ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

النوع السادس

هجاء المؤمنين

وهو حرام بالأدلّة الأربع ، أمّا الإجماع فبقسميه كما في كلام بعض مشايخنا (١) وممّن ادّعى الإجماع عليه ـ كما حكي ـ كاشف اللثام (٢) تبعاً للعلّامة في المنتهى (٣) وعنه في التذكرة (٤) نفي الخلاف فيه.

وأمّا العقل فلاستقلاله بقبح الهجاء.

وأمّا الكتاب فآيات ، منها : قوله تعالى : «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» (٥) وهما على ما قيل بمعنى واحد وهو من يعيبك ، وقيل : الأوّل من يعيبك بوجهك والثاني من يعيبك بغيبك.

ومنها : قوله تعالى : «وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ» (٦) فإن جعلنا الهجاء نوعاً من الغيبة غاية الأمر كونها أخصّ أفراده وأظهرها يشمله النهي الصريح في صدر الآية ، وإن لم نجعله منها يدلّ على حرمته قوله «أيحبّ أحدكم أن يأكل ...» الخ الّذي هو بمنزلة التعليل ، فإنّه مبنيّ على الاستعارة والتشبيه كما قيل ، حيث شبّه المؤمن بالأخ النسبي وعرضه بلحم الأخ ، والتعرّض لعرضه بالهجاء أو الغيبة بأكل لحمه وغيبته بموته ، والمقصود من هذه التشبيهات بيان مشاركة هجاء المؤمن واغتيابه لأكل لحم الأخ النسبي بعد موته في شدّة القبح والعقوبة ، فكما أنّ المشبّه به ممّا يكرهه النفوس وينكره العقول فكذلك المشبّه.

__________________

(١) الجواهر ٢٢ : ٦٠.

(٢) كشف اللثام ١٠ : ٢٩٤.

(٣) المنتهى ٢ : ١٠١٣.

(٤) التذكرة ١٢ : ١٤٤.

(٥) الهمزة : ١.

(٦) الحجرات : ١٢.

٢٤١

ومنها : قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (١) ولا ريب أنّ الهجاء إشاعة للفاحشة ، وإذا كانت محبّته محرّمة فنفسه أولى بالتحريم.

وأمّا السنّة فكلّما دلّ ـ من النصوص المتكاثرة القريبة من المتواترة ـ على تحريم الغيبة وتوعيد العذاب عليه يدلّ على تحريم هجاء المؤمنين أيضاً إمّا بالنطق إن جعلناه نوعاً منها ، أو بالفحوى إن جعلناه خارجاً عنها ، وحيث إنّ الأظهر في النظر القاصر كونه منها في الجملة كما ستعرفه في شرح الغيبة وبيان النسبة بينها وبين الهجاء ، فلا نطيل الكلام بإيراد الأخبار هنا مستوفاة لعدم رجوعه إلى طائل بعد لحوق ذكرها في عنوان الغيبة ، فنقتصر هنا في تقرير الأدلّة على ما ذكرناه ثمّ نردفه بالتعرّض لذكر موضوع الهجاء.

فنقول : فسّره جماعة منهم الشهيد الثاني في المسالك (٢) والمحقّق الثاني في جامع المقاصد (٣) والسيّد في الرياض (٤) بذكر معائبهم بالشعر ، ولعلّهم أخذوه من شيوع إطلاقه في العرف على هذا المعنى ، أو من القاموس حيث ذكر «هجاه هجواً وهِجاءً شتمه بالشعر» (٥) ونسب نحوه إلى النهاية (٦) الأثيريّة والمصباح المنير (٧) وفي القاموس (٨) فسّر الشتم بالسبّ والسبّ بالشمّ فهما والهجاء ألفاظ مترادفة ، وذكر في المجمع «إنّ الشتم السبّ بأن تصف الشي‌ء بما هو ازراء ونقص» (٩) والإزراء الغيب ، فحاصل معنى الشتم والسبّ وصف الشي‌ء بعيوبه فيرجع إلى ذكر المعايب بالشعر. فكلام هؤلاء يقتضي عدم تحقّق الهجاء في النثر.

لكنّ المحكيّ عن الصحاح كما في المجمع تفسير الهجاء بخلاف المدح. والظاهر أنّ خلاف المدح هو الذمّ ، فيكون الهجاء عبارة عن الذمّ. وفي المجمع «ذمّه عابه» يرجع إلى ذكر المعايب. وإطلاقهما يقتضي كونه أعمّ من ذكرها بالشعر أو بالنثر ، وعموم الأدلّة

__________________

(١) النور : ١٩. (٢) المسالك ٣ : ١٢٧.

(٣) جامع المقاصد ٤ : ٢٦.

(٤) الرياض ٨ : ١٦٢.

(٥) القاموس ٤ : ٤٠٢.

(٦) النهاية الأثيريّة ٥ : ٢٤٨.

(٧) المصباح المنير ١ : ٣٦٧.

(٨) القاموس ٤ : ١٣٥.

(٩) مجمع البحرين ٢ : ٩٢٩.

٢٤٢

أيضاً يساعد على إرادة الأعمّ بل هو أعمّ من كونه في الحضور أو في الغياب بالنطق أو بالكتب ، إلّا أنّ الأظهر ما عليه الأكثر من اختصاصه بالشعر لشهادة العرف بذلك.

والمراد بالمؤمنين أهل الإيمان وهو الشيعي الاثنى عشري عدلاً كان أو فاسقاً ذكراً كان أو انثى بل الخنثى ، نعم يخرج الكافر والمخالف والإمامي الغير الاثنى عشري فلا يحرم هجاؤهم للأصل ، وعدم شمول أدلّة التحريم.

وربّما استثني عن موضع الحرمة هجاء المتجاهر بالفسق ولكن يجب الاقتصار على عيبه المتجاهر به طلباً لردعه ، وهجاء الخائض في معصية الله ولو متستّراً إذا أراد به الردع مع انحصار طريقه في هجائه ، وكذلك هجاء المبدع في الدين المدّعي لنفسه ما ليس فيه من نبوّة أو ولاية أو بابيّة أو ركنيّة فتهجوه وتذكر معائبه ليتنفّر عنه الناس ولا يحصل له الاتّباع ، كما روي في الصحيح عن داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيعة وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذّرهم الناس ولا يتعلّمون من بدعهم يكتب الله لكم الحسنات ويرفع لكم به الدرجات» (١).

ثمّ إنّ من مشايخنا (٢) تبعاً لجامع المقاصد من ذكر سبّ المؤمنين أيضاً مع ذكره هجاءهم ، ونقل عن جامع المقاصد تفسيره «بأن يسند إليه ما يقتضي نقصه مثل الوضيع والناقص» (٣) وقد تقدّم عن المجمع تفسير الشتم «بالسبّ بأن تصف الشخص بما هو إزراء ونقص» قال شيخنا : «ويدخل في النقص كلّما يوجب الأذى كالقذف والحقير والوضيع والكلب والكافر والمرتدّ والتعيير بشي‌ء من بلاء الله تعالى كالأجذم والأبرص» ٤ وهذا على ما قدّمناه من معنى الهجاء داخل فيه ، وكأنّ إفراده بالذكر لزعم أنّه لا يكون إلّا في النثر والهجاء مختصّ بالشعر كما ذكره جماعة.

