الميزان في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٩

( بحث روائي )

في قصص الأنبياء ، للثعلبي : أن إلياس أتى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل ـ لها ابن يسمى اليسع بن خطوب ، وكان به ضر فآوته وأخفت أمره ـ فدعا له فعوفي من الضر الذي كان به ، واتبع اليسع إلياس فآمن به وصدقه ولزمه ـ فكان يذهب حيثما يذهب ، ثم ذكر قصة رفع إلياس ، وأن اليسع ناداه عند ذلك : يا إلياس ما تأمرني به؟ فقذف إليه كساءه من الجو الأعلى ـ فكان ذلك علامة على استخلافه إياه على بني إسرائيل.

قال : ونبأ الله تعالى بفضله اليسع عليه‌السلام ـ وبعثه نبيا ورسولا إلى بني إسرائيل ، وأوحى الله تعالى إليه وأيده ـ بمثل ما أيد به عبده إلياس ـ فآمنت به بنو إسرائيل ـ وكانوا يعظمونه وينتهون إلى رأيه وأمره ، وحكم الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع.

وفي البحار ، عن الاحتجاج والتوحيد والعيون في خبر طويل رواه الحسن بن محمد النوفلي عن الرضا عليه‌السلام : فيما احتج به على جاثليق النصارى إلى أن قال عليه‌السلام : إن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى عليه‌السلام ـ مشى على الماء وأحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ـ فلم يتخذه أمته ربا. الخبر.

وفي تفسير العياشي ، عن محمد بن الفضيل عن الثمالي عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قوله : « وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا » لنجعلها في أهل بيته ، « وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ » لنجعلها في أهل بيته ـ فأمر العقب من ذرية الأنبياء ـ من كان قبل إبراهيم ولإبراهيم.

أقول : وفيه تأييد ما قدمناه أن الآيات لبيان اتصال سلسلة الهداية.

وفي الكافي ، مسندا وفي تفسير العياشي ، مرسلا عن بشير الدهان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : والله لقد نسب الله عيسى بن مريم في القرآن ـ إلى إبراهيم من قبل النساء ثم تلا : ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ ) إلى آخر الآية وذكر عيسى.

وفي تفسير العياشي ، عن أبي حرب عن أبي الأسود قال : أرسل الحجاج إلى يحيى بن معمر قال : بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي ـ تجدونه في كتاب الله ، وقد قرأت كتاب الله من أوله إلى آخره فلم أجده. قال : أليس تقرأ سورة الأنعام؟

« وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ » حتى بلغ يحيى وعيسى ـ قال : أليس عيسى من ذرية إبراهيم؟

٢٦١

قال : نعم قرأت.

أقول : ورواه في الدر المنثور ، عن ابن أبي حاتم عن أبي الحرب بن أبي الأسود : مثله.

وفي الدر المنثور ، أخرج أبو الشيخ والحاكم والبيهقي عن عبد الملك بن عمير قال : دخل يحيى بن معمر على الحجاج فذكر الحسين ـ فقال الحجاج : لم يكن من ذرية النبي ص. فقال يحيى : كذبت ـ فقال لتأتيني على ما قلت ببينة ـ فتلا : « وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ ـ إلى قوله ـ وَعِيسى وَإِلْياسَ » فأخبر تعالى أن عيسى من ذرية إبراهيم بأمه. قال : صدقت.

أقول : ذكر الآلوسي في روح المعاني ، في قوله تعالى : « و ( عِيسى ) » ، وفي ذكره عليه‌السلام دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنات لأن انتسابه ليس إلا من جهة أمه. وأورد عليه : أنه ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه فلا يظهر قياس غيره عليه في كونه ذرية لجده من الأم وتعقب بأن مقتضى كونه بلا أب أن يذكر في حيز الذرية. وفيه منع ظاهر والمسألة خلافية ، والذاهبون إلى دخول ابن البنت في الذرية يستدلون بهذه الآية ، وبها احتج موسى الكاظم رضي الله عنه على ما رواه البعض عند الرشيد.

وفي التفسير الكبير : ، أن أبا جعفر رضي الله تعالى عنه استدل بها عند الحجاج بن يوسف وبآية المباهلة حيث دعا صلى‌الله‌عليه‌وآله الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما بعد ما نزل « تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ». وادعى بعضهم : أن هذا من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد اختلف إفتاء أصحابنا في هذه المسألة ، والذي أميل إليه القول بالدخول. انتهى.

وقال في المنار : وأقول : في الباب حديث أبي بكرة عند البخاري مرفوعا : « أن ابني هذا سيد » يعني الحسن ، ولفظ ابن لا يجري عند العرب على أولاد البنات ، وحديث عمر في كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم مرفوعا : « وكل ولد آدم فإن عصبتهم لأبيهم ـ خلا ولد فاطمة فإني أبوهم وعصبتهم » وقد جرى الناس على هذا فيقولون في أولاد فاطمة عليه‌السلام : أولاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبناؤه وعترته وأهل بيته. انتهى.

أقول : وفي المسألة خلط ، وقد اشتبه الأمر فيها على عدة من الأعلام فحسبوا أن المسألة لفظية يتبع فيها اللغة حتى احتج فيها بعضهم بمثل قول الشاعر :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

٢٦٢

وقوله :

وإنما أمهات الناس أوعية

مستودعات وللأنساب آباء

وقد أخطئوا في ذلك ، وإنما هي مسألة حقوقية اجتماعية من شعب مسألة القرابة ، والأمم والأقوام مختلفة في تحديدها وتشخيصها وأن المرأة هل هي داخلة في القرابة؟ وأن أولاد بنت الرجل هل هي أولاده؟ وأن القرابة هل تختص بما يحصل بالولادة أو تعمه وما حصل بالادعاء؟ وقد كانت عرب الجاهلية لا ترى للمرأة إلا القرابة الطبيعية التي تؤثر أثرها في الازدواج والإنفاق ونحو ذلك ، ولا ترى لها قرابة قانونية تسمح لها بالوراثة ونحوها ، وأما أولاد البنات فلم تكن ترى لها قرابة ، وكانت ترى قرابة الأدعياء وتسمى الدعي ابنا لا لأن اللغة كانت تجوز ذلك بل لأنهم اتبعوا في ذلك ما تجاورهم من الأمم الراقية ترى ذلك بحسب قوانينها المدنية أو سننها القومية كالروم وإيران.

