سلمان الفارسي في مواجهة التحدّي

السيد جعفر مرتضى العاملي

سلمان الفارسي في مواجهة التحدّي

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٣

ثم التقى به (ص) في المدينة.

فقدم له ـ رطباً على أنها هدية ، فلاحظ : انه (ص) قد أكل منها هذه المرة ..

ثم التقى به (ص) في بقيع الغرقد ، وهو في تشييع جنازة بعض أصحابه ، فسلم عليه ، ثم استدار خلفه ؛ فكشف صلّى الله عليه وآله له عن ظهره ، فرأى خاتم النبوة ؛ فانكب عليه يقبله ويبكي ، ثم أسلم ، وأخبره بقصته (١).

ثم كان تحريره من الرق ، حسبما سيأتي.

نحن .. وحديث الاسلام هذا :

ويلاحظ هنا : أن سلمان لم يسلم بدافع عاطفي أو مصلحي ، ولم يسلم أيضاً استجابة لضغوط عليه ، أو لجو معين .. وإنما دخل في الاسلام عن قناعة فكرية خالصة ، وبعد أن هاجر في طلب الدين الحق ، ولاقى الكثير من المصاعب والمتاعب ، حتى ابتلي بالرق والعبودية .. مع أنه كان من أول الاُمر مظهراً للشرك مبطناً للايمان ، كما في بعض الروايات الآتية.

وذلك إن دلّ على شيء ، فانما يدل على أن التدين أمر فطري؛ وأنه مما يدعو له العقل السليم ، فعن هذا الطريق توصل سلمان إلى الايمان بالله ، وبأنبيائه ، وشرائعه.

متى تحرّر سلمان؟

ويقولون : إن تحرير سلمان من رق العبودية بصورة كاملة ، قد كان في

__________________

(١) مصادر هذا الذي ذكرناه كثيرة جداً ، وما سيأتي في هذا الفصل كله ، قد ذكر هذا الحديث ، فلا حاجة إلى ذكرها ، ومع ذلك نقول : راجع : الاصابة ج ٢ ص ٦٢ وقاموس الرجال ج ٤ ، والاستيعاب واسد الغابة ، والبحار ج ٢٢ ، ونفس الرحمان والمصنف لعبدالرزاق ج ٨ ص ٤١٨ وتاريخ الخميس والدرجات الرفيعة وروضة الواعظين ، ووو إلخ ..

٢١

أوّل السنة الخامسة من الهجرة النبوية الشريفة (١).

وذلك قبل وقعة الخندق ، التي يرى عدد من المؤرخين : أنها كانت سنة خمس ، في ذي القعدة منها (٢).

ولكننا بدورنا نقول :

إن ذلك مشكوك فيه من ناحيتين :

الاولى : في تاريخ وقعة الخندق.

والثانية : في تاريخ عتق سلمان ..

تاريخ غزوة الخندق :

فأما بالنسبة للناحية الاولى ، اعني تاريخ الخندق؛ فاننا نقول :

١ ـ لو سلم : أنها كانت في السنة الخامسة فإن مجرد ذلك لا يكفي ، في تعيين زمان عتقه على النحو المذكور ، إذ قد يكون العتق قد تم بعد أحد بأشهر يسيرة ، في السنة الرابعة مثلاً ، ثم حضر الخندق ، بعد ذلك بسنة ، أو أكثر ، أو أقل.

٢ ـ لقد جزم البعض بان الخندق كانت في سنة أربع ، وصححه النووي في الروضة ، وفي شرحه لصحيح مسلم (٣).

__________________

(١) الثقات ج ١ ص ٢٥٧ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٥٢ و ٤٦٨.

(٢) راجع : البداية والنهاية ج ٤ ص ٥٣ وتاريخ الاُمم والملوك للطبري ط الاستقامة ج ٢ ص ٣٣٣ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٧٨ وتاريخ الخميس ج ١ ص ١٧٩ والمحبر ص ١١٣ وفتوح البلدان ج ١ ص ٢٣ ، وليراجع : صفة الصفوة ج ١ ص ٤٥٥ ـ ٤٥٩ ومختصر التاريخ لابن الكازروني ص ٤٢ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢٨ وشذرات الذهب ج ١ ص ١١ والتنبيه والاشراف ص ١١٥ والبدء والتاريخ ج ٤ ص ٢١٦ ومغازي الواقدي ج ٢ ص ٤٤٠ و ٤٤١ والمصنف للصنعاني ج ٥ ص ٦٧ وطبقات ابن سعد ج ٢ قسم ١ ص ٤٧ قسم ١ ص ٦٠ وتاريخ بغداد ج ١ ص ١٧٠ ، وانساب الاشراف ج ١ ( قسم حياة النبيّ « ص » ) ص ٣٤٣.

(٣) مجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٤٥ وتهذيب الكمال ج ١٠ ص ٣١ والجامع لابن أبي زيد القيرواني

٢٢

بل لقد قال ولي الدين العراقي عن غزوة الخندق : « المشهور أنها في السنة الرابعة للهجرة » (١).

وقال عياض : « ان سعد بن معاذ مات إثر غزوة الخندق ، من الرمية ، التي أصابته ، وذلك سنة أربع باجماع أهل السير ، إلا شيئاً قاله الواقدي » (٢).

فقوله : « باجماع أهل السير » يحتمل رجوعه إلى سنة أربع ، فيكون قد ادعى الاجماع على كون الخندق في سنة أربع ، ويحتمل رجوعه إلى موت سعد بن معاذ بعد الخندق ، وتكون كلمة « وذلك سنة أربع » معترضة ، ولا تعبر إلا عن رأيه ..

ومما يدل على أن الخندق قد كانت سنة أربع :

١ ـ أنهم يذكرون بالنسبة لزيد بن ثابت : أن أباه قتل يوم بعاث وهو ابن ست سنين ، وكانت بعاث قبل الهجرة بخمس سنين (٣) وقدم النبيّ (ص) المدينة ، وعمر زيد احدى عشرة سنة (٤).

