ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

ويكفي الملازمة الشرعيّة وهي بين الأحكام المذكورة وجواز البيع ثابتة بالدليل من النصّ والإجماع ، ومرجع الملازمة الشرعيّة إلى لزوم جواز البيع للأحكام المذكورة على سبيل القاعدة الكلّيّة وهي قابلة للتخصيص ، والموارد المذكورة للتخلّف مخرجة عنها بالدليل وما عداها باقٍ تحتها ومنه الكلاب الثلاثة.

قلت : تحريم بيع الكلب أيضاً قاعدة ثابتة بالدليل ، وهي مع القاعدة المذكورة متعارضتان وبينهما عموم من وجه لافتراقهما في كلب الصيد وامّ الولد والوقف والحرّ واجتماعهما في الكلاب الثلاثة ، فلا بدّ من الترجيح بمرجّح داخلي أو خارجي ، ومن المرجّح الداخلي في العامّين من وجه كون أحدهما أقلّ أفراداً من الآخر ، ولا ريب أنّ قاعدة التحريم أخصّ مورداً بمراتب شتّى من قاعدة الملازمة فيؤخذ بها ويخصّص قاعدة الملازمة بإخراج مورد التعارض عنها.

ولم نقف للقول بجواز بيع كلب الماشية وكلب الزرع على حجّة سوى ما حكاه في المصابيح (١) من عدّة روايات غير دالّة عليه أصلاً ، مثل ما عن الكافي في الصحيح عن محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «لا خير في الكلاب إلّا كلب صيد أو كلب ماشية» (٢).

وما في التذكرة (٣) وعن المنتهى (٤) من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من اتّخذ كلباً إلّا كلب ماشية أو زرع أو صيد نقص من أجره كلّ يوم قيراط» (٥).

والمرويّ عن غوالي اللآلئ في حديث «إنّ جبرئيل نزل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوقف بالباب واستأذن ، فأذن له فلم يدخل ، فخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ما لك؟ فقال : إنّا معاشر الملائكة لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة فنظروا فإذا في بعض بيوتهم كلب فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا أدع كلباً إلّا قتلته ، فهربت الكلاب حتّى بلغت العوالي فقيل : يا رسول الله كيف الصيد بها وقد أمرت بقتلها؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء الوحي باقتناء الكلاب

__________________

(١) مصابيح الأحكام : ١١.

(٢) الوسائل ١١ : ٥٣٠ / ٢ ، ب ٤٣ أحكام الدوابّ ، الكافي ٦ : ٥٥٢ / ٤.

(٣) التذكرة ١٠ : ٣٠.

(٤) المنتهى ٢ : ١٠٠٩.

(٥) صحيح مسلم ٣ : ١٢٠٣ / ٥٨ ، المغني ٤ : ٣٢٦ ، الشرح الكبير ٤ : ١٦.

١٠١

الّتي ينتفع بها ، فاستثنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلاب الصيد وكلاب الماشية وكلاب الحرث ، وأذن في اتّخاذها» (١).

وفي الجميع ـ بعد الغضّ عن سند ما عدا الصحيح منها وعن أخصّيّة الصحيح من المدّعى ـ منع الدلالة ، إذ الخيريّة لا تفيد أزيد من وجود المنفعة المحلّلة ولا كلام فيه ، والإذن في الاتّخاذ وجوازه لا يفيد أزيد من جواز اقتناء هذين الكلبين ، وهذا أيضاً على ما ستعرفه ليس بمحلّ كلام. وبالجملة محلّ النزاع غير ثابت بهذه الروايات ، والثابت بها ليس بمحلّ نزاع ، فيبقى قاعدة التحريم فيما عدا كلب الصيد سليمة عمّا يوجب التخصيص.

وليس للقول بجواز بيع كلب الماشية وكلب الحائط إلّا رواية مرسلة أرسلها الشيخ في المبسوط قائلاً : «يجوز بيع كلب الصيد ، وروي أنّ كلب الماشية والزرع مثل ذلك أي مثل كلب الصيد في جواز البيع» (٢) ويظهر التعويل عليها من صاحب الوسائل (٣).

ويرد عليها الضعف بالإرسال ، مضافاً إلى أنّ الشيخ المرسِل لها لم يعمل بها لعدم تصريحه بجواز البيع في الكلبين كما أفتى به صريحاً في كلب الصيد بل نسبه فيهما إلى الرواية.

ثمّ إنّ المعروف في كلب الحائط أنّه كلب البستان ، وقد يعمّم بالنسبة إليه وإلى كلب البيوت والدور والخيام ، ومنهم من ألحق ما عدا كلب البستان به في الحكم ، ولا يهمّنا تحقيق ذلك بعد البناء على المنع من البيع فيما عدا كلب الصيد ، فإنّ الأقسام المذكورة مثل كلب الماشية وكلب الزرع مندرجة في عموم المنع سواء سمّينا الجميع بهذا الاسم أو لا.

ثمّ إنّ هاهنا فروعاً ينبغي التعرّض لها :

الأوّل : يجوز اقتناء ما ينتفع به من الكلاب في حراسة ونحوها سواء فيه الكلاب الأربع وغيرها بإجماع علمائنا كما في المصابيح (٤).

وفي المحكيّ عن مبسوط الشيخ «ويجوز اقتناء الكلب للصيد وحفظ الماشية وحفظ الزرع بلا خلاف وكذلك يجوز اقتناؤها لحفظ البيوت» (٥).

__________________

(١) غوالي اللآلئ ٢ : ١٤٨ / ٤١٤ ، المستدرك ٨ : / ٢٩٣ / ٢ ، ب ٣٥ أحكام الدوابّ في السفر.

(٢) ٢ و ٥ المبسوط ٢ : ١٦٦.

(٣) الوسائل ١٧ : ١٢٠.

(٤) مصابيح الأحكام : ١٢.

١٠٢

وظاهره وقوع الخلاف في غير الثلاثة ، ولذا قد يدّعى اتّفاق الأصحاب في اتّخاذه للمزارع والماشية والصيد مع نقل اختلافهم في جواز اتّخاذه لحفظ الدرب والدور على وجهين كما حكاه في البحار (١).

وفي المصابيح علّل إطلاق القول بالجواز ـ بعد الإجماع ـ بالأصل والأخبار.

وجريان الأصل هنا مع ملاحظة ما في رواية تحف العقول من قوله عليه‌السلام : «لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه» الخ محلّ منع ، ولم نقف من الأخبار إلّا على ما دلّ على جواز اتّخاذ الثلاثة المذكورة ، كرواية غوالي اللآلي المتقدّمة.

وفي رواية عن أبي عبد الله عليه‌السلام «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رخّص لأهل القاصية في الكلب يتّخذونه» (٢) وهذا أخصّ عن المدّعى لأنّ القاصية البعيدة عن المعمورة.

