تاج العروس - ج ١

محبّ الدين أبي فيض السيد محمّد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي الحنفي

تاج العروس - ج ١

المؤلف:

محبّ الدين أبي فيض السيد محمّد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي الحنفي


المحقق: علي شيري
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار الفكر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٠٨

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقدمة الناشر

الحمد لله مدبر الكائنات ، مفضل لغة العرب على سائر اللغات ، القائل : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) [الزمر : ٢٨] فاللغة هي الوعاء التي تودع فيه أمة من الأمم تراثها وذكرياتها وآدابها وأمجادها ومختلف جوانب ثقافتها وحضارتها.

واللغة هي الأداة التي يعبر بها الفرد عن أحاسيسه ومشاعره وحاجاته ، وهي التي تعبر من خلال أدائها دورها عن الرد على آلام وآمال وآداب وعلوم وفنون الأقوام التي تعتمدها.

واللغة العربية إحدى اللغات الحية التي قامت على وجه الأرض ، وتتجلى حيويتها في القدرة التي تختزنها على التجدد والتطور والإستيعاب.

من هذا المنطلق ، يجب رعاية هذا الوعاء ، وتعهده الفاعل والمتخصص حتى لا تضيع في مهبّ التداخلات والتمازجات ، الحضارية والثقافية المختلفة فكيف إذا كانت هذه اللغة ، هي لغة القرآن وبيان الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟.

من هنا وجب إحاطة اللغة برعاية فائقة تهدف أوّلا إلى صيانتها ، ومن ثم الارتقاء بها لتكون بحق اللغة العبقرية التي لا يستغنى عنها في وضع فروع المعرفة المختلفة في إطارها.

وقد تصدى الكثيرون من عرب ومسلمين ومستشرقين لدراسة عميقة لتراكيب اللغة واشتقاقاتها ، ولكن سعة اللغة العربية وصعوبة الإحاطة بها يحتمان مزيدا من الجهد ، قال بعض الفقهاء : كلام العرب لا يحيط به إلا نبيّ.

هذا التصدي يندرج في سياق إحياء التراث العربي والإسلامي والذي تعددت جوانبه ورحبت آفاقه بحيث شمل مختلف فروع المعرفة واستوعب حضارات عميقة الجذور.

فمهمة إحياء كنوز هذا التراث ، تقع على عاتق كل المخلصين والمؤمنين ، بانطلاقة حضارية شاملة ، من خلال ما تختزنه دفات هذه الكنوز ، من ذخائر في مختلف الميادين.

هذه الانطلاقة ، تتطلب مزيدا من الوعي والمتابعة والمثابرة والتنظيم ، ورصد كل الإمكانيات المادية والمعنوية لدفعها قدما إلى الأمام.

وقد كانت وما زالت دار الفكر بيروت في مقدمة العاملين بهذا الإطار ، بل حاملة اللواء

٣

منذ اضطلعت بيروت بدورها بنشر التراث العربي لإيمانها بقضية التراث العربي الممتدة جذوره بعيدا في التاريخ.

وانطلاقا من هذا الإيمان الراسخ ، قامت بإحياء ونشر كنوز التراث العربي والإسلامي ، على قاعدة التنقيب والتمحيص والتحقيق ، والعمل على تخليصه من الشوائب والتشويش والتشويه وعبث الأيدي والنساخ والمدعين.

وقد أقدمت دار الفكر ، وبجرأة على نشر الأسفار الضخمة منه والكنوز الثمينة فيه ، وهي تتابع طريقها بخطوات ثابتة ، لنشر مزيد من أمهات ونفائس وكنوز الحضارة العربية الإسلامية ، بالتعاون مع فريق متخصص مسؤول على قدر كبير من الوعي والنضج العلميين ، وبكفاءة أخلاقية عالية.

لماذا تاج العروس؟

أحد أهم كنوز تراثنا ، وأحد أهم الموسوعات المعجمية العربية إن لم يكن أهمها ، هذا الكنز الهام ، لم يلق الرعاية والاهتمام اللازمين بحيث انعدمت فائدته ، وضاقت إمكانيات الإطلاع عليه ، والأخذ عنه والاستفادة به.

ودار الفكر بيروت كعادتها وهي السباقة إلى العطاء والجريئة دون الأخذ بالاعتبار للعقبات والصعوبات قررت أن تعطي هذا المعجم الموسوعة الرائعة حقه من الرعاية والاهتمام. وتقديمه للباحث والدارس والقارى‌ء بشكل يسهل تناوله والبحث فيه. خاصة وأن طبعاته الثلاث : طبعة من عشرة مجلدات غير مضبوطة والبحث فيها صعب وتكاد تكون الاستفادة منها معدومة ، وطبعتان ناقصتان غير مكتملتين.

وبعد الانتهاء من ضبطه وتدقيقه ودراسته وتحقيقه ، وقد دام العمل مكثفا عدة سنوات ، كلفت الدار لجنتين إحداهما متخصصة قامت على الاهتمام بنصوصه وتصحيحه والتدقيق بضبطه ، والأخرى فنية متخصصة أشرفت على إخراجه وطباعته.

ودار الفكر إذ تشكر كل من ساهم في إخراج هذا الكتاب من متخصصين وفنيين بما بذلوه من جهد ، تقيم عاليا الجهد الصادق الذي قاموا به ، وتؤمن بأن الكمال لله وحده ، وهي ترحب بكل الملاحظات وبكل النقد ، بل ترجو الباحثين والدارسين موافاتنا بكل ما لديهم من تعليقات وتصويبات على هذه الطبعة ، ليتم تداركه في الطبعات التالية.

نرجو أن نكون قد وفقنا فيما نطمح إليه. (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

الناشر

بيروت ٢١ رجب ١٤١٤ ه‍

الموافق ٣ كانون الثاني (يناير) ١٩٩٤ م

٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقدمة

اللغة العربية إحدى اللغات الحية التي قامت على وجه الأرض ، وقد عبّرت خير تعبير عن حاجات المجتمعات التي اعتمدتها ، وأدّت دورها بشكل كامل في الردّ على آلام وآمال وآداب وعلوم وفنون الأقوام التي تكلمت بها.

وقد تقدمت اللغة العربية وتطوّرت مع تقدّم وتطوّر أهلها ، وفتحت أبوابها لاستقبال الجديد. حيث أثّرت وتأثرت بأخواتها وشقيقاتها من اللغات السامية.