__________________

ص ٢٧٩ وراجع : فتح الباري ج ٧ ص ٣٠٢ والمحبر ص ١١٣ وعنوان المعارف في ذكر الخلائق ص ١٢ والمناقب لابن شهرآشوب ج ٤ ص ٧٦ وشرح صحيح مسلم للنووي ، بهامش ارشاد الساري ج ٨ ص ٦٤ ونقله في وفاء الوفاء ج ١ ص ٣٠٠ وفي تاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦٠ عن النووي في الروضة ، وأصر عليه ابن خلدون في كتابه : العبر ، وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ قسم٢ ص ٢٩ و ٣٣ وراجع : صحيح البخاري ج ٣ ص ٢٠.

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٠ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٠.

(٢) شرح صحيح مسلم للنووي ، بهامش ارشاد الساري ج ١٠ ص ٢٢٦ وفتح الباري ج ٨ ص ٣٦٠.

(٣) تهذيب الكمال ج ١٠ ص ٢٧ و ٣٠ ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٤٢١ وراجع : شذرات الذهب ج ١ ص ٥٤ ، وتهذيب تاريخ دمشق ج ٥ ص ٤٤٩.

(٤) مجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٤٥ عن زيد نفسه. وتهذيب التهذيب ج ٣ ص ٣٩٩ والثقات ج ٣ ص ١٣٦ وصفة الصفوة ج ١ ص ٧٠٤ وسير اعلام النبلاء ج ٢ ص ٤٢٧/٤٢٨ وتهذيب الكمال ج ١٠ ص ٢٥ و ٢٧ وتهذيب الاسماء ج ١ ص ٢٠٠/٢٠١ والاستيعاب بهامش الاصابة ج ١ ص ٥٥١ وشذرات الذهب ج ١ ص ٥٤ وتهذيب تاريخ دمشق ج ٥ ص ٤٤٩.

٢٣

ثم يقولون : إن أول مشاهد زيد الخندق (١) ، لاُن النبيّ (ص) قد أجازه يوم الخندق (٢) وهو ابن خمس عشرة سنة (٣).

والخندق إنما كانت في شوال سنة أربع (٤).

ويروى عن زيد قوله : أجازني رسول الله (ص) يوم الخندق ، وكساني قبطية (٥).

وعنه : اُجزت يوم الخندق ، وكانت وقعة بعاث وأنا ابن ست سنين (٦).

وعنه : لم أجز في بدر ، ولا في اُحد ، وأُجزت في الخندق (٧).

وتوفي زيد سنة ثمان واربعين ، وسنه تسع وخمسون سنة (٨). وقال الواقدي : مات سنة خمس وأربعين وهو ابن ست وخمسين سنة (٩) وذلك يؤيّد ما قلناه.

وقد استدل النووي ، وابن خلدون ، وربما يظهر ذلك من البخاري على : أن غزوة الخندق قد كانت سنة أربع (١٠) بانهم قد أجمعوا على أن حرب اُحد ، كانت

__________________

(١) تهذيب الكمال ج ١٠ ص ٣٠ و ٣١ ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٤٢١ ، وتذكرة الحفاظ ج ١ ص ٣٠ وشذرات الذهب ج ١ ص ٥٤ وتهذيب تاريخ دمشق ج ٥ ص ٤٤٩ وراجع : تهذيب ج ٣ ص ٣٩٩ عن الواقدي ..

(٢) تهذيب تاريخ دمشق ج ٥ ص ٤٤٦ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٤٥ وتهذيب الكمال ج ١٠ ص ٣١.

(٣) تهذيب الكمال ج ١٠ ص ٣٠ و ٣١ ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٤٢١ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣١.

(٤) مجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٤٥ وتهذيب الكمال ج ١٠ ص ٣١ وتقدمت طائفة اُخرى من المصادر.

(٥) سير اعلام النبلاء ج ٢ ص ٤٣٢ وفي هامشه عن الطبراني ، وتهذيب الكمال ج ١٠ ص ٢٩ وتهذيب تاريخ دمشق ج ٥ ص ٤٤٩.

(٦) سير اعلام النبلاء ج ٢ ص ٤٣٣ ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٤٢١ وتهذيب تاريخ دمشق ج ٥ ص ٤٤٩ وتهذيب الكمال ج ١٠ ص ٣٠.

(٧) الاصابة ج ١ ص ٥٦١.

(٨) مجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٤٥ وتهذيب الكمال ج ١٠ ص ٣١.

(٩) صفة الصفوة ج ١ ص ٧٠٤/٧٠٥.

(١٠) راجع : فتح الباري ج ٧ ص ٣٠٢ وشرح صحيح مسلم ( بهامش ارشاد الساري ) ج ٨ ص ٦٤ والعبر ، وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ قسم ٢ ص ٢٩ و ٣٣ وراجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٠

٢٤

سنة ثلاث ، ولم يجز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن عمر أن يشترك فيها؛ لاُن عمره كان أربع عشرة سنة ، ثم أجازه في وقعة الخندق؛ لاُنّه كان قد بلغ الخامسة عشرة (١) ؛ فتكون الخندق بعد اُحد بسنة واحدة ..

وقد حاول البعض الاجابة على ذلك بطرح بعض الاحتمالات البعيدة ، وقد أجبنا عنها في كتابنا : « حديث الإفك » ص ٩٦ ـ ٩٩؛ فليراجعه من أراد ..

ومهما يكن من أمر؛ فان احتمال أن يكون تحرر سلمان من الرق قد تم قبل السنة الخامسة من الهجرة ، يصبح على درجة من القوة ..

وأما بالنسبة لتحديد.

تاريخ الحريّة

فإننا نكاد نطمئن إلى أنه قد تحرر في السنة الاولى من الهجرة .. بل لقد ورد في بعض الروايات ما يدل على أنه قد اعتق في مكة (٢).

ويدل على تحرره في السنة الاولى :

١ ـ أن روايات عتقه يدل عدد منها على أنه قد اعتق عقيب اسلامه بلا فصل ، وهو إنما اسلم ـ أو فقل : أظهر اسلامه ـ في السنة الاولى من الهجرة (٣).

