ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

واستحقّه من غير جهة هذا العقد ، ولا يعقل تملّكه له واستحقاقه له ثانياً من جهته فإذا لم يؤثّر في تملّك المعوّض واستحقاقه لم يؤثّر في تملّك العوض أعني الاجرة واستحقاقه ، فيكون أخذها أكلاً للمال بالباطل.

وهل الأعمال الواجبة بالشرع على الإنسان من قبيل أعماله الّتي له الامتناع من الإتيان بها ، ولو امتنع لا يجوز استخراجها منه مجّاناً إلّا برضاه وطيب نفسه ، أو من قبيل أعماله الّتي ليس له الامتناع عن الإتيان بها ، ولو امتنع جاز إجباره عليه واستخراجها منه قهراً ، من غير توقّف على رضاه وطيب نفسه؟

والحقّ أنّ فيه تفصيلاً وذلك لأنّ العمل الواجب على المكلّف إمّا عيني تعييني أو تخييري أو كفائي ، فإن كان عينيّاً تعيينيّاً فهو ممّا لا يجوز له الامتناع من الإتيان به ، ولو امتنع جاز استخراجه منه مجّاناً من غير رضاه وطيب نفسه ، بل يجب ذلك مع الامتناع من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيجب على الآمرين بالمعروف حمله على الإتيان به ولو بإجبار وإكراه ، وهذا ممّا لا يقع عليه عقد الإجارة ولا يؤخذ عليه الاجرة ، لما تقدّم من أنّ عقد المعاوضة لا يؤثّر في تملّك العوض واستحقاقه إلّا حيث أثّر في تملّك المعوّض واستحقاقه ، والمفروض أنّ العمل المذكور ما ملّكه باذل الاجرة أو استحقّه من جهة إيجاب الشارع له عليه عيناً على وجه التعيين ويجب عليه الإتيان به وبذله لمالكه ومستحقّه مجّاناً.

ولا يتفاوت الحال في ذلك بين كونه تعبّديّاً متوقّفاً على الإخلاص وقصد القربة كقضاء فوائت الميّت على وليّه ـ أعني أكبر أولاده ـ فلا يجوز له أخذ الاجرة على أصل هذا العمل الواجب عليه من الوصيّ من ثلثه أو من وارث آخر أو غيرهما من متبرّع ونحوه ، أو توصّليّاً لم يعتبر فيه إخلاص ولا نيّة قربة كإنقاذ الغريق في موضع انحصار من يغوص في الماء لإنقاذه فيه فإنّه ليس له الامتناع من إنقاذه حينئذٍ ولا يستحقّ الاجرة لو بذلت له ، لأنّ الإنقاذ قد ملكه الغريق واستحقّه بإيجاب من الشارع ، وعقد الإجارة لا يؤثّر فيه ملكاً آخر له ولا استحقاقاً آخر غير الاستحقاق الأوّل من غير فرق في ذلك بين كون باذل الاجرة هو الغريق نفسه أو وليّه كما لو كان

٣٨١

أباه أو غيره من متبرّع ونحوه.

ولا ينتقض الأوّل بالمال الموصى به للولد الأكبر برعاية تحمّله مشقّة قضاء فوائته حيث يستحقّه ويملكه ، ويجوز له أخذه لأنّه إنّما ملّكه واستحقّه بسبب الوصيّة لا بالإجارة على وجه المعاوضة ، كما أنّ الثاني لا ينتقض بما لو بذل له مال إحساناً بعد بذله حيث يجوز له أخذه ، لأنّه لا يستحقّه على وجه العوضيّة ، فلا يأخذه اجرة على عمله الواجب عليه بل مال أباح له باذله إحساناً فيباح له أخذه أو وهبه له مجّاناً وبلا عوض فيجوز له قبوله.

وإن كان تخييريّاً كالتخيير في العمل الواجب عليه عيناً بين فردين أو أفراد ، فأخذ الاجرة على فرد خاصّ معيّن مبنيّ على اشتماله باعتبار الخصوصيّة على منفعة زائدة على منفعة أصل العمل الواجب المشتركة بين جميع الأفراد كالحفر لدفن الميّت الواجب على إنسان عيناً المتعدّد أفراده من حيث مواضعه الّتي منها الأرض الصلبة ومنها قرب مشهد معصوم أو أحد من ولده أو غيره من العلماء أو الصلحاء ، وكان الحفر في هذه المواضع متضمّناً لكلفة زائدة عليه في غيرها.

وظاهر أنّ صلابة الأرض منفعة زائدة على منفعة أصل الحفر ، كما أنّ قرب المشهد منفعة زائدة على منفعة أصل الحفر وهي المواراة ، وله الامتناع من هذه المنفعة الزائدة وليس لأحد من وليّ الميّت أو وصيّه أو غيره إجباره على بذلها مجّاناً بإلزامه على هذا الفرد الخاصّ من الحفر ، فهو من هذه الجهة يصلح مورداً لعقد الإجارة ، ويجوز أخذ الاجرة عوضاً عن المنفعة الزائدة على منفعة أصل الحفر ، لأنّها منفعة لم يتعيّن عليه بذلها ، وله الامتناع من خصوصيّة هذا الفرد المشتملة على تلك المنفعة الزائدة.

والظاهر عدم الفرق بين التوصّلي كالمثال المذكور ، والتعبّدي كقضاء فوائت الميّت الواجبة على وليّه المخيّر فيها بين إيقاعها في البيت أو إيقاعها في المسجد ، فإنّ فضيلة المسجد منفعة في خصوص أحد الفردين زائدة على منفعة فعل القضاء المشتركة بين الفردين ، فليس للوصيّ أو وارث آخر إلزام الوليّ على الفرد الخاصّ ، وهو إيقاع القضاء في المسجد ليعود إليه منفعة فضيلة المسجد أيضاً ، وللوليّ الامتناع منه بالخصوص إلّا

٣٨٢

بالاجرة ، ولا ينافي أخذها للإخلاص وقصد القربة لأنّهما معتبران في أصل القضاء لا في إيقاعه في المسجد ، والاجرة يستحقّها على إيقاعه في المسجد لا على أصل القضاء ، فداعيه عند الإتيان به هو امتثال الأمر بالقضاء خالصاً لوجه الله الكريم ، وليس أخذ الاجرة داعياً إلى فعل القضاء بل إلى إيقاعه في المسجد فلا منافاة أصلاً.

وإن كان كفائيّاً فقد يفصّل ويقال : بأنّه إن كان توصّليّاً أمكن أخذ الاجرة على إتيانه لأجل باذل الاجرة فهو العامل في الحقيقة ، وإن كان تعبّديّاً لم يجز الامتثال به وأخذ الاجرة عليه.

وكلّ من شقّي هذا التفصيل منظور فيه يظهر وجهه بما نفصّله :

وهو أن نقول : إنّ الواجب الكفائي على ما حقّق في الاصول لمّا كان من حيث الخطاب يجب على الكلّ ، ومن حيث السقوط يسقط عن الباقين بفعل البعض ، فهو بالنسبة إلى كلّ من وجب عليه يتضمّن حيثيّتين : إحداهما وجوبه عليه باعتبار كونه مخاطباً به ، واخراهما كونه مسقطاً للفرض عن غيره ، فهو من الحيثيّة الاولى لا يقابل بالعوض لأنّ المكلّف من هذه الحيثيّة مقهور عليه وليس من حيث وجوبه عليه محترماً ليقابل بالعوض. ولذا لا يتوقّف خروجه منه على رضاه وطيب نفسه.

