ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

ما يحصل بالموعظة والنصيحة ونحوهما من الحكم العمليّة المباحة.

وأمّا الثالث : فلأنّ السيرة وإن كانت مسلّمة ، ولكن كونها صحيحة بحيث تكشف عن رضا المعصوم ممنوع ، وإلّا تنتقض بسيرة الناس في أصل الغيبة ، ولو سلّم فهي مجهولة الجهة ، ومن الجائز أن يكون جريان السيرة في ذمّ الأولاد أو الأتباع وإشاعة عيوبهم لجهة النهي عن المنكر أو غيره لا التأديب من حيث إنّه تأديب ، فيجب فيه مراعاة انحصار الطريق.

وأمّا الرابع : فلأنّه إن اريد به خوف الوقوع عليهم فيما هو أعظم من مفسدتهم الموجودة ، فيتطرّق المنع إلى تأثير هذه المفسدة المخوفة على تقدير وقوعها في استباحة الغيبة ، فإنّه في المفسدة الموجودة محلّ منع فكيف المفسدة المحتملة؟ وإن اريد به الخوف على نفسه من الوقوع فيما هو أعظم من اغتيابهم والكشف عن عيوبهم من ضربهم أو جرحهم أو قتلهم أو غير ذلك من المحرّمات ، فيجوز الذمّ والاغتياب حينئذٍ لكونه من باب ارتكاب أقلّ القبيحين أولى. ففيه منع الأولويّة ، بل منع الجواز في الأعظم أيضاً ، فإنّ سند المنع من تأثير القصد إلى التأديب في استباحة المحرّم واحد جارٍ في الأحقر والأعظم ، مع أنّ ارتكاب أقلّ القبيحين إنّما يسلّم في مقام الدوران ، كما لو دعت الضرورة إلى ارتكاب قبيح دائر بين الأقلّ والأعظم ، كما لو دار الأمر في المجاعة مثلاً لضرورة عدم الوقوع في التهلكة بين أكل المال المغصوب أو تناول الميتة مثلاً ، ولا ضرورة في المقام دعت إلى ارتكاب أحد القبيحين ليرجّح في ذلك أقلّهما ، فإنّ الكلام في تأثير جهة التأديب في استباحة المحرّم وهو في الجميع محلّ منع. كالمنع من دعوى أنّ المنساق من أدلّة التحريم هو غير ذلك فإثبات الإباحة لا يحتاج إلى إثبات دليل عليه لكفاية الأصل في ذلك حيث لا دليل على التحريم هنا ، فإنّها دعوى مردودة على مدّعيها. فالإنصاف أنّ الدليل في عنوان التأديب وتأثيره في استباحة الغيبة غير تامّ ، فلا بدّ فيه من مراعاة اندراجه في عنوان النهي عن المنكر وغيره من المستثنيات المتقدّمة.

الثالث عشر : ذكره باسمه المعروف المشعر بالذمّ أو الصفة المعروفة كذلك ، كالأعور والأعرج والأعمش والأشتر ونحوها لضرورة التعريف ، كما جرت به عادة العلماء في

٢٨١

ذكر الرواة والمحدّثين وقد ورد في كثير من الأخبار ، فالسيرة والإجماع والأخبار شاهدة بذلك كما نقل عن شرح القواعد (١).

والكلّ منظور فيه ، فإطلاق الجواز محلّ منع ، بناءً على ما تقدّم من عدم اعتبار المستوريّة في موضوع الغيبة ، ولو سلّم فغايته خروج ذكره باللقب أو الصفة المعروفين المشعرين بالذمّ عن كونه غيبة ، وهذا بمجرّده لا يلازم الجواز ، لأنّ الشي‌ء قد يحرّم لكونه إيذاءً للمؤمن ، وقد يحرّم لكونه بهتاناً ، كما قد يحرّم لكونه غيبة. والتفصيل بين صورتي العلم برضا صاحبه فيجوز وعدمه فلا ، غير واضح أيضاً ، لأنّ كون رضا صاحب الغيبة مبيحاً لغيبته على ما ستعرفه أوّل الكلام.

فعن ثاني الشهيدين في رسالته في الغيبة من التفصيل بين الأموات فيجوز ذكرهم بنحو الصفة المذكورة لضرورة التعريف والأحياء فلا يجوز والفارق هو أنّ عادة العلماء جارية في الأوّل لذكرهم الرواة والمحدّثين بالأوصاف المذكورة دون الثاني فلا بدّ فيه من رضا المغتاب ، أيضاً غير واضح.

نعم لو كانت الضرورة المفروضة في التعريف بنحو ما ذكر ما لو توقّف واجب شرعي على التعريف وكان في نظر الشارع من أهمّ الواجبات بحيث يكون مصلحته راجحة على مصلحة احترام المؤمن مع انحصار طريقه فيه لم يكن حجر في جوازه حينئذٍ ، كما أنّه لا حجر في الجواز أيضاً في ذكره بالاسم أو اللقب المذموم بحسب الأصل الّذي زال منه الإشعار بالذمّ بسبب الاشتهار وكثرة التداول ، أو بأن يكون الصفة المذمومة ثابتة لسوابقه من آبائه أو أجداده لا لنفسه ، والمناط صيرورته بحيث لا يكره ذكره بهذا الاسم واللقب المعروف أو الصفة المعروفة.

وقد يذكر في المستثنيات أشياء اخر دليل استثنائها غير تامّ.

وينبغي ختم باب الغيبة بإيراد امور مهمّة :

أوّلها : في أنّ رضا المغتاب باغتيابه هل يكون مبيحاً للاغتياب أو لا؟ ولم نقف في كلام الأكثر على نصّ في ذلك بل أطلقوا الحكم بالتحريم ، غير أنّه نسب إلى الشيخ في

__________________

(١) شرح القواعد ١ : ٢٢٧.

٢٨٢

شرح القواعد (١) المصير إلى أنّه لا يبيحها ، وعن ثاني الشهيدين (٢) في رسالته في الغيبة أيضاً التصريح بالعدم ، حتّى أنّه نقل عن الفقهاء أنّهم في باب القذف صرّحوا بأنّ رضا المقذوف بقذفه لا يبيحه للقاذف ، وإن كان قد ينكر ذلك عليه بأنّه لم يذكره إلّا العلّامة ، وربّما اعترض عليه بتهافت بين كلامه هنا وكلامه في موضع آخر عند ذكر المستثنيات ، حيث إنّه في مسألة ذكر الرجل بصفته المعروفة المشعرة بالذمّ فصّل بين الأموات والأحياء فمنع في الثاني إلّا مع رضاهم.

وأمّا إطلاق الأكثر بالمنع فيمكن كونه منزّلاً على هذا القول ، نظراً منهم إلى أنّ الغيبة في تحريمها كسائر المحرّمات مثل اللواط والزنا حيث لا يباحان برضا الملوط والمزنيّ بها ، فلا تحلّ الغيبة أيضاً برضا المغتاب لاشتمالها على مفسدة ذاتيّة ومبغوضيّة عند الشارع الحكيم ، فلا ترتفعان بالرضا.

