آية التطهير

السيّد علي الحسيني الميلاني

آية التطهير

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-249-0
الصفحات: ٣٤

السيد شرف الدين رحمة الله عليه : أجمعين أكتعين ، والحال أنّ الصحابة أنفسهم لا يرون مثل هذا المقام لهم ، نحن نقول بعدالتهم جميعاً وهم لا يعلمون بعدالتهم ؟!

فأُمّ سلمة وعائشة تنفيان أن تكون الآية نازلة في حقّ أزواج النبي ، ويأتي الضحّاك ويضيف إلى أهل البيت أزواج النبي ، وكأنّه يريد الإصلاح بين الطرفين ، وكأنّه يريد الجمع بين الحقّين.

لكنّي وجدت في الدر المنثور (١) حديثاً يرويه السيوطي عن عدّة من أكابر المحدّثين عن الضحّاك ، يروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديثاً يتنافى مع هذه النسبة إلى الضحّاك.

وأيضاً : الضحّاك الذي نسب إليه ابن الجوزي هذا القول في تفسيره ، هذا الرجل أدرجه ابن الجوزي نفسه في كتاب الضعفاء ، وذكره العقيلي في كتاب الضعفاء ، وأورده الذهبي في المغني في الضعفاء ، وعن يحيى بن سعيد القطّان الذي هو من كبار أئمّتهم في الجرح والتعديل أنّه كان يجرح هذا الرجل ، وذكروا بترجمته أنّه بقي في بطن أُمّه مدّة سنتين.

وهذا ما أدري يكون فضيلة له أو يكون طعناً له ، وكم عندهم

__________________

(١) الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور ٥ / ١٩٩.

٢١

من هذا القبيل ، يذكر عن مالك بن أنس أنّه بقي في بطن أُمّه أكثر من سنتين أو ثلاث سنوات على ما أتذكّر الآن ، وراجعوا كتاب وفيّات الأعيان لابن خلّكان وغيره.

وعلى كلّ حال ، فإنّا نرجع إلى ما في الصحاح ، والأفضل لهم أن يرجعوا إلى ما في الصحاح ، وهذا ما دعا مثل ابن تيميّة إلى أن يعترف بصحّة حديث نزول الآية في أهل البيت الأطهار واختصاصها بهم ، وأمّا عكرمة والضحّاك وقول مثل هذين الرجلين المجروحين المطعونين ، فإنّما يذكر لتضعيف استدلال الإماميّة بالآية المباركة ، والذاكرون أنفسهم يعلمون بعدم صلاحيّة مثل هذه الأقوال للاستدلال.

بحث في مقتضى سياق الآية :

لكنّهم مع ذلك يحاولون توجيه هذا الرأي ، أي رأي الضحّاك ، يقولون بأنّه مقتضى سياق الآية المباركة.

وقد قرأت لكم بنفسي الآيات السابقة على آية التطهير ، والكل يعلم وأنتم تعلمون بأنّ الآية الآن في القرآن الكريم جاءت في ضمن الآيات التي خاطب الله سبحانه وتعالى نساء النبي ، وقد تعمّدت قراءة الآية ، عندنا اصطلاح في علم الأصول ، يقولون : بأنّ

٢٢

السياق قرينة في الكلام ، أي أنّه متى ما أردنا أن نفهم معنى كلام أو معنى كلمة ، نراها محفوفةً بأيّ كلام ، وفي أيّ سياق ، فالألفاظ التي تحفّ بهذه الكلمة ، والسياق الذي جاءت الجملة في ذلك السياق ، يكون معيناً لنا أو معيّنا لنا على فهم المراد من تلك الكلمة أو الجملة ، هذا شيء يذكرونه في علم الأصول ، وهذا أيضاً أمر صحيح في مورده ولا نقاش فيه.

إلاّ أنّ الذين يقرّرون هذه القاعدة ، ينصّون على أنّ السياق إنّما يكون قرينة حيث لا يكون في مقابله نصّ يعارضه ، وهل من الصحيح أن نرفع اليد عمّا رواه أهل السنّة في صحاحهم وفي مسانيدهم وفي سننهم وفي تفاسيرهم ، عن اُمّ سلمة وعن عائشة وعن غيرهما من كبار الصحابة : أنّ الآية مختصّة بالنبيّ وبالأربعة الأطهار من أهل البيت ، نرفع اليد عن جميع تلك الأحاديث المعتبرة المعتمدة المتفق عليها بين المسلمين ، لأجل السياق وحده ، حتّى ندّعي شيئاً لاُمّ سلمة أو لعائشة ، وهنّ ينفين هذا الشيء الذي نريد أن ندّعيه لهنّ ؟!