وكيف كان فهو كالهجاء يعتبر فيه قصد الإهانة ، قال شيخنا قدس‌سره : وهو حرام في

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٢٦٧ / ١ ، ب ٣٩ من أبواب الأمر والنهي ، الكافي ٢ : ٣٧٥ / ٤.

(٢ و ٤) المكاسب للشيخ الأنصاري ١ : ٢٥٤.

(٣) جامع المقاصد ٤ : ٢٧.

٢٤٣

الجملة بالأدلّة الأربعة لأنّه ظلم وإيذاء وإذلال ، ففي رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قال رسول الله : سباب المؤمن فسوق ، وقتاله كفر ، وأكل لحمه معصية ، وحرمة ماله كحرمة دمه» (١) وفي رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سباب المؤمن كالمشرف على الهلكة» (٢) وفي رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «جاء رجل من تميم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له : أوصني ، فكان فيما أوصاه لا تسبّوا فتكسبوا العداوة» (٣) وفي رواية ابن الحجّاج عن أبي الحسن عليه‌السلام في الرجلين يتسابّان قال : «البادئ منهما أظلم ووزره على صاحبه ما لم يعتذر إلى المظلوم» (٤) قال : وفي مرجع الضمائر اغتشاش ويمكن الخطأ من الراوي. والمراد والله أعلم أنّ مثل وزر صاحبه عليه لإيقاعه إيّاه في السبّ من غير أن يخفّف عن صاحبه شي‌ء ، فإذا اعتذر إلى المظلوم عن سبّه وإيقاعه إيّاه في السبّ برء من الوزرين. ثمّ قال : يستثنى من المؤمن المظاهر بالفسق لما سيجي‌ء في الغيبة من أنّه لا حرمة له ، وهل يعتبر في جواز سبّه كونه من باب النهي عن المنكر فيشترط بشروطه أم لا؟ ظاهر النصوص والفتاوى كما في الروضة (٥) الثاني ، والأوّل أحوط. ويستثنى منه المبتدع أيضاً لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا رأيتم أهل البدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبّهم والوقيعة فيهم» (٦). ويمكن أن يستثنى من ذلك ما إذا لم يتأثّر المسبوب عرفاً بأن لا يوجب قول هذا القائل في حقّه مذلّة ولا نقصاً ، كقول الوالد لولده أو السيّد لعبده عند مشاهدة ما يكره «يا حمار» وعند غيظه «يا خبيث» ونحوه (٧).

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٢٩٧ / ٣ ، ب ١٥٨ أحكام العشرة ، الكافي ٢ : ٢٦٨ / ٢.

(٢) الوسائل ١٢ : ٢٩٨ / ٤ ، ب ١٥٨ أحكام العشرة ، الكافي ٢ : ٢٦٨ / ١.

(٣) الوسائل ١٢ : ٢٩٧ / ٢ ، ب ١٥٨ أحكام العشرة ، الكافي ٢ : ٢٦٨ / ٣.

(٤) الوسائل ١٢ : ٢٩٧ / ١ ، ب ١٥٨ أحكام العشرة ، الكافي ٢ : ٢٦٨ / ٤.

(٥) الروضة البهيّة ٩ : ١٧٥.

(٦) الوسائل ١٦ : ٢٦٧ / ١ ، ب ٣٩ الأمر والنهي ، الكافي ٢ : ٣٧٥ / ٤.

(٧) المكاسب ١ : ٢٥٥.

٢٤٤

النوع السادس

الغيبة

وينبغي التكلّم أوّلاً في تحقيق موضوعها بالنظر تارةً في كلمات أئمّة اللغة ، واخرى في تفاسير الفقهاء ، وثالثة في الأخبار المتعرّضة لبيان معناها.

أمّا الأوّل :ففي القاموس «غابه عابه وذكره بما فيه من السوء كاغتابه ، والغيبة فعلة منه تكون حسنة وقبيحة» (١) انتهى ، والظاهر بمقتضى السياق أنّ عطف «وذكره» للتفسير والمراد بالحسنة والقبيحة الغيبة المرخّص فيها شرعاً كالمستثنيات الآتية والنهي عنها وهي الباقية من الأفراد بعد إخراج المستثنيات. وعن الصحاح «وهو أن يتكلّم خلف إنسان مستور بما يغمّه لو سمعه» (٢) وفي المجمع اغتابه اغتياباً وقع فيه والاسم الغيبة بالكسر ، وهو أن يتكلّم خلف إنسان مستور بما يغمّه لو سمعه ، فإن كان صدقاً سمّي غيبة ، وإن كان كذباً سمّي بهتاناً» (٣) قوله : «وقع فيه» أي عابه يقال وقعت فيه أي عبته. وعن المصباح المنير «اغتابه إذا ذكره بما يكرهه من العيوب وهو حقّ ، والاسم الغيبة» (٤) وعن النهاية «أن يذكر الإنسان في غيبته بسوء ممّا يكون فيه» (٥).

وأمّا الثاني :فعن جامع المقاصد «أنّ حدّ الغيبة على ما في الأخبار أن يقول في أخيه ما يكرهه لو سمعه ممّا فيه» (٦) وفي الروضة «وهو القول وما في حكمه في المؤمن بما يسوؤه لو سمعه مع اتّصافه به ، وفي حكم القول الإشارة باليد وغيرها من

__________________

(١) القاموس ١ : ١١٢ (غيب).

(٢) الصحاح ١ : ١٩٦ (غيب).

(٣) مجمع البحرين ٢ : ١٣٤٤.

(٤) المصباح المنير : ١١٢.

(٥) النهاية ٣ : ٣٩٩.

(٦) جامع المقاصد ٤ : ٢٧.

٢٤٥

الجوارح والتحاكي بقول أو فعل» (١) وعنه في كشف الغمّة (٢) الّتي هي رسالة منفردة في الغيبة أنّ لها تعريفين : «أحدهما : مشهور وهو ذكر الإنسان في غيبته بما يكره نسبته إليه ممّا يعدّ نقضاً في العرف بقصد الانتقاص والذمّ ، والثاني : التنبيه بما يكره نسبته إليه» (٣) وفي المستند «وهي أن يذكر إنسان من خلفه بما هو فيه من السوء» (٤) ولم نقف من الفقهاء على أزيد من ذلك.

وأمّا الثالث : ففي النبويّ المرسل عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «هل تدرون ما الغيبة؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذكرك أخاك بما يكره ، قيل : أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه» (٥) ونحوه ما في حديث في وصاياه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذرّ ففيه على ما حكي «إنّها ذكرك أخاك بما يكرهه» ونحوهما المرويّ عن مكارم الأخلاق قلت : «يا رسول الله وما الغيبة؟ قال : ذكرك أخاك بما يكره ، قلت : فإن كان فيه ذلك الّذي تذكر به ، قال : أعلم أنّك إذا ذكرته بما هو فيه فقد اغتبته» (٦) إلى آخر ما ذكره. ونحوه المرسل «أنّه ذكر عنده رجل فقالوا ما أعجزه؟ فقال : اغتبتم صاحبكم ، قالوا : يا رسول الله قلنا ما فيه ، قال : إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتّموه» (٧) وما حكي روايته عن مجمع البيان «إذا ذكرت الرجل بما فيه يكرهه الله فقد اغتبته» (٨) وحسنة عبد الرحمن بن سيّابة عن الصادق عليه‌السلام «الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه ، وأمّا الأمر الظاهر فيه مثل الحدة والعجلة فلا ، والبهتان أن تقول فيه ما ليس فيه» (٩). وعن مصباح الشريعة قال الصادق عليه‌السلام : «صفة الغيبة أن يذكر أحد بما ليس هو عند الله عيب ، ويذمّ ما يحمده أهل العلم فيه ، وأمّا الخوض في ذكر غائب بما هو عند الله مذموم وصاحبه فيه ملوم فليس بغيبة وإن كره صاحبه إذا سمع به وكنت

__________________

(١) الروضة ٣ : ٣١٤.