ويقول العطار في مقدمة الصحاح : ومن غير شك أن اللغة العربية بلغت أوج مجدها وارتفعت إلى أعلى الذرى في عهد الإسلام الأول ـ لأنها أصبحت جزءا من الدين ، ولكن اهتمام أبنائها كان منذ العصر الجاهلي ، إلا أن هذا الاهتمام ازداد بظهور الإسلام ، ففي عصر النبوة وصدر الإسلام أخذ الناس يهتمون بالعربية كثيرا ويحرصون عليها لأنها لغة القرآن والدين والرسول الصادق الأمين (١)

فاللغة ، أي لغة ، ظاهرة اجتماعية ، اتخذها المجتمع ، أي مجتمع ، وسيلة للإفصاح والإبانة والفهم والتعبير.

واللغة تدّخر في كلماتها أخلاق أهلها وعاداتهم ونشاطهم الأدبي والفكري (٢).

قال ابن جنيّ : حدّ اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم (٣). وقال ابن الحاجب في مختصره : حدّ اللغة كل لفظ وضع لمعنى. وقال إمام الحرمين في البرهان : اللغة من لغي يلغى من باب رضي إذا لهج بالكلام ، وقيل : لغى يلغى.

وقال الأسنوي في شرح منهاج الأصول : اللغات عبارة عن الألفاظ الموضوعة للمعاني.

__________________

(١) مقدمة الصحاح ص ١٣.

(٢) مقدمة الصحاح للعطار ص ٩.

(٣) الخصائص ١ / ٣٣.

٥

وفي باب القول على أصل اللغة أإلهام هي أم اصطلاح؟ يقول ابن جني (١) :

هذا موضع محوج إلى فضل تأمل ، غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح لا وحي وتوقيف. إلّا أن أبا علي رحمه‌الله ، قال لي يوما : هي من عند الله ، واحتج بقوله سبحانه : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) وهذا لا يتناول موضع الخلاف ... على أنه قد فسّر هذا بأن قيل : إن الله سبحانه علم آدم أسماء جميع المخلوقات ، بجميع اللغات العربية ، والفارسية ، والسريانية والعبرانية والرومية ، وغير ذلك من سائر اللغات ، فكان آدم وولده يتكلمون بها ، ثم إن ولده تفرقوا في الدنيا ، وعلق كل منهم بلغة من تلك اللغات فغلبت عليه ، واضمحل عنه ما سواها ، لبعد عهدهم بها.

وإذا كان الخبر الصحيح قد ورد بهذا وجب تلقيه باعتقاده ، والانطواء على القول به.

وفي موضع آخر يقول (٢) : وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات ، كدويّ الريح ، وحنين الرعد ، وخرير الماء ، وشحيج الحمار ، ونعيق الغراب ، وصهيل الفرس ، ونزيب الظبي ونحو ذلك ، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد.

وهذا عندي وجه صالح ، ومذهب متقبل.

واسترسل السيوطي في ذكر احتجاج كل من القائلين بالتوقيف ، واحتجاج القائلين بالاصطلاح (٣).

وانتهى ابن جني إلى القول : الصواب سواء قلنا بالتوقيف أم بالاصطلاح أن اللغة لم توضع كلها في وقت واحد ، بل وقعت متلاحقة متتابعة (٤).

قال ابن فارس في فقه اللغة : باب القول في مأخذ اللغة : تؤخذ اللغة اعتيادا كالصبي العربي يسمع أبويه أو غيرهما فهو يأخذ اللغة عنهم على ممر الأوقات ، وتؤخذ تلقّنا من ملقّن ، وتؤخذ سماعا من الرواة الثقات ذوي الصدق والأمانة ، ويتّقى المظنون (٥).

ونقل السيوطي (٦) عن الزركشي أن اللغة لا تلزم إلا بخمس شرائط :

أحدها : ثبوت ذلك عن العرب بسند صحيح يوجب العمل.

__________________

(١) الخصائص ١ / ٤٠ وما بعدها. وسيرد بحث في ذلك في مقدمة الزبيدي.

(٢) الخصائص ١ / ٤٦ ـ ٤٧.

(٣) المزهر ١ / ١٧ ـ ١٨.

(٤) المزهر ١ / ٥٥ نقلا عن ابن جني.

(٥) المزهر ١ / ٥٨ نقلا عن ابن فارس.

(٦) المزهر ١ / ٥٨.

٦

والثاني : عدالة الناقلين كما تعتبر عدالتهم في الشرعيات.

والثالث : أن يكون النقل عمن قوله حجة في أصل اللغة ، كالعرب العاربة مثل قحطان ومعدّ وعدنان ، فأما إذا نقلوا عمن بعدهم بعد فساد لسانهم واختلاف المولدين فلا.

والرابع : أن يكون الناقل قد سمع منهم حسّا وأما بغيره فلا.

والخامس : أن يسمع من الناس حسّا. انتهى.

ومن الشطط أن يظن الناس أن كل عربي فصيح يحتجّ بلغته ، ولقد ثبت أن الراسخين في فهم اللغة وفصحها ونوادرها وحوشيّها كانوا يجهلون معاني كثير من الألفاظ (١) ، وذلك يعود إلى سعة اللغة العربية وصعوبة الإحاطة بها ، يقول ابن فارس في فقه اللغة : قال بعض الفقهاء كلام العرب لا يحيط به إلا نبيّ ، قال ابن فارس : وهذا كلام حريّ أن يكون صحيحا ، وما بلغنا أن أحدا ممن مضى ادّعى حفظ اللغة كلّها (٢).

وهذا الذي نقله عن بعض الفقهاء نص عليه الإمام الشافعي فقال في أوائل الرسالة : لسان العرب أوسع الألسنة مذهبا ، وأكثرها ألفاظا ، ولا نعلم أن يحيط بجميع علمه إنسان غير نبيّ (٣).

وطبيعي في اللغة العربية التي تتفق مع أخوات لها في كثير من القواعد والصيغ والتراكيب ، فلا يسع أحدا أن يسلم لسانه من الخطأ في كل ما ينطق به إلا الرسل (ص) وإلا الأقحاح من العرب (٤).

