعلّق بالمجموع من حيث كون المصحف حقيقة في المجموع فيعمّان الخطّ أيضاً ، ولا إجمال فيهما جزماً

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٦٠ / ٧ ، ب ٣١ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٦٦ / ١٠٥٢.

٤١٠

كما لو اضيفا إلى الكتب ، بل المقصود بالأصالة من أجزاء هذا المبيع على ما هو المتعارف إنّما هو الخطّ لا غير ، وتداول مباشرة الكتابة في الصدر الأوّل إنّما هو لقلّة النسخ بل انحصارها في أوّل نزول الآية أو السورة في واحدة ، فكان حدوث بناء الاشتراء فيما بعد ذلك لأجل شيوع النسخ ووفورها المغني عن كلفة مباشرة الكتابة. وعلى هذا يحمل خبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ امّ عبد الله بن الحرث أرادت أن تكتب مصحفاً واشترت ورقاً من عندها ، ودعت رجلاً فكتب لها على غير شرط ، فأعطته حين فرغ خمسين ديناراً وأنّه لم تبع المصاحف إلّا حديثاً» (١).

ويدلّ على الجواز أيضاً رواية عنبسة الورّاق قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام فقلت : أنا رجل أبيع المصاحف فإن نهيتني لم أبعها ، فقال : ألست تشتري ورقاً وتكتب فيه؟ قلت : بلى واعالجها ، قال : لا بأس بها» (٢) فإنّه عليه‌السلام لم يردع السائل حيث قال : «أنا رجل أبيع المصاحف» ومع هذا قال له (٣) بأس بها أي بالمصاحف باعتبار أنّه يبيعها.

وما يقال : في الإيراد عليها أيضاً من أنّها وإن كانت ظاهرة في الجواز إلّا أنّ ظهورها من حيث السكوت عن كيفيّة البيع في مقام الحاجة إلى البيان ، فلا تعارض ما تقدّم من الأخبار المتضمّنة للبيان.

ففيه : أنّ المصاحف مجاز في مجرّد الأوراق والجلود فظهورها فيما يعمّ الخطوط وضعي لا غير ، كما أنّ النهي فيما تقدّم من الأخبار مجاز في الكراهة ، فكون ما تقدّم بياناً للمجاز الأوّل ليس بأولى من كون هذه الرواية مع الخبرين الآخرين بياناً للمجاز الثاني ، بل الثاني أولى لشيوع استعمال النهي في الكراهة ، وندرة استعمال المصحف في مجرّد الجلد والورق ، ويعضده الأصل والإطلاق وظهور كلامهم في مسألة المنع من بيع المصحف من الكافر ووجوب إجباره على البيع من المسلم في جواز بيعه من المسلم ولا ريب في دخول الخطّ هنا هذا ، مع تحقّق سيرة المسلمين بإجراء عقود المعاوضة على ما يعمّ الخطّ ، مع أنّه لا كلام لأحد في جواز البيع والشراء في كتب التفاسير والفقه

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٦٠ / ١٠ ، ب ٣١ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٦٦ / ١٠٥٤.

(٢) الوسائل ١٧ : ١٥٩ / ٥ ، ب ٣١ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٢٢ / ٤.

(٣) كذا في الأصل.

٤١١

والأحاديث وغيرها ، مع اشتمالها على الآيات والسور القرآنيّة ولم يقل أحد بخروج الخطّ هنا عن المبيع.

ثمّ على المختار لو أراد البائع والمشتري اجتناب ذلك المكروه بإجراء العقد على الآلات من الأوراق والجلد والمداد ففي بقاء الخطّ وهو النقوش والعبارات على ملك البائع ، أو دخوله في المبيع تبعاً بخروجه عن ملك البائع ودخوله في ملك المشتري لمجرّد التبعيّة وإن لم يجر عليه العقد ولم يعتبر بإزائه جزء من الثمن كغيره من توابع المبيع في غير المقام ـ كالنواة في التمر ، والقشر في الجوز ، والحبّ في البطيخ ، وما أشبه ذلك ـ أو تحقّق الهبة المجّانيّة للخطّ في ضمن المبايعة الواقعة على الآلات وجوه :

أجودها الأخير ، لبطلان الأوّل بمعلوميّة انتفاء الشركة من حال المتشرّعة ، وضرورة كون المقصود بالأصالة في المعاملة هو الخطّ الّذي بجودته ورداءته يختلف القيمة ، ولعلّه لذا تداول بينهم التعبير عن هذه المعاملة بالخصوص بالهديّة بناءً على شيوع إطلاق الهديّة على مطلق العطيّة والهبة المجّانيّة وتحقّقها بالمعاطاة.