وأمّا من الحيثيّة الثانية فإسقاطه الفرض عن غيره منفعة قائمة به عائدة إلى الغير ، ففي قبوله أخذ الاجرة من هذه الحيثيّة ليكون الاجرة عوضاً عن المنفعة المبذولة للغير والعدم وجهان :

من أنّ له أن يمتنع عن بذل منفعة الإسقاط. ولذا لو قال له أحد : أقدم على الفعل ليسقط الفرض عنّي ، كان له أن يعارضه بالمثل. فإذا جاز له الامتناع من بذل هذه المنفعة وليس لأحد إلزامه على بذلها جاز له أخذ الاجرة بإزائها.

ومن أنّ هذه الحيثيّة غير منفكّة من الحيثيّة الاولى فالامتناع عنها امتناع عن الحيثيّة الاولى ، وليس له ذلك لما عرفت من كونه مقهوراً عليها فلا يجوز له أخذ الاجرة مطلقاً.

والتحقيق أن يفصّل بين صورتي علمه بأنّه لو امتنع ولم يقدم على العمل لأقدم

٣٨٣

عليه غيره ، وعلمه بأنّه لو لم يقدم وامتنع لم يقدم غيره أيضاً ، فيفوت الفرض ويأثم الكلّ بتركه.

فعلى الأوّل جاز له الامتناع ويأخذ الاجرة على منفعة الإسقاط وإن كان الواجب تعبّديّاً ، لعدم منافاته الإخلاص والنيّة لأنّ الاجرة إنّما يستحقّها على حيثيّة الإسقاط ، والإخلاص والقربة في الحيثيّة الاولى فيأتي بالعمل الواجب عليه بداعي وجوبه وامتثال الأمر به ، لا بداعي الاجرة.

وعلى الثاني لا يجوز له الامتناع لأنّه يفضي إلى الامتناع عن الواجب من حيث وجوبه عليه فيأثم وهو ليس بسائغ فلا يستحقّ به الاجرة ، وإن كان توصّلياً ولو ظنّ قيام غيره به أو احتمله لو امتنع ولم يقدم عليه فالوجه أيضاً عدم جواز أخذ الاجرة ، لما حقّقناه في الاصول من عدم جواز أن يتقاعد عن الفعل في صورتي الظنّ والاحتمال.

ويمكن تفصيل آخر في أخذ الاجرة على الواجبات الكفائيّة ، وهو أنّها إذا كانت توصّليّة ـ كإزالة النجاسة عن المسجد مثلاً ـ فمقتضى كونها توصّليّة أن يكون المقصود بالأصالة من إيجابها حاصلاً بالمباشرة وبالاستنابة ـ نظير غسل الثوب الّذي هو واجب عيني على المكلّف ـ والمقصود من إيجابه وهو طهارة الثوب وزوال النجاسة عنه يحصل بأن يباشره المكلّف بنفسه ، وبأن يستنيب غيره بالتماس أو بذل اجرة فهو مخيّر بينهما ، فإذا جاز لمن وجب عليه إزالة النجاسة عن المسجد كفاية أن يستأجر غيره جاز لغيره أيضاً أن يباشرها عن نفسه ويوجر نفسه لغيره ويأخذ عليها الاجرة ، فيكون نائباً عن الغير ويكون العمل حينئذٍ للمنوب عنه ، وكذلك دفن الميّت الّذي قصد من إيجابه كفاية حفظ جثّة الميّت عن ضرر السباع ودفع الأذى عن الناس ، وهذا يحصل بالمباشرة والاستنابة معاً ، فلا مانع من التزام التخيير بينهما لكلّ مكلّف ، واللازم منه أن يجوز لكلّ واحد أن يباشره عن نفسه وعن غيره فيكون نائباً عنه ويقع العمل للمنوب عنه.

وإذا كانت تعبّديّة لتغسيل الميّت والصلاة عليه فالجواز وعدمه مبنيّ على قبوله النيابة وعدمه ، كالجهاد الّذي هو أيضاً واجب كفائي ويقبل النيابة ، ولأجل ذا كان المكلّف مخيّراً بين أن يباشره بنفسه أو يستأجر غيره ، فجاز لغيره أيضاً ممّن وجب

٣٨٤

عليه كفاية أن يجاهد عن نفسه فيكون أحد أفراد من قام به الكفاية وأن يجاهد عن غيره ويأخذ عليه الاجرة فيكون نائباً والفعل يقع للمنوب عنه فهو حينئذٍ أحد أفراد من قام به الكفاية.

ويمكن الخدشة في الحكم المذكور بخروجه عن موضوع المسألة ، لعدم وجوب النيابة ، فالاجرة المأخوذة لأجل النيابة ليست اجرة على الواجب ، نعم لا بأس به في استباحة أخذها لمن يتداول أخذها في مثل إزالة النجاسة عن المسجد ودفن الأموات وغيره ، فإنّ ما ذكر طريق استباحة لأخذها لا أنّه من أخذ الاجرة على الواجب فليتدبّر.

فقد ظهر بما قرّرناه أنّ صفة الوجوب مانعة من أخذ الاجرة على فعل الواجب من حيث وجوبه ، وما جوّزناه أخذه في بعض صور الواجب التخييري وبعض تقادير الواجب الكفائي فهو في الحقيقة إخراج له عن كونه أخذاً للُاجرة على الواجب من حيث وجوبه.

ثمّ إنّ في المقام إشكالاً مشهوراً ربّما يصعب دفعه ، وهو أنّ الصناعات الّتي يتوقّف عليها النظام ممّا يجب على المكلّفين كفاية ، بل قد يتعيّن بعضها على بعض المكلّفين إذا انحصر من يعرفه فيه ، مع أنّه لا كلام عندهم في جواز أخذ الاجرة عليها فكيف التوفيق؟ وقد ذكر في التفصّي عنه وجوه :

أحدها : الالتزام بخروجها الموضوعي عن حرمة أخذ الاجرة على الواجبات ، فإنّ الواجب إنّما هو وجود من يعرف الصناعات لا عملها ، وبعبارة اخرى يلاحظ في الصناعات علم وعمل والّذي يجب على المكلّفين تحصيل علمها لا عملها ، والاجرة تؤخذ على العمل وهو غير واجب.

ويزيّفه أنّ الصناعات إنّما وجبت لإقامة النظام وهي لا تتمّ بمجرّد العلم بل تتوقّف على العمل أيضاً ، فالعلم يجب مقدّمة للعمل ، والعمل يجب مقدّمة لإقامة النظام.

ثانيها : الالتزام بخروجها عن الحكم بالإجماع والسيرة القطعيّتين ، فإنّ حرمة أخذ الاجرة على الواجبات ثابتة على وجه القاعدة القابلة للتخصيص.

ويزيّفه أنّه إنّما يستقيم لو كان مدرك القاعدة هو النصّ أو الإجماع في وجه ،

٣٨٥

وكلاهما ممنوعان ، لفقد النصّ في المسألة وعدم ثبوت الإجماع على إطلاق المنع بل الثابت خلافه على ما عرفت ، بل العمدة من مدرك القاعدة هو المنافاة الذاتيّة بين أخذ الاجرة وصفة الوجوب ، فالمنع عقلي ، والتخصيص في القواعد العقليّة محال.