واشتراك العربية في النسب مع شقيقاتها في النسب ثم مجاورة القبائل العربية لغير العرب جعلا الباب مفتوحا للدخيل ، وحيث أن الموجات البشرية التي انتقلت إلى الجزيرة العربية أثّرت في اللغة العربية وأمدّتها بكلمات ، ونقلت معها عادات وآثارا من علم وحضارة عبروا عنها بألفاظ لم تكن معروفة عند العرب.

هذه الحروف والألفاظ ذات الأصول العجمية ، سقطت إلى العرب ، فأعربتها بألسنتها ، وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها ، فصارت عربية ، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب. قال أبو عبيدة : فمن قال : إنها عربية فهو صادق ، ومن قال : عجمية ،

__________________

(١) مقدمة الصحاح للعطار ص ١٤.

(٢) المزهر ١ / ٦٤.

(٣) المزهر ١ / ٦٥.

(٤) مقدمة الصحاح للعطار ص ١٥.

٧

فهو صادق (١) وذكر الجواليقي في المعرب (٢) : فهي عجمية باعتبار الأصل ، عربية باعتبار الحال ، ويطلق على المعرّب دخيل.

وقال أبو حيان في الارتشاف : الأسماء الأعجمية على ثلاثة أقسام :

قسم : غيّرته العرب وألحقته بكلامها ، فحكم أبنيته في اعتبار الأصلي والزائد والوزن حكم أبنية الأسماء العربية الوضع.

وقسم : غيّرته ولم تلحقه بأبنية كلامها.

وقسم : تركوه غير مغيّر : فما لم يلحقوه بأبنية كلامهم لم يعد منها ، وما ألحقوه بها عدّ منها.

واللغة العربية جدّ غنية بثروة لغوية بحيث يصعب لمن يريد حصرها أو إحصاءها ، وأن أكثر موادها غير مستعمل ، فقد نقل صاحب اللسان عن الكسائي قال : قد درس من كلام العرب كثير (٣). وحكى ابن حبيب البصري عن أبي عمرو أنه قال : «ما انتهى إليكم مما قالت إلّا أقلّه ، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير» (٤).

وإن المستعمل من العربية في عصرنا لا يكاد يزيد عن عشرة الآف مادة. من هنا وجب على المعاصرين اليوم الاهتمام الجدي باللغة من أجل بعث لغوي قبل استشراء فساد اللغة وانحطاط الأساليب الكتابية وانتشار اللحن والخطأ وتوجيه اللغات العامية ضربتها القاضية للغة الفصحى بعد أن هزمتها في مواقع كثيرة.

هذا لا يعني أن الاهتمام بالعربية كان معدوما ، يقول أحمد عبد الغفور عطار في مقدمة الصحاح (٥) : «واهتمام أبناء العربية بلغتهم قديم منذ العصر الجاهلي ، ولكن زاد هذا الاهتمام بمجي‌ء الإسلام ، لأن العربية أصبحت لغة القرآن والدين الجديد والرسول الصادق الأمين.

وإذا كان العرب قبل عصر الخليل بن أحمد لا يعرفون المعجم كما نعرفه ، فإن حاجتهم إليه لم تكن معدومة ، ولئن كانوا لا يعرفون المعجمات ولا وجود لها فإنهم كانوا يرجعون إلى أهل العلم ويسألونهم كما نسأل المعجم وكان أهل العلم باللغة يؤدون عمل المعجم.

__________________

(١) المزهر ١ / ٢٦٩.

(٢) المعرب ص ٥.

(٣) اللسان ٣ / ٤٣١.

(٤) نزهة الألباء ص ٣٣.

(٥) مقدمة الصحاح ص ٢٧.

٨

ونتيجة الفتح الإسلامي وتدفق الأعاجم إلى بلاد العرب وازدياد الاختلاط بهم زاد فساد اللغة ، وخاصة لغة المدن ، مما اضطر المعنيون باللغة (١) إلى أن يضربوا إلى البادية لتلقي الفصحى من أبنائها الأصلاء. فجمعوا من خلال تحرّيهم واستقصائهم وتمحيصهم ثروة لغوية ضخمة توزّعت على مختلف عناصر اللغة ، وعالجت كل أمورها من إحصاء للمفردات ، إلى ترتيب القواعد ، إلى ضبط النطق ، إلى المعرّب والدخيل ومن هنا كان المعجم أعظم خطوة في التأليف اللغوي.

تعريف المعجم :

كتاب يضم أكبر عدد من مفردات اللغة مقرونة بشرحها وتفسير معانيها ، على أن تكون المواد مرتبة ترتيبا خاصا ، إما على حروف الهجاء أو الموضوع ، والمعجم الكامل هو الذي يضم كل كلمة في اللغة مصحوبة بشرح معناها واشتقاقها وطريقة نطقها وشواهد تبين مواضع استعمالها (٢).

تسميته :

ورد في اللسان في مادة عجم : العجم والعجم خلاف العرب والعرب ، والعجم جمع الأعجم الذي لا يفصح ولا يبين كلامه ، وإن كان عربي النسب والأنثى عجماء ... وأعجمت الكتاب : ذهبت به إلى العجمة ... وأعجمت : أبهمت. ويقول ابن جنيّ (٣) : اعلم أن عجم إنما وقعت في كلام العرب للإبهام والإخفاء وضد البيان والإفصاح.

يقول الدكتور إميل يعقوب (٤). ويظهر أن وزن «أفعل» يأتي في غالب أمره للإثبات والإيجاب ... أي أن همزة «أفعل» قد تقلب معنى «فعل» أحيانا إلى ضده نحو : أشكلت الكتاب أي أزلت إشكاله ، وأشكيت زيد أي أزلت شكواه ... وإعجام الكتاب يعني إزالة استعجامه. والإعجام هو تنقيط الحروف للتمييز بين المتشابهة منها في الشكل (ب ت ج ح خ الخ) ومن هذه الدلالة جاءت تسمية الحروف الهجائية بحروف المعجم نظرا لكون النقط الموجود في كثير منها يزيل التباس معاني الكلمات بعضها ببعض وغموضها بالمعجم.

وفي مقدمة الصحاح (٥) : ولا نعلم بالدقة متى أطلق المعجم على هذا الاستعمال ،

__________________

(١) مقدمة الصحاح ، عطار ص ٢٩.

(٢) مقدمة الصحاح ، عطار ص ٣٨.