وأما الإسلام فقد ألغى قرابة الأدعياء من رأس قال تعالى : « وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ » : ( الأحزاب : ٤ ) وأدخل المرأة في القرابة ورتب على ذلك آثارها وأدخل أولاد البنات في الأولاد قال تعالى في آية الإرث : « يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ » الآية : ( النساء : ١١ ) وقال : « لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ » : ( النساء : ٧ ) وقال في آية محرمات النكاح : « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ ـ إلى أن قال ـ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ » : ( النساء : ٢٤ ) فسمى بنت البنت بنتا وأولاد البنات أولادا من غير شك في ذلك ، وقال تعالى : « ويَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ » الآية فعد عيسى من ذرية إبراهيم أو نوح عليه‌السلام وهو غير متصل بهما إلا من جهة الأم.

وقد استدل أئمة أهل البيت عليه‌السلام بهذه الآية وآية التحريم وآية المباهلة على كون ابن بنت الرجل ابنا له والدليل عام وإن كان الاحتجاج على أمر خاص ولأبي جعفر الباقر عليه‌السلام احتجاج آخر أصرح من الجميع رواه في الكافي ، بإسناده عن عبد الصمد بن بشير عن أبي الجارود قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : يا أبا الجارود ما يقولون لكم في الحسن والحسين؟ قلت : ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : فأي شيء احتججتم عليهم؟ قلت : احتججنا عليهم بقول الله عز وجل ـ في عيسى بن مريم : « وَمِنْ

٢٦٣

ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ ـ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ ـ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى » فجعل عيسى بن مريم من ذرية نوح.

قال : فأي شيء قالوا لكم؟ قلت : قالوا : قد يكون ولد الابنة من الولد ـ ولا يكون من الصلب. قال : فأي شيء احتججتم عليهم؟ قلت : احتججنا عليهم بقوله تعالى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ ـ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ » ثم قال : أي شيء قالوا : قلت قالوا : قد يكون في كلام العرب أبناء رجل ـ وآخر يقول : أبناؤنا.

قال : فقال أبو جعفر عليه‌السلام : لأعطينكما (١) من كتاب الله عز وجل أنهما من صلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لا يرده إلا كافر. قلت : وأين ذلك جعلت فداك؟ قال : من حيث قال الله : « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ » الآية ـ إلى أن انتهى إلى قوله تبارك وتعالى : « وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ » يا أبا الجارود ـ هل كان يحل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نكاح حليلتهما؟ فإن قالوا : نعم ، كذبوا وفجروا ، وإن قالوا : لا ، فإنهما ابناه لصلبه : وروى قريبا منه القمي في تفسيره ،.

وبالجملة فالمسألة غير لفظية ، وقد اعتبر الإسلام في المرأة القرابة الطبيعية (٢) والتشريعية جميعا ، وكذا في أولاد البنات أنهم من الأولاد وأن عمود النسب يجري من جهة المرأة كما يجري من جهة الرجل كما ألغى الاتصال النسبي من جهة الدعاء أو من غير نكاح شرعي ، وقد روى الفريقان عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » غير أن مساهلة الناس في الحقائق الدينية أنستهم هذه الحقيقة ولم يبق منها إلا بعض آثارها كالوراثة والحرمة ولم تخل السلطات الدولية في صدر الإسلام من تأثير في ذلك ، وقد تقدم البحث في ذيل آية التحريم من الجزء الثالث من الكتاب.

وفي تفسير النعماني ، بإسناده عن سليمان بن هارون العجلي قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إن صاحب هذا الأمر محفوظة له ـ لو ذهب الناس جميعا أتى الله بأصحابه ،

__________________

(١) لأعطينك ظ.

(٢) المراد بالقرابة الطبيعية ليست هي الولادة وما يتبعها بحسب الوراثة التكوينية الجارية في الحيوان بل القرابة من حيث تستتبع أحكاما تشريعية لا كثير مئونة في جعلها كاختصاص الإنسان بما ولده وحق حضانته مثلا تجاه ما في جعله مئونة زائدة ، وهو نظير الحكم الطبيعي في اصطلاحهم.

٢٦٤

وهم الذين قال الله عز وجل : « فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ ـ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ » وهم الذين قال الله فيهم : « فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ـ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ».

أقول : وهو من الجري.

وفي الكافي ، بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه‌السلام : قال الله عز وجل في كتابه : « وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ـ إلى قوله ـ بِكافِرِينَ » فإنه وكل بالفضل من أهل بيته والإخوان والذرية ، وهو قول الله تبارك وتعالى : « فَإِنْ يَكْفُرْ بِها » أمتك فقد وكلنا أهل بيتك ـ بالإيمان الذي أرسلناك به فلا يكفرون به أبدا ، ولا أضيع الإيمان الذي أرسلتك به من أهل بيتك ـ من بعدك علماء أمتك وولاة أمري بعدك ، وأهل استنباط العلم الذي ليس فيه كذب ـ ولا إثم ولا وزر ولا بطر ولا رياء.

أقول : ورواه العياشي مرسلا وكذا الذي قبله والحديث كسابقه من الجري.