__________________

والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٠ وصحيح البخاري ج ٣ ص ٢٠ ط سنة ١٣٠٩ هـ. فانه نقل في عنوان الباب : عن موسى بن عقبة : أن الخندق كانت سنة أربع.

(١) سنن ابن ماجة ج ٢ ص ٨٥٠ ومسند الامام أحمد بن حنبل ج ٢ ص ١٧ ، وصحيح البخاري ج ٣ ص ٢٠ وج ٢ ص ٦٩ وصحيح مسلم ج ٦ ص ٣٠ ، والمصنف لعبد الرزاق الصنعاني ج ٥ ص ٣١٠/٣١١ وطبقات ابن سعد ج ٤ ص ١٠٥ وأنساب الاشراف ( قسم حياة النبيّ « ص » ) ج ١ ص ٣٤٣/٣٤٤ باضافة كلمة : واشف منها ، والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٠.

(٢) راجع : مستدرك الحاكم ج ٣ ص ٦٠٣/٦٠٤ وغيره وستأتي رواية اُخرى تدل على أنه كان هو المشير بدعوة أبي بكر إلى الاسلام.

(٣) راجع : نفس الرحمان ص ٢٠ ، وهو ظاهر ان لم يكن صريح الرواية التي ذكرها ص ٥ ـ ٦

٢٥

٢ ـ قد صرح البعض ـ كتاريخ گزيدة ـ بأن الرسول (ص) قد اشتراه في السنة الاولى من هجرته (١).

وسيأتي التصريح بذلك عن الشعبي ، وعن بريدة .. وذلك حين الكلام على كونه من موالي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..

٣ ـ ومما يدل على أن سلمان قد تحرر في أول سني الهجرة.

كتاب النبيّ (ص) في مفاداة سلمان :

حيث يقولون : إن النبيّ (ص) قد أملى كتاب مفاداة سلمان على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وهو و ـ والنص لابي نعيم ـ كما يلي :

هذا ما فادى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محمّد بن عبدالله ، رسول الله ، فدى سلمان الفارسي من عثمان بن الاُشهل اليهودي ، ثم القرظي ، بغرس ثلاثمائة نخلة ، وأربعين أوقية ذهب ؛ فقد برىء محمّد بن عبدالله رسول الله لثمن سلمان الفارسي ، وولاؤه لمحمّد بن عبدالله رسول الله ، وأهل بيته ، فليس لاُحد على سلمان سبيل.

شهد على ذلك : أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وحذيفة بن اليمان ، وأبو ذر الغفاري ، والمقداد بن الاسود ، وبلال مولى أبي بكر ، وعبدالرحمان بن عوف ، رضي الله عنهم.

وكتب علي بن أبي طالب الاثنين في جمادى الاولى ، مهاجر محمّد بن عبدالله رسول الله (ص).

__________________

واعتبرها أصح الروايات ، وهي موجودة في اكمال الدين ص ١٦٢ ـ ١٦٥ وفي روضة الواعظين ص ٢٧٥ ص ٢٧٨ والبحار ج ٢٢ ص ٣٥٥ ـ ٣٥٩ والدرجات الرفيعة ص ٢٠٣ ونقلها النوري أيضاً عن : الدر النظيم ، وعن قصص الانبياء للراوندي ، وعن الحسين بن حمدان.

(١) نفس الرحمان ص ٢٠.

٢٦

وقد ذكرت بعض المصادر هذا الكتاب من دون ذكر الشهود (١).

تأمّلات في الكتاب :

« قال الخطيب : في هذا الحديث نظر ، وذلك أن أول مشاهد سلمان مع رسول الله (ص) غزوة الخندق ، وكانت في السنة الخامسة من الهجرة ، ولو كان يخلص سلمان من الرق في السنة الاولى من الهجرة ، لم يفته شيء من المغازي مع رسول الله (ص).

وأيضاً .. فان التاريخ بالهجرة لم يكن في عهد رسول الله (ص) ، وأول من أرخ بها عمر بن الخطاب في خلافته » (٢).

وقال العلامة المحقق الاحمدي : « وأما الشهود فان فيهم أبا ذر الغفاري (ره) وهو لم يأت المدينة إلا بعد خندق ، مع أن صريح الكتاب : أن ذلك كان في السنة الاولى من الهجرة.

وتوصيف أبي بكر بالصديق يخالف رسوم كتب صدر الاسلام » (٣).

قال هذا حفظه الله بعد أن ذكر : أن الخطيب قد تنظر في الكتاب ، وأنه لم يذكر الشهود.

كما وذكر حفظه الله أن ابن عساكر ونفس الرحمان لم يذكرا الشهود أيضاً (٤).

____________

(١) ذكر أخبار اصفهان ج ١ ص ٥٢ ، وتاريخ بغداد ج ١ ص ١٧٠ وتهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ١٩٩ ومجموعة الوثائق السياسية ص ٣٢٨ عن الاولين وعن جامع الآثار في مولد المختار ، لشمس الدين محمّد بن ناصر الدين الدمشقي وطبقات المحدثين باصبهان ج ١ ص ٢٢٦/٢٢٧ ، ونفس الرحمان في فضائل سلمان ص ٢٠/٢١ ، عن تاريخ گريدة ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤٠٩ من أكثر من تقدم ، وقال : « وأوعز اليه في البحار عن الخرائج ».

(٢) تاريخ بغداد ج ١ ص ١٧٠.

(٣) مكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤١٠.

(٤) المصدر السابق.

٢٧

الردّ على الشكوك المشار إليها

ونقول :

إنّ لنا هنا ملاحظات .. سواء بالنسبة لما ذكره الخطيب ، أو بالنسبة لما ذكره العلامة الأحمدي ..

فأما بالنسبة إلى ما ذكره الخطيب فنشير إلى ما يلي :

أولاً : قوله : إن مشاهد سلمان الخندق ، وذلك ينافي ما ورد في الكتاب من أنه قد كوتب في السنة الاولى للهجرة ..

هذا القول .. لا يصح ؛ وذلك لما يلي :

١ ـ إن من الممكن أن يتحرر في أول سني الهجرة ، ثم لا يشهد أياً من المشاهد ، لعذرٍ مّا ، قد يصل إلينا ، وقد لا يصل ..

