الميزان في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٩

الزيادة أشير بما روي : أنه لا ينقص مال من صدقة ، لا إلى النقصان المحسوس حسب ما قال بعض الخاسرين حيث قيل له ذلك فقال : بيني وبينك الميزان. ثم ذكر : أن المراد بتباركه تعالى اختصاصه بالخيرات ، انتهى.

فالبركة بالحقيقة هي الخير المستقر في الشيء اللازم له كالبركة في النسل وهي كثرة الأعقاب أو بقاء الذكر بهم خالدا ، والبركة في الطعام أن يشبع به خلق كثير مثلا ، والبركة في الوقت أن يسع من العمل ما ليس في سعة مثله أن يسعه.

غير أن المقاصد والمآرب الدينية لما كانت مقصورة في السعادات المعنوية أو الحسية التي تنتهي إليها بالأخرة كان المراد بالبركة الواقعة في الظواهر التي فيها هو الخير المعنوي أو ينتهي إليه كما أن مباركته تعالى الواقعة في قول الملائكة النازلين على إبراهيم عليه‌السلام : « رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ » : ( هود : ٧٣ ) خيرات متنوعة معنوية كالدين والقرب وغيرهما وحسية كالمال وكثرة النسل وبقاء الذكر وغيرها وجميعها مربوطة بخيرات معنوية.

وعلى هذا فالبركة أعني كون الشيء مشتملا على الخير المطلوب كالأمر النسبي يختلف باختلاف الأغراض لأن خيرية الشيء إنما هي بحسب الغرض المتعلق به فالغرض من الطعام ربما كان إشباعه الجائع أو أن لا يضر آكله أو أن يؤدي إلى شفاء واستقامة مزاج أو يكون نورا في الباطن يتقوى به الإنسان على عبادة الله ونحو ذلك كانت البركة فيه استقرار شيء من هذه الخيرات فيه بتوفيق الله تعالى بين الأسباب والعوامل المتعلقة به ورفعه الموانع.

ومن هنا يظهر أن نزول البركة الإلهية على شيء واستقرار الخير فيه لا ينافي عمل سائر العوامل فيه واجتماع الأسباب عليه فليس معنى إرادة الله صفة أو حالة في شيء أن يبطل سائر الأسباب والعلل المقتضية له ـ وقد مر كرارا في أبحاثنا السابقة ـ فإنما الإرادة الإلهية سبب في طول الأسباب الأخر لا في عرضها. فإنزاله تعالى بركته على طعام مثلا هو أن يوفق بين الأسباب المختلفة الموجودة في أن لا تقتضي في الإنسان كيفية مزاجية يضره معها هذا الطعام ، وأن لا تقتضي فساده أو ضيعته أو سرقته أو نهبه أو نحو ذلك ، وليس معناه أن يبطل الله سائر الأسباب ويتكفل هو تعالى إيجاد الخير فيها

٢٨١

من غير توسيطها فافهم ذلك.

والبركة كثيرة الدور في لسان الدين فقد ورد في الكتاب العزيز ذكرها في آيات كثيرة بألفاظ مختلفة وكذا ورودها في السنة ، وقد تكرر ذكر البركة أيضا في العهدين في موارد كثيرة يذكر فيها إعطاء الله سبحانه البركة للنبي الفلاني أو إعطاء الكهنة البركة لغيرهم وقد كان أخذ البركة في العهد القديم كالسنة الجارية.

وقد ظهر مما تقدم بطلان زعم المنكرين لوجود البركة كما نقلناه عن الراغب فيما تقدم من عبارته فقد زعموا أن عمل الأسباب الطبيعية في الأشياء لا يدع مجالا لسبب آخر يعمل فيه أو يبطل أثرها وقد ذهب عنهم أن تأثيره تعالى في الأشياء في طول سائر الأسباب لا في عرضها حتى يئول الأمر إلى تزاحم أو إبطال ونحوهما.

قوله تعالى : « وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ـ إلى قوله ـ ما أَنْزَلَ اللهُ » عد الله سبحانه موارد ثلاثة من الظلم هي من أشد مراتبه التي لا يرتاب العقل العادي في شناعتها وفظاعتها ، ولذا أوردها في سياق السؤال.

والغرض من ذلك الدعوة إلى النزول على حكم العقل السليم والأخذ بالنصفة وخفض الجناح لصريح الحق فكأنه يقول : قل لهم : يجب علي وعليكم أن لا نستكبر عن الحق ولا نستعلي على الله تعالى بارتكاب ما هو من أشد الظلم وأشنعه وهو الظلم في جنب الله فكيف يصح لكم أن تفتروا على الله كذبا وتدعوا له شركاء تتخذونها شفعاء؟ وكيف يسوغ لي أن أدعي النبوة وأقول : أوحي إلي إن كنت لست بنبي يوحى إليه؟ وكيف يجوز لقائل أن يقول : سأنزل مثل ما أنزل الله ، فيسخر بحكم الله ويستهزئ بآياته؟.

ونتيجة هذه الدعوة أن ينقادوا لحكم النبوة فإنهم إذا اجتنبوا الافتراء على الله بالشرك ، وكف القائل « سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ » عن مقاله والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يصر على الوحي بقيت نبوته بلا معارض.

وافتراء الكذب على الله سبحانه وهو أول المظالم المعدودة وإن كان أعم بالنسبة إلى دعوى الوحي إذا لم يوح إليه وهو ثاني المظالم المعدودة ، ولذا قيل : إن ذكر الثاني بعد الأول من باب ذكر الخاص بعد العام اعتناء بشأن الوحي وإعظاما لأمره ، لكن التأمل في سياق الكلام ووجهه إلى المشركين يعطي أن المراد بالافتراء المذكور هو اتخاذ

٢٨٢

الشريك لله سبحانه ، وإنما لم يصرح بذلك ليرتفع به غائلة ذكر الخاص بعد العام لأن الغرض في المقام ـ كما تقدم ـ هو الدعوة إلى الأخذ بالنصفة والتجافي عن عصبية الجاهلية فلم يصرح بالمقصود وإنما أبهم إبهاما لئلا يتحرك بذلك عرق العصبية ولا يتنبه داعي النخوة.

فقوله : « مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً » وقوله : « أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ » متباينان من حيث المراد وإن كانا بحسب ظاهر ما يتراءى منهما أعم وأخص.

ويدل على ما ذكرنا ما في ذيل الآية من حديث التهديد بالعذاب والسؤال عن الشركاء والشفعاء.

وأما ما قيل : إن قوله : « أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ » نزل في مسيلمة حيث ادعى النبوة فسياق الآيات كما عرفت لا يلائمه بل ظاهره أن المراد به نفسه وإن كان الكلام مع الغض عن ذلك أعم.

على أن سورة الأنعام مكية ودعواه النبوة من الحوادث التي وقعت بعد الهجرة إلا أن هؤلاء يرون أن الآية مدنية غير مكية وسيأتي الكلام في ذلك في البحث الروائي التالي إن شاء الله.