ويمكن استنباط الجواز من الروايات الدالّة أو المحمولة على الكراهة ، فإنّ اقتناء الكلاب المنتفع بها واتّخاذها للانتفاع وإن كان جائزاً إلّا أنّه على كراهية كما نصّ عليه في المصابيح ، لنجاستها وعسر التحرّز عنها ، ولقول أبي عبد الله عليه‌السلام في صحيح الحلبي : «يكره أن يكون في دار الرجل المسلم الكلب» (٣) وقوله عليه‌السلام في موثّقة زرارة : «ما من أحد يتّخذ كلباً إلّا نقص في كلّ يوم من عمل صاحبه قيراط» (٤) ونحوه المرسلة المتقدّمة عن التذكرة (٥) قيل وفي رواية قيراطان ، وفي موثّقة سماعة قال : «سألته عن الكلب يمسك في الدار؟ قال : لا» (٦) وهذا محمول على الكراهة وعلى تقدير حمله على التحريم فيحتمل كونه في الكلب الهراش ، وللروايات الدالّة على أنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب : منها : ما تقدّم (٧) عن الغوالي اللآلئ.

ومنها : المرويّ عن الشيخ عن محمّد بن مروان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله : إنّ جبرئيل أتاني فقال : إنّا معاشر الملائكة لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا تماثيل

__________________

(١) البحار ٦٢ : ٥١.

(٢) الوسائل ١١ : ٥٣١ / ٧ ، ب ٤٣ أحكام الدوابّ ، الكافي ٦ : ٥٥٣ / ١١.

(٣) الوسائل ١١ : ٥٣٠ / ١ ، ب ٤٣ أحكام الدوابّ ، الكافي ٦ : ٥٥٢ / ١.

(٤) الوسائل ١١ : ٥٣١ / ٥ ، ب ٤٣ أحكام الدوابّ ، الكافي ٦ : ٥٥٢ / ٢.

(٥) التذكرة ١٠ : ٣٠.

(٦) الوسائل ١١ : ٥٣١ / ٦ ، ٤٣ أحكام الدوابّ ، الكافي ٦ : ٥٥٢ / ٣.

(٧) تقدّم في الصفحة ١٠١.

١٠٣

جسد ، ولا إناء فيه يبال» (١).

والمرويّ عن الفقيه عن الصادق عليه‌السلام «لا تصلّ في دار فيها كلب إلّا أن يكون كلب الصيد واغلقت دونه باباً فلا بأس ، فإنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ، ولا بيتاً فيه تماثيل ، ولا بيتاً فيه بول مجموع في آنية» (٢).

ويستفاد من هذه الرواية ارتفاع الكراهة في كلب الصيد بشرط أن يكون في بيت اغلق عليه الباب كما أفتى به في المصابيح (٣) ويدلّ عليه أيضاً خبر جرّاح المدائني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا تمسك كلب الصيد في الدار إلّا أن يكون بينك وبينه باب» (٤) وخبر سماعة قال : «سألته عن كلب الصيد يمسك في الدار؟ قال : إذا كان يغلق دونه الباب فلا بأس» (٥).

وأمّا تفسير القيراط الوارد في أخبار نقص أجر العمل ، ففي المجمع «والقيراط نصف دانق ... إلى أن قال : وأمّا القيراط الّذي جاء في الحديث جزء من أجزاء الدينار ... إلى أن قال : وفي النهاية (٦) القيراط جزء من أجزاء الدينار وهو نصف عشر في أكثر البلاد ، وأهل الشام يجعلونه جزء من أربعة وعشرين» (٧) ولعلّه لمكان الاختلاف واشتباه حقيقته. قيل : والمراد بالقيراط مقدار معلوم عند الله تعالى ينقص من أجر عمله.

وقيل أيضاً : اختلفوا في المراد بما نقص منه فقيل ممّا مضى من عمله ، وقيل : من مستقبله ، وقيل : قيراط من عمل الليل وقيراط من عمل النهار ، وقيل : قيراط من عمل الفرض وقيراط من عمل النفل. وكأنّ هذين القولين قصد بهما بيان معنى رواية قيراطين كما تقدّم قصداً إلى الجمع بينها وبين رواية القيراط ، وقد يجمع أيضاً بحملها على اختلاف أنواع الكلاب في كون بعضها أشدّ أذىً من البعض الآخر ، أو على اختلاف

__________________

(١) الوسائل ٥ : ١٧٤ / ١ ، ب ٣٣ مكان المصلّي ، الكافي ٣ : ٣٩٣ / ٢٧.

(٢) الوسائل ٥ : ١٧٥ / ٤ ، ب ٣٣ مكان المصلّي ، الفقيه ١ : ١٥٩ / ٧٤٤.

(٣) مصابيح الأحكام : ١٢.

(٤) الوسائل ١١ : ٥٣٠ / ٣ ، ب ٤٣ أحكام الدوابّ ، الكافي ٦ : ٥٥٢ / ٥.

(٥) الوسائل ١١ : ٥٣١ / ٤ ، ب ٤٣ أحكام الدوابّ ، الكافي ٦ : ٥٥٢ / ٦.

(٦) النهاية ٤ : ٤٢.

(٧) مجمع البحرين ٣ : ٤٨٩.

١٠٤

المواضع فيكون القيراطان في المدن ونحوها والقيراط في البوادي.

الثاني : قال في المصابيح (١) : «كلّما يجوز اقتناؤه من الكلاب يصحّ تملّكه كغيره من الحيوانات المنتفع بها ويحرم إتلافه والجناية عليه من غير المالك بإجماع الأصحاب حكاه العلّامة في التذكرة وابن فهد في المهذّب» (٢).

ومراده ممّا نسبه إلى العلّامة ما ذكره في التذكرة «يحرم قتل ما يباح اقتناؤه من الكلاب إجماعاً وعليه الضمان» (٣).

وقال بعض مشايخنا ـ في جملة كلام له في الكلاب الأربعة ـ : «لا خلاف في أنّها مملوكة ولإتلافها غرامات ، ويجوز إجارتها وهبتها ورهنها والوصيّة بها وأن تكون مهراً للنكاح وعوضاً للخلع ، بل يجوز أن تكون ثمناً في الإجارة وغيرها» (٤).

وقال العلّامة في غصب التذكرة : «لو غصب كلب صيد أو زرع أو حائط أو ماشية وجب عليه ردّه إلى مالكه ، لأنّ له قيمة في نظر الشرع ، ويجوز اقتناؤه والانتفاع به فأشبه غيره من الأموال. ولو أتلفه ضمن القيمة الّتي قدّرها الشرع ، ولو حبسه عن مالكه مدّة لزمه اجرته عندنا لأنّه يصحّ استيجاره عندنا» وقال في موضع آخر : «قد بيّنّا أنّ منافع الكلب الّذي يجوز اقتناؤه وله قيمة في نظر الشارع مضمونة على الغاصب» (٥).

قال السيّد ـ بعد العبارة المتقدّمة عن مصابيحه ـ : «ولا ينافي ذلك تحريم بيع ما عدا كلب الصيد ، لأنّ جواز البيع ليس من لوازم الملك ، إذ من المملوك ما لا يجوز بيعه كالوقف والمكاتب وامّ الولد والقليل الغير المتموّل ، فلا يلزم من تحريم البيع انتفاء الملك ولا جواز الإتلاف والجناية ، وقد ورد في أكثر هذه الكلاب دية مقدّرة» (٦).