ثالثها : الالتزام بجواز أخذ الاجرة على الواجبات إذا لم تكن تعبّديّة كالصناعات.

ويزيّفه أوّلاً : انتقاض عكسه بمثل دفن الميّت وإزالة النجاسة عن المسجد وما أشبه ذلك.

وثانياً : أنّه إنّما إذا كان مستند المنع منافاة أخذ الاجرة للإخلاص ، وقد عرفت أنّ العمدة من مستنده منافاته لصفة الوجوب ، فلا يتفاوت الحال بين التعبّدي والتوصّلي.

رابعها : اختصاص جواز أخذ الاجرة بصورة قيام من به الكفاية ، فلا يكون حينئذٍ واجباً.

ويزيّفه الفتوى والعمل ، أمّا الأوّل فلأنّ فتوى الأصحاب مطلقة في صورتي قيام من به الكفاية وعدم قيامه ، بل ظاهر كلامهم جوازه مع بقاء الوجوب بل مع تعيّنه أيضاً كما عرفت.

وأمّا الثاني فلأنّ المعلوم من عمل المسلمين بذل الاجرة وأخذها مطلقاً ، بل الغالب فيها ما يأخذه من قام به الكفاية حال قيامه بالعمل ، كالطبيب والفصّاد والحجّام وغيرهم تراهم يأخذونها حال القيام ، مع أنّه لا يعقل له مورد غالباً بعد قيام من به الكفاية.

خامسها : اختصاص المنع والحرمة بالواجبات الكفاية المقصودة لذواتها كواجبات الميّت وتعليم وما أشبه ذلك ، لا ما يجب لغيره كالصناعات فإنّها وجبت لإقامة النظام.

ويزيّفه أوّلاً : أنّه لا فرق في دليل المنع من المنافاة الذاتيّة ، فالدليل عقلي وهو لا يقبل التخصيص.

وثانياً : أنّ الصنائع إذا وجبت لإقامة [النظام] فأخذ الاجرة عليها راجع بالأخرة إلى أخذها على إقامة النظام ، وهي واجبة لذاتها.

سادسها : أنّه كما وجبت الصنائع لإقامة النظام كذلك يجوز أخذ الاجرة عليها لإقامة النظام أيضاً ، وبعبارة اخرى أنّ مصلحة إقامة النظام كما تدعو إلى إيجاب هذه الواجبات كذلك تدعو إلى تسويغ أخذ الاجرة عليها ، إذ لو لا جوازه لاختلّ النظام بوقوع أكثر الناس في المعصية بتركها أو ترك الشاقّ أو الدقيق منها طلباً للأسهل ، فإنّهم

٣٨٦

يرغبون في الصناعات الشاقّة أو الدقيقة طمعاً في الاجرة بل زيادتها على ما اعتيد أخذه في غيرها ، فتسويغ أخذ الاجرة عليها لطف في التكليف بإقامة النظام.

ويزيّفه أوّلاً : انتقاض طرده بالواجبات العينيّة التعبّديّة الّتي يكثر المعصية بتركها ، فينبغي أن يسوّغ فيها الاجرة أيضاً لكونه لطفاً في التكليف بها.

وثانياً : انتقاض عكسه ، بأنّ المشاهد في الناس أنّ تحمّلهم الصنائع الشاقّة من الكفائيات لا يكون لداعي زيادة الاجرة فيها بل لدواعي اخر ، مثل عدم الميل إلى ما عدا ما اختاروه ، أو عدم قابليّتهم لغير المختار ، وحسبك شاهداً بذلك أنّ أغلب الصنائع الشاقّة كالعمالة والفلاحة والحرث والحصاد وما أشبه ذلك لا يزيد اجرتها على ما عداها من الأعمال السهلة الغير الشاقّة.

سابعها : أنّ الوجوب في هذه الامور مشروط بالتعويض والواجب المشروط قبل حصول شرط وجوبه ليس بواجب ، فعقد الإجارة الّتي يشترط فيها العوض يقع على العمل قبل وجوبه ، والاجرة يستحقّها الأجير بسببه فيجب العمل حينئذٍ.

ويزيّفه أوّلاً : ما أنّ هذه الأعمال لا تجب لذواتها بل لتوقّف إقامة النظام عليها ، ولا ريب أنّ إقامة النظام واجب مطلق ، وليس وجوبها مشروطاً بالتعويض فكيف يتصوّر كون ما يجب لأجلها واجباً مشروطاً بالتعويض؟!.

وثانياً : أنّ قضيّة البيان المذكور استناد وجوب هذه الامور إلى عقد الإجارة وأخذ الاجرة فلا يكون بأصل الشرع كسائر ما يلتزمه الإنسان بعقد الإجارة ، مع أنّ الضرورة قاضية بأنّها من الواجبات بأصل الشرع ، غاية الأمر كونها واجبات غيريّة.

ثامنها : أنّ وجوب الصناعات المذكورة لم يثبت من حيث ذاتها بل إنّما وجب من حيث الأمر بإقامة النظام ، وإقامة النظام غير متوقّفة على العمل تبرّعاً بل يحصل به وبالعمل بالاجرة ، فالّذي يجب على الطبيب لأجل إحياء النفس وإقامة النظام هو بذل نفسه للعمل لا بشرط به بل له أن يتبرّع به وأن يطلب الاجرة ، وحينئذٍ فإن بذل المريض الاجرة وجب عليه العلاج ، وإن لم يبذل الاجرة والمفروض إفضاء ترك العلاج إلى الهلاك أجبره الحاكم حسبة على بذل الاجرة للطبيب ، وإن كان المريض مغمى عليه

٣٨٧

دفع عنه وليّه ، وإلّا جاز للطبيب العمل بقصد الاجرة فيستحقّ الاجرة في ماله ، وإن لم يكن له مال ففي ذمّته فيؤدّي في حياته أو بعد مماته من الزكاة أو غيرها.

ويزيّفه : أنّ قصد التبرّع بالعمل وقصد أخذ الاجرة عليه من قبيل الدواعي فيكونان من الحيثيّات التعليليّة ، فلا يتعدّد بهما العمل بل العمل واحد ، وهو إذا كان واجباً بأصل الشرع فالمكلّف مقهور على التبرّع به ، ولا قدرة له في الامتناع عنه فلا يقع عليه عقد الإجارة ، فلو وقع يكون لغواً غير مؤثّر لا في إيجاب العمل ثانياً ولا في استحقاق الاجرة بإزائه.

والتحقيق في التفصّي أن يقال : إنّ الصناعات وإن كانت تنتظم بها المعاش ويتوقّف عليها إقامة النظام لكن لا في حدّ ذاتها ، بل بواسطة التكسّب المتوقّف عليها.

وتوضيحه : أنّ العمدة ممّا يتوقّف عليه إقامة النظام الأموال المتوقّف حصولها على التكسّب ، فإنّ كلّ إنسان في نظم معاشه وانتظام اموره في دينه ودنياه حتّى أرباب الصنائع يحتاج لمأكله ومشربه وملبسه ومنكحه ودفع المضارّ عن نفسه وحفظ نفسه عن الهلاك وعلاج مرضه وغير ذلك ممّا لا يحصى إلى امور كثيرة غير محصورة ، لا يمكن التوصّل إليها في الغالب إلّا ببذل الأعواض وصرف الأموال ، فله بحسب جهات احتياجه جهات خرج كثيرة غير محصورة.