وتوهّم : التفرقة بينها وبينهما في كونهما من حقوق الله المحضة فلا مدخليّة لرضا العبد فيهما والغيبة متشبّثة بحقوق الناس أيضاً ، ولذا ورد في عدّة من الروايات «أنّ صاحب الغيبة لا يغفر له إلّا بأن يغفر صاحبه» (٣) يدفعه : بأنّ غاية ذلك أنّ الرضا يوجب سقوط حقّ المغتاب ولا ملازمة بينه وبين سقوط حقّ الله أيضاً ، فإنّه حينئذٍ نظير مال مشترك بين شريكين إذا رضي أحدهما بتصرّف أحد في المال دون الآخر حيث لا يفيد ذلك إباحة التصرّف له.

ويحتمل كون إطلاقهم منزّلاً على ما لم يقارنه رضا المغتاب بدعوى خروجه عن موضوع الغيبة أو لانصراف أدلّة التحريم إلى ما عداه.

وتحقيق المقام : أنّه لو قلنا بمنافاة الرضا للكراهة المأخوذة في ماهيّة الغيبة فلا حاجة حينئذٍ إلى التكلّم في كون الرضا مبيحاً لأنّه حينئذٍ رافع لموضوع الغيبة ، لأنّ معناه عدم الكراهة فيخرج من أدلّة التحريم خروجاً موضوعيّاً.

وقد تقدّم في البحث فيما يعتبر في مفهوم الغيبة وما لا يعتبر أنّ الكراهة معتبرة فيه

__________________

(١) شرح القواعد ١ : ٢٢١.

(٢) كشف الريبة : ٣٠١.

(٣) الوسائل ١٢ : ٢٨٠ / ٩ ، ب ١٥٢ أحكام العشرة ، أمالي الطوسي ٢ : ١٥٠.

٢٨٣

وإن قلنا بعدم المنافاة بينهما ، وأنّ الرضا بالشي‌ء يجامع كراهته كما يظهر الجزم به من بعض أهل المعرفة وهو الأظهر ، نظراً إلى أنّ الكراهة وإن كانت من صفات النفس وهي عبارة عن انقباض النفس عن وقوع المكروه والرضا أيضاً صفة اخرى تجامعها ، وهي عبارة عن إرخاء عنان المنع في النفس فلو أظهره يقال له الإذن ، فقد ترى أنّ الوالد والوالدة يكره إيذاء ولده بالفصد أو الحجامة أو غيرهما من أنواع الإيلامات ومع ذلك يرضى به لمصلحة الاستعلاج ولذا لا يسخط ولا يغضب على الفصّاد والحجّام ، وكذلك ربّ الدار لشدّة حاجته إليها أو شدّة علاقته بها يكره بيعها ومع ذلك قد يرضى به بل يأذن فيه لمصلحة أداء الدين.

ولعلّ المكروهات الشرعيّة في نظر الشارع تعالى أيضاً من هذا القبيل فيكره وقوعها من العبد لما فيها من المفسدة والمنقصة الّتي هي إمّا مضرّة دنيويّة أو اخرويّة ومع هذا فهو راضٍ بفعلها وآذن فيه.

فعلى هذا التقدير ينبغي أن يتكلّم في حكم المسألة وقد يقال : بأنّ الرضا يبيحها استناداً إلى أصلي الإباحة والبراءة لعدم شمول أدلّة التحريم لما يقارنه الرضا ، لأنّ المنساق منها أنّ الغيبة إنّما حرّمت من حيث كونها إيذاءً للمؤمن والراضي لا يتأذّى ، أو على أنّها هتك لاحترام المؤمن والراضي بنفسه هتك احترام نفسه. ويؤيّده النبويّ المرويّ عن الكافي «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيعجز أحدكم أن يكون كابن [ضمضم] (١) زمزم ، أنّه كان إذا خرج من بيته يقول : اللهمّ إنّي تصدّقت بعرضي على المسلمين» (٢) والنبويّ الآخر (٣) «كان عليّ بن الحسين عليهما‌السلام يتصدّق صبيحة كلّ يوم عرضه» (٤) فإنّ المقصود من صدقة العرض أن لا يتأثّم المسلمون المتعرّضون له ، والعرض هو الغيبة بالخصوص ، أو يندرج فيه الغيبة أيضاً.

ويمكن الاستدلال بما دلّ من المستفيضة على «أنّ صاحب الغيبة لا يغفر له إلّا أن

__________________

(١) هو أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم ، أبو حمزة الأنصاري النجاريّ المدنيّ خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وله صحبة طويلة وحديث كثير ، وكان آخر الصحابة موتاً. (تذكرة الحفّاظ) ٤٤.

(٢) البحار ٧٢ : ٢٤٤ ، المستدرك ٩ : ٦ / ٥ ، ب ٩٥ أحكام العشرة.

(٣) كذا في الأصل ، إمّا في العبارة سقط ، أو المراد : والعامّي الآخر.

(٤) لم نعثر عليه.

٢٨٤

يغفر صاحبه» (١) بتقريب أنّ العفو إذا كان رافعاً لاستحقاق العقوبة على الغيبة بعد وقوعها جاز أن يكون الرضا قبل وقوعها دافعاً له ولا يكون إلّا إذا لم يحرم بل بطريق أولى لأنّ الدفع أهون من الرفع.

وفي الكلّ نظر ، وبعد اللتيّا والّتي فغاية ما يسلم أنّ رضا المغتاب يوجب سقوط حقّه ، فالوجه أنّه لا يوجب إباحتها لعدم دليل عليها.

وثانيها : المعروف من مذهب الأصحاب حرمة استماع الغيبة ، والظاهر أنّه إجماعي بل في كلام غير [واحد] من مشايخنا (٢) بلا خلاف ، واستدلّ عليه بالمرسل عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله «المستمع أحد المغتابين» (٣) والآخر عن عليّ عليه‌السلام «السامع للغيبة أحد المغتابين» (٤) وفي كتاب جامع الأخبار قال عليه‌السلام : «ما عمّر مجلس بالغيبة إلّا خرّب من الدين ، فنزّهوا أسماعكم من استماعها ، فإنّ القائل والمستمع لها شريكان في الإثم» (٥) وفي حديث المناهي المرويّ في الفقيه «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن الغيبة والاستماع إليها» (٦).

وقد يقال : الأخبار في حرمة استماع الغيبة كثيرة ، والأخبار المذكورة كما ترى ضعيفة الأسانيد بالإرسال فيتطرّق الإشكال إلى صحّة الاستدلال بها ، إلّا أن يقال : بانجبارها بالكثرة المدّعاة أو بما عرفت من ظهور الإجماع ونفي الخلاف ، بدعوى أنّ مدركهم في الإفتاء بحرمة الاستماع هذه الأخبار فينجبر ضعفها بالعمل.

ثمّ يتطرّق الإشكال إلى دلالة ما عدا الأخيرين منها فإنّ دلالة قوله عليه‌السلام : «المستمع أحد المغتابين» على تحريم الاستماع غير واضحة ، لقيام احتمال قراءة المغتابين تثنية ، واعتبار كون المستمع أحد هذه الاثنين.