أقول : تحريم البيع هنا لعلّه لانتفاء الماليّة الّتي لا ملازمة بينها وبين الملكيّة ، بناءً على أنّ النسبة بين الملك والمال عموم من وجه لافتراق الملك عن المال في الحبّة المملوكة من الحنطة ونحوها ، وافتراق [المال] عن الملك ثلث الميّت بناءً على خروجه عن ملك الميّت ، والمبيع يتبع الماليّة ، كما يظهر ذلك من العلّامة في وصيّة التذكرة حيث

__________________

(١) مصابيح الأحكام : ١٢.

(٢) المهذّب البارع ٢ : ٣٤٨.

(٣) التذكرة ١٠ : ٢٨.

(٤) الجواهر ٢٢ : ١٤٠.

(٥) التذكرة ٢ : ٣٧٩ كتاب الغصب.

(٦) مصابيح الأحكام : ١٢.

١٠٥

أناط الماليّة وانتفاءها في الكلاب بجواز بيعها والعدم قائلاً : «لو أوصى بكلب الهراش لم تصحّ الوصيّة لأنّه ليس بمال ، ولا يجوز اقتناؤه ولا بيعه ولا هبته ، أمّا لو كان الكلب ممّا يحلّ اقتناؤه مثل كلب الصيد والماشية والزرع والحائط صحّت الوصيّة به إجماعاً لأنّ فيه نفعاً مباحاً وتقرّ اليد عليه ، والوصيّة تبرّع تصحّ في المال وغير المال من الحقوق ولأنّه تصحّ هبته فتصحّ الوصيّة به كالمال. ولو قال : أعطوه كلباً من كلابي ، فإن لم يكن له كلب مباح اقتناؤه بل كلّ كلابه كلاب الهراش بطلت الوصيّة ، ولو كان له كلاب يباح الانتفاع بها صحّت الوصيّة واعطي واحداً منها. وكذا لو قال : أعطوه كلباً من مالي ، فإن قلنا الكلب المباح اقتناؤه يصحّ بيعه وشراؤه كان مالاً وصحّت الوصيّة به ، وإن قلنا إنّه لا يصحّ بيعه فإنّه تصحّ الوصيّة به أيضاً وبه قال الشافعي وإن لم يكن الكلب مالاً لأنّ المنتفع به من الكلاب يصحّ اقتناؤه واعتبار أيدي المتداولة عليه كالأموال ويستعار له اسم المال بهذا الاعتبار ، بخلاف كلب الهراش فإنّ الوصيّة به باطلة سواء قال : أعطوه كلباً من كلابي ، أو من مالي ، لأنّه لا يصحّ ابتياع الكلب المذكور لأنّه لا قيمة له ولا يباح اقتناؤه ، فلا يعدّ مالاً حقيقة ولا مجازاً إلى آخر ما ذكره» (١).

ولو لا الإجماع على مملوكيّة رقبة هذه الكلاب المستفاد من تضاعيف كلماتهم خصوصاً تصريحهم بصحّة هبة هذه الكلاب الّتي يشترط في متعلّقها كونه عيناً مملوكة أمكن منع ابتناء حرمة الإتلاف والجناية وضمان الدية المقدّرة بل سائر الأحكام المذكورة عدا صحّة الهبة على ملك الرقبة لكفاية ملك المنافع المحلّلة في ذلك كلّه كما هو واضح. وربّما أمكن منع ابتناء الضمان وتحريم الإتلاف على ملك المنافع أيضاً ، لكفاية تعلّق حقّ الاختصاص ، فتأمّل.

الثالث : ظاهر كلمة الأصحاب جواز إجارة الكلاب الأربعة خصوصاً كلب الصيد ، وهو المعروف من مذهب الأصحاب في كلب الصيد كما في المصابيح (٢) بل ظاهر عبارة التذكرة (٣) إجماعهم عليه في الأربعة حيث لم ينسب الخلاف إلّا إلى بعض الشافعيّة ، والشيخ في الخلاف على ما حكي نسب الخلاف إلى بعض العامّة ولكنّه

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٤٨٣ كتاب الوصيّة.

(٢) مصابيح الأحكام : ١٢.

(٣) التذكرة ١٠ : ٢٨.

١٠٦

لم يذكر إلّا كلب الصيد والماشية والزرع.

واستدلّوا عليه بأنّه حيوان مملوك ينتفع به نفعاً محلّلاً مقصوداً مع بقاء عينه ، وزاد عليه في المصابيح في كلب الصيد «أنّه قد ثبت بالنصّ والإجماع جواز إعارته» (١).

وهذا يقتضي جواز إجارته أيضاً بضابطة أن كلّما صحّ إعارته مع بقاء عينه صحّ إجارته كذلك.

والمحقّق مع أنّه في الشرائع (٢) منع عن بيع ما عدا كلب الصيد أجاز إجارة الجميع ، وعن الشهيد الثاني في المسالك «نفى الإشكال عنه» (٣) وعن ابن الفهد في المهذّب «نفي الخلاف عنه» (٤).

وفي المصابيح «قد يقال بالمنع إن لم يثبت الإجماع على الجواز لكون الإجارة نوعاً من التكسّب فتكون محرّمة لتحريم التكسّب بالأعيان النجسة» (٥).

ويدفعه : أنّ الدليل العامّ على تحريم التكسّب بالأعيان النجسة يقول مطلق ، إمّا قوله في رواية تحف العقول : «لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلّب فيه فجميع تقلّبه في ذلك حرام» أو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» وأيّاً ما كان فهو لا يتناول الكلاب الأربعة أصلاً فضلاً عن إجارتها.

أمّا الأوّل فلظهوره في تحريم جميع المنافع والتقلّبات ، وأمّا الثاني فلظهوره فيه أو في تحريم المنافع المقصودة ، فلا يندرج فيهما الكلاب الأربعة لحلّيّة منافعها المقصودة ، حتّى أنّه لو لا النصوص المصرّحة بتحريم ثمن الكلب الّذي لا يصيد لم يمكن إثبات تحريم بيع ما عدا كلب الصيد بقاعدة تحريم التكسّب بالأعيان لعدم العموم في دليلها بحيث يشمل الكلاب الثلاثة ، والمفروض عدم إمكان إثبات تحريم إجارتها بتلك النصوص لمكان الثمن الّذي لا يطلق على عوض المنفعة في الإجارة لاختصاصه عرفاً بل لغة بعوض الأعيان ، وأمّا عوض المنافع فيقال له : الاجرة ومال الإجارة ووجه الإجارة.

وهل يصدق الثمن على عوض العين في الصلح المعوّض والهبة المعوّضة ليتّجه

__________________

(١) مصابيح الأحكام : ١٢.

(٢) الشرائع ٢ : ٩.

(٣) المسالك ٣ : ١٣٥.