ولا ريب أنّ جهات الخرج تستدعي جهة دخل ، والغالب في آحاد نوع الإنسان كون دخله في جهة واحدة فالتاجر في تجارته ، والزارع في زراعته ، والفلاح في فلاحته ، والحارث في حرثه ، والحاصد في حصاده ، والفصّاد في فصده ، والحجّام في حجامته ، وكذلك كلّ صانع في صنعته بأن يتّخذها وسيلة لتحصيل المال ليكفيه في جهات خرجه ، حتّى أنّ الطبيب في طبابته.

وكما أنّ التاجر لو منع من التكسّب وتحصيل المال بتجارته ، والزارع لو منع من تحصيل المال بزراعته لاختلّ نظام اموره في دينه ودنياه ، فكذلك كلّ صانع لو منع من تحصيل المال بصنعته بأن يكون اتّخاذه لها وسيلة لكسب المال محرّماً عليه لاختلّ نظام اموره في دينه ودنياه ، فإقامة نظام النوع متوقّفة على انتظام امور كلّ شخص في

٣٨٨

دينه ودنياه ، وهو متوقّف على التكسّب ، وهو متوقّف على الصناعات علماً وعملاً ، فوجوب الصناعات حينئذٍ إنّما هو من حيث وجوب التكسّب المتوقّف عليها ، ضرورة أنّه لا يتأتّى إلّا باتّخاذ كلّ صانع صنعته وسيلة لكسب المال بإجراء عقود المعاوضة من عقد بيع أو صلح أو إجارة أو جعالة أو غيرها عليها ، واللازم منه جواز أخذ الاجرة عليها بل وجوبه ولو في الجملة ، ومع هذا كيف يتصوّر كونه محرّماً؟.

وبالجملة الواجب من كلّ صنعة اتّخاذها وسيلة لكسب المال ، ولا يكون ذلك إلّا بأخذ الاجرة على عملها ، فمعنى وجوب الصناعات كفاية هو هذا ، بل الغالب في كلّ صانع وجوب صنعة عليه على التعيين ، نعم القدر الواجب منه ما يكتفي به في جهات الخرج ويرتفع به الحاجة بجميع جهاتها ، وأمّا الزائد عليه فإن كان للتوسعة على الأهل والعيالات أو للمواظبة على القربات والخيرات ـ من الضيافات والزيارات والصدقات الجاريات وبناء بقاع الخير وإنفاق الفقراء وصلة الأرحام وما أشبه ذلك ـ كان مستحبّاً ، وإن كان لمجرّد إكثار المال وجمعه كان مباحاً.

فملخّص ما حقّقناه أنّ أخذ الاجرة على الصناعات ليس من أخذ الاجرة على الواجبات في شي‌ء من مراتبه الثلاث ، لأنّ معنى وجوبها هو وجوب التكسّب به وأخذ الاجرة عليها لا غير ، فليتدبّر فيه فإنّه دقيق وحقيق بالإذعان والقبول.

وينبغي ختم المقام بإيراد مسائل متعلّقة بالباب :

الاولى : مقدّمات الواجب كنفس الواجب في حرمة أخذ الاجرة عليها ، كالحضور عند الجنازة للصلاة على الميّت أو تغسيله ، واغتراف الماء أو صبّه في التغسيل وإزالة ولي الميّت في قضاء فوائته للنجاسة عن لباسه أو بدنه وطلبه الماء للطهارة الحدثيّة والخبثيّة وما أشبه ذلك ، لتعيّن فعلها على المكلّف بفعل الواجب فهو مقهور عليه وليس له أن يمتنع عنه ، وقضيّة ذلك تعيّن فعلها مجّاناً ، فأخذ الاجرة عليها أكل للمال بالباطل. ولا يتفاوت الحال في ذلك بين القول بوجوب المقدّمة والقول بعدم وجوبها ، لمكان تعيّن الفعل من جهة اللابدّيّة الّتي هو معنى الوجوب العقلي ، بل الوجوب العقلي جهة جامعة بين القولين فليس له الامتناع ، ولك أن تقول : إنّه على القولين مقهور على فعل

٣٨٩

المقدّمات ، فتعيّن عليه فعلها مجّاناً ، فيحرم أخذ الاجرة لكونه أكلاً للمال بالباطل.

الثانية : يجوز أخذ الاجرة على إرضاع اللباء ، وهو أوّل ما تحلب الامّ ولدها مطلقاً أو إلى ثلاثة ، كما هو المصرّح به في كلام جماعة ، ولعلّه المشهور إن لم نقل بكونه إجماعاً ، ويؤيّد الجواز بل يدلّ عليه إطلاق قوله تعالى : «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» (١).

وقد يستشكل : بكونه أخذاً للُاجرة على الواجب ، لوجوب إرضاع اللباء على الامّ ، لتوقّف حياة المولود عليه لأنّه لا يعيش بدونه.

ودفع أوّلاً : بمنع أصل الوجوب ، إذ لا دليل على أنّ الامّ يجب عليها إرضاع اللباء.

ودعوى أنّه ما يتوقّف عليه الحياة مردودة على مدّعيها ، لشهادة الوجدان بل الحسّ بخلافها.

وثانياً : منع تعيّنه على الامّ ، لأنّه قد يتأتّى من امرأة اخرى غير الامّ ، إذا اتّفق ولادة اخرى مقارنة لولادة هذا المولود.

وثالثاً : منع كونه اجرة على فعل الواجب بل هو أخذ عوض عن العين ، نظير أخذ العوض عن المال المبذول فيمن وجب عليه بذله للمضطرّ ، وقد تقدّم أنّه عوض عن المبذول لا عن أصل البذل هو الواجب عليه ، والواجب على الامّ أيضاً أصل الإرضاع وهو بذل اللباء الّذي هو عين له قيمة لا التبرّع بالمبذول. ويمكن أن يقال إنّه : ليس على وجه المعاوضة بل هو حقّ شرعي قرّره للُامّ في مطلق إرضاعها الولد في مال الوليّ أو في ذمّته بحكم قوله تعالى : «فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» (٢) فلا يكون عوضاً ولا اجرة وإن عبّر عنه بالاجرة.

الثالثة : لا يجوز أخذ الاجرة على تحمّل الشهادة ولا على أدائها على القول بوجوب التحمّل لمن دعاه إليه كما هو المشهور استناداً إلى قوله تعالى : «وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا» (٣) بضميمة الأخبار المستفيضة المفسّرة له بتحمّل الشهادة والدعاء إليه ، فتكون قرينة على التجوّز في المشتقّ بعلاقة ما يؤول ، خلافاً للحلّي القائل باستحبابه استضعافاً للروايات لكونها من أخبار الآحاد ، فتحمل الآية على الأداء عملاً بحقيقة المشتقّ.

__________________

(١ و ٢) الطلاق : ٦.

(٣) البقرة : ٢٨٢.

٣٩٠

فوجه المنع فيه وفي الأداء ما تقدّم من أنّ قضيّة الوجوب فيهما عيناً أو كفاية تعيّن بذله مجّاناً فلا يقابل بالعوض ، فيكون أخذ الاجرة عليه أكلاً للمال بالباطل.

