إيجاز البيان عن معاني القرآن - ج ١

محمود بن أبي الحسن النّيسابوري

إيجاز البيان عن معاني القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود بن أبي الحسن النّيسابوري


المحقق: الدكتور حنيف بن حسن القاسمي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٧
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون ، وأنزل عليه : (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) ، (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

أحمده سبحانه أن خصّنا بالقرآن العظيم والنّور المبين ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ، علّم القرآن ، وجعله معجزة خاتم أنبيائه باقية ما بقي الزمان.

وأشهد أنّ سيّدنا محمدا عبد الله ورسوله ، المؤيد بهذا القرآن صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما دائما إلى يوم الدين.

أما بعد : فإن العلماء قد عنوا بالقرآن عناية بالغة من جميع جوانبه ، فمنهم من عني بحل ألفاظه وبيان معانيه وأحكامه ، ومنهم من عني بمعرفة ناسخه ومنسوخه ، وخاصه وعامه ، ومنهم من كتب في أسباب نزوله ، ومنهم من عني بذكر بلاغته وإعجازه ... وكتبوا في ذلك الكثير مما يعجز القلم عن حصره.

ولما كانت علوم القرآن أشرف العلوم وأفضلها ، ودراسته والعكوف على أسراره ومعانيه تعطي المسلم ذخيرة تنفعه في عاجله وآجله ، فإنني وجهت اهتمامي إلى دراسة وتحقيق كتاب «إيجاز البيان عن معاني القرآن» للشّيخ العلامة بيان الحق محمود بن أبي الحسن النيسابوري رحمه‌الله تعالى.

٥

ذلك أن المؤلف قد أودع في كتابه هذا خلاصة ما صنّف في التفسير ومعاني القرآن.

وذكر (١) ـ رحمه‌الله ـ أن كتابه هذا على رغم صغر حجمه قد اشتمل على أكثر من عشرة آلاف فائدة : من تفسير وتأويل ، ودليل ونظائر وإعراب وأسباب نزول ، وأحكام فقه ، ونوادر لغات ، وغرائب أحاديث.

وقال : فمن أراد الحفظ والتحصيل ، وكان راجعا إلى أدب وتمييز فلا مزيد له على هذا الكتاب.

وقد التزم المؤلف ـ رحمه‌الله ـ بالمنهج الذي ذكره في مقدمته ، وأورد الفوائد التي أشار إليها.

ولا شك أن دراسة مثل هذا الكتاب تعطي الباحث حصيلة علمية جيدة في العلوم التي يعتمد عليها التفسير ، ويحتاج إليها المفسر ، مثل علم اللغة والقراءات ، والإعراب ... وغيرها.

وقد جاء كتاب إيجاز البيان للنيسابوري بعد عشرات الكتب التي صنّفت في معاني القرآن (٢).

وقد كانت كتب المعاني القديمة تخلط بين المعنى والإعراب لكن الغالب عليها ذكر الإعراب ووجوه القراءات واللغة.

ولعل من أقدم وأشهر هذه الكتب : معاني القرآن لأبي زكريا يحيى بن

__________________

(١) إيجاز البيان : ٥٥.

(٢) ينظر الفهرست لابن النديم : ٣٧ ، وكشف الظنون : (٢ / ١٧٣٠) ، ومعجم مصنفات القرآن الكريم : (٤ / ٢٠٩ ـ ٢٢٠).

وفي أوائل الذين صنفوا في المعاني يقول الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد : ١٢ / ٤٠٥ بعد أن ذكر كتاب أبي عبيد في معاني القرآن : «وذلك أن أول من صنف في ذلك من أهل اللغة أبو عبيدة معمر بن المثنى ، ثم قطرب بن المستنير ، ثم الأخفش. وصنف من الكوفيين الكسائي ، ثم الفراء ، فجمع أبو عبيد من كتبهم ، وجاء فيه بالآثار وأسانيدها ...».

٦

زياد الفرّاء الإمام اللغوي النحوي المشهور ، المتوفى سنة ٢٠٧ ه‍ (١).

وقد عني الفرّاء في معاني القرآن عناية ظاهرة بإعراب الآيات ، وتوجيه القراءات ، وذكر الشواهد الشّعرية ... وغير ذلك (٢).

وصنّف في معاني القرآن ـ أيضا ـ سعيد بن مسعدة المجاشعي المعروف بـ «الأخفش الأوسط» المتوفى ٢١٥ ه‍ (٣) ، صنف «معاني القرآن» استجابة لطلب الكسائي.