(٤) المهذّب البارع ٢ : ٣٤٦.

(٥) مصابيح الأحكام : ١٣.

١٠٧

من جهته التمسّك بالنصوص المشار إليها لتحريم هذين النوعين من الصلح والهبة أولا؟ وجهان مبنيّان على كون الثمن عبارة عن العوض المبذول للعين في البيع أو مطلقاً ، كلمة أئمّة اللغة فيه مختلفة.

فعن الجوهري في الصحاح «والثمن ثمن المبيع» (١) وظاهره يفيد الاختصاص وإن حمل على إرادة التشبيه.

وفي الغريبين للهروي «الثمن قيمة الشي‌ء» (٢) ونحوه ما في المجمع (٣) إلّا أنّ الأوّل قال ـ عقيب ما عرفت ـ : «وجعل الثمن مشتري كسائر السلع لأنّ الثمن والمثمن كلاهما مبيع ولذا اجيز شريت بمعنى بعت».

وهذا الكلام يعطي أنّ المراد قيمة المبيع خاصّة فيوافق الأوّل ، ولا ينافيهما ما عن الأساس «أثمنت الرجل بمتاعه وأثمنت له أعطيت ثمنه ، وثمّن هذا المتاع بيّن ثمنه كما تقول قوّمه» (٤).

نعم عن المصباح المنير «الثمن العوض» (٥) وهذا ظاهر في العموم ، ويوافقه ما في القاموس «وثمن الشي‌ء محرّكة ما استحقّ به ذلك الشي‌ء ... إلى أن قال : وأثمنه سلعته وأثمن له أعطاه ثمنها» (٦).

ويمكن إرجاعهما إلى الأوّل ، فالجميع يريدون عوض المبيع خاصّة ، ويشهد له العرف فإنّ المتبادر من الثمن في متفاهم العرف هو ذلك لا مطلق العوض ، وإليه ينصرف إطلاقات الأخبار. ولو سلّم أنّه بحسب اللغة لمطلق العوض فلا ينصرف الإطلاق في الأخبار إلّا إلى الخاصّ فإنّه الغالب المعهود بحسب الاستعمال. وعلى هذا فلا يندرج المعوّض من الصلح والهبة في عموم قوله عليه‌السلام : «ثمن الكلب الّذي لا يصيد سحت» كما لا يندرج فيه الغير المعوّض منهما.

وقضيّة عمومات الصحّة في العقدين جوازهما في الكلاب الأربعة مطلقاً ، وكذلك يجوز إصداقها والوصيّة بها لأجل العمومات السليمة عمّا يوجب الخروج منها جزماً

__________________

(١) الصحاح ٥ : ٢٠٨٩ (ثمن).

(٢) الغريبين ١ : ٢٩٦.

(٣) مجمع البحرين ١ : ٣٢٥.

(٤) أساس البلاغة : ٤٨.

(٥) المصباح المنير : ٩٣.

(٦) القاموس المحيط ٤ : ٢٠٧.

١٠٨

كما نصّ عليه السيّد (١) وغيره (٢).

بل ظاهر عبارة التذكرة بل صريحها جريان الوقف فيها حيث إنّه بعد ما ذكر أنّه يشترط في العين الموقوفة امور خمسة «أن يكون عيناً معيّنة مملوكة ينتفع بها انتفاعاً محلّلاً مع بقائها ويصحّ إقباضها قال ـ في بيان فائدة القيد الثالث ـ : «وكذا لا يصحّ وقف ما ليس بمملوك من الأعيان كالخمر والأنبذة وكلب الهراش والخنزير والسرجين وغير ذلك ممّا تقدّم من الأعيان الّتي لا يقع عليها الملك ... إلى أن قال : ويصحّ وقف الكلب المعلّم وكلب الحائط والماشية والسنّور ، لجواز الانتفاع بها وصحّة بيعها على الأقوى. وللشافعيّة في وقف الكلب المعلّم وجهان ...» (٣) إلى آخر ما ذكره. وربّما يومئ ذلك إلى عدم خلاف بين الأصحاب في الكلب المعلّم.

__________________

(١) مصابيح الأحكام : ١٣.

(٢) جامع المقاصد ٩ : ١٤٥.

(٣) التذكرة ٢ : ٤٣١.

١٠٩

المبحث السابع

في المائعات النجسة

وهي على قسمين :

أحدهما : ما كان نجاسته ذاتيّة كالخمر والفقّاع وسائر الأنبذة والبول ممّا لا يؤكل لحمه ، وقد تقدّم ما يتعلّق بأنواع هذا القسم من الأحكام مشروحاً ، وهي في الحقيقة داخلة في الأعيان النجسة ، وما فرض فيها من الميعان غير مؤثّر في شي‌ء.

وثانيهما : ما كان نجاسته عرضيّة كالماء والمضاف المتنجّسين بالملاقاة ، والأدهان المتنجّسة كذلك من الزيت والسمن والشحم حال ذوبانه ، ومنه العصير العنبي بعد الغليان على المشهور المنصور ، بناءً على أنّ المراد من النجاسة العرضيّة النجاسة الطارئة لطاهر العين بسبب خارجي من غليان أو ملاقاة أو غيرهما من دون أن تستند إلى ذاته وحقيقته ، قبالاً للنجاسة الذاتيّة وهي التابعة لذات الشي‌ء المعلولة لحقيقته.

نعم لو فسّرت الذاتيّة بما لم يكن مكتسبة من غيره بالملاقاة كانت العرضيّة حينئذٍ عبارة عن المكتسبة عن غيره بالملاقاة فيدخل العصير في الذاتيّة ، إلّا أنّ الأظهر هو الأوّل ، ولذا كانت نجاسة موطوءة الإنسان والجلّالة من العرضيّة.

وكيف كان فالغرض من عقد هذا المبحث التعرّض لأحكام المائعات المتنجّسة بالعرض ، وتمام البحث في أنواعها يقع في مقاصد :

المقصد الأوّل : في العصير العنبي إذا غلى قبل ذهاب ثلثيه الّذي هو في تلك الحال جس ومحرّم ، ولا إشكال في بقاء ماليّته وملكيّته وعدم زوالهما بالنجاسة العارضة له

١١٠

ولو بحكم الاستصحاب ، غاية الأمر أنّه مال معيوب عيبه قابل للزوال بالنقص الحاصل بإذهاب ثلثيه مع بقاء موضوعه. وبالجملة النجاسة القابلة للزوال مع بقاء الموضوع ليست رافعة لملكيّة الشي‌ء ولا مخرجة له عن الماليّة ، بل الرافع للملكيّة المخرج عن الماليّة شرعاً وعرفاً هو النجاسة الغير القابلة للزوال مع بقاء الموضوع فيما يتوقّف منافعه المحلّلة على الطهارة ، فالعصير حال نجاسته مال عرفاً وشرعاً وملك لصاحبه ، والخمر ليس مالاً ولا ملكاً ، ولذا لو غصب العصير غاصب فأغلاه وجب عليه ردّ عينه ، وعليه ضمان مئونة إذهاب ثلثيه ، بل ضمان التالف منه بالغليان عنده بمثله في قول قويّ ، بخلاف ما لو غصبه عصيراً فصار خمراً عنده فإنّه يضمن بمثل العصير.

