سلمان الفارسي في مواجهة التحدّي

السيد جعفر مرتضى العاملي

سلمان الفارسي في مواجهة التحدّي

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٣

لماذا يكذبون :

ولعل أهمية سلمان ، وعظمته وجلالته في المسلمين ، قد جعلت البعض يرغبون في ان يجعلوا للشخصيات التي يحترمونها ، ويهتمون في حشد الفضائل لها ، نصيباً في هذا الرجل الفذ ، وفضلاً لها عليه .. حتى ولو كان ذلك على حساب كرامات وفضائل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ، فان الإغرة على بعض فضائله وكراماته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونسبتها إلى غيره ، لا تنقص من شأنه ـ بزعمهم ـ شيئاً ؛ إذ يكفيه شرفاً : أنه النبيّ الهادي لهذه الامة ، وأنه رسول الله.

كما ان ذلك يمكن أن يكون ردة فعل على تلك الرواية التي لا يجدون دليلاً ملموساً على ردها وتكذيبها ، والتي تقول :

إنه أسلم في مكة ، وحسن اسلامه ؛ وأن النبيّ (ص) شاوره ـ امتحاناً له ـ فيمن يبدأ بدعوته في مكة ، فجال سلمان في أهل مكة يَخٍبُرهم ، ويشيرهم ، ويجتمع مع النبيّ (ص) وأبي طالب لهذا الغرض ، ثم أشار بدعوة أبي بكر؛ لاُنه معروف بين العرب بتعبير الاُحلام ، وهم يرون فيه ضرباً من علم الغيب ، مع معرفته بتواريخ العرب ، وانسابها ، بالاضافة إلى أنه معلم للصبيان ، ويطيعه ويجله من أخذ عنه من فتيانهم ، ولكلامه تأثير فيهم ؛ فاذا آمن فلسوف يكون لذلك أثره ، ولسوف تلين قلوب كثيرة .. لا سيما وان معلمي الصبيان راغبون في الرياسة ، فاستصوب النبيّ (ص) ، وأبو طالب ذلك ، وشرح سلمان في دلالة الرجل ، وادخاله في الاسلام (١).

فلعل سلمان ـ كما تدل عليه هذه الرواية ، ويظهر من غيرها ـ كان في بدء

__________________

(١) راجع : نفس الرحمان ص ٤٨ عن بعض الكتب المعتبرة وص ٢٧/٢٨ عن كتاب الكشكول فيما جرى على آل الرسول للعبيدلي.

٤١

أمره في مكة واسلم هناك ، ثم انتقل إلى المدينة.

وعن تقدم اسلام سلمان ، نجد عدداً من الروايات تشير إلى ذلك (١). ومن ذلك : أن اعرابياً سأل النبيّ (ص) عنه فقال : أليس كان مجوسياً ، ثم أسلم؟! فقال (ص): يا أعرابي ، اُخاطبك عن ربي ، وتقاولني؟! إن سلمان ما كان مجوسياً ، ولكنه كان مضمراً للايمان ، مظهراً للشرك (٢).

__________________

(١) راجع : ذكر أخبار اصبهان ج ١ ص ٥١ وتهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ١٩٣ والبحار ص ٣٥٥ ـ ٣٥٩ ، واكمال الدين ص ١٦٢ ـ ١٦٥ وروضة الواعظين ص ٢٧٥ ـ ٢٧٨ والدرجات الرفيعة ص ٢٠٣ ونفس الرحمان ص ٥ ـ ٦ عن بعض من تقدم وعن غيرهم.

(٢) الاختصاص ص ٢٢٢ والبحار ج ٢٢ ص ٣٤٧ وقاموس الرجال ج ٤ ص ٤٢٩ ونفس الرحمان ص ٤.

٤٢
٤٣

الفصل الثالث

وعي .. ومسؤولية

٤٤
٤٥

بداية :

هناك الكثير من الروايات التي تؤكد ، على علم سلمان وفضله ، ومقامه الشامخ في الايمان ، والاسلام والمعرفة .. وعلى زهده ، وتقواه ، وعلى كريم خصاله ، وحميد فعاله ..

وهناك أيضاً أحداث ، وقضايا ، ومواقف كثيرة تثبت ذلك ، وتؤكده ، كما وتثبت بُعد نظره رحمه‌الله ، وثاقب فكره ، ونفاذ بصيرته ..