وأما قوله : « وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ » فظاهره أنه حكاية قول واقع ، وأن هناك من قال : سأنزل مثل ما أنزل الله ، وأنه إنما قاله استهزاء بالقرآن الكريم حيث نسبه إلى الله سبحانه بالنزول ثم وعد الناس مثله بالإنزال ، ولم يقل : سأقول مثل ما قاله محمد أو سآتيكم بمثل ما أتاكم به.

ولذا ذكر بعض المفسرين أنه إشارة إلى قول من قال من المشركين : « لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ».

وقال آخرون : إن الآية إشارة إلى قول عبد الله بن سعد بن أبي سرح : إني أنزل مثل ما أنزل الله والآية مدنية ، ومنهم من قال غير ذلك كما سيجيء إن شاء الله في البحث الروائي ، والآية ليست ظاهرة الانطباق على شيء من ذلك فإنها تتضمن الوعد بأمر مستقبل ، وقولهم : لو نشاء لقلنا « إلخ » كلام مشروط وكذا قول عبد الله ـ إن صحت الرواية ـ إخبار

٢٨٣

عن أمر حالي جار واقع.

وكيف كان فقوله : « وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ » يحكي قولا قاله بعض المشركين من العرب استكبارا على آيات الله ، وإنما كرر فيه الموصول أعني قوله : « مَنْ » ولم يتكرر في قوله : « أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَ » « إلخ » لأن المظالم المعدودة وإن كانت ثلاثة لكنها من نظرة أخرى قسمان فالأول والثاني من الظلم في جنب الله في صورة الخضوع لجانبه والانقياد لأمره ، والثالث من الظلم في صورة الاستعلاء عليه والاستكبار عن آياته.

قوله تعالى : « وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ » إلى آخر الآية ، الغمر أصله ستر الشيء وإزالة أثره ولذا يطلق الغمرة على الماء الكثير الساتر لما تحته ، وعلى الجهل المطبق ، وعلى الشدة التي تحيط بصاحبها والغمرات الشدائد ، ومنه قوله تعالى : « فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ » ، والهون والهوان الذلة.

وبسط اليد معناه واضح غير أن المراد به معنى كنائي ، ويختلف باختلاف الموارد فبسط الغني يده جوده بماله وإحسانه لمن يستحقه ، وبسط الملك يده إدارته أمور مملكته من غير أن يزاحمه مزاحم وبسط المأمور الغليظ الشديد يده على المجرم المأخوذ به هو نكاله وإيذاؤه بضرب وزجر ونحوه.

فبسط الملائكة أيديهم هو شروعهم بتعذيب الظالمين ، وظاهر السياق أن الذي تفعله الملائكة بهؤلاء الظالمين هو الذي يترجم عنه قوله : « أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ » إلخ ، فهذه الجمل محكية عن الملائكة لا من قول الله سبحانه ، والتقدير : يقول الملائكة لهم أخرجوا أنفسكم « إلخ » فهم يعذبونهم بقبض أرواحهم قبضا يذوقون به أليم العذاب وهذا عذابهم حين الموت ولما ينتقلوا من الدنيا إلى ما وراءها ولهم عذاب بعد ذلك ولما تقم عليهم القيامة كما يشير إليه قوله تعالى : « وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ » : ( المؤمنون : ١٠٠ ).

وبذلك يظهر أن المراد باليوم في قوله : « الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ » هو يوم الموت الذي يجزون فيه العذاب وهو البرزخ كما ظهر أن المراد بالظالمين هم المرتكبون لبعض المظالم الثلاثة التي عدها الله سبحانه من أشد الظلم أعني افتراء الكذب على الله ، ودعوى النبوة كذبا والاستهزاء بآيات الله.

٢٨٤

ويؤيد ذلك ما ذكره الله من أسباب عذابهم من الذنوب وهو قولهم على الله غير الحق كما هو شأن المفتري الكذب على الله بنسبة الشريك إليه أو بنسبة حكم تشريعي أو وحي كاذب إليه ، واستكبارهم عن آيات الله كما هو شأن من كان يقول : « سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ ».

وكذلك قوله : « أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ » أمر تكويني لأن الموت والوفاة ليس في قدرة الإنسان كالحياة حتى يؤمر بذلك قال تعالى : « وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا » : ( النجم : ٤٤ ) فالأمر تكويني والملائكة من أسبابه ، والكلمة مصوغة صوغ الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية كأن النفس الإنسانية أمر داخل في البدن وبه حياته وبخروجه عن البدن طرو الموت وذلك أن كلامه تعالى ظاهر في أن النفس ليست من جنس البدن ولا من سنخ الأمور المادية الجسمانية وإنما لها سنخ آخر من الوجود يتحد مع البدن ويتعلق به نوعا من الاتحاد والتعلق غير مادي كما تقدم بيانه في بحث علمي في الجزء الأول من الكتاب وسيأتي في مواضع تناسبه إن شاء الله. فالمراد بقوله : « أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ » قطع علقة أنفسهم من أبدانهم وهو الموت ، والقول قول الملائكة على ما يعطيه السياق.

والمعنى : وليتك ترى حين يقع هؤلاء الظالمون المذكورون في شدائد الموت وسكراته والملائكة آخذون في تعذيبهم بالقبض الشديد العنيف لأرواحهم وإنبائهم بأنهم واقعون في عالم الموت معذبون فيه بعذاب الهون والذلة جزاء لقولهم على الله غير الحق ولاستكبارهم عن آياته.

قوله تعالى : « وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ » إلى آخر الآية الفرادى جمع فرد وهو الذي انفصل عن اختلاط غيره نوعا من الاختلاط ويقابله الزوج وهو الذي يختلط بغيره بنحو ويقرب منهما بحسب المعنى الوتر والشفع فالوتر ما لم ينضم إلى غيره والشفع ما انضم إلى غيره ، والتخويل إعطاء الخول أي المال ونحوه الذي يقوم الإنسان به بالتدبير والتصرف.

والمراد بالشفعاء الأرباب المعبودون من دون الله ليكونوا شفعاء عند الله فعادوا بذلك شركاء لله سبحانه في خلقه ، والآية تنبئ عن حقيقة الحياة الإنسانية التي ستظهر له حينما يقدم على ربه بالتوفي فيشاهد حقيقة أمر نفسه وأنه مدبر بالتدبير الإلهي لا غير

٢٨٥

كما كان كذلك في أول مرة كونته الخلقة ، وأن المزاعم التي انضمت إلى حياته من التكثر بالأسباب والاعتضاد والانتصار بالأموال والأولاد والأزواج والعشائر والجموع ، وكذا الاستشفاع بالأرباب من دون الله المؤدي إلى الإشراك كل ذلك مزاعم وأفكار باطلة لا أثر لها في ساحة التكوين أصلا.