ليس هناك دليل أو وجه لهذا المدّعى ، إلاّ إخراج الآية المباركة عن مدلولها ، عن معناها ، عن المراد الذي هو بحسب الأحاديث الواردة هو مراد الله سبحانه وتعالى.

٢٣

ولولا أنّ الآية المباركة تدلّ على معنى ، تدلّ على مقام ، تدلّ على مرتبة ، تدلّ على شأن ، لما كانت هذه المحاولات ، لا من مثل عكرمة الخارجي ، ولا من مثل ابن كثير الدمشقي ، الذي هو تلميذ ابن تيميّة ، فالآية المباركة لا يراد من ( أَهْلَ الْبَيْتِ ) فيها إلاّ من دلّت عليه الأحاديث الصحيحة المتفق عليها ، المقبولة بين الطرفين المتنازعين في هذه المسألة.

٢٤

معنى إذهاب الرجس والإرادة

ننتقل الآن إلى النقطة الثانية في الآية المباركة ، وهي معنى إذهاب الرجس ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ، فتعيّن المراد من أهل البيت بقول رسول الله وبفعل رسول الله ، فأصبحت السنّة المتفق عليها مفسّرة للآية المباركة.

فما معنى إذهاب الرجس عن أهل البيت ؟

لابدّ من التأمّل في مفردات الآية المباركة :

كلمة ( إِنَّمَا ) تدلّ على الحصر ، وهذا ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف من أحد.

( يُرِيدُ اللهُ ) الإرادة هنا إمّا إرادة تكوينيّة كقوله تعالى : ( إِذَا

٢٥

أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (١) ، وإمّا هي تشريعيّة كقوله تعالى : ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (٢).

فالإرادة ، تارةً تكوينيّة ، وأُخرى تشريعيّة ، وكلا القسمين واردان في القرآن الكريم ، ولله سبحانه وتعالى إرادة تكوينيّة وإرادة تشريعيّة ، ولا خلاف في هذه الناحية أيضاً.

لكن المراد من « الإرادة » في الآية لا يمكن أن يكون إلاّ الإرادة التكوينيّة ، لأن الإرادة التشريعيّة لا تختص بأهل البيت ، سواء كان المراد من أهل البيت هم الأربعة الأطهار ، أو غيرهم أيضاً ، الإرادة التشريعيّة لا تختصّ بأحد دون أحد ، الإرادة التشريعيّة يعني ما يريد الله سبحانه وتعالى أن يفعله المكلَّف ، أو يريد أن لا يفعله المكلّف ، هذه الإرادة التشريعيّة ، أي الأحكام ، الأحكام عامّة تعم جميع المكلّفين ، لا معنى لأن تكون الإرادة هنا تشريعيّة ومختصّة بأهل البيت أو غير أهل البيت كائناً من كان المراد من أهل البيت في هذه الآية المباركة ، إذ ليس هناك تشريعان ، تشريع يختصّ بأهل البيت في هذه الآية وتشريع يكون لسائر المسلمين المكلّفين ، فالإرادة هنا تكون تكوينيّة لا محالة.

__________________

(١) سورة يس : ٨٢.

(٢) سورة البقرة : ١٨٥.

٢٦

( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ) و ( الرِّجْسَ ) إذا رجعنا إلى اللغة ، فيعمّ الرجس ما يستقذر منه ويستقبح منه ، ويكون المراد في هذه الآية الذنوب ، ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ) ، أي إنّما يريد الله بالإرادة التكوينيّة أن يذهب عنكم الذنوب أهل البيت ، ويطهّركم من الذنوب تطهيراً ، فهذا يكون محصّل معنى الآية المباركة.

إنّ إرادة الله التكوينيّة لا تتخلّف ، وبعبارة أُخرى : المراد لا يتخلّف عن الإرادة الإلهيّة ، ( إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (١).