بتقريب انّ الاغتياب لا يتحقّق إلّا بين اثنين أحدهما القائل وهو المغتاب بالمعنى الفاعلي ، والآخر المقول له وهو السامع فهو المغتاب بالمعنى المفعولي أعني المغتاب له فهو أحد المغتابين ، المغتاب بمعنى المغتيِب بالكسر والمغتاب بمعنى المغتيَب له بالفتح ،

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٢٨٠ / ٩ ، ب ١٥٢ أحكام العشرة ، أمالي الطوسي : ٥٤٨.

(٢) الجواهر ٢٢ : ٧١.

(٣) كشف الريبة : ٦٤ ، تنبيه الخواطر ١ : ١٢٧.

(٤) أورده في كشف الريبة مرسلاً : ٦٤.

(٥) جامع الأخبار : ٤١٣ ، المستدرك ٢ : ١٠٨.

(٦) الوسائل ١٢ : ٢٨٢ / ١٣ ، ب ١٥٢ أحكام العشرة ، الفقيه ٤ : ٤ و ٨ / ١.

٢٨٥

فعلى إرادة هذا المعنى لا دلالة فيه على حرمة الاستماع أصلاً إلّا أن يدفع بكمال بعده من لفظ الرواية ، مع تطرّق المنع إلى صحّته لغة واعتباراً ، فإنّ هيئة المغتاب الحاصلة بالإعلال مشتركة بين اسم الفاعل واسم المفعول فلا يجوز وقوعها في استعمال واحد موقعهما.

ويكون معنى الرواية على الاحتمال المذكور أنّه أحد المسمّيين بلفظ المغتاب ، وهذا مع أنّه غير مفيد فلا يناسب شأن المعصوم يوجب كون الهيئة المذكورة في المغتابين واقعة موقع اسمي الفاعل والمفعول ، ونحوه غير معهود في الاستعمال فوجب توجيه متن الرواية بوجه صحيح.

وهو إمّا بأن يقال : بدخول المستمع لغيبة كالقائل لتلك الغيبة في الحكم فإن كان القائل آثماً باعتبار كون غيبته في محلّ الحرمة فكذلك المستمع لها ، وإن كان القائل غير آثم باعتبار كونها في محلّ الرخصة ككونها من أحد المستثنيات فكذلك المستمع لها ، وقضيّة ذلك حرمة استماعها حيث حرمت على القائل لها.

أو بأن يعتبر المستمع خارجاً من العدد المراد من لفظ المغتابين سواء اعتبر تثنية أو جمعاً بأن يكون هناك اثنان أو جماعة يتذاكرون أحداً بالسوء وهو حاضر عندهم يستمع ذكرهم لا غير وكونه أحدهما أو أحدهم يعني به مشاركته لهما أو لهم في الإثم والحرمة إمّا باعتبار رضاه بعملهم الموجب لدخوله في عموم الأخبار الدالّة على أنّ الراضي بعمل قوم كالداخل معهم ، أو باعتبار كونه تشبيهاً بحذف أداته وهو يفيد المشاركة في الأحكام مطلقاً ، أو الأحكام الظاهرة والحرمة منها وبه يثبت كون الاستماع كنفس الغيبة من الكبائر.

ثمّ إنّ المستمع قد يعلم أنّ الغيبة الصادرة من قائلها محرّمة عليه لعلمه بعدم كونها من إحدى المستثنيات ، وقد يعلم أنّها محلّلة عليه لعلمه بكونها من إحدى المستثنيات كغيبة المتجاهر مع علمه بالتجاهر ، وقد يعلم بعدم كونها محرّمة عليه لاعتقاده بتجاهر صاحبها وهو يعتقد عدم كونه متجاهراً ، وقد يعلم بعدم كونها محرّمة عليه أيضاً لاعتقاده بتجاهر صاحبها وهو يشكّ في كونه متجاهراً وعدمه ، وقد يشكّ في كونها محرّمة عليه أو محلّلة على معنى كونها صادرة منه على وجه العصيان أو لا على وجه

٢٨٦

العصيان لشكّه في استحقاق صاحبها لتلك الغيبة ككونه متجاهراً وعدمه لعدم كونه متجاهراً ، وهذه صور خمس تختلف أحكامها بالقياس إلى المستمع.

أمّا الصورة الاولى : فلا يجوز له استماعها جزماً ، وهو القدر المتيقّن من معقد أدلّة حرمة الاستماع.

وأمّا الصورة الثانية : فيجوز له الاستماع للأصل ، ولعدم كونها من المنكر ، ولاستحقاق المغتاب لها ، ولأنّ استماع الغيبة تبع لنفس الغيبة في الحكم ، ومرجعه إلى الملازمة بينهما في الحكم لأنّه المستفاد من أدلّة تحريمه. وبعبارة اخرى موضوع حكم الاستماع الغيبة المحرّمة وهذه ليست منها ، ولقوله عليه‌السلام : «المستمع أحد المغتابين» بناءً على احتمال أن يكون معناه أنّه كالمتكلّم بها فإن كان آثماً فكذا المستمع وإلّا فلا ، وإن كان بعيداً من حاقّ هذا اللفظ مع ابتنائه على كون مبنى التثنية على التغليب كما في قمرين ، ولا قرينة عليه.

وأمّا الصورة الثالثة : ففي جواز استماعها له والعدم وجهان ، من ثبوت الملازمة بين المستمع والقائل في الحكم فحيث لا تحرم على القائل لم يحرم استماعها عليه ، ومن أنّ هذه الملازمة على تقدير ثبوتها إنّما تسلّم بينهما في الحكم الواقعي واعتقاد القائل لا يغيّر الواقع ولا يحدث به الإباحة الواقعيّة ، غايته أنّه لا حرمة عليه ولا يخاطب على تركها لقبح تكليف الغافل ، فهي في نظر المستمع غيبة محرّمة في الواقع لعدم كونها مخرجة من أدلّة التحريم فيحرم عليه استماعها ونظير استماع الغناء ممّن يحرّمه مطلقاً حتّى في قراءة القرآن إذا صدر في القراءة ممّن يجوّزه فيها ، فأقوى الوجهين ثانيهما.

وأمّا الصورة الرابعة : ففي جواز استماعها والعدم وجهان ، من أنّ الشكّ المفروض من الشبهة الموضوعيّة لرجوعه إلى الشكّ في منكريّة هذه الغيبة ـ كالشكّ في خمريّة مائع معيّن ـ فيرجع فيه إلى أصل البراءة ، ومن أنّ الأصل عدم خروجها من عموم أدلّة التحريم فيحرم استماعها.

ويزيّفه أنّ هذا الأصل لا معنى له إلّا من باب أصالة عدم التخصيص ، وهذا إنّما يتّجه الاستناد إليه فيما لو بنى على خروجه من العموم لزم زيادة تخصيص في العامّ ، والمقام ليس منه لأنّ غيبة المتجاهر بعنوانها الكلّي وبجميع أفرادها من عمومات

٢٨٧

التحريم بتخصيص واحد ، ولو بنى فيما نحن فيه على خروجه عن العموم لزم اندراجه في عنوان غيبة المتجاهر ولا يلزم به تخصيص آخر غير ما ورد بالنسبة إلى ذلك العنوان ، فلا مجرى لأصالة عدم التخصيص حينئذٍ ، فلا يبقى بالنسبة إلى هذا الفرد إلّا الشكّ في التكليف والأصل براءة الذمّة ، فأقوى الوجهين أوّلهما.