ولا نريد هنا : أن نستقصي ذلك كلّه بالدراسة والتحليل ، فانه أمر متعسر ، بل متعذر علينا فعلاً ، وإنما نريد ذكر نموذج من ذلك ، تذكرة لانفسنا ، ووفاء منا لحقيقة وللتاريخ ، ونترك سائر ذلك إلى جهد الباحثين ، وعناء الدارسين .. فنقول :

إذا اقتتل القرآن والسلطان :

قال سلمان لزيد بن صوحان : كيف أنت يازيد إذا اقتتل القرآن والسلطان؟!

قال : أكون مع القرآن.

قال : نعم الزيد أنت إذن (١) ..

__________________

(١) تهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ١٦.

٤٦

إن هذا النص يعطينا : أن سلمان قد وضع اصبعه على أمر دقيق. وهام للغاية ، وله دور أساس ورئيسي في تكوين شخصية الانسان المسلم ، وله تأثير مباشر ، وقوي فيما يتخذه من مواقف ، وفيما يقوم به من أعمال.

ثم هو يمس بالتالي ، مستقبل الامة الاسلامية ، ومصيرها ، ومستوى ومنطلق ونوع تعاملها في القضايا الكبرى ، التي تواجهها ، هذا .. عدا عن مساسه بالتركيبة السياسية ، التي لا بد وان تترك آثاراً كبيرة وعميقة على المجتمع المسلم ، وعلى جميع خصائصه ، وأوضاعه بصور عامة.

وذلك لان القاء نظرة فاحصة على حالات الناس وافكارهم ، وخصوصاً في تلك الفترة ، توضح لنا : أن الناس كانوا على حالات شتى.

ففريق منهم لا يرى الحق والخير ، إلا من خلال ذاته ، ونفسه ، فهو المعيار ، والميزان ، والمحور لذلك ، فمبقدار ما يجلب له نفعاً ، ويدفع عنه ضراً في هذه الحياة الدنيا ، فهو خير ، وحق ، وحسن ومقبول ، تجب نصرته على كل أحد ، ولا ضير في أن يضحي الآخرون بكل غالٍ ، ونفيس ، ـ حتى بأنفسهم ـ من أجله ، وفي سبيله .. شرط أن لا تصل النوبة إلى شخص هؤلاء بالذات ، لاُن المفروض هو أن المسؤولية ، كل المسؤولية ، تقع على عاتق الآخرون دونهم.

وهكذا .. فان القرآن والاسلام لا يمثل لهذا النوع من الناس شيئاً ، إلا بالمقدار الذي يتفق مع هذه النظرة ، ويحقق لهم هذه النتائج ، حتى إذا رأوا : أن مصالحهم الخاصة ومآربهم الشخصية تتعرض للخطر ، فان على القرآن ، والاسلام ، والحق أن يتراجع ، وأٌ يعترف بأنه مخطيء ، بل ومسرف في الخطأ ، وحيث لابد من احترام القرآن والاسلام ، فلا أقل من اتهام المسلمين ، والعلماء ، وغيرهم بالخطأ ، أو بتعمد الخطأ في فهمهما ..

وفريق آخر : يرى : أن الحق كل الحق دائماً في جانب القوي ، ومعه ؛ فلابد من اعطاء الحق لذي الحق مهما كلف الأمر ، ومهما تكن النتائج.

وذلك بسبب ضعف في نفوس هذا النوع من الناس ، وانهزام في ذواتهم

٤٧

وشخصياتهم ..

وفريق ثالث : قد احاط الحاكم بهالة من الاحترام والقداسة ، لا لشيء إلا لانه حاكم ومتسلط ، ويدين الله بالخضوع له ، والالتزام بأوامره ، والانتهاء إلى نواهيه ؛ وذلك لانه قد خدع بما حاول الحكام أن يشيعوه ، من أن سلطتهم سلطة إلهية ، مفروضة على الناس ، لا يمكن لهم الخلاص منها ، لان تلك هي ارادة الله سبحانه ومن هنا .. فإن الله سبحانه قد طلب من الناس أن يُدخلوا في عقائدهم وأحكامهم ، عقيدة عدم جواز الخروج على السلطان ، من كان ، ومهما كان ، لانه يمثل ارادة الله سبحانه على الاُرض ، فمعصيته ، والاعتراض عليه يوجب العقاب والعذاب الاُليم يوم القيامة .. بل لقد حاول البعض أن يقول : إنه ليس على السلطان ـ الخليفة ـ عذاب ولا عقاب يوم القيامة (١) ، مهما فعل من موبقات ، ومهما اقترف من جرائم.

