الميزان في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٩

المتقدمة في البيان السابق.

وفي المجمع ، عن الأعمش عن أبي صالح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : في قوله تعالى : « يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها » الآية ، قال : يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون : يا حسرتنا ، اه.

( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) )

( بيان )

تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن هفوات المشركين في أمر دعوته ، وتطييب لنفسه بوعد النصر الحتمي ، وبيان أن الدعوة الدينية إنما ظرفها الاختيار الإنساني فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر فالقدرة والمشية الإلهية الحاتمتان لا تداخلان ذلك حتى تجبراهم على القبول ، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى.

قوله تعالى : « قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ » إلى آخر الآية ، « قد » حرف

٦١

تحقيق في الماضي ، وتفيد في المضارع التقليل وربما استعملت فيه أيضا للتحقيق ، وهو المراد في الآية ، وحزنه كذا وأحزنه بمعنى واحد ، وقد قرئ بكلا الوجهين.

وقوله : « فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ » قرئ بالتشديد من باب التفعيل ، وبالتخفيف ، والظاهر أن الفاء في قوله : « فَإِنَّهُمْ » للتفريع وكأن المعنى قد نعلم أن قولهم ليحزنك لكن لا ينبغي أن يحزنك ذلك فإنه ليس يعود تكذيبهم إليك لأنك لا تدعو إلا إلينا وليس لك فيه إلا الرسالة بل هم يظلمون بذلك آياتنا ويجحدونها.

فما في هذه الآية مع قوله في آخر الآيات : « ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ » في معنى قوله تعالى : « وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ » : ( لقمان : ٢٣ ) وقوله : « فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ » : ( يس : ٧٦ ) وغير ذلك من الآيات النازلة في تسليته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذا على قراءة التشديد.

وأما على قراءة التخفيف فالمعنى : لا تحزن فإنهم لا يظهرون عليك بإثبات كذبك فيما تدعو إليه ، ولا يبطلون حجتك بحجة وإنما يظلمون آيات الله بجحدها وإليه مرجعهم.

وقوله : « وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ » كان ظاهر السياق أن يقال : ولكنهم ، فالعدول إلى الظاهر للدلالة على أن الجحد منهم إنما هو عن ظلم منهم لا عن قصور وجهل وغير ذلك فليس إلا عتوا وبغيا وطغيانا وسيبعثهم الله ثم إليه يرجعون.

ولذلك وقع الالتفات في الكلام من التكلم إلى الغيبة فقيل : « بِآياتِ اللهِ » ولم يقل : بآياتنا ، للدلالة على أن ذلك منهم معارضة مع مقام الألوهية واستعلاء عليه وهو المقام الذي لا يقوم له شيء.

وقد قيل في تفسير معنى الآية وجوه أخرى :

أحدها : ما عن الأكثر أن المعنى : لا يكذبونك بقلوبهم اعتقادا ، وإنما يظهرون التكذيب بأفواههم عنادا.

وثانيها : أنهم لا يكذبونك وإنما يكذبونني فإن تكذيبك راجع إلي ولست

٦٢

مختصا به ، وهذا الوجه غير ما قدمناه من الوجه وإن كان قريبا منه ، والوجهان جميعا على قراءة التشديد.

وثالثها : أنهم لا يصادفونك كاذبا تقول العرب : قاتلناهم فما أجبناهم أي ما صادفناهم جبناء ، والوجه ما تقدم.

قوله تعالى : « وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا » إلى آخر الآية. هداية له صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى سبيل من تقدمه من الأنبياء ، وهو سبيل الصبر في ذات الله ، وقد قال تعالى : « أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ » : ( الأنعام : ٩٠ ).

وقوله : « حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا » بيان غاية حسنة لصبرهم ، وإشارة إلى الوعد الإلهي بالنصر ، وفي قوله : « وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ » تأكيد لما يشير إليه الكلام السابق من الوعد وحتم له ، وإشارة إلى ما ذكره بقوله : « كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » ( المجادلة : ٢١ ) ، وقوله : « وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ » ( الصافات : ١٧٢ ).

ووقوع المبدل في قوله : « وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ » في سياق النفي ينفي أي مبدل مفروض سواء كان من ناحيته تعالى بأن يتبدل مشيته في خصوص كلمة بأن يمحوها بعد إثباتها أو ينقضها بعد إبرامها أو كان من ناحية غيره تعالى بأن يظهر عليه ويقهره على خلاف ما شاء فيبدل ما أحكم ويغيره بوجه من الوجوه.

ومن هنا يظهر أن هذه الكلمات التي أنبأ سبحانه عن كونها لا تقبل التبديل أمور خارجة عن لوح المحو والإثبات ، فكلمة الله وقوله وكذا وعده في عرف القرآن هو القضاء الحتم الذي لا مطمع في تغييره وتبديله ، قال تعالى : « قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ » : ( ـ ص : ٨٤ ) وقال تعالى : « وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ » : ( الأحزاب : ٤ ) وقال تعالى : « أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ » : ( يونس : ٥٥ ) وقال تعالى : « لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ » : ( الزمر : ٢٠ ) وقد مر البحث المستوفى في معنى كلمات الله تعالى وما يرادفها من الألفاظ في عرف القرآن في ذيل قوله تعالى : « مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ » : ( البقرة : ٢٥٣ ).