فالإنسان جزء من أجزاء الكون واقع تحت التدبير الإلهي متوجه إلى الغاية التي غياها الله سبحانه له كسائر أجزاء الكون ، ولا حكومة لشيء من الأشياء في التدبير والتسيير الإلهي إلا أنها أسباب وعلل ينتهي تأثيرها إليه تعالى من غير أن تستقل بشيء من التأثير.

غير أن الإنسان إذا ركبته يد الخلقة وأوجدته فوقع نظره إلى زينة الحياة والأسباب والشفعاء الظاهرة وجذبته لذائذ الحياة تعلقت نفسه بها ودعته ذلك إلى التمسك بذيل الأسباب والخضوع لها ، وألهاه ذلك عن توجيه وجهه إلى مسبب الأسباب وفاطرها والذي إليه الأمر كله فأعطاها الاستقلال في السببية لا هم له إلا أن ينال لذائذ هذه الحياة المادية بالخضوع للأسباب فصار يلعب طول الحياة الدنيا بهذه المزاعم والأوهام التي أوقعته فيها نفسه المتلهية بلذائذ الحياة المادية ، واستوعب حياته اللعب بالباطل والتلهي به عن الحق كما قال تعالى : « وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ » : ( العنكبوت : ٦٤ ).

فهذا هو الذي يسوق إليه تعليم القرآن حيث يذكر أن الإنسان إذا خرج عن زي العبودية نسي ربه فأداه ذلك إلى نسيان نفسه قال تعالى : « نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ » : ( الحشر : ١٩ ).

لكن الإنسان إذا فارقت نفسه البدن بحلول الموت بطل ارتباطه بجميع الأسباب والعلل والمعدات المادية التي كانت ترتبط بها من جهة البدن وتتصل بها في هذه النشأة الدنيوية وشاهد عند ذلك بطلان استقلالها واندكاك عظمتها وتأثيرها فوقعت عين بصيرته على أن أمره أولا وآخرا إلى ربه لا غير وأن لا رب له سواه ولا مؤثر في شأنه دونه.

فقوله تعالى : « وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ » إشارة إلى حقيقة الأمر ، وقوله : « وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ » إلخ ، بيان لبطلان الأسباب الملهية له عن ربه المتخللة بين أول خلقه وبين يوم يقبض فيه إلى ربه ، وقوله : « لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ » بيان لسبب انقطاعه من الأسباب وسقوطها عن الاستقلال

٢٨٦

والتأثير ، وأن السبب في ذلك انكشاف بطلان المزاعم التي كان الإنسان يلعب بها طول حياته الدنيا.

فيتبين بذلك أن ليس لهذه الأسباب والضمائم في الإنسان من النصيب إلا أوهام ومزاعم يتلهى ويلعب بها الإنسان.

قوله تعالى : « إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى » إلى آخر الآية. الفلق هو الشق. لما انتهى الكلام في الآية السابقة إلى نفي استقلال الأسباب في تأثيرها ، وبطلان كون أربابهم شفعاء من دون الله المؤدي إلى كونهم شركاء لله صرف الكلام إلى بيان أن هذه التي يشتغل بها الإنسان عن ربه ليست إلا مخلوقات لله مدبرة بتدبيره ، ولا تؤثر أثرا ولا تعمل عملا في إصلاح حياة الإنسان وسوقه إلى غايات خلقته إلا بتقدير من الله وتدبير يدبره هو لا غير فهو تعالى الرب دون غيره.

فالله سبحانه هو يشق الحب والنوى فينبت منهما النبات والشجر اللذين يرتزق الناس من حبه وثمره ، وهو يخرج الحي من الميت والميت من الحي ـ وقد مر تفسير ذلك في الكلام على الآية ٢٧ من سورة آل عمران ـ ذلكم الله لا غير فأنى تؤفكون وإلى متى تصرفون من الحق إلى الباطل.

قوله تعالى : « فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً » إلى آخر الآية. الإصباح بكسر الهمزة هو الصبح وهو في الأصل مصدر ، والسكن ما يسكن إليه ، والحسبان جمع حساب ، وقيل : هو مصدر حسب حسابا وحسبانا. وقوله : « وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً » عطف على قوله : « فالِقُ الْإِصْباحِ » ولا ضير في عطف الجملة الفعلية على الاسمية إذا اشتملت على معنى الفعل وقرئ : « وجاعل ».

وفي فلق الصبح وجعل الليل سكنا يسكن فيه المتحركات عن حركاتها لتجديد القوى ودفع ما عرض لها من التعب والعي والكلال من جهة حركاتها طول النهار ، وجعل الشمس والقمر بما يظهر من الليل والنهار والشهور والسنين من حركاتهما في ظاهر الحس حسبانا تقدير عجيب للحركات في هذه النشأة المتغيرة المتحولة ينتظم بذلك نظام المعاش الإنساني ويستقيم به أمر حياته ، ولذلك ذيلها بقوله : « ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ » فهو العزيز الذي لا يقهره قاهر فيفسد عليه شيئا من تدبيره ، والعليم الذي لا يجهل بشيء من

٢٨٧

مصالح مملكته حتى ينظمه نظما ربما يفسد من نفسه ولا يدوم بطبعه.

قوله تعالى : « وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها » إلى آخر الآية. المعنى واضح والمراد بتفصيل الآيات إما تفصيلها بحسب الجعل التكويني أو تفصيلها بحسب البيان اللفظي.

ولا تنافي بين إرادة مصالح الإنسان في حياته وعيشته في هذه النشأة مما يتراءى لظاهر الحس من حركات هذه الأجرام العظيمة العلوية والكرات المتجاذبة السماوية ، وبين كون كل من هذه الأجرام مرادا بإرادة إلهية مستقلة ومخلوقة بمشية تتعلق بنفسه وتخص شخصه فإن الجهات مختلفة ، وتحقق بعض هذه الجهات لا يدفع تحقق بعض آخر والارتباط والاتصال حاكم على جميع أجزاء العالم.

قوله تعالى : « وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ » إلى آخر الآية ، قرئ « فَمُسْتَقَرٌّ » بفتح القاف وكسرها وهو على القراءة الأولى اسم مكان بمعنى محل الاستقرار فيكون « مُسْتَوْدَعٌ » أيضا اسم مكان بمعنى محل الاستيداع وهو المكان الذي توضع فيه الوديعة. وقد وقع ذكر المستقر والمستودع في قوله تعالى : « وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ » : « هود : ٦ » وفي الكلام حذف وإيجاز ، والتقدير : فمنكم من هو في مستقر ومنكم من هو في مستودع ، وعلى القراءة الثانية وهي الرجحى « فَمُسْتَقَرٌّ » اسم فاعل ويكون المستودع اسم مفعول لا محالة ، والتقدير فمنكم مستقر ومنكم مستودع لم يستقر بعد.