وأمّا الصورة الخامسة : فالكلام فيها تارةً في تكليف المستمع ، باعتبار ما يرجع إلى القائل من البناء على حرمة هذه الغيبة الصادرة ، فيرتّب عليه جميع آثار الحرمة من طروّ الفسق وزوال العدالة أو يحكم بعدم الحرمة.

واخرى في تكليفه باعتبار ما يرجع إلى نفسه من حيث حرمة استماعها عليه والعدم.

وثالثة في تكليفه باعتبار ما يرجع إلى نفسه أيضاً ، ولكن من حيث وجوب ردّ هذه الغيبة وعدمه.

أمّا الجهة الاولى فالوجه فيها البناء على عدم الحرمة عملاً بأصالة الصحّة في فعل المسلم. وتوهّم : أصالة عدم الخروج من عموم التحريم ، يدفعه ـ مضافاً إلى ما عرفت من عدم كون ذلك الأصل في مجراه ـ أنّ الرجوع إلى أدلّة الواقع أو سائر الاصول في الفعل الصادر من المسلم إنّما يتّجه في الشبهات الحكميّة لا الموضوعيّة الّتي يعمل فيها على أصالة الصحّة لا غير.

نعم لو فرض مورد الشكّ من الشبهة الحكميّة اتّجه الرجوع إلى أدلّة الواقع ، كما لو اغتاب أحد عن فاسق غير متجاهر والمستمع يشكّ في صحّته وفساده باعتبار الشكّ في جواز غيبة الفاسق الغير المتجاهر كما يظهر القول به من بعض الأصحاب ، فكلّ غيبة يسمعها مسلم من مسلم ويشكّ في صدورها على وجه العصيان أو لا على وجه العصيان لشبهة موضوعيّة وجب الحكم عليها بكونها صادرة لا على وجه العصيان ، حملاً لفعل المسلم على الصحّة فلا يحكم بمجرّدها بفسقه وزوال عدالته.

ومنه ما لو صدر منه غيبة الفاسق الغير المتجاهر وهو يعتقد باجتهاده أو تقليده لمجتهد حرمتها ولكن يشكّ في كون صدورها من المتكلّم على وجه العصيان أو لا على وجه العصيان لاحتمال كونه باجتهاد أو تقليد لمجتهد معتقد لجوازها.

٢٨٨

ومنه يعلم الحكم في الموارد الخلافيّة بين المتكلّم والمستمع كغيبة الفاسق الغير المتجاهر إذا كان القائل معتقداً لجوازها لاجتهاد أو تقليد والمستمع يعتقد عدم جوازها كذلك ، فإنّها في حقّ القائل تحمل على الصحّة الغير المنافية لعدالته لوجوب إنفاذ اجتهاد المجتهد وتقليد مقلّده الثابت بالإجماع والضرورة من الدين ، نعم يحرم عليه استماعها لاعتقاده فيها بالحرمة الواقعيّة.

وأمّا الجهة الثانية فالوجه فيها جواز استماع الغيبة المفروضة عملاً بأصالة البراءة في الشبهة الموضوعيّة.

وأمّا الجهة الثالثة ففي وجوب الردّ وعدمه وجهان ، مبنيّان على أنّ وجوب ردّ الغيبة هل هو من باب وجوب النهي عن المنكر فالمتّجه عدم الوجوب لعدم كون المنكريّة محرز ، أو من باب وجوب رعاية حقّ المؤمن المتوقّفة على ردّ غيبته لرجوع الشكّ إلى استحقاق المغتاب لتلك الغيبة ومعناه الشكّ في أنّ الشارع أسقط في تلك الواقعة حقّه الواجب رعايته على المستمع أو لا؟ والأصل العدم فالمتّجه حينئذٍ وجوب الردّ.

وهذا وإن كان يقوى في ظاهر النظر ، لأنّ المستفاد من أدلّة وجوب ردّ الغيبة والأخبار الواردة فيه كونه لأجل أنّه من حقوق المؤاخاة الحاصلة بين المسلمين ، ولكن يضعّف بأنّ الأصل المذكور معارض بمثله لأنّ المتكلّم أيضاً ممّن يجب رعاية حقّه ، ولا ريب أنّ ردّ الغيبة عليه وردعه عنها هتك لاحترامه وكسر لقلبه وتخفيف له لو كان بمشهد من الناس ويشكّ في استحقاقه لهذه الحزازات ، ومعناه الشكّ في أنّ الشارع أسقط حقّه لأجل هذه الغيبة أو لا؟ والأصل عدمه ، فيتعارض الأصلان ، ويبقى أصل البراءة سليماً عمّا يوجب الانصراف عنه. ويؤيّده أنّ المستفاد من أدلّة حرمة الاستماع وأدلّة وجوب الردّ أنّ بينهما ملازمة في الوجود والعدم ، فحيث حرم الاستماع وجب الردّ أيضاً وإلّا فلا.

ثمّ اعلم أنّ ما ذكرناه في حكم الصورة الثانية من الصور الخمس من جواز استماع الغيبة ليس على إطلاقه بحيث يكون جارياً في جميع المستثنيات بل هو مقصور على بعضها ، فإنّ في جرح الشاهد لا يجوز الاستماع لغير الحاكم ، وفي نصح المستشير لغير المستشير ، وفي التظلّم لغير من يرجى إزالة المظلمة إن قيّدناه بكونه عند من يرجو إزالة

٢٨٩

المظلمة ، وفي الاستفتاء لا يجوز الاستماع لغير المفتي ، فإنّ الواجب في هذه الموارد الاقتصار في ذكر العيب على استماعه لمن يحصل به أو منه الغرض فلا يجوز لغيره الاستماع.

وربّما يمكن الاستدلال عليه بقوله عليه‌السلام : «المستمع أحد المغتابين» إن استظهرنا منه أنّ معناه أنّ المستمع لغيبة كأنّه متكلّم بها فإذا لم يجز له التكلّم بها لم يجز استماعها ، إلّا أنّه محلّ منع. لا يقال : إنّ هذه غيبة محلّلة فيجوز استماعها لكلّ مستمع بحكم الملازمة المتقدّمة ، لمنع الحلّية لو ذكرها بحيث يسمعها غير من يحصل به أو منه الغرض ، حتّى أنّ الجارح للشاهد لو ذكر فسق الشاهد بحيث يسمعه غير الحاكم كان جرحاً له.

ثمّ إنّ المحرّم في هذا الباب هو الاستماع وهو السماع القصدي لا السماع من غير قصد ، وإن عبّر في بعض الروايات المتقدّمة بالسامع لوجوب حمله على المستمع ، لأنّ السماع من غير قصد الحاصل لضرب من الاتّفاق داخل في الأفعال الغير الاختياريّة فلا يصلح متعلّقه للتكليف.

ثالثها : في ردّ الغيبة ، واستحلالها ، والاستغفار لصاحبها.