وقوله في ذيل الآية : « وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ » تثبيت واستشهاد لقوله :

٦٣

« وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ » إلخ ، ويمكن أن يستفاد منه أن هذه السورة نزلت بعد بعض السور المكية التي تقص قصص الأنبياء كسورة الشعراء ومريم وأمثالهما ، وهذه السور نزلت بعد أمثال سورة العلق والمدثر قطعا فتقع سورة الأنعام على هذا في الطبقة الثالثة من السور النازلة بمكة قبل الهجرة ، والله أعلم.

قوله تعالى : « وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ـ إلى قوله ـ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ » قال الراغب : النفق الطريق النافذ والسرب في الأرض النافذ فيه قال : ( فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ ) ، ومنه نافقاء اليربوع ، وقد نافق اليربوع ونفق ، ومنه النفاق وهو الدخول في الشرع من باب والخروج عنه من باب ، وعلى ذلك نبه بقوله : ( إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) أي الخارجون من الشرع ، وجعل الله المنافقين شرا من الكافرين فقال : ( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) ، ونيفق السراويل معروف ، انتهى.

وقال : السلم ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية فيرجى به السلامة ثم جعل اسما لكل ما يتوصل به إلى شيء رفيع كالسبب قال تعالى : ( أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ) ، وقال : ( أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ ) ، وقال الشاعر : ولو نال أسباب السماء بسلم ،. انتهى.

وجواب الشرط في الآية محذوف للعلم به ، والتقدير كما قيل : وإن استطعت أن تبتغي كذا وكذا فافعل.

والمراد بالآية في قوله تعالى : « فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ » الآية التي تضطرهم إلى الإيمان فإن الخطاب عنى قوله : « وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ » إلخ ، إنما ألقي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من طريق القرآن الذي هو أفضل آية إلهية تدل على حقية دعوته ، ويقرب إعجازه من فهمهم وهم بلغاء عقلاء فالمراد أنه لا ينبغي أن يكبر ويشق عليك إعراضهم فإن الدار دار الاختيار ، والدعوة إلى الحق وقبولها جاريان على مجرى الاختيار ، وأنك لا تقدر على الحصول على آية توجب عليهم الإيمان وتلزمهم على ذلك فإن الله سبحانه لم يرد منهم الإيمان إلا على اختيار منهم فلم يخلق آية تجبر الناس على الإيمان والطاعة ، ولو شاء الله لآمن الناس جميعا فالتحق هؤلاء الكافرون بالمؤمنين بك فلا تبتئس ولا تجزع بإعراضهم فتكون من الجاهلين بالمعارف الإلهية.

وأما ما احتمله بعضهم : أن المراد : فتأتيهم بآية هي أفضل من الآية التي أرسلناك

٦٤

بها أي القرآن فلا تلائمه سياق الآية وخاصة قوله « وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى » فإنه ظاهر في الاضطرار.

ومن هنا يظهر أن المراد بالمشية أن يشاء الله منهم الاهتداء إلى الإيمان فيضطروا إلى القبول فيبطل بذلك اختيارهم هذا ما يقتضيه ظاهر السياق من الآية الشريفة.

لكنه سبحانه فيما يشابه الآية من كلامه لم يبن عدم مشيته ذلك على لزوم الاضطرار كقوله تعالى : « وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ، وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ » : ( السجدة : ١٣ ) يشير تعالى بذلك إلى نحو قوله : « قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ » : ( ـ ص : ٨٥ ) فبين تعالى أن عدم تحقق مشيته لهداهم جميعا إنما هو لقضائه ما قضى تجاه ما أقسم عليه إبليس أنه سيغويهم أجمعين إلا عباده منهم المخلصين.

وقد أسند القضاء في موضع آخر إلى غوايتهم قال تعالى في قصة آدم وإبليس : « قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ، إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ » : ( الحجر : ٤٣ ) وقد نسب ذلك إليهم إبليس أيضا فيما حكى الله سبحانه من كلامه لهم يوم القيامة : « وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ـ إلى أن قال ـ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ » : ( إبراهيم : ٢٢ ).

فالآيات تبين أن المعاصي ومنها الشرك تنتهي إلى غواية الإنسان والغواية تنتهي إلى نفس الإنسان ، ولا ينافي ذلك ما يظهر من آيات أخر أن الإنسان ليس له أن يشاء إلا أن يشاء الله منه المشية كقوله تعالى : « إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً ، وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ » : ( الإنسان : ٣٠ ) ، وقال تعالى : « إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ، وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ » : ( التكوير : ٢٩ ).

فمشية الإنسان في تحققها وإن توقفت على مشية الله سبحانه إلا أن الله سبحانه لا يشاء منه المشية إلا إذا استعد لذلك بحسن سريرته ، وتعرض منه لرحمته ، قال تعالى :

٦٥

« وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ » : ( الرعد : ٢٧ ) أي انعطف ورجع إليه ، وأما الفاسق الزائغ قلبه المخلد إلى الأرض المائل إلى الغواية فإن الله لا يشاء هدايته ولا يغشاه برحمته كما قال : « يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ » : ( البقرة : ٢٦ ) وقال : « فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ » : ( الصف : ٥ ) وقال : « وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ » : ( الأعراف : ١٧٦ ).