(٣) صناعة الإعراب ص ٤٠.

(٤) المعاجم اللغوية العربية ص ١١ ـ ١٢.

(٥) مقدمة الصحاح أحمد عبد الغفور عطار ص ٣٨ ـ ٣٩.

٩

ولكن الذي نعلمه أن أول من استعمل الكلمة رجال الحديث ، وأول ما عرف في القرن الثالث ، فقد جاء في صحيح الإمام البخاري عنوان من تعبيره وقوله وهو : باب تسمية من سمي من أهل بدر في الجامع الذي وضعه أبو عبد الله (يعني البخاري) على حروف المعجم ... وأول كتاب أطلق عليه اسم المعجم هو معجم الصحابة لأبي يعلى أحمد بن علي بن المثنى ، ثم وضع أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي كتابين في أسماء الصحابة سماهما «المعجم الكبير» و «المعجم الصغير» ثم كثر إطلاقه واستعماله وشاع ، وعنهم أخذ اللغويون كلمة المعجم.

أنواع المعاجم :

المعاجم أنواع عديدة أهمها :

١ ـ المعاجم اللغوية وهي التي تشرح ألفاظ اللغة ، وكيفية ورودها في الاستعمال بعد ترتيبها وفق نمط معين من الترتيب.

٢ ـ معاجم الترجمة : أو المعاجم المزدوجة أو الثنائية اللغة.

٣ ـ المعاجم الموضوعية أو المعنوية : وهي التي ترتب الألفاظ اللغوية حسب معانيها أو موضوعاتها.

٤ ـ المعاجم الاشتقاقية أو التأصيلية وهي التي تبحث في أصول ألفاظ اللغة.

٥ ـ المعاجم التطورية : وهي التي تهتم بالبحث عن أصل معنى اللفظ ، لا اللفظ نفسه ثم تتبع مراحل تطور هذا المعنى عبر العصور.

٦ ـ معاجم التخصيص : وهي التي تجمع ألفاظ علم معين ومصطلحاته أو فن ما ، ثم تشرح كل لفظ أو مصطلح حسب استعمال أهله والمتخصصين به له.

٧ ـ دوائر المعارف أو المعلمات : وهي نوع من أنواع المعاجم ، لكنها تختلف عنها من حيث أنها سجل للعلوم والفنون وغيرهما من مظاهر النشاط العقلي عند الإنسان.

٨ ـ المعاجم المصورة وهي التي تثبت صور كل الحسيات التي تتضمنها وترتبها ترتيبا هجائيا دون شرح أو تفسير (١).

ويرى د. أحمد أمين (٤) أن جمع اللغة مرّ في مراحل ثلاث : أما المرحلة الأولى فقد

__________________

(١) المعاجم اللغوية العربية ، اميل يعقوب ، باختصار ص ١٥ ـ ٢٠.

١٠

جمعت فيها اللغة حيثما اتفق ، وفي المرحلة الثانية. جمعت الكلمات المتعلقة بموضوع واحد في موضع واحد. وقد وضع في هذه المرحلة عدة كتب منها : كتاب النخل والكرم ، وكتاب الإبل وكتاب الخيل وكتاب أسماء الوحوش للأصمعي ، وغيرها. وفي المرحلة الثالثة : تم وضع المعاجم على نمط خاص في الترتيب ليرجع إليها من أراد البحث عن معنى كلمة ، وأول من ألف معجما ـ على ما بلغنا ـ هو الخليل بن أحمد الفراهيدي واضع «كتاب العين». ثم تتالت المعاجم بعده تنهج كل نهجه أو تخالفه في بعضه.

ويرى د. يعقوب (١) أن المعجم مرّ في تطوره في خمس مراحل هي :

١ ـ مرحلة النظام الصوتي ونظام التقليبات الخليليين.

٢ ـ مرحلة النظام الألفبائي الخاص.

٣ ـ مرحلة نظام القافية الذي ابتدعه الجوهري.

٤ ـ مرحلة النظام الألفبائي العادي.

٥ ـ مرحلة النظام الألفبائي النطقي.

١ ـ المرحلة الأولى :

توج هذه المرحلة الخليل بن أحمد ، الذي يعتبر رائد المعجمات الأول في العربية ، الذي فكر باتّباع نظام في الترتيب مختلف عن عمل اللغويين ، معاصريه ، يضمن له هذا الترتيب ذكر جميع المواد اللغوية ويقيه مغبة التكرار ، فاخترع منهجا اتّبعه ، فكان السابق في هذا المضمار دون منازع ، فهو أول من جمع اللغة في معجم جدير بهذا الاسم.

فأي نظام اتّبع الخليل في معجمه «كتاب العين»؟

من الثابت أن الخليل ابتكر لنفسه نظاما خاصا ـ هداه إليه اشتغاله بالموسيقى والأنغام ـ في ترتيب الحروف الهجائية ، سار عليه في ترتيب مواد معجمه ، ويرتب الحروف بحسب مخارجها فبدأ بحروف الحلق ، ويبدأ بالصعود تدريجا حتى تنتهي إلى الشفة ، وجعل ترتيبها هكذا : ع ، ح ، ه ، خ ، غ ، ق ، ك ، ج ، ش ، ض ، ص ، س ، ز ، ط ، ت ، د ، ظ ، ذ ، ث ، ر ، ل ، ن ، ف ، ب ، م ، و، ى ، ا.

قال ابن كيسان : سمعت من يذكر عن الخليل أنه قال : لم أبدأ بالهمزة ، لأنه يلحقها النقص والتغيير والحذف ، ولا بالألف ، لأنها لا تكون في ابتداء كلمة ولا في اسم ولا فعل إلّا زائدة أو مبدلة ، ولا بالهاء ، لأنها مهموسة خفية ، لا صوت لها ، فنزلت إلى الحيز الثاني وفيه

__________________

(١) المعاجم اللغوية ص ٣١ ـ ٣٢.

١١

العين والحاء ، فوجدت العين أنصع الحرفين فابتدأت به ليكون أحسن في التأليف ، وليس العلم بتقدم شي‌ء على شي‌ء ، لأنه كله يحتاج إلى معرفته فبأي بدأت كان حسنا ، وأولاها بالتقديم أكثرها تصرفا (١).