أمّا الأوّل : فلا إشكال في وجوبه على من يقدر عليه بل الظاهر أنّه لا خلاف فيه ، للنصوص المستفيضة القريبة من التواتر إن لم ندّع تواترها ، منها ما في حديث المناهي «ومن تطوّل على أخيه في غيبة سمعها فيه في مجلس فردّها عنه ردّ الله عنه ألف باب من الشرّ في الدنيا والآخرة ، فإن هو لم يردّها وهو قادر على ردّها كان عليه كوزر من اغتابه سبعين مرّة» (١).

وما في حديث وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام «يا علي من اغتيب عنده أخوه المسلم فاستطاع نصره فلم ينصره خذله الله في الدنيا والآخرة» (٢) وقضيّة الرواية الاولى زيادة عقاب تارك ردّ الغيبة على عقاب فاعلها سبعين مرّة. قيل : ولعلّ وجهه أنّه إذا لم يردّه يجرأ المغتاب على الغيبة فيصرّ على هذه الغيبة وغيرها.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٢٨٢ / ١٣ ، ب ١٥٢ أحكام العشرة ، الفقيه ٤ : ٤ / ١.

(٢) الوسائل ١٢ : ٢٩ / ١ ، ب ١٥٦ أحكام العشرة ، الفقيه ٤ : ٢٦٩ / ٨٢٤.

٢٩٠

أقول : يمكن أن يكون وجهه أنّ ترك الردّ الغيبة والسكوت على فاعلها يتضمّن الإخلال بواجبات عديدة والدخول في محرّمات كثيرة متصادقة عليه لجهات مجتمعة فيه ، فإنّ الردّ واجب وتركه معصية وهو يوجب تحقّق الاستماع لا للردّ وهو معصية اخرى ، ويتضمّن الإخلال بالنهي عن المنكر وهو معصية ثالثة ، ويكون من الحمل على المنكر على معنى تقرير فاعل المنكر على منكره وهو معصية رابعة ، ويندرج في الإعانة على الإثم باعتبار أدائه إلى جرأة الفاعل وإصراره على الإثم وهو معصية خامسة ، وقد يتضمّن محبّة شيوع فاحشة المغتاب فيندرج في قوله تعالى : و «الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا» (١) وهو معصية سادسة ، وقد يتحقّق معه الركون إلى الظالم على معنى الميل إليه ، وفاعل الغيبة ظالم فيندرج في قوله تعالى : «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» (٢) وهو معصية سابعة ، وربّما يتحقّق في نفسه الرضا بعمل الفاعل فيندرج في الأخبار الدالّة على «أنّ الراضي بعمل قوم كالداخل معهم» (٣) وهو معصية ثامنة ، ومع هذا كلّه فالعلم عند الله فإنّ الحكم الخفيّة لا يعلمها إلّا الله.

ثمّ إنّ وجوب ردّ الغيبة ليس لأمر يرجع إلى المتكلّم وهو النهي عن المنكر بقول «لا تغتب» بل لأمر يرجع إلى المغتاب وهو الانتصار له ودفع الغيبة عنه ، ولذا عبّر في الأخبار الواردة فيه تارة بالردّ ، واخرى بالنصر ، وثالثة بالدفع ، ورابعة بالذبّ عنه ، وكيفيّته فيما لو كان الاغتياب بذكر عيب دنيوي في بدن المغتاب أو خلقه أو غير ذلك أن يقول : العيب ما عابه الله سبحانه وليس إلّا المعاصي وذكرك إيّاه أكبرها ، وفيما لو كان عيباً دينيّاً كالمعصية فإن كان قابلاً للتوجيه بإرجاعه إلى إحدى المحامل الصحيحة بحيث يخرج عن المعصية يبادر إليه ، وإلّا فيقول في ردّه : إنّ الإنسان ليس بمعصوم وقد يستولي عليه الشيطان ، ويغلب عليه النفس الأمّارة ، كما هو شأنك في اغتيابك هذا ، ولعلّه أعظم من معصيته ، ومن حقوقه أن تستغفر له لا أن تعيّره وتعيّبه ، ويلزم منه عيب فيك أعظم من معصيته.

__________________

(١) النور : ١٩.

(٢) هود : ١١٣.

(٣) الوسائل ١٦ : ١٤١ / ١٢ ، ب ٥ أبواب الأمر والنهي ، نهج البلاغة ١٩١ / ١٥٤.

٢٩١

وأمّا الثاني والثالث : فلا إشكال في استحباب كلّ منهما ، وأمّا الوجوب فلم نقف على قائل صريح به من معتبري أصحابنا ، نعم ربّما يستظهر القول به من صاحب الوسائل حيث قال ـ في عنوان باب الاستحلال والاستغفار ـ : «باب وجوب تكفير الاغتياب باستحلال صاحبه أو الاستغفار له» ثمّ أورد خبراً واحداً عن الكافي بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كفّارة الاغتياب ، قال : تستغفر الله لمن اغتبته كلّما ذكرته» (١) ولم ينقل هنا ما يدلّ على حكم الاستحلال. نعم في كتاب الحقائق في حديث مرسلاً عن الصادق عليه‌السلام قال : «وإن اغتبته فبلغ المغتاب فاستحلّ منه ، فإن لم يبلغه فاستغفر الله» (٢) وهما غير صالحين لإثبات الوجوب. والاستحباب لا كلام فيه خصوصاً على التسامح فيحملان عليه ، إلّا أنّ الأحوط في الاستحلال مع بلوغ الخبر عدم الترك.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٢٩ / ١ ، ب ١٥٥ أحكام العشرة ، الكافي ٢ : ٢٦٦ / ٤.

(٢) البحار ٧٢ : ٢٥٧.

٢٩٢

النوع السابع

السحر وتعلّمه وتعليمه

أمّا السحر فالبحث فيه تارةً في موضوعه ، واخرى في حكمه وسائر ما يتعلّق به ، فالكلام في مقامين :

المقام الأوّل : في معرفة موضوعه وحقيقته ، ولا بدّ فيه من مراجعة أهل اللغة تارةً ، والرجوع إلى العرف اخرى ، وإلى بيانات الفقهاء وتفاسيرهم ثالثة.

أمّا الجهة الاولى :

فقيل كما عن القاموس : «إنّه ما لطف مأخذه ودقّ» (١) يعني ما خفي سببه كما في كلام جماعة.

وقيل كما عن أحمد بن فارس في مجمل اللغة : «إنّه إخراج الباطل بصورة الحقّ» (٢)

وقيل : «إنّه الخديعة» (٣) وهو فعل ما يوجب المكروه في إنسان حيث لا يعلم به ، ولذا قد يعبّر عنه بهذا المعنى بالتمويه وهو التلبيس ، وقد ذكر هذا المعنى أيضاً في القاموس أيضاً بعد ما ذكر المعنى الأوّل ، وحكي نقله أيضاً عن مجمل اللغة.

وقيل : «إنّه صرف الشي‌ء عن وجهه» (٤).

