ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

ما ثبت جوازه بالدليل كالاستصباح بالدهن تحت السماء؟ قولان.

نسب ثانيهما إلى جماعة من القدماء كالشيخين في المقنعة (١) والمبسوط (٢) والنهاية (٣) والخلاف (٤) والسيّدين في الانتصار (٥) والغنية (٦) والحلّي في السرائر (٧) ونسب اختياره من الأواخر إلى مفتاح الكرامة (٨) ويظهر اختياره من شيخنا في الجواهر (٩).

وربّما توهّم من عبارة الانتصار والخلاف والغنية دعوى الإجماع عليه ، ففي الأوّل «وممّا انفردت به الإماميّة أنّ كلّ طعام عالجه أهل الكتاب ومن ثبت كفرهم بدليل قاطع لا يجوز أكله ولا الانتفاع به ، واختلف باقي الفقهاء في ذلك وقد دللنا على ذلك في كتاب الطهارة حيث دللنا على أنّ سؤر الكفّار نجس» (١٠). وعن الثاني «في حكم السمن والبذر والشيرج والزيت إذا وقعت فيه فارة أنّه جاز الاستصباح به ولا يجوز أكله ولا الانتفاع به بغير الاستصباح ولا غيره بل يراق كالخمر ، وقال أبو حنيفة : يستصبح به ويباع لذلك ، وقال ابن داود : إن كان المائع سمناً لم ينتفع به ، وإن كان غيره من الأدهان لم ينجّس بموت الفارة فيه ويحلّ أكله وشربه ، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم» (١١). وفي الثالث عبارته المتقدّمة في مبحث المضاف المتنجّس (١٢).

والقول الثاني (١٣) منسوب إلى أكثر المتأخّرين (١٤) واختاره بعض مشايخنا (١٥) قدس‌سره ونعني من الأصل ما يتردّد بين الاصول العمليّة والقاعدة المستنبطة عن الأدلّة. والأقوى هو القول الثاني ١٦ استصحاباً للحالة السابقة ولأصالة الحلّ والجواز ، وقاعدة عموم الانتفاع بما خلق في الأرض ، ولا وارد على الأوّلين كما لا حاكم على القاعدة من

__________________

(١) المقنعة : ٥٨٢.

(٢) المبسوط ١ : ٥ و ٦. (٣) النهاية : ٥٨٨.

(٤) الخلاف : كتاب الأطعمة المسألة ١٩.

(٥) الانتصار : ٤٠٩. (٦) الغنية : ٢١٣. (٧) السرائر ٣ : ١٢١ ـ ١٢٢.

(٨) مفتاح الكرامة ٤ : ١٣ و ٢٤.

(٩) الجواهر ٢٢ : ١٥. (١٠) الانتصار : ٤٠٩.

(١١) الخلاف ٢ : ٥٤٤ كتاب الأطعمة.

(١٢) الغنية : ٢١٣.

(١٣ و ١٦) كذا في الأصل ، والصواب : القول الأوّل.

(١٤) كما في المعتبر ١ : ١٠٥ ، القواعد ١ : ١٨٩ ، الإرشاد ١ : ٢٣٨ ، الذكرى : ١٤ ، حاشية الإرشاد : ٢٠٣ ، المسالك ٣ : ١١٩.

(١٥) المكاسب للشيخ الأنصاري ١ : ٩١.

١٢١

الأدلّة ، إذ ليس لأصحاب القول الأوّل (١) إلّا عدّة من الآيات وجملة من الروايات العامّة وغيرها مع ضميمة الإجماعات المنقولة ، وكلّها مدخولة.

أمّا الآيات فمنها قوله عزّ من قائل : «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ» (٢) فإنّ تفريع الأمر باجتناب الامور المذكورة على الرجس يدلّ على وجوب اجتناب كلّ رجس ، والمتنجّس رجس فيجب اجتنابه.

وفيه : منع الدلالة ، فإنّ الرجس لغة وإن كان هو القذر ولكن اطلق على الحرام وعلى الفعل القبيح أيضاً ، كما نصّ عليه الطبرسي في مجمع البيان (٣) وقد تقدّم نقل عبارته في مفتتح باب حرمة التكسّب بالأعيان النجسة. ومن الجائز أن يكون المراد منه هنا الحرام أو الفعل القبيح بل هو المتعيّن بقرينة عطف الميسر وما بعده ، لعدم تعقّل القذر بمعنى النجس الشرعي فيها. وعلى تقدير كون المراد من الرجس القذر المعنوي فهو بقرينة العطف المذكور لا يتمّ بالنسبة إلى الميسر وما بعده ، إلّا إذا اريد به ما ينطبق على الحرام أو الفعل القبيح.

وحاصل معنى الآية حينئذٍ أنّ شرب الخمر واللعب بالميسر وعمل الأنصاب والأزلام حرام أو قبيح من عمل الشيطان فيجب اجتنابه ، ومعنى كونه من عمل الشيطان أنّه يحصل من إغوائه وتسويله. والمحرّم والقبيح من المتنجّسات إنّما هو الأكل أو الشرب ووجوب اجتنابهما مسلّم ولا كلام فيه ، وأمّا سائر الاستعمالات فوجوب اجتنابهما أيضاً فرع على كونها محرّمة أو قبيحة وهو أوّل المسألة ، ولا بدّ أن يثبت بدليل من الخارج ولا يمكن إثباته بالآية كما هو واضح.

وقد يجاب أيضاً : بأنّ الرجس ظاهر فيما يكون رجساً في ذاته فيختصّ بالأعيان النجسة ، وهي النجاسات العشرة فلا يندرج فيه لكون نجاستها عرضيّة هذا ، مضافاً إلى أنّه لو عمّم الرجس بالقياس إلى المتنجّس أيضاً لزم تخصيص الأكثر ، ضرورة أنّ أكثر المتنجّسات لا يجب اجتنابها في غير مشروط بالطهارة ، فلئلّا يلزم ذلك وجب تقييد

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب : القول الثاني.

(٢) المائدة : ٩٠.

(٣) مجمع البيان ٣ : ٤٧٨.

١٢٢

الرجس بما هو كذلك في ذاته ، أو تخصيص الأمر بالاجتناب بالاستعمالات المشروطة بالطهارة كالأكل والشرب وغيرهما.

مع أنّ الآية إنّما تدلّ على وجوب اجتناب ما كان رجساً من عمل الشيطان ، ومعنى كونه من عمل الشيطان أنّه من مبتدعاته ومخترعاته كالخمر والميسر والأنصاب والأزلام ، فلا يتناول المتنجّسات لأنّها ليست من عمل الشيطان ومخترعاته كما هو واضح. وإن اريد من عمل الشيطان كون عمل المكلّف حاصلاً في الخارج بإغوائه ليكون المراد بالمذكورات استعمالها على النحو الخاصّ ، فالمعنى أنّ الانتفاع بها رجس من عمل الشيطان ، كما يقال في سائر المعاصي أنّها من عمل الشيطان لحصول الجميع بإغوائه ، فلا تدلّ الآية على وجوب اجتناب الاستعمالات إلّا إذا ثبت حرمتها بدليل ، وهو في المتنجّس أوّل الكلام.