أما بالنسبة لنظام التقليبات الذي اتبعه الخليل ، يقول د. يعقوب (٢) : فيظهر أن الفراهيدي قد رأى أنه لا يمكن حصر جميع مفردات اللغة إلا باتباع نظام حسابي دقيق ، فهدته عبقريته الفذة إلى نظام التقليبات.

وفي موضع آخر يقول : يهمنا التأكيد أن ترتيب الخليل للحروف حسب مخارجها ونظامه في التقليبات قد أصبحا سمة مرحلة مميزة من مراحل التأليف المعجمي ، أو قل سمة مدرسة كان من تلامذتها كثيرون ، لعل أهمهم الأزهري في معجمه «تهذيب اللغة» والقالي في معجمه «البارع» وابن سيده في «المحكم».

كتاب العين :

مؤلفه الخليل بن أحمد الفراهيدي. أما منهجه فيه فقد اتّسم بما يلي (٣) :

١ ـ رتب المواد بحسب مخارجها (وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك قريبا).

٢ ـ نظم الكلمات تبعا لحروفها الأصلية (الجذور) دون مراعاة الأحرف الزائدة فيها ، أو الأحرف المقلوبة عن أحرف أخرى.

٣ ـ اتّبع نظام التقليبات الذي ابتدعه بنفسه.

٤ ـ جعل معجمه أقساما على عدد الحروف ، وسمّى كل قسم أو كل حرف كتابا ، وبدأ معجمه بكتاب العين.

٥ ـ أخضع تبويب الكلمات لنظام الكمية ، أو لنظام الأبنية.

٦ ـ كان يأتي بالشواهد في معظم ما يفسره ، وكانت هذه الشواهد مستمدة من الشعر والحديث والأمثال والقرآن.

٧ ـ أثبت كثيرا من رجال السند.

ويكمن أثر كتاب العين في أنه افتتح به التأليف المعجمي فكان للّغويين منهجا وسنّة ،

__________________

(١) المزهر ١ / ٩٠.

(٢) المعاجم العربية ص ٤٢.

(٣) المعاجم العربية. ص ٤٦ وما بعدها باختصار. وانظر مقدمة الصحاح لأحمد عطار ص ٥٧ ـ ٥٨ والمزهر ١ / ٩٠ ـ ٩١.

١٢

تهذيب اللغة :

مؤلفه : أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي ، أحد أئمة اللغة والأدب والفقه.

ومعجم تهذيب اللغة يمتاز بالدقة والتحري في الأخذ ، وفيه الصحيح من كلام العرب ، وبه غير الصحيح ، وهو جد قليل ـ والتهذيب مرتب على مخارج الحروف مثل كتاب العين للخليل ، واتبع نظامه في قلب الكلمة.

والتهذيب فيه ما هو بطريق الرواية المسلسلة عمن سبق الأزهري من علماء اللغة ، يقول في مقدمته (١) : وكتابي هذا وإن لم يكن جامعا لمعاني التنزيل وألفاظ السنن كلها فإنه يحوز جملا من فوائدها ونكتا من غريبها ومعانيها ... وقد دعاني إلى ما جمعت في هذا الكتاب من لغات العرب وألفاظها ، واستقصيت في تتبع ما حصّلت منها. (٢).

وقد أشار الأزهري في مقدمة كتابه إلى طبيعة عمله ومنهجه ، وختمها بقوله : سميت كتابي هذا «تهذيب اللغة» لأني قصدت بما جمعت فيه نفي ما أدخل في لغات العرب من الألفاظ التي أزالها الأغبياء عن صيغتها ، وغيّرها الغتم عن سننها ، فهذبت ما جمعت في كتابي من التصحيف والخطأ بقدر علمي ، ولم أحرص على تطويل الكتاب بالحشو الذي لم أعرف أصله ، والغريب الذي لم يسنده الثقات إلى العرب (٣).

البارع :

مؤلفه إسماعيل بن القاسم بن هارون القالي البغدادي ، ألّفه في الأندلس وهو أول معجم ظهر هناك.

في منهجه اتّبع القالي طريقة الخليل ، فبنى معجمه على مخارج الحروف ، ولكنه لم يسر على ترتيب الخليل ويلتزمه بحذافيره ، وخالف الخليل في الأبنية وترتيبها فهي عند القالي ستة : أبواب الثنائي المضاعف ويسميه الثنائي في الخط ، والثلاثي في الحقيقة ، وأبواب الثلاثي الصحيح ، وأبواب الثلاثي المعتل ، وأبواب الحواشي ، وأبواب الرباعي ، وأبواب الخماسي.

واتّبع القالي الخليل في ذكر الكلمة ومقلوبها (٤).

أما المآخذ التي وجهت إلى البارع فهي المآخذ نفسها التي وجهت إلى كتاب العين

__________________

(١) تهذيب اللغة ، مقدمة الأزهري ص ٥.

(٢) تهذيب اللغة مقدمة الأزهري ص ٨ وما بعدها.

(٣) تهذيب اللغة ، مقدمة الأزهري ص ٢٧ وما بعدها.

(٤) انظر مقدمة الصحاح لأحمد عطار ص ٩١ والمعاجم العربية لاميل يعقوب ص ٦١ ـ ٦٤.

١٣

ومدرسته وبخاصة صعوبة البحث فيه ، يزاد إليها مأخذان مهمان :

أولهما : التكرار الظاهر في الشواهد وفي التفسيرات.

وثانيهما : إيراد التفسيرات المختلفة أو المتعارضة دون بذل أي جهد للتوفيق بينهما (١).

٢ ـ المرحلة الثانية في تطور المعاجم العربية :

النظام الألفبائي الخاص :

أرباب هذه المرحلة يتمثلون بشكل رئيسي في ابن دريد وابن فارس ، اللذين حاولا التخلص من مدرسة «كتاب العين» ونظام الخليل وطريقته ونهجه في ترتيب مواد المعجم ، لكنهما وجدا في استنان طريق آخر مختلف صعوبة.

فأما ابن دريد ، وقد أدرك صعوبة البحث في كتاب العين عن معاني الكلمات التي يستغلق فهمها على الباحث ، كما شعر أنه بترتيب مواد المعجم حسب النظام الألفبائي يخفف كثيرا من هذه الصعوبة ، ورأى أيضا أن نظام التقليبات الذي ابتدعه الخليل أساس سليم لاستيعاب معظم مواد اللغة العربية ، فأحب أن يجمع بين ترتيب الألفباء العادي وبين نظام التقليبات الخليلي فوضع معجمه «الجمهرة» على هذا الأساس.