٢ ـ إن مكاتبته في السنة الاولى لا تستلزم حصوله على نعمة الحرية فيها مباشرةً ، إذ قد يتأخر في تأدية مال الكتابة ، فتتاخر حريته .. وإن كنا قد ذكرنا آنفاً : أن سلمان لم يكن كذلك ، بدليل نفس ما ورد في ذلك الكتاب الآنف الذكر ، وأدلة اُخرى .. ولكننا نريد أن نقول للخطيب : إن ما ذكرته ليس ظاهر اللزوم في نفسه ، ولا يصح النقض به ، مجرداً عن أي مثبتات اُخرى ، كما يريد هو أن يدعيه ..

٣ ـ إن البعض قد ذكر : أن سلمان قد شهد بدراً واُحداً أيضاً (١).

ويظهر من سليم بن قيس عدّ سلمان في جماعة أهل بدر (٢).

__________________

(١) الاستيعاب ج ٢ ص ٥٨ بهامش الاصابة. وراجع : الاصابة ج ٢ ص ٦٢ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٨ ص ٣٥ والبحار ج ٢٢ ص ٣٩٠ وتهذيب التهذيب ج ٤ ص ١٣٩ والدرجات الرفيعة ص ٢٠٦ ونفس الرحمان ص ٢٠.

(٢) راجع سليم بن قيس ص ٥٢ ، ونفس الرحمان ص ٢٠ عنه.

٢٨

ولعل هذا يفسر لنا سبب فرض عمر له ، خمسة آلاف ، الذي هو عطاء أهل بدر (١).

وقد حاول البعض : أن يقول : إن مراد القائلين بحضوره بدراً : أنه حضرها وهو عبد ، ومراد القائلين بأنه قد شهد الخندق فما بعدها : ولم يحضر بدراً أنه لم يحضرها وهو حر (٢).

ونقول : إن هذا جمع تبرعي ، لا يرضى به لا أولئك ، ولا هؤلاء ، لان مدار النفي والاثبات هو أصل الحضور والشهود ، من دون نظر إلى الحرية ، والعبودية ، ولذا تجد في بعض العبارات المنقولة التعبير بأنه : لم يفته مشهد بعد الخندق ، فانه يكاد يكون صريحاً في فوات بعض المشاهد ، قبل ذلك ..

وثانيا : قول الخطيب: ان التاريخ الهجري لم يكن في عهد الرسول ، وأن عمر بن الخطاب هو أول من أرّخ به.

لا يمكن قبوله ، فقد أثبتنا في كتابنا : الصحيح من سيرة النبيّ (ص) : أن النبيّ هو واضع التاريخ الهجري ، وقد أرّخ به هو نفسه (ص) أكثر من مرة ، وهذا الكتاب يصلح دليلاً على ذلك أيضاً.

وأما بالنسبة لكلام العلامة البحاثة الاُحمدي ، فنحن نشير إلى ما يلي:

أ : قوله : إن الحطيب ، وابن عساكر ، ونفس الرحمان لم يذكروا الشهود ، ليس في محله ، كما يعلم بالمراجعة.

ب : إن ما ذكره حول توصيف أبي بكر بالصديق .. صحيح ، وقد تحدثنا في كتابنا : الصحيح من سيرة النبيّ الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ج ٢ ص ٢٦٣ ـ ٢٦٨ : أن تلقيبه بهذا اللقب ، لا يصلح لا في الاسراء والمعراج ، ولا في

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ٢١٥ وراجع ج ١٨ ص ٣٥ وذكر أخبار أصبهان ج ١ ص ٤٨ والاستيعاب بهامش الاصابة ج ٢ ص ٥٨ وقاموس الرجال ج ٤ ص ٤٢٤ وتاريخ الامم والملوك ج ٣ ص ٦١٤.

(٢) راجع : نفس الرحمان ص ٢٠ وراجع: تاريخ الامم والملوك ج ٢ ص ٥٦٦.

٢٩

أول البعثة ، ولا في قضية الغار ، حسب اختلاف الدعاوى .. وذكرنا هناك : أن الظاهر : هو أن اللقب قد خلع عليه بعد وفاة النبيّ (ص) بمدة ليست بالقصيرة.

ونضيف إلى ذلك : أنه إن كان أبو بكر نفسه قد كتب هذه الكلمة على كتاب عتق سلمان ، فنقول :

إن من غير المألوف : أن يطلق الانسان على نفسه القاب التعظيم والتفخيم ، بل إن الانسان العظيم ، الذي يحترم نفسه ، يعمد في موارد كهذه إلى اظهار التواضع ، والعزوف عن الفخامة والابهة.

وإن كان الآخرون هم الذين اطلقوا عليه لقب « الصديق » ، وأضافوه إلى الكتاب من عند أنفسهم ، تكرماً وحباً ، ورغبة في تعظيمه ، وتفخيمه ..

فذلك يعني : أنهم قد تصرفوا بالكتاب ، وأضافوا إليه ما ليس منه ، دون أن يتركوا أثراً يدل على تصرفهم هذا ، وهو عمل مدان ، ومرفوض ، إن لم نقل : انه مشين ، لاسيما وأنهم اهملوا صديقه عمر بن الخطاب ؛ فلم يصفوه بالفاروق ، كما وأهملوا غيره أيضاً ..

ولا يفوتنا التذكير هنا : بأن النوري قد أورد الكتاب في : نفس الرحمان ، عن : تاريخ گزيده وليس فيه وصف أبي بكر بـ « الصديق » ، بل وصفه بـ « ابن أبي قحافة » وهو الانسب ، والأوفق لظاهر الحال.

ج : وأما قولهم : ان أبا ذر لم يكن قد قدم المدينة حينئذٍ؛ لاُنه إنما قدمها بعد الخندق.

فاننا نقول : المراد : أنه انما قدمها مستوطنا لها بعد الخندق. أما قبل ذلك ، فلعله قدمها للقاء رسول الله (ص) ، أو لبعض حاجاته ؛ فصادف كتابة هذا الكتاب ؛ فشهد عليه ، ثم عاد إلى بلاده. وثمة رواية اُخرى ، تشير إلى حضوره (١) ؛ فلتراجع.