ومنها : قوله تعالى : «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ» (١) فإنّ الرجز هو القذر ، وإن اطلق على معانٍ اخر في الكتاب العزيز مثل عبادة الأوثان والشرك والعذاب ، والقذر هو النجس أو أعمّ منه ومن القذر المعنوي ، فيعمّ المتنجّس فيجب هجرانه.

وفيه : أنّه ظاهر فيما يكون رجزاً في نفسه فلا يتناول ما يعرضه الرجزيّة ، مع أنّه لو عمّم بالقياس إلى المتنجّس بجميع أنواعه وأفراده لزم تخصيص الأكثر حسبما بيّنّاه في أجوبة الآية السابقة ، فوجب تقييده بما يكون كذلك في ذاته أو تخصيص الأمر بالهجران بخصوص الأكل والشرب وغيرهما من الاستعمالات المشروطة بالطهارة ، مع احتمال أن يراد هجرانه في خصوص الصلاة إن اريد به النجس الشرعي بقرينة أنّ تطهير الثياب معتبر للصلاة.

ومنها : قوله تعالى : «وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ» (٢) بناءً على أنّ كلّ متنجّس خبيث فيفيد تحريم مطلق الاستعمال.

وفيه : أوّلاً منع كلّيّة المقدّمة الاولى كما هو واضح ، ثانياً منع المقدّميّة ، بل الظاهر أنّ المراد هنا حرمة الأكل خاصّة بقرينة مقابلته لحلّيّة الطيّبات الّتي اريد منها خصوص الأكل.

__________________

(١) المدّثر : ٥.

(٢) الأعراف : ١٧٥.

١٢٣

وأمّا الروايات فعامّها خبر تحف العقول حيث قال : «أو شي‌ء من وجوه» وبعقيبه بقوله : «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» وهذا عامّ في جميع الاستعمالات ، وقد ظهر ضعفه مراراً فإنّ الدهن المتنجّس وغيره ليس عنواناً للنجاسة بحيث يكون النجاسة تابعة للذات وهو الظاهر من قوله : «أو شي‌ء من وجوه النجس» والملاقي للنجس وإن كان عنواناً عامّاً والنجاسة فيه لكونها عرضيّة ليست تابعة للذات. وخاصّها الأخبار الجزئيّة الواردة في الموارد الخاصّة الآمرة جملة منها بإهراق المرق المتنجّس ونحوه ، وجملة منها بإلقاء النجاسة وما حولها وما تحتها وأكل الباقي من الدهن المتنجّس إذا كان جامداً ، وقد أوردنا نبذة من هذه الروايات في أبواب النجاسات من كتاب الطهارة.

والجواب عن الجميع : أنّ الأمر بالإهراق أو الإلقاء كناية عن عدم صلاحية المتنجّس للأكل ، وانتفاء فائدة الأكل فيه الّتي هي الفائدة المقصودة من المرق والسمن بقرينة مقابلة الأمر بأكل اللحم المطبوخ بعد غسله وأكل الباقي من السمن ، وهذه الكناية في نظائر المقام شائعة في استعمالات العرف. وممّا يشهد بذلك أنّ استعمال الدهن المتنجّس في الإسراج جائز بالنصّ والإجماع ، خصوصاً نفس الأخبار الآمرة بالإلقاء في الجامد المتضمّنة للأمر بالإسراج أو الاستصباح في الذائب. ولا يعقل كون الفرق بينهما بالجمود والذوبان مؤثّراً في الحكم ، مضافاً إلى الإجماع على عدم الفرق وإطلاق النصوص الاخر الآمرة بالاستصباح تحت السماء أو مطلقاً على ما ستعرفها.

وأمّا الإجماعات فيرد عليها : أنّ إجماع الانتصار ليس منقولاً على حرمة الانتفاع بقول مطلق ، وذلك لأنّ عبارة الانتصار في دعوى إجماع الإماميّة مسوقة لبيان ما هو محلّ الوفاق عند الإماميّة ومحلّ الخلاف بين العامّة ، وهو بدليل قوله حيث استدللنا على أنّ سؤر الكفّار نجس نجاسة ما باشره أهل الكتاب وعدمها واختلاف باقي الفقهاء يعني فقهاء العامّة إنّما هو في ذلك باعتبار الاختلاف في نجاسة أهل الكتاب ، فيكون محلّ الوفاق عند الإماميّة هو النجاسة لا غير ، وهي الّتي استدلّ عليها في كتاب الطهارة ، وادّعى عليها ثمّة إجماع الشيعة حيث قال : «وممّا انفردت به الإماميّة القول بنجاسة سؤر اليهودي والنصراني وكلّ كافر ، وخالف جميع الفقهاء في ذلك ... إلى أن

١٢٤

قال : فالإماميّة منفردة بهذا المذهب ، ويدلّ على صحّة ذلك ـ مضافاً إلى إجماع الشيعة ـ قوله تعالى : «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» (١) إلى آخر ما ذكره» (٢) ولا ريب أنّ دعوى الإجماع على النجاسة لا تستلزم دعوى الإجماع على الأحكام المتفرّعة عليها.

وإجماع الخلاف (٣) أيضاً بهذه المثابة ، فإنّ العبارة المتقدّمة منه مسوقة لبيان محلّ الوفاق والخلاف بين الخاصّة والعامّة ، وحيث نقل عن ابن داود قولاً بعدم نجاسة ما عدا السمن من الأدهان بموت الفارة فيه ، دلّ ذلك على أنّ المسألة المختلف فيها بين الخاصّة والعامّة هو نجاسة كلّ دهن بموت الفارة أو وقوع مطلق النجاسة فيه وعدمها ، وقد أفتى الشيخ بالنجاسة مطلقاً ببيان الأحكام المتفرّعة عليها ، وحكي الموافقة له في أصل النجاسة عن أبي حنيفة والمخالفة فيها عن ابن داود ، وقوله : «دليلنا إجماع الفرقة» دعوى للإجماع على النجاسة مطلقاً لا على الأحكام المتفرّعة عليها الّتي منها منع الانتفاع بالمتنجّس مطلقاً كما هو.

وإجماع الغنية : كما بيّنّاه سابقاً إجماع على الاستثناء من جواز بيع الكلب المعلّم وبيع الزيت المتنجّس للصيد والاستصباح تحت السماء لا على حكم المستثنى منه. ولو سلّم فحكم المستثنى منه إنّما هو عدم جواز بيع النجس لا حرمة سائر الاستعمالات والانتفاعات.

وبالجملة العبارات المتقدّمة المتضمّنة لدعوى الإجماع ليس بظاهرة في دعواه على حرمة مطلق الانتفاع بالمتنجّس إلّا ما ثبت جوازه بالدليل ، وإن قلنا بأنّ مختار صاحب العبارة هو ذلك. ولو سلّم ظهور العبارات أيضاً في دعواه على ذلك فهي موهونة بمصير أكثر المتأخّرين بالخلاف خصوصاً أساطينهم كالمحقّق في المعتبر (٤) والعلّامة في بعض كتبه والشهيدين في القواعد (٥) والذكرى (٦) والمسالك (٧) والمحقّق الثاني في حاشية الإرشاد (٨) وكاشف اللثام (٩) وغيره ، فإنّ كلماتهم بين صريحة وظاهرة

__________________

(١) التوبة : ٢٨.