(٢) هذا سهو من قلمه الشريف ، الصحيح كشف الريبة.

(٣) كشف الريبة : ٥١.

(٤) المستند ١٤ : ١٥٩.

(٥) تنبيه الخواطر : ١٢٦ ، صحيح مسلم ٤ : ٢٠٠١ / ٢٥٨٩.

(٦) أمالي الطوسي ٢ : ١٥٠ ، مكارم الأخلاق ٢ : ٣٧٨.

(٧) مجمع الزوائد ٨ : ٩٤.

(٨) مجمع البيان ٥ : ١٣٧.

(٩) الوسائل ١٢ : ٢٨٨ / ٢ ب ١٥ أحكام العشرة ، الكافي ٢ : ٢٦٧ / ٧.

٢٤٦

أنت معافياً عنه خالياً منه ، وتكون مبيّناً للحقّ من الباطل ببيان الله ورسوله ، ولكن على شرط أن لا يكون للقائل بذلك مراد غير بيان الحقّ والباطل في دين الله ، وأمّا إذا أراد به نقص المذكور بغير ذلك المعنى فهو مأخوذ بفساد مراده وإن كان صواباً» (١). وعن الكاظم عليه‌السلام قال : «من ذكر رجلاً من خلفه بما هو فيه ممّا عرفه الناس لم يغتبه ، ومن ذكره من خلفه بما هو فيه ممّا لا يعرفه الناس اغتابه ، ومن ذكره بما ليس فيه فقد بهته» (٢) وصحيحة داود بن سرحان عن الغيبة قال : «هو أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل ، وتبثّ (٣) عليه أمراً قد ستره الله عليه لم يقم عليه فيه حدّ (٤).

وينبغي التنبيه على امور تذكر فيها ما يعتبر في حقيقة الغيبة وما لا يعتبر :

الأوّل : قضيّة صريح عبارتي الصحاح والمجمع حيث اخذ فيهما التكلّم وصريح تعريفي المحقّق والشهيد الثانيين حيث أخذ فيهما القول كصريح حسنة عبد الرحمن وصحيحة داود بن سرحان ، كذلك كظاهر الآخرين من أهل اللغة وسائر الروايات المتقدّمة حيث عبّر في الجميع بالذكر ، وهو ظاهر في الذكر اللساني المرادف للقول مضافاً إلى ما في النبويّ المتقدّم من تفسير الذكر بالقول في قول القائل «أرأيت إن كان في أخي ما أقول» مع تقريره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته» أن يكون حقيقة الغيبة من مقولة القول والكلام ، وما تقدّم من الشهيد في الرسالة يقتضي كونه المعروف بين الأصحاب ، مع كون غيره من جعلها أعمّ منه ومن الإشارة والكتابة والتحاكي وغيره من الأفعال غير معروف لشذوذه وندرة القائل به فيكون ضعيفاً ، لعدم شاهد عليه يقاوم لمعارضة ما سمعت من النصّ على القول لغةً وفتوى ورواية ، وإن اختاره غير واحد من مشايخنا (٥) ونسبه في المستند إلى جماعة (٦) منهم والده في جامع

__________________

(١) مصباح الشريعة : ٢٠٥.

(٢) الوسائل ١٢ : ٢٨٩ / ٣ ، ب ١٥٤ أحكام العشرة ، الكافي ٢ : ٢٦٦ / ٦.

(٣) البثّ : الإظهار ، منه.

(٤) الوسائل ١٢ : ٢٨٨ / ١ ، ب ١٥٤ أحكام العشرة ، الكافي ٢ : ٢٦٦ / ٣.

(٥) المكاسب ١ : ٣٣١ ، الجواهر ٢٢ : ٦٤.

(٦) كما في القواعد ٢ : ٤٦ ، جامع المقاصد ٤ : ٢٧ ، الروضة ٣ : ٣١٤.

٢٤٧

السعادات (١) فقالوا : «إنّ الغيبة لا تنحصر باللسان ، بل كلّما يفهم نقصان الغير ويعرّف ما يكرهه فهو غيبة سواء كان بالقول أو الفعل أو التصريح أو التعريض أو الإشارة أو الإيماء أو الغمز أو الرمز أو الكتابة أو الحركة» (٢).

أقول : إن أرادوا في الحكم باعتبار كونه إشاعة لسرّ المؤمن أو تعرّضاً لعرضه وعورته أو إيذاءً له عملاً بعموم قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (٣) وصحيحة ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام «عورة المؤمن على المؤمن حرام قال : نعم ، قلت : تعني سفلتيه؟ قال : ليس حيث تذهب إنّما هو إذاعة سرّه» (٤) والمرويّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من آذى مؤمناً فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله فهو ملعون في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان» (٥) فلا نزاع معهم.

وإن أرادوا في الاسم أيضاً فهو لمخالفته لما عرفت مردود عليهم ، مع عدم ما يشهد لهم ممّا يمكن التعويل ويصحّح التأويل في النصوص الكثيرة المعتبرة ، ويجوز طرح جملة من كلام أهل اللغة. واحتمال كون المراد من الذكر ما يوجب التذكّر أو مطلق الإفهام والإعلام والتنبيه ـ مع عدم جريانه فيما عبّر فيه بالتكلّم أو القول ومخالفته للتفسير المتقدّم في الرواية ـ بعيد لا يصار إليه بدون صارف معتبر. والاستدلال عليه بصدق الاسم عرفاً والاستعمالات الدائرة في العرف ضعيف ، لتطرّق المنع إلى صغراه وكبراه من حيث إنّ الاستعمال لو سلّمناه أعمّ من الحقيقة.

وأضعف منه الاستدلال بما روى من «أنّه دخلت امرأة قصيرة على عائشة ، فلمّا ولّت أومأت بيدها ـ أي هي قصيرة ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد اغتبتها» (٦) للقدح في سندها أوّلاً ، ومنع دلالتها ثانياً ، إذ ليس فيها إلّا استعمال محتمل للتشبيه والاستعارة ، فيكون أعمّ بل يتعيّن الحمل عليه جمعاً.

وأضعف منه أيضاً الاستدلال بأنّ الذكر باللسان غيبة محرّمة ليفهمه الغير نقصان

__________________

(١) جامع السعادات ٢ : ٣٠٥.

(٢) المستند ١٤ : ١٦٣.

(٣) النور : ١٩.

(٤) الوسائل ١٢ : ٢٩٤ / ١ ، ب ١٥٧ أحكام العشرة ، الكافي ٦ : ٢٦٧ / ٢.

(٥) مستدرك الوسائل ٩ : ٩٩ ١ / ، ب ١٢٥ أحكام العشرة ، جامع الأخبار : ١٤٧.