كما صرّح بما ذكرناه من الفرق بينهما العلّامة في غصب التذكرة معلّلاً لضمان اجرة العمل حتّى يذهب ثلثاه بعد ما ردّه إلى المالك «بأنّه ردّه معيباً ويحتاج زوال العيب إلى خسارة والعيب من فعله فكانت الخسارة عليه» (١).

واندفع بما ذكر ما ناقشه في جامع المقاصد «بعدم وضوح الفرق بين المقامين» (٢) فإنّ الفرق بينهما واضح ، ضرورة أنّ صيرورة العصير خمراً عند الغاصب لخروجها عن الماليّة والملكيّة بمنزلة التلف فوجب ضمانه بمثل العصير ، والخمر لا يزول نجاستها إلّا بزوال موضوعها والعصير مال وملك مع النجاسة ولا يزول موضوعها بزوالها ، ثمّ لا ينبغي التأمّل في جواز الانتفاع به في الأكل والشرب بعد الطهارة الحاصلة بالنقص. وعلى هذا فهو عين مملوكة قابلة للانتفاع منفعة محلّلة مقصودة ، وقضيّة ذلك أن يجوز بيعه بل مطلق التكسّب به عملاً بالعمومات من نحو قوله تعالى : «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» (٣) و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (٤) وما أشبه ذلك وفاقاً لغير واحد ، وهو على ما قيل لازم كلّ من قيّد تحريم البيع في الأعيان النجسة بعدم قابليّتها للتطهير بغير استحالة.

نعم يظهر من المحقّق في الشرائع (٥) حيث اقتصر في الاستثناء عن كلّ مائع نجس على الأدهان لفائدة الاستصباح المصير إلى المنع ، ونسب القول به صريحاً إلى مفتاح

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٣٨٧ كتاب الغصب.

(٢) جامع المقاصد ٦ : ٢٩٣.

(٣) البقرة : ١٨٨.

(٤) المائدة : ١.

(٥) الشرائع ٢ : ٩.

١١١

الكرامة (١) ورجّحه بعض مشايخنا (٢) عند قراءتنا عليه. وليس بشي‌ء ، والعمومات المشار إليها حجّة على كلّ من قال هنا بالمنع ، ولا يزاحمها قاعدة تحريم التكسّب بالأعيان النجسة على ما أقعدناه سابقاً ، لعدم شمول ما هو دليلها العامّ من رواية تحف العقول والخبر النبويّ لما نحن فيه.

أمّا الأوّل : فلوجهين ، الأوّل أنّ قوله عليه‌السلام : «أو شي‌ء من وجوه النجس» على ما بيّنّاه سابقاً ظاهر في العنوانات النجسة الّتي نجاستها تابعة لأصل العنوان ، والمقام ليس منها. والثاني أنّ قوله عليه‌السلام : «لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله وشربه ...» الخ يفيد إناطة المنع من البيع والشراء بتحريم جميع المنافع والتقلّبات ، وهذا ليس منها لقبوله الانتفاع بالأكل والشرب بعد الطهارة وهما منفعتان محلّلتان.

وأمّا الثاني : فلما ذكرناه مراراً من أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله إذا حرّم شيئاً» يفيد إناطة تحريم الثمن بتحريم جميع المنافع أو تحريم المنافع المقصودة والعمدة من منافع المقام الأكل والشرب بعد الطهارة وهما محلّلان ، نعم إنّما أكله وشربه حال النجاسة ، ولا كلام في حرمة بيعه وشرائه لأجل هذه الجهة ، وهذا خارج عن معقد البحث.

نعم يبقى ممّا توهّم منه عموم المنع من التكسّب هنا أمران :

أحدهما : الإجماع المنقول في تذكرة العلّامة حيث قال : «يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصليّة فلو باع نجس العين كالخمر والميتة والخنزير لم يصحّ إجماعاً» (٣).

ويدفعه : منع اندراج المقام في معقد هذا الإجماع ، لظهور نجس العين في النجاسة العينيّة التابعة لذات الشي‌ء وماهيّته ، ويؤكّده التمثيل بالثلاثة الّتي نجاستها ذاتيّة ، فيراد من الطهارة الأصليّة المشترط بها الطهارة الذاتيّة الّتي لا ينافيها النجاسة العرضيّة خصوصاً مع قبولها الزوال كما هو مفروض المقام.

وثانيهما : الإجماع المنقول في كلام ابن زهرة في الغنية حيث إنّه بعد ما ذكر «إنّ شرائط صحّة البيع ثبوت الولاية في المعقود عليه ، وأن يكون معلوماً مقدوراً على تسليمه ، منتفعاً به منفعة مباحة ... الخ قال ـ في بيان تفصيل الشروط المذكورة ـ : وقيّدنا

__________________

(١) مفتاح الكرامة ١٢ : ٣٨.

(٢) الجواهر ٢٢ : ١٢.

(٣) التذكرة ١٠ : ٢٥.

١١٢

بكونها أي المنفعة مباحة تحفّظاً من المنافع المحرّمة ويدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب المعلّم للصيد والزيت النجس للاستصباح به تحت السماء وهو إجماع الطائفة» (١).

وهذا أيضاً واضح الدفع ، لأنّ معقد هذا الإجماع على تقدير كونه إجماعاً على المستثنى منه أيضاً لا على الاستثناء فقط ما لا يقبل التطهير وكلامنا فيما يقبله ، فكلّ ما يوجد في فتاوي الأصحاب أو وجد في معاقد إجماعاتهم من إطلاق المنع من بيع النجس فهو إمّا في النجاسات الذاتيّة أو فيما لا يقبل التطهير من النجاسات ولو عرضيّة.

وعن مفتاح الكرامة (٢) الاستناد للمنع إلى ظاهر العمومات المتقدّمة ، وخصوص بعض الأخبار :

مثل رواية أبي كهمس قال : «سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام عن العصير فقال : لي كرم وأنا أعصره كلّ سنة وأجعله في الدنان (٣) وأبيعه قبل أن يغلي ، قال : لا بأس ، وإن غلى فلا يحلّ بيعه ، ثمّ قال : هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمراً» (٤).

ورواية أبي بصير «قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمراً؟ قال : إذا بعته قبل أن يكون خمراً وهو حلال فلا بأس» (٥).

ورواية محمّد بن هيثم عن رجل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن العصير يطبخ بالنار حتّى يغلي من ساعته أيشربه صاحبه؟ فقال : إذا تغيّر عن حاله وغلى فلا خير فيه حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه» (٦).

وقد ظهر الجواب عن العمومات ، وأمّا الروايات ـ فمع الغضّ عمّا في أسانيدها من الضعف والقصور ـ يتطرّق المنع إلى دلالة الأخير منها إلّا على تقدير أن يراد من قوله : «لا خير فيه» ما يعمّ البيع ، وهو واضح المنع ، فلا يفيد أزيد من التحريم أو هو مع

__________________

(١) الغنية : ٢٠٧ ـ ٢١٣.