وبعد ذلك كله .. فقد كان سلمان يعي وجود هذا التيارات المنحرفة في المجتمع الاسلامي ، ويعرف في المسلمين ما يعطي أن كثيراً منهم يتعامل مع الامور من خلال هذه النظرة ، أو النظرية ، أو تلك ..

وهو يعتبر : أن ذلك انحراف عن الخط الاسلامي القويم ، لان الاسلام يرفض: أن يعتبر الانسان نفسه وذاته كشخص محوراً للحق والباطل ، والخير والشر.

ويرفض أيضاً : أن يصبح الانسان المسلم على درجة من الضعف والانهزام ، إلى حدّ أن يعتقد : أن الحق للقوي ، ومعه ..

ويرفض كذلك تقديس الحاكم لمجرد كونه حاكماً ، فان القداسة ما هي إلا بالتزام طريق الاستقامة والتقوى ، والعمل الصالح ..

كما ويرفض أيضاً : نظرية الجبر الألهي ، في حاكمية الطغاة ، والجبارين ،

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٩ ص ٢٣٢.

٤٨

والمستبدين ، والمنحرفين ..

نعم .. إن سلمان يعي ذلك كله .. فينطلق من موقع المربي ، والمسؤول ، في محاولة اكتشاف أي خلل أو خطل حتى في مثل شخصية زيد الرجل العظيم ، والمتميز ، فيحاول أن يثير فكره ووعيه ، وان يرضده بدقة ليعرف إن كانت شخصيته قد تلوثت بهذه الاوبئة ، وتأثرت بهاتيك الانحرافات .. من أجل أن يعالجه بالدواء الناجع ، بعد معرفة الداء ، ان كان ..

التوازن في شخصية الانسان المسلم :

ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي يتعامل فيه سلمان مع اخوانه من موقع المربي والناصح والمسؤول ، فهناك مواقف كثيرة له ، لها هذا المنحى التربوي الهادف ، ولا نريد استقصاء ذلك في حياته رضوان الله تعالى عليه ..

بل نكتفي هنا بتسجيل حادثة واحدة له ، مع زيد بن صوحان ، ولعلها أيضاً ـ تكررت له مع أبي الدرداء ، حسبما ورد في بعض النصوص الاخرى.

فاننا نجد سلمان ـ قد اكتشف في زيد جنوحاً إلى العبادة ، والعزوف عن الدنيا بصورة تجاوز فيها حالة الاعتدال ، الامر الذي من شأنه أن يحدث خللاً ـ غير مسموح به ـ في تعامله مع ما ومن يحيط به .. ويفقد معه قسطاً كبيراً من حالة التوازن ، التي يفترض أن تكون قائمة في مجال الاستفادة من أعمال البر والخير ، بحيث لا يؤثر ذلك على تعامله مع جهات اُخرى لا بد له من تحقيق مستوى معين من التعامل معها ..

وواضح : أن مسألة التوازن مسألة حساسة وخطيرة ، تمس شخصية الانسان المسلم في العمق ، وترتبط بمجمل مواقفه ، وسلوكه ، وكل شؤون حياته. وان الاخلال بها معناه حدوث نقص في الدين ، لابد من التحرز منه ، والمبادرة الى تصحيحه قبل أن يتحول إلى كارثة حقيقية ..

نعم .. وقد أحس سلمان أيضاً : أن زيداً قد بدأ يتعامل مع العبادات

٤٩

الدينية تعاملاً قشرياً ، يجعله يستغرق بالحقحقة ، حتى يبتعد عن روح الشريعة ، ويحبس نفسه في قمقمٍ جدب ، ومقفل ؛ ويحرم نفسه من العيش في رحاب الله سبحانه ، فلا يوفق للانطلاقة الهادفة في آفاقه الرحبة ، الزاخرة بالعطاء ، الغنية بالمواهب.

نعم .. إن سلمان حينما أحسّ أن زيد بن صوحان يتعرض لهذا الخطر الاكيد ، ويوشك أن تزل به قدمه .. فانه من موقع المربي المشفق ، يعمل على تصحيح الخطأ ، واعادة الامور إلى نصابها ..

يقول النص التاريخي عن زيد :

إنه : « كان يقوم الليل ، ويصوم النهار ، وإذا كانت الجمعة أحياها ، وإنه ليكرهها إذا جاءت ، لما يلقى بها؛ فبلغ سلمان ما كان يصنع ، فأتاه ، فقال :

أين زيد؟ فقالت امرأته : ليس هاهنا.