(٦) مسند أحمد ٦ : ١٣٦.

٢٤٨

أخيك لا لكون المفهم لساناً فإنّه علّة مستنبطة لا عبرة بها ، ولو سلّم الاعتبار فأقصاه الإلحاق في الحكم لا في الاسم.

وأضعف من الجميع الاستدلال بأنّ القلم أحد اللسانين ، فإنّ هذه القضيّة ممّا لم يعلم لها أصل في النصوص فلا عبرة بها ، ولو سلّم فمعناه أنّ القلم لسان حكمي فالتثنية من باب التغليب على حدّ القمرين.

الأمر الثاني : يعتبر في الغيبة غياب المغتاب وعدم حضوره بحيث يسمع ما ذكر فيه ويفهمه كما يقتضيه مادّة هذا اللفظ ، وفاقاً لما في المستند من «أنّها أن يذكر إنسان من خلفه بما هو فيه من السوء ، فلو لم يكن من خلفه لم يكن غيبة كما هو مقتضى مادّة اللفظ» (١) وقبله المحقّق والشهيد الثانيين ، وقضيّة كلام الثاني في كشف الريبة كونه مشهوراً» (٢) وهو موافق لصريح النهاية الأثيريّة (٣) والصحاح (٤) والمجمع (٥) بل ظاهر الآخرين لشهادة ذكرهم هذه اللفظة في مادّة الغيب ، ومن الواجب سريان ما يعتبر في المبدأ في المشتقّ. هذا كلّه مع شهادة العرف وعدم صدق الاسم عرفاً مع الحضور ، فإن ذكره بعيوبه في حضوره شتم وسبّ. فلا ينافي عدم كونه غيبة كونه محرّماً بل أغلظ تحريماً كما نصّ عليه المحقّق المتقدّم ذكره ، فإنّه على ما حكي بعد ما عرفت من تعريفه بعد جملة كلام له قال : «لو ذكره في حضوره بما يكرهه فهو أغلظ تحريماً ، وإن لم يكن غيبة» (٦).

ولكن الظاهر أنّ الغياب أعمّ من الحقيقي لعدم حضوره في مجلس الغيبة والحكمي كالحاضر الغير السامع لصمم أو نوم أو وقوعها بطريق النجوى والسامع الغير الفاهم كالعربي القحّ الّذي لا يفهم اللغة العجميّة أصلاً والعجمي القحّ الّذي لا يفهم اللغة العربيّة كذلك إذا وقعت الغيبة بغير لغته ، لصدق اسم الغيبة وعدم صحّة سلبه.

الأمر الثالث (٧) : يعتبر فيها أن يكون ما يذكر في غيابه سوءاً وذمّاً ، فلو ذكر بما فيه من المدح ـ ككونه متهجّداً أو زاهداً أو ورعاً أو غير ذلك من المحامد والمحاسن ـ

__________________

(١) المستند ١٤ : ١٥٩.

(٢) كشف الريبة : ٥١.

(٣) النهاية لابن الأثير ٣ : ٣٩٩.

(٤) الصحاح ١ : ١٩٦.

(٥) المجمع البحرين ٢ : ١٣٤٤.

(٦) كشف الريبة : ٥١.

(٧) في الأصل : الثاني ، والصواب ما أثبتناه.

٢٤٩

لم يكن غيبة وإن كرهه صاحبه لغرض من الأغراض الصحيحة ، مثل أن لا يعتريه عجب أو رياء أو سمعة أو سرور أو شهرة أو غير ذلك. والظاهر عدم حرمته أيضاً ، لعدم مدخليّة رضاه في إباحته إلّا إذا بلغ حدّ الإيذاء فيحرم لذلك.

الأمر الرابع : يعتبر فيها كون العيب ثابتاً للمغتاب ، فلو ذكره بما ليس فيه فهو بهتان لا أنّه غيبة لصحّة سلب الاسم ، وهو ظاهر عبارة الدروس (١) وصريح عبارات النهاية (٢) والصحاح (٣) والمصباح (٤) والمجمع (٥) وعبارتي المحقّق (٦) والشهيد (٧) الثانيين ، كصريح جملة من الروايات المتقدّمة ، ويحمل عليها مطلقاتها أيضاً. واحتمال أن يراد بالبهتان غيبة غيبة بهتان أي غيبة عرضها البهتانيّة فالغيبة غيبتان غيبة محضة وغيبة بهتان ـ كما سبق إلى بعض الأوهام ـ خلاف ظاهر لا يصار إليه. والاستشهاد له بما في كلام المصباح المنير بعد ما ذكر التعريف المتقدّم من قوله : «إن لم يكن حقّاً فهو غيبة في بهت» (٨) مدفوع بعدم حجّيّة الشاهد لتفرّده ومخالفته الأكثر من أهل اللغة والنصوص المستفيضة وظهور إجماع الطائفة.

الأمر الخامس : هل يعتبر فيها مستوريّة العيب الثابت في المغتاب ، فذكر من شاع وظهر عيبه بحيث يعرفه الناس بذلك العيب وهو كاره له ليس بغيبة أو لا؟ بل الغيبة ذكر الرجل بعيب يكرهه سواء كان مستوراً فيه أو ظاهراً بيّناً ، ويظهر الفائدة في المتجاهر بالفسق الّذي يأتي كونه مخرجاً من الحرمة إذا ذكر بما تجاهر فيه وهو يكره ذكره ، فعلى الأوّل يكون خروجه موضوعيّاً ، وعلى الثاني حكميّاً وجهان :

من التقييد في عبارتي الصحاح والمجمع وجملة من النصوص المتقدّمة بل التفصيل الموجود في بعضها.

ومن إطلاق ما عداهما من تفاسير أهل اللغة وتفاسير الروايات المطلقة المعتضدتين بتفاسير الفقهاء ، وإطلاق فتاويهم الّتي هي معاقد الإجماعات كما يكشف عنه عدّهم غيبة المتجاهر من المستثنيات. وهو الأقوى ، لصدق الاسم عرفاً على ذكر

__________________

(١) الدروس ٢ : ٢٩٢ ـ ١٧٩.

(٢) النهاية لابن الأثير ٣ : ٣٩٩.

(٣) الصحاح ١ : ١٩٦.

(٤) المصباح المنير ١ : ٤٥٨ (غيب).

(٥) مجمع البحرين ٢ : ١٣٥.

(٦) جامع المقاصد ٤ : ٢٧. (٧) كشف الريبة : ٥١.

(٨) الصحاح ١ : ١٩٦.

٢٥٠

غير المستور وعدم صحّة سلبه عنه المعتضدين بأكثريّة المطلقين من أهل اللغة ، وأكثريّة النصوص المطلقة فيحمل المقيّدة منها على إرادة الغيبة المحرّمة. وقد تجمع بين كلمات أهل اللغة أيضاً بالأخذ بالمطلق منها لسلامته في مادّة افتراقه عن العارض فلا يلزم تكذيب غيره لرجوع كلامه إلى لا أدري ، وفيه تأمّل.

الأمر السادس : يعتبر فيها كون ذكر الرجل بعيبه لسامع يفهمه ، فلو ذكره عند نفسه أو عند من لا يفهمه لم يكن غيبة ، لأنّه المتبادر من تعاريف أهل اللغة وتفاسير الأخبار وفتاوى الأصحاب وتعاريفهم أيضاً ، ولم نقف على مخالف فيه.