وعلى القول بالمنع والتحريم في بيع ما يعمّ الخطّ وشراءه فالقدر المسلّم الثابت بما تقدّم من الأخبار الناهية إنّما هو حرمة المعاملة لا فسادها ، لعدم اقتضاء النهي المفروض فيها ـ خصوصاً قوله عليه‌السلام : «لا تشتر كتاب الله» وقوله أيضاً : «لا تشتر كلام الله» ـ فساد أصل المعاملة ، لأنّ الضابط في اقتضائه الفساد في المعاملات على ما حقّقناه في الاصول كون النهي بمضمونه في متفاهم العرف متعرّضاً لمضمون مقتضى السببيّة ، ودليل الصحّة بتقييد أو تخصيص مفيد لخروج المورد عن عموم المقتضي للسببيّة ودليل الصحّة.

وبعبارة اخرى كون النهي ناشئاً عن الجهة الراجعة إلى أصل المعاملة أو الصيغة المعتبرة فيها ، أو أحد أركانها من المتعاقدين أو العوضين.

وبعبارة ثالثة دلالة النهي على كون المعاملة من حيث إنّها معاملة مقصود منها أثر خاصّ معصية لله عزوجل ، والنهي الوارد فيما تقدّم ليس من هذا القبيل ، لقوّة احتمال كون تعلّقه ببيع المصحف وشرائه المختصّ بالخطّ ، باعتبار مصادفته لعنوان آخر خارج عن حقيقة البيع هو معصية لله عزوجل ، لا أصل البيع من حيث إنّه بيع ، وهو ابتذال كلام

٤١٢

الله وسوء الأدب معه وترك تعظيمه ، فيكون النهي ناشئاً عن الجهة الراجعة إلى الأمر الخارج عن أصل المعاملة ، فلا يكون في متفاهم العرف متعرّضاً لمضمون دليل الصحّة ومقتضى السببيّة ، فيبقى على عمومه في اقتضاء الصحّة.

وعلى هذا فلو أراد المتبايعان إجراء العقد على ما يعمّ الخطّ حصل المعصية مع حصول النقل والانتقال في الخطّ أيضاً بخروجه عن ملك البائع ودخوله في ملك المشتري.

ولو اريد تخصيص العقد بما عدا الخطّ من الآلات عملاً بمقتضى النهي ، ففي بقاء الخطّ في ملك البائع فيحصل الشركة ، أو دخوله في المبيع تبعاً ، أو دخوله في ملك المشتري بالهبة المجّانيّة الضمنيّة الوجوه المتقدّمة على القول بالكراهة والأجود الأخير ، وربّما يحتمل ضعيفاً خروجه عن ملك البائع بالإعراض وتجدّد الملك للمشتري بالقصد على حدّ ما يتملّكه في اللقطة بمجرّد القصد ، فليتدبّر فإنّ المقام لا يخلو عن إشكال ودقّة.

المسألة الثانية : في جوائز السلطان الجائر وعمّاله الظلمة ، والمراد بها عطاياه المجّانيّة ، وتخصيصها بالذكر لعلّه اتّباع للنصوص الواردة في الباب ، وإلّا فينبغي تعميم المبحث بالقياس إلى عطاياه العوضيّة ، كالأثمان المأخوذة في البيع والشراء ، والاجور المأخوذة في عقد الإجارة ونحوه ، لكون الجميع من وادٍ واحد بالنظر إلى الأصل والإجماع وإن لم يجر النصوص في الجميع ، كما أنّ تخصيص السلطان وعمّاله في عنوان الأصحاب بالذكر اتّباع لنصوص الباب ، وإلّا فينبغي تعميم المبحث بالقياس إلى كلّ من لا يتورّع الأموال المحرّمة ، كالسارق وقاطع الطريق ومن يعامل الظلمة ، ومن لا يبالي الربا أو أخذ الأموال بالعقود الفاسدة ، ومانع الزكاة أو الخمس ونحوه ، فإنّ الجميع من باب واحد ، والجامع بين الكلّ كلّ مال يحصل في يد الإنسان ممّن لا يتورّع الأموال المحرّمة ، وهو على أنواع :

منها : ما لا يعلم بوجود محرّم في جملة أمواله ، سواء علم بوجود حلال في جملة أمواله أيضاً أو لا.