ويغلب على كتاب الأخفش الجانب النّحوي ، ويعتبر مصنّفه كتابا في إعراب القرآن ، كما يعنى فيه بشرح الألفاظ الغربية ، وذكر الشواهد الشعرية (٤).

كما صنف في معاني القرآن أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج المتوفى سنة ٣١١ ه‍.

ويهتم الزجاج في هذا الكتاب (٥) ـ بجانب إعراب الآيات وتوجيه القراءات ـ بذكر أسباب النزول ، والاستشهاد بالأحاديث والآثار.

ثم جاء أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس المتوفى سنة ٣٣٨ ه‍ ـ وهو تلميذ أبي إسحاق الزجاج ـ فصنف كتابا في معاني

__________________

(١) ترجمته في طبقات النحويين للزبيدي : ١٣١ ، وإنباه الرواة : ٤ / ١ ، وبغية الوعاة : ٢ / ٣٣٣.

(٢) طبع كتابه بالهيئة المصرية العامة للكتاب في ثلاثة أجزاء ، وقد اشترك في تحقيقه الأساتذة : أحمد يوسف نجاتي ، ومحمد علي النجار ، وعبد الفتاح شلبي.

(٣) وقيل : إن وفاته كانت سنة ٢٠٧ ه‍ ، أو ٢١٠ ه‍ ، أو ٢٢١ ه‍ ، أو ٢٢٥ ه‍.

ينظر مقدمة الدكتور عبد الأمير لمعاني الأخفش : ١ / ١١.

(٤) طبع معاني القرآن للأخفش بتحقيق الدكتور عبد الأمير محمد أمين الورد ، ونشرته دار عالم الكتب في بيروت عام ١٤٠٥ ه‍.

وحققه ـ أيضا ـ الدكتور فائز فارس ، ونشرت هذه الطبعة في الكويت عام ١٤٠٠ ه‍ ، وطبع بتحقيق الدكتورة هدى محمود قراعة ، ونشرته مكتبة الخانجي بالقاهرة عام ١٤١١ ه‍.

(٥) طبع هذا الكتاب بتحقيق الدكتور عبد الجليل عبده شلبي ، ويقع في خمسة أجزاء.

٧

القرآن ، أفاد من كتب المتقدمين في هذا الفن ، وخاصة شيخه الزجاج ، وضمّن كتابه كثيرا من الأحاديث والآثار ، كما اهتم فيه بذكر الأقوال المختلفة في معنى الآية ، والترجيح بين تلك الأقوال في بعض الأحيان (١).

أما كتاب «إيجاز البيان عن معاني القرآن» لبيان الحق النيسابوري ـ وهو موضوع هذه الدراسة ـ فسيأتي الحديث عنه مفصلا في مبحث مستقل.

هذا وقد اقتضت طبيعة البحث أن أقسمه إلى قسمين رئيسين : قسم الدراسة ، وقسم التحقيق.

أما قسم الدراسة فيتكون من مقدمة وفصلين :

المقدمة : وفيها ذكر الباعث على اختيار هذا الكتاب وخطة البحث فيه.

الفصل الأول : يشتمل على دراسة عصر المؤلف وحياته الشخصية ، وفيه مبحثان :

المبحث الأول : عصر النيسابوري.

المبحث الثاني : حياة المؤلف ، وفيه المطالب الآتية :

المطلب الأول : اسمه ، نسبه ، أصله ، كنيته ، لقبه.

المطلب الثاني : موطنه ، مولده ، وأسرته.

المطلب الثالث : نشأته العلمية.

المطلب الرابع : آثاره العلمية.

المطلب الخامس : وفاته.

الفصل الثاني : في التعريف بكتاب إيجاز البيان ودراسته ، وفيه مبحثان :

__________________

(١) طبع معاني القرآن للنحاس بتحقيق الشيخ محمد علي الصابوني ، ونشره معهد البحوث العلمية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة في ستة أجزاء.

والنسخة الخطية التي اعتمدت في هذه الطبعة مخرومة وناقصة ، حيث سقط جزء منها من سورة البقرة ، وسقطت ـ أيضا ـ سورتا طه ، والأنبياء ، وتنتهي هذه الطبعة بنهاية سورة الفتح.

٨

المبحث الأول : دراسة كتاب إيجاز البيان ، وفيه المطالب الآتية :

المطلب الأول : الباعث على تأليفه.