__________________

(١) راجع : البحار ج ٢٢ ص ٣٥٨ واكمال الدين ج ١ ص ١٦٤/١٦٥ وروضة الواعظين ص ٢٢٧٦ ـ ٢٧٨

٣٠

د : اضف إلى ذلك : أن وصف بلال بأنه مولى أبي بكر ، قد يكون من تزيُّد الرواة أيضاً؛ إذ قد ذكرنا في كتابنا : الصحيح من سيرة النبيّ الاعظم ج ٢ ص ٣٤ ـ ٣٨ : أن بلالا لم يكن مولى لابي بكر ..

وأخيرا .. فان مما يدل على أن الرواة والكتّاب قد زادوا شيئاً من عند أنفسهم : إضافة عبارة : « رضي الله عنهم » إلى الشهود ؛ إذ لا شك في أن ذلك قد حصل بعد كتابة ذلك الكتاب. بل ويحتمل أن يكون الشهود جميعاً قد اضيفوا بعد ذلك ، وإن كان هذا احتمالاً بعيداً جداً ..

حديث الحرية .. بطريقة اُخرى :

وقد جاء في بعض الروايات : أن الرق قد شغل سلمان ، حتى فاته بدر واُحد ، حتى قال له رسول الله (ص) : كاتب يا سلمان ، فكاتب سيده على ثلاث مائة نخلة ( وقيل : على مائة وستين فسيلة ، وقيل خمس مائة وقيل على مائة فقط ، وو ) يحيها له ، وأربعين اوقية من ذهب.

فقال رسول الله (ص) : اعينوا أخاكم بالنخل.

فاعانه اصحاب النبيّ (ص) بالخمس والعشر ، حتى اجتمعت عنده ؛ فأمره (ص) أن يفقّر لها ، ولا يضع منها شيئاً حتى يكون النبيّ (ص) هو الذي يضعها بيده ؛ ففعل ، فجاء رسول الله (ص)؛ فغرسها بيده ؛ فحملت من عامها.

وقال (ص) له : إذا سمعت بشيء قد جاءني؛ فأتني ، أغنيك بمثل ما بقي من فديتك. فبينا رسول الله (ص) ذات يوم في اصحابه ، إذ جاء رجل من أصحابه بمثل البيضة من ذهب. فقال (ص) : ما فعل الفارسي المكاتب؟.

فدعي له سلمان ؛ فقال : خذ هذه ؛ فأدّبِها ما عليك يا سلمان ..

__________________

والدرجات الرفيعة ص ٢٠٣ عن اكمال الدين ، ونفس الرحمان ص ٦ ص ٢٢ عن الحسين بن حمدان وص ٥ وصححها عن اكمال الدين ، وعن الراوندي في قصص الأنبياء ، وعن روضة الواعظين ، وعن الدر النظيم.

٣١

إلى أن تقول الرواية : فأخذها ، فأوفى منها حقهم كله : أربعين اوقية (١) ، وفي بعض المصادر : أنه بقي منها مثل ما أعطاهم.

وأعتق سلمان ، وشهد الخندق ، ثم لم يفته معه مشهد (٢).

مناقشات لا بدّ منها :

إننا نشك في بعض ما جاء في هذه الرواية :

١ ـ لانها تقول : إنه هو الذي كاتب سيده ، واعانه الصحابة على أداء دينه ، واعانه الرسول أيضاً بالذهب ..

مع أن صريح كتاب المفاداة : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي أدى جميع ما على سلمان ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد اشتراه ، واعتقه ، وأن ولاءه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأهل بيته .. وقد دلت على ذاك نصوص اخر ستأتي إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) الاوقية : وزن أربعين درهما ..

(٢) راجع : الثقات ج ١ ص ٢٥٦/٢٥٧ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٨ وحلية الاولياء ج ١ ص ١٩٥ وتاريخ بغداد ج ١ ص ١٦٩ ( وراجع ص ١٦٣ و ١٦٤ ) وطبقات المحدثين باصبهان ج ١ ص ٢٠٩ ـ ٢٢٢ ودلائل النبوة لابي نعيم ص ٢١٣ ـ ٢١٩ وسيرة ابن هشام ج ١ ص ٢٢٨ ـ ٢٣٦ ط ليدن ، واسد الغابة ج ٢ ص ٣٣٠ وطبقات ابن سعد ج ٤ قسم ١ ص ٥٦ ـ ٥٨ والشفاء لعياض ج ١ ص ٣٣٢ وشرح الشفاء للقاري ج ١ ص ٣٨٤ وتهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ١٩٧ ـ ١٩٩ عن أبي يعلى ، والمصنف للصنعاني ج ٨ ص ٤١٨ و ٤٢٠ وتهذيب الاسماء ج ١ ص ٢٢٧ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٣٥ ـ ٣٣٧ و ٣٤٠ وقاموس الرجال ج ٤ ص ٤٢٧ و ٤٢٨ وانساب الاُشراف ( سيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) ج ١ ص ٤٨٧ و ٤٨٦ والبحار ج ٢٢ ص ٢٦٥ و ٣٦٧ و ٣٩٠ وشرح النهج للمعتزلي الحنفي ج ١٨ ص ٣٥ وص ٣٩ والاستيعاب بهامش الاصابة ج ٢ ص ٥٧ وصفة الصفوة ج ١ ص ٥٣٢/٥٣٣ عن أحمد ، وفي هامشه عن ابن هشام وعن الطبراني في الكبير ، وعن الخصائص للسيوطي ج ١ ص ٤٨ عن دلائل البيهقي ، ونفس الرحمان ص ١٢ و ١٦ عن قصص الانبياء للراوندي وعن المنتقى للكازروني وعن السيرة الحلبية ، وعن سيرة ابن هشام وراجع : مسند أحمد ج ٥ ص ٤٣٨ و ٤٣٩ و ٤٤٠ ٤٤١ ـ ٤٤٤.

٣٢

٢ـ إن كونه قد اُعتق في السنة الخامسة ، أو الرابعة ، مشكوك فيه ايضاً ، وقد قدمنا بعض ما يرتبط بذلك وأنه قد اُعتق في أول سني الهجرة ..