قال : فاني أقسم عليك : لمّا صنعت طعاماً ، ولبست محاسن ثيابك.

ثم بعث إلى زيد ، فقرب إليه الطعام ، وقال له :

كل يا زيد.

فقال : إني صائم.

فقال : كل يازيد ، لا تنقص دينك ، إن شر السير الحقحقة ، إن لعينك عليك حقاً ، وإن لبدنك عليك حقاً ، وإن لزوجك عليك حقاً.

فأكل زيد ، وترك ما كان يصنع (١).

وقريب من ذلك يروى لسمان مع أبي الدرداء أيضاً (٢).

__________________

(١) تهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ١٥ وتاريخ بغداد ج ٨ ص ٤٣٩ وقاموس الرجال ج ٤ ص ٤٢٦ عنه.

(٢) راجع : حلية الاولياء ج ١ ص ١٨٨ واحياء علوم الدين ج ١ ص ٣٤٧ والاستيعاب بهامش الاصابة

٥٠

الارض لا تقدّس أحداً :

وفي مجال رفض المفاهيم الخاطئة ، ورفض التعامل مع القضايا الدينية تعاملاً قشرياً وسطحياً ، يفقدها مضمونها الرسالي العميق ، نجد لسلمان رحمه‌الله تعالى موقفاً آخر من أبي الدرداء أيضاً ..

فقد كتب أبو الدرداء إلى سلمان : أن هلم إلى الارض المقدسة ـ أي بلاد الشام ـ.

فكتب إليه سلمان يعلمه : أن الارض لا تقدس أحداً ، وإنما يقدس الانسان عمله (١).

واقعية زهد سلمان :

وقد يعتبر الكثيرون : أن الزهد معناه هو معاناة حالة من التقشف ، ومقاساة شظف العيش ، بصورة شاقة وقاسية.

ولكن سلمان الفارسي ـ الذي أدرك علم الاول والآخر ، إنما يريد أن يربي نفسه على الزهد الواقعي ، ويفرغ قلبه عن التفكير بالدنيا بصورة حقيقية ، ولا يريد أن يدخل في صراع مع نفسه ، ولو مرة واحدة ، بل هو يريد أن يجعلها تطمئن ، لينصرف بكل عقله وفكره ، وجوارحه ، وباستمرار إلى الله سبحانه ، لا يشغله شيء عنه سبحانه.

فكان إذا أخذ عطاءه رفع منه قوته لسنته ، حتى يحضر عطاءه من قابل.

فقيل له : أنت في زهدك! تصنع هذا!! وأنت لا تدري لعلك تموت اليوم ، أو غداً؟! ..

__________________

ج ٢ ص ٦٠/٦١ والمحجة البيضاء ج ٢ ص ٣٧٧/٣٧٨ وفي هامش عن صحيح البخاري ج ٢ ص ٦٣.

(١) تهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ٢٠٩ وراجع : المصنف لابن أبي شيبة ج ١٣ ص ٣١٨ و ٣٣١ و ٣٤٠.

٥١

فقال : ما لكم لا ترجون لي البقاء ، كما خفتم عليّ الفناء؟! أما علمتم : ـ يا جهلة ـ أن النفس قد تلتاث على صاحبها ، إذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه ؛ فإذا هي أحرزت معيشتها أطمأنت (١).

فهذا النص يؤكد لنا :

١ ـ أن سلمان لا يريد ولو لمرة واحدة : أن ينشغل بنفسه وينصرف عن الله سبحانه.

٢ ـ إنه يتعامل مع طموحات نفسه وميولها ، من موقع العارف والواعي ، الذي يفكر بعمق بالداء وبالدواء على حد سواء ، ويكون علاجه للحالة التي يعاني منها أساسياً وواقعياً ..

٣ ـ يلاحظ : أن المعترضين ـ يشهدون له بالزهد والعزوف عن الدنيا ، ولكنهم لم يعرفوا سر تعامله ذاك ، فوقعوا بالحيرة.

٤ ـ إنه قد الفتهم إلى خطأهم في طرح المعادلة التي بنوا عليها نظريتهم تلك وكان تقييمه لتلك المعادلة الفكرية قائماً على أساس النظرة الواقعية أيضاً ، لا على اساس المظاهر الخادعة ، والشعارات البراقة.