(٢) الانتصار : ٨٨ ـ ٨٩.

(٣) الخلاف ٢ : ٥٤٤ كتاب الأطعمة.

(٤) المعتبر ١ : ١٠٥.

(٥) القواعد ٢ : ١٨٩ ، الإرشاد ١ : ٢٣٨.

(٦) الذكرى : ١٤. (٧) المسالك ٣ : ١١٩.

(٨) حاشية الإرشاد : ٢٨. (٩) كشف اللثام : ٢٩٩.

١٢٥

في اختيار جواز الاستعمال في الانتفاعات الغير المشروطة بالطهارة.

وربّما يحتمل في إطلاقات القدماء بالمنع إرجاعها إلى الاستعمالات المشروطة بها أيضاً من الأكل والشرب وإطعام الغير والبيع في الأكل والشرب ، ولو لم يمكن إرجاعها إليها لكفى في وهن مختارهم مخالفة أكثر المتأخّرين ، مع عدم مساعدة دليل واضح عليه يكون وارداً على الاصول حاكماً على القاعدة ، فعليها المعوّل حتّى يثبت الصارف عنها.

الجهة الثالثة : في بيع الأدهان المتنجّسة ، وقد اختلف فيه الأصحاب إطلاقاً وتقييداً تعميماً وتخصيصاً بعد اتّفاقهم على الجواز في الجملة ، وأقوالهم في محلّ الخلاف محصّلة ومنقولة أربعة :

الأوّل : جواز بيع الدهن المتنجّس مطلقاً لفائدة الاستصباح تحت السماء ، وهو المشهور على ما في كلام جماعة من دعوى الشهرة فيه ، وقد ينسب إلى محكيّ الخلاف (١) والغنية (٢) وإيضاح النافع دعوى الإجماع عليه. ولم نقف على عبارة الخلاف وإيضاح النافع لننظر في مفادها ، ولكن نسبة دعواه في مطلق الدهن إلى الغنية وهم ، لأنّ معقد إجماع الغنية على ما سمعت من صريح عبارته المتقدّمة هو بيع الزيت النجس خاصّة.

الثاني : جواز بيعه لفائدة الاستصباح مطلقاً ولو تحت الأظلّة والسقوف ، وهو على ما حكي للشيخ والعلّامة في المبسوط (٣) والمختلف (٤). وحكي عن موضع من الخلاف (٥) أيضاً ، واختاره الشهيد الثاني في المسالك (٦) وعزي إلى الأردبيلي (٧) والخراساني (٨) وعن فخر المحقّقين في الإيضاح (٩) أنّه قوّاه ، وفي الرياض (١٠) عليه كثير من المتأخّرين.

الثالث : تخصيص الجواز بالزيت النجس لفائدة الاستصباح تحت السماء كما نسب إلى ظاهر كلام الشيخ (١١) وهو خيرة الغنية (١٢) على ما هو ظاهر عبارته المتقدّمة.

الرابع : جوازه في مطلق الدهن لمطلق الفوائد المحلّلة ممّا عدا الاستصباح من

__________________

(١) الخلاف : ٣ : ١٨٧.

(٢) الغنية : ٢١٣.

(٣) الخلاف ٦ : ٩٣ المسألة ٢٠.

(٤) المختلف ٨ : ٣٣١. (٥) الخلاف ٦ : ٩٣ المسألة ٢٠.

(٦) المسالك ٣ : ١١٩. (٧) مجمع الفائدة ٨ : ٣٥.

(٨) الكفاية : ٨٥. (٩) الإيضاح ٤ : ١٥٦.

(١٠) الرياض ٨ : ١٣٧. (١١) المبسوط ٢ : ١٦٧.

(١٢) الغنية : ٢١٣.

١٢٦

تدهين الأجرب وطلي السفن وغيره ، كما يظهر اختياره من كاشف اللثام (١) وعزي إلى جماعة منهم الشهيد (٢) والمحقّق (٣) الثانيين وقبلهما الشهيد الأوّل (٤) في بعض الحواشي المنسوبة إليه على ما ستعرفه إن شاء الله تعالى ، وهو لازم خيرة أكثر المتأخّرين في الجهة المتقدّمة من جواز استعمال المتنجّس في الانتفاعات المباحة ، إلّا أن يدفع بمنع الملازمة بين جلّ الفوائد المباحة وحلّ البيع في تلك المنافع.

ومستند الحكم في المسألة ـ بعد الإجماعات المنقولة ـ النصوص المستفيضة مثل صحيح معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت : جرذ مات في زيت أو سمن أو عسل ، فقال : أمّا السمن والعسل فيؤخذ الجرذ وما حوله والزيت يستصبح به. [وأمّا الزيت فيستصبح به خ ل] قال في بيع ذلك الزيت : تبيعه وتبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» (٥).

وصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام «قال : إذا وقعت الفارة في السمن فماتت فيه فإن كان جامداً فألقها وما يليها وكل ما بقي ، وإن كان ذائباً فلا تأكله ، واستصبح به والزيت مثل ذلك» (٦).

وموثّق معاوية بن وهب وغيره عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في جرذ مات في زيت ما تقول في بيع ذلك؟ فقال : بعه وتبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» (٧).

والقويّ القريب من الموثّق بالحسن بن رباط عن أبي بصير «قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفارة تقع في السمن أو في الزيت فتموت فيه؟ فقال : إن كان جامداً فتطرحها وما حولها ويؤكل ما بقي ، وإن كان ذائباً فاسرج به وأعلمهم إذا بعته» (٨).

وخبر إسماعيل بن عبد الخالق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سأله سعيد الأعرج

__________________

(١) اكشف اللثام ٢ : ٢٦٩.

(٢) المسالك ٢ : ٢٤٦.

(٣) جامع المقاصد ٤ : ١٣.

(٤) نقله عنه في جامع المقاصد ٤ : ١٣.

(٥) الوسائل ١٧ : ٩٧ / ١ ، ب ٦ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٢٦١ / ٢.

(٦) الوسائل ١٧ : ٩٧ / ٢ ، ب ٦ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٢٦١ / ١.

(٧) الوسائل ١٧ : ٩٨ / ٤ ، ب ٦ ما يكتسب به ، التهذيب ٧ : ١٢٩ / ٥٦٣.

(٨) الوسائل ١٧ : ٩٨ / ٣ ، ب ٦ ما يكتسب به ، التهذيب ٧ : ١٢٩ / ٥٦٢.

١٢٧

السمّان وأنا حاضر عن الزيت والسمن والعسل تقع فيه الفارة فتموت كيف يصنع به؟ قال : أمّا الزيت فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج ، وأمّا الأكل فلا ، وأمّا السمن فإن كان ذائباً فهو كذلك ، وإن كان جامداً والفارة في أعلاه فيؤخذ ما تحتها وما حولها ثمّ لا بأس به ، والعسل كذلك إن كان جامداً» (١).