وفي المحاسن ، بإسناده علي بن عيينة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال : أبو عبد الله عليه‌السلام : ولقد دخلت على أبي العباس وقد أخذ القوم مجلسهم ـ فمد يده إلي والسفرة بين يديه موضوعة ـ فذهبت لأخطو إليه فوقعت رجلي على طرف السفرة ـ فدخلني بذلك ما شاء الله أن يدخلني إن الله يقول : « فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ ـ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ » قوما والله يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ـ ويذكرون الله كثيرا.

أقول : محصله استحياؤه عليه‌السلام من الله سبحانه بوقوع قدمه على طرف السفرة اضطرارا كأن في وطء السفرة كفرانا لنعمة الله ففيه تعميم للكفر في قوله : « لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ » لكفر النعمة.

وفي النهج ، : اقتدوا بهدى نبيكم فإنه أفضل الهدى.

أقول : واستفادته من الآيات ظاهرة.

وفي تفسير القمي ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : وأحسن الهدى هدى الأنبياء.

٢٦٥

وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤) إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ

٢٦٦

الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥).

٢٦٧

( بيان )

الآيات لا تخلو عن ارتباط بما قبلها فإنها تفتتح بالمحاجة في خصوص إنزال الكتاب على أهل الكتاب إذ ردوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقولهم : « ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » ، والآيات السابقة تعد إيتاء الكتاب من لوازم الهداية الإلهية التي أكرم بها أنبياءه.

فقد بدأت الكلام بمحاجة أهل الكتاب ثم تذكر أن أظلم الظلم أن يشرك بالله افتراء عليه أو يظلم في باب النبوة بإنكار ما هو حق منها أو دعوى ما ليس بحق منها كالذي قال : ( سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ ).

ثم تذكر الآيات ما يئول إليه أمر هؤلاء الظالمين عند مساءلة الموت إذا غشيتهم غمراته والملائكة باسطوا أيديهم ، ثم تتخلص إلى ذكر آيات توحيده تعالى وذكر أشياء من أسمائه الحسنى وصفاته العليا.

قوله تعالى : « وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » قدر الشيء وقدره بالتحريك كميته من عظم أو صغر ونحوهما يقال : قدرت الشيء قدرا وقدرته بالتشديد تقديرا إذا بينت كمية الشيء وهندسته المحسوسة ثم توسع فيه فاستعمل في المعاني غير المحسوسة فقيل : قدر فلان عند الناس وفي المجتمع أي عظمته في أعين الناس ووزنه في مجتمعهم وقيمته الاجتماعية.

وإذ كان تقدير الشيء وتحديده بحدود لا ينفك غالبا عن وصفه بأوصافه المبينة لحاله المستتبعة لعرفانه أطلق القدر والتقدير على الوصف وعلى المعرفة بحال الشيء ـ على نحو الاستعارة ـ فيقال قدر الشيء وقدره أي وصفه ، ويقال : قدر الشيء وقدره أي عرفه ، فاللغة تبيح هذه الاستعمالات جميعا.

ولما كان الله سبحانه لا يحيط بذاته المتعالية حس ولا وهم ولا عقل وإنما يعرف معرفة ما بما يليق بساحة قدسه من الأوصاف وينال من عظمته ما دلت عليه آياته وأفعاله صح استعمال القدر فيه تعالى بكل من المعاني السابقة فيقال : ( ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) أي ما عظموه بما يليق بساحته من العظمة أو ما وصفوه حق وصفه أو ما عرفوه حق معرفته. فالآية بحسب نفسها تحتمل كلا من المعاني الثلاثة أو جميعها بطريق الالتزام لكن الأنسب

٢٦٨

بالنظر إلى الآيات السابقة الواصفة لهدايته تعالى أنبياءه المستعقبة لإيتائهم الكتاب والحكم والنبوة ، وعنايته الكاملة بحفظ كلمة الحق ونعمة الهداية بين الناس زمانا بعد زمان وجيلا بعد جيل أن تحمل على المعنى الأول فإن في إنكار إنزال الوحي حطا لقدره تعالى وإخراجا له من منزلة الربوبية المعتنية بشئون عباده وهدايتهم إلى هدفهم من السعادة والفلاح.

ويؤيد ذلك ما ورد من نظير اللفظ في قوله تعالى : « وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ » : ( الزمر : ٦٧ ).

وقوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ، ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ » : ( الحج : ٧٤ ) أي وقوته وعزته وضعف غيره وذلته تقتضيان أن لا يحط قدره ولا يسوى هو وما يدعون من دونه بتسمية الجميع آلهة وأربابا فالأنسب بالآية هو المعنى الأول وإن لم يمتنع المعنيان الآخران ، وأما تفسير « ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ » بأن المراد : ما أعطوه من القدرة ما هو حقها كما فسره بعضهم فأبعد المعاني المحتملة من مساق الآية.

ولما قيد قوله تعالى : « وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ » بالظرف الذي في قوله : « إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » أفاد ذلك أن اجتراءهم على الله سبحانه وعدم تقديرهم حق قدره إنما هو من حيث إنهم نفوا إنزال الوحي والكتاب منه تعالى على بشر فدل ذلك على أن من لوازم الألوهية وخصائص الربوبية أن ينزل الوحي والكتاب لغرض هداية الناس إلى مستقيم الصراط والفوز بسعادة الدنيا والآخرة فهي الدعوى.

وقد أشار تعالى إلى إثبات هذه الدعوى والحجاج له بقوله : « قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى » إلخ ، وبقوله : « وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ » والأول من القولين احتجاج بكتاب من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء عليهم‌السلام الثابتة نبوتهم بالمعجزات الباهرة التي أتوا بها ففيه تمسك بوجود الهداية الإلهية المتصلة المحفوظة بين الناس بالأنبياء عليهم‌السلام نوح ومن بعده ، وهي التي وصفها الله تعالى في الآيات السابقة من قوله : « وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ـ إلى قوله ـ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ ».