وهناك اُمور اُخرى يمكن استخلاصها من النص المذكور ، ولكننا لا نرى ضرورة للتعرض لها في عجالة كهذه .. فنكتفي بهذا القدر ، ونوفر الفرصة للحديث عن جوانب اُخرى ، في شخصية وحياة هذا الرجل الفذ.

هكذا ينجو المخفون :

عن كتاب المحاسن : وقع حريق في المدائن ؛ فأخذ سلمان مصحفه وسيفه ، وخرج من الدار ، وقال :

____________

(١) قاموس الرجال ج ٤ ص ٤٢٥/٤٢٦ عن الكافي

٥٢

« هكذا ينجو المخفون » (١).

و « قيل دخل عليه رجل؛ فلم يجد في بيته الا سيفاً ومصحفاً ، قال : ما في بيتك إلا ما أرى؟! قال : ان امامنا منزل كؤود ، وأنا قد قدمنا متاعنا إلى المنزل » (٢).

ومما يمكن اعتباره في هذا السياق ، ما روي بسند معتبر : عن أبي عبدالله عليه‌السلام ، قال :

« كان لعلي عليه‌السلام بيت ليس فيه شيء ، إلاّ فراش ، وسيف ، ومصحف ، وكان يصلي فيه ـ أو قال : كان يقيل فيه .. » (٣).

فلماذا السيف والمصحف ، دون سواهما ، يا ترى؟ ماذا نستوحي من ذلك؟ وكيف نستفيد العبرة منه؟!

سؤال لابد وان يراود أذهان الكثيرين!! وتتشوف نفوسهم إلى معرفة الجواب عنه ، بصور مقنعة ، ومقبولة.

ولسوف نحاول هنا معالجة الاجابة عنه ، رغم اقتناعنا بأن توفيته حقه ، تتطلب فرصة أوفر ، وتوفراً أتم .. ولكننا سوف نكتفي هنا بإشارة خاطفة ومحدودة ، تصلح لان تكون مدخلاً مناسباً للاجابة التامة والمقبولة ، فنقول :

إن الله سبحانه ، حينما أوجد هذا الكائن ، قد أراد له أن يكون إنسانأً بالدرجة الاولى ، ثم هو أراد له أن يكون حرّاً ..

فكل ما يتنافى مع هذه الإنسانية ، ومع تلك الحرية ، ويحدّ من فاعليتها ، يكون مناقضاً لفطرة الإنسان وغير منسجم معها ، ولا متوافق مع ما يريده الله سبحانه لهذا الانسان ..

__________________

(١) قاموس الرجال ج ٤ ص ٤٢٥ والدرجات الرفيعة ص ٢١٥ ونفس الرحمان ص ١٤٠ عن الانوار النعمانية.

(٢) الدرجات الرفيعة ص ٢١٥ ونفس الرحمان ص ١٤٠ عن الانوار النعمانية.

(٣) المحاسن للبرقي ٦١٢ والبحار ج ٧٣ ص ١٦١ والوسائل ج ٣ ص ٥٥٥.

٥٣

( والبحث عن هذه الحرية ، وحقيقتها ، وحدودها ، وضوابطها بنظر الاسلام ، دقيق ، وعميق ، وهام ، ولكن ليس محله هنا؛ فلابدّ من إحالة ذلك إلى فرصةٍ اخرى ، ومجال آخر ، إن شاء الله تعالى .. ).

وبالنسبة إلى الجانب الآخر نقول :

لقد بعث الله سبحانه الرسل ، وأنزل الكتب ؛ ليطهر الناس ، وليزكيهم ، ويربيهم من جهة .. وليعلمهم الكتاب والحكمة من جهة ثانية ..

ثم أنزل الحديد فيه بأس شديد ..

قال تعالى : في مقام بيان هذه العناصر : « .. هو الذي بعث في الاميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة » (١).

وقال : « لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وانزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب .. » (٢).

وعن دعوة ابراهيم واسماعيل ، قال تعالى : « ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم » » (٣).

وقال تعالى أيضاً : « لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين .. » (٤).

المرحلة الاولى :

إنه حينما يرسل الله سبحانه رسله إلى الناس؛ فان الناس يواجهونهم بالاستغراب ، والانكار؛ فتمس الحاجة إلى اظهار البينات ، المشار إليها في آية

__________________

(١) الجمعة ٢.

(٢) الحديد ٢٥.

(٣) البقرة ١٢٩.

(٤) آل عمران ١٦٤.