ومنها : ما يعلم بوجود محرّم في جملة أمواله ، ولكن لا يعلم بوجود شي‌ء من ذلك

٤١٣

المحرّم فيما حصل بيده سواء علم بوجود حلال فيه أو لا.

ومنها : ما يعلم بوجود محرّم في جملة أمواله ، مع العلم بحصول شي‌ء منه فيما حصل في يده إجمالاً.

ومنها : الصورة بحالها مع العلم التفصيلي بالجزء المحرّم فيما حصل في يده ، على معنى العلم به بعينه.

أمّا النوع الأوّل : فلا إشكال بل لا خلاف في جواز أخذه والتصرّف فيه ، للأصل والإجماع محصّلاً ومنقولاً ، والسيرة عملاً ، والنصوص المستفيضة الّتي فيها الصحيح وغيره من المعتبر ، ففي صحيح أبي ولّاد قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما ترى في رجل يلي أعمال السلطان ، ليس له مكسب إلّا من أعمالهم ، وأنا أمرّ به فأنزل عليه فيضيفني ويحسن إليّ ، وربّما أمر لي بالدراهم والكسوة وقد ضاق صدري من ذلك؟ فقال لي : كل وخذ منه ، فلك المهنّا وعليه الوزر» (١).

وصحيح أبي المعزّا قال : «سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده ، فقال : أصلحك الله أمرّ بالعامل فيجيزني بالدراهم آخذها؟ قال : نعم ، قلت : وأحجّ بها؟ قال : نعم» (٢).

وخبر محمّد بن هشام أو غيره قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أمرّ بالعامل فيصلني بالصلة أقبلها؟ قال : نعم ، قلت : وأحجّ منها؟ قال : نعم وحجّ منها» (٣).

وصحيح محمّد بن مسلم وزرارة قالا : «سمعناه يقول : جوائز العمّال ليس بها بأس» (٤).

وخبر أحمد بن محمّد بن عيسى في نوادره عن أبيه عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لا بأس بجوائز السلطان» (٥). وإطلاق هذه الروايات يعمّ صورة عدم العلم بوجود محلّل في جملة أموال المجيز.

ولكن في بعض النصوص ما يدلّ على اشتراط العلم به في إباحة الأخذ والتصرّف ،

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢١٣ / ١ ، ب ٥١ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٣٨ / ٩٤٠.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢١٣ / ٢ ، ب ٥١ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٣٨ / ٩٤٢.

(٣) الوسائل ١٧ : ٢١٤ / ٣ ، ب ٥١ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٣٨ / ٩٤٣.

(٤) الوسائل ١٧ : ٢١٤ / ٥ ، ب ٥١ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٣٦ / ٩٣١.

(٥) الوسائل ١٧ : ٢١٨ / ١٦ ، ب ٥١ ما يكتسب به ، نوادر أحمد بن محمّد بن عيسى : ١٦٣.

٤١٤

كالمرويّ عن محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري «أنّه كتب إلى صاحب الزمان عليه‌السلام يسأله عن الرجل من وكلاء الوقف مستحلّاً لما في يده ولا يتورّع عن أخذ ماله ، ربّما نزلت في قريته وهو فيها ، أو أدخل منزله وقد حضر طعامه فيدعوني إليه ، فإن لم آكل من طعامه عاداني عليه ، فهل يجوز لي أن آكل من طعامه ، وأتصدّق بصدقة ، وكم مقدار الصدقة؟ وإن أهدى هذا الوكيل هديّة إلى رجل آخر فيدعوني إلى أن أنال منها وأنا أعلم أنّ الوكيل لا يتورّع عن أخذ ما في يده ، فهل عليّ فيه شي‌ء إن أنا نلت منه؟. الجواب : إن كان لهذا الرجل مال أو معاش غير ما في يده فكل طعامه واقبل برّه وإلّا فلا» (١).