٣ـ قول الرواية : انه قد فاته بدر واُحد .. قد عرفنا : أنه أيضاً غير مسلم ، فقد قيل : انه حضرهما أيضاً ..

أضف إلى ذلك : ان رواية ابن الشيخ تنص على أنه قد أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه قد كاتب سيده ، فور اسلامه ، حين مجيء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة مباشرة (١).

كما أن القول بأن الصحابة قد اعانوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أداء دينه فيما يرتبط بفداء سلمان .. هو الآخر لا يصح ، إذ قد كان على الرواي أن يقول ذلك ، ويصرح به ، وكان على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن يطلب منهم أن يعينوه هو ، لا أن يعينوا أخاهم سلمان ، كما هو صريح الرواية ..

الرواية الاقرب إلى القبول :

ولعل الرواية الاقرب إلى القبول هي : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غرس النوى ، وكان علي عليه‌السلام يعينه ؛ فكان النوى يخرج فوراً ، ويصير نخلاً ، ويطعم بصورة اعجازية له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

كما ظهرت معجزته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في وزن مقدار أربعين اُوقية ذهباً ، من حجر صار ذهباً (٢) أو من مثل البيضة أيضاً ، أو من مثل البيضة أيضاً ، أو من مثل وزن نواة.

* * *

__________________

(١) طبقات المحدثين باصبهان ج ١ ص ٢١٥.

(٢) نفس الرحمان ص ٢١ والبحار ج ٢٢ ص ٣٦٧ والخرايج والجرايح ج ١ ص ١٤٤ وذكر غرس النوى في حديث آخر ، فراجع : روضة الواعظين ص ٢٧٨ والبحار ج ٢٢ ص ٣٥٨ واكمال الدين ص ١٦٥ والدرجات الرفيعة ص ٢٠٣ ونفس الرحمان ص ٦ عن بعض من تقدم ، وعن قصص الانبياء للراوندي ، وعن الحسين بن حمدان ، وعن الدر النظيم.

٣٣

النخلة التي غرسها عمر :

ونجد في بعض المصادر : أن عمر بن الخطاب قد شارك في غرس نخلة : واحدة ، ولكنها لم تعش ، فانتزعها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغرسها بيده ، فحملت (١).

وفي رواية اُخرى : أن التي لم تعش كان سلمان هو الذي غرسها (٢).

أما عياض ، فلم يسم أحداً ، وان كان قد ذكر غرس غيره أيضاً (٣).

ولعلها كانت فسيلةً حاضرةً لدى عمر ، أو سلمان ، فأحب المشاركة في هذا الامر ، فغرسها ، ولعله غرس نواةً ، كانت في حوزته ، وإن كانت الروايات قد صرحت بالاُوّل لا بالنواة .. فيتعين ذلك الاحتمال ..

وقد حاول العبض الجمع بين الروايتين المشار إليهما ، أعني رواية غرس عمر للنخلة التي لم تعش ، ورواية غرس سلمان لتلك النخلة :

بأن من الممكن أن يكونا ـ عمر وسلمان ـ قد اشتركا في غرسها ، فصح نسبة ذلك لهذا تارة ، ولذاك اُخرى (٤).

__________________

(١) مجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٣٧ عن أحمد ، والبزار ، ورجاله رجال الصحيح ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٨ وشرح النهج للمعتزلي الحنفي ج ١٨ ص ٣٥ والاستيعاب بهامش الاصابة ج ٢ ص ٥٨ وقاموس الرجال ج ٤ ص ٢٢٧ وتهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ١٩٨/١٩٩ وشرح الشفاء لملا علي القاري ج ١ ص ٣٨٤ ومزيل الخفاء ، في شرح الفاظ الشفاء ( مطبوع بهامش الشفاء نفسه ) ج ١ ص ٣٣٢ والبحار ج ٢٢ ص ٣٩٠ ، والدرجات الرفيعة ص ٢٠٥ ونفس الرحمان ص ١٦.

(٢) طبقات ابن سعد ج ٤ قسم ١ ص ٥٧/٥٨ وشرح الشفاء للقاري ج ١ ص ٣٨٤ عن البخاري ، ومزيل الخفاء عن الفاظ الشفاء (مطبوع بهامش الشفاء) ج ١ ص ٣٣٢ عن البخاري في غير صحيحه ، ونفس الرحمان ص ١٦ ومسند أحمد ج ٥ ص ٤٤٠.

(٣) الشفاء ج ١ ص ٣٣٢.

(٤) شرح الشفاء لملا علي القاري ج ١ ص ٣٨٤ ومزيل الخفاء عن الفاظ الشفاء ( مطبوع بهامش الشفاء ) ج ١ ص ٣٣٢.

٣٤

« ويجوز أن يكون كل واحد من سلمان وعمر غرس بيده النخلة ، أحدهما قبل الآخر » (١).

ولنا أن نعلق على ذلك : بأنه بعد نهي النبيّ لسمان عن ذلك ؛ فلا يعقل أن يقدم على مخالفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسلمان هو من نعرف في انقياده ، والتزامه المطلق ، بأوامر الله سبحانه ، ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فلا يمكن أن نصدق : أنه قد خالف أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..

وكيف لم يتدخل في غرس مائتين وتسع وتسعين ، وتدخّل في خصوص هذه الواحدة ، دون سواها؟!

هذا بالاضافة إلى صحة سند ما روي عن عمر .. وكثرة الناقلين له ، وعدم نقل ذلك عن سلمان إلا عند ابن سعد في طبقاته ..

وإذا كان الراجح ـ إن لم يكن هو المتعين ـ أن سلمان لم يتدخل في هذا الأمر ، ولا خالف النهي المتوجه إليه من قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..

وإذا كان النهي إنما توجه إلى سلمان ، لا إلى عمر ، فان إقدام عمر على هذا الأمر ، يصبح أكثر معقولية ، وأقرب احتمالاً ..