وقد يستدلّ عليه بأنّ المستفاد من أدلّة الشهادة كون التحمّل والأداء حقّاً للمشهود له على الشاهد ، فالموجود في الخارج من الشاهد حقّ للمشهود له فلا يقابل بعوض ، ضرورة استحالة مقابلة حقّ شخص بشي‌ء من ماله ، فيرجع أخذ المال في مقابله إلى أكل المال بالباطل.

فروع :

الأوّل : لو توقّف الحمل أو الأداء على قطع مسافة بعيدة وجب مقدّمة فيحرم أخذ الاجرة عليه أيضاً ، لما تقدّم من أنّ الواجب إذا حرم أخذ الاجرة عليه حرم أخذها على مقدّماته أيضاً ، نعم لو افتقر إلى بذل مال كالافتقار إلى زاد أو راحلة لم يجب بذله على الشاهد من ماله ، لأنّ المستفاد من أدلّتهما وجوب أصل التحمّل أو الأداء لا وجوب بذل المال للتحمّل أو الأداء ، فيكون كلّ منهما بالإضافة إلى بذل المال أعني الزاد والراحلة واجباً مشروطاً وإن كان بالإضافة إلى أصل قطع المسافة من الواجب المطلق ، فإذا بذلهما الداعي أو صاحب الواقعة وجب القطع.

الثاني : لو أمكن إحضار الواقعة عنده لتحمّل الشهادة ، قيل : إنّ له أن يمتنع من الحضور ويطلب الإحضار ، وقضيّة ذلك أن يجوز له أخذ الاجرة على حضوره. وفيه نظر ، لأنّ تحمّل الشهادة في نحو هذه الصورة إذا كان واجباً مطلقاً فمقدّمته أيضاً واجب مطلقاً ، غاية الأمر أنّ حصول إحضار الواقعة من صاحب الواقعة مسقط عن المقدّمة الواجبة عليه ، وإمكانه لا ينافي إطلاق وجوبها نظير غسل الثوب على المكلّف بالصلاة مقدّمة لها مع إمكان سقوطها بفعل الغير. وبالجملة حضور الشاهد عند الواقعة لتحمّل الشهادة مقدّمة للواجب المطلق فيكون واجباً ، فكيف يقال : بجواز الامتناع منه؟ وإذا لم يجز الامتناع منه فكيف يقال بجواز أخذ الاجرة عليه؟!.

نعم إنّما يتّجه ما ذكر لو كان التحمّل في نحو هذه الصورة واجباً مشروطاً بإحضار الواقعة ، فله حينئذٍ أن يمتنع من الحضور لعدم وجوبه ويطلب الإحضار ولكنّه خلاف

٣٩١

مقتضى إطلاق الآية ، والتقييد الموجب لاشتراط الوجوب يحتاج إلى دليل ولا دليل.

الثالث : ما تقدّم من منع أخذ الاجرة على التحمّل أو الأداء إنّما هو إذا أخذها من المشهود له ، وأمّا لو أخذها ممّن يشاركه في الفرض في صورة الوجوب كفاية لفائدة إسقاط الفرض عنه فقيل بعدم جوازه أيضاً ، ولعلّ وجهه أنّ فائدة الإسقاط في الكفائي ليست منفعة تقابل بالعوض في نظر الشارع ، لأنّها على تقدير القيام بفعل الكفائي ضروري الحصول ، وعلى تقدير عدمه ممتنع الحصول ، فلا تكون من المنافع المقدور على تسليمها ، فلا تصلح مورداً لعقد الإجارة ولا مطلق المعاوضة ، مع أنّ هذه الفائدة مشتركة بين فاعل الكفائي ومن يشاركه في الفرض ، فيصير أخذ الاجرة عليها مع عودها إلى نفسها كالجمع بين العوض والمعوّض.

مع إمكان أن يقال : كما أنّ تحمّل الشهادة وأدائها حقّ للمشهود له فلا يقابل بشي‌ء من ماله ، كذلك فائدة إسقاط الفرض عن الباقين بفعل البعض كالحقّ لهم فلا يقابل بشي‌ء من مالهم ، مع أنّ فاعل الكفائي على تقدير قيامه بالفعل مقهور على بذلها يمتنع عليه الإمساك عنها ، فتكون نظير مقدّمة الواجب على القول بعدم وجوبها ، فالمنع جيّد.

الرابعة : الاجرة على القضاء الواجب على الحاكم الشرعي عيناً أو كفاية بالمعنى المتناول للجعل ، والمشهور ظاهراً المنع من أخذها مطلقاً ولو من بيت المال ، وعن جامع المقاصد (١) دعوى النصّ والإجماع عليه ، وعن الخلاف (٢) صريحاً والمبسوط (٣) ظاهراً دعوى الإجماع على تحريم الجعل الّذي هو أعمّ من الاجرة. خلافاً للمقنعة (٤) والنهاية (٥) والقاضي (٦) على ما حكي عنهم فجوّزوا أخذه من بيت المال ، ولمختلف (٧) العلّامة على ما تقدّم منه من جواز أخذها عليه مع عدم التعيين ، ويظهر الميل إليه من عبارة المحقّق في الشرائع (٨) مع الحاجة إلّا أنّه جعل المنع أولى.

والأصحّ المنع مطلقاً ، لأنّ القضاء الّذي يؤخذ الاجرة أو الجعل عليه ، إن اريد به

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٣٦.

(٢) الخلاف ٦ : ٢٣٣ المسألة ٣١.

(٣) المبسوط ٨ : ٨٥.

(٤) المقنعة : ٥٨٨.

(٥) النهاية : ٣٦٧.

(٦) المهذّب ١ : ٣٤٦. (٧) المختلف ٥ : ١٨.

(٨) الشرائع ٤ : ٦٩.

٣٩٢

مجموع يتصدّاه القاضي عند الترافع إليه ، من سماع دعوى المدّعي وإحضار المدّعى عليه وطلب الجواب منه ، وطلب البيّنة من المدّعي على تقدير إنكار المدّعى عليه ، ثمّ طلب تزكية الشهود أو جرحهم ، وإحلاف المنكر على تقدير عدم بيّنة للمدّعي إلى غير ذلك ممّا يستعمله القاضي في مجلس الترافع إلى أن يبلغ حدّ الحكم الإنشائي فهو حقّ للمترافعين ، والقاضي مقهور عليه فلا يقابل بعوض منهما ولا من أحدهما ولا من غيرهما. وإن اريد به خصوص الحكم الإنشائي فهو حقّ للمحكوم له فلا يقابل بعوض منه أو من غيره ، لكونه من أكل المال بالباطل.

ويدلّ عليه أيضاً ـ بعد الإجماع المنقول المعتضد بالشهرة ـ صحيح عمّار بن مروان المرويّ عن الخصال قال : «كلّ شي‌ء غلّ من الإمام فهو سحت ، والسحت أنواع كثيرة ، منها : ما اصيب من أعمال الولاة الظلمة ، ومنها : اجور القضاة واجور الفواحش ، وثمن الخمر والنبيذ المسكر ، والربى بعد البيّنة» (١) الخ.