٥٤

سورة الحديد ، والحجج والبراهين الدامغة ، والقاهرة ، التي تثبت صحة ما يقولون ، سواء أكان ذلك من قبيل المعجزات ، وخوارق العادات أو من قبيل توجيه الناس نحو التفكر في عجائب الكون ، غرائب الخلقة ، أو من قبيل التذكير بأيام الله ، وبما جرى على الماضين ، أو بالبشارات التي تتحقق ، أو بغير ذلك من الحجج القاطعة ، والبراهين الساطعة ..

وهذه البينات تكون بمثابة صدمة قوية ، لابد وأن يذعن العقل معها للحق ، وينصاع له .. ولعل قسماً من هذه البينات تبينه الآيات التي يتلوها عليهم ، كما أشارت إليه آيات سورة الجمعة ـ والبقرة ، وآل عمران ، الآنفة الذكر ـ حيث قرن تعليم الكتاب بتلاوة الآيات الالهية عليهم ..

المرحلة الثانية :

وبعد .. أن يذعن العقل للحق ، ويأتي دور التزكية ، وبث الفضائل والمزايا الخيّرة ، والنبيلة في نفس الانسان ، ثم تصفيتها من الرواسب والشوائب ، وإقناع الانسان بأن عليه أن لا يستكبر ، ولا يعلو ، وأن لا يكون حقوداً ، ولا حريصاً ، ولا جباناً .. إلخ .. « ويزكيهم ».

فيبذر في نفسه بذور الخير ، والبركة ، والصلاح ، الامر الذي يهيؤه لمزيدٍ من الفهم ، ولمزيد من التعقيل والوعي لاحكام الدين وتشريعاته ويجعله على استعداد لان يبذل جهده في سبيل تطبيق هذه الاحكام على نفسه ويعمل ، ويجدّ ، ويتحمل المشاق لتطبيقها ، على مجتمعه ؛ فان الاخلاق هي أساس الدين ، ولابد للدين منها؛ وذلك لاُن عبادة الله سبحانه ، لا تتلاءم مع الاستكبار : « إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته » (١).

ولولا استكبار فرعون لكان آمن ، وقبل الحق .. وكذلك إبليس.

__________________

(١) الاعراف ٢٠٦.

٥٥

كما أن عبادة الله سبحانه ، لا تتلاءم مع سائر الرذائل الاخلاقية ، كالكذب ، والعلو ، والظلم ، والختر ، والمكر السيء ، وغير ذلك ..

فالذي لا يتخلص من رذائل الاخلاق ، وإن كان قد يستيقن بالحق؛ نتيجة لما يتلى عليه من الآيات ، ويراه من البينات الظاهرة ، والقاهرة ، ولكنه يكون من الجاحدين ، الذين قال الله عنهم : « وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً » (١).

ومما يشير إلى دور الاخلاق في قبول الحق ، والاذعان ، والتسليم له ، قوله تعالى :

« ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد ايمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق .. » (٢).

فقد قررت الآية دور الحسد في الصد عن قبول الحق الظاهر والبيّن لهم.

ثم تأتي المرحلة الثالثة :

وهي تعليم الكتاب ، ونشر معارفه ؛ عملاً بقوله تعالى : « يعلمهم الكتاب » ؛ وذلك من أجل أن يعطيه الرؤية الصحيحة ، والوعي الكافي لمعالجة مشكلات الحياة ، والقضايا التي تواجهه ، ويمنحه القدرة على تقييمها ، بصورة صحيحة وسليمة ، لكي ينطلق في مجال العمل عن وعي ، وعن معرفة تامة بما يريده الله سبحانه منه ؛ فيعمل بما يأمره به ، ويجتنب عما ينهاه الله عنه.

المرحلة الرابعة :

ثم تأتي مرحلة ، إثارة دفائن العقول ، والابتعاد عن الجمود ، واعطاء العقل دوره وأصالته ، بتعليم من الله سبحانه ، وفق الضوابط والقواعد الصحيحة ،

__________________

(١) النمل ١٤.

(٢) البقرة ١٠٩.

٥٦

والسليمة ، عملاً بقوله تعالى : « والحكمة » و « الميزان » ، الذي لعله تعبير آخر عن الحكمة ، التي تعني وضع الشيء في موضعه ، من غير زيادة ، ولا نقيصة ..