ويمكن حمله على الكراهة ليكون العلم به شرطاً لرفع الكراهة لا الحرمة جمعاً ، لاعتضاد إطلاق ما تقدّم أو عمومه بنفي الخلاف والإجماع المنقول ، فلا يقاومه المقيّد والخاصّ.

ويمكن منع المنافاة بظهور قوله عليه‌السلام : «وإلّا فلا» في صورة العلم بعدم الوجود كظهور قوله : «إن كان لهذا الرجل مال أو معاش» في صورة العلم بالوجود فيكون صور انتفاء العلمين مسكوتاً عنها في هذه الرواية ، فتبقى مندرجة في إطلاق ما تقدّم ، ولا يقدح فيه كون العلم بعدم وجود مال له غير ملازم لحرمة الجائزة ، لجواز حصولها للمجيز الفاقد للمال بنوع من تمليك الغير أو إباحته ، لجواز أن يكون عليه‌السلام إنّما اعتبر العلم بوجود مال أو معاش له إحرازاً للشبهة بالنسبة إلى الجائزة فيمن انحصر الشبهة في جوائزه في هذه الصورة ، فيكون العلم بعدم وجوده ملازماً لانتفاء الشبهة ، لمكان العلم بكون جميع ما في يده محرّماً فتكون جائزته أيضاً محرّمة.

وأمّا النوع الثاني : فله صور ثلاث :

الاولى : أن تكون الشبهة فيما بين الجائزة وغيرها من أموال المجيز الّتي علم بوجود محرّم فيها غير محصورة ، كأن يكون له أموال كثيرة غير محصورة علم بوجود مال مغصوب فيها ، ووقع منها شي‌ء بيد المجاز بعنوان الإجازة وما بحكمها بحيث احتمل في نظره كونه ذلك المغصوب أو غيره من أمواله المملوكة.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢١٧ / ١٥ ، ب ٥١ ما يكتسب به ، الاحتجاج : ٤٨٥.

٤١٥

الثانية : أن تكون الشبهة محصورة بين محلّ ابتلاء هذا المكلّف وبين غيره ممّا لا يبتلى به أصلاً ، كأن يكون المغصوب المعلوم وجوده في أموال الظالم المجيز مردّداً بين الجائزة وبين الجارية المعدودة من خواصّ نساء الظالم مثلاً.

ففي هاتين الصورتين يجوز أخذ الجائزة والتصرّف فيها مطلقاً ، للأصل ، وإطلاق معقد الإجماع ، والنصوص المتقدّمة ، مضافاً إلى الإجماع على عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة الغير المحصورة.

ولا يقدح في الثانية كون الشبهة محصورة ، لأنّ من شرط وجوب الاجتناب من الشبهة المحصورة تنجّز التكليف بوجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي المشتبه ليجب الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة مقدّمة ، ومن شرط وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي كونه مردّداً بين أمرين كلّ منهما محلّ ابتلاء للمكلّف ، إذ بدونه يحتمل كون المحرّم الواقعي غير محلّ الابتلاء فلا يكون هذا المكلّف مخاطباً بالاجتناب عنه ، حتّى أنّه لو كان معلوماً بالتفصيل لم يكن مخاطباً بالاجتناب فكيف به إذا كان مشتبهاً؟!.

نعم ذكر جماعة (١) أنّ الأفضل في الصورتين التورّع عنها ومعناه كراهة أخذها ، وفي الرياض (٢) بلا خلاف ، لشبهة الحرمة المقتضية لحسن الاحتياط عقلاً ، مضافاً إلى عمومات الاحتياط كقوله عليه‌السلام : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» (٣) وقوله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (٤) وقولهم عليهم‌السلام : «من ترك الشبهات نجى من المحرّمات» (٥) مضافاً إلى أنّ أخذ المال منهم يوجب محبّتهم فإنّ القلوب مجبولة على حبّ من أحسن إليها ، ويترتّب عليه من المفاسد ما لا يخفى ، وفي الصحيح «أنّ أحدكم لا يصيب من دنياهم شيئاً إلّا أصابوا من دينه مثله» هذا مع إمكان اندراجه في عموم قوله تعالى : «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» (٦).