مضافاً إلى صحيح ابن سنان المرويّ عن المحمّدين الثلاث قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن قاض بين فريقين يأخذ على القضاء من السلطان الرزق؟ فقال : ذلك السحت» (٢). بناءً على كون المراد من الرزق المأخوذ من السلطان ما يأخذه القاضي على وجه الاجرة لا ما يرتزقه من بيت المال فإنّه حلال بلا إشكال ، لكون بيت المال معدّاً لمصالح المسلمين والقاضي وقضاؤه من أهمّ مصالحهم. إلّا أنّه نوقش في هذه الصحيحة من وجوه أسدّها أنّ هذا القاضي بقرينة السلطان منصوب من قبل الجائر ، ولا ريب أنّه مثل هذا الشخص غير قابل للقضاوة فيحرم عليه ما يأخذه ولو بعنوان الارتزاق من بيت المال.

وقد يستدلّ أيضاً ببعض أخبار الرشوة ، بناءً على أنّها في بعض الأخبار اطلقت على مطلق العوض.

وحيث انجرّ الكلام إلى ذكر الرشوة فينبغي صرف عنان البحث إليها حكماً وموضوعاً ، ببيان أنّ رشوة القاضي مع الاجرة على القضاء هل هما متّحدان أو

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٦٣.

(٢) الوسائل ٢٧ : ٢٢ / ١ ، ب ٨ آداب القاضي ، التهذيب ٦ : ٢٢٢ / ٥٢٧.

٣٩٣

متغايران؟ وعلى الثاني تغايرهما هل هو على وجه التباين الكلّي أو الجزئي أو العموم والخصوص؟ فنقول :

أمّا الحكم فتحريم الرشوة على الحاكم إجماعي ، وفي المسالك (١) كما عن جامع (٢) المقاصد «أنّ عليه إجماع المسلمين» ويمكن دعوى الضرورة فيه في الجملة.

ويدلّ عليه مضافاً إلى ذلك النصوص المستفيضة القريبة من التواتر بل المتواترة في الحقيقة ، ففي بعضها : «لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الراشي والمرتشي» (٣) وفي رواية يوسف بن جابر : «لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من نظر إلى فرج امرأة لا تحلّ له ، ورجلاً خان أخاه في امرأته ، ورجلاً احتاج الناس إليه لفقهه فسألهم الرشوة» (٤).

وفي بعضها كون أخذها شركاً كما في رواية الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «أيّما وال احتجب من حوائج الناس احتجب الله عنه يوم القيامة وعن حوائجه ، وإن أخذ هديّة كان غلولاً ، وإن أخذ الرشوة فهو مشرك» (٥).

وفي جملة كثيرة منها جعلها سحتاً أو عدّها من السحت ، ومن ذلك رواية يزيد بن فرقد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن السحت؟ فقال : الرشا في الحكم» (٦) ورواية السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «السحت ثمن الميتة ، وثمن الكلب ، وثمن الخمر ، ومهر البغيّ ، والرشوة في الحكم ، وأجر الكاهن» (٧).

وفي جملة كثيرة أيضاً : فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم ، ومن ذلك ما في مرسلة الفقيه قال : «قال عليه‌السلام : أجر الزانية سحت ، وثمن الكلب الّذي ليس بكلب الصيد سحت ، وثمن الخمر سحت ، وأجر الكاهن سحت ، وثمن الميتة سحت ، فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم» (٨). والصحيح المرويّ عن الخصال عن أبيه عن

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٦٣.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٣٥.

(٣) البحار ١٠١ : ٢٧٤.

(٤) الوسائل ٢٧ : ٢٢٣ / ٥ ، ب ٨ آداب القاضي.

(٥) الوسائل ١٧ : ٩٤ / ١٠ ، ب ٥ ما يكتسب به ، عقاب الأعمال : ٣١٠ / ١.

(٦) الوسائل ١٧ : ٩٣ / ٤ ، ب ٥ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٢٧ / ٤.

(٧) الوسائل ١٧ : ٩٣ / ٥ ، ب ٥ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٢٦ / ٢.

(٨) الوسائل ١٧ : ٩٤ / ٨ ، ب ٥ ما يكتسب به ، الفقيه ٣ : ١٠٥ / ٤٣٥.

٣٩٤

سعد عن أحمد بن محمّد عن ابن محبوب عن أبي أيّوب عن عمّار بن مروان قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : كلّ شي‌ء غُلّ من الإمام فهو سحت ، والسحت أنواع كثيرة ، منها : ما اصيب من أعمال الولاة الظلمة ، ومنها : اجور القضاة ، واجور الفواجر ، وثمن الخمر والنبيذ المسكر ، والربى بعد البيّنة ، فأمّا الرشاء ـ يا عمّار ـ في الأحكام فإنّ ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله» (١).

وقد يستدلّ عليه بالكتاب ، وكأنّ النظر فيه إلى قوله تعالى : «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (٢) بناءً على بعض التفاسير في «وَتُدْلُوا» عطفاً على المنهيّ ، والإدلاء هو الإلقاء وإعطاء الأموال إلى الحكّام رشوةً لأجل أحكامهم المتوسّل بها إلى أكل طائفة من أموال الناس مأخوذة بسبب هذه الأحكام بغير حقّ.

قيل : الآية تدلّ على النهي عن شيئين :

أحدهما : عن أكل الأموال بسبب باطل غير مشروع ، كالقمار والسرقة والخيانة والغصب والعقود الفاسدة.

والآخر : عن إدلاء الأموال إلى الحكّام أي لا تعطوا الحكّام أموالكم ليحكموا لكم ، وهذا مستعار من قول العرب : «وأدلى دلوه أي أرسله» وهو إرسال الرشوة إلى الحكّام للتوصّل إلى حكمهم ، كمن أرسل دلوه إلى البئر للتوصّل إلى الماء.

وأمّا الموضوع : فنقول : قد ظهر ممّا سبق في أخذ الاجرة على الواجبات أنّ عنوان الاجرة على القضاء هو الاجرة على الواجب ، وتحريم أخذها عليه إنّما هو من حيث وجوبه على القاضي ، فإن اريد به خصوص الحكم الإنشائي إذا تعيّن لأحد المتخاصمين بعد إعمال موازين القضاء فهو حقّ فيكون واجباً ، وقضيّة ذلك كون الحكم للآخر باطلاً فيكون محرّماً. فالقاضي إن أخذ مالاً على الحقّ وهو الحكم لمن له الحكم فهو أخذ للُاجرة على القضاء الواجب ، وإن أخذ مالاً على الباطل أي ليحكم للطرف

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٩٥ / ٢ ، ب ٥ ما يكتسب به ، الخصال ١ : ٣٢٩ / ٢٦.

(٢) البقرة : ١٨٨.

٣٩٥

الآخر فهو الرشوة ، وعلى هذا فيحصل الفرق بينهما بالتباين الكلّي وكلاهما محرّمان إلّا أنّ الأوّل لكونه أخذاً للُاجرة على الواجب ، والثاني لكونه أخذاً للُاجرة على المحرّم. ويؤيّده أو يساعد ما في المجمع كما عن النهاية من أنّ الرشوة قلّما تستعمل إلّا فيما يتوصّل به إلى إبطال حقّ أو تمشية باطل.