٢٦٩

والثاني من القولين احتجاج بوجود معارف وأحكام إلهية بين الناس ليس من شأنها أن تترشح من الإنسان الاجتماعي من حيث مجتمعة بما له من العواطف والأفكار التي تهديه إلى ما يصلح حياته من الغذاء والمسكن واللباس والنكاح وجلب المنافع ودفع المضار والمكاره فهذه الأمور التي في مجرى التمتع بالماديات هي التي يتوخاها الإنسان بحسب طبعه الحيواني ، وأما المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة الطيبة والشرائع الحافظة بالعمل بها لهما فليست من الأمور التي ينالها الإنسان الاجتماعي بشعوره الاجتماعي وأنى للشعور الاجتماعي ذلك؟ وهو إنما يبعث الإنسان إلى استخدام جميع الوسائل التي يمكنه أن يتوسل بها إلى مآربه في الحياة الأرضية ، ومقاصده في المأكل والمشرب والمنكح والملبس والمسكن وما يتعلق بها ثم يدعوه إلى أن يكسر مقاومة كل ما يقاومه في طريق تمتعه إن قدر على ذلك أو يصطلحه على التعاضد والاشتراك في المنافع ورعاية العدل في توزيعها إن لم يقدر عليه ، وهو سر كون الإنسان اجتماعيا مدنيا كما تبين في أبحاث النبوة في البحث عن قوله تعالى : « كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ » الآية : ( البقرة : ٢١٣ ) في الجزء الثاني من الكتاب ، وسنزيده وضوحا إن شاء الله.

وبالجملة فالآية أعني قوله تعالى : « وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ » تدل بما لها من الضمائم على أن من لوازم الألوهية أن تهدي الإنسان إلى مستقيم الصراط ومنزل السعادة بإنزال الكتاب والوحي على بعض أفراده ، وتستدل على ذلك بوجود بعض الكتب المنزلة من الله في طريق الهداية أولا ، وبوجود ما يدل على تعاليم إلهية بينهم لا ينالها الإنسان بما عنده من العقل الاجتماعي ثانيا.

قوله تعالى : « قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً » القراءة الدائرة تجعلونه بصيغة الخطاب والمخاطبون به اليهود لا محالة ، وقرئ « يجعلونه » بصيغة الغيبة ، والمخاطب المسئول عنه بقوله : « مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ إلخ » ، حينئذ اليهود أو مشركو العرب على ما قيل ، والمراد يجعل الكتاب قراطيس وهي جمع قرطاس إما جعله في قراطيس بالكتابة فيها ، وإما جعله نفس القراطيس بما فيها من الكتابة فالصحائف والقراطيس تسمى كتابا كما تسمى الألفاظ المدلول عليها بالكتابة كتابا.

٢٧٠

وقوله : « قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى » إلخ. جواب عن قولهم المحكي بقوله تعالى : « إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » والآية وإن لم تعين القائلين بهذا القول من هم؟ إلا أن الجواب بما فيه من الخصوصية لا يدع ريبا في أن المخاطبين بهذا الجواب هم اليهود فالقائلون : « ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » هم اليهود أيضا ، وذلك أن الآية تحتج على هؤلاء القائلين بكتاب موسى عليه‌السلام والمشركون لا يعترفون به ولا يقولون بنزوله من عند الله ، وإنما القائلون به أهل الكتاب ، وأيضا الآية تذمهم بأنهم يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا ، وهذا أيضا من خصائص اليهود على ما نسبه القرآن إليهم دون المشركين.

على أن قوله بعد ذلك : « وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ » على ظاهر معناه الساذج لا يصلح أن يخاطب به غير اليهود من المشركين أو المسلمين كما تقدم وسيجيء إن شاء الله تعالى.

وأما أن اليهود كانوا مؤمنين بنبوة الأنبياء موسى ومن قبله عليه‌السلام وبنزول كتب سماوية كالتوراة وغيرها فلم يك يتأتى لهم أن يقولوا : ما أنزل الله على بشر من شيء لمخالفته أصول معتقداتهم فيدفعه : أن يكون ذلك مخالفا للأصل الذي عندهم لا يمنع أن يتفوه به بعضهم تعصبا على الإسلام أو تهييجا للمشركين على المسلمين أو يقول ذلك عن مسألة سألها المشركون عن حال كتاب كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعي نزوله عليه من جانب الله سبحانه ، وقد قالوا في تأييد وثنية مشركي العرب على أهل التوحيد من المسلمين : ( هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ) ، فرجحوا قذارة الشرك على طهارة التوحيد وأساس دينهم التوحيد حتى أنزل الله : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً » : ( النساء : ٥١ ).

وقولهم ـ وهو أبين سفها من سابقه ـ اغتياظا على النصارى : إن إبراهيم عليه‌السلام كان يهوديا حتى نزل فيهم قوله تعالى : « يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ـ إلى أن قال ـ ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » : ( آل عمران : ٦٧ ) إلى غير ذلك من أقوالهم المناقضة لأصولهم الثابتة المحكية في القرآن الكريم.

٢٧١

ومن كان هذا شأنه لم يبعد أن ينفي نزول كتاب سماوي على بشر لداع من الدواعي الفاسدة الباعثة له على إنكار ما يستضر بثبوته أو تلقين الغير باطلا يعلم ببطلانه لينتفع به في بعض مقاصده الباطلة.

وأما قول من قال : إن القرآن لم يعتن بأمر أهل الكتاب في آياته النازلة بمكة وإنما كانت الدعوة بمكة قبل الهجرة إلى المشركين للابتلاء بجماعتهم والدار دارهم ، ففيه أن ذلك لا يوجب السكوت عنهم من رأس والدين عام ودعوته شاملة لجميع الناس والقرآن ذكر للعالمين وهم والمشركون جيران يمس بعضهم بعضا دائما وقد جاء ذكر أهل الكتاب في بعض السور المكية من غير دليل ظاهر على كون الآية مدنية كقوله تعالى : « وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ » : ( العنكبوت : ٤٦ ) وقوله : « وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » : ( النحل : ١١٨ ) وقد ذكر في سورة الأعراف كثير من مظالم بني إسرائيل مع كون السورة مكية.