وأمّا الجهة الثانية : فعن شرح القواعد للشيخ «أنّه لا يرجع فيه إلّا إلى العرف العامّ قال : ومحصوله أنّه عبارة عن إيجاد شي‌ء تترتّب عليه آثار غريبة وأحوال عجيبة

__________________

(١) القاموس ٢ : ٤٥ (سحر).

(٢) مجمل اللغة : ٤٨٨.

(٣) الصحاح ٢ : ٦٧٩.

(٤) النهاية لابن الأثير ٢ : ٣٤٦.

٢٩٣

بالنسبة إلى العادة بحيث تشبه الكرامات ، وتُوهِم أنّها من المعجزات الثابتة للنبوّات من غير استناد إلى الشرعيّات بحروز أو دعوات أو نحوها من المأثورات ، وأمّا ما اخذ من الشرع كالعوذ والهياكل وبعض الطلسمات فليست منه بل هي بعيدة عنه ، وكأنّ غرض الشارع المنع من التدليس والتلبيس في الأسباب على نحو منعه في المسبّبات وأنّ حدوث الأفعال من غير سبب يَبِين مخصوص بربّ العالمين» (١) انتهى.

ومن مشايخنا من أنكر عليه بما محصّله «أنّ السحر علم دقيق وبحر عميق له شعب كثيرة لا يبلغ كنهه إلّا الماهرون والأوحدي ، فكيف يعرفه عامّة الناس حتّى يرجع لمعرفته أهل العرف العامّ» (٢).

أقول : ويؤيّده أنّه معنى معرفته يتوقّف على التعليم والتعلّم فلا يعرفه إلّا أهله المخصوصون به ، حتّى أنّ العامّة لو سئلوا عن حقيقته وأنّه أيّ شي‌ء لعجزوا عن تفسيره ولو إجمالاً وأظهروا الجهل به ، وإن كان ربّما يمكن أن يستشمّ من ملاحظة بعض موارد استعمالاتهم إرادة ما يرجع إلى ما عرفته عن القاموس حيث إنّهم إذا شاهدوا من أحد أمراً عجيباً وطوراً غريباً وصنيعاً لطيفاً وتعجّبوا يقولون في مدحه : إنّه قد سحر ، أي صدر منه أمر لطيف مأخذه وخفيّ سببه.

وعن فخر الدين الرازي في تفسيره عند الكلام في شرح قوله تعالى في سورة البقرة «وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ ...» (٣) الآية ، ما يظهر منه دعوى ثبوت الوضع الشرعي للفظ «السحر» على خلاف اللغة ، حيث قال : «ذكر أهل اللغة أنّه في الأصل عبارة عمّا لطف وخفي سببه ... إلى أن قال : اعلم أنّ لفظ السحر في عرف الشرع مختصّ بكلّ أمر مخفيّ سببه ، ويتخيّل على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخداع» (٤).

وهذا في غاية البعد بل ينبغي القطع بانتفائه ، ولم نقف على من وافقه من أصحابنا

__________________

(١) شرح القواعد ١ : ٢٤٣.

(٢) الجواهر ٢٢ : ٨١.

(٣) البقرة : ١٠٢.

(٤) التفسير الكبير ٣ : ١٨٦ ـ ١٨٧.

٢٩٤

ولا غيرهم ، وقوله : «ويتخيّل على غير حقيقته» قد يقال : إنّ معناه يتخيّل أنّه لا أصل ولا حقيقة له ، وهذا سهو بل معناه بقرينة قوله : «ويجري مجرى التمويه والخداع» كلّ أمر مخفيّ سببه ممّا لا أصل ولا حقيقة له يتخيّل أنّ له أصلاً وحقيقة كما هو الحال في صنع سحرة فرعون في حبالهم وعصيّهم ، ولذا قال تعالى في وصفهم : «سحروا أعين الناس واسترهبوهم» (١) وقال في وصفها في سورة طه : «يخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى» (٢).

ويشهد أيضاً أنّه ذكر فيما بعد العبارة المذكورة أنّ لفظ السحر إنّما يكون عند إخفاء الظاهر ، وذكر أيضاً في وجه تسمية بعض البيان سحراً في قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إنّ من البيان لسحراً» (٣) مع أنّ القائل إنّما قصد إظهار الخفيّ لا إخفاء الظاهر ، فقال : إنّ المقتدر على البيان يكون قادراً على تحسين ما يكون قبيحاً وتقبيح ما يكون حسناً ، فبذلك يشبه السحر.

وأمّا الجهة الثالثة : فلجماعة من فقهاء أصحابنا عبارات مختلفة في تعريفه بحيث لا يكاد يمكن الجمع بينها فمنها : ما في المسالك من «أنّه كلام أو كتابة أو رقية أو أقسام أو عزائم ونحوها يحدث بسببها ضرر على الغير. ومنه عقد الرجل عن زوجته بحيث لا يقدر على وطئها وإلقاء البغضاء بينهما ، ومنه استخدام الملائكة والجنّ واستنزال الشياطين في كشف الغائبات وعلاج المصاب واستحضارهم وتلبّسهم ببدن صبيّ أو امرأة وكشف الغائب على لسانه ، فتعلّم ذلك وأشباهه وعمله وتعليمه كلّه حرام» (٤).

ومنها : ما في الدروس «وتحرم الكهانة والسحر بالكلام والكتابة والرقية والدخنة بعقاقير الكواكب ، وتصفية النفس والتصوير والعقد والنفث والإقسام والعزائم بما لا يفهم معناه ويضرّ بالغير فعله ، ومن السحر الاستخدام للملائكة والجنّ ، والاستنزال للشياطين في كشف الغائب وعلاج المصاب ، ومنه الاستحضار بتلبّس الروح ببدن منفعل كالصبيّ والمرأة وكشف الغائب عن لسانه ، ومنه النيرنجيّات وهي إظهار غرائب خواصّ الامتزاجات وأسرار النيّرين ، ويلحق بذلك الطلسمات وهي تمزيج القوى العالية الفاعلة بالقوى السافلة المنفعلة لتحدث عنها فعل غريب ، فعمل هذا كلّه والتكسّب به حرام» (٥).

__________________

(١) الأعراف : ١١٦.

(٢) طه : ٦٦.

(٣) البحار ١ : ٢١٨.

(٤) المسالك ٣ : ١٢٨.

(٥) الدروس ٣ : ١٦٣ ـ ١٦٤.

٢٩٥

ومنها : ما عن إيضاح فخر المحقّقين «أنّه استحداث الخوارق إمّا بمجرّد التأثيرات النفسانيّة وهو السحر ، أو بالاستعانة بالفلكيّات فقط وهو دعوات الكواكب ، أو بتمزيج القوى السماويّة بالقوى الأرضيّة وهو الطلسمات ، أو على سبيل الاستعانة بالأرواح الساذجة وهو العزائم ويدخل فيه النيرنجات ، والكلّ حرام في شريعة الإسلام ومستحلّه كافر. أمّا ما كان على سبيل الاستعانة بخواصّ الأجسام السفليّة فهو علم الخواصّ ، أو الاستعانة بالنِسب الرياضيّة فهو علم الحيل وجرّ الأثقال ، وهذان ليسا من السحر» (١) انتهى. قيل : وقد أدخلهما غيره في السحر ، وقضيّة كلامه بالقياس إلى الأنواع الأربعة الّتي جعلها من السحر أنّ السحر اسم عامّ يطلق على الجميع ، وأنّ لكلّ واحد ممّا عدا النوع الأوّل أيضاً اسماً خاصّاً به كدعوات الكواكب والطلسمات والعزائم الّتي يدخل فيها النيرنجات.