المطلب الثاني : منهج المؤلف في هذا الكتاب.

المطلب الثالث : مصادره.

المطلب الرابع : قيمة الكتاب العلمية.

المطلب الخامس : فيما يؤخذ عليه.

المبحث الثاني : عملي في التحقيق ، ويشتمل على المطالب التالية :

المطلب الأول : عنوان الكتاب والتحقيق فيه.

المطلب الثاني : توثيق نسبته إلى المؤلف.

المطلب الثالث : وصف النسخ الخطية.

المطلب الرابع : منهج التحقيق.

أما القسم الثاني : فتضمّن النّصّ المحقّق تتبعه الفهارس العامة.

وفي هذا المقام أجد لزاما عليّ أن أجدد شكري وأكرره إلى كل من كان له إسهام في هذا العمل العلمي ، لوالديّ الكريمين ، ولأهل بيتي الذين وفّروا لي الاستقرار الذهني والنفسي حتى انتهيت إلى هذه المرحلة ، ولأساتذتي الأفاضل ، وزملائي الكرام ، الذين كان لهم عظيم الأثر في التوجيه والإرشاد والإفادة وفي مقدمة هؤلاء أستاذي المفضال الدكتور / أحمد بن الشّيخ محمد نور سيف المهيري ، الذي لم يبخل عليّ بوقته وعلمه ، بل أشرف وتابع خطوات هذا العمل ، منذ كان فكرة ، وحتى صار عملا علميا من ثمار جهده وتوجيهاته السديدة.

كما يسعدني أن أتقدم بالشكر والتقدير إلى : الشريف الدكتور / منصور بن عون العبدلي ، وسمو الأمير الأخ الدكتور / محمد بن سعد بن عبد الرحمن آل سعود ، والأستاذ الدكتور / عبد الرحمن إسماعيل ، والأخ الدكتور / عابد يشار ، على رعايتهم للباحث وبحثه ، وتقديم كل عون علمي

٩

له ، وكذلك أذكر وأشكر كلّا من الأستاذين الفاضلين : الأستاذ الدكتور / محمد أحمد القاسم ، والأستاذ الدكتور / عبد الباسط إبراهيم على تفضلهما بالاشتراك في مناقشة الرسالة وإثرائها بالحوار الخصيب ، والملاحظات البناءة.

وإنني إذ أثني على الجميع ، فإنما أسأل المولى سبحانه وتعالى ، أن يبارك هذا الجهد ، وأن ينفع به : زادا فكريا وثقافيا يشارك به عربيّ مسلم في مسيرة العلم ، والفكر المستنير ، والثقافة النقية ، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

د. حنيف بن حسن القاسمي

مدينة العين

في التاسع والعشرين من جمادى الأولى ١٤١٥ ه‍ ٣ / ١١ / ١٩٩٤ م

١٠

الفصل الأول

عصر النيسابوري وحياته الشخصية

المبحث الأول : عصره :

لم تسعفني المصادر التي ـ وقفت عليها ـ والتي ترجمت لبيان الحق النيسابوري بكثير من الأخبار عن حياته ، فلم تذكر شيئا عن زمن مولده أو وفاته ، ولم أقف على تحديد للفترة التي عاش فيها.

ومن المرجح أن يكون النيسابوري من علماء القرن السادس الهجري ، وأن وفاته كانت بعد سنة ٥٥٣ ه‍.

فقد ذكر إسماعيل باشا (١) أن النيسابوري فرغ من تأليف كتابه «إيجاز البيان عن معاني القرآن» بـ «الخجند» (٢) سنة ٥٥٣ ه‍.

ويبدو أنه وقف على نسخة من الكتاب المذكور ورد فيه هذه الفائدة لأنه ذكر جميع ما أشار إليه النيسابوري من مصنفاته ، أو ربما اطلع على نص من المتقدمين على ذلك. فإن هذا الأمر لا يدرك إلا بدليل أو تنصيص.

وفي القرن السادس الهجري كانت الدولة العباسية تمر بمرحلة من أضعف مراحلها وتنتظر أفولها وانهيارها ، حتى إنه لم يبق من الخلافة إلا اسمها.

__________________

(١) هدية العارفين : ٢ / ٤٠٣.

(٢) بضم الخاء المعجمة ، وفتح الجيم ، وسكون النون : مدينة بما وراء النهر على شاطئ سيحون ، وهي أول مدن فرغانة من الغرب. معجم البلدان : ٢ / ٣٤٧ ، وبلدان الخلافة الشرقية : ٥٢٢.