وبالجملة فالدعوة الدينية لا تسلك إلا سبيل الاختيار ، والآيات الإلهية لا تنزل إلا مع مراعاة الاختيار ، ولا يهدي الله سبحانه إليه إلا من تعرض لرحمته واستعد لهدايته من طريق الاختيار.

وبهذا تنحل شبهة أخرى لا تخلو عن إعضال ، وهي أنا سلمنا أن إنزاله تعالى آية تجبرهم على الإيمان وتضطرهم إلى قبول الدعوة الدينية ينافي أساس الاختيار الذي تبتني عليه بنية الدعوة الدينية لكن لم لا يجوز أن يشاء الله إيمان الناس جميعا على حد مشيته إيمان من آمن منهم بأن يشاء من الجميع أن يشاءوا كما شاء من المؤمنين خاصة أن يشاءوا ثم ينزل آية تسوقهم إلى الهدى ، وتلبسهم الإيمان من غير أن يبطل بذلك اختيارهم وحريتهم في العمل.

وذلك أنه وإن أمكن ذلك بالنظر إلى نفسه لكنه ينافي الناموس العام في عالم الأسباب ، ونظام الاستعداد والإفاضة فالهدى إنما يفاض على من اتقى الله وزكى نفسه وقد أفلح من زكاها ولا يصيب الضلال إلا من أعرض من ذكر ربه ودس نفسه وقد خاب من دساها ، وأصابه الضلال هو أن يمنع الإنسان الهدى قال تعالى : « مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً ، وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ، كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً » : ( الإسراء : ٢٠ ) أي ممنوعا فالله سبحانه يمد كل نفس من عطائه بما يستحقه فإن أراد الخير أوتيه وإن أراد الشر أوتيه أي منع من الخير ، ولو شاء الله لكل نفس صالحة أو طالحة أن تشاء الخير وتنكب على الإيمان والتقوى من طريق الاختيار كان في ذلك إبطال النظام العام وإفساد أمر الأسباب.

وتؤيد ما ذكر الآية التالية أعني قوله تعالى : « إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ »

٦٦

إلى آخر الآية على ما سيجيء من معناها.

قوله تعالى : « إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ » الآية كالبيان لقوله : « وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ » إلى آخر الآية فإن ملخصه أنك لا تستطيع صرفهم عن هذا الإعراض ، والحصول على آية تسوقهم إلى الإيمان ، فبين في هذه الآية أنهم بمنزلة الموتى لا شعور لهم ولا سمع حتى يشعروا بمعنى الدعوة الدينية ويسمعوا دعوة الداعي وهو النبي ص.

فهذه الهياكل المتراءات من الناس صنفان : صنف منهم أحياء يسمعون ، وإنما يستجيب الذين يسمعون ، وصنف منهم أموات لا يسمعون وإن كانوا ظاهرا في صور الأحياء وهؤلاء يتوقف سمعهم الكلام على أن يبعثهم الله ، وسوف يبعثهم فيسمعون ما لم يستطيعوا سمعه في الدنيا كما حكاه الله عنهم بقوله : « وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ » : ( السجدة : ١٢ ).

فالكلام مسوق سوق الكناية ، والمراد بالذين يسمعون المؤمنون وبالموتى المعرضون عن استجابة الدعوة من المشركين وغيرهم ، وقد تكرر في كلامه تعالى وصف المؤمنين بالحياة والسمع ، ووصف الكفار بالموت والصمم كما قال تعالى : « أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها » ( الأنعام : ١٢٢ ) وقال تعالى : ( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ، وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) » ( النمل : ٨١ ) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

وقد تكرر في بعض الأبحاث السابقة معنى آخر لهذه الأوصاف التي حملها الجمهور من المفسرين على الكناية والتشبيه ، وأن لها معنى من الحقيقة فليراجع.

وفي الآية دلالة على أن الكفار والمشركين سيفهمهم الله الحق ويسمعهم دعوته في الآخرة كما فهم المؤمنين وأسمعهم في الدنيا ، فالإنسان مؤمنا كان أو كافرا لا مناص له عن فهم الحق عاجلا أو آجلا.

٦٧

( بحث روائي )

في تفسير القمي ، قال : وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحب ـ إسلام الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ، دعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجهد به أن يسلم فغلب عليه الشقاء ـ فشق ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأنزل الله : « وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ـ إلى قوله ـ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ » ، يقول : سربا.

أقول : والرواية على ما بها من ضعف وإرسال لا تلائم ظاهر الروايات الكثيرة الدالة على نزول السورة دفعة ، وإن كان يمكن توجيهها بوقوع السبب قبل نزول السورة ثم الإشارة بالآية إلى السبب المحقق بعنوان الانطباق

وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ

٦٨

لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ

٦٩

حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)

( بيان )

احتجاجات متنوعة على المشركين في أمر التوحيد وآية النبوة.

قوله تعالى : « وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ » إلى آخر الآية ، تحضيض منهم على تنزيل الآية بداعي تعجيز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولما صدر هذا القول منهم وبين أيديهم أفضل الآيات أعني القرآن الكريم الذي كان ينزل عليهم سورة سورة وآية آية ، ويتلى عليهم حينا بعد حين تعين أن الآية التي كانوا يقترحونها بقولهم : « لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ » هي آية غير القرآن ، وأنهم كانوا لا يعدونه آية تقنعهم وترتضيه نفوسهم بما لها من المجازفات والتهوسات.