فهو قد أراد أن يجرب حظه في هذا الامر أيضاً ، ولعله يريد اظهار زمالته ، للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو القائل « أنا زميل محمّد » (٢) فكما أن النخل يثمر على يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؛ فانه يثمر على يده أيضاً .. وكما أن الرسول يقوم ببعض الأعمال؛ فان غيره أيضاً قادر على أن يقوم بها؛ فليس ثمة كبير فرق ـ فيما بينهم ، وبينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، على حدّ زعمه ، أو هكذا خُيّل له على الأقل ..

__________________

(١) نفس الرحمان ص ١٦.

(٢) راجع : تاريخ الاُمم والملوك للطبري ج ٣ ص ٢٩١ ط الاستقامة.

٣٥

وأما أنه لماذا لم يغرس سوى نخلة واحدة ، فلعله يرجع إلى أنه حين رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينهى سلمان عن أن يغرس شيئاً منها ، فانه قد تردّد في ذلك ، وحاذر من أن يتعرض لغضب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانكاره .. ثم تشجع أخيراً ، وجرب حظه في نخلة واحدة .. الامر الذي تفرد فيه دون سائر الصحابة الآخرين ، ولم يقدم عليه لا أبو بكر ، ولا غيره .. وقد يكون السبب في ذلك هو أنه لم يكن في حوزته سوى هذه النخلة.

ولكن قد شاءت الارادة الإلهية : أن يحفظ ناموس النبوة ، وأن تخيب كل الطموحات ، وتتحطم كل الآمال ، التي تريد أن تنال من ذلك الناموس ، أو تستفيد منه في مسارٍ انحرافي آخر ، لا يلتقي معه ، ولا ينتهي إليه. وتجلى هذا اللطف الالهي في أن النخل قد اثمر كله ، سوى هذه ، حتى أعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غرسها بيده الشريفة من جديد ، فظهرت البركات ، وتجلت الكرامة الإلهية ..

دور خليسة في عتق سلمان :

وقد جاء في بعض روايات عتق سلمان : أنه كان لامرأة اسمها خليسة ، كانت قد اشترته ، ثم بعد أن أسلم سلمان أرسل إليها رسول الله (ص) علياً عليه‌السلام ، يقول لها : أما أن تعتقي سلمان ، واما أن اعتقه ؛ فان الحكمة تحرمه عليك.

فقالت له : قل له : إن شئت ، اعتقته ، وإن شئت فهو لك.

قال رسول الله : اعتقيه أنت ؛ فاعتقته.

قال : فغرس لها رسول الله (ص) ثلاث مائة فسيلة ..

وفي لفظ آخر : فقالت : ما شئت ؛ فقال : اعتقته .. (١).

__________________

(١) راجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٩ واسد الغابة ج ٥ ص ٤٤٠ والاصابة ج ٤ ص ٢٨٦ عن ابن

٣٦

ونقول :

١ ـ إن الرواية التي قدمناها في مكاتبته لمولاه على غرس النخل ، حتى تطعم ، وعلى أربعين أوقية .. وغير ذلك مما دل على أن الرسول (ص) قد اشتراه ، واعتقه ، ينافي ذلك ..

٢ ـ إن كتاب المفاداة المتقدم ينافي ذلك أيضاً ، لاُنه كتب باسم عثمان بن الاشهل القرظي ..

إلا أن يدعى : أن خليسة كانت زوجة لعثمان هذا ، أو من أقاربه ، أو غير ذلك ، فلا مانع من كتب الكتاب باسمه نيابة عنها.

ولكن ذلك يبقى مجرد احتمال ، يحتاج إلى شاهدٍ وعاضد ، وهو مفقود.

٣ ـ لماذا يأمرها النبيّ (ص) بعتق سلمان ، ولم يأمر غيرها؛ من الذين كانوا يملكون أرقاء مسلمين (١)؟!.

٤ ـ ما معنى قوله : اما أن تعتقيه أنت ، أو أعتقه أنا؛ فهل يريد (ص) استعمال ولايته في هذا المجال؟!.

٥ ـ وإذا كانت قد اسلمت قبل أن يرسل إليها بهذا الأمر (٢)؛ فما معنى قوله (ص) : فان الحكمة تحرمه عليك؟!.

فهل كانت قد تزوجته ، ولا يصح تملك المرأة لزوجها؟ أم أنه كان اباً لها؟! أم ماذا؟!.

هذا مع أنه حتى لو فرض ذلك ، فانه ينعتق عليها قهراً في الفرض الثاني ، وينفسخ النكاح في الفرض الاول ..

__________________

مندة ، وقالوا : أخرجه أبو موسى ، في الاحاديث الطوال .. ونفس الرحمان ص ٢٢ عن المنتقى ، وأشار إلى ذلك في تهذيب التهذيب ج ٤ ص ١٣٨/١٣٩ عن العسكري.

(١) قد يقال بعدم وجود أرقاء مسلمين في أيدي غير المسلمين. ولكن يرد عليه : أن خليسة قد أسلمت حسب نص الرواية فلماذا يوجب عتقه عليها.

(٢) راجع: تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٩.

٣٧

٦ ـ وإذا كانت لم تملكه لابه كان حراً ، وقد ظلموه ؛ فباعوه لها؛ فان ذلك لوصح أنه كافٍ في ذلك ؛ لمنع من أصل عبوديته ؛ فلا حاجة بعد ذلك لعتقه ، لا من قبله (ص) ، ولا من قبلها ..

٧ ـ وإذا كانت تملكه ، ولا بد من عتقه ؛ فلماذا لا يشتريه منها؟ أو لماذا لا تكاتبه هي؟!. ولماذا تؤمر بعتقه من الاساس؟! إلا على سبيل الحث والترغيب في الاُجر ، لا على سبيل التهديد ، وبأسلوب القهر ..

٩ ـ وما معنى التناقض في رواية عتقها له تارة ، وعتق النبيّ (ص) نفسه له تارة اخرى؟!.

بقي علينا أن نعرف :

من الذي حرّر سلمان؟ :

هناك نصوص كثيرة تفيد : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي حرّر سلمان من الرق.