١١

وتشتت الدولة العباسية الكبيرة إلى دويلات متناثرة هنا وهنالك ، فالفاطمية (٣٥٨ ـ ٥٦٧ ه‍) ، والأيوبية (٥٦٧ ـ ٦٤٨ ه‍) في مصر ، ودولة خوارزم (١) (٤٧٠ ـ ٦٢٨ ه‍) ، والمرابطية في المغرب العربي (٤٤٨ ـ ٥٤١ ه‍).

ومن أهم الأحداث التي وقعت في هذا العصر سقوط نيسابور في يد غير المسلمين ، وكذلك «مرو» و «سرخس». وقتل في نيسابور عدد كبير من الأهالي بينهم طائفة من العلماء الذين عرفوا بزهدهم وورعهم (٢).

كما شهد أواخر القرن الخامس الهجري ومطلع القرن السادس صراعات بين أفراد الأسرة السلجوقية التي كانت تحكم البلاد فعليا في ظل الخلافة العباسية الشكلية (٣) ، وقد كانت تلك الصراعات دموية ومؤسفة في كثير من الأحيان ، وأدت في نهاية الأمر إلى ضعف الدولة السلجوقية السنية ، وكان هذا الضعف سببا مباشرا للهجمات الصليبية على البلاد الإسلامية ، وانقسمت الدولة السلجوقية العظيمة إلى دويلات الأتابكة التي حكمت البلاد بعد ذلك (٤).

والأتابك ـ في الأصل ـ كانوا قوادا وأمراء للسلاطين السلاجقة ، تولوا بعض الأقاليم التابعة للدولة السلجوقية ، ثم انفردوا بحكم تلك الأقاليم عقب

__________________

(١) نسبة إلى مدينة خوارزم ، وقد امتد حكم هذه الدولة من خراسان إلى ما وراء النهر. ينظر تاريخ الإسلام للدكتور حسن إبراهيم : (٤ / ٩٥ ، ٩٦).

(٢) الكامل لابن الأثير : (١١ / ٨٧ ، ٨٨) ، والبداية والنهاية : ١٢ / ٢٤٨ ، وتاريخ الإسلام : ٤ / ٥٨.

(٣) ينتسب السلاجقة إلى سلجوق (بفتح السين) ، أحد رؤساء الأتراك ، وكانوا يسكنون بلاد ما وراء النهر في مكان قريب من بخارى ، وكان عدد السلاجقة ـ كما يقول ابن خلكان ـ يجل عن الحصر والإحصاء ، ظلوا في الحكم أكثر من مائة عام (٤٤٧ ـ ٥٥٢ ه‍) ، وإلى السلاجقة يرجع الفضل في تجديد قوة الإسلام وإعادة تكوين وحدته السياسية. ينظر الموسوعة العربية الميسرة : ١ / ٩٩٣ ، وتاريخ الإسلام : ٤ / ١.

(٤) تاريخ الإسلام : ٤ / ٦٢.

١٢

الضعف الذي دب في بلاط السلطنة (١).

وقد شهد هذا القرن أعظم انتصار حققه المسلمون على الصليبيين ، وذلك بدخول صلاح الدين الأيوبي ـ رحمه‌الله تعالى ـ بيت المقدس عام ٥٨٣ ه‍ بعد احتلال دام أكثر من ثمانين عاما (٢).

وتعاقب على الخلافة العباسية ـ الصورية ـ في القرن السادس الهجري والسابع الهجري سبعة خلفاءهم :

١ ـ المستظهر بالله بن المقتدي (٤٨٧ ـ ٥١٢ ه‍).

٢ ـ المسترشد بالله بن المستظهر (٥١٢ ـ ٥٢٩ ه‍).

٣ ـ المنصور الراشد بالله بن المسترشد (٥٢٩ ـ ٥٣٠ ه‍).

٤ ـ المقتفي لأمر الله بن المستظهر (٥٣٠ ـ ٥٥٥ ه‍).

٥ ـ المستنجد بالله بن المقتفي (٥٥٥ ـ ٥٦٦ ه‍).

٦ ـ المستضيء بأمر الله بن المستنجد (٥٦٦ ـ ٥٧٥ ه‍).

٧ ـ الناصر الدين الله بن المستضيء (٥٧٥ ـ ٦٢٢ ه‍).