وحيث إنّ هذه الروايات تضمّن أكثرها السمن مع الزيت ظهر بذلك ضعف القول باختصاص الجواز بالزيت ، ولا ينافيه إجماع الغنية ، لأنّه لا ينفي الجواز عن غير الزيت إلّا على القول بمفهوم اللقب وهو باطل. وأمّا تعميم الحكم بالقياس إلى سائر الأدهان مع أنّ نصوص الباب مقصورة على السمن والزيت فلعلّ وجهه الإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.

وحيث إنّ النصوص الآمرة بالاستصباح أو البيع له مطلقة وليس فيها لتقييد الاستصباح بكونه تحت السماء أثر ، فقضيّة إطلاقها إطلاق الجواز حتّى تحت الظلال ، وهو الأصحّ وفاقاً لمن تقدّم من الجماعة وكثير من المتأخّرين ، مضافاً إلى أصالة الجواز واستصحاب الحالة السابقة والقاعدة المستنبطة من عمومات الصحّة ، خصوصاً مع ملاحظة أنّ الاستصباح تحت الظلال على ما تقدّم تحقيقه منفعة مقصودة للعقلاء دلّ الدليل على إباحتها ، فمطلق الاستصباح منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء فيجوز البيع فيها للأصل والعموم.

وأمّا التقييد بكونه تحت السماء وإن كان مشهوراً على ما صرّح به في المسالك (٢) والرياض (٣) بل عن الحلّي نفي الخلاف عن محظوريّة الاستصباح تحت الظلال قائلاً : «إنّ الاستصباح به تحت الظلال محظور بغير خلاف» (٤) غير أنّ الشهرة ونفي الخلاف لا ينهضان للصرف عن الاصول ولا تخصيص العموم ولا تقييد النصوص المطلقة ، لكون نفي الخلاف موهوناً بمخالفة الجماعة وكثير من المتأخّرين. واحتمال ابتناء الشهرة على الأخذ بالقدر المقطوع به من النصّ والإجماع بتوهّم نحو إجمال فيهما أو

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٩٨ / ٥ ، ب ٦ ما يكتسب به ، قرب الإسناد : ٦٠.

(٢) المسالك ٣ : ١١٩.

(٣) الرياض ٨ : ١٣٨.

(٤) السرائر ٣ : ١٢١ ـ ١٢٢.

١٢٨

استنادها إلى مقدّمتين فاسدتين من نجاسة دخان الدهن المتنجّس وحرمة تنجيس السقف وهي مع هذين الاحتمالين ـ مضافاً إلى مخالفة الجماعة من الأساطين ـ لا تكشف ولو ظنّاً عن وجود مدرك معتبر لها لو ظفرنا به لعملنا به. وليس في النصوص المعتبرة فيما علمنا كما صرّح به جماعة من المهرة المتتبّعين أيضاً ما يشهد لهم في التقييد المذكور.

نعم في مبسوط الشيخ بعد ما اختار جواز الاستصباح بقول مطلق ونسبه إلى جماعة «أنّه رووا أصحابنا أنّه يستصبح به تحت السماء دون السقف ، ثمّ قال : وهذا يدلّ على أنّ دخانه نجس ثمّ صرّح بأنّه عندي يعني الاستصباح تحت السقف مكروه ، وبعدم نجاسة دخان المتنجّس ونجس العين» (١) وزعم جماعة أنّ هذا رواية مرسلة منجبر ضعفها من جهة الإرسال بالشهرة.

وفي الجميع نظر ، أمّا ما أرسله الشيخ ، فلقوّة احتمال كون مراده من رواية الأصحاب فتواهم لا الرواية المصطلحة ، ولو لزعم كون مستند الفتوى الرواية المصطلحة بشهادة كون كتب الحديث والاستدلال خلوّاً عن ذكر نحو هذه الرواية. ولو سلّم كونها رواية مصطلحة لا جابر لها ، وشهرة الفتوى ما لم تكن استناديّة لا تصلح جابرة ، واستنادها إلى تلك الرواية بعد قيام أحد الاحتمالين المتقدّمين غير واضح ، مع أنّه لو كان فيها أمارة اعتبار كان الشيخ المرسل لها أولى بالاعتماد عليها ، بل مصيره إلى خلاف مقتضاها ربّما يوجب ضعفاً آخر فيها ، أو يكشف عن خلوّها عن أمارة الاعتماد.

وهل يقتصر في محلّ الرخصة على فائدة الاستصباح خاصّة أو لا ، بل يجوز البيع لسائر الفوائد المحلّلة ممّا تقدّم إليها الإشارة؟ قولان ، أوّلهما المشهور ، وثانيهما الأقوى وفاقاً لشيخنا (٢) في متاجره تبعاً لكاشف اللثام (٣) والشهيد والمحقّق الثانيين في المسالك (٤) وحاشية الإرشاد (٥) وقبلهما الشهيد الأوّل على ما هو صريح عبارته المنسوبة إليه في حواشيه ، قال المحقّق في حاشية الإرشاد عند شرح عبارة مصنّفه

__________________

(١) المبسوط ٦ : ٢٨٣.

(٢) الجواهر ٢٢ : ١٥.

(٣) كشف اللثام ٢ :

(٤) المسالك ٣ : ١١٩.

(٥) حاشية الإرشاد : ٢٠٤.

١٢٩

لفائدة الاستصباح به تحت السماء : «في بعض الحواشي المنسوبة إلى شيخنا الشهيد ما حاصله : أنّ الفائدة لا تنحصر في ذلك ، إذ مع فرض فائدة اخرى للدهن لا تتوقّف على طهارته يمكن بيعه لها كاتّخاذ الصابون منه ، قال : وهو مرويّ ومثله طلي الدابّة.

أقول : لا بأس بالمصير إلى ما نبّه عليه سيّما وقد ذكر أنّ به رواية» (١) انتهى. قال شيخنا (٢) قدس‌سره : الرواية إشارة إلى ما عن الراوندي في كتاب النوادر بإسناده عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام وفيه «سئل عليه‌السلام عن الشحم يقع فيه شي‌ء له دم فيموت ، قال : تبيعه لمن يعمله صابوناً ...» (٣) الخبر.

أقول : لنا ـ بعد أصالة الجواز واستصحاب الحالة السابقة جوازاً وصحّة ـ عمومات العقود ، مضافاً إلى ما في رواية دعائم الإسلام المتقدّمة من قوله عليه‌السلام «ويباح لهم الانتفاع» وإلى قوله عليه‌السلام : في رواية تحف العقول : «وكلّ شي‌ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فذلك كلّه حلال بيعه وشراؤه» ويعضدها رواية الراوندي المتقدّمة على ما أشار إليه الشهيد رحمه‌الله. ولم نقف للقول بالمنع على دليل عموماً ولا خصوصاً ، والإجماع الّذي ادّعاه العلّامة في التذكرة (٤) في مسألة اشتراط الطهارة الأصليّة في المعقود عليه إنّما ادّعاه على عدم صحّة بيع نجس العين كالخمر والميتة والخنزير ، فلا يتناول المقام كما نبّهنا عليه سابقاً ، وليس في سائر أدلّة حرمة التكسّب بالأعيان النجسة أيضاً ما يتناول المقام.