(٢) مفتاح الكرامة ١٢ : ٤١.

(٣) الدنان : جمع الدن وهو الجرّة والحبّ.

(٤) الوسائل ١٧ : ٢٣٥ / ٦ ، ب ٥٩ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ٢٣٢ / ١٢.

(٥) الوسائل ١٧ : ٢٢٩ / ٢ ، ب ٥٩ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ٢٣١ / ٣.

(٦) الوسائل ٢٥ : ٢٨٥ / ٧ ، ب ٢ الأشربة المحرّمة ، الكافي ٦ : ٤١٩ / ٢.

١١٣

النجاسة ، كما ربّما يومئ إليه الغاية المعهود منها كونها غاية للطهارة والحلّية.

ويرد على الأوّل منها : ظهوره في البيع لمن يشربه وهو نجس أو حرام ـ أعني قبل إذهاب ثلثيه ـ ولا كلام في تحريمه حينئذٍ ، ولذا قال عليه‌السلام ـ فيما بعد تجويزه البيع قبل الغليان ومنعه منه بعده ـ : «هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمراً».

وعلى الأوسط منها : أنّ مفهوم قوله عليه‌السلام : «إذا بعته قبل أن يكون خمراً وهو حلال فلا بأس» ثبوت البأس في بيعه بعد أن يكون خمراً لا ثبوته في بيعه بعد الغليان ، إلّا أن نقول بالملازمة بين الغليان والخمريّة ، وهي غير واضحة من الرواية لعدم تعليق نفي البأس على عدم الغليان بالنار فتأمّل. ولو سلّم فضعف هذه الرواية بعليّ بن أبي حمزة يمنع من التعويل عليها في الحكم المخالف للأصل والعمومات ، مع إمكان حملها على من يشتريه لشربه خمراً لا للتطهير بإذهاب ثلثيه.

المقصد الثاني : في المضاف المتنجّس بالملاقاة بجميع أنواعه من الجلاب والخلّ والعصير والدبس وغيره ممّا لا يقبل التطهير بالماء مع بقاء موضوعه وصدق عنوانه عليه ، ولا ينبغي الإشكال في بقاء ملكيّته وعدم انسلاخ الملك عنه بطروء النجاسة ولو بحكم الأصل واستصحاب الحالة السابقة الّذي هو من الاستصحاب مع الشكّ في رافعيّة العارض ، كما لا ينبغي الإشكال في حرمة استعماله في الأكل أو الشرب أو غيرهما من مشروط بالطهارة ، ولا في حرمة بيعه وشرائه في هذه الجهة المحرّمة.

وإنّما الكلام في مقامين آخرين :

أحدهما : جواز الانتفاع به في غير الأكل والشرب من الانتفاعات الاخر الغير المشترطة بالطهارة ، كسقي الدوابّ والتداوي بالطلي وغيره ممّا عدا الأكل والشرب.

وثانيهما : جواز بيعه بل مطلق التكسّب به في الانتفاعات الاخر المباحة.

أمّا المقام الأوّل : فتحقيقه مبنيّ على النظر في أنّ الأصل في المتنجّس الغير القابل للتطهير بالماء هل هو جواز الانتفاع به إلّا ما أخرجه الدليل ـ كالأكل والشرب والاستصباح بالدهن المتنجّس تحت الظلال كما نسب إلى أكثر المتأخّرين (١) واختاره

__________________

(١) كما في الإرشاد ١ : ٣٥٧ ، التحرير ٢ : ٢٥٧. الروضة ٣ : ٢٠٧ ، التنقيح ٢ : ٧.

١١٤

بعض مشايخنا (١) وهو الأقوى ، لأصالة الإباحة في المنافع ، وأصالة براءة الذمّة عن العقاب المحتمل ترتّبه على الفعل ، واستصحاب الحالة السابقة على طروء النجاسة ، وعموم الانتفاع بما خلق في الأرض المستفاد من قوله تعالى : «وخلق لكم ما في الأرض» (٢) ولا وارد على هذه الاصول من الأدلّة ـ أو الأصل هو عدم الجواز إلّا ما أخرجه الدليل؟ كالاستصباح بالدهن تحت السماء كما نسب إلى ظاهر جماعة من القدماء (٣) وإلى صاحب مفتاح الكرامة (٤) واختاره شيخنا في الجواهر (٥) وسيأتي تفصيل الكلام في تحقيق هذا المقام في مسألة الأدهان المتنجّسة إن شاء الله تعالى.

وأمّا المقام الثاني : فقد اختلف فيه الأصحاب ففي المصابيح «المشهور فيه عدم الجواز ، لعدم قبوله التطهير».

وعن العلّامة في بعض أقواله «الجواز لقبوله التطهير» (٦).

وعن المحقّق الثاني (٧) جوازه فيما لا يتوقّف الانتفاع به على طهارته كالمايعات المقصود منها الصبغ بخلاف غيره من المائعات المقصود منها الأكل والشرب ونحوهما من الانتفاعات المشروطة بالطهارة. وعنه أيضاً القول بالجواز إن قصد مزجه بالماء المطلق إلى أن يصير ماء لطهارة المضاف باستهلاكه في الكثير المطلق.

والأصحّ هو القول الثالث. وربّما احتمل تنزيل القول المشهور عليه ، لقوّة احتمال كون مرادهم المنع عن بيعه في الأكل والشرب وغيره من الانتفاعات المحرّمة. كما ربّما يومئ إليه تعليله بعدم قبوله التطهير فإنّ التطهير وقبوله علاج يقصد به التوصّل إلى الأكل والشرب وغيرهما من منافعه المقصودة ، ولعلّ العلّامة أيضاً أراد من قبوله التطهير قبوله بمزجه في الكثير المطلق حتّى يصير مطلقاً فيكون مراده ممّا جوّزه تجويز بيعه للأكل والشرب بعد التطهير بهذا الطريق. وعلى هذا فلا مخالفة بين العلّامة والمشهور إلّا في مجرّد اللفظ أو في الموضوع. وقضيّة ما وجّهناه رجوع قول العلّامة إلى القول الرابع ،

__________________

(١) المكاسب للشيخ الأنصاري ١ : ٦٥.

(٢) البقرة : ٢٩.

(٣) كما في النهاية ٢ : ٩٨ ، والمبسوط ١ : ٥ و ٦ ، المقنعة : ٥٨٢ ، المراسم : ١٧٠ ، السرائر ٢ : ٢١٩.

(٤) مفتاح الكرامة ١٢ : ٧٨.

(٥) الجواهر ٢٢ : ٨.

(٦) كما في القواعد ٢ : التحرير ١ : ١٦٠ ، نهاية الإحكام ٢ : ٤٦٤.

(٧) جامع المقاصد ٤ : ١٣.

١١٥

وهما راجعان إلى القول المشهور.

فصار المحصّل أنّه لا خلاف لأحد في عدم جواز بيعه وشرائه في الأكل والشرب المحرّمين حال النجاسة.