جمهرة اللغة :

مؤلفه أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد ، أحد أئمة اللغة والأدب.

واسم الكتاب دل على مقصد ابن دريد من تأليف معجمه ، فهو عنى بتدوين جمهور اللغة العربية.

ويعتبر جمهرة اللغة من مشاهير كتب اللغة التي نسجت على منوال العين (٢) ، ولم يكن كتاب الجمهرة صورة مكرورة للخليل بل بينه وبين «العين» نقاط يلتقيان فيها ، وأوجه خلاف. إلّا أن هذا الخلاف ـ كما يقول أحمد عطار في مقدمة الصحاح (٣) ـ بين طريقة الرائد المتبوع والأتباع لا يعود إلى قصد المخالفة ، ولكنه التطور الذي نشهده بين المبتكر ومن يجي‌ء بعده ، فيزيد الخلف على السلف زيادة لا تنقص من قدر الإمام الرائد.

__________________

(١) المعاجم اللغوية ، يعقوب ، ص ٦٥ ـ ٦٦.

(٢) المزهر للسيوطي ١ / ٩٢.

(٣) مقدمة الصحاح ، عطار ، ص ٩٧.

١٤

قال ابن دريد في خطبة كتابه (١) : قد ألّف أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفرهودي كتاب العين ، فأتعب من تصدى لغايته ، وعنّى من سما إلى نهايته ، فالمنصف له بالغلب معترف ، والمعاند متكلف ، وكلّ من بعده له تبع ، أقر بذلك أم جحد ، ولكنه ألف كتابه مشاكلا لثقوب فهمه ، وذكاء فطنته ، وحدة أذهان أهل دهره.

وأملينا هذا الكتاب والنقص في الناس فاش ، والعجز لهم شامل ، إلا خصائص كدراري النجوم في أطراف الأفق ، فسهلنا وعره ، ووطأنا شأزه ، وأجريناه على تأليف الحروف المعجمة ، إذ كان بالقلوب أعلق ، وفي الأسماع أنفذ ، وكان علم العامة بها كعلم الخاصة. وألغينا المستنكر الوحشي ، واستعملنا المعروف ، وسميناه كتاب الجمهرة لأنا اخترنا له الجمهور من كلام العرب ، وأرجأنا الوحشي المستنكر.

أما ابن فارس فقد حاول هو الآخر التخلص من مدرسة العين ، لكنه لم يستطع ، فقد تبع العين في بعض الخطوط التي خطها الخليل ، منها أن ابن فارس قسم معجمه بحسب الأبنية (٢).

وسار ابن فارس في ترتيب معجميه «المجمل» و «المقاييس» على ترتيب حروف الهجاء فهو لم يرتب موادهما على أوائل الحروف وتقليباتها كما صنع ابن دريد في الجمهرة ولم يطردها على أبواب أواخر الكلمات كالجوهري في الصحاح ، ولكنه سلك طريقا خاصا به ، وأما منهجه وطريقته فقد صرح به في مقدمة مقاييس اللغة يقول (٣) : إن للغة العرب مقاييس صحيحة وأصولا تتفرع منها فروع. وقد ألف الناس في جوامع اللغة ما ألفوا ، ولم يعربوا في شي‌ء من ذلك عن مقياس من تلك المقاييس ، ولا أصل من الأصول. وقد صدّرنا كل فصل بأصله الذي يتفرع منه مسائله ، حتى تكون الجملة الموجزة شاملة للتفصيل ، ويكون المجيب عما يسأل عنه مجيبا عن الباب المبسوط بأوجز لفظ وأقربه».

ويتخلص طريقه بـ :

أ ـ قسم مواد اللغة إلى كتب ، تبدأ بكتاب الهمزة وتنتهي بكتاب الياء.

ب ـ قسم كل كتاب إلى أبواب ثلاثة أولها باب الثنائي المضاعف والمطابق ، وثانيها أبواب الثلاثي الأصول من المواد ، وثالثها باب ما جاء على أكثر من ثلاثة أحرف أصلية.

__________________

(١) جمهرة اللغة ١ / ٤.

(٢) مقدمة الصحاح ، أحمد عطار ص ٩٨.

(٣) مقاييس اللغة ١ / ٣.

١٥

ج ـ رتب مواد كل باب حسب النظام الألفبائي العادي ووفقا لجذر الكلمة. مع الإشارة إلى أنه في القسمين الأولين التزم فيهما ترتيبا خاصا ، بحيث أنه يؤلف الحرف مع ما يليه في الألفباء ، لا مع الهمزة أولا ثم مع الباء فالتاء فالثاء (١) ...

د ـ تحرى الألفاظ الصحيحة وتجنب المشوبة. يقول في أول مجمله : قد ذكرنا الواضح من كلام العرب والصحيح منه ، دون الوحشي المستنكر ولم نأل في اجتباء المشهور الدالّ على غرر ، وتفسير حديث أو شعر ، والمقصود في كتابنا هذا من أوله إلى آخره التقريب والإبانة عما ائتلف من حروف العربية ، فكان كلاما ، وذكر ما صح من ذلك سماعا أو من كتاب لا يشك في صحة نسبه.

وقال في آخر المجمل : قد توخيت فيه الاختصار ، وآثرت فيه الإيجاز واقتصرت على ما صح عندي سماعا ، ومن كتاب صحيح النسب مشهور ، ولولا توخي ما لم أشكك فيه من كلام العرب لوجدت مقالا (٢).

٣ ـ المرحلة الثالثة في تطور المعاجم العربية :

نظام القافية :

تقدم أن العرب حرصوا على حفظ ألفاظ لغتهم ومفاريدها ، واعتنوا عناية فائقة في ترتيب مواد معاجمهم ، فكان مؤلفو المعجمات الأولى رواد التأليف المعجمي في العربية ، وكان أن اعتبرت معاجمهم واضعة كل قواعد المعجم العربي.

ولم يكن بين واضعي هذه المعاجم كبير خلاف ، مع الإشارة إلى أنه لكلّ منهم خصائصه وطريقته ، ومع ذلك يصعب القول بتقسيم كلّيّ مطلق يصل إلى حدّ وجود أنظمة في ترتيب مواد المعاجم منفصلة تماما بعضها عن بعض ، أو بعيدة التأثر بعضها من بعض.