ومن المستبعد أن تدوم الدعوة الإسلامية سنين قبل الهجرة وفي داخل الجزيرة طوائف من اليهود والنصارى فلا يصل خبرها إليهم أو يصل إليهم فيسكتوا عنها ولا يقولوا شيئا لها أو عليها وقد هاجر جماعة من المسلمين إلى الحبشة وقرءوا سورة مريم المكية عليهم وفيها قصة عيسى ونبوته.

وأما قول من قال : إن السورة ـ يعني سورة الأنعام ـ إنما نزلت في الاحتجاج على المشركين في توحيد الله سبحانه وعامة الخطابات الواردة فيها متوجهة إليهم فلا مسوغ لإرجاع الضمير في قوله : « إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » إلى اليهود بل المتعين إرجاعه إلى مشركي العرب لأن الكلام في سياق الخبر عنهم ، ولم يجر لليهود ذكر في هذه السورة فلا يجوز أن تصرف الآية عما يقتضيه سياقها من أولها إلى هذا الموضع بل إلى آخرها بغير حجة من خبر صحيح أو عقل فالأرجح قراءة « يجعلونه » إلخ ، بياء الغيبة على معنى أن اليهود يجعلونه فهو حكاية عنهم ذكرت في خطاب مشركي العرب.

وأما مشكلة أن المشركين ما كانوا يذعنون بكون التوراة كتابا سماويا فكيف يحاجون بها فقد أجاب عنه بعضهم : أن المشركين كانوا يعلمون أن اليهود أصحاب التوراة

٢٧٢

المنزلة على موسى عليه‌السلام فمن الممكن أن يحاجوا من هذه الجهة.

ففيه : أن سياق السورة فيما تقدم من الآيات وإن كان لمحاجة المشركين لكن لا لأنهم هم بأعيانهم فالبيان القرآني لا يعتني بشخص أو أشخاص لأنفسهم بل لأنهم يستكبرون عن الخضوع للحق وينكرون أصول الدعوة التي هي التوحيد والنبوة والمعاد فالمنكرون لهذه الحقائق أو لبعضها هم المعنيون بالاحتجاجات الموردة فيها فما المانع من أن يذكر فيها بعض هفوات اليهود لو استلزم إنكار النبوة ونزول الكتاب لدخوله في غرض السورة ، ووقوعه في صف هفوات المشركين في إنكار أصول الدين الإلهي وإن كان القائل به من غير المشركين وعبدة الأصنام ، ولعله مما لقنوه بعض المشركين ابتغاء للفتنة فقد ورد في بعض الآثار أن المشركين ربما سألوهم عن حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وربما بعثوا إليهم الوفود لذلك.

على أن قوله : « وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ » كما سيأتي لا يصح أن يخاطب به غير اليهود كما لا يصح أن يخاطب غير اليهود بقوله تعالى : « قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ » والقول بأن مشركي العرب كانوا يعلمون أن اليهود هم أصحاب توراة موسى غير مقنع قطعا فإن العلم بأن اليهود أصحاب التوراة لا يصحح الاحتجاج بنزول التوراة من عند الله سبحانه وخاصة مع وصفها بأنها نور وهدى للناس فالاعتقاد بالنزول من عند الله غير العلم بأن اليهود تدعي ذلك والمصحح للخطاب هو الأول دون الثاني.

وأما قراءة « يجعلونه » إلخ ، فالوجه أن تحمل على الالتفات مع إبقاء الخطاب في قوله « مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى » ، وقوله : « وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ » لليهود.

وقد حاول بعضهم دفع الإشكالات الواردة على جعل الخطاب في الآية للمشركين مع تصحيح القراءتين جميعا فقال ما ملخصه : إن الآية نزلت في ضمن السورة بمكة كما قرأها ابن كثير وأبو عمرو ـ يجعلونه قراطيس بصيغة الغيبة ـ محتجة على مشركي مكة الذين أنكروا الوحي استبعادا لأن يخاطب الله البشر بشيء ، وقد اعترفوا بكتاب موسى وأرسلوا الوفد إلى أحبار اليهود مذعنين بأنهم أهل الكتاب الأول العالمون بأخبار الأنبياء.

٢٧٣

فهو تعالى يقول لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله : قل لهؤلاء الذين ما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء كقولهم : أبعث الله بشرا رسولا : « مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً » انقشعت به ظلمات الكفر والشرك الذي ورثته بنو إسرائيل عن المصريين « وَهُدىً لِلنَّاسِ » أي الذين أنزل عليهم بما علمهم من الأحكام والشرائع الإلهية فكانوا على النور والهدى إلى أن اختلفوا فيه ونسوا حظا مما ذكروا به فصاروا باتباع الأهواء « يجعلونه قراطيس يبدونها » فيما وافق « ويخفون كثيرا » مما لا يوافق أهواءهم.

قال : والظاهر أن الآية كانت تقرأ هكذا بمكة وكذا بالمدينة إلى أن أخفى أحبار اليهود حكم الرجم وكتموا بشارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى أن قال بعضهم : ما أنزل الله على بشر من شيء كما قال المشركون من قبلهم ـ إن صحت الروايات بذلك ـ فعند ذلك كان غير مستبعد ولا مخل بالسياق أن يلقن الله تعالى رسوله أن يقرأ هذه الجمل بالمدينة على مسمع اليهود وغيرهم بالخطاب لليهود فيقول : « تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً » مع عدم نسخ القراءة الأولى.