__________________

(١) كما في النهاية : ٣٦٧ ، والمنتهى ٢ : ١٠٢٦ والحدائق ١٨ : ٢٦٨.

(٢) الرياض ٨ : ٢٠٦.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٦٧ / ٤٦ ، ب ١٢ أبواب صفات القاضي ، أمالى الطوسي ١ : ١٠٩.

(٤) الوسائل ٢٧ : ١٧٠ / ٥٤ ، ب ١٢ أبواب صفات القاضي ، كنز الفوائد : ١٦٤.

(٥) الوسائل ٢٧ : ١٥٧ / ٩ ، ب ١٢ أبواب صفات القاضي ، التهذيب ٦ : ٣٠١ / ٨٤٥.

(٦) هود : ١١٣.

٤١٦

فالكراهة ممّا لا إشكال فيه إنّما الإشكال فيما ، ذكروه أيضاً من ارتفاع الكراهة بإخبار المجيز بحلّيّة جائزته كأن يقول هذه من تجارتي أو من زراعتي أو نحو ذلك ، وبإخراج الخمس منه ، وفي الرياض (١) نفي الخلاف عنه في الأوّل بل فيهما معاً ، ونسب نفي الخلاف إلى ظاهر الحدائق (٢) وعن المناهل (٣) الخدشة في الأوّل بأنّه لم يجد له مستنداً. ولذا قد يستشكل فيه تعليلاً «بعدم خروجه عن الشبهة إذا احتمل كذبه ، ووجوب حمل قول المسلم على الصدق ، إن كفى في رفع الشبهة لكفى حمل فعله على الصحّة في رفعها بمجرّد الإعطاء أيضاً ، فلا يكون مكروهاً مطلقاً» (٤).

وقد يقرّر ذلك أيضاً بأنّه لا فرق بين يد الظالم وتصرّفه ، وبين خبره في كون كلّ منهما مفيداً للملكيّة الظاهريّة غير منافٍ للحرمة الواقعيّة المقتضية للاحتياط ، فلا وجه لوجود الكراهة الناشئة عن حسن الاحتياط مع اليد وارتفاعها مع الإخبار.

وقد يوجّه المستند لدفع الإشكال بإمكان كونه ما دلّ على قبول قول ذي اليد فيعمل بقوله ، كما لو قامت البيّنة على تملّكه ، وشبهة الحرمة وإن لم ترتفع بذلك إلّا أنّ الموجب للكراهة ليس مجرّد الاحتمال وإلّا لعمّت الكراهة أخذ المال من كلّ أحد ، بل الموجب له كون الظالم مظنّة الظلم والغصب وغير متورّع عن المحارم ، نظير كراهة سؤر من لا يتوقّى النجاسة ، وهذا المعنى ترتفع بإخباره إلّا إذا كان خبره كيده مظنّة للكذب لكونه ظالماً غاصباً ، فيكون خبره كيده وتصرّفه غير مفيد إلّا الإباحة الظاهريّة الغير المنافية للكراهة ، فيختصّ الحكم برفع الكراهة بما إذا كان مأموناً في خبره ، وقد صرّح الأردبيلي (٥) بهذا القيد في إخبار وكيله.

أقول : إن كان إجماعاً وإلّا فهذه التجشّمات لا تنهض لإخراج الاحتياط عن الحسن ولا لتخصيص العمومات ، مع أنّ الكراهة في كلام القائلين بها ليست مقيّدة بمظنّة الحرمة في الجائزة ، مع أنّ الأظهر في دليل قبول قول ذي اليد كونه معتبراً على وجه التعبّد لا من باب المرآتيّة.

__________________

(١) الرياض ٨ : ٢٠٦.

(٢) الحدائق ١٨ : ٢٦٥.

(٣) المناهل : ٣٠٣.

(٤) المستند ١٤ : ٢٠٠.

(٥) مجمع البرهان ٨ : ٨٦.

٤١٧

وأمّا ارتفاعها بإخراج الخمس فقد يعلّل بأنّ إخراج الخمس مطهّر للمال المختلط بالحرام في صورة العلم به فلأن يكون مطهّراً للمختلط به ظنّاً أو احتمالاً طريق الأولويّة.