وقد حملهم التعصب لآلهتهم أن ينقطعوا عن الله سبحانه كأنه ليس بربهم ، فقالوا :

« لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ » ولم يقولوا : من ربنا أو من الله ونحوهما إزراء بأمره وتأكيدا في تعجيزه أي لو كان ما يدعيه ويدعو إليه حقا فليغر له ربه الذي يدعو إليه ولينصره ولينزل عليه آية تدل على حقية دعواه.

والذي بعثهم إلى هذا الاقتراح جهلهم بأمرين : أحدهما : أن الوثنية يرون لآلهتهم استقلالا في الأمور المرجوعة إليهم في الكون مع ما يدعون لهم من مقام

٧٠

الشفاعة فإله الحرب أو السلم له ما يدبره من الأمر من غير أن يختل تدبيره من ناحية غيره ، وكذلك إله البر وإله البحر وإله الحب وإله البغض وسائر الآلهة ، فلا يبقى لله سبحانه شأن يتصرف فيه فقد قسم الأمر بين أعضاده وإن كان هؤلاء شفعاءه وهو رب الأرباب ، فليس يسعه تعالى أن يبطل أمر آلهتهم بإنزال آية تدل على نفي ألوهيتها.

وكان يحضهم على هذه المزعمة ويؤيد هذا الاعتقاد في قلوبهم ما كانوا يتلقونه من يهود الحجاز أن يد الله مغلولة لا سبيل له إلى تغيير شيء من النظام الجاري ، وخرق العادة المألوفة في عالم الأسباب.

وثانيهما : أن الآيات النازلة من عند الله سبحانه إذا كانت مما خص الله به رسولا من رسله من غير أن يقترحه الناس فإنما هي بينات تدل على صحة دعوى الرسول من غير أن يستتبع محذورا للناس المدعوين كالعصا واليد البيضاء لموسى وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير لعيسى ، والقرآن الكريم لمحمد ص.

لكن الآية لو كانت مما اقترحها الناس فإن سنة الله جرت على القضاء بينهم بنزولها فإن آمنوا بها وإلا نزل عليهم العذاب ولم ينظروا بعد ذلك كآيات نوح وهود وصالح وغير ذلك ، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك ، كقوله تعالى : « وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ » : ( الأنعام : ٨ ) وقوله : ( وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها ) » ( الإسراء : ٥٩ ).

وقد أشير في الآية الكريمة أعني قوله : « وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ » ، إلى الجهتين جميعا.

فذكر أن الله قادر على أن ينزل أي آية شاء ، وكيف يمكن أن يفرض من هو مسمى باسم « الله » ولا تكون له القدرة المطلقة ، وقد بدل في الجواب لفظة « الرب » إلى اسم « الله » للدلالة على برهان الحكم ، فإن الألوهية المطلقة تجمع كل كمال من غير أن تحد بحد أو تقيد بقيد فلها القدرة المطلقة ، والجهل بالمقام الألوهي هو الذي بعثهم إلى اقتراح الآية بداعي التعجيز.

على أنهم جهلوا أن نزول ما اقترحوه من الآية لا يوافق مصلحتهم ، وأن اجتراءهم

٧١

على اقتراحها تعرض منهم لهلاك جمعهم وقطع دابرهم ، والدليل على أن هذا المعنى منظور إليه بوجه في الكلام قوله تعالى في ذيل هذه الاحتجاجات : « قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ » : ( الأنعام : ٥٨ ).

وفي قوله تعالى : « نُزِّلَ » و « يُنَزِّلَ » مشددين من التفعيل دلالة على أنهم اقترحوا آية تدريجية أو آيات كثيرة تنزل واحدة بعد واحدة كما يدل عليه ما حكي من اقتراحهم في موضع آخر من كلامه تعالى كقوله : « وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ ـ إلى أن قال ـ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ » الآيات : ( الإسراء : ٩٣ ) وقوله : « وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا » : ( الفرقان : ٢١ ) وقوله : « وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً » : ( الفرقان : ٣٢ ).

وروي عن ابن كثير أنه قرأ بالتخفيف.

قوله تعالى : « وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ » إلى آخر الآية ، الدابة كل حيوان يدب على الأرض وقد كثر استعماله في الفرس ، والدب بالفتح والدبيب هو المشي الخفيف.

والطائر ما يسبح في الهواء بجناحيه ، وجمعه الطير كالراكب ، والركب والأمة هي الجماعة من الناس يجمعهم مقصد واحد يقصدونه كدين واحد أو سنة واحدة أو زمان واحد أو مكان واحد ، والأصل في معناها ، القصد يقال : أم يؤم إذا قصد ، والحشر جمع الناس بإزعاج إلى الحرب أو جلاء ونحوه من الأمور الاجتماعية.

والظاهر أن توصيف الطائر بقوله : « يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ » محاذاة لتوصيف الدابة بقوله : « فِي الْأَرْضِ » فهو بمنزلة قولنا : ما من حيوان أرضي ولا هوائي ، مع ما في هذا التوصيف من نفي شبهة التجوز فإن الطيران كثيرا ما يستعمل بمعنى سرعة الحركة كما أن الدبيب هو الحركة الخفيفة فكان من المحتمل أن يراد بالطيران حيث ذكر مع الدبيب الحركة السريعة فدفع ذلك بقوله : « يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ».