قال : وبهذا الاحتمال المؤيد بما ذكر من الوقائع يتجه تفسير القراءتين بغير تكلف ما ، ويزول كل إشكال عرض للمفسرين في تفسيرهما ، انتهى كلامه ملخصا.

وأنت خبير بأن إشكال خطاب المشركين بما لا يعترفون به باق على حاله وكذا إشكال خطاب غير اليهود بقوله : « وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ » على ما أشرنا إليه ، وكذا تخصيصه قوله تعالى : « نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ » باليهود فقط وكذا قوله إن اليهود قالوا في المدينة : « ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » كر على ما فر منه.

على أن قوله : إن الله لقن رسوله أن يقرأ الآية عليهم ويخاطبهم بقوله : « تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً » مما لا دليل عليه فإن أراد بهذا التلقين وحيا جديدا بالخطاب كالوحي الأول بالغيبة كانت الآية نازلة مرتين مرة في ضمن السورة وهي إحدى آياته ومرة في المدينة غير داخلة في آيات السورة ولا جزء منها ، وإن أراد بالتلقين غير الوحي بنزول جبرئيل بها لم تكن الآية آية ولا القراءة قراءة ، وإن أريد به أن الله فهم رسوله نوعا من التفهيم أن لفظ « تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ » إلخ ، النازل عليه في ضمن سورة الأنعام بمكة يسع الخطاب والغيبة جميعا وأن القراءتين جميعا صحيحتان مقصودتان كما ربما يقوله

٢٧٤

من ينهي القراءات المختلفة إلى قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو القراءة عليه ونحوهما ففيه الالتزام بورود جميع الإشكال السابقة كما هو ظاهر.

واعلم أن هذه الأبحاث إنما تتأتى على تقدير كون الآية نازلة بمكة ، وأما على ما وقع في بعض الروايات من أن الآية نزلت بالمدينة فلا محل لأكثرها.

قوله تعالى : « وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ » المراد بهذا العلم الذي علموه ولم يكونوا يعلمونه هم ولا آباؤهم ليس هو العلم العادي بالنافع والضار في الحياة مما جهز الإنسان بالوسائل المؤدية إليه من حس وخيال وعقل فإن الكلام واقع في سياق الاحتجاج مربوط به ولا رابطة بين حصول العلوم العادية للإنسان من الطرق المودعة فيه وبين المدعى وهو أن من لوازم الألوهية أن تهدي الإنسان إلى سعادته وتنزل على بعض أفراده الوحي والكتاب.

وليس المراد بها أن الله أفاض عليكم العلم بأشياء ما كان لكم من أنفسكم أن تعلموا كما يفيده قوله تعالى : « وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ » : ( النحل : ٧٨ ) وقوله : « الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ » : ( العلق : ٥ ) ، فإن السياق كما عرفت ينافي ذلك.

فالمراد بالآية تعليم ما ليس في وسع الإنسان بحسب الطرق المألوفة عنده التي جهز بها أن ينال علمه ، وليس إلا ما أوحاه الله سبحانه إلى أنبيائه وحملة وحيه بكتاب أو بغير كتاب من المعارف الإلهية والأحكام والشرائع فإنها هي التي لا تسع الوسائل العادية التي عند عامة الإنسان أن تنالها.

ومن هنا يظهر أن المخاطبين بهذا الكلام أعني قوله : « وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا » إلخ ، ليسوا هم المشركين إذا لم يكن عندهم من معارف النبوة والشرائع الإلهية شيء بين يعرفونه ويعترفون به والذي كانوا ورثوه من بقايا آثار النبوة من أسلاف أجيالهم ما كانوا ليعترفوا به حتى يصح الاحتجاج به عليهم من غير بيان كاف ، وقد وصفهم الله بالجهل في أمثال قوله : « وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ » : ( البقرة : ١١٨ ).

فالخطاب متوجه إلى غير المشركين ، وليس بموجه إلى المسلمين أما أولا : فلأن السياق سياق الاحتجاج ، ولو كان الخطاب متوجها إليهم لكان اعتراضا في سياق الاحتجاج

٢٧٥

من غير نكتة ظاهرة.

وأما ثانيا : فلما فيه من تغيير مورد الخطاب ، والعدول من خطاب المخاطبين بقوله : « مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى » إلخ ، إلى خطاب غيرهم بقوله : « وَعُلِّمْتُمْ » إلخ ، من غير قرينة ظاهرة مع وقوع اللبس فالخطاب لغير المشركين والمسلمين وهم اليهود المخاطبون بصدر الآية.

فقد احتج الله سبحانه على اليهود القائلين : « ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » عنادا وابتغاء للفتنة من طريقين :

أحدهما : طريق المناقضة وهو أنهم مؤمنون بالتوراة وأنها كتاب جاء به موسى عليه‌السلام نورا وهدى للناس ويناقضه قولهم : « ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » ثم ذمهم على تقطيعها بقطعات يظهرون بعضها ويخفون كثيرا.