الأمر السابع : يعتبر فيه كراهة المغتاب ، فذكر الرجل بما لا يكرهه ليس بغيبة ، كما هو قضيّة النصّ اللغوي وغيره خصوصاً ما تقدّم من المستفيضة. ولكنّ الكلام في تحقيق مرجع ضمير «يكرهه ويغمّه ويسوؤه» على ما اخذ في التعاريف المتقدّمة ، ومرجعه إلى تحقيق ما يكرهه المغتاب أهو العيب ـ كما هو ظاهر عبارتي القاموس والمصباح ، ومعناه كون المكروه وجود العيب المذكور فيه ، ومقتضاه أن لا يكون ذكر الرجل بخوضه في القبائح وارتكابه المحرّمات أو تركه الواجبات غيبة ، لأنّها عيوب لا يكره وجودها بل تصدر عنه بميله النفساني. وربّما يستشمّ الشهادة له من المرويّ المتقدّم عن مصباح الشريعة ـ أو هو الكلام المذكور فيه ، أو ذكر عيبه من حيث هو كذلك ، أو ذكره أيضاً ولكن من حيث إنّه إظهار لعيبه وربّما يستشمّ الشهادة به من حسنة عبد الرحمن وصحيحة داود بن سرحان والمرسلة عن الكاظم عليه‌السلام ، أو ذكره من حيث إنّه يشعر بذمّه وإن لم يكن الذمّ مقصوداً كذكره بالألقاب المشعرة بالذمّ ، أو ذكره من حيث قصد به ذمّه وتعييره على ما فيه من العيب المذكور فيه ، أو ذكره من حيث قصد به نقصه وانتقاصه أي سقوطه عن أعين الناس ، أو ذكره من حيث قصد به إهانته لغرض كونه مهاناً عند الخلق؟ احتمالات.

منشأها صلاحية الموصول للجميع على معنى احتمال كونه كناية عن كلّ واحد. ولكنّ الأربع الأخيرة تندفع بأنّ الحيثيّات المأخوذة تقييدات في معنى الغيبة لا شاهد عليها ، وينفيها إطلاق كلمات أهل اللغة والنصوص المفسّرة للغيبة ، بل في جملة منها

٢٥١

إشارات إلى نفيها ، مثل ما تقدّم عن عائشة في امرأة قصيرة فإنّها تقضي بأنّ عائشة لم تصدر منها إلّا التنبيه على قصر الامرأة وقد قال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد اغتبتها» (١)

ومثل المرسل المتقدّم في قول أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ما أعجزه» مع قولهم «قلنا ما فيه» لقضائه بأنّه لم يتحقّق منهم سوى قول «ما أعجزه» من دون إشعار بذمّه ولا قصد له ولا لنقصه وانتقاصه ولا إهانته ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اغتبتم صاحبكم».

ومثل قوله عليه‌السلام في حسنة عبد الرحمن : «الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه» لقضائه بأنّه لم يعتبر فيها حيثيّة سوى كون المقول في الأخ ما ستره الله عليه.

ومثل المرويّ عن الكاظم عليه‌السلام من قوله : «من ذكر رجلاً من خلفه بما هو فيه ممّا لا يعرفه الناس اغتابه» لقضائه أيضاً بأنّه لم يؤخذ فيها حيثيّة سوى كون ما ذكر في الرجل عيباً ثابتاً فيه لم يعرفه الناس.

ومثل المرويّ عن مكارم الأخلاق فإنّ قوله : «فإن كان فيه ذلك الّذي يذكر» يشير إلى أنّه لم يتحقّق فيما حكم عليه بكونه غيبة سوى أنّه ذكر فيه ما هو فيه من السوء.

فما في تعريف الشهيد المتقدّم من اعتبار قصد الانتقاص والذمّ غير مسموع ، ونسبته إلى المشهور غير مسلّمة ، ولو سلّمت الشهرة فهي هنا ممّا لا أصل له.

والرابع من الاحتمالات الباقية يندفع بابتنائه على اعتبار مستوريّة العيب في محلّ الغيبة وقد منعناه ، فحيثيّة الإظهار أيضاً غير معتبرة في معنى الغيبة.

والأوّل منها أيضاً يندفع بأنّ تخصيص الغيبة بغير العيوب الشرعيّة يقضي بعدم تحقّقها فيمن ذكر بعيب شرعي ـ مثل كونه تارك الصلاة أو مانع الزكاة أو شارب الخمر أو لاطياً أو نحو ذلك ـ وضرورة العرف والشرع تنفيه ، وعليه مبنيّ استثناء غيبة المتجاهر واستثناؤها في موضع الجرح وفي محلّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك ممّا ستعرفه.

وبقى منها الاحتمال الثاني والثالث ، وكلاهما صحيحان وإن كان أظهرهما إرادة ذكر العيب. فصار المحصّل أنّ الغيبة عبارة عن ذكر عيب للمؤمن يكرهه من حيث إنّه

__________________

(١) الدرّ المنثور ٦ : ٩٤.

٢٥٢

ذكر لعيبه سواء كره وجود العيب أو لا ، وظهوره أو لا ، وكان ذكره على وجه الإظهار أو لا ، تضمّن قصد الذمّ أو الانتقاص أو الإهانة أو لا ، أشعر بالذمّ أو لا ، فإنّ الجميع من الغيبة المحرّمة عدا ما استثني ، نعم لا نضايق كون عروض إحدى الحيثيّات المذكورة موجباً لشدّة قبحها وغلظة حكمها.

الأمر الثامن : ممّا يعتبر في مفهوم الغيبة تعيين المغتاب على معنى كونه شخصاً معيّناً بحيث يصدق في حقّه أنّه ذكر بما يكرهه أو يغمّه أو أنّه ذكر بعيب أو صفة ذمّ لو سمعه يكرهه أو يغمّه لو سمعه ، لأنّه الظاهر المتبادر من جميع ما تقدّم من تعريفاته وتفاسيره.

ولعلّ وجهه كون التعيين من ضروريّات صدق الإسناد في جملة «سمعه ويكرهه ويغمّه ويسوؤه» وإن شئت قلت : إنّه ظهور من الهيئة التركيبيّة لكلّ تعريف.

فلو ذكر عيباً لمبهم أو وصفه بما هو نقص فإن كان ذلك المبهم من المجهول المطلق كما لو قال : سأُنبّئك أو سأُخبر لك عن رجل فاسق أو بخيل أو لئيم أو شحيح أو سارق أو زانٍ أو نحو ذلك من غير قصد إلى معيّن ولا معرفة تعيين ، فلا ينبغي الاسترابة في عدم اندراجه في الغيبة إذ لا أحد هنا يكره ذلك لو سمعه.

وإن كان من قبيل مطلق المجهول بأن يكون الجهالة عند السامع فقط مع كونه معلوم العين للقائل ، كأن رأيت رجلاً فاسقاً أو بخيلاً جاءني رجل فاسق أو بخيل أو نحو ذلك ، وهو معيّن عنده بقرينة المضيّ ، فالظاهر اندراجه فيها لوضوح أنّه لو سمع أنّه ذكره بعيبه على هذا الوجه لكرهه ، ولصدق قوله عليه‌السلام : «ذكرك أخاك بما يكرهه».