ومنها : ما عن القواعد (٢) والتحرير (٣) للعلّامة «أنّه كلام يتكلّم به أو يكتبه أو رُقْيَة أو يعمل شيئاً يؤثّر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة» قيل ونحوه ما في المنتهى (٤) ولكن بزيادة «أو عقد».

ومن جهات اختلاف هذه العبارات أنّ في عبارة المسالك اعتبار الضرر على الغير وهو المسحور وغيره خالٍ عن هذا القيد فيكون (٥) إلّا أن يحمل التأثير في عبارة القواعد والتحرير على خصوص الإضرار فيوافق المسالك من هذه الجهة.

وربّما يكون ما في الدروس أخصّ من غيره حيث ذكر «ويحرم الكهانة والسحر بالكلام ...» الخ لظهوره في بيان موضوع التحريم لا مفهوم اللفظ من حيث هو ، خصوصاً مع أنّ الأصل في القيود الاحتراز ، وقد قيّد السحر المحرّم بكونه بالكلام إلى آخره فيدلّ على أنّ هنا سحراً بغير الكلام إلّا أنّه ليس بمحرّم.

ويشكل الجميع بعدم التعرّض فيها لبيان أصل مفهوم لفظ «السحر» بل هي بيانات لأنواعه وموارد إطلاق لفظه ، نعم ما في عبارة الإيضاح من أنّه استحداث الخوارق يفيد المفهوم في الجملة ، إلّا أنّه يرد عليه عدم الفرق حينئذٍ بين السحر والمعجزة وهو بديهيّ

__________________

(١) ايضاح الفوائد ١ : ٤٠٥.

(٢) القواعد ٢ : ٩.

(٣) التحرير ١ : ١٦١.

(٤) المنتهى ٢ : ١٠١٤.

(٥) كذا في الأصل.

٢٩٦

البطلان وإلّا بطلت النبوّات فينتقض الطرد.

وعن التنقيح للفاضل المقداد «أنّه عمل يستفاد منه ملكة نفسانيّة يقتدر بها على أفعال غريبة وأسرار عجيبة» (١) ويرد عليه حزازة أنّ العمل ممّا ينشأ من الملكة النفسانيّة لا أنّه يستفاد منه الملكة إلّا أن يتكرّر مرّات عديدة ، فيخرج ما لا يستفاد منه وجود الملكة ، ولعلّه لذا كلّه تصدّى في شرح القواعد بجعله عبارة عن إيجاد شي‌ء يترتّب عليه آثار غريبة ... (٢) إلى آخر ما ذكره ، وقد تقدّم نقله في الجهة الثانية.

وقد يفرّق بين الطلسم والسحر والكيميا ، فيقال : الطلسم علم موضوعه تأثير الروح في الروح ، والسحر علم موضوعه تأثير الروح في الجسد ، والكيميا علم موضوعه تأثير الجسد في الجسد كما يصنع الصفر فضّة والرصاص ذهباً.

هذا أيضاً ليس بسديد ، لأنّ السحر من قبيل العمل وإن كان منشؤه العلم بمعنى الملكة النفساني إلّا أن يقال : هذا إطلاق آخر للفظ السحر وكأنّه مأخوذ من الساحر على معنى صاحب ملكة هذا الفنّ.

وكيف كان فلنقتصر على ذكر الأنواع الّتي ذكر الإمام الرازي في كلامه الّذي نقله المجلسي رحمه‌الله في البحار بطوله عن تفسيره ، فإنّها ثمانية أنواع نقلها هنا ملخّصة.

النوع الأوّل : سحر الكذّابين الّذين كانوا في قديم الدهر ، وهم قوم يقولون بإلهيّة الأفلاك والكواكب ويعبدونها ، ويزعمون أنّها المدبّرة للعالم ومنها تصدر الخيرات والشرور والسعادة والنحوسة ، وهم الّذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه‌السلام لإبطال مقالتهم والردّ لمذاهبهم ، فإنّها ثلاثة على حسب فرقهم المختلفة :

منها : مذهب فريق يقولون بكون الأفلاك والكواكب واجبة الوجود لذواتها ، فهي المدبّرة لعالم الكون والفساد.

ومنها : مذهب فريق يقولون بعدم كونها واجبة الوجود بل هي ممكنة الوجود بالذات لافتقارها إلى العلّة والمؤثّر ، إلّا أنّها قديمة لقدم العلّة المؤثّرة فيها.

ومنها : مذهب فريق قالوا بكونها ممكنة حادثة مسبوقة بالعدم ، إلّا أنّه أعطاها

__________________

(١) التنقيح ٢ : ١٢.

(٢) شرح القواعد ١ : ٢٤٣.

٢٩٧

خالقها قوّة عالية نافذة في هذا العالم ، وفوّض إليها تدبير هذا العالم فهي الخالقة لها المدبّرة فيها بتفويض منه تعالى ، فالساحر عند هؤلاء الأقوام من يعرف تلك القوى العالية الفعّالة بسائطها ومركّباتها ، ويعرف ما يليق بالعالم السفلى ، ويعرف معدّاتها ليعدّها وعوائقها ليرفعها بحسب الطاقة البشريّة ، فيكون متمكّناً من استحداث الخوارق للعادة.

النوع الثاني : سحر أصحاب الأوهام والنفوس القويّة وهي النفوس الناطقة ، فإذا صارت صافية عن الكدورات البدنيّة صارت قابلة للأنوار الفائضة من الأرواح السماويّة والنفوس الفلكيّة ، فتتقوّى هذه النفوس بأنوار تلك الأرواح فتقوّي على امور غريبة خارقة للعادة.

النوع الثالث : الاستعانة بالأرواح الأرضيّة الّتي هي الأجنّة ، والقول بالجنّ وإن كان أنكره بعض متأخّري الفلاسفة والمعتزلة إلّا أنّ أكابرهم أثبتوه وسمّوها بالأرواح الأرضيّة ، قالوا : وهي في أنفسها مختلفة منها خيّرة ومنها شريرة ، فالخيّرة منهم مؤمنو الجنّ ، والشريرة هم كفّار الجنّ وشياطينهم ، ويجوز الاتّصال بهذه الأرواح الأرضيّة بواسطة أعمال سهلة قليلة من قراءة الرقي والدخون والبخورات والتجريد ، فيستعان بها في علاج المصاب وكشف الغائبات والأخبار بالمغيبات وهو السحر.

النوع الرابع : التخيّلات والأخذ بالعيون ، والأصل في ذلك أنّ القوّة الباصرة كثيراً ما تبصر الشي‌ء على خلاف ما هو عليه ، وبذلك كثرت أغلاطها ، ومن ذلك السفينة إذا نظر إلى الشطّ رأى السفينة واقفة والشطّ متحرّكاً ، وهذا يدلّ على أنّ الساكن يرى متحرّكاً والمتحرّك يرى ساكناً. والقطرة نازلة ترى خطّاً مستقيماً ، والزبالة الّتي تدار بسرعة ترى دائرة إلى غير ذلك.