نقول إن العرب عرفوا تطورا كبيرا في خلال عملية بناء تراثهم المعجمي ، ومن خلال هذا التطور ، والذي حدث خطوة خطوة يمكننا القول بوجود مدارس معجمية تلتقي في كثير من النقاط والتوجهات وتختلف في بعضها ، بحيث لم يكن هناك تطابق تام في النهج والطريقة والأسلوب ، ولم يحدث أيضا طلاق كامل في شخصية كلّ منها والتي تميزها عن سواها.

__________________

(١) انظر كيفية ترتيب كتاب الجيم ، وترتيب المواد اللغوية فيه ، المقاييس ١ / ٤٠٥ ـ ٤٢٥.

(٢) انظر المزهر للسيوطي ١ / ٩٩ ـ ١٠٠.

١٦

وقد تحدثنا فيما تقدم عن مناهج وسنن وطرق هذه الأنظمة والمدارس ، وتطرقنا إلى دراسة موجزة عن أهم منجزات أئمة لغويي هذه الأنظمة وخصائصها وآثارها. قال الصاحب بن عباد : وغالب هذه الكتب لم يلتزم مؤلفوها الصحيح ، بل جمعوا فيها ما صح وغيره ، وينبهون على ما لم يثبت غالبا (١).

وأول من التزم الصحيح مقتصرا عليه الإمام أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري ، ولهذا سمى كتابه الصحاح.

والجوهري يعتبر بحق صاحب مدرسة خاصة به حيث ابتكر في التأليف المعجمي منهجا قرّب اللغة إلى الباحثين ويسّر لهم السبيل إلى الكلمة التي يقصدون (٢).

ونظام هذه المدرسة ترتيب المواد على حروف المعجم باعتبار آخر الكلمة بدلا من أولها ثم النظر إلى ترتيب حروف الهجاء عند ترتيب الفصول ، والأول سماه بابا ، والثاني : فصلا.

يقول د. اميل يعقوب (٣) : ولا نظن أن الجوهري ، وهو الإمام في اللغة إلا وقد اطّلع عليها (أي على الأنظمة اللغوية التي سبقته) جميعا ، أما سبب عزوفه عنها وإيثاره نظام القافية الذي يرتب الكلمات حسب أواخر أصولها ... فيعود إلى سبب أو أكثر من الأسباب التالية :

١ ـ أنفة الجوهري من أن يكون تابعا لأحد في منهج التأليف المعجمي ، ورغبته في أن يضع منهجا جديدا ينسب إليه.

يقول الجوهري في خطبته (٤) : «قد أودعت هذا الكتاب ما صح عندي من هذه اللغة التي شرّف الله منزلتها ، وجعل علم الدين والدنيا منوطا بمعرفتها ، على ترتيب لم أسبق إليه ، وتهذيب لم أغلب عليه ..».

٢ ـ المساعدة على نظم الشعر الذي يتطلب وحدة القافية ، وعلى كتابة النثر الفني.

٣ ـ الطبيعة الاشتقاقية للغة العربية حيث نجد أن الحرف الأخير في الكلمة ، وبخاصة لام الفعل ، أكثر ثباتا من سائر حروفه.

٤ ـ وجود أكثر الألفاظ التي تحتاج إلى شرح في قوافي القصائد التي ينتهي رويها بحرف

__________________

(١) المزهر ١ / ٩٧.

(٢) مقدمة الصحاح ، أحمد عطار ص ١٠١ ، والمعاجم العربية لعبد الله درويش ص ٩١ ، والمعجم العربي ، حسين نصار ص ٤٥٢.

(٣) المعاجم العربية اللغوية ص ١٠٢.

(٤) الصحاح ، مقدمة المؤلف ، والمزهر ١ / ٩٧.

١٧

واحد. فترتيب المواد اللغوية ، حسب أواخر حروفها ، يسهل على قارى‌ء القصائد ، التفتيش عن معاني كلماتها الصعبة.

الصّحاح (تاج اللغة وصحاح العربية).

مؤلفه إسماعيل بن حماد الجوهري ، لغوي من الأئمة. يلي الخليل في الشهرة.

قال في خطبته : «قد أودعت هذا الكتاب ما صحّ عندي من هذه اللغة ... بعد تحصيلها بالعراق رواية ، وإتقانها دراية ، ومشافهتي بها العرب العاربة في ديارهم بالبادية ...».

منهج الجوهري :

ترك الجوهري طريقة الخليل التي اتّبعها في العين عند ما رتبه على مخارج الحروف ، وترك طريقة أبي عمرو الشيباني في كتاب الجيم الذي رتّب مواده على الحروف الهجائية دون مراعاة الحرف الثاني والثالث.

وترك أيضا طريقة أبي عبيد القاسم بن سلام في «المصنّف» بتقسيم الكتاب إلى أبواب بحسب أبنية الألفاظ أسماء أو أفعالا. وابتدع لنفسه نظاما خاصا لم يسبقه إليه أحد ، وهو يفخر به ، يقول في خطبته : «بترتيب لم أسبق إليه ، وتهذيب لم أغلب عليه» وقد اتّسم نظامه ومنهجه في صحاحه بما يلي :

١ ـ رتب الكلمات حسب أصولها وفق النظام الألفبائي ، ما عدا حرفا واحدا هو الواو ، إذ وضعه بين النون والهاء. وجعل لكل حرف بابا خاصا به ، كما قسّم كل باب إلى ثمانية وعشرين فصلا (بعض الأبواب نقل فصولها عن ثمانية وعشرين ، مثل باب «الراء» وباب : «الظاء»).

٢ ـ تجنبا للتصحيف سار الجوهري على طريقة لضبط الكلمات بالحركات تنص على ذكر حركة الكلمة المحتمل أكثر من وجه واحد يقول مثلا : الكداد بالضم ، والحباب بالضم يريد ضبط الحرف الأول ، ويقول مثلا : الثرد بالتحريك ، والجحد بالتحريك ، يريد ضبط الحرفين الأولين (١).

٣ ـ أشار في كثير من الأحيان في صدد الألفاظ إلى الضعيف والردي‌ء والمتروك والمذموم من اللغات.