واستدلّ أيضاً بالموثّق عن أبي عبد الله عليه‌السلام «سئل عن أعمال السلطان يخرج فيه الرجل؟ قال : لا إلّا أن لا يقدر على شي‌ء يأكل ولا يشرب ولا يقدر على حيلة ، فإن فعل فصار في يده شي‌ء فليبعث بخمسه إلى أهل البيت» (١) فإنّ موردها وإن كان ما يقع في يده بإزاء العمل إلّا أنّ الظاهر عدم الفرق بينه وبين ما يقع في اليد على وجه الجائزة.

ومن مشايخنا من ناقش في الوجه الأوّل بقوله : «ويمكن الخدشة في أصل الاستدلال ، بأنّ الخمس إنّما يطهّر المختلط بالحرام حيث إنّ بعضه حرام وبعضه حلال ، فكأنّ الشارع جعل الخمس بدل ما فيه من الحرام ، فمعنى تطهيره تخليصه بإخراج الخمس ممّا فيه من الحرام ، فكان المقدار الحلال طاهراً في نفسه إلّا أنّه قد تلوّث بسبب الاختلاط مع الحرام بحكم الحرام وهو وجوب الاجتناب ، فإخراج الخمس مطهّر له عن هذه القذارة العَرَضيّة ، وأمّا المال المحتمل لكونه بنفسه حراماً وقذراً ذاتيّاً فلا معنى لتطهّره بإخراج خمسه» (٢) انتهى.

أقول : بل لا معنى له على تقدير كونه حلالاً لعدم القذارة فيه لا ذاتاً ولا عرضاً ، ومرجع ما ذكره منع الأوّليّة بمنع تحقّق العلّة الموجودة في الأصل في الفرع ، فيكون التعدّي إليه قياساً ومع الفارق مع انتفاء الاختلاط ، والاحتمال ليس من الاختلاط في شي‌ء ولذا لم يؤثّر في وجوب الاجتناب الّذي هو في المختلط قذارة ذاتيّة في البعض الحرام منه وقذارة عرضيّة في البعض الحلال منه.

ويمكن الذبّ بأنّ معنى كونه مطهّراً في المختلط كونه رافعاً للحرمة ووجوب الاجتناب ، فكونه في المحتمل رافعاً للكراهة واستحباب الاجتناب طريق الأولويّة ، لأنّ الكراهة والاستحباب أهون من الحرمة والوجوب. وفيه : أنّ الكراهة واستحباب الاجتناب فيه إنّما ثبت لحسن الاحتياط وعمومات رجحانه ، وهما لا يرتفعان

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢٠٢ / ٣ ، ب ٤٨ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٣٠ / ٩١٥.

(٢) المكاسب ١ : ١٧١ ـ ١٧٢.

٤١٨

ما لم يرتفع موضوع الاحتياط ، والأولويّة المدّعاة لا تصلح رافعة له ، ومرجعه إلى أنّها لا تنهض لتخصيص العقل المستقلّ بحسن الاحتياط ولا عمومات رجحانه فتأمّل.

واعترض الفاضل النراقي على الاستدلال بالرواية «بأن لا دلالة فيها على أنّه صار في يده شي‌ء من المشتبه بالحرام ، لجواز أن يكون من ارتفاع أراضي الخراجيّة الّتي هو مباح وخمسه للإمام ، مع أنّه يكون هذا كسباً وما صار بيده ربحاً ، فإخراج خمسه من حيث هو واجب ولا يدلّ على أنّه تطهّره» (١).

وفيه ما لا يخفى لاختصاص هذا الخمس بفاضل مئونة السنة من أرباح المكاسب المحلّلة ، والرواية غير واضحة في اعتبار الفضل بل ظاهرة في خلافه ، مع أنّ كون مورد الرواية من المكسب المحلّل غير واضح والرواية غير دالّة عليه ، لجواز كون أعمال السلطان في موردها من الأعمال المحرّمة الّتي يحرم أخذ الاجرة عليها. والأولى في منع دلالة الرواية أن يقال بإمكان كون ما صار إليه من السلطان من المال المختلط وقد علم به الإمام عليه‌السلام فأمره بإخراج خمسه فيخرج عنه ما نحن فيه ، وربّما يومئ إليه تعليقه الرخصة على الاضطرار الّذي هو المناط في تناول الأموال المحرّمة ، إلّا أن يعارض باحتمال كون إناطة الرخصة بالاضطرار باعتبار كون عمل السلطان الّذي أخذ الاجرة عليه من الأعمال المحرّمة فيكون ما صار إليه حراماً محضاً ، ولكن منع دلالة الرواية في محلّه.