فإذا كانت الإرادة تكوينيّة ، والمراد إذهاب الرجس عن أهل البيت ، فهذا معناه طهارة أهل البيت عن مطلق الذنوب ، وهذا واقع العصمة ، فتكون الآية دالّة على العصمة.

الإرادة التكوينية والجبر :

ويبقى سؤال : إذا كانت الإرادة هذه تكوينيّة ، فمعنى ذلك أن نلتزم بالجبر ، وهذا لا يتناسب مع ما تذهب إليه الإماميّة من أنّه لا

__________________

(١) سورة يس : ٨٢.

٢٧

جبر ولا تفويض بل أمر بين الامرين ، هذه الشبهة موجودة في الكتب ، وممّن تعرّض لها ابن تيميّة في منهاج السنّة.

وقد أجاب علماؤنا عن هذه الشبهة في كتبهم بما ملخصه :

إنّ الله سبحانه وتعالى لمّا علم أنّ هؤلاء لا يفعلون إلاّ ما يؤمرون ، وليست أفعالهم إلاّ مطابقةً للتشريعات الإلهيّة من الأفعال والتروك ، وبعبارة أُخرى : جميع أفعالهم وتروكهم تكون مجسّدة للتشريعات الإلهيّة ، جميع ما يفعلون ويتركون ليس إلاّ ما يحبّه الله سبحانه وتعالى أو يبغضه ويكرهه سبحانه وتعالى ، فلمّا علم سبحانه وتعالى منهم هذا المعنى لوجود تلك الحالات المعنويّة في ذواتهم المطهّرة ، تلك الحالة المانعة من الإقتحام في الذنوب والمعاصي ، جاز له سبحانه وتعالى أن ينسب إلى نفسه إرادة إذهاب الرجس عنهم.

وهذا جواب علميّ يعرفه أهله ويلتفت إليه من له مقدار من المعرفة في مثل هذه العلوم ، والبحث لغموضه لا يمكن أن نتكلّم حوله بعبارات مبسّطة أكثر ممّا ذكرته لكم ، لأنّها اصطلاحات علميّة ، ولابدّ وأن يكون السامعون على معرفة ما بتلك المصطلحات العلميّة الخاصّة.

وعلى كلّ حال لا يبقى شيء في الاستدلال ، إلاّ هذه الشبهة ،

٢٨

وهذه الشبهة قد أجاب عنها علماؤنا ، وبإمكانكم المراجعة إلى الكتب المعنيّة في هذا البحث بالخصوص ، حتّى في كتب علم الأصول أيضاً.

أتذكّر أنّ بعضهم يتعرض لمبحث آية التطهير بمناسبة حجيّة سنّة الأئمّة ، حجيّة سنّة أهل البيت ، ومنهم العلاّمة الكبير السيّد محمّد تقي الحكيم في كتابه الأصول العامّة للفقه المقارن ، هناك يطرح مبحث آية التطهير ، ويذكر هذه الشبهة ويجيب عنها بما ذكرت لكم بعبارة مبسّطة بقدر الإمكان ، وهناك أيضاً موارد أُخرى يتعرّضون فيها لهذه الشبهة وللإجابة عنها.

وحينئذ ، إذا كان المراد من أهل البيت خصوص النبي والأربعة الأطهار ، وإذا كان المراد من إذهاب الرجس إذهاب الذنوب ، والإرادة هذه إرادة تكوينيّة لا تتخلّف ، فلا محالة ستكون الآية المباركة دالّة على عصمة الخمسة الأطهار فقط.

ومن يدّعي العصمة لزوجات النبي ؟ ومن يتوهّم العصمة في حقّ الأزواج ، لا سيّما التي خالفت قوله تعالى : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ) (١) ، الآية المباركة الواردة في نفس السورة ، والتي تكون

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣.

٢٩

آية التطهير في سياق تلك الآية ، وهل يكفي أن يقال بأنّها ندمت عمّا فعلت وكانت تبكي ، فخروجها على إمام زمانها أمر ثابت بالضرورة ، وبكاؤها وتوبتها أمر يروونه هم ، ولنا أن لا نصدّقهم ، ومتى كانت الرواية معارضة للدراية ؟ ومتى أمكننا رفع اليد عن الدراية بالرواية ؟ وكيف يدّعى أن تكون تلك المرأة من جملة من أراده الله سبحانه وتعالى في آية التطهير.