٧٢

( كلام في المجتمعات الحيوانية )

والخطاب في الآية للناس ، وقد ذكر فيها أن الحيوانات أرضية كانت أو هوائية هي أمم أمثال الناس ، وليس المراد بذلك كونها جماعات ذوات كثرة وعدد فإن الأمة لا تطلق على مجرد العدد الكثير بل إذا جمع ذلك الكثير جامع واحد من مقصد اضطراري أو اختياري يقصده أفراده ، ولا أن المراد مجرد كونها أنواعا شتى كل نوع منها يشترك أفراده في نوع خاص من الحياة والرزق والسفاد والنسل والمأوى وسائر الشئون الحيوية فإن هذا المقدار من الاشتراك وإن صحح الحكم بمماثلتها الإنسان لكن قوله في ذيل الآية : « ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ » يدل على أن المراد بالمماثلة ليس مجرد التشابه في الغذاء والسفاد والإواء بل هناك جهة اشتراك أخرى تجعلها كالإنسان في ملاك الحشر إلى الله ، وليس ملاك الحشر إلى الله في الإنسان إلا نوعا من الحياة الشعورية التي تخد للإنسان خدا إلى سعادته وشقائه ، فإن الفرد من الإنسان يمكن أن ينال في الدنيا ألذ الغذاء وأوفق النكاح وأنضر المسكن ولا يكون مع ذلك سعيدا في حياته لما ينكب عليه من الظلم والفجور أو أن يحيط به جماع المحن والشدائد والبلايا وهو سعيد في حياته مبتهج بكمال الإنسانية ونور العبودية.

بل حياة الإنسان الشعورية وإن شئت فقل : الفطرة الإنسانية وما يؤيدها من دعوة النبوة تسن للإنسان سنة مشروعة من الاعتقاد والعمل إن أخذ بها وجرى عليها ووافقه المجتمع عليه سعد في الحياتين : الدنيا والآخرة ، وإن استن بها وحده سعد بها في الآخرة أو في الدنيا والآخرة معا ، وإن لم يعمل بها وتخلف عن الأخذ ببعضها أو كلها كان في ذلك شقاؤه في الدنيا والآخرة.

وهذه السنة المكتوبة له تجمعها كلمتان : البعث إلى الخير والطاعة ، والزجر عن الشر والمعصية ، وإن شئت قلت : الدعوة إلى العدل والاستقامة ، والنهي عن الظلم والانحراف عن الحق فإن الإنسان بفطرته السليمة يستحسن أمورا هي العدل في نفسه أو غيره ، ويستقبح أمورا هي الظلم على نفسه أو غيره ثم الدين الإلهي يؤيدها ويشرح له تفاصيلها.

وهذا محصل ما تبين لنا في كثير من الأبحاث السابقة ، وكثير من الآيات القرآنية

٧٣

تفيد ذلك وتؤيده كقوله تعالى : « وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها » : ( الشمس : ١٠ ) ، وقوله تعالى : « كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » : ( البقرة : ٢١٣ ).

والإمعان في التفكر في أطوار الحيوانات العجم التي تزامل الإنسان في كثير من شئون الحياة ، وأحوال نوع منها في مسير حياتها وتعيشها يدلنا على أن لها كالإنسان عقائد وآراء فردية واجتماعية تبني عليها حركاتها وسكناتها في ابتغاء البقاء نظيره ما يبني الإنسان تقلباته في أطوار الحياة الدنيا على سلسلة من العقائد والآراء.

فالواحد منا يشتهي الغذاء والنكاح أو الولد أو غير ذلك ، أو يكره الضيم أو الفقر أو غير ذلك فيلوح له من الرأي أن من الواجب أن يطلب الغذاء أو يأكله أو يدخره في ملكه ، وأن يتزوج وأن ينسل وهكذا ، وأن من الممنوع المحرم عليه أن يصبر على ضيم أو يتحمل مصيبة الفقر وهكذا فيتحرك ويسكن على طبق ما تخدّ له هذه الآراء اللائحة لنفسه من الطريق.

كذلك الواحد من الحيوان ـ على ما نشاهده ـ يأتي في مبتغيات حياته من الحركات المنظمة التي يحتال بها إلى رفع حوائج نفسه في الغذاء والسفاد والمأوى بما لا نشك به في أن له شعورا بحوائجه وما يرتفع به حاجته ، وآراء وعقائد ينبعث بها إلى جلب المنافع ودفع المضار كما في الإنسان ، وربما عثرنا فيها من أنواع الحيل والمكائد للحصول على الصيد والنجاة من العدو من الطرق الاجتماعية والفردية ما لم يتنبه إليه الإنسان إلا بعد طي قرون وأحقاب من عمره النوعي.

وقد عثر العلماء الباحثون عن الحيوان في كثير من أنواعه ، كالنمل والنحل والأرضة على عجائب من آثار المدنية والاجتماع ، ودقائق من الصنعة ولطائف من السنن والسياسات لا تكاد توجد نظائرها إلا في الأمم ذوي الحضارة والمدنية من الإنسان.