ومن ذلك ينقدح أنّ التعيين المعتبر في مفهوم الغيبة أعمّ منه عند القائل والسامع وعند القائل فقط ، ولو قال : أحد هذين الرجلين أو واحد منهما أو أحد هؤلاء الجماعة أو أهل هذه القبيلة أو أهل هذه القرية أو هذا البلد فاسق أو دنيّ أو شرور أو ديّوث أو نحو ذلك ، فربّما يشكّك في كونه غيبة.

والتحقيق هو التفصيل بين إرادة مصداق الأحد أو الواحد الّذي هو معيّن خارجي عنده سواء عرف السامع أيضاً تعيينه أو لا ، وبين إرادة المفهوم الّذي يقال له الفرد المنتشر والفرد الشائع لصدقه على كلّ واحد على البدل ، فعلى الأوّل يندرج فيها ظاهراً لأنّ ذلك المصداق المعيّن لو سمع أنّ القائل ذكره بعيبه على هذا الوجه أي قاصداً لتعيينه

٢٥٣

بهذه العبارة لكرهه ولصدق أنّه ذكر أخاه بما يكرهه ، وأمّا الثاني فالوجه فيه عدم الاندراج لأنّ كلّاً منهما أو منهم إذا سمع هذه العبارة على الوجه الّذي صدر من قائلها أي وقف على أنّه لم يقصد تعيينه يردّها عن نفسه بأنّه ما قصدني بالخصوص فلا يكرهها.

ويمكن تفصيل آخر بين انحصار المتّصف بهذه الصفة الذميمة في واحد فيندرج فيها حينئذٍ لأنّه يكره هذا الذكر إذا سمعه مع علمه بانحصار المفهوم فيه ولا سبيل له إلى ردّه عن نفسه لأنّ إرادة المفهوم المنحصر في مصداق واحد كإرادة نفس المصداق ، وبين عدم انحصاره فيه فلا يندرج لمكان ردّ كلّ عن نفسه بأنّه ما قصدني فلا يكرهه بهذا الاعتبار.

الأمر التاسع : قيل يعتبر الحصر في الغيبة ، حكاه في جامع المقاصد قائلاً : «ويوجد في كلام بعض الفضلاء أنّ من شرط الغيبة أن يكون متعلّقها محصوراً ، وإلّا فلا تعدّ غيبة ، فلو قال عن أهل بلدة غير محصورة ما لو قال عن شخص واحد كان غيبة لم يحتسب غيبة» (١).

واعترض عليه بعض مشايخنا قدس‌سرهم «بأنّه إن أراد أنّ ذمّ جمع غير محصور لا تعدّ غيبة وإن قصد انتقاص كلّ منهم كما لو قال : أهل هذه القرية أو هذه البلدة كلّهم كذا وكذا ، فلا إشكال في كونها غيبة محرّمة ، ولا وجه لإخراجه عن موضوعها أو حكمها. وإن أراد أنّ ذمّ المتردّد بين غير المحصور لا تعدّ غيبة فلا بأس به» (٢).

أقول : كأنّه أراد بالمتردّد بين غير المحصور ما لو قال : «بعض أهل هذه البلدة أو جماعة أو جمعاً أو واحداً منهم كذا وكذا» وأراد به بعضاً مبهماً أو جماعة مبهمة أو واحداً مبهماً على سبيل الإشاعة فما ذكره قدس‌سره حينئذٍ في محلّه إلّا أنّه من فروع اعتبار التعيين لا من فروع اعتبار الحصر. وأمّا لو اريد به شخصاً معيّناً أو واحداً معيّناً أو جماعة معيّنة فإخراجه عن الغيبة موضوعاً أو حكماً غير سديد كما ذكرناه.

ولو قال : أهل هذه البلدة لئام أو فسّاق ، وأراد به الغالب منهم من دون قصد تعيين آحاد الغالب لا تعدّ غيبة لانتفاء الكراهة حينئذٍ.

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٢٧.

(٢) المكاسب للشيخ الأنصاري ١ : ٣٣٤.

٢٥٤

ولو قال : أهل هذه البلدة كلّهم كذا وكذا إلّا بعضاً منهم أو إلّا جماعة منهم ، فكونه غيبة وعدمه مبنيّ على إرادة البعض المعيّن أو الجماعة المعيّنة أو البعض المبهم أو الجماعة المبهمة من المستثنى ، والسرّ فيه أنّ إجمال المستثنى على الثاني يسري إلى المستثنى منه بخلافه على الأوّل فيكون اغتياباً لكلّ واحد من آحاد الباقي من المستثنى منه.

الأمر العاشر : لا فرق في الغيبة موضوعاً وحكماً بين ما لو كان ما يذكر فيه من العيب عيباً في بدنه أو نسبه أو شأنه وشغله أو خلقه أو فعله أو قوله أو لقبه أو ثوبه أو داره أو دابّته أو غير ذلك ممّا يضاف إليه كما هو المصرّح به في كلام جماعة (١) فالأوّل : يقول فلان أعمى أو أعور أو أعرج أو أقرع أو قصير أو طويل أو أسود أو أصفر ، والثاني : ككونه كرديّاً أو خالديّاً أو نحو ذلك ، والثالث : ككونه كنّاساً أو حمّالاً أو نحو ذلك ، والرابع : ككونه سيّئ الخُلُق أو لئيماً أو متكبّراً أو مرائياً أو جباناً وما أشبه ذلك ، والخامس : ككونه سارقاً أو خمّاراً أو لاطياً أو ظالماً أو فاسقاً أو متهاوناً في دينه ، والسادس : ككونه كذوباً أو كثير الكلام أو سيّئ الكلام أو فحّاشاً أو مغتاباً ، والسابع : الألقاب المشعرة بالذمّ ، والثامن : ككونه وسخ الثياب أو طويل الأذيال أو غير ذلك ، والتاسع والعاشر : واضحان. هذا كلّه في موضوع الغيبة.

وأمّا حكمها فهي الحرمة بل هي من المعاصي الكبيرة بالإجماع والكتاب والسنّة ، بل قيل كما عن الشيخ النجفي في شرحه للقواعد (٢) ووافقه بعض مشايخنا (٣) بالأدلّة الأربعة. ولكن تتميمه من حيث العقل بأن يكون العقل مستقلّاً في إدراك قبحه مشكل ، إلّا حيث يندرج في عنوان الظلم أو الإيذاء أو الإهانة ، والأولى الاقتصار على ما ذكرنا.

فمن الإجماع ، المحصّل منه ضروري ، ومنقوله متواتر ، ولا يبعد دعوى كونه من ضروريّات الدين.

ومن الكتاب قوله تعالى : «وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً

__________________

(١) كما في كشف الريبة : ٦٠ ، الجواهر ٢٢ : ٦٤.

(٢) شرح القواعد ١ : ٢٢٢.

(٣) الجواهر ٢٢ : ٦٥. «٣»

٢٥٥

فَكَرِهْتُمُوهُ» (١) وقوله : «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» (٢) وقوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (٣) وقوله تعالى : «لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلّا مَنْ ظُلِمَ» (٤).

ومن السنّة فالروايات الواردة فيه أكثر من أن تحصى مذكورة في مظانّها.