وذلك لانه لابد من التعامل مع الامور بروح الحكمة ، ولا سيما فيما يرتبط بالحياة الاجتماعية ، التي تحتاج ، إلى مزيد من الوعي ، وإلى التدبر ، ومن ثم إلى الموقف العادل والصحيح « ليقوم الناس بالقسط ».

ويلاحظ هنا : أنه قد نسب القيام بالقسط إلى الناس. وهذا القيام إنما هو النتيجة الطبيعية لوعيهم ، ولتكاملهم.

نعم .. إن التعامل مع الامور ، لابد أن يكون على أساس الحكمة ، التي تعني إدراك الواقع أولاً ، ثم التعامل معه بما يستحقه ، فلا يظلمه بأن يبخسه حقه ، ولا يعتدي عليه ، بأن يتخمه بالعطاء ، حتى يفسد حياته ، ويرهق وجوده ..

إنزال الحديد .. لماذا؟!

وطبيعي : أن قيام الناس بالقسط ـ كما أشارت إليه الآية ـ لسوف يصطدم بكثير من العقبات. ولسوف يلقى معارضة قوية وساحقة من قبل الطواغيت والجبارين ، والمستأثرين بمقدرات الامم.

ولسوف يصطدم أيضاً بأولئك الذين يكبلون الناس بمختلف أنواع القيود ؛ بهدف أن يبقى المجال مفسوحاً ، والباب مفتوحاً ، أمامهم لاستغلال الناس ، وامتصاص دمائهم ..

كما ويمنعونهم من ممارسة حرياتهم في مختلف الشؤون ، التي يرون أنها يمكن أن تؤثر على تلك الامتيازات الظالمة ، التي يجعلونها لانفسهم ، في مختلف مجالات الحياة.

فينزل الله سبحانه الحديد ، فيه بأس شديد ، ومنافق للناس؛ من أجل أن يصبح هذا الحديد سيفاً قاطعاً ، يدافع عن منجزات القرآن ، في صنعه لإنسانية الانسان ، ويؤمّن للانسان حريته ، التي جعلها الله سبحانه وتعالى له حريته في أن يفكّر ويقرر ، ثم في ممارسة حريته بالعمل طبق قناعاته وقراراته ، بتعليم من الله

٥٧

سبحانه ، ووفق شرائعه واحكامه.

ويكون هذا السيف ، هو الاداة لنصرة الانسان المؤمن ، واعطائه هويته الانسانية ، والذي هو في الحقيقة نصر لله سبحانه ، ولرسله بالغيب ؛ لان في ذلك نصراً لمبادىء الله سبحانه ، ولاهدافه ، وسننه في الكون ، وفي الحياة. وفيه أيضاً نصر لرسله ، في تحقيق الاهداف ، التي عملوا ، وجاهدوا ، وضحوا من اجلها ، بكل غال ونفيس.

فهل يمكن أن نستوحي من ذلك كله : خصوصية للسيف والمصحف في بيت علي عليه‌السلام ، وعند سلمان رحمه‌الله؟!

ففي المصحف الآيات البينات ، التي تحكي لنا ما جرى للماضين ، مما فيه عبرة وذكرى. وفيه الكثير من العظات ، والامثال ، والبشائر. وهو الذي يربي ، ويزكي ، وهو الذي يعلّم ، ويفهِّم. وهو الذي يثير دفائن العقول ، ويعلم الناس الحكمة .. وهو نفسه معجزة خالدة ، وآية بينة ، وتحدٍّ خالد ..

والسيف .. هو الحديد الذي فيه بأس شديد ، باستطاعته أن يحمي منجزات القرآن ، في صنع إنسانية الانسان ، وهو الذي يدافع عن حرية هذا الانسان ، وعن كرامته ، التي أكرمه الله تعالى بها.

وهكذا .. فاننا نستوحي من علي عليه‌السلام ، ومن سلمان : المغزى العميق للآيات القرآنية الشريفة ، دون أن ينبسا ببنت شفة ..

ويكون سلمان المحمدي غصناً من تلك الدوحة ـ دوحة الاسلام الباسقة ـ ويكون محمداً حقاً ، ومن أهل البيت صلوات الله وسلامه عليه وعليهم ..

سلمان يفسر لنا المراد من : الصحابي :

عن أبي البختري ، قال : جاء الاشعث بن قيس ، وجرير بن عبدالله البجلي إلى سلمان (رض) ؛ فدخلا عليه ، في خصّ ، في ناحية المدائن ؛ فأتياه ؛ فسلّما عليه ، وحيّياه ، ثم قالا : أنت سلمان الفارسي؟!