وأنّها إنّما تقف على المحسوس وقوفاً تامّاً إذا أدركته في زمان معتدّ به ، فأمّا إذا أدركته في زمان صغير جدّاً ثمّ أدركت بعده محسوساً آخر كذلك وهكذا ، فإنّه يختلط البعض بالبعض ولا يتميّز بعض المحسوسات عن بعض ، وأنّ النفس إذا كانت بشي‌ء فربّما حضر عند الحسّ شي‌ء آخر فلا يشعر به الحسّ البتّة.

ومن هذه المقدّمات يعلم السرّ في أنّ المشعبذ الحاذق يظهر عمل شي‌ء يشغل أذهان الناظرين به ويأخذون عيونهم إليه متعجّبين منه متحيّرين فيه متفكّرين في

٢٩٨

مأخذه وسببه ، فبينما هم كذلك عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة شديدة يصرفهم عن الأوّل إليه فيشغلون به على الوجه المذكور فيبقى العمل خفيّاً سببه ، وهكذا يظهر ثالثاً على الوجه المذكور وهكذا حتّى إذا فرغ عن جميع أعماله يرى الإنسان قد اجتمعت على نظره أشياء غربية مخفيّة الأسباب فيتخيّلها أنّ لها حقيقة ، وهذا هو المراد من قولهم : إنّ المشعبذ يأخذ بالعيون ، لأنّه بالحقيقة يأخذ العيون إلى غير الجهة الّتي تخال.

النوع الخامس : الأعمال العجيبة الّتي تظهر من تركيب الآلات المركّبة على النسب الهندسيّة تارةً وعلى ضرورة الخلاء اخرى ، مثل رقّاص يرقص وفارسان يقتتلان فيقتل أحدهما الآخر ، وكفارس على فرس في يده بوق كلّما مضت ساعة من النهار ضرب البوق من غير أن يمسّه أحد ، ومنها الصور الّتي يصوّرها الروم وأهل الهند حتّى لا يفرّق الناظر بينها وبين الإنسان حتّى يصوّرونها ضاحكة وباكية وحتّى يفرّق فيها بين ضحك السرور وضحك الخجل وضحك الشامت ، وهذه الوجوه من لطيف امور التخائيل ، وكان سحر سحرة فرعون من هذه الضرب ، ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات ، وربّما قيل بأنّه يندرج فيه علم جرّ الأثقال وهو أن يجرّ ثقيلاً عظيماً بآلة خفيفة.

النوع السادس : الاستعانة بخواصّ الأدوية ، مثل أن يجعل في طعامه بعض الأدوية المبلّدة أو المزيلة للعقل أو الدخن المسكرة تجعل نحو دماغه فإذا تناول يبلّد أو يزول عقله أو قلّت فطنته ، وأثر المغناطيس شاهد بذلك.

النوع السابع : تعليق القلب وهو أن يدّعي الساحر قد علم الكيميا ، أو عرف الاسم الأعظم ، أو أنّ الجنّ يطيعونه وينقادون له في أكثر الامور ، وبذلك يجذب قلب السامع إلى نفسه ، وذلك لأنّ السامع قد يكون ضعيف العقل قليل التميّز فيعتقد أنّ دعواه حقّ ، وتعلّق قلبه بذلك في نفسه نوع من الرغب والخوف وحصل ضعف في قواه الحسّاسة ، وكلّما قويت مخافته ازدادت حواسّه ضعفاً ، وعند ذلك يتمكّن الساحر من أن يعمل فيه ما شاء ، ومن جرّب الامور وعرف أحوال أهل العالم يعلم أنّ لتعليق القلوب أثراً عظيماً في تنفيذ الأعمال وإخفاء الأسرار.

النوع الثامن : السعي بالنميمة والتضريب من وجوه خفيّة لطيفة ، وهذا شائع في الناس (١).

__________________

(١) البحار ٥٩ : ٢٧٨ ـ ٢٩٧.

٢٩٩

وقد يصرف به قلب الحبيب عن محبوبه فيزول محبّته ويعتريه العداوة والبغضاء حتّى يبلغ به إلى تعريض نفسه لقتله وإهلاكه ، ومنه السعاية عن الضعفاء عند الأقوياء وعن الرعيّة عند السلاطين والامراء. وفي هذا يلخّص الأنواع الّتي ذكرها الرازي. وفي رواية الاحتجاج (١) الآتية دلالة على كون النميمة من السحر بل من أكبر السحر.

ثمّ يبقى الكلام ممّا يتعلّق بموضوع السحر جهتان :

إحداهما : أنّ السحر هل هو أمر ممكن على معنى إمكان تأثيره في الآثار المذكورة له بأنواعه أو لا؟ قيل بالإمكان ، ولعلّه مذهب الأكثر إذ القول بالامتناع لم ينقل إلّا عن الشيخ في الخلاف (٢) والظاهر أنّ النزاع هنا في القول بالإمكان على وجه الإيجاب الجزئي والقول بالامتناع على وجه السلب الكلّي ، إذ بعض أنواعه المتقدّمة عن الرازي ممّا لا يمكن لأخذ الاسترابة في امتناعه لابتنائه على القول بإلهيّة الأفلاك والكواكب ، أو أدائه إلى الشرك بالله بالنسبة إلى النفس الناطقة لتضمّنه القول بالفعّاليّة والخلّاقيّة لها ، ولو بواسطة الأنوار الفائضة إليها من الأرواح السماويّة والنفوس الفلكيّة كما في النوع الأوّل والنوع الثاني ، وأيّاً ما كان فهو باطل محال.

وكيف كان فاستدلّ القائل بالإمكان بالأصل المعروف المعبّر عنه بأصالة الإمكان فيما دار بينه وبين الامتناع ، واستشهد لذلك بما عن الشيخ الرئيس الشيخ أبي علي من قوله : «كلّما قرع سمعك شي‌ء ولم يقم على امتناعه برهان فذره في بقعة الإمكان» وغاية ما يمكن أن يقال في توجيهه : إنّ المراد بالإمكان هنا الإمكان العامّ المقيّد بلا ضرورة جانب العدم ، والامتناع هو ضرورة العدم ، ودوران الأمر بينهما معناه أنّه لا يدري أنّه من المعدوم الّذي لم يصر العدم ضروريّاً له ، أو من المعدوم الّذي صار العدم ضروريّاً له ، وضرورة العدم قيد زائد ، والمدّعي للإمكان ينفي هذه الزيادة فهو في فسحة عن مطالبة الدليل ، والقائل بالامتناع يدّعي الزيادة فعليه بإقامة الدليل ، فإذا لم يكن دليل على الزيادة يحكم بعدمها ومعناه الحكم بالإمكان.

وفيه نظر ، إذ غاية ما يلزم من عدم الدليل على القيد الزائد هو الوقف لا الحكم

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٨١.

(٢) الخلاف ٥ : ٣٢٧ المسألة ١٤.

٣٠٠