وثانيهما : أنكم علمتم ما لم يكن في وسعكم أن تعلموه أنتم من عند أنفسكم بالاكتساب ولا في وسع آبائكم أن يعلموه فيورثوكم علمه وذلك كالمعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة والشرائع والقوانين الناظمة للاجتماع والمعدلة له أحسن نظم وتعديل الحاسمة لأعراق الاختلافات البشرية الاجتماعية فإنها وخاصة المواد التشريعية من بينها ليست مما ينال بالاكتساب ، والتي تنال منها من طريق الاكتساب العقلي كالمعارف الكلية الإلهية من التوحيد والنبوة والمعاد والأخلاق الفاضلة في الجملة لا يكفي مجرد ذلك في استقرارها في المجتمع الإنساني ، فمجرد العلم بشيء غير دخوله في مرحلة العمل واستقراره في المستوى العام الاجتماعي ، فحب التمتع من لذائذ المادة وغريزة استخدام كل شيء في طريق التوصل إلى الاستعلاء على مشتهيات النفس والتسلط التام على ما تدعو إليه أهواؤها لا يدع مجالا للإنسان يبحث فيه عن كنوز المعارف والحقائق المدفونة في فطرته ثم يبني ويدوم عليها وفي مسير حياته وخاصة إذا استولت هذه المادية على المجتمع واستقرت في المستوى فإنها تكون لهم ظرفا يحصرهم في التمتعات المادية لا ينفذ في شيء من أقطاره شيء من الفضائل الإنسانية ، ولا يزال ينسى فيه ما بقي من إثارة الفضائل المعنوية الموروثة واحدا بعد واحد حتى يعود مجتمعهم مجتمعا حيوانيا ساذجا كما نشاهده في الظروف الراقية اليوم أنهم توغلوا في المادية واستسلموا للتمتعات الحسية فشغلهم ذلك في أوقاتهم بثوانيها وصرفهم عن الآخرة إلى الدنيا صرفا سلبهم الاشتغال

٢٧٦

بالمعنويات ومنعهم أي تفكير في ما يسعدهم في حياتهم الحقيقية الخالدة.

ولم يضبط التاريخ فيما ضبطه من أخبار الأمم والملل رجلا من رجال السياسة والحكومة كان يدعو إلى فضائل الأخلاق الإنسانية والمعارف الطاهرة الإلهية ، وطريق التقوى والعبودية بل أقصى ما كانت تدعو إليه الحكومات الفردية الاستبدادية ـ هو أن يتمهد الأمر لبقاء سلطتها واستقامة الأمر لها ، وغاية ما كانت تدعو إليه الحكومات الاجتماعية ـ الديمقراطية وما يشابهها ـ أن ينظم أمر المجتمع على حسب ما يقترحه هوى أكثرية الأفراد أيا ما اقترحه فضيلة أو رذيلة وافق السعادة الحقيقية العقلية أو خالفها غير أنهم إذا خالفوا شيئا من الفضائل المعنوية والكمالات والمقاصد العالية الإنسانية التي بقيت أسماؤها عندهم وألجأتهم الفطرة إلى إعظامها والاحترام لها كالعدل والعفة والصدق وحب الخير ونصح النوع الإنساني والرأفة بالضعيف وغير ذلك فسروها بما يوافق جاري عملهم والدائر من سنتهم كما هو نصب أعيننا اليوم.

وبالجملة فالعقل الاجتماعي والشعور المادي الحاكم في المجتمعات ليس مما يوصل الإنسان إلى هذه المعارف الإلهية والفضائل المعنوية التي لا تزال المجتمعات الإنسانية على تنوعها وتطورها تتضمن أسماء كثيرة منها واحترام معانيها وأين الإخلاد إلى الأرض من الترفع عن المادة والماديات؟.

فليست إلا آثارا وبقايا من الدعوة الدينية المنتهية إلى نهضات الأنبياء ومجاهداتهم في نشر كلمة الحق وبث دين التوحيد وهداية النوع الإنساني إلى سعادته الحقيقية في حياته الدنيوية والأخروية جميعا فهي منتهية إلى تعليم إلهي من طريق الوحي وإنزال الكتب السماوية.

فقوله تعالى : « وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ » احتجاج على اليهود في رد قول القائل منهم : « ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » بأن عندكم من العلم النافع ما لم تنالوه من أنفسكم ولا ناله ولا ورثه آباؤكم بل إنما علمتم به من غير هذا الطريق وهو طريق إنزال الكتاب والوحي من قبل الله على بعض البشر فقد أنزل الله على بعض البشر ما علمه وهو المعارف الحقة وشرائع الدين ، وقد كان عند اليهود من هذا القبيل شيء كثير ورثوه من أنبيائهم وبثه فيهم كتاب موسى.

٢٧٧

وقد ظهر مما تقدم أن المراد بقوله : « وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا » مطلق ما ينتهي من المعارف والشرائع إلى الوحي والكتاب لا خصوص ما جاء منه في كتاب موسى عليه‌السلام وإن كان الذي منه عند اليهود هو معارف التوراة وشرائعه خلافا لبعض المفسرين. وذلك أن لفظ الآية لا يلائم التخصيص فقد قيل : « وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا » إلخ ، ولم يقل وعلمتم به أو وعلمكم الله به.

وقد قيل : « وَعُلِّمْتُمْ » إلخ ، من غير فاعل التعليم لأن ذلك هو الأنسب بسياق الاستدلال لأن ذكر الفاعل في هذا السياق أشبه بالمصادرة بالمطلوب فكأنه قيل : إن فيما عندكم علوما لا ينتهي إلى اكتسابكم أو اكتساب آبائكم فمن الذي علمكم ذلك؟ ثم أجيب عن مجموع السؤالين بقوله : الله عز اسمه.

قوله تعالى : « قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ » لما كان الجواب واضحا بينا لا يداخله ريب ، والجواب الذي هذا شأنه يسوغ للمستدل السائل أن يتكلفه ولا ينتظر المسئول المحتج عليه ، أمر تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتصدى هو للجواب فقال : « قُلِ اللهُ » أي الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى والذي علمكم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم هو الله.

ولما كان القول بأن الله لم ينزل على بشر شيئا من لغو القول وهزله الذي لا يتفوه به إلا خائض لاعب بالحقائق وخاصة إذا كان القائل به من اليهود المعترفين بتوراة موسى والمباهين بالعلم والكتاب أمره بأن يدعهم وشأنهم فقال : « ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ».