والظاهر أن المراد بقوله : « وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ » انتهاء الذرية الإنسانية على كثرتها وانتشارها إلى آدم الذي يعده القرآن الكريم مبدأ للنسل الإنساني الموجود ، وأن المراد بالمستقر هو البعض الذي تلبس بالولادة من أفراد الإنسان فاستقر في الأرض التي هي المستقر لهذا النوع كما قال تعالى : « وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ » : ( البقرة : ٣٦ ) والمراد بالمستودع من استودع في الأصلاب والأرحام ولم يولد بعد وسيولد بعد حين فهذا هو المناسب لمقام بيان الآية بإنشاء جميع الأفراد النوعية من فرد واحد ومن الممكن أن يؤخذ مستقر ومستودع مصدرين ميميين.

وقد عبر بلفظ الإنشاء دون الخلق ونحوه وهو ظاهر في الدفعة وما في حكمه دون

٢٨٨

التدريج ، ويؤيد هذا المعنى أيضا ما تقدم من قوله تعالى : « وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها » كما لا يخفى أي يعلم ما استقر منها في الأرض بفعلية التكون « وما هو في طريق التكون مما لم يتكون بالفعل ولم يستقر في الأرض.

فالمعنى : وهو الذي أوجدكم معشر الأناسي من نفس واحدة وعمر بكم الأرض إلى حين فهي مشغولة بكم ما لم تنقرضوا فلا يزال بعضكم مستقرا فيها وبعضكم مستودع في الأصلاب والأرحام أو في الأصلاب فقط في طريق الاستقرار فيها.

وقد أورد المفسرون في الآية معاني أخر كقول بعضهم : إن المراد من إنشائهم من نفس واحدة خلقهم من نوع واحد من النفس وهو النفس الإنسانية « أو إن المراد هو الإنشاء من نوع واحد من التركيب النفسي والبدني ، وهو الحقيقة الإنسانية المؤلفة من نفس وبدن إنسانيين.

وكقول بعضهم : إن المراد بالمستقر الأرحام وبالمستودع الأصلاب وقول بعض آخر : إن المستقر الأرض والمستودع القبر ، وقول بعض آخر : إن المستقر هو الرحم والمستودع الأرض أو القبر ، وقول بعض آخر : إن المستقر هو الروح والمستودع هو البدن ، إلى غير ذلك من أقاويلهم التي لا كثير جدوى في التعرض لها.

قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً » إلى آخر الآية. السماء هي جهة العلو فكلما علاك وأظلك فهو سماء ، والمراد بقوله : « فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ » على ما قيل ، فأخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء النبات والنمو الذي في كل شيء نام له قوة النبات من الكمون إلى البروز ، أي أنبتنا به كل شيء نباتي كالنجم والشجر والإنسان وسائر الحيوان.

والخضر هو الأخضر وكأنه مخفف الخاضر ، وتراكب الحب انعقاد بعضه فوق بعض كما في السنبلة ، والطلع أول ما يبدو من ثمر النخل ، والقنوان جمع قنو وهو العذق بالكسر وهو من التمر كالعنقود من العنب ، والدانية أي القريبة ، والمشتبه وغير المتشابه المشاكل وغير المشاكل في النوع والشكل وغيرهما. وينع الثمر نضجه.

وقد ذكر الله سبحانه أمورا مما خلقه لينظر فيها من له نظر وبصيرة فيهتدي

٢٨٩

بالنظر فيها إلى توحيده ، وهي أمور أرضية كفلق الحبة والنواة ونحو ذلك ، وأمور سماوية كالليل والصبح والشمس والقمر والنجوم ، وأمر راجع إلى الإنسان نفسه وهو إنشاء نوعه من نفس واحدة فمستقر ومستودع ، وأمور مؤلفة من الجميع كإنزال المطر من السماء وتهيئة الغذاء من نبات وحب وثمر وإنبات ما فيه قوة النمو كالنبات والحيوان والإنسان من ذلك.

وقد عد النجوم آية خاصة بقوم يعلمون ، وإنشاء النفوس الإنسانية آية خاصة بقوم يفقهون ، وتدبير نظام الإنبات آية لقوم يؤمنون والمناسبة ظاهرة فإن النظر في أمر النظام أمر بسيط لا يفتقر إلى مئونة زائدة بل يناله الفهم العادي بشرط أن يتنور بنصفة الإيمان ولا يتلطخ بقذارة العناد واللجاج ، وأما النظر في النجوم والأوضاع السماوية فمما لا يتخطى العلماء بهذا الشأن ممن يعرف النجوم ومواقعها وسائر الأوضاع السماوية إلى حد ما ولا يناله الفهم العام العامي إلا بمئونة : وأما آية الأنفس فإن الاطلاع عليها وعلى ما عندها من أسرار الخلقة يحتاج مضافا إلى البحث النظري إلى مراقبة باطنية وتعمق شديد وتثبت بالغ وهو الفقه.

قوله تعالى : « وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ » إلى آخر الآية. الجن إما مفعول لجعلوا ومفعوله الآخر شركاء أو بدل من شركاء ، وقوله : « وَخَلَقَهُمْ » كأنه حال وإن منعه بعض النحاة وحجتهم غير واضحة. وكيف كان فالكلمة في مقام ردهم ، والمعنى وجعلوا له شركاء الجن وهو خلقهم والمخلوق لا يجوز أن يشارك خالقه في مقامه.

والمراد بالجن الشياطين كما ينسب إلى المجوس القول : بأهرمن ويزدان ونظيره ما عليه اليزيدية الذين يقولون بألوهية إبليس ( الملك طاووس ـ شاه بريان ) أو الجن المعروف بناء على ما نسب إلى قريش أنهم كانوا يقولون : إن الله قد صاهر الجن فحدث بينهما الملائكة ، وهذا أنسب بسياق قوله : « وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ » وعلى هذا فالبنون والبنات هم جميعا من الملائكة خرقوهم أي اختلقوهم ونسبوهم إليه افتراء عليه سبحانه وتعالى عما يشركون.

ولو كان المراد من هو أعم من الملائكة لم يبعد أن يكون المراد بهم ما يوجد في سائر الملل غير الإسلام فالبرهمانية والبوذية يقولون بنظير ما قالته النصارى من بنوة المسيح

٢٩٠

كما تقدم في الجزء الثالث من الكتاب ، وسائر الوثنيين القدماء كانوا يثبتون لله سبحانه بنين وبنات من الآلهة على ما يدل عليه الآثار المكتشفة ، ومشركو العرب كانوا يقولون : إن الملائكة بنات الله.

قوله تعالى : « بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » إلى آخر الآية. جواب عن قولهم بالبنين والبنات ، ومحصله أن لا سبيل لتحقق حقيقة الولد إلا اتخاذ الصاحبة ولم يكن له تعالى صاحبة فأنى يكون له ولد؟.