وأمّا الصورة الثالثة : فقضيّة قاعدة الشبهة المحصورة على ما حقّقناه في الاصول وجوب الاجتناب عن الجائزة في هذه الصورة ، وعدم جواز أخذها ولا التصرّف فيها ، غير أنّه قد يقابل هذه القاعدة بالأخبار المتقدّمة الدالّة على حلّيّة الجائزة وجواز أخذها بقول مطلق ، فلا بدّ في العلاج إمّا من التزام حكومة الأخبار على القاعدة ، أو الالتزام بحكومة القاعدة عليها.

ولكنّ الّذي يساعد عليه التحقيق والنظر الدقيق أنّ حكومة الأخبار على القاعدة ممّا لا سبيل إليه ، لأنّ مبنى القاعدة على كفاية العلم الإجمالي في تنجّز التكليف بالواقع

__________________

(١) المستند ١٤ : ٢٠١.

٤١٩

وهو حكم عقلي ، وأخبار الحلّ ليست متعرّضة بمضمونها لمضمون حكم العقل ببيان مقدار موضوعه ، بأن يكون مضمونها أنّ العلم الإجمالي إنّما يكفي في تنجّز التكليف فيما عدا جوائز السلطان أو عامله ، لكونها في متفاهم العرف مسوقة لبيان أنّ جهة كون المال الواقع في يد الإنسان من السلطان أو عامله جائزة من حيث هي هذه الجهة ليست مؤثّرة في الحرمة وعدم الجواز ، وهذا لا ينافي اجتماع هذه الجهة لجهة اخرى مانعة من أخذها ، كالعلم الإجمالي فيما نحن فيه المقتضي لوجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي المعلوم بالإجمال ، ومرجعه إلى أنّ الأخبار الدالّة على الحلّ وإن كانت مطلقة إلّا أنّها واردة مورد بيان حكم آخر فلا تعارض الدليل العقلي المقتضي لوجوب الاجتناب عنها باعتبار كونها من الشبهة المحصورة.

وذلك يظهر ما لو كان المال الواقع في يد الإنسان بعنوان الجائزة من السلطان أو عامله خمراً أو لحم خنزير أو شي‌ء ممّا لا يؤكل لحمه كالأرنب وما أشبه ذلك. ولا يمكن التمسّك لإثبات الجواز هنا بعموم قوله عليه‌السلام : «كلّ شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه» (١) ولا بقوله عليه‌السلام : «كلّ شي‌ء لك حلال» (٢) الخ ، لما ذكرناه في محلّه من اختصاصهما بالشبهات الموضوعيّة من الشكّ في التكليف.

النوع الثالث : ما علم إجمالاً وجود الحرام في الجائزة على وجه تعذّر التمييز بسبب الاشتباه ، وهذا إذا كان الاشتباه موجباً للإشاعة الموجبة للشركة ملحق موضوعاً وحكماً بالمال الحلال المختلط بالحرام المعنون في كتاب الخمس ، فإن كان القدر والمالك مجهولين وجب إخراج خمسه فيطهر الباقي مطلقاً ، وإن كانا معلومين وجب التخلّص بالقسمة معه ، وإن كان القدر معلوماً دون المالك لحقه حكم مجهول المالك وستعرفه ، وإن كان المالك معلوماً دون القدر وجب ترضيته للتخلّص بصلح ونحوه. وإن لم يكن الاشتباه موجباً للإشاعة والشركة بل أوجب الانتشار والبدليّة فقيل : يتعيّن بالقرعة ، أو يباع ليحصل الاشتراك في الثمن ثمّ يقسّم مع المالك إن تعيّن ، وإلّا يلحقه

__________________

(١ و ٢) الوسائل ١٧ : ٨٧ / ١ و ٤ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٨ و ٩٨٩.

٤٢٠