وإن اريد به التوجّه إلى أمر المترافعين من أوّل أعمال القاضي إلى أن ينتهي إلى الحكم الإنشائي أعني مجموع هذه الأعمال فهو أيضاً واجب وأخذ الاجرة عليه أيضاً حرام ، فأخذ الاجرة على القضاء حينئذٍ يصدق على أخذها على المجموع وعلى أخذها على خصوص الحكم الإنشائي ، وفسّر الحكم بما يعطيه أحد المتحاكمين الحاكم ليحكم له حقّاً كان أو باطلاً كان الفرق بينهما بالتباين الجزئي ، لافتراق الأوّل فيما يؤخذ على القضاء بمعنى التوجّه إلى أمر المترافعين من دون نظر إلى خصوص الحكم فإنّه لا يسمّى رشوة. وافتراق الثاني فيما إعطاء المبطل منهما لأن يحكم له بالباطل ، فإنّه رشوة لا تسمّى اجرة على القضاء الواجب ، واجتماعهما فيما يعطيه المحقّ لأن يحكم له فإنّه رشوة من هذه الحيثيّة ، واجرة على القضاء من حيث وجوب ذلك الحكم.

وأرجح الوجهين ثانيهما وفاقاً للشيخ الشارح للقواعد على ما حكي من قوله : «إنّها ليست مطلق الجعل كما في القاموس (١) بل بينها وبين الأجر والجعل عموم من وجه ، ولا البذل على خصوص الباطل كما في النهاية (٢) والمجمع (٣) ولا مطلق البذل ولو على خصوص الحقّ ، بل هو البذل على الباطل أو على الحكم له حقّاً أو باطلاً مع التسمية وبدونها» (٤) وستعرف معنى تتمّة كلامه.

بل ظاهر المحكيّ عن مفتاح الكرامة كون العموم في جانب الرشوة محلّ وفاق بين الأصحاب لقوله : «إنّها عند الأصحاب ما يعطي للحكم حقّاً وباطلاً» (٥) ويعطيه ظاهر كلام جامع المقاصد قائلاً : «بأنّ الجعل من المتحاكمين للحاكم رشوة» (٦) كما حكي. وفي معناه عبارة المسالك من «أنّها أخذ الحاكم مالاً لأجل الحكم» (٧) وهو

__________________

(١) القاموس المحيط ٤ : ٣٣٤.

(٢) النهاية لابن الأثير ٢ : ٢٢٦.

(٣) مجمع البحرين ١ : ١٨٤.

(٤) شرح القواعد ٢ : ٢٨٩. (٥) مفتاح الكرامة ١٢ : ٣٢١.

(٦) جامع المقاصد ٤ : ٣٧.

(٧) المسالك ١٣ : ٣٤٧.

٣٩٦

ظاهر ما عن الحلّي بل صريحه في مسألة تحريم أخذ الرشوة مطلقاً وإعطائها «إلّا إذا كان على إجراء حكم صحيح فلا يحرم على المعطي» (١).

وتبعه على ذلك جماعة حيث حرّموا الرشوة على الحكم الباطل من الآخذ والمعطي ، وعلى الحكم الحقّ من الآخذ دون المعطي لو توقّف توصّله إلى حقّه على إعطائها. ويؤيّده بل يساعد عليه المحكيّ عن المصباح المنير من «أنّها ما يعطيه الشخص للحاكم أو غيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد» (٢) ونحوه ما في المجمع.

وعليه فلا ينافيه ما تقدّم من عبارته كما عن النهاية أيضاً إذ لا مانع في كونها غالب الاستعمال فيما يتوصّل إلى إبطال حقّ أو تمشية باطل ، وقليل الاستعمال فيما يتوصّل به إلى الحقّ مع صدق الاسم عليهما حقيقة كما يشهد به العرف أيضاً.

لأنّا نرى صدقها على كلّ ممّا يبذل للحكم حقّاً أو باطلاً ، وتستعمل في كلّ منهما من دون صحّة سلب الاسم. بل يدلّ عليه النصوص المصرّحة بكون الرشوة في الحكم سحتاً ، أو كون الرشاء في الأحكام كفر بالله العظيم ، لعموم الحكم والأحكام كلّاً من الحقّ والباطل ، ولا ينافيه الرشاء في الأحكام لُاجور القضاة في صحيح (٣) عمّار لكفاية التباين الجزئي في صحّة المقابلة ، هذا كلّه في الفرق بينهما بحسب المورد.

وبينهما فرق آخر بحسب العنوان ، بتقريب أنّ الاجرة على القضاء ما يؤخذ بعنوان الإجارة أو الجعالة ، نظراً إلى أنّ الاجرة قد يطلق على ما تعمّ الجعل ، كما أنّ الجعل يطلق على ما يعمّ الاجرة ، والرشوة على الحكم قد تكون بعنوان الإعطاء والبذل المطلق ، وقد تكون بعنوان الإجارة ، وقد تكون بعنوان الجعالة ، وقد تكون بعنوان المحاباة كالصلح أو البيع من الحاكم بأقلّ من ثمن المثل لغرض أن يحكم له ، وقد تكون بعنوان الهبة المجّانيّة ، وقد تكون بعنوان الهديّة ، وقد تكون بعنوان العاريّة ، وقد تكون بعنوان الوقف على الحاكم ، وقد يكون بصيغة ردّ المظالم أو الزكاة أو الخمس أو خصوص سهم الإمام ، أو غيره من وجوه البرّ والصدقات الواجبة والمندوبة ، وكلّ ذلك

__________________

(١) السرائر ٢ : ١٦٦.

(٢) المصباح المنير ١ : ٢٢٨.

(٣) الوسائل ١٧ : ٩٥ / ١٢ ، ب ٥ ما يكتسب به ، الخصال ١ : ٣٢٩ / ٢٦.

٣٩٧

كما ترى يصدق عليه الرشوة عرفاً ولغة ، ويندرج في تراجم أهل اللغة وتفاسير الفقهاء فيتناولها أدلّة التحريم.

وقضيّة حرمة أخذه على الحاكم فساد العقود والصيغ المفروضة ، وعدم تأثيره في النقل والانتقال ولا براءة ذمّة المعطي ولا تملّك الآخذ وملكه ، والسرّ فيه أنّ جهة الرشائيّة صفة مبغوضة في نظر الشارع إذا طرأت المال كانت مانعة عن صحّة العقود أو الصيغ الجارية عليه ، أو أنّ النكتة فيه فساد القصد والنيّة بحسب الواقع واعتبار إحدى العناوين المذكورة ، والتسمية باسمه لباس ظاهري لا ينوط به الصحّة والتأثير ، حتّى أنّ النيّة في أداء الوجوه الواجبة أو المندوبة المنوط صحّته بالإخلاص وقصد القربة مشوبة غير خالصة ، لأنّ أصل الداعي إليه في نفس الأمر هو التوصّل إلى استخراج الحكم حقّاً أو باطلاً.

وربّما يشكل الحال فيما لو كان للحاكم دين على أحد المترافعين ، أو عين مغصوبة في يده وكان منكراً أو ممتنعاً من أداء الدين ، أو ردّ العين غصباً وهو من أهل الاستيلاء ، ففي هذا المقام الّذي هو موضع حاجته يردّ الدين أو العين لغرض أن يحكم له ، فهل هو رشوة؟ فيحرم كلّ من الإعطاء والأخذ ، أوْ لا فلا يحرم شي‌ء منهما ، أو يفصّل بين الدين فيحرم والعين فلا يحرم. ووجه الفرق أنّ الردّ في الأوّل إيجاد للمقتضي فلا يؤثّر في تعيّن المال للحاكم لطروّ جهة الرشائيّة ، والثاني رفع للمانع وهو يده الغاصبة عن العين المملوكة للحاكم فيجوز له أخذها والتصرّف فيها للأصل و «عموم الناس مسلّطون على أموالهم». وهذا جيّد.