وأيضا هو تعالى الخالق لكل شيء وفاطره ، والولد هو الجزء من الشيء يربيه بنوع من اللقاح وجزء الشيء والمماثل له لا يكون مخلوقا له البتة ، ويجمع الجميع أنه تعالى بديع السماوات والأرض الذي لا يماثله شيء من أجزائها بوجه من الوجوه فكيف يكون له صاحبة يتزوج بها أو بنون وبنات يماثلونه في النوع فهذا أمر يخبر به الله الذي لا سبيل للجهل إليه فهو بكل شيء عليم ، وقد تقدم في الكلام على قوله تعالى : « ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ » الخ : ( آل عمران : ٧٩ ) في الجزء الثالث من الكتاب ما ينفع في المقام.

قوله تعالى : « ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ » إلى آخر الآيتين الجملة الأولى أعني قوله : « ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ » نتيجة متخذة من البيان المورد في الآيات السابقة ، والمعنى : إذا كان الأمر على ما ذكر فالله الذي وصفناه هو ربكم لا غير ، وقوله : « لا إِلهَ إِلَّا هُوَ » كالتصريح بالتوحيد الضمني الذي تشتمل عليه الجملة السابقة ، وهو مع ذلك يفيد معنى التعليل أي هو الرب ليس دونه رب لأنه الله الذي ليس دونه إله وكيف يكون غيره ربا وليس بإله.

وقوله : « خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ » تعليل لقوله : « لا إِلهَ إِلَّا هُوَ » أي إنما انحصرت الألوهية فيه لأنه خالق كل شيء من غير استثناء فلا خالق غيره لشيء من الأشياء حتى يشاركه في الألوهية ، وكل شيء مخلوق له خاضع له بالعبودية فلا يعادله فيها.

وقوله : « فَاعْبُدُوهُ » متفرع كالنتيجة على قوله « ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ » أي إذا كان الله سبحانه هو ربكم لا غير فاعبدوه ، وقوله : « وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ » أي هو القائم على كل شيء المدبر لأمره الناظم نظام وجوده وحياته وإذا كان كذلك كان من الواجب أن يتقى فلا يتخذ له شريك بغير علم فالجملة كالتأكيد لقوله : « فَاعْبُدُوهُ » أي لا تستنكفوا

٢٩١

عن عبادته لأنه وكيل عليكم غير غافل عن نظام أعمالكم.

وأما قوله : « لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ » فهو لدفع الدخل الذي يوهمه قوله : « وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ » بحسب ما تتلقاه أفهام المشركين الساذجة والخطاب معهم ، وهو أنه إذا صار وكيلا عليهم كان أمرا جسمانيا كسائر الجسمانيات التي تتصدى الأعمال الجسمانية فدفعه بأنه تعالى لا تدركه الأبصار لتعاليه عن الجسمية ولوازمها ، وقوله : « وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ » دفع لما يسبق إلى أذهان هؤلاء المشركين الذين اعتادوا بالتفكر المادي ، وأخلدوا إلى الحس والمحسوس وهو أنه تعالى إذا ارتفع عن تعلق الأبصار به خرج عن حيطة الحس والمحسوس وبطل نوع الاتصال الوجودي الذي هو مناط الشعور والعلم ، وانقطع عن مخلوقاته فلا يعلم بشيء كما لا يعلم به شيء ، ولا يبصر شيئا كما لا يبصره شيء فأجاب تعالى عنه بقوله : « وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ » ثم علل هذه الدعوى بقوله : « وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ » واللطيف هو الرقيق النافذ في الشيء ، والخبير من له الخبرة ، فإذا كان تعالى محيطا بكل شيء بحقيقة معنى الإحاطة كان شاهدا على كل شيء لا يفقده ظاهر شيء من الأشياء ولا باطنه ، وهو مع ذلك ذو علم وخبرة كان عالما بظواهر الأشياء وبواطنها من غير أن يشغله شيء عن شيء أو يحتجب عنه شيء بشيء فهو تعالى يدرك البصر والمبصر معا ، والبصر لا يدرك إلا المبصر.

وقد نسب إدراكه إلى نفس الأبصار دون أولي الأبصار لأن الإدراك الموجود فيه تعالى ليس من قبيل إدراكاتنا الحسية حق يتعلق بظواهر الأشياء من أعراضها كالبصر مثلا الذي يتعلق بالأضواء والألوان ويدرك به القرب والبعد والعظم والصغر والحركة والسكون بنحو بل الأغراض وموضوعاتها بظواهرها وبواطنها حاضرة عنده مكشوفة له غير محجوبة عنه ولا غائبة فهو تعالى يجد الأبصار بحقائقها وما عندها وليست تناله.

ففي الآيتين من سطوح البيان وسهولة الطريق وإيجاز القول ما يحير اللب وهما مع ذلك تهديان المتدبر فيهما إلى أسرار دونها أستار.

( كلام في عموم الخلقة وانبساطها على كل شيء )

قوله تعالى : « ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ » ظاهره وعموم الخلقة لكل شيء وانبساط إيجاده تعالى على كل ما له نصيب من الوجود والتحقق ، وقد تكرر

٢٩٢

هذا اللفظ أعني قوله تعالى : « خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ » منه تعالى في كلامه من غير أن يوجد فيه ما يصلح لتخصيصه بوجه من الوجوه قال تعالى : « قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ » : ( الرعد : ١٦ ) وقال تعالى : « اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ » : ( الزمر : ٦٢ ) و. قال تعالى « ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ » : ( المؤمن : ٦٢ ).

وقد نشبت بين الباحثين من أهل الملل في هذه المسألة مشاجرات عجيبة يتبعها أقاويل مختلفة حتى من المتكلمين والفلاسفة من النصارى واليهود فضلا عن متكلمي الإسلام وفلاسفته ، ولا يهمنا المبادرة إلى إيراد أقوالهم وآرائهم والتكلم معهم ، وإنما بحثنا هذا قرآني تفسيري لا شغل لنا بغير ما يتحصل به الملخص من نظر القرآن الكريم بالتدبر في أطراف آياته الشريفة.

نجد القرآن الكريم يسلم ما نتسلمه من أن الموضوعات الخارجية والأشياء الواقعة في دار الوجود كالسماء وكواكبها ونجومها والأرض وجبالها ووهادها وسهلها وبحرها وبرها وعناصرها ومعدنياتها والسحاب والرعد والبرق والصواعق والمطر والبرد والنجم والشجر والحيوان والإنسان لها آثار وخواص هي أفعالها وهي تنسب إليها نسبة الفعل إلى فاعله والمعلول إلى علته.