أما المجتمع الإسلامي في ذلك العصر فقد كان يتكون من عدة أجناس ففي المشرق كان أبرز تلك الأجناس الجنس العربي ، والتركي ، والفارسي.

وفي المغرب الإسلامي والأندلس كان العرب والبربر والمولدون (٣) وكانت الدولة تضم ـ بجانب المسلمين ـ أقليات دينية كاليهود والنصارى ، حيث كانت الحرية مكفولة لهم في ممارسة شعائرهم الدينية ، وتقلد بعضهم مناصب عليا في الدولة.

كما ظهرت بعض الفرق الباطنية كانوا محسوبين على المسلمين ،

__________________

(١) تاريخ الإسلام : ٤ / ٦٢.

(٢) الكامل لابن الأثير : ١١ / ٥٤٦ ، والبداية والنهاية : (١٢ / ٣٤١ ـ ٣٤٤) ، وتاريخ الإسلام : ٤ / ١١٠.

(٣) هم أعقاب الأسبان الذين أسلموا بعد الفتح الإسلامي للأندلس.

ينظر نهاية الأندلس : ٧٠.

١٣

فكانت الفاطمية في مصر لها حكم ونفوذ واستمرت دولتهم أكثر من مائتي عام.

كما كان هناك الدروز والإسماعيلية في بلاد الشام وفارس (١).

ولا شك أن الوضع السياسي المضطرب في ذلك العصر قد أثر سلبا على حياة الناس من حيث الاستقرار والأمان ، والمحافظة على قواعد الشريعة والأخلاق.

وتأثر المجتمع العباسي خصوصا ، والمجتمعات الإسلامية على وجه العموم بالخلافات السياسية ، وبضعف السلطة الحاكمة ، حيث إن الحكام مشغولون بالصراع على الحكم ، وبتسيير الجيوش لقتال بعضهم بعضا ، منصرفين عن الاهتمام برعاية مصالح العباد وتدبير شؤونهم الدينية والدنيوية.

ونتيجة لذلك انتشر الفقر ، وظهر الفساد الخلقي في معظم طبقات المجتمع بما في ذلك الطبقة الحاكمة التي كانت تدير البلاد ، فأدمن بعضهم الخمر ، واقترف الظلم وظهر الغش في المعاملات والبيوع وانتشر الربا ، وضعفت القيم الروحية والأخلاق الفاضلة في نفوس الناس ، وتهاون كثير منهم في أداء العبادات ، وعظم الجهل في معرفة أحكامها وشروطها.

وانعدم الأمن ، وكثرت الجرائم والسرقات (٢).

كما أدى ظهور الاتجاهات الفكرية والفرق الكلامية المختلفة إلى وقوع كثير من الفتن والمحن ، وذلك بسبب اشتداد الخلاف بين تلك الاتجاهات المتباينة (٣).

أما النشاط العلمي والثقافي فقد تأثر بالوضع المتدهور الذي كان سائدا

__________________

(١) ينظر في طبقات المجتمع الإسلامي والأقليات الدينية في : ظهر الإسلام : ١ / ٣ ، وتاريخ الإسلام للدكتور حسن إبراهيم : ٤ / ٦٢٥.

(٢) ينظر صيد الخاطر لابن الجوزي : (٢٦٢ ـ ٢٦٦) ، والبداية والنهاية : (١٢ / ٢٣٧ ، ٢٤٠ ، ٢٤٦ ، ٢٤٨) ، وتاريخ الإسلام للدكتور حسن إبراهيم : (٤ / ٦٢٥ ـ ٦٣٢).

(٣) المنتظم : (١٠ / ١٩٨ ، ٢٨٥).

١٤

في ذلك العصر ، لكنه ظل يقاوم المؤثرات التي كانت تحد من استمراره وقد ظهر خلال القرن السادس الهجري عدد كبير من الأئمة الأعلام ، ونخبة متميزة من العلماء في مختلف فنون المعرفة.

منهم ـ على سبيل المثال ـ الحافظ أبي طاهر السلفي المتوفى سنة ٥٧٦ ه‍ ، والحافظ ابن عساكر المتوفى سنة ٥٧١ ه‍ ، والزمخشري المتوفى سنة ٥٣٨ ه‍ ، وابن الجوزي المتوفى سنة ٥٩٧ ه‍.

وقد خلف هؤلاء ثروة عظيمة ضخمة ، نهل من مواردها من جاء بعدهم وأفادت الأجيال اللاحقة فائدة عظيمة.