ولا فرق في التحريم بين الرجال والنساء ، لعموم الأدلّة ، ولا ينافيه التذكير في ضمير الجمع في الآية لابتنائه على التغليب كما في أكثر الخطابات الشفاهيّة ، وكذلك تذكير الموصول في الآية الاخرى ، ويدخل الخناثى لعدم خروجها من أحد الفريقين.

وفي عمومه للصبيّ المميّز الّذي يتألّم بذكر عيبه ويكرهه وجه قويّ ، من جهة عموم بعض الأدلّة كقوله «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ». ويحتمل التغليب في الآيتين الاخريين أيضاً بملاحظة كون أطفال المسلمين ملحقين بهم في الأحكام ، ومن جملتها تحريم اغتيابهم. وأمّا غير المميّز فهو كالمجنون ولو أدواريّاً حال جنونه لانتفاء الكراهة فيهما ، ولأجل هذا ربّما أمكن الخروج الموضوعي فيهما. ومع الغضّ عن ذلك نقول : إنّ دخولهما في إطلاق الأدلّة مستراب فيه ، فالأصل عدم الحرمة.

ثمّ المستفاد من كلمات الأصحاب صراحة وظهوراً من غير خلاف بل بالإجماع المدّعى في كلام بعض مشايخنا (٥) اختصاص تحريم الغيبة بغير الكافر ، فيحلّ استغابة الكافر بجميع فرقه وأصنافه مقصّراً وقاصراً من أهل الذمّة وغيرهم ، كما يجوز سبّهم والطعن عليهم ولعنهم ويجب معاداتهم والتبرّي عنهم ، للأصل وعدم الدليل على التحريم ، إذ المستفاد من مجموع أدلّة تحريمه وفحاويها والإشارات الواقعة فيها والتشبيهات والاستعارات الموجودة فيها أنّ تحريم الغيبة إنّما هو من جهة حقّ الاخوّة الّتي بين المؤمنين بنصّ قوله تعالى : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» (٦) وبحكم الروايات الواردة فيه ، وأنّه لمراعاة احترام الأخ الديني الإيماني ، فلا يعمّ الكفّار والمشركين ، إذ لا مؤاخاة بيننا وبينهم ولا حرمة لهم عند الله ، ولذا رخّص في لعنهم وأوجب معاداتهم والتبرّي

__________________

(١) الحجرات : ١٢.

(٢) الهمزة : ١.

(٣) النور : ١٩.

(٤) النساء : ١٤٨.

(٥) الجواهر ٢٢ : ٦١.

(٦) الحجرات : ١٠.

٢٥٦

عنهم فلأن يجوز استغابتهم طريق الأولويّة.

وفي اختصاصه بالمؤمن أو عمومه للمخالف أيضاً خلاف ، إذ المصرّح به في كلام جماعة (١) جواز استغابة المخالف ، ولعلّه مذهب الأكثر ، إذ لم ينقل المخالفة إلّا عن المحقّق الأردبيلي (٢) فمنع من استغابة المخالف أيضاً.

ونعني بالمؤمن الإمامي الاثنى عشري ، وهو من يعتقد الوحدانيّة وصفاته الكماليّة من الثبوتيّة والسلبيّة ونبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويتديّن بدينه ويعتقد المعاد وعدله تعالى ويعرف الأئمّة الاثني عشر ويعتقد إمامتهم ويواليهم.

والمراد بالمخالف من لا يعتقد إمامة الاثنى عشر ولا يواليهم وهم فريقان : فريق حكم بكفرهم واقعاً وظاهراً كالنواصب والخوارج ، وهذا الفريق خارج عن محلّ النزاع ، لدخوله في الكفّار الّذين جاز استغابتهم قولاً واحد. والفريق الآخر من حكم بكفرهم واقعاً وإسلامهم ظاهراً لجريان بعض أحكام الإسلام عليهم كطهارتهم وعدم انفعال ما يلاقيهم برطوبة وحرمة قتلهم وأخذ أموالهم وحرمة مناكحهم ، وهذا هو محلّ الخلاف.

والأقوى الأظهر فيه ما عليه الأكثر من جواز استغابتهم والوقيعة فيهم كما يجوز سبّهم ولعنهم والطعن ومعاداتهم والتبرّي عنهم بل الأئمّة عليهم‌السلام كانوا يفعلون جميع ذلك ويأمرون أصحابهم بمعاداتهم والتبرّي عنهم (٣) بل ورد فيهم أنّهم أشرّ من اليهود والنصارى وأنّهم أنجس من الكلاب (٤) فلا اخوّة بيننا وبينهم ولا احترام لهم عند الله.

فأدلّة تحريم الغيبة لا يتناولهم خصوصاً ما علّق فيها الاسم أو الحكم بالأخ أو المؤمن ، كقوله في عدّة روايات : «ذكرك أخاك بما يكرهه» (٥) وقوله : «الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله تعالى عليه» (٦) وقوله أيضاً : «أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل وتبثّ أمراً قد ستره الله تعالى عليه لم يقم عليه فيه حدّ» (٧) وفي المرسل «من قال في

__________________

(١) كما في الرياض ٨ : ١٦٢.

(٢) مجمع الفائدة ٨ : ٧٦.

(٣) الوسائل ١٦ : ١٧٦ ، ب ١٧ الأمر والنهي.

(٤) البحار ٧٦ : ٧٢ / ٥ ، البحار ٨٠ : ٣٦ / ٦.

(٥) الوسائل ١٢ : ٢٨٠ / ٩ ، ب ١٥٢ ، أمالي الطوسي ٢ : ١٥٠.

(٦) الوسائل ١٢ : ٢٨٨ / ٢ ، ب ١٥٤ ، الكافي ٢ : ٢٦٧ / ٧.

(٧) الوسائل ١٢ : ٢٨٨ / ١ ، ب ١٥٤ ، الكافي ٢ : ٢٦٦ / ٣.

٢٥٧

مؤمن ما رأته عيناه وسمعته اذناه فهو من الّذين قال الله عزوجل : و «الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (١) ، فإنّ ما عدا بمفهوم الحدّ نظراً إلى ظهور قيوده في الاحتراز يدلّ على خروج المخالف من اسم الغيبة أو من حكمه ، والثاني بمفهوم الوصف يدلّ على خروجه من حكم الغيبة.

وليس للأردبيلي إلّا ما حكي «من أنّ الظاهر عموم أدلّة تحريم الغيبة من الكتاب والسنّة للمؤمنين وغيرهم ، لأنّ قوله تعالى : «وَلا يَغْتَبْ ...» الخ خطاب للمكلّفين أو للمسلمين لجواز غيبة الكافر ، وألسنة أكثرها بلفظ «الناس» و «المسلم» وهما معاً شاملان للجميع ، ولا استبعاد في ذلك ، إذ كما لا يجوز أخذ مال المخالف وقتله لا يجوز تناول عرضه. وظنّي أنّ الشهيد في قواعده جوّز غيبة المخالف من جهة مذهبه ودينه لا غير» (٢).