وقد حث القرآن الكريم على معرفة الحيوان والتفكر في خلقها وأعمالها عامة كقوله

٧٤

تعالى : « وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ » : ( الجاثية : ٤ ) ودعا إلى الاعتبار بأمر كثير منها كالأنعام والطير والنحل والنمل.

وهذه الآراء والعقائد التي نرى أن الحيوان على اختلاف أنواعها في شئون الحياة ومقاصدها تبنى عليها أعمالها إذا لم تخل عن الأحكام الباعثة والزاجرة لم تخل عن استحسان أمور واستقباح أمور ، ولم تخل عن معنى العدل أو الظلم.

وهو الذي يؤيده ما نشاهده من بعض الاختلاف في أفراد أي نوع من الحيوان في أخلاقها ، فكم بين الفرس والفرس وبين الكبش والكبش وبين الديك والديك مثلا من الفرق الواضح في حدة الخلق أو سهولة الجانب ولين العريكة.

وكذا يؤيده جزئيات أخرى من حب وبغض وعطوفة ورحمة أو قسوة أو تعد وغير ذلك مما نجدها بين الأفراد من نوع وقد وجدنا نظائرها بين أفراد الإنسان ، ووجدناها مؤثرة في الاعتقاد بالحسن والقبح في الأفعال ، والعدل والظلم في الأعمال ثم إنها مؤثرة أيضا في حياة الإنسان الأخروية ، وملاكا لحشره ومحاسبة أعماله والجزاء عليها بنعمة أو نقمة أخروية.

وببلوغ البحث هذا المبلغ ربما لاح لنا أن للحيوان حشرا كما أن للإنسان حشرا فإن الله سبحانه يعد انطباق العدل والظلم والتقوى والفجور على أعمال الإنسان ملاكا للحشر ويستدل به عليه كما في قوله تعالى : « أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ » : ( ـ ص : ٢٨ ) بل يعد بطلان الحشر في ما خلقه من السماء والأرض وما بينهما بطلانا لفعله وصيرورته لعبا أو جزافا كما في الآية السابقة على هذه الآية : « وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ » : ( ـ ص : ٢٧ ).

فهل للحيوان غير الإنسان حشر إلى الله سبحانه كما أن للإنسان حشرا إليه؟ ثم إذا كان له حشر فهل يماثل حشره حشر الإنسان فيحاسب على أعماله وتوزن وينعم بعد ذلك في جنة أو نار على حسب ما له من التكليف في الدنيا؟ وهل استقرار التكليف الدنيوي عليه ببعث الرسل وإنزال الأحكام؟ وهل الرسول المبعوث إلى الحيوان من نوع نفسه أو أنه إنسان؟.

٧٥

هذه وجوه من السؤال تسبق إلى ذهن الباحث في هذا الموقف :

أما السؤال الأول ( هل للحيوان غير الإنسان حشر؟ ) فقوله تعالى في الآية : « ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ » يتكفل الجواب عنه ، ويقرب منه قوله تعالى : « وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ » : ( كورت : ٥ ).

بل هناك آيات كثيرة جدا دالة على إعادة السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والجن والحجارة والأصنام وسائر الشركاء المعبودين من دون الله ، والذهب والفضة حيث يحمى عليهما في نار جهنم فتكوى بها جباه مانعي الزكاة وجنوبهم إلى غير ذلك في آيات كثيرة لا حاجة إلى إيرادها ، والروايات في هذه المعاني لا تحصى كثرة.

وأما السؤال الثاني ، وهو أنه هل يماثل حشره حشر الإنسان فيبعث وتحضر أعماله ويحاسب عليها فينعم أو يعذب بها فجوابه أن ذلك لازم الحشر بمعنى الجمع بين الأفراد وسوقهم إلى أمر بالإزعاج ، وأما مثل السماء والأرض وما يشابههما من شمس وقمر وحجارة وغيرها فلم يطلق في موردها لفظ الحشر كما في قوله تعالى : « يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ » : ( إبراهيم : ٤٨ ) وقوله : « وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ » : ( الزمر : ٦٧ ) وقوله : « وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ » : ( القيامة : ٩ » وقوله : « إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ، لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها » : ( الأنبياء : ٩٩ ).

على أن الملاك الذي يعطيه كلامه تعالى في حشر الناس هو القضاء الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه من الحق قال تعالى : « إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ » : ( السجدة : ٢٥ ) وقوله : « ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ » : ( آل عمران : ٥٥ ) وغير ذلك من الآيات.

ومرجع الجميع إلى إنعام المحسن والانتقام من الظالم بظلمه كما ذكره في قوله : « إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ » : ( السجدة : ٢٢ ) وقوله : « فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ ، يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ » : ( إبراهيم : ٤٨ ) وهذان الوصفان أعني الإحسان والظلم موجودان في أعمال الحيوانات في الجملة.

٧٦

ويؤيده ظاهر قوله تعالى : « وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى » فاطر ٣٥ فإن ظاهره أن ظلم الناس لو استوجب المؤاخذة الإلهية كان ذلك لأنه ظلم والظلم شائع بين كل ما يسمى دابة : الإنسان وسائر الحيوانات فكان ذلك مستعقبا لأن يهلك الله تعالى كل دابة على ظهرها هذا وإن ذكر بعضهم : أن المراد بالدابة في الآية خصوص الإنسان.