فروع :

الأوّل : على القول بالاقتصار في فائدة الاستصباح على ما تحت السماء فهل هذا الحكم تعبّد محض ، أو لنجاسة الدخان المتصاعد من هذا الدهن وتنجيسه السقف؟ قولان ، قيل بالأوّل ولعلّه المشهور ، وقيل بالثاني. ولوضوح ضعف هذا القول بظاهره ومخالفته المشهور بل الإجماع الظاهر على عدم نجاسة الدخان عدل عنه العلّامة (٥)

__________________

(١) حاشية الإرشاد : ٢٠٤.

(٢) المكاسب للشيخ الأنصاري ١ : ٩٢.

(٣) المستدرك ١٣ : ٧٣ / ٧ ، ب ٦ ما يكتسب به.

(٤) التذكرة ١٠ : ٢٥.

(٥) المختلف ٨ : ٣٣٣.

١٣٠

ووجّهه بأنّه يتصاعد من الدهن بسبب شدّة السخونة الحاصلة من النار مع الدخان أجزاء صغار لطيفة غير مستحيلة وتتّصل بالسقف وتنجّسه. وحكي عنه أنّه في موضع آخر فصّل بين العلم بتصاعد تلك الأجزاء فمنع من الاستصباح تحت السماء وعدم العلم به فجوّزه.

والأصحّ أنّ الحكم على تقدير صحّته تعبّد محض ، والقول الآخر في غاية الضعف لمنع صغراه وكبراه معاً فإنّ دخان النجس والمتنجّس كبخارهما على ما حقّق في محلّه ليس بنجس للأصل ، بعد ملاحظة أنّ الأحكام تدور مدار الأسماء ، ودخان شي‌ء من الأعيان النجسة كبخاره لا يسمّى باسم ذلك النجس وهذا واضح.

ودعوى : تصاعد الأجزاء اللطيفة الغير المستحيلة ، غير مسموعة حيث لم يقم عليها برهان ، ومجرّد الاحتمال غير كافٍ. ولو سلّم فاتّصالها بالسقف غير مطّرد ، لأنّه لا يتمّ في السقوف العالية المرتفعة. ولو سلّم فحرمة تنجيس السقف محلّ منع ، إذ لا دليل على منع المالك عن تنجيس ملكه ، والأصل يقتضي عدمه.

الثاني : هل يشترط في صحّة بيع الدهن المتنجّس أن يشرط البائع على المشتري فائدة الاستصباح بأن يقول : بعتك هذا الدهن بشرط أن تستصبح به ، أو يشترط قصدهما في العقد هذه الفائدة ، أو لا يشترط شي‌ء منهما؟ وجوه ، بل أقوال ، عزي أوّلها إلى ظاهر الحلّي حيث إنّه ـ بعد ما ذكر جواز الاستصباح بالأدهان المتنجّسة ـ قال : «ويجوز بيعه بهذا الشرط عندنا» (١).

وثانيها إلى ظاهر الشيخ في الخلاف والمبسوط حيث قال في الأوّل : «جاز بيعه لمن يستصبح به تحت السماء ، ودليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم» (٢) ونحوه مجرّداً عن دعوى الإجماع عبارة الثاني إلّا أنّه زاد قوله : «لا يجوز بيعه إلّا لذلك» (٣) وظاهره كما قيل كفاية القصد ، وهذا ظاهر غيره أيضاً ممّن عبّر بقوله «جاز بيعه للاستصباح» وما يقرب منه كالمحقّق والعلّامة في الشرائع (٤) والنافع (٥) والقواعد (٦) وغيرهما (٧) في

__________________

(١) السرائر ٢ : ٢٢٢.

(٢) الخلاف ٣ : ١٨٧.

(٣) المبسوط ٢ : ١٦٧.

(٤) الشرائع ٢ : / ٩.

(٥) النافع : ٢٤٦.

(٦) القواعد ٢ : ٦.

(٧) كما في التنقيح ٢ : ٧ ، مجمع الفائدة ٨ : ٣١ ، اللمعة : ١٠٨.

١٣١

غيرها. وربّما احتمل في هذه العبارات رجوع التعليل إلى الجواز لا إلى البيع ، ومفاده حينئذٍ يجوز لأجل تحقّق فائدة الاستصباح في هذه الأدهان بيعها.

وبالجملة فائدة الاستصباح علّة مجوّزة لبيع الأدهان المتنجّسة ، لا أنّها غاية مقصودة من بيعها. ويمكن منع ظهور اشتراط القصد من العبارة على تقدير كونها غاية للبيع ، فإنّ كون شي‌ء غاية مقصودة من فعل بنوعه لا يقضي باشتراط قصده حال مباشرة ذلك الفعل.

وثالثها إلى صريح جماعة (١) وهو الموافق للأصل والقاعدة ، فإنّ الأصل في كلّما يشكّ في كونه شرطاً في عبادة أو معاملة عدم الشرطيّة ، وقد حقّقنا سابقاً في مسألة بيع ما لو اشتمل على منفعتين محلّلة ومحرّمة ، أنّ قصد المنفعة المحرّمة مانع من صحّة البيع ، لا أنّ قصد المنفعة المحلّلة شرط في الصحّة. وهذه القاعدة فيما نحن فيه تساعد على عدم اشتراط الصحّة بقصدهما ، ومدركها عمومات صحّة البيع أجناساً وأنواعاً ، فإنّها يقتضي الصحّة في جميع الصور من قصد المنفعة المحرّمة وقصد المنفعة المحلّلة وعدم قصد شي‌ء منهما ، إلّا انّه خرج منها الصورة الاولى وبقى الباقي ومنه الصورة الثالثة.

وينبغي الرجوع إلى الأخبار المتقدّمة لينظر أنّه هل يستفاد منها ما يوجب الخروج عن الأصل والقاعدة أولا؟ وقد عرفت أنّ في خبر منها قوله عليه‌السلام : «تبيعه وتبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» وفي آخر «بعه وبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» وفي ثالث «وأعلمهم إذا بعته» وفي رابع «لا تبعه إلّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج».

والأوّلان لا يدلّان إلّا على وجوب إعلام النجاسة وعلى كون فائدة الاستصباح غاية مقصودة من الإعلام ، وإطلاق الأمر بالإعلام يتناول ما لو كان الإعلام قبل البيع أو بعده أو حينه ، فلا دلالة فيهما على اعتبار اشتراط الاستصباح في ضمن العقد ولا قصدهما إيّاه.

والثالث لا يدلّ إلّا على وجوب الإعلام وقت صدور البيع ، وهذا أيضاً بإطلاقه يتناول أثناء البيع وما بعده بل ما قبله أيضاً في تقدير ، ولا دلالة فيه على اعتبار فائدة الاستصباح فضلاً عن جعلها شرطاً في ضمن العقد صريحاً أو قصدهما لها حينه.

__________________

(١) حكاه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ١٢ : ٨٠ عن استاذه ، الكفاية : ٨٥ ، الحدائق ١٨ : ٩٠.