وفيه : ما لا يخفى ، لمنع ظهور الأدلّة في عموم التحريم ، والآية بملاحظة صدرها وذيلها تأبى عموم حكمها للمخالف فإنّها مصدّرة بقوله : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ، وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» ومذيّلة بقوله : «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ» (٣) فالخطاب للمؤمنين والتحريم لحقّ الاخوّة لا غير ، والناس يقيّد بالمؤمن والمسلم ظاهر فيه أو يقيّد به ، ومع أنّ إطلاقه على المسلم توسّع شرعي لمراعاة جريان بعض أحكام الإسلام عليهم وإلّا فهو ليس على حقيقة الإسلام كما يدلّ عليه روايات مستفيضة قريبة من التواتر بل متواترة جدّاً ناطقة بأنّه «بني الإسلام على خمس الصلاة والزكاة والحجّ والصيام والولاية» (٤) وهم تركوا الولاية.

وبالجملة لا إشكال في جواز غيبة المخالفين ، للأصل وعدم دليل على المنع ، حتّى أنّ أدلّة تحريمها غير شاملة لهم بل أكثرها ظاهرة كالصريحة في غيرهم ، وفي بعض النصوص ما يدلّ صراحةً على جواز اغتيابهم ، بل استحبابه إن لم نقل بظهوره في الوجوب.

كالمرويّ في الصحيح عن داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٢٨٠ / ٦ ، ب ١٥٢ أحكام العشرة ، الكافي ٢ : ٢٦٦ / ٢.

(٢) مجمع الفائدة ٨ : ٧٨.

(٣) الحجرات : ١٢.

(٤) الوسائل ١ : ١٣ / ١ ، ب ١ مقدّمة العبادات ، الكافي ٢ : ١٥ / ٣.

٢٥٨

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيعة ، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ، ويحذّرهم الناس ولا يتعلّمون من بدعهم يكتب الله لهم الحسنات ويرفع الله لكم به الدرجات» (١).

ولا ريب أنّ المخالفين أهل الريب والبدع فيشملهم الرواية ، وهذه تدلّ على جواز بهتهم واستحبابه أيضاً وهي أشدّ من الغيبة ، والقول فيهم عبارة عن اغتيابهم ، والوقيعة فيهم ذكر معائبهم.

ويلحق بالمخالفين سائر فرق الشيعة ـ من الزيديّة والكيسانيّة والناووسيّة والإسماعيليّة والفطحيّة والواقفيّة وغيرهم ـ فيحلّ استغابتهم أيضاً ، للأصل ، وعدم الدليل على المنع والتحريم ، لانتفاء الاخوّة وعدم احترام لهم عند الله سبحانه ، مضافاً إلى صحيحة ابن سرحان في أهل الريب والبدع ، ويندرج هؤلاء المذكورون جزماً.

وهل يعتبر في محلّ التحريم ـ وهو المؤمن ـ أن يكون عدلاً فلا يحرم اغتياب الفاسق وإن لم يكن متجاهراً أو لا؟ ظاهر إطلاق الأصحاب عدم الاشتراط ، فيحرم اغتياب الفاسق أيضاً إذا لم يكن متجاهراً ، لإطلاق أدلّة المنع والتحريم بل وعموم بعضها وضعاً. خلافاً لما يظهر من صاحب المجمع قائلاً ـ بعد كلام له ـ : «وبما ذكرناه يظهر أنّ المنع من غيبة الفاسق ـ كما يميل إليه كلام بعض من تأخّر ـ ليس بالوجه ، لأنّ دلالة الأدلّة على اختصاص الحكم بغيره أظهر من أن يبيّن» (٢) إلى آخر ما ذكره.

وفيه : منع دليل يكون ظاهر الدلالة على الجواز في الفاسق ، كيف ولم يأت من هذه الأدلّة في تضاعيف كلامه ، إلّا ما رواه في الكافي في الموثّق عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدّثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، كان ممّن حرمت غيبته ، وكملت مروّته ، وظهرت عدالته ، ووجبت اخوّته» (٣) : وما أشار إليه من صحيحة عبد الله بن أبي يعفور الواردة في العدالة فإنّ في جملتها قوله عليه‌السلام «والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه ، حتّى يحرم على

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٢٦٧ / ١ ، ب ٣٩ الأمر والنهي ، الكافي ٢ : ٣٧٥ / ٤.

(٢) مجمع البحرين ١ : ١٣٦.

(٣) الوسائل ١٢ : ٢٧٨ / ٢ ، ب ١٥٢ أحكام العشرة ، الكافي ٢ : ١٨٧ / ٢٨.

٢٥٩

المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه وتفتيش ما وراء ذلك» (١).

وفيهما : المنع من الدلالة على جواز غيبة الفاسق.

أمّا الأوّل فلأنّه ـ مع أنّ العدالة لا تتحقّق بمجرّد الصفات المذكورة ـ فيه لا ينفي حرمة غيبة من عدا الموصوف بها ، بل في قوله : «كان ممّن حرمت غيبته» دلالة على أنّ في غيره أيضاً من يحرم غيبته فيدخل فيه الفاسق في الجملة هذا. ولكنّ العمدة في منع الدلالة أنّ اجتماع هذه الصفات الثلاث لا ينافي الفسق بل يجامعه ، لأنّ أسباب الفسق لا تنحصر في الظلم في المعاملات مع الناس والكذب في الحديث وخلف الوعدة ، مع إمكان أن يقال بدخول من انتفى عنه الصفات الثلاث على وجه الدوام في المتجاهر فهو موضوع المفهوم لا غير.

وأمّا الثاني فلأنّه غير متعرّض لحكم الغيبة أصلاً ، لأنّ المراد من حرمة ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه حرمة التفحّص والتجسّس عن بواطن من كان ساتراً لجميع عيوبه والتفتيش لخفاياه لظهور العطف في التفسير ، وهذا كما ترى حرام آخر لا مدخل للغيبة فيه وهو الّذي نصّت الآية بتحريمه حيث قال تعالى : «وَلا تَجَسَّسُوا» (٢) وإن كانت الغيبة أيضاً محرّمة. وبالجملة الصحيحة ليست بصدد بيان حكم للغيبة لا بإثبات تحريم ولا بنفيه لا منطوقاً ولا مفهوماً ، ولو سلّم فهي بالمفهوم لا تدلّ إلّا على جواز غيبة المتجاهر لأنّ من لا يكون ساتراً لجميع عيوبه لا يكون إلّا متجاهراً ولو في بعض عيوبه.

واستثني من الغيبة المحرّمة امور :

الأوّل : المتجاهر بالفسق الّذي نسب استثناؤه إلى جماعة (٣) ولعلّه ممّا لا خلاف فيه حيث لم نقف على نقل مخالف فيه ، وإنّما يحتاج إلى استثنائه إذ لم نقل بخروجه الموضوعي بعدم أخذ الستر في مفهومها كما هو الأقوى على ما تقدّم ، وإلّا فعلى أخذه في مفهومها كما هو المستفاد من عبارة الصحاح والمجمع ومن حسنة ابن سنان فذكره بعيوبه الغير المستورة ليس غيبة حتّى ينظر في تحريمه وعدم تحريمه ، والمراد به المتظاهر بفسقه من «جهر» بمعنى ظهر ، وهو الّذي يرتكب القبيح جهاراً ولا يبالي

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٣٩١ / ١ ، ب ٤١ أبواب الشهادات ، الفقيه ٣ : ٢٤ / ٦٥.

(٢) الحجرات : ١٢.

(٣) كما في القواعد ٢ : ١٤٨ ، الروضة ٣ : ٢١٤ ، الكفاية : ٨٧.

٢٦٠