ولكنّ الأجود هو أوسط الوجوه ، لتطرّق المنع من صدق الرشوة على مثل ذلك عرفاً ولغة ، لظهور تراجم أهل اللغة وتفاسير الفقهاء في كون المال المبذول من مال باذله الّذي أعطاه الحاكم لمجرّد أن يحكم له ، وهذا دَيناً وعيناً مال الحاكم فلا يشمله أدلّة التحريم.

ثمّ الظاهر بل المقطوع به اختصاص الرشوة موضوعاً وحكماً بالأموال ، وعدم جريانهما في الأعمال كأن يخدمه أو يعمل له عملاً ليحكم له ، ولا الأقوال بأن يمدحه ويمجّده ويبجّله ويثني عليه في الحضور والغياب ويفرط في تعظيمه لإلقاء حبّه ومودّته في قلبه ليدعوه إلى الحكم له ، لصحّة سلب الاسم فلا يشملهما أدلّة التحريم.

٣٩٨

وهل تختصّ في الأموال بالأعيان أو تعمّ المنافع أيضاً؟ بأن يوجره داره أو غيرها من أملاكه بأقلّ من ثمن المثل ، أو أباح له منافع عقار من عقاراته مدّة ليحكم له ، الظاهر هو الثاني لصدق الاسم عرفاً ولغة.

ثمّ المال المبذول للحكم قد يكون مبذولاً ليحكم له في خصومة وقعت في الحال ، وقد يكون مبذولاً له في خصومة يقصدها في الاستقبال ، وقد يكون مبذولاً لأجله في خصومة على تقدير وقوعها في المال ، وفي اختصاص الرشوة بالأوّل أوْ عمومها لغيره قولان ، أحدهما التعميم الّذي صرّح به الفاضل النراقي في المستند (١) ونقل القول به أيضاً إلى كتب غير واحد من الأصحاب ، وأنكره السيّد في الرياض (٢) فخصّها بالأوّل. والأصحّ هو الأوّل ، لصدق الرشوة عرفاً على الجميع ، وتناول نصّ أهل اللغة والفقهاء للجميع ، مع عموم الروايات لكون الجميع رشوة في الحكم ورشاء في الأحكام. وربّما استدلّ عليه بما دلّ من الأخبار على أنّ هدايا العمّال غلول ، وفي بعضها أنّها سحت. وليس ببعيد على تقدير سلامة الإسناد.

ثمّ قد عرفت ممّا سبق أنّ من جملة وجوه الرشوة إعطاء وأخذ الهديّة ، وهي مال يرسله إنسان إلى آخر لأغراض ، وهذا الغرض فيما كان المرسول إليه هو الحاكم قد يكون نفس الحكم ، وقد يكون إيراث المحبّة والمودّة الباعثة له على الحكم ، والظاهر أنّ كليهما من الرشوة المحرّمة لصدق الاسم عرفاً ولغة وعموم أدلّة الحرمة. ويستفاد من عبارات جماعة اختصاص الهديّة بما كان لإيراث المحبّة المحرّكة إلى الحكم ، وليس بشي‌ء لكثرة ما يقصد التحريك إلى الحكم من نفس الهديّة. وقد يستدلّ على الحرمة في ما يقصد به إيراث المحبّة المحرّكة إلى الحكم أو مطلق الهديّة على تقدير عدم صدق الاسم بما ورد من «أنّ هدايا العمّال سحت» (٣) أو «أنّها غلول» (٤) مضافاً إلى ما تقدّم في رواية الأصبغ بن نباتة من قوله عليه‌السلام «وإن أخذ هديّة كان غلولاً» (٥) وإلى تنقيح المناط.

__________________

(١) المستند ١٤ : ١٨١.

(٢) الرياض ٨ : ١٨٢.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٢٣٧ / ٦ ، ب ٨ أبواب آداب القاضي.

(٤) مسند أحمد ٥ : ٤٢٤.

(٥) تقدّم في الصفحة : ٣٩٤.

٣٩٩

ثمّ إنّ العبرة في كون المال المبذول للحكم رشوة بقصد المعطي لا الآخذ ، فإن أعطاه لغرض أن يحكم له وأخذه الحاكم لا بهذا القصد كان من الرشوة المحرّمة ، حتّى أنّه لو اطمأنّ على نفسه بأنّه لا يزلّ في مقام الحكم ولا يميل نفسه إلى باذل المال كان رشوة محرّمة أيضاً ، لصدق الاسم وإطلاق كلام أهل اللغة والفقهاء في تفسيرها. نعم حرمة أخذه مقصورة على ما لو علم الآخذ بقصد المعطي ، فلو جهل ولو بكونه ظانّاً أو شاكّاً لا ضير في أخذه ، لعموم أصل البراءة في الشبهات الموضوعيّة وإن كان التحلّي بحلية التقوى وسلوك طريق الاحتياط يقتضي أولويّة تجنّبه.

ثمّ إنّه قد ظهر من تضاعيف كلماتنا المتقدّمة أنّ الرشوة كما يحرم أخذها على الحاكم وهو المرتشي ، فكذا يحرم إعطاؤها على الراشي ، كما هو المصرّح به في كلام الأصحاب بل عليه الإجماع ظاهراً ، ويدلّ عليه من النصوص ما تقدّم (١) من لعن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «الراشي والمرتشي» وفي كلام جماعة (٢) تعليلها في الراشي بكونه إعانة على الإثم ، وإن كان في أصله أو اطّراده موضع نظر. ويستثنى الإعطاء من الحرمة فيما لو كان المعطي محقّاً وتوقّف الوصول إلى حقّه بإعطاء الرشوة ، فيجوز إعطاؤها حينئذٍ للراشي وإن حرم أخذها على المرتشي ، كما هو المصرّح به في كلام جماعة منهم الحلّي (٣) فيما تقدّم من عبارته ، وإطلاقها بالقياس إلى صورة عدم توقّف الوصول إلى الحقّ منزّل على صورة التوقّف. ودليل الاستثناء حينئذٍ قاعدة نفي الضرر الحاكمة على سائر الأدلّة الخاصّة الّتي منها ما نحن فيه.

ثمّ إنّ المصرّح به في كلام جماعة جريان الرشوة في غير الحكم من الغايات الاخر الّتي يتوصّل إليها ببذل مال حقّاً كانت الغاية المقصودة أو باطلاً ، وهذا صريح ما تقدّم من كلام المصباح المنير كما في المجمع أيضاً ، وربّما نسب إلى النهاية الأثيريّة أيضاً.

وخصّه في شرح القواعد بما لو كانت الغاية باطلة ، وقد سمعت تمام عبارته وموضع البحث منه قوله : «بل هو البذل على الباطل أو على الحكم حقّاً أو باطلاً» (٤).

وهذا جيّد ، لمنع إطلاق الرشوة على ما كان لتمشية حقّ وهو الغاية المباحة ، كما

__________________

(١) تقدّم في الصفحة : ٣٩٤.

(٢) كما في الرياض ٨ : ١٨٢ ، الشرائع ٢ : ١٢.

(٣) السرائر ٢ : ٢١٧.

(٤) شرح القواعد ١ : ٢٧.

٤٠٠