١٣٢

وأمّا الرابع فهو وإن كان في بادئ النظر يوهم اشتراط القصد لمكان قوله : «فيبتاع للسراج» إلّا أنّ دقيق النظر يساعد على خلافه ، لأنّه يفيد كون الابتياع للسراج متفرّعاً على التبيين والإعلام فيكون غاية مقصودة من الإعلام ، ولا يلزم من ذلك شرط الإسراج ولا قصده في ضمن العقد ، مع قوّة احتمال كون مدخول اللام علّة للجواز المستفاد من جملة «يبتاع» يعني فيجوز له لأجل السراج أن يبتاعه ، مع أنّ الكلام في اعتبار قصد البائع والمشتري معاً لا قصد المشتري ، مع أنّ كونه غاية للابتياع يفيد كونه الباعث عليه الداعي إليه ، ولا يفيد اعتبار حصول القصد منه حال وقوع الابتياع كما هو واضح.

لا يقال : إنّ ما تقدّم من الخلاف من إجماع الفرقة يدلّ على اعتبار القصد ، لأنّه ظاهر في دعوى الإجماع على أصل جواز البيع لا على اشتراط قصد الاستصباح ، هذا مع ما عرفت من احتمال بل ظهور رجوع العلّة إلى الجواز فيكون علّة مجوّزة للبيع من دون دلالة فيه على كون قصده شرطاً في صحّته.

الثالث : هل يجب على البائع إعلام المشتري لنجاسة الدهن إن كان جاهلاً أو لا؟ وعلى الأوّل فهل هو واجب نفسي من باب وجوب إرشاد الجاهل وتنبيه الغافل ولو في موضوع الحكم الشرعي ، أو واجب شرطي على معنى كون الإعلام نفسه شرطاً لجواز البيع وإباحته كما يقال يجب الوضوء لمسّ كتابة القرآن ، أو على معنى كونه مقدّمة لإحراز علم المشتري وهو شرط لصحّة البيع ، أو مقدّمة لإحراز شرط البائع على المشتري فائدة الاستصباح ، أو مقدّمة لإحراز قصدهما لتلك الفائدة وهو شرط؟ وجوه واحتمالات :

أوجهها وأجودها الوجوب النفسي وفاقاً لجماعة منهم المحقّق الأردبيلي (١) مدّعياً لظهور اتّفاق الفقهاء على الوجوب النفسي فيصحّ البيع بدون الإعلام ، غاية الأمر أن يثبت للمشتري خيار بعد علمه بالنجاسة لكتمان النجاسة الّتي هي عيب في المبيع على ما هو القاعدة المقرّرة في كتمان العيب. وقد يقال بكون الإعلام نفسه شرطاً في جواز البيع تكليفاً ووضعاً.

__________________

(١) مجمع الفائدة ٨ : ٣٨.

١٣٣

لنا ـ بعد الأصل النافي لاحتمال شرطيّة الامور المذكورة ولا سيّما الأخيرين على ما تقدّم الكلام في نفي اشتراط الصحّة بهما ، وأصالة النفسيّة في الأمر كقوله عليه‌السلام : «أو أعلمهم إذا بعته» فإنّ الأمر كما أنّه ظاهر في الوجوب كذلك ظاهر في كونه نفسيّاً ، وإن اختلف الظهوران في كون الأوّل وضعيّاً والثاني إطلاقيّاً لرجوع الاشتراط إلى تقييد الموضوع قضاءً ـ نفس الأخبار الواردة في الباب الآمرة بالإعلام ، فإنّ التعليل بقوله عليه‌السلام : «ليستصبح به» في خبرين منها يقضي بأنّ الغرض من إعلام نجاسة الدهن أن يستعمله المشتري في الاستصباح لا في الأكل وغيره من مشروط بالطهارة لئلّا يقع في الحرام الواقعي ، وهذا يأبى كون الغرض منه إحراز صحّة البيع أو إحراز شرط صحّته ، وكذلك قوله عليه‌السلام : «فيبتاع للسراج» فإنّه أيضاً يقضي بأنّ الغرض من التبيين استعماله في السراج لا في غيره من الأكل ونحوه ، ويأبى ذلك أيضاً الوجوب الشرطي بجميع محتملاته ، وقضيّة إطلاق الأمر عدم الفرق بين الإعلام قبل البيع أو بعده أو حينه أي في ضمن العقد ، والمفروض أنّ الغرض حاصل في الجميع. وما بيّنّاه من الاستدلال أولى ممّا حكي من موافقينا من التمسّك بالعمومات جنسيّة ونوعيّة من قوله تعالى : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» «وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» ونحو ذلك المعتضدة بالشهرة ، مضافاً إلى دعوى ظهور اتّفاق الفقهاء على ذلك في كلام الأردبيلي ، ويؤيّد الجميع أنّ كتمان العيب ممّا يوجب خياراً للمشتري لا فساد البيع رأساً.

ثمّ إنّ هاهنا مسائل تتعلّق بالإعلام :

الاولى : إذا كان المشتري عالماً بنجاسة الدهن من غير جهة إعلام البائع ، فالظاهر سقوط وجوبه ، لأنّ الغرض وهو علم المشتري ليستعمله في السراج حاصل بدون الإعلام فيلغو.

الثانية : أنّ الدهن في جملة من أنواعه لا يتأتّى منه بحسب متعارف الناس إلّا فائدة الاستصباح ولا يستعمل في الأكل عادةً ففي وجوب الإعلام في بيعه وجهان : من إطلاق الأمر ، ومن أنّ الغرض المستفاد من التعليل حاصل بدون علم المشتري بالنجاسة. وهذا أوجه ، فوجوبه لأجل هذا الغرض ساقط ، وأمّا التوقّي عن نجاسته

١٣٤

تحفّظاً على الثوب والبدن والأواني وغيرها فوجوب الإعلام لأجله مبنيّ على وجوب إعلام كلّ إنسان لنجاسة ما في يده إذا كان جاهلاً ، وسيأتي الكلام في تحقيقه.

الثالثة : إذا علم البائع من حال المشتري أنّه يشتري الدهن المتنجّس لغرض الإسراج لا غير ففي سقوط وجوب الإعلام وعدمه الوجهان السابقان ، والأوجه هو السقوط لحصول الغرض بدونه ، ولا يبعد التفصيل بين ما لو علم البائع بأنّ المشتري لا يبدو له فيما بعد إرادة الاستعمال في الأكل فلا يجب الإعلام ، وما لو علم أنّه يبدو له ذلك فيما بعد أو شكّ فيه والعدم فيجب لإطلاق الأمر وعموم التعليل. وهذا أجود.

الرابعة : لو باع الدهن المتنجّس لمن يعلم من حاله أنّ قوله في الإخبار بالنجاسة لا يؤثّر ، كما لو كان المشتري ممّن لا يجتنب عن النجاسات حتّى في الأكل لقلّة مبالاته في الدين ، ففي سقوط وجوب الإعلام وجه ، من جهة خلوّه عن الفائدة ، إلّا أنّ الأوجه هو الوجوب لإطلاق الأمر وعموم التعليل.