وقد شهد ذلك العصر ـ أيضا ـ ظاهرة حميدة وهي اهتمام الخلفاء والسلاطين والوزراء ببناء المدارس والأربطة ، وتخصيص الأوقاف لعلماء وطلاب تلك المدارس.

ومن أشهر المدارس التي كانت قائمة في ذلك الوقت وكانت مصدر نور وإشعاع ـ المدارس النظامية ، التي أسسها الوزير السلجوقي نظام الملك الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي المتوفى سنة ٤٨٥ ه‍ ، وقد اكتمل بناء كبرى هذه المدارس ببغداد وبدأ التدريس بها عام ٤٥٩ ه‍ (١).

كما كانت حلقات العلم والمجالس العلمية تعقد في المساجد المختلفة ، ويتصدر للتدريس في تلك الحلقات أبرز العلماء في ذلك العصر.

__________________

(١) ينظر تاريخ دولة آل سلجوق : ٣٢ ، والكامل لابن الأثير : (١٠ / ٤٩ ، ٥٠).

وقد وصف الحافظ الذهبي الوزير نظام الملك بقوله : الوزير الكبير ، نظام الملك ، قوام الدين ، أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي ، عاقل سائس ، خبير سعيد ، متدين ، محتشم ، عامر المجلس بالقراء والفقهاء.

أنشأ المدرسة الكبرى ببغداد ، وأخرى بنيسابور ، وأخرى بطوس ، ورغب في العلم ، وأدرّ على الطلبة الصلات ، وأملى الحديث ، وبعد صيته ...».

ينظر سير أعلام النبلاء : ١٩ / ٩٤.

١٥

وشهدت الدولة في تلك الفترة ظاهرة طيبة ، وهي التنافس بين الأمراء والحكام والوزراء على بناء المدارس ، والاهتمام بها ، والحرص على جلب خيار العلماء إليها ، وتشجيع طلاب العلم بها على التحصيل.

المبحث الثاني : حياة المؤلف :

المطلب الأول : اسمه ، ونسبه ، وأصله ، وكنيته ، ولقبه :

هو محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري أبو القاسم ، وبيان الحق (١).

هكذا ذكر اسمه ونسبه وأصله وكنيته في مقدمة كتابه «إيجاز البيان عن معاني القرآن».

ويلقب ـ أيضا ـ بـ «نجم الدين» ، ذكر ذلك حاجي خليفة (٢).

وصرح المؤلف ـ رحمه‌الله ـ باسمه ونسبه في مقدمة كتابه «جمل الغرائب» (٣).

فقال : «مؤلف هذا الكتاب محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري» وزاد ياقوت في معجم الأدباء في نسبه ، فقال ، «الغزنوي»

__________________

(١) مصادر ترجمته :

ـ معجم الأدباء : (١٩ / ١٢٤ ، ١٢٥).

ـ الوافي بالوفيات : (٧٩ / ب ، ٨٠ أ ، ٨٠ ب) نسخة طوب قابي رقم (٢٩٢٠).

ـ بغية الوعاة : ٢ / ٢٧٧.

ـ طبقات المفسرين للداودي : ٢ / ٣١١.

ـ كشف الظنون : (٢٠٥ ، ٦٠١).

ـ هدية العارفين : ٢ / ٤٠٣.

ـ الأعلام : ٧ / ١٦٧.

ـ معجم المؤلفين : ١٢ / ١٨٢.

ـ ومعجم المفسرين لعادل نويهض : ٢ / ٦٦٦.

ـ كما ورد له ذكر في الدارس للنعيمي : ١ / ٥٨٩ ...

(٢) كشف الظنون : ٢٠٥.

(٣). ٢ / أ.

١٦

وكذلك الصفدي في الوافي بالوفيات نسبة إلى غزنة (١).

وذكر صاحب هدية العارفين «القزويني» (٢) بدل الغزنوي.

أما «النيسابوري» فنسبة إلى «نيسابور» (٣) مدينة مشهورة.

ينتسب إليها طائفة من العلماء الأعلام.

يقول السمعاني (٤) : «والمنتسب إليها جماعة لا يحصون ، وقد جمع الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ البيع تاريخ علمائها في ثمان مجلدات ضخمة».

ومن أشهر من ينتسب إلى نيسابور : يحيى بن يحيى بن بكير بن عبد الرحمن التميمي الحنظلي النيسابوري الإمام المحدث الورع المتوفى سنة ٢٢٦ ه‍.