٥٨

قال : نعم.

قالا : أنت صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : لا أدري.

فارتابا ، وقالا : لعله ليس الذي نريد.

فقال لهما : أنا صاحبكما الذي تريدان. قد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجالسته ، وإنما صاحبه من دخل معه الجنة ؛ فما حاجتكما ... إلخ (١).

فاذا كان من الجائز أن لا يكون الاشعث وجرير قد تعرفا على سلمان قبل ذلك ، فان ما يلفت نظرنا هنا.

هو فهم سلمان للصحابي ، ونظرته إليه ؛ فهو يرى فرقاً واضحاً بين من يرى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويجالسه ، وبين صاحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنيسه ، فقد يراه ويجالسه ، حتى الكافر والمنافق ، فضلاً عن من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً ..

ولكن صاحبه الذي يأنس به ، ويرتاح إليه ، هو خصوص ذلك الذي تؤهله اعماله الصالحة لذلك ، في الدنيا والآخرة على حد سواء ..

وهذا لا ينسجم مع ما هو شائع ومعروف لدى البعض ، من أن الصحابي هو كل من رأى النبيّ مميزاً مسلماً ، حتى أنه لو ارتد لذهبت صحابيته ، فان عاد عادت ، كما يذكرونه عن طليحة بن خويلد ..

مهمّات كبيرة :

وبعد .. فان التاريخ قد ذكر لنا أشياء كثيرة ، تشير إلى أن سلمان الفارسي قد كانت له نشاطات ، واعمال على جانب كبير من الاهمية ..

فعدا عن أنه قد كان له موقف معارض في مسألة السقيفة ، التي انتجت

__________________

(١) حلية الاولياء ج ١ ص ٢٠١ تهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ٢٠٩ عن الحافظ والطبراني.

٥٩

عدم وصول الخلافة الى صاحبها الشرعي أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، رغم تأكيدات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن علياً هو وليّ الامر بعده ..

فانه ـ أعني سلمان ـ قد تولى على المدائن من قبل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بالذات ، واستمر والياً عليها سنوات كثيرة وإلى أن توفي رحمه‌الله ..

أضف إلى ذلك : أنه قد كُلّف باختيار موضع الكوفة ، ففعل ، وصلى فيه ركعتين ، ودعا بدعاء (١).

وعدا عن أنهم يقولون : إنه هو الذي أشار بحفر الخندق (٢) فانهم يقولون أيضاً : إنه حين رأى بعض مواضعه ضيقاً ، بحيث يمكن للخيل أن تثب عنه ، ويصل الاعداء إلى المسلمين. أمر بتوسعة ذلك الموضع منه ، حتى فوَّت الفرصة على المشركين (٣).

وقد نصب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منجنيقاً على الطائف ، اتخذها سلمان الفارسي ويقال أيضاً : إنه هو الذي اشار بنصبها (٤).

هذا كله .. بالاضافة إلى مشاركته في الغزو ، وافتتاحه بعض البلاد (٥).

وكان المسلمون قد جعلوه رائد الجيش ، وداعية أهل فارس (٦).

فرحم الله سلمان الفارسي ، وأسكنه من جناته أفسحها منزلاً ، وافضلها غرفاً ؛ إنه وليّ قدير.

__________________

(١) نور القبس ص ٢٣٢ وتاريخ الامم والملوك ج ٤ ص ٤١ و ٤٢.

(٢) راجع : أنساب الاشراف للبلاذري (قسم حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ج ١ ص ٣٤٣ ، وتاريخ الامم والملوك ج ٢ ص ٥٦٦ ومغازي الواقدي ج ٢ ص ٤٤٥ وقاموس الرجال ج ٤ ص ٤٢٤.

(٣) راجع : مغازي الواقدي ج ٢ ص ٤٦٥.

(٤) انساب الاشراف (قسم حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ج ١ ص ٣٦٦ و ٣٧٧ وراجع : قاموس الرجال ج ٤ ص ٤٢٩ عنه.

(٥) مسند أحمد ج ٥ ص ٤٤٤ و ٤٤٠ و ٤٤١ وحلية الاولياء ج ١ ص ١٨٩ وراجع : طبقات المحدثين باصبهان ج ١ ص ٢٣٥ وذكر أخبار اصبهان ج ١ ص ٥٥.

(٦) تاريخ الامم والملوك ج ٤ ص ١٤ وراجع ج ٣ ص ٤٨٩.

٦٠