الخامسة : لو باعه والمشتري لا يشتريه لنفسه بل لغيره كما لو كان وكيلاً في اشتراء الدهن أو وليّاً أو فضوليّاً ، فالوجه وجوب الإعلام أيضاً عملاً بإطلاق قوله عليه‌السلام : «أعلمهم إذا بعته» مضافاً إلى عموم التعليل.

السادسة : لو باع الوكيل فالظاهر وجوب الإعلام عليه أيضاً ، لأنّ الوكيل قائم مقام الموكّل ، فيجب عليه ما وجب على موكّله في الفعل الموكّل فيه ، ويجري عليه الأحكام الجارية على الموكّل إلّا ما خرج بالدليل.

السابعة : لو باع الفضولي ولحقه إجازة المالك ، ففي وجوب الإعلام عليه أو على المالك وعدمه عليهما ، أمّا على البائع فلعدم كونه مالكاً والأخبار الآمرة به ظاهر فيما لو كان البائع مالكاً ، وأمّا على المالك فلأنّ الأمر متعلّق بما لو كان المالك بائعاً إلّا أن يقال : إنّ الإجازة اللاحقة من المالك توجب كونه هو البائع في الحقيقة وإن كان العقد صادراً من الفضولي ، ولعلّ هذا أوجه.

١٣٥

الباب الثاني

في الأعيان الّتي منافعها المقصودة محرّمة

وعبّر عنها في الشرائع وغيره «بما يحرم لتحريم ما قصد به كآلات اللهو مثل العود والزمر ، وهياكل العبادة المبتدعة كالصليب والصنم ، وآلات القمار كالنرد والشطرنج» (١) انتهى.

وآلات اللهو والقمار عبارة عن الآلات الّتي بها يستعان على فعل اللهو أو القمار ، والعبادة المبتدعة هي العبادة الغير المشروعة لعدم استحقاق المعبود بها لها كالصنم وهو معلوم ، والصليب وهو على ما عن المغرب (٢) «شي‌ء مثلّث كالتماثيل تعبده النصارى» والهيكل على ما عن الجوهري وغيره «بيت الصنم» (٣) وغلب على نفس الصنم تسمية للحالّ باسم المحلّ ، ثمّ اطلق على ما يعمّ الصليب مجازاً ، وحاصل معناها التماثيل والأشكال الّتي يعبدها أهل الضلال ، والعود شي‌ء يضرب به يقال له في الفارسيّة «ساز» والزمر والمزمار بمعنى وهو قصبة يزمر بها.

وحيث إنّ المقصود بالذات من عقد الباب هو التكلّم في حرمة التكسّب بالأشياء المذكورة وغيرها فلنقدّم ذلك ثمّ نشر في مطاوي البحث إلى جهات اخر متعلّقة بهذه الأشياء من عملها واستعمالها والانتفاع بها وملكها هيئة ومادّة أو مادّة فقط أو لا هيئة ولا مادّة وإن كانت المادّة بحسب الأصل ملكاً إلّا أنّه انسلخ عنها الملكيّة لعروض الهيئة كالخمر وإبقائها وإعدامها ونذكر أحكامها.

__________________

(١) الشرائع ٢ : ٩.

(٢) لا يوجد عندنا.

(٣) الصحاح ٥ : ١٨٥١ (مادّة هكل).

١٣٦

فنقول : أخصّ صور هذه الأشياء ما كان منها بحيث لا يمكن الانتفاع بها في غير الوجه المحرّم ولم يكن لمكسورتها قيمة ، فالمعروف من مذهب الأصحاب تحريم التكسّب بها بلا خلاف نعرف بل الإجماع بقسميه على ما في كلام بعض مشايخنا لأنّه القدر المتيقّن من معاقد فتاوي الأصحاب وإجماعاتهم المنقولة ، وفي الرياض (١) «بإجماعنا المستفيض النقل في كلام جماعة من أصحابنا» (٢) وإن كان قد يناقش في دعواه الاستفاضة.

وكيف كان فالعمدة من دليل المسألة العمومات مثل ما في رواية تحف العقول من قوله عليه‌السلام : «أمّا وجوه الحرام من البيع والشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله وشربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته ...» الخ بناءً على أنّ العبرة بعموم اللفظ لا خصوص المثال ، ولا ريب في تناول كلّ أمر يكون فيه الفساد للأشياء المذكورة وخصوص المثال لا يخصّصه فلا يقدح عدم ذكر اللهو والعبادة المبتدعة والمقامرة في عداد الأمثلة المذكورة. وقوله أيضاً : «أو شي‌ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد ...» الخ والكلام فيه أيضاً كسابقه. وقوله عليه‌السلام أيضاً : «وكذلك كلّ مبيع ملهوّ به وكلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير الله عزوجل» وهذا كالنصّ في محلّ البحث. وقوله عليه‌السلام : «وذلك إنّما حرّم الله الصناعة الّتي هي حرام كلّها ممّا يجي‌ء منها الفساد محضاً ، نظير البرابط والمزامير والشطرنج وكلّ ملهوّ به والصلبان والأصنام وما أشبه ذلك من صناعات الأشربة المحرّمة ، وما يكون منه وفيه الفساد محضاً ، ولا يكون منه ولا فيه شي‌ء من وجوه الصلاح ، فحرام تعليمه وتعلّمه والعمل به وأخذ الاجرة عليه وجميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات ...» الخ ، لوضوح اندراج التكسّب بها بجميع أنواعه في عموم جميع التقلّب وجميع وجوه الحركات.

وما في رواية دعائم الإسلام من قوله عليه‌السلام : «وما كان محرّماً أصله منهيّاً عنه لم يجز بيعه ولا شراؤه».

__________________

(١) الرياض ٨ : ١٤٠.

(٢) كما في المنتهى ٢ : ١٠١١ ، مجمع الفائدة ٨ : ٤١ ، الحدائق ١٨ : ٢٠٠.

١٣٧

وخبر أبي بصير المرويّ عن مستطرفات السرائر عن جامع أبي نصر البزنطي عن الصادق عليه‌السلام في خصوص الشطرنج «بيع الشطرنج حرام ، وأكل ثمنه سحت ، واتّخاذها كفر ، واللعب بها شرك ، والسلام على اللاهي بها معصية وكبيرة موبقة ، والخائض يده فيها كالخائض يده في لحم الخنزير» (١) وخوض اليد فيهما كناية عن وضع يد التصرّف والتقليب والاستعمال وكيف شاء وحيث أراد ، وحاصل معناه أنّ جميع تقلّبه في ذلك حرام ، وهذا تعميم بعد التخصيص ثمّ يتمّ في غيره بعدم القول بالفصل.

ونحوه الاستدلال بما في المرسل من قوله عليه‌السلام في الشطرنج أيضاً : «والمقلّب لها كالمقلّب لحم الخنزير» (٢) ومعناه بملاحظة عموم التشبيه تحريم جميع التصرّفات الّتي منها البيع والشراء وغيرهما.

والظاهر أنّه لا فرق في التحريم والبطلان بين ما لو عقد البيع وغيره على الأعيان الخارجيّة من هذه الأشياء أو على الكلّيّات منها في الذمّة لعموم بعض ما ذكر.