ولا يلزم من شمول الأخذ والانتقام يوم القيامة لسائر الحيوان أن يساوي الإنسان في الشعور والإرادة ، ويرقى الحيوان العجم إلى درجة الإنسان في نفسياته وروحياته ، والضرورة تدفع ذلك ، والآثار البارزة منها ومن الإنسان تبطله.

وذلك أن مجرد الاشتراك في الأخذ والانتقام والحساب والأجر بين الإنسان وغيره لا يقضي بالمعادلة والمساواة من جميع الجهات كما لا يقتضي الاشتراك في ما هو أقرب من ذلك بين أفراد الإنسان أنفسهم أن يجري حساب أعمالهم من حيث المداقة والمناقشة مجرى واحدا فيوقف العاقل والسفيه والرشيد والمستضعف في موقف واحد.

على أنه تعالى ذكر من بعض الحيوان من لطائف الفهم ودقائق النباهة ما ليس بكل البعيد من مستوى الإنسان المتوسط الحال في الفقه والتعقل كالذي حكى عن نملة سليمان بقوله : « حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ » : ( النمل : ١٨ ) وما حكاه من قول هدهد له عليه‌السلام في قصة غيبته عنه : « فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ ، وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ » إلى آخر الآيات : ( النمل : ٢٤ ) فإن الباحث النبيه إذا تدبر هذا الآيات بما يظهر منها من آثار الفهم والشعور لها ثم قدر زنته لم يشك في أن تحقق هذا المقدار من الفهم والشعور يتوقف على معارف جمة وإدراكات متنوعة كثيرة من بساط المعاني ومركباتها.

وربما أيد ذلك ما حصله أصحاب معرفة الحيوان بعميق مطالعاتهم وتربياتهم لأنواع الحيوان المختلفة من عجائب الأحوال التي لا تكاد تظهر إلا من موجود ذي إرادة لطيفة وفكر عميق وشعور حاد.

٧٧

وأما السؤال الثالث والرابع أعني أنه : هل الحيوان يتلقى تكليفه في الدنيا برسول يبعث إليه ووحي ينزل عليه؟ وهل هذا الرسول المبعوث إلى نوع من أنواع الحيوان من أفراد ذلك النوع بعينه؟ فعالم الحيوان إلى هذا الحين مجهول لنا مضروب دونه بحجاب فالاشتغال بهذا النوع من البحث مما لا فائدة فيه ولا نتيجة له إلا الرجم بالغيب ، والكلام الإلهي على ما يظهر لنا من ظواهره غير متعرض لبيان شيء من ذلك ، ولا يوجد في الروايات المأثورة عن النبي والأئمة من أهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يعتمد عليه في ذلك.

فقد تحصل أن المجتمعات الحيوانية كالمجتمع الإنساني فيها مادة الدين الإلهي ترتضع من فطرتها نحو ما يرتضع الدين من الفطرة الإنسانية ويمهدها للحشر إلى الله سبحانه كما يمهد دين الفطرة الإنسان للحشر والجزاء ، وإن كان المشاهد من حال الحيوان بالقياس إلى الإنسان ـ وتؤيده الآيات القرآنية الناطقة بتسخير الأشياء للإنسان وأفضليته من عامة الحيوان ـ أن الحيوان لم يؤت تفاصيل المعارف الإنسانية ولا كلف بدقائق التكاليف الإلهية التي كلف بها الإنسان.

ولنرجع إلى متن الآية فقوله تعالى : « وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ » يدل على أن المجتمعات الحيوانية التي توجد بين كل نوع من أنواع الحيوان إنما تأسست على مقاصد نوعية شعورية يقصدها كل نوع من الحيوان على اختلافها بالشعور والإرادة كالإنسان.

وليس ذلك مقصورا على المقاصد الطبيعية أعني مقاصد التغذي والنمو وتوليد المثل المحدودة بهذه الحياة الدنيا بل ينبسط ذيله على ما بعد الموت ويتهيأ به إلى حياة أخرى ترتبط بالسعادة والشقاوة المرتضعتين من ثدي الشعور والإرادة.

وربما اعترض عليه أن القوم تسلموا أن غير الإنسان من أنواع الحيوان محروم من موهبة الاختيار ، ولذلك يعد أفعال الحيوان كأفعال النبات طبيعية غير اختيارية لما يشاهد من حالها أنها لا تملك نفسها من الإقدام على الفعل إذا صادف ما فيه نفعها المطلوب كالهرة إذا رأت فأرة أو الأسد إذا رأى فريسته ، والهرب إذا صادف ما يخافه من عدو غالب

٧٨

كالفأرة إذا رأت هرة أو الغزالة إذا شاهدت أسدا فلا معنى للسعادة والشقاوة الاختياريتين في الحيوان غير الإنسان.

لكن التأمل في معنى الاختيار والحالات النفسية التي يتوسل بها الإنسان إلى إتيان أفعاله الاختيارية يدفع هذه الشبهة وذلك أن الشعور والإرادة الذين يتم بهما فعل الإنسان الاختياري بالحقيقة إنما أودعا في الإنسان مثلا لأنه نوع شعوري يتصرف في المادة الخارجية للانتفاع بها في بقاء وجوده بتمييز ما ينفعه مما يضره ، ولذلك جهزته العناية الإلهية بالشعور والإرادة فهو يميز بشعوره الحي ما يضره مما ينفعه فإذا تحقق النفع أراد ففعل فما كان من الأمور بين النفع ولا يحتاج في الحكم بكونه مما ينتفع به إلى أزيد من وجدانه وحصول العلم به إرادة من فوره وفعله وتصرف فيه من غير توقف كما في موارد الملكات الراسخة غالبا مثل التنفس ، وأما ما كان من الأمور غير بين النفع موسوما بنقص من الأسباب أو محفوفا بشيء من الموانع الخارجية أو الاعتقادية لم يكف مجرد العلم بتحققه في إرادته وفعله لعدم الجزم بالانتفاع به.