نعم ، يقول به مثل عكرمة الخارجي العدو لأمير المؤمنين بل للنبي وللإسلام.

٣٠

بعض التحريفات في كتب القوم

ورأيت من المناسب أن أذكر لكم نقطة تتعلّق بآية التطهير ، وبالحديث الوارد في ذيل الآية المباركة ، ومن خلال ذلك تطّلعون على بعض التحريفات في كتب القوم.

إنّ من جملة الأحاديث الواردة في مسألة آية التطهير ونزولها في أهل البيت : هذا الحديث عن سعد بن أبي وقّاص ، وهو بسند صحيح ، مضافاً إلى أنّه في الكتب الصحيحة ، كصحيح مسلم ، وصحيح النسائي وغيره :

يقول الراوي : عن سعد بن أبي وقّاص : أمر معاوية سعداً فقال : ما يمنعك أن تسبّ أبا تراب ؟ يعني عليّاً.

يقول معاوية لسعد بن أبي وقّاص لماذا لا تسبّ عليّاً ، وكأنّه أمره أن يسبّ فامتنع ، فسأله عن وجه الإمتناع.

فقال : أمّا إن ذكرت ثلاثاً قالهنّ رسول الله فلن أسبّه.

٣١

يقول سعد : لأن يكون لي واحدة منها أحبّ إليّ من حمر النعم ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول له وخلّفه في بعض مغازيه : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى » إلى آخره ، وسمعته يقول يوم خيبر : « سأُعطي الراية غداً رجلاً » إلى آخره ، الخصلة الثالثة : ولمّا نزلت : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) دعا رسول الله عليّاً وفاطمة والحسن والحسين فقال : « اللهمّ هؤلاء أهل بيتي ».

هذا الحديث تجدونه في صحيح النسائي وفي غيره من المصادر.

ترون في هذا اللفظ أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما منعك أو ما يمنعك أن تسبّ أبا تراب ؟ بهذا اللفظ ، وهذا اللفظ ترونه في صحيح مسلم وفي غيره من المصادر أيضاً.

لكن النسائي يروي هذا الحديث بنفس السند في موضع آخر من كتابه يريد أن يلطّف اللفظ ويهذّب العبارة فيقول عن سعد :

كنت جالساً ، فتنقّصوا علي بن أبي طالب فقلت : قد سمعت رسول الله يقول فيه كذا وكذا.

كنت جالساً فتنقّصوا علي بن أبي طالب ، أين كان جالساً ؟

٣٢

وعند مَن ؟ ومن الذي تنقّص ؟ تصرّف في الحديث.

ثمّ يأتي ابن ماجة فيروي هذا الحديث باللفظ التالي : قدم معاوية في بعض حجّاته ، فدخل عليه سعد. فذكروا عليّاً فنال منه ، فغضب سعد.

فذكروا عليّاً ، من ذكر عليّاً ؟ غير معلوم ، فنال منه ، من نال من علي ؟ غير معلوم ، فغضب سعد وقال : تقولون هذا لرجل سمعت رسول الله يقول له كذا وكذا إلى آخر الحديث.

ثمّ جاء ابن كثير ، فحذف منه جملة : فنال منه فغضب سعد ، فلفظه : قدم معاوية في بعض حجّاته فدخل عليه سعد ، فذكروا عليّاً ، فقال سعد : سمعت رسول الله يقول في علي كذا وكذا.

نصّ الحديث بنفس السند في نفس القضيّة.

أترون من يروي القضيّة الواحدة بسند واحد بأشكال مختلفة ، أترونه قابلاً للإعتماد ؟ أترونه يحكي لكم الوقائع كما وقعت ؟ أترونه ينقل شيئاً يضرّ مذهبه أو يخالف مبناه أو ينفع خصمه ؟

ولكن الله سبحانه وتعالى شاء أن تبقى فضائل أمير المؤمنين ودلائل إمامته وولايته بعد رسول الله ، أن تبقى في نفس هذه الكتب ، وسنسعى بأيّ شكل من الأشكال لأن نستخرجها ، نستفيد

٣٣

منها ، نبلورها ، وننشرها ، وهذا ما يريده الله سبحانه وتعالى.

( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (١).

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

__________________

(١) سورة التوبة : ٣٢.

٣٤