ـ وعبد الرحمن بن الحسن الحافظ المحدث المتوفى سنة ٣٠٧ ه‍.

ـ والإمام الحافظ المحدث الفقيه أبو بكر عبد الله بن محمد بن زياد بن واصل بن ميمون النيسابوري المتوفى سنة ٣٢٤ ه‍.

ـ والإمام محمد بن عبد الله بن حمدويه الطهماني النيسابوري الشهير بالحاكم ، من أكابر حفاظ الحديث ، وهو صاحب كتاب المستدرك على الصحيحين ، وتاريخ نيسابور ، وغيرهما ، توفي سنة ٤٠٥ ه‍.

__________________

(١) بفتح أوله وسكون ثانيه وفتح النون.

قال ياقوت في معجم البلدان : ٤ / ٢٠١ : «وهي مدينة عظيمة وولاية واسعة في طرف خراسان ، وهي الحد بين خراسان والهند ...».

(٢) نسبة إلى قزوين ، بفتح القاف وسكون الزاي وكسر الواو. مدينة مشهورة على نحو مائة ميل شمال غربي طهران.

معجم البلدان : ٤ / ٣٤٢ ، والروض المعطار : ٤٦٥ ، وبلدان الخلافة الشرقية : ٢٥٣.

(٣) نيسابور : بفتح النون من أكبر مدن خراسان.

قال الحميري في الروض المعطار : ٥٨٨ : «ونيسابور قلب لما حولها من البلاد والأقطار».

ينظر أيضا معجم البلدان : ٥ / ٣٣١ ، وبلدان الخلافة الشرقية : ٤٢٤.

(٤) الأنساب : ١٢ / ١٨٤.

١٧

ـ وعلي بن أحمد بن محمد بن علي ، أبو الحسن الواحدي ، المفسّر ، صاحب كتاب أسباب النزول ، وله ـ أيضا ـ البسيط ، والوسيط ، والوجيز كلها في التفسير ، توفي سنة ٤٦٨ ه‍.

ـ والحسن بن محمد بن الحسين القمي النيسابوري ، نظام الدين ، المفسّر ، صاحب كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان ، وغيره ، توفي بعد ٨٥٠ ه‍.

المطلب الثاني : موطنه ، مولده ، وأسرته :

يبدو أن بيان الحق النيسابوري ـ رحمه‌الله تعالى ـ عاش مدة من حياته في نيسابور ، ولعله خرج منها بعد سقوطها عام ٥٣٦ ه‍ ، ورحل إلى الخجند ، ثم إلى دمشق حيث استقر به المقام هناك حتى وفاته في تاريخ لم أقف عليه.

ولم تذكر المصادر التي وقفت على ترجمته فيها شيئا عن المكان الذي ولد فيه ، ولا نعرف شيئا عن نشأته ، فأخباره في الكتب شحيحة جدا ، وأكثر اعتماد المترجمين له في ذلك على ياقوت في معجم الأدباء.

أما أسرته فقد ذكر النيسابوري اثنين من أبنائه في مقدمة كتابه جمل الغرائب (١) ، وهما قاسم ومحمد.

وذكر حاجي خليفة (٢) «محمد بن محمود النيسابوري» فيمن صنف في خلق الإنسان ، فلعله ابن نجم الدين النيسابوري.

وقد خلف محمد أباه في التدريس بالمدرسة المعينية بدمشق ، ذكر ذلك النعيمي (٣).

المطلب الثالث : نشأته العلمية ومكانته :

لم تسعفنا المصادر التي ترجمت للنيسابوري بذكر شيء عن نشأته العلمية المبكرة ، ولم تذكر تلك المصادر ـ أيضا ـ شيئا عن شيوخه الذين

__________________

(١). ٣ / أ.

(٢) كشف الظنون : ١ / ٧٢٢.

(٣) الدارس : ١ / ٥٨٩.

١٨

تلقى عنهم العلم في زمن طلبه العلم ، ولم تذكر تلاميذه الذين أخذوا العلم عنه.

كما أغفلت تلك المصادر رحلاته العلمية ، ولعلي أقف في المستقبل ـ إن شاء الله ـ على تلك الجوانب الخفية في حياة هذه الشخصية.

وقد ذكر النّعيمي (١) أن النيسابوري تصدر للتدريس بالمدرسة المعينية (٢) بدمشق ، واستمر في التدريس بها حتى وفاته ، وخلفه بعد ذلك ابنه محمد.