ونجده يصدق أن للإنسان كسائر الأنواع الموجودة أفعالا تستند إليه وتقوم به كالأكل والشرب والمشي والقعود وكالصحة والمرض والنمو والفهم والشعور والفرح والسرور من غير أن يفرق بينه وبين غيره من الأنواع في شيء من ذلك فهو يخبر عن أعماله ويأمره وينهاه ، ولو لا أن له فعلا لم يرجع شيء من ذلك إلى معنى محصل. فالقرآن يزن الواحد من الإنسان بعين ما نزنه نحن معشر الإنسان في مجتمعنا فنعتقد أن له أفعالا وآثارا منسوبة إليه نؤاخذه في بعض أفعاله التي ترجع بنحو إلى اختياره كالأكل والشرب والمشي ونصفح عنه فيما لا يرجع إلى اختياره من آثاره القائمة به كالصحة والمرض والشباب والمشيب وغير ذلك.

فالقرآن ينظم النظام الموجود مثل ما ينتظم عند حواسنا وتؤيده عقولنا بما شفعت به من التجارب ، وهو أن أجزاء هذا النظام على اختلاف هوياتها وأنواعها فعالة

٢٩٣

بأفعالها مؤثرة متأثرة في غيرها ومن غيرها وبذلك تلتئم أجزاء النظام الموجود الذي لكل جزء منها ارتباط تام بكل جزء ، وهذا هو قانون العلية العام في الأشياء ، وهو أن كل ما يجوز له في نفسه أن يوجد وأن لا يوجد فهو إنما يوجد عن غيره فالمعلول ممتنع الوجود مع عدم علته ، وقد أمضى القرآن الكريم صحة هذا القانون وعمومه ، ولو لم يكن صحيحا أو تخلف في بعض الموارد لم يتم الاستدلال به أصلا ، وقد استدل القرآن به على وجود الصانع ووحدانيته وقدرته وعلمه وسائر صفاته.

وكما أن المعلول من الأشياء يمتنع وجوده مع عدم علته كذلك يجب وجوده مع وجود علته قضاء لحق الرابطة الوجودية التي بينهما. وقد أنفذه الله سبحانه في كلامه في موارد كثيرة استدل فيها من طريق ما له من الصفات العليا على ثبوت آثارها ومعاليلها كقوله : ( وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) وقوله : ( إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ ) ، ( أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ، ( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) وغير ذلك ، واستدل أيضا على كثير من الحوادث والأمور بثبوت أشياء أخرى يستعقب ثبوتها بعدها كقوله : « فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ » : ( يونس : ٧٤ ) وغير ذلك مما ذكر من أمر المؤمنين والكافرين والمنافقين ولو جاز أن يتخلف أثر من مؤثره إذا اجتمعت الشرائط اللازمة وارتفعت الموانع المنافية لم يصح شيء من هذه الحجج والأدلة البتة.

فالقرآن يسلم حكومة قانون العلية العام في الوجود ، وأن لكل شيء من الأشياء الموجودة وعوارضها ولكل حادث من الحوادث الكائنة علة أو مجموع علل بها يجب وجوده وبدونها يمتنع وجوده هذا مما لا ريب فيه في بادئ التدبر.

ثم إنا نجد أن الله سبحانه في كلامه يعمم خلقه على كل ما يصدق عليه شيء من أجزاء الكون قال تعالى : « قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ » : ( الرعد : ١٦ ) إلى غير ذلك من الآيات المنقولة آنفا ، وهذا ببسط عليته وفاعليته تعالى لكل شيء مع جريان العلية والمعلولية الكونية بينها جميعا كما تقدم بيانه.

وقال تعالى : « الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ـ إلى أن قال ـ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً » : ( الفرقان : ٢ ) وقال : « الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى » : ( طه : ٥٠ ) وقال : « الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى » : ( الأعلى : ٣ ) إلى غير ذلك من الآيات.

٢٩٤

وفي هذه الآيات نوع آخر من البيان أخذت فيه الأشياء منسوبة إلى الخلقة وأعمالها وأنواع آثارها وحركاتها وسكناتها منسوبة إلى التقدير والهداية الإلهية فإلى تقديره تعالى تنتهي خصوصيات أعمال الأشياء وآثارها كالإنسان يخطو ويمشي في انتقاله المكاني والحوت يسبح والطير يطير بجناحيه قال تعالى : « فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ » : ( النور : ٤٥ ) والآيات في هذا المعنى كثيرة ، فخصوصيات أعمال الأشياء وحدودها وأقدارها تنتهي إليه تعالى ، وكذلك الغايات التي تقصدها الأشياء على اختلافها فيها وتشتتها وتفننها إنما تتعين لها وتروم نحوها بالهداية الإلهية التي تصحبها منذ أول وجودها إلى آخره ، وينتهي ذلك إلى تقدير العزيز العليم.

فالأشياء في جواهرها وذواتها تستند إلى الخلقة الإلهية وحدود وجودها وتحولاتها وغاياتها وأهدافها في مسير وجودها وحياتها كل ذلك ينتهي إلى التقدير المنتهي إلى خصوصيات الخلقة الإلهية وهناك آيات أخرى كثيرة ناطقة بأن أجزاء الكون متصل بعضه ببعض متلائم بعض منه مع بعض متوحدة في الوجود يحكم فيها نظام واحد لا مدبر له إلا الله سبحانه ، وهو الذي ربما سمي ببرهان اتصال التدبير.

فهذا ما ينتجه التدبر في كلامه تعالى غير أن هناك جهات أخرى ينبغي للباحث المتدبر أن لا يغفل عنها وهي ثلاث :

إحداها : أن من الأشياء ما لا يرتاب في قبحه وشناعته كأنواع الظلم والفجور التي ينقبض العقل من نسبتها إلى ساحة القدس والكبرياء والقرآن الكريم أيضا ينزهه تعالى عن كل ظلم وسوء في آيات كثيرة كقوله : « وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ » ( حم السجدة : ٤٦ ) وقوله : « قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ » : ( الأعراف : ٢٨ ) وغير ذلك ، وهذا ينافي عموم الخلقة لكل شيء فمن الواجب أن تخصص الآية بهذا المخصص العقلي والشرعي.

وينتج ذلك أن الأفعال الإنسانية مخلوقة للإنسان وما وراءه من الأشياء ذواتها وآثارها مخلوقة لله سبحانه.

على أن كون الأفعال الإنسانية مخلوقة له تعالى يبطل كونها عن اختيار الإنسان ، ويبطل بذلك نظام الأمر والنهي والطاعة والمعصية والثواب والعقاب وإرسال الرسل

٢٩٥

وإنزال الكتب وتشريع الشرائع. كذا ذكره جمع من الباحثين.

وقد ذهب على هؤلاء في بحثهم أن يفرقوا بين الأمور الحقيقية التي تنال الوجود والتحقق حقيقة ، والأمور الاعتبارية والجهات الوضعية التي لا ثبوت لها في الواقع ، وإنما اضطر الإنسان إلى تصورها أو التصديق بها حاجة الحياة ، وابتغاء سعادة الوجود بالاجتماع والتمدن فخلطوا بين الجهات الوجودية والعدمية في الأشياء ، وقد تقدمت نبذة من هذا البحث في الكلام على الجبر والتفويض في الجزء الأول من الكتاب.