مسألتان :

المسألة الاولى : في أنّه لو كان في تلك الأشياء ما يمكن الانتفاع به في غير الوجه المحرّم لاشتماله على جهة محلّلة ، فلا يخلو ذلك إمّا أن يكون الجهة المحلّلة فيه غالبة على الجهة المحرّمة كالجارية المغنّية حيث إنّ التغنّي بها جهة محرّمة وفي مقابلها الجهة المحلّلة الغالبة عليها من الاستخدام والاستمتاع وغيره ، أو مساوية لها ، أو أقلّ منها ولكن لم تبلغ حدّ الندرة بحيث لم تكن مقصودة للعقلاء ، أو نادرة غير مقصودة للعقلاء ، فهذه صور أربع.

وضابط الصور الثلاث الاولى كون الهيئة المخصوصة بحسب وضعها عند واضعها مشتركة بين المنفعة المحرّمة والمنفعة المحلّلة ، وملاكه كون كلّ منهما مقصوداً للعقلاء من وضع الشي‌ء بتلك الهيئة المخصوصة. وتحريم البيع والتكسّب في هذه الصور الثلاث مقصور على البيع والشراء في الجهة المحرّمة. وأمّا في الجهة المحلّلة فلا يبعد

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٣٢٣ / ٤ ، ب ١٠٣ ما يكتسب به ، مستطرفات السرائر : ٥٩ / ٢٩.

(٢) الوسائل ١٧ : ٣٢٢ / ٣ ، ب ١٠٣ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٤٣٧ / ١٥.

١٣٨

جوازه وصحّته للقاعدة المتقدّمة في بحث المسكرات الجامدة فيما اشتمل منها على منفعة محرّمة ومنفعة محلّلة المستفادة من أدلّة منع التكسّب وتحريمه من إناطة تحريم البيع وحلّه بحرمة المنفعة المقصودة وحلّها ، ولكن هذا الفرض في آلات اللهو والقمار وهياكل العبادة المبتدعة نادر ، على معنى ندرة ما اشتمل منها على المنفعتين بحيث كان الهيئة المخصوصة مشتركة بينهما ، كما اعترف به ثاني الشهيدين في المسالك حيث قال : «وإن أمكن الانتفاع بها في غير الوجه المحرّم على تلك الحالة منفعة مقصودة فاشتراها لتلك المنفعة لم يبعد جواز بيعها إلّا أنّ هذا الفرض نادر فإنّ الظاهر أنّ ذلك الوضع المخصوص لا ينتفع به إلّا في المحرّم غالباً والنادر لا يقدح ومن ثمّ أطلقوا المنع من بيعها» (١) انتهى بناءً على أنّ ندرة الفرض في كلامه صفة لوجود المنفعة المحلّلة المقصودة في هذه الأشياء لا لنفس المنفعة المحلّلة مع اطّراد وجودها بقرينة قوله : «منفعة مقصودة» فإنّ المنفعة مع الندرة لا تكون مقصودة للعقلاء.

وأمّا الصورة الرابعة ـ وهي ما كانت الجهة المحلّلة نادرة غير مقصودة ـ فالوجه فيها تحريم البيع والشراء مطلقاً ولو في الجهة المحلّلة ، لعموم أدلّة المنع المعتضد بإطلاق فتاوي الأصحاب وإطلاق معاقد الإجماعات المنقولة. ولا يجري هنا القاعدة المشار إليها لأنّ الموجود هنا حلّ الانتفاع لأجل المنفعة والمسوّغ للبيع هو الثاني لا الأوّل ، كما بيّنّاه في بحث المسكرات الجامدة أيضاً.

لا يقال : لا يستفاد من العمومات المذكورة أزيد من تحريم بيع هذه الأشياء في الجهة الغالبة الّتي هي المنفعة المقصودة للعقلاء ، وأمّا بيعها في الجهة النادرة الّتي هي من قبيل مطلق الفائدة المترتّبة عليها وإن لم تكن مقصودة من وضعها واختراعها فيبقى جوازه مستفاداً من عمومات العقود أجناساً وأنواعاً ، وقضيّة ذلك أن يكون حلّ الانتفاع أيضاً مسوّغاً للبيع ونحوه كحلّ المنفعة.

لإمكان إثبات عموم المنع لمثل ذلك بقوله عليه‌السلام : «وجميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات» وقوله أيضاً : «وكذلك كلّ مبيع ملهوّ به وكلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٢٢.

١٣٩

لغير الله عزوجل» إلى قوله : «فهو حرام محرّم بيعه وشراؤه وإمساكه وملكه وهبته وعاريته وجميع التقلّب فيه ، إلّا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك» فإنّ جميع التقلّب فيه البيع لاستفادة الفائدة النادرة الّذي هو فرد نادر من بيع هذه الأشياء خصوصاً بملاحظة استثناء حال الضرورة ، فإنّه يقضي بكون ما عدا حال الضرورة داخل في المستثنى منه ، وليس النظر فيما نحن فيه إلى كون البيع للفائدة النادرة ما يقضي الضرورة إليه.

وكذلك يدلّ عليه قوله عليه‌السلام في خبر أبي بصير : «والخائض يده فيه كالخائض يده في لحم الخنزير» بالتقريب المتقدّم بملاحظة شمول المنع في المشبّه به للفروض النادرة أيضاً الّتي منها البيع لاستفادة الفائدة النادرة ، فتأمّل هذا.

ولكنّ الانصاف أنّ مثله يرد على البيع في المنفعة المحلّلة لوضوح أنّ عموم جميع التقلّب يتناوله ، واستثناء حال الضرورة يؤكّده بل يساعد عليه لقضائه بدخول ما عدا المستثنى في المستثنى منه ، وقضيّة ذلك أن لا يكون حلّ المنفعة أيضاً مجدياً في الجواز.

لا يقال : إنّ جواز البيع في المنفعة المحلّلة إنّما هو من مقتضى اشتراك الهيئة المخصوصة بينها وبين المنفعة المحرّمة بملاحظة القاعدة المشار إليها ، ولو فرض قصور القاعدة عن إخراج محلّ الفرض عن العموم المذكور لقلنا بالجواز هنا بملاحظة قوله عليه‌السلام في رواية التحف : «وأمّا تفسير التجارات في جميع البيوع ووجوه الحلال من وجه التجارات الّتي يجوز للبائع أن يبيع ممّا لا يجوز ، وكذلك المشتري الّذي يجوز له شراؤه ممّا لا يجوز ، فكلّ مأمور به ممّا هو غذاء للعباد وقوامهم به في امورهم في وجوه الصلاح الّذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون ويشربون ويلبسون وينكحون ويملكون ويستعملون من جميع المنافع الّتي لا يقيمهم غيرها ، وكلّ شي‌ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فهذا كلّه حلال بيعه وشراؤه وإمساكه واستعماله وهبته وعاريته ، وأمّا وجوه الحرام من البيع والشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد» إلى آخر ما تقدّم ذكره. فإنّ قوله : «وكلّ شي‌ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات ...» الخ يتناول بعمومه للهيئة المشتركة في هذه الأشياء من حيث قصد بوضعها الصلاح وهو النفع المحلّل المقصود منها.

١٤٠