فهذه الأمور هي التي يتوقف الانبعاث إليها إلى التفكر مثلا فيها من جهة ما معها من النواقص والموانع والتروي فيها ليميز بذلك إنما هل هي من قبيل النافع أو الضار؟ فإن أنتج التروي كونها نافعة ظهرت الإرادة متعلقة بها وفعلت كما لو كانت بينة النفع غير محتاجة إلى التروي فيها ، وذلك كالإنسان الجائع إذا وجد غذاء يمكنه أن يسد به خلة الجوع فربما شك في أمره أنه هل هو غذاء طيب صالح لأن يتغذى به أو أنه غير صالح فاسد أو مسموم أو مشتمل على مواد مضرة؟ وأنه هل هو ماله نفسه ولا مانع من التصرف فيه كاحتياج مبرم مستقبل أو صوم ونحوه أو مال غيره ولا يجوز التصرف فيه؟ وحينئذ يتوقف عن المبادرة إلى التصرف فيه ، ولا يزال يتروى حتى يقطع بأحد الطرفين فإن حكم بالجواز كان مصداقا لما ينتفع فلا يتوقع بعد ذلك دون أن يريد فيتصرف فيه.

وإن لم يشك في أمره وكان بينا عنده من أول الأمر أنه طيب صالح للتغذي إرادة إذا علم بوجوده من غير ترو أو تفكر ، ولم ينفك العلم به عن إرادة التصرف فيه قطعا.

فمحصل حديث الاختيار أن الإنسان إذا لم يتميز عنده بعض الأمور التي يتصرف فيها أنها نافعة أو ضارة ميز ذلك بالتروي والتفكر فاختار أحد الجانبين أو الجوانب ،

٧٩

وأما لو تميز من أول الأمر إرادة ففعله من غير مهل ولم يحتج إلى ترو أصلا فالإنسان يختار ما يرى نفعه بترو أو من غير ترو ولا تروي إلا لرفع الموانع عن الحكم.

ثم إنك إذا تأملت حال أفراد الإنسان المختارين في أفعالهم وجدتهم ذوي اختلاف شديد في مبادئ اختيارهم أعني الصفات الروحية والأحوال الباطنية من شجاعة وجبن وعفة وشره ونشاط وكسل ووقار وخفة ، وكذا في قوة التعقل وضعفه وإصابة النظر وخطائه فكثيرا ما يرى الشره نفسه مضطرة مسلوبة الاختيار في موارد يشتهي الانهماك فيها لا يعبأ بأمرها العفيف المتطهر ، وربما يرى الجبان أدنى أذى يصيبه في مهمة أو مقتلة عذرا لنفسه ينفي عنه الاختيار ، ولا يرى الشجاع الباسل الآبي عن الضيم الموت الأحمر وأي زجر بدني أمرا فوق الطاقة ، ولا يرى لأي مصيبة هائلة في سبيل مقاصده من بأس ، وربما اختار السفيه خفيف العقل بأدنى تصور ، واه ولا يرى العاقل اللبيب ترجيح الفعل بأمثال تلك المرجحات إلا تلهيا ولعبا ، وأفعال الصبيان غير المميزين اختيارية معها بعض التروي ولا يعبأ بها وبأمرها البالغ الرشيد ، وكثيرا ما نعد في محاوراتنا فعلا من أفعالنا اضطراريا أو إجباريا إذا قارن أعذارا اجتماعية غير ملزمة بحسب الحقيقة كشارب الدخان يعتذر بالعادة ، والنومة يعتذر بالكسل والسارق أو الخائن يعتذر بالفقر.

وهذا الاختلاف الفاحش في مبادئ الاختيار وأسبابه والعرض العريض في مستوى الأفعال الاختيارية هو الذي بعث الدين وسائر السنن الاجتماعية أن يحدوا الفعل الاختياري بما يراه المتوسط من أفراد المجتمع الإنساني اختياريا ، ويبنوا على ذلك صحة تعلق الأمر والنهي والعقاب والثواب ونفوذ التصرف وغير ذلك ، ويعذروا من لم يتحقق فيه ما يتحقق في الفعل الاختياري الذي يأتي به الإنسان المتوسط من المبادي والأسباب ، وهو المتوسط من الاستطاعة والفهم.

فهذا الوسط المعدود اختيارا النافي لاختيارية ما دونه إنما هو كذلك بحسب الحكم الديني أو الاجتماعي المراعى فيه مصلحة الدين أو الاجتماع وإن كان الأمر بحسب النظر التكويني أوسع من ذلك.

والإمعان فيما تقدم يعطي أن يجزم بأن الحيوان غير الإنسان غير محروم من موهبة الاختيار في الجملة وإن كان أضعف مما نجده في المتوسط من الناس من معنى الاختيار

٨٠