والذي يناسب المقام من الكلام أن ظاهر قوله : « اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ » يعمم الخلقة لكل شيء ثم قوله تعالى : « الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ » : ( السجدة : ٧ ) يثبت الحسن لكل ما خلقه الله ، ويتحصل من الآيتين أن كل ما يصدق عليه اسم شيء ما خلا الله فهو مخلوق ، وأن كل مخلوق فهو متصف بالحسن فالخلق والحسن متلازمان في الوجود فكل شيء فهو من جهة أنه مخلوق لله أي بتمام واقعيته الخارجية حسن فلو عرض لها عارض السوء والقبح كان من جهة النسب والإضافات وأمور أخرى غير جهة واقعيته ووجوده الحقيقي الذي ينسب به إلى الله سبحانه وإلى فاعله المعروض له.

ثم إنا نحصل في كلامه تعالى على موارد كثيرة يذكر فيها السيئة والظلم والذنب وغيرها ذكر تسليم فلنقض بضمها إلى ما تقدم بأن هذه معان وعناوين غير حقيقية لا يلحق الشيء من جهة انتسابه إلى الله سبحانه وخلقه له ، وإنما يلحق الموضوع الذي يقوم الأثر والعمل به من جهة وضع أو نسبة أو إضافة فإن كل معصية وظلم فإن معه من سنخه ما ليس بمعصية وإنما يختلفان من جهة اشتمال أحدهما على مخالفة أمر تشريعي أو عقلي أو اشتماله على فساد في المجتمع أو نقض لغاية دون الآخر مثاله الزنا والنكاح وهما فعلان متماثلان لا يختلفان في حقيقتهما ووجودهما النوعي مثلا وإنما يختلفان بالموافقة والمخالفة للشرع الإلهي أو السنة الاجتماعية أو مصلحة المجتمع ، وتلك أمور وضعية وجهات إضافية ، والخلقة والإيجاد إنما يتعلق بجهة التكوين والخارج ، وأما الجهات الإضافية والعناوين الوضعية التي تلحق الأشياء بحسب انطباقها على المصالح والمفاسد الاجتماعية المستعقبة للمدح والذم أو الثواب والعقاب بحسب ما يشخصها ويحكم بها العقل العملي والشعور الاجتماعي فإنما هي أمور لا تتعدى طور الاجتماع ولا يدخل في دار التكوين أصلا إلا

٢٩٦

آثارها التي هي أقسام الثواب والعقاب مثلا.

فالفعل الكذائي كالظلم بعنوانه الذي هو الظلم قبيح في ظرف الاجتماع ومعصية تستتبع الذم والعقاب عند المجتمعين ، وأما بحسب التكوين فليس إلا أثرا أو مجموع آثار من قبيل الحركات العارضة للإنسان والعلل الخارجية وخاصة السببية الأولى الإلهية إنما تنتج هذه الجهة التي هي جهة التكوين ، وأما عنوانه القبيح وما يلحق به فإنما هو مولود النظر التشريع أو العقلائي لا خبر عنه بنظر التكوين كما أن زيدا الرئيس هو بعنوانه الذي هو الرئاسة موضوع اجتماعي عندنا له آثار مترتبة عليه في المجتمع كالاحترام والتقدم ونفوذ الكلمة وإدارة الأمور ، وأما من حيث التكوين والواقعية فإنما هو فرد من أفراد الإنسان لا فرق بينه وبين الفرد المرءوس أصلا ، ولا خبر في هذا النظر عن الرئاسة والآثار المرتبة عليها ، وكذا الغني والفقير والسيد والمسود والعزيز والذليل والشريف والخسيس وأمثال ذلك مما لا يحصى.

وبالجملة الخلقة في عين أنها تعم كل شيء إنما تتعلق بالموضوعات والأفعال الواقعة في ظرف الاجتماع المعنونة بمختلف عناوينها بجهة تكوينها وواقعيتها الخارجية ، وأما ما وراء ذلك من جهات القبح والحسن والمعصية والطاعة وسائر الأوصاف والعناوين الاجتماعية الطارئة على الأفعال والموضوعات فالخلق والإيجاد لا يتعلق بها ، وليس لها ثبوت إلا في ظرف التشريع أو القضاء الاجتماعي وساحة الاعتبار والوضع.

وإذا تبين أن ظرف تحقق الأمر والنهي وانتشاء الحسن والقبح والطاعة والمعصية وتعلق الثواب والعقاب وارتباطهما بالفعل وكذا سائر الأمور والعناوين الاجتماعية كالمولوية والعبودية والرئاسة والمرءوسية والعزة والذلة ونحو ذلك غير ظرف التكوين وساحة الواقعية الخارجية التي يتعلق بها الخلق والإيجاد ظهر أن عموم الخلقة لكل شيء لا يستلزم شيئا من المفاسد التي ذكروها كبطلان نظام الأمر والنهي والثواب والعقاب وغير ذلك مما تقدم ذكره.

وكيف يسوغ لمن تدبر كلامه تعالى أن يفتي بمثل هذه الثنوية وكلامه مشحون بأنه خالق كل شيء وأنه الله الواحد القهار وأن قضاءه وقدره وهدايته التكوينية وربوبيته وتدبيره شامل لكل شيء لا يشذ عنه شاذ ، وأن ملكه وسلطانه وإحاطته وكرسيه وسع

٢٩٧

كل شيء ، وأن له ما في السماوات والأرض وما ظهر وما بطن ، وكيف يستقيم شيء من هذه التعاليم الإلهية المنبئة عن توحيده في ربوبيته مع وجود ما لا يحصى من مخلوقات غيره خلال مخلوقاته.

الثانية : أن القرآن الكريم إذ ينسب خلق كل شيء إليه تعالى ويحصر العلة الفاعلة فيه كان لازمه إبطال رابطة العلية والمعلولية بين الأشياء فلا مؤثر في الوجود إلا الله ، وإنما هي عادته تعالى جرت أن يخلق ما نسميه معلولا عقيب ما نسميه علة من غير أن تكون بينهما رابطة توجب وجود المعلول منهما عقيب العلة فالنار التي تستعقب الحرارة نسبتها إلى الحرارة والبرودة على السواء ، والحرارة نسبتها إلى النار والثلج على السواء غير أن عادة الله جرت أن يخلق الحرارة عقيب النار والبرودة بعد الثلج من غير أن يكون هناك إيجاب واقتضاء بوجه أصلا.

وهذا النظر يبطل قانون العلية والمعلولية العام الذي عليه المدار في القضاء العقلي وببطلانه ينسد باب إثبات الصانع ولا تصل النوبة مع ذلك إلى كتاب إلهي يحتج به على بطلان رابطة العلية والمعلولية بين الأشياء ، وكيف يسع أن يبطل القرآن الشريف حكما صريحا عقليا ويعزل العقل عن قضائه؟ وإنما تثبت حقيته وحجيته بالحكم العقلي والقضاء الوجداني ، وهو إبطال النتيجة لدليلها الذي لا يؤثر إلا إبطال النتيجة لنفسها.