قوله تعالى : « وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها » لما نبه على أن من لوازم الألوهية أن ينزل الوحي على جماعة من البشر هم الأنبياء عليهم‌السلام ، وأن هناك كتابا حقا كالتوراة التي جاء بها موسى ، وأمورا أخرى علمها البشر لا تنتهي إلا إلى وحي إلهي وتعليم غيبي ، ذكر أن هذا القرآن أيضا كتاب إلهي منزل من عنده على حد ما نزل سائر الكتب السماوية ، ومن الدليل على ذلك اشتماله على ما هو شأن كتاب سماوي نازل من عند الله سبحانه.

ومن هنا يظهر أولا : أن الغرض في المقام متعلق بكون القرآن كتابا نازلا من عند الله تعالى دون من نزل عليه ، ولذا قال : كتاب أنزلناه ولم يقل أنزلناه إليك على خلاف موارد أخر كقوله تعالى : « كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ » : ( ـ ص : ٢٩ ) وغيره

٢٧٨

وثانيا : أن الأوصاف المذكورة للكتاب بقوله : ( مُبارَكٌ مُصَدِّقُ ) إلخ ، بمنزلة الأدلة على كونه نازلا من الله وليست بأدلة فمن أمارات أنه منزل من عند الله أنه مبارك أودع الله فيه البركة والخير الكثير يهدي الناس للتي هي أقوم ، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، ينتفع به الناس في دنياهم باجتماع شملهم ، وقوة جمعهم ، ووحدة كلمتهم ، وزوال الشح من نفوسهم ، والضغائن من قلوبهم ، وفشوا الأمن والسلام ، ورغد عيشهم ، وطيب حياتهم وانجلاء الجهل وكل رذيلة عن ساحتهم ، واستظلالهم بمظلة سعادتهم ، وينتفعون به في أخراهم بالأجر العظيم والنعيم المقيم.

ولو لم يكن من عند الله سواء كان مختلفا من عند بشر كشبكة يغر بها الناس فيصطادون أو كان تزويقا نفسانيا أو إلقاء شيطانيا يخيل إلى الذي جاء به أنه وحي سماوي من عند الله وليس من عنده لم تستقر فيه ولا ترتب عليه هذه البركات الإلهية والخير الكثير فإن سبيل الشر لا يهدي سالكه إلا إلى الشر ولن ينتج فساد صلاحا ، وقد قال تعالى : « فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ » : ( النحل : ٣٧ ) وقال : « وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ » : ( الصف : ٥ ) وقال : « وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً » : ( الأعراف : ٥٨ ).

ومن أمارات أنه حق أنه مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية الحقة النازلة من عند الله.

ومن أمارات ذلك أنه يفي بالغرض الإلهي من خلقه وهو أن يهديهم إلى سعادة حياتهم في الدنيا والآخرة بالإنذار بوسيلة الوحي المنزل من عنده ، وهذا هو الذي يدل عليه قوله : « وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها » فأم القرى هي مكة المشرفة ، والمراد أهلها بدليل قوله : « وَمَنْ حَوْلَها » والمراد بما حولها سائر بلاد الأرض التي يحيط بها أو التي تجاورها كما قيل ، والكلام يدل على عناية إلهية بأم القرى وهي الحرم الإلهي منه بدئ بالدعوة وانتشرت الكلمة.

ومن هذا البيان يظهر : أن الأنسب بالسياق أن يكون قوله : « وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى » وخاصة على قراءة « لينذر » بصيغة الغيبة معطوفا على قوله : « مُصَدِّقُ » بما يشتمل عليه من معنى الغاية ، والتقدير : ليصدق ما بين يديه ولتنذر أم القرى على ما ذكره

٢٧٩

الزمخشري ، وقيل : إنه معطوف على قوله : « مُبارَكٌ » والتقدير : أنزلناه لتنذر أم القرى ومن حولها.

قوله تعالى : « وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ » إلخ ، كأنه تفريع لما عده الله سبحانه من أوصاف هذا الكتاب الذي أنزله أي لما كان هذا الكتاب الذي أنزلناه مباركا ومصدقا لما بين يديه نازلا لغاية إنذار أهل الأرض فالمؤمنون بالآخرة يؤمنون به لأنه يدعو إلى أمن أخروي دائم ويحذرهم من عذاب خالد.

ثم عرف تعالى هؤلاء المؤمنين بالآخرة بما هو من أخص صفات المؤمنين وهو أنهم على صلاتهم وهي عبادتهم التي يذكرون فيها ربهم يحافظون ، وهذه هي الصفة التي ختم الله به صفات المؤمنين التي وصفهم بها في أول سورة المؤمنين إذ قال : « الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ » : ( المؤمنون : ٩ ) كما بدأ بمعناها في أولها فقال « الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ » : ( المؤمنون : ٢ ).

وهذا هو الذي يؤيد أن المراد بالمحافظة في هذه الآية هو الخشوع في الصلاة وهو نحو تذلل وتأثر باطني عن العظمة الإلهية عند الانتصاب في مقام العبودية لكن المعروف من تفسيره أن المراد بالمحافظة على الصلاة المحافظة على وقتها.

( كلام في معنى البركة في القرآن )

ذكر الراغب في المفردات ، : أن أصل البرك ـ بفتح الباء ـ صدر البعير وإن استعمل في غيره ويقال له بركة ـ بكسر الباء ـ وبرك البعير ألقى ركبه ، واعتبر منه معنى الملزوم فقيل : ابتركوا في الحرب أي ثبتوا ولازموا موضع الحرب ، وبراكاء الحرب وبروكاؤها للمكان الذي يلزمه الأبطال ، وابتركت الدابة وقفت وقوفا كالبروك ، وسمي محبس الماء بركة ، والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء ، قال تعالى : ( لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) ، وسمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة ، والمبارك ما فيه ذلك الخير ، على ذلك : ( هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ ).

قال : ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة : هو مبارك وفيه بركة ، وإلى هذه

٢٨٠