٤ ـ عني بذكر كثير من مسائل النحو والصرف.

__________________

(١) راجع في الصحاح مادة «كدد» و «حبب» و «ثرد» و «جحد» ومقدمة الصحاح لأحمد عطار ص ١٢٥ والمعاجم اللغوية لاميل يعقوب ص ١٠٨.

١٨

أهمية كتاب «الصحاح» وأثره :

كان للصحاح أهمية كبيرة ، إذ أقبل عليه العلماء يدرسونه وينقدونه ويكملونه ويحفظونه ويعلقون عليه ، ولا نظن أن هناك معجما كان له هذه الأهمية.

قال ياقوت الحموي في معجم الأدباء : كتاب الصحاح هو الذي بأيدي الناس اليوم ، وعليه اعتمادهم ، أحسن الجوهري تصنيفه وجوّد تأليفه ، وقرّب متناوله ، يدل وضعه على قريحة سالمة ونفس عالمة فهو أحسن من الجمهرة ، وأوقع من تهذيب اللغة ، وأقرب متناولا من مجمل اللغة ، هذا مع تصحيف فيه في عدة مواضع تتبعها عليه المحققون (١).

وقال أبو زكريا الخطيب التبريزي اللغوي : يقال كتاب الصحاح بالكسر وهو المشهور ، وهو جمع صحيح كظريف وظراف ، ويقال : الصحاح بالفتح وهو مفرد نعت كصحيح ...

قال : وكتاب الصحاح هذا كتاب حسن الترتيب ، سهل المطلب لما يراد منه ، وقد أتى بأشياء حسنة ، وتفاسير مشكلات من اللغة ، إلّا أنه مع ذلك فيه تصحيف لا يشك في أنه من المصنف لا من الناسخ ، لأن الكتاب مبني على الحروف (٢).

ونقل السيوطي عن الثعالبي : كان الجوهري من أعاجيب الزمان ، وهو إمام في اللغة ، وله كتاب الصحاح ، وفيه يقول أبو محمد إسماعيل بن محمد بن عبدوس النيسابوري :

هذا كتاب الصحاح سيّد ما

صنف قبل الصحاح في الأدب

تشمل أبوابه وتجمع ما

فرق في غيره من الكتب

لسان العرب :

مؤلفه : محمد بن مكرم بن علي بن منظور الافريقي.

في لسان العرب ارتقى ابن منظور بالكلمة فبعث فيها الحياة مبتعدا بها عن قاموسيتها الجامدة الميتة ، فقدّم لنا ، ما يغني عن كتب اللغة ، معجما موسوعة شاملة ، فكان فيه محلقا : عالما ومحدثا وفقيها وأديبا ومؤرخا.

__________________

(١) المزهر ١ / ٩٨ ـ ٩٩ نقلا عن ياقوت.

(٢) المزهر ١ / ٩٧.

١٩

يقول الشدياق (١) ، عن لسان العرب : إنه كتاب لغة وفقه ونحو وصرف وشرح للحديث وتفسير للقرآن.

يقول ابن منظور في مقدمته على لسان العرب : لا أدّعي فيه دعوى ، فأقول : شافهت أو سمعت أو فعلت أو صنعت أو شددت الرحال أو رحلت أو نقلت عن العرب العرباء أو حملت ، فكل هذه الدعاوى لم يترك فيها الأزهري وابن سيده لقائل مقالا ، ولم يخليا لأحد فيها مجالا ، فإنهما عيّنا في كتابيهما عمن رويا ، وبرهنا عما حويا ، ونشرا في خطبهما ما طويا ، ولعمري لقد جهدا فأوعيا وأتيا بالمقاصد ووفيا.

يعترف صاحب اللسان بأنه لم يأت بشي‌ء من عنده مما حصّله أو سمعه أو شافه به أحدا ، ولم يتح له عصره أن يتبدى ويخالط الأعراب فيأخذ عنهم كالأزهري ولا كانت له حافظة ابن سيده ليعي ما وعى ، ويحصل ما حصل ولا كان له مثل شيوخه فيسمع منهم ويروي عنهم ، وإنما هو جامع لما تفرق في أصول سابقة لعصره. وقد ذكر هذه الأصول التي ضمها إلى كتابه فجعلها خمسة وهي : تهذيب اللغة للأزهري ، والمحكم لابن سيده ، والصحاح للجوهري وحاشيته لابن بري ، والنهاية لابن الأثير الجزري على أن الناظر في لسان العرب يتبين له أنه يشتمل على أصل سادس ، وإن لم يذكره في مقدمته وهو جمهرة اللغة لابن دريد (٢) ، وبذلك استطاع ابن منظور أن يتنصل من تبعة ما في كتابه من زلل ، لأنه لم يكن في وضعه إلا ناقلا عن غيره. يقول في مقدمته : وليس في الكتاب فضيلة أمت بها. ولا وسيلة أتمسك بسببها ، سوى أني جمعت فيه ما تفرق في تلك الكتب من العلوم ... فمن وقف فيه على صواب أو زلل أو صحة أو خلل فعهدته على المصنّف الأول ، وحمده وذمّه لأصله الذي عليه المعول.

جرى ابن منظور على طريقة الجوهري في الصحاح ، ونهج نهجه. وقد صرح كما ذكرنا أنه رجع إلى خمسة مصادر لتهذيب الكلمة ، ويرد تساؤل ، لماذا يعود إلى غريب الحديث ، خاصة أن الخلاف كبير بشأن الحديث ومصدره وتأويل اشتقاقاته ، والأقاويل بشأنه كثيرة ، وهذا ما جعل الكثيرين قبله يهربون مذعورين من اللجوء إلى الحديث وغريبه ، وبولوجه هذا الباب أفهمنا ابن منظور شيئين هامين :

ـ أنه لا يقتصر على اللغة بشكلها الحرفي.

ـ أنه ينبغي علينا أن نذكر أشياء تتعلق بصميم اللغة التي انتشرت مع الإسلام ، ومع تواتر

__________________

(١) الجاسوس على القاموس ص ٧٩.

(٢) قيل إن ما ورد في اللسان من ذكر لابن دريد إنما جاء عن طريق المحكم لابن سيده ، وقد كانت الجمهرة من مراجعه ، انظر تاج العروس ط الكويت مقدمة المحقق الجزء الأول.

٢٠