وهؤلاء إنما وقعوا فيما وقعوا من جهة خلطهم بين العلل الطولية والعرضية وإنما يستحيل توارد العلتين على شيء إذا كانتا في عرض واحد لا إذا كانت إحداهما في طول الأخرى ، مثال ذلك أن العلة التامة لوجود النار كما توجب وجود النار كذلك توجب وجود الحرارة ولا يجتمع مع ذلك في الحرارة إيجابان ولا تعمل فيها علتان تامتان مستقلتان بل علة معلولة لعلة.

وبتقريب آخر أدق : منشأ الخطإ هو عدم التمييز بين الفاعل بمعنى ما منه والفاعل بمعنى ما به ولاستقصاء القول في المسألة محل آخر.

الثالثة : وهي قريبة المأخذ من الثانية أنهم لما وجدوا أنه تعالى ينسب خلق كل شيء إلى نفسه ، وهو تعالى مع ذلك يسلم وجود رابطة العلية والمعلولية بين الأشياء أنفسها حسبوا أن ما له علة ظاهرة معلومة من الأشياء فهي العلة له دونه تعالى وإلا لزم اجتماع

٢٩٨

علتين مستقلتين على معلول واحد ولا يبقى لتأثيره تعالى إلا حدوث الأشياء وبدء وجودها ولذا تراهم يرومون إثبات الصانع من جهة حدوث الأشياء كحدوث الإنسان بعد ما لم يكن وحدوث الأرض بعد ما لم تكن وحدوث العالم بعد ما لم يكن.

ويضيفون إلى ذلك وجود أمور أو حدوث حوادث مجهولة العلل للإنسان كالروح وكالحياة في الإنسان والحيوان والنبات فإن الإنسان لم يظفر بعلل وجودها بعد ، والبسطاء منهم يضيفون إلى ذلك أمثال السحب والثلوج والأمطار وذوات الأذناب والزلازل والقحط والغلاء والأمراض العامة ونحو ذلك مما لا يظهر عللها الطبيعية للأفهام العامية ثم كلما لاح لهم في شيء منها علته الطبيعية انهزموا منه إلى غيره وبدلوا موقفا بآخر أو سلموا للخصم.

وهذا بحسب اللسان العلمي هو أن الوجود الممكن إنما يحتاج إلى الواجب في حدوثه لا في بقائه ، وهو الذي يصر عليه جم غفير من أهل الكلام حتى صرح بعضهم : أنه لو جاز العدم على الواجب لم يضر عدمه وجود العالم تعالى الله وتقدس ، وهذا ـ فيما نحسب ـ رأي إسرائيلي تسرب في أذهان عدة من الباحثين من المسلمين ومن فروع ذلك قولهم باستحالة البداء والنسخ ، والرأي جار سار بين الناس مع ذلك.

وكيف كان هو من أردإ الأوهام والاحتجاج القرآني يخالفه فإن الله سبحانه يستدل على وجود الصانع ووحدته بالآيات المشهودة في العالم وهو النظام الجاري في كل نوع من الخليقة وما يجري عليه في مسير وجوده وأمد حياته من التغير والتحول والفعل والانفعال والمنافع التي يستدرها من ذلك ويوصلها إلى غيره كالشمس والقمر والنجوم وطلوعها وغروبها وما يستجلبه الناس من منافعها والتحولات الفصلية الطارئة على الأرض والبحار والأنهار والفلك التي تجري فيها والسحب والأمطار وما ينتفع به الإنسان من الحيوان والنبات وما يجري عليه من الأحوال الطبيعية والتغيرات الكونية من نطفية وجنينية وصباوة وشباب وشيب وهرم وغير ذلك.

وجميع ذلك من الجهات الراجعة إلى الأشياء من حيث بقائها وموضوعاتها علل أعراضها وآثارها وكل مجموع منها في حين علة للمجموع الحاصل بعد ذلك الحين ، وحوادث اليوم علل حوادث الغد كما أنها معلولة حوادث الأمس.

ولو كانت الأمور من حيث بقائها مستغنية عن الله سبحانه واستقلت بما يكتنف

٢٩٩

بها من الحوادث ويطرأ عليها من الآثار والأعمال لم يستقم شيء من هذه الحجج الباهرة والبراهين القاهرة وذلك أن احتجاج القرآن بهذه الآيات البينات من جهتين :

إحداهما : من جهة الفاعل كما يشير إليه أمثال قوله تعالى : « أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » : ( إبراهيم : ١٠ ) فإن من الضروري أن شيئا من هذه الموجودات لم يفطر ذاته ولم يوجد نفسه ، ولا أوجده شيء آخر مثله فإنه يناظره في الحاجة إلى إيجاد موجد ، ولو لم ينته الأمر إلى أمر موجود بذاته لا يقبل طرو العدم عليه لم يوجد في الخارج شيء من هذه الأشياء فهي موجودة بإيجاد الله الذي هو في نفسه حق لا يقبل بطلانا ولا تغيرا بوجه عما هو عليه.

ثم إنها إذا وجدت لم تستغن عنه فليس إيجاد شيء شيئا من قبيل تسخين المسخن مثلا حيث تنصب الحرارة بالانفصال من المسخن إلى المتسخن فيعود المتسخن واجدا للوصف بقي المسخن بعد ذلك أو زال ، إذ لو كانت إفاضة الوجود على هذه الوتيرة عاد الوجود المفاض مستقلا بنفسه واجبا بذاته لا يقبل العدم لمكان المناقضة ، وهذا هو الذي يعبر عنه الفهم الساذج الفطري بأن الأشياء لو ملكت وجود نفسها واستقلت بوجه عن ربها لم يقبل الهلاك والفساد فإن من المحال أن يستدعي الشيء بطلان نفسه أو شقاءها.

وهو الذي يستفاد من أمثال قوله : « كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ » : ( القصص : ٨٨ ) وقوله : « وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً » : ( الفرقان : ٣ ) ويدل على ذلك أيضا الآيات الكثيرة الدالة على أن الله سبحانه هو المالك لكل شيء لا مالك غيره ، وأن كل شيء مملوك له لا شأن له إلا المملوكية.

فالأشياء كما تستفيض منه تعالى الوجود في أول كونها وحدوثها كذلك تستفيض منه ذلك في حال بقائها وامتداد كونها وحياتها فلا يزال الشيء موجودا ما يفيض عليه الوجود وإذا انقطع عنه الفيض انمحى رسمه عن لوح الوجود قال تعالى : « كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً » : ( الإسراء : ٢٠ ) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

وثانيتهما : من جهة الغايات كما تشير إليه الآيات الواصفة للنظام الجاري في الكون متلائمة أجزاؤه متوافقة أطرافه يضمن سير الواحد منها إيصال الآخر إلى كماله

٣٠٠