وأمّا بيعه وشراؤه في الانتفاعات الاخر المباحة أو في الأكل والشرب المقصودين بعد التطهير ولو بالطريق المذكور فلم يتبيّن إنكار جوازه من أحد ، والمعتمد على ما بيّنّاه هو الجواز ، للأصل بمعنى استصحاب الحالة السابقة ، وعموم أدلّة الصحّة في جميع عقود المعاوضة من نحو قوله تعالى : «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» (١) و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (٢) وما أشبه ذلك.

وليس للقول بالمنع مطلقاً إن كان إلّا ما أشار إليه السيّد في الرياض من العمومات المتقدّمة المانعة عن بيع النجس المعربة عن تحريم ثمن ما حرّم أصله (٣) مضافاً إلى الإجماعات المنقولة الّتي حكاها عن الغنية (٤) والمنتهى (٥) والمسالك (٦) وغيرها. ولم يتقدّم في كلامه صريحاً من العمومات ممّا يمكن التمسّك بعمومه للمقام إلّا أمران :

أحدهما : ما نقله من الفقه المنسوب إلى مولانا الرضا عليه‌السلام من قوله : «اعلم رحمك الله أنّ كلّ مأمور به على العباد وقوام لهم في امورهم من وجوه الصلاح الّذي لا يقيمهم غيره ـ ممّا يأكلون ويشربون ويلبسون وينكحون ويملكون ويستعملون ـ فهذا كلّه حلال بيعه وشراؤه وهبته وعاريته ، وكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا قد نهى عنه من جهة أكله وشربه ولبسه ونكاحه وإمساكه بوجه الفساد مثل الميتة والدم ولحم الخنزير والربا وجميع الفواحش ولحوم السباع والخمر وما أشبه ذلك فحرام ضارّ للجسم» (٧).

وثانيهما : قوله في رواية تحف العقول : «أو شي‌ء من وجوه النجس» مع التعليل بأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله وشربه ... الخ.

ويمكن أن يضاف إليهما عمومات اخر وإن لم يذكرها في صريح العبارة :

أحدها : ما في رواية تحف العقول قبل الفقرة المذكورة من قوله : «وأمّا وجوه الحرام من البيع والشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله أو شربه أو لبسه ... الخ».

__________________

(١) البقرة : ١١٨.

(٢) المائدة : ١.

(٣) الرياض ٨ : ١٣٧.

(٤) الغنية : ٢١٣. (٥) المنتهى ٢ : ١٠١٠.

(٦) المسالك ٣ : ١١٩. (٧) فقه الرضا عليه‌السلام : ٢٥٠.

١١٦

وثانيها : ما في خبر دعائم الإسلام من قوله عليه‌السلام : «وما كان محرّماً أصله منهيّاً عنه لم يجز بيعه ولا شراؤه» (١).

وثالثها : الخبر النبويّ «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» (٢).

وأنت خبير بأنّ ليس شي‌ء منها بشي‌ء ، أمّا الرضوي فالقدح في سنده لكون الكتاب المذكور غير ثابت الحجّيّة لعدم ثبوت كونه من الإمام عليه‌السلام أوّلاً ومنع دلالته ثانياً. وسند المنع وجوه :

الأوّل : أنّ قوله : «فحرام ضارّ للجسم» لا يفيد تحريم بيع الأشياء المذكورة لظهوره في تحريمها باعتبار كونه خبراً لكلّ أمر يكون فيه الفساد ، فالحرام حينئذٍ أكل ما نهي عنه من جهة أكله ، وشرب ما نهى عنه من جهة شربه ، ولبس ما نهي عنه من جهة لبسه وهكذا ، وجعله متعلّقاً بالبيع والشراء يحتاج إلى إضمار وتقدير ينفيه الأصل ، وظهور السياق بقرينة الفقرة الاولى الّتي متعلّق الحلّية فيها البيع والشراء وإن كان يقرب احتمال الإضمار والتقدير إلّا أنّه يبعّده امور :

منها : وصف ضارّ للجسم فإنّه بظاهر العبارة صفة لقوله : «حرام» ولا يتصوّر كون الضارّ للجسم بيع الأشياء المذكورة بل الضارّ أكلها وشربها ولبسها ونكاحها ، إلّا أن يرجع الوصف إلى كلّ أمر يكون فيه الفساد على طريقة الخبر بعد الخبر بإسقاط العاطف ، وهو خلاف ظاهر سقوط العاطف.

ومنها : قوله فيما سبق : «نكاحه» فإنّ المنهيّ عنه من جهة نكاحه إنّما هو المحارم ونحوه ذات البعل وذات العدّة ، والحرام إنّما هو نكاحهنّ ولا يعقل لحرمة بيع نكاحهنّ معنى.

ومنها : قوله : «والربا» فإنّ الربا هو بيع الجنس بمثله مع زيادة ، ولا معنى لحرمة بيع الجنس بمثله مع زيادة إلّا أن يجرّد الربا عن معنى البيع واكتفى فيه بالزيادة ، وهو تكلّف آخر.

ومنها : قوله : «جميع الفواحش» فإنّ الفواحش بظاهرها من القمار والزنا واللواط والغناء وغيرها من القبائح ، لا معنى لحرمة بيعها.

الثاني : ظهور الرواية بملاحظة الأمثلة المذكورة ـ على تقدير تسليم تعلّق الحرمة

__________________

(١) دعائم الإسلام ٢ : ١٨ / ٢٣.

(٢) عوالي اللآلي ٢ : ١١٠ / ٣٠١.

١١٧

فيها بالبيع ـ في بيع المحرّمات النفسيّة والنجاسات العينيّة الذاتيّة ، والحرمة والنجاسة في المضاف المتنجّس عرضيّتان فلا يتناوله الرواية.

الثالث : أنّها لا تفيد أزيد من تحريم بيع الأشياء المذكورة في جهاتها المحرّمة المنهي عنها من الأكل والشرب واللبس وغير ذلك ، والتحريم من هذه الجهة في المضاف المتنجّس مسلّم ، ويبقى بيعه من الجهات الاخر المباحة مندرجاً تحت الأصل والعمومات.

وأمّا قوله : «أو شي‌ء من وجوه النجس» فلعدم شمول وجوه النجس للمضاف المتنجّس لعدم كون شي‌ء من أنواعه بعنوانه الخاصّ عنواناً للنجاسة ، وأمّا البواقي فلأنّه لا ينساق منها أزيد من تحريم بيع المحرّمات المنهيّ عنها في جهاتها المحرّمة ، مضافاً إلى ما في رواية دعائم الإسلام من قوله عليه‌السلام : «وما كان محرّماً أصله» وهذا لا يتناول محلّ البحث ، لعدم كون شي‌ء من أنواع المضاف المتنجّس أصله محرّماً ، بل إنّما حرّم أكله أو شربه أو غيرهما ممّا يتوقّف على الطهارة لعارض النجاسة ، وإلّا فأصله لو لا هذا العارض محلّل مباح ، ولقد سبق منّا في ذيل البحث عن المسكرات الجامدة ما ينفعك هنا ، فراجع وتأمّل.