١ ـ وقد عدّه كثير من العلماء والمؤرخين من موالي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

٢ ـ وعن بريدة : « كان لليهود ؛ فاشتراه رسول الله (ص) بكذا وكذا درهما ، وعلى أن يغرس له نخلاً ، يعمل فيها سلمان حتى تطعم ، فغرس رسول الله (ص) النخل » (٢).

__________________

(١) رجال ابن داود ص ١٧٥ وخلاصة الاقوال للعلامة ص ٤١ والفهرست للشيخ الطوسي ص ١٥٨ وتاريخ الامم والملوك ط الاستقامة ج ٢ ص ٤١٩ وراجع المصادر التالية : ذكر أخبار اصبهان ج ١ ص ٥٤ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٨ ص ٣٤ ومصابيح الانوار ج ١ ص ٣٥٦ عن القرطبي ، والاستيعاب بهامش الاصابة ج ٢ ص ٥٧ وقاموس الرجال ج ٤ ص ٤٣٣ عنه ، والبحار ج ٢٢ ص ٣٩٠ وحلية الاولياء ج ١ ص ١٩٥ ونفس الرحمان ص ٢٠ و ٢١ عن بعض من تقدم ، والمناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ١٧١.

(٢) مجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٣٧ عن أحمد ، والبزار ، ورجاله رجال الصحيح. وشرح النهج للمعتزلي الحنفي

٣٨

٣ ـ وسئل الشعبي : هل كان سلمان من موالي رسول الله؟ قال : نعم. أفضلهم. كان مكاتباً؛ فاشتراه ؛ فأعتقه (١).

٤ ـ وقال الخطيب البغدادي : « أدى رسول الله (ص) كتابته ، قهر إلى بني هاشم » (٢).

(٥) وقال المبرد : « وكان (ص) أدى إلى بني قريظة مكاتبة سلمان ، فكان سلمان مولى رسول الله (ص) ؛ فقال علي بن أبي طالب عليه‌السلام : سلمان منّا أهل البيت » (٣).

٦ ـ وقال أبو عمر : « .. وقد روي من وجوه : أن رسول الله (ص) اشتراه على العتق » (٤).

٧ ـ وتقدم كتاب المفاداة ، الذي ينص على أن ولاء سلمان هو لمحمّد بن عبدالله رسول الله ، وأهل بيته ، فليس لاحد على سلمان سبيل ..

٨ ـ وفي مهج الدعوات ، في حديث حور الجنة ، وتحفها ، مسنداً عن فاطمة عليها‌السلام ، قالت : فقلت للثالثة : ما اسمك؟ قالت : سلمى. قلت : ولم سميت سلمى؟ قالت : خلقت أنا لسلمان الفارسي ، مولى أبيك رسول الله (ص) (٥).

٩ ـ وفي رسالة سلمان إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، كتب له سلمان : من سلمان مولى رسول الله (ص) (٦).

١٠ ـ وروى الحاكم أن علي بن عاصم ذكر في حديث اسلام سلمان : أنه كان عبداً؛ فلمّا قدم النبيّ (ص) المدينة ، أتاه ، فأسلم ؛ فابتاعه النبيّ (ص) ، واعتقه (٧).

__________________

ج ١٨ ص ٣٥ ، وشرح الشفاء لملا علي القارى ج ١ ص ٣٨٤.

(١) أنساب الاشراف (قسم حياة النبيّ « ص » ) ج ١ ص ٤٨٧ وقاموس الرجال ج ٤ ص ٤٢٩عنه.

(٢) تاريخ بغداد ج ١ ص ١٦٤ و ١٦٣.

(٣) الكامل ج ٤ ص ١٤.

(٤) الاستيعاب ، بهامش الاصابة ج ٢ ص ٥٧.

(٥) نفس الرحمان ص ٢١.

(٦) الاحتجاج ج ١ ص ١٨٥ ونفس الرحمان ص ٢١ عنه.

(٧) معرفة علوم الحديث ص ١٩٨.

٣٩

١١ ـ وفي حديث سلام سلمان على أهل القبور ، قال رحمه‌الله : سألتكم بالله العظيم ، والنبيّ الكريم ، إلا أجابني منكم مجيب ؛ فأنا سلمان الفارسي ، مولى رسول الله (ص) (١).

١٢ ـ وعن ابن عباس قال : رأيت سلمان الفارسي رحمه‌الله في منامي؛ فقلت له : يا سلمان ، ألست مولى النبيّ (ص)؟

قال : ؛ بلى ؛ فاذ عليه تاج من ياقوت إلخ .. (٢).

١٣ ـ هذا بالاضافة إلى الحديث الذي يقول سلمان في آخره : فأعتقني رسول الله (ص) ، وسماني سلماناً .. (٣).

أبو بكر وعتق سلمان :

وبعد كل ما تقدم ، فاننا نعرف : أن دعوى : أن أبا بكر قد اشترى سلمان ، فأعتقه (٤) ، لا يمكن أن تصح بأي وجه ..

ويكفي في ردها حديث كتاب المفاداة المتقدم ، بالاضافة إلى النصوص الآنفة الذكر .. إلى جانب النصوص الاخرى ، التي تدعى : أنه قد اعانه الصحابة ورسول الله (ص) حتى ادى ما عليه من مال الكتابة ، وإن كان اتضح : أنها أيضاً غير خالية عن المناقشة ..

* * *

__________________

(١) نفس الرحمان ص ٢١ عن فضائل شاذان بن جبرائيل القمي.

(٢) روضة الواعظين ص ٢٨١ ونفس الرحمان ص ٢١ عنه.

(٣) روضة الواعظين ص ٢٧٨ والبحار ج ٢٢ ص ٣٥٨ والدرجات الرفيعة ص ٢٠٣ واكمال الدين ص ١٦٥ ، ورواه في نفس الرحمان ص ٦ عن بعض من تقدم ، وعن قصص الانبياء للراوندي ، وعن الحسين بن حمدان ، وعن الدر النظيم.

(٤) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٩ وتهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ١٩٩ عن البيهقي ، ونفس الرحمان ص ٢١ عن المنتقى والحديث بطوله في مستدرك الحاكم ج ٣ ص ٥٩٩ ـ ٦٠٢.

٤٠