وإشارة أخرى ذكرها إسماعيل باشا (٣) ، حيث قال إن النيسابوري فرغ من تصنيف كتابه إيجاز البيان سنة ٥٥٣ ه‍ بالخجند (٤).

أما مكانته العلمية فقد وصفه ياقوت (٥) بقوله : «كان عالما بارعا مفسرا لغويا فقيها متفننا ...».

وأورد ياقوت بيتين من شعره هما (٦) :

فلا تحقرنّ خلقا من النّاس علّه

وليّ إله العالمين ولا تدري

__________________

(١) الدارس : ١ / ٥٨٩.

(٢) المدرسة المعينية : إحدى مدارس الحنفية بدمشق ، أسسها معين الدين أنر بن عبد الله الطغتكيني مقدم عسكر دمشق ، ذكره الذهبي في العبر : ٤ / ١٢١ في وفيات سنة ٥٤٤ ه‍. وذكر فيمن تولى التدريس في هذه المدرسة ـ أيضا ـ عبد الخالق بن أسد الدمشقي الحنفي المتوفى سنة ٥٦٤ ه‍ ، وأبا المظفر محمد بن أسعد بن الحكيم العراقي الحنفي المتوفى سنة ٥٦٧ ه‍.

(٣) هدية العارفين : ٢ / ٤٠٣.

(٤) تقدم التعريف بها ص ١١.

(٥) معجم الأدباء : (١٩ / ١٢٤ ، ١٢٥).

(٦) كما أوردهما الصفدي في الوافي بالوفيات : (٨٠ / ب) نسخة طوبى قابي رقم (٢٩٢٠) ، وذكر سبب إنشاده هذين البيتين عن أبي الخطاب عمر بن محمد بن عبد الله العليمي قال : سمعت القاضي أبا العلاء محمد بن محمود بن أبي الحسن الغزنوي : قدم علينا بنيسابور رسولا يقول : شهد عند الإمام ـ والدي ـ شيخ على بعض أصحابه ، فاعترته شبهة في صدقه ، وهمّ برد شهادته ، فأخذ المشهود عليه يزكيه وينسبه إلى كل خير ، فندم والدي على ما بدر منه وقال :

فلا تحقرن ...

١٩

فذو القدر عند الله يخفى على الورى

كما خفيت من علمهم ليلة القدر

أما المناصب التي تولاها النيسابوري فيبدو أنه كان قد تولى القضاء ، لذا وصفته حاجي خليفة (١) بـ «القاضي بيان الحق محمود ...».

وجاء هذا الوصف ـ أيضا ـ في خطبة كتابه وضح البرهان (٢).

المطلب الرابع : آثاره العلمية :

كان الإمام بيان الحق النيسابوري من المكثرين في التصنيف في مختلف العلوم الإسلامية ، فله في التفسير ـ مثلا ـ أكثر من مصنّف ، أفاد ذلك المؤلف ـ رحمه‌الله ـ في مقدمة كتابه جمل الغرائب (٣) حيث قال : «ومؤلف هذا الكتاب محمود بن أبي الحسن ... قد وفقه الله تبارك وتعالى ـ منه ـ في تفسير كتابه لغير واحد حتى استوى من مطولاته التي صنفها على كتاب إيجاز البيان في معاني القرآن ...» ا ه.

أما مصنفاته التي صرح بها المؤلف ، أو نسبت إليه فهي :

١ ـ إيجاز البيان عن معاني القرآن ، وهو موضوع هذه الدراسة ، وسيأتي الحديث عنه مفصلا في الفصل الثاني.

٢ ـ وضح البرهان في مشكلات القرآن (٤).

تبدأ النسخة المنشورة من هذا الكتاب بخطبة المؤلف ، ثم تفسير سورة الفاتحة ، وتنتهي بنهاية سورة التكوير.

__________________

(١) كشف الظنون : ١ / ٦٠١.

(٢). ١ / ٨٧.

(٣). ٢ / ب.

(٤) طبع هذا الكتاب عام ١٤١٠ ه‍ ـ ١٩٩٠ م ، ببيروت ، بتحقيق صفوان عدنان داوودي.

كما قامت بتحقيقه الطالبة / سعاد بابقي ضمن متطلبات نيل درجة الماجستير في الكتاب والسنّة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة ، وقد أشرف على هذه الأطروحة شيخنا العلامة الجليل الشريف الدكتور منصور بن عون العبدلي حفظه الله.

٢٠