وأمّا الإجماعات الّتي أشار إليها السيّد فإجماع الغنية هو الّذي نقلناه في بحث العصير وقد سمعت الجواب عنه ثمّة ولا حاجة إلى الإعادة ، وإجماع المنتهى لم نقف عليه حتّى ننظر في مفاده ، وإجماع المسالك أيضاً غير واضح ، ولعلّه استفاده من كلامه في شرح عبارة الشرائع حيث إنّه بعد ما عدّ كلّ مائع نجس ممّا يحرم التكسّب به عدا الأدهان لفائدة الاستصباح تحت السماء بناه الشهيد في الشرح على عدم قبول التطهير ، ثمّ ذكر «ولو قلنا بقبولها الطهارة جاز بيعها مع الإعلام بحالها ، قال : ولا فرق في عدم جواز بيعها على القول بعدم قبولها الطهارة بين صلاحيتها للانتفاع على بعض الوجوه وعدمه ، ولا بين الإعلام بحالها وعدمه على ما نصّ عليه الأصحاب وغيرهم» (١).

وهذا كما ترى ليس نصّاً ولا ظاهراً في دعوى الإجماع ، ولو سلّم الظهور فهو إجماع على عدم الفرق بناءً على القول بعدم جواز البيع لعدم قبول الطهارة ، لا أنّه

__________________

(١) المسالك ٣ : ١١٩.

١١٨

إجماع على عدم جواز البيع ، ونحن ننكر أصل الإجماع عليه ، ولقد عرفت إمكان تنزيل المشهور على المنع في الجهة المحرّمة ، ولا ينافيه استثناء الأدهان كما في عبارة الشرائع وغيره ، بل ربّما يكون شاهداً عليه لأنّ الوجه في استثناء الأدهان كون فائدة الاستصباح تحت السماء فائدة محلّلة مأذوناً فيها فيجوز بيعها في تلك الفائدة. فلو كان الأكل والشرب فيها وفي غيرها من أنواع المتنجّسات محلّلين أيضاً كفائدة الاستصباح في الأدهان لجاز البيع فيهما أيضاً بلا خلاف. ولعلّ عدم تعرّضهم لاستثناء سائر المائعات المتنجّسة الّتي منها المضاف لندرة فوائدها المباحة وعدم الاعتداد بشأنها في العرف والعادة. فما نقله الشهيد من نصّ الأصحاب بعدم الفرق إن أراد به إجماعهم عليه فغير مسلّم ، وإن أراد به نصّ بعضهم أو جماعة منهم فغير ضائر فيما ذكرنا.

تذنيبان :

أحدهما : يظهر ممّا بيّنّاه حكم الماء المتنجّس من بقاء ملكيّته السابقة وعدم انسلاخها بعروض النجاسة وجواز استعماله في الجهات الغير المتوقّفة على الطهارة من سقي الدوابّ والأشجار وعجن الحناء والأصباغ وما أشبه ذلك وجواز التكسّب به مطلقاً ، كلّ ذلك للأصل واستصحاب الحالة السابقة والعمومات في الأخير ، بل هذا أولى بالجواز لقبوله التطهير مع بقائه على صفة المائيّة بواسطة إلقاء الكرّ وغيره من مطهّرات الماء المتنجّس ، ولا أعرف خلافاً في شي‌ء ممّا ذكر.

وثانيهما : أنّ من الأشياء ما يكون جامداً بالطبع ويعتريه الميعان كالذهب والفضّة والصفر والرصاص والشمع والقير وما أشبه ذلك ، وهي إذا تنجّست حال ميعانها ثمّ جمدت أو حال جمودها ثمّ ماعت ثمّ جمدت مثل المائع بالطبع إذا تنجّس كالمضاف في الأحكام المذكورة حتّى البيع والتكسّب بل هي أولى بالجواز لقبول ظاهرها التطهير ، ونحوها الصابون المتّخذ من المتنجّس إذا يبست ، بل هو أولى بالجواز من الأشياء المذكورة لقبول ظاهره وباطنه التطهير بعد التجفيف بوضعه في الكثير حتّى يرسب فيه الماء ويصل إلى أعماقه. ومنه يعلم الحال في العجين المتنجّس إذا جفّف أو خبّز وجفّف لقبوله التطهير بعد الجفاف بالطريق المذكور. وقد يدّعي السيرة في بيع

١١٩

الأشياء المذكورة واستعمالها في الانتفاعات الغير المتوقّفة على الطهارة ، والأصل في الجواز في الجميع الأصل بمعنى استصحاب الحالة السابقة وعموم «خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» (١) وعمومات العقود مع عدم المخرج عنها من الأدلّة المانعة من التكسّب والاستعمال.

المقصد الثالث : في الأدهان المتنجّسة من السمن والشحم والزيت والبذر والشيرج وما أشبه ذلك.

والكلام فيها أيضاً يقع في جهات :

الجهة الاولى : أنّ الأدهان المملوكة لا يزول ملكها بعروض النجاسة استصحاباً بالحالة السابقة كما هو الحال في سائر المتنجّسات ، ولا نظنّ قائلاً بخلاف ذلك من الأصحاب ، من غير فرق فيه بين ما قابل التطهير بالماء مع بقاء موضوعه وغيره ولا بين ما ينتفع به بعد النجاسة نفعاً محلّلاً مقصوداً للعقلاء وغيره.

وتوهّم : الفرق بينهما بأنّ الثاني يدخل في عنوان ما لا نفع فيه مقصود للعقلاء وكما أنّ ذلك لا يعدّ مالاً فكذلك هذا ، يدفعه : الخلط بين المال والملك ، ولا ملازمة بين انتفاء الماليّة وانتفاء الملكيّة ، فإنّ المال ما يكون له قيمة في العرف والعادة ويبذل له العوض ، بخلاف الملك. والنسبة بينهما عموم من وجه ، لافتراق المال في الحبّة من الحنطة ، وافتراق الملك في المال الموصى به بعد موت الموصي وقبل قبول الموصى له ، وكذلك تركة المديون مع استيعاب الدين على القول بأنّه لا يملكها الورثة ، فالمتنجّس في الصورة المفروضة ملك وإن لم يكن مالاً.

الجهة الثانية : في جواز الانتفاع بها في غير مشروط بالطهارة بأن يعمل صابوناً أو يطلي به الأجرب أو السفن وما أشبه ذلك وعدمه. وينبغي هنا تأسيس أصل كلّي يعمّ فائدته لغير المقام من أنواع المتنجّس ممّا قدّمنا ذكره وغيره ، وهو أنّه هل الأصل في المتنجّس كائناً ما كان جواز الانتفاع إلّا ما خرج بالدليل كالأكل والشرب وغيرهما من الاستعمالات المشروطة بالطهارة ، أو أنّ الأصل عدم جواز الانتفاع أو الاستعمال إلّا

__________________

(١) البقرة : ٢٩.

١٢٠