الميزان في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٩

ثم ذكرت : أنه في تلك الأيام نشبت حرب في أرض سدوم ـ بين « أمرافل » ملك شنعار ومعه ثلاثة من الملوك ، وبين بارع ملك سدوم ومعه أربعة من الملوك المتعاهدين ـ فانهزم ملك سدوم ومن معه انهزاما فاحشا ـ وهربوا من الأرض بعد ما قتل من قتل منهم ـ ونهبت أموالهم وسبيت نساؤهم وذراريهم ، وكان فيمن أسر لوط وجميع أهله ونهبت أمواله.

قالت التوراة : فأتى من نجى وأخبر أبرام العبراني ـ وكان ساكنا عند « بلوطات ممري » الآموري ـ أخو « أشكول » وأخي « عانر » وكانوا أصحاب عهد مع أبرام ، فلما سمع أبرام أن أخاه سبي جر غلمانه المتمرنين ـ ولدان بيته ثلاثمائة وثمانية عشر وتبعهم إلى « دان » وانقسم عليهم هو وعبيده فكسرهم ـ وتبعهم إلى « حوبة » التي عن شمال دمشق واسترجع كل الأموال واسترجع لوطا أخاه أيضا ـ وأملاكه والنساء أيضا والشعب.

فخرج ملك سدوم لاستقباله ـ بعد رجوعه من « كسرة كدر لعومر » والملوك الذين معه إلى عمق « شوى » الذي هو عمق الملك ، وملكي (١) صادق ملك « شاليم » أخرج خبزا وخمرا ـ وكان كاهنا لله العلي وباركه وقال : مبارك أبرام من الله العلي مالك السماوات والأرض ـ ومبارك الله العلي الذي أسلم أعداءك في يدك ـ فأعطاه عشرا من كل شيء.

وقال ملك سدوم لأبرام : أعطني النفوس ، وأما الأملاك فخذها لنفسك ـ فقال أبرام لملك سدوم : رفعت يدي إلى الرب الإله العلي ملك السماء والأرض ـ لا آخذن لا خيطا ولا شراك نعل ـ ولا من كل ما هو لك فلا تقول : أنا أغنيت أبرام ليس لي غير الذي أكله الغلمان ـ وأما نصيب الرجال الذين ذهبوا معي « عابر » و « أسلول » و « ممرا » فهم يأخذون نصيبهم.

إلى أن قالت : وأما ساراي فلم تلد له ـ وكانت لها جارية مصرية اسمها هاجر ـ فقالت ساراي لأبرام : هو ذا الرب قد أمسكني عن الولادة ـ أدخل على جاريتي لعلي أرزق منها بنين ـ فسمع أبرام لقول ساراي فأخذت ساراي امرأة أبرام ـ هاجر المصرية جاريتها ـ من بعد عشر سنين لإقامة أبرام في أرض كنعان ـ وأعطتها لأبرام رجلها زوجة له ـ فدخل على هاجر فحبلت.

ثم ذكرت : أن هاجر لما حبلت حقرت ساراي واستكبرت عليها ـ فشكت ساراي

__________________

(١) اسم لأحد الملوك المعاصر له ع.

٢٢١

ذلك إلى أبرام ـ ففوض أبرام أمرها إليها فهربت هاجر منها ـ فلقيها ملك فأمرها بالرجوع إلى سيدتها ـ وأخبرها أنها ستلد ولدا ذكرا وتدعو اسمه إسماعيل ـ لأن الرب قد سمع لمذلتها ، وأنه يكون إنسانا وحشيا يضاد الناس ويضادونه ، وولدت هاجر لأبرام ولدا وسماه أبرام إسماعيل ـ وكان أبرام ابن ست وسبعين سنة ـ لما ولدت هاجر إسماعيل لأبرام.

قالت التوراة : ولما كان أبرام ابن تسع وتسعين سنة ـ ظهر الرب لأبرام وقال له : أنا الله القدير سر أمامي وكن كاملا ـ فأجعل عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيرا جدا فسقط أبرام على وجهه وتكلم الله معه قائلا : أما أنا فهو ذا عهدي معك ـ وتكون أبا لجمهور من الأمم ، فلا يدعى اسمك بعد أبرام بل يكون اسمك إبراهيم ـ لأني أجعلك أبا لجمهور من الأمم ـ وأثمرك كثيرا جدا وأجعلك أمما : وملوك منك يخرجون ، وأقيم عهدي بيني وبينك ـ وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهدا أبديا ـ لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك وأعطي لك ولنسلك من بعد أرض غربتك كل أرض ـ كنعان ملكا أبديا وأكون إلههم.

ثم ذكرت : أن الرب جعل في ذلك عهدا بينه وبين إبراهيم ونسله ـ أن يختتن هو وكل من معه ـ ويختنوا أولادهم اليوم الثامن من الولادة ـ فختن إبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة ـ وختن ابنه إسماعيل وهو ابن ثلاث عشرة سنة ـ وسائر الذكور من بنيه وعبيده.

قالت التوراة : وقال الله لإبراهيم : ساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي بل اسمها سارة ـ وأباركها وأعطيت أيضا منها ابنا ، وأباركها فتكون أمما وملوك شعوب منها يكونون ، فسقط إبراهيم على وجهه وضحك وقال في قلبه : وهل يولد لابن مائة سنة؟ هل تلد سارة وهي بنت تسعين سنة؟.

وقال إبراهيم لله : ليت إسماعيل يعيش أمامك ـ فقال الله : بل سارة امرأتك تلد لك ابنا ـ وتدعو اسمه إسحاق ، وأقيم عهدي معه عهدا أبديا لنسله من بعده ـ وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ـ ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا ، اثنا عشر رئيسا يلد وأجعله أمة كبيرة ، ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق ـ الذي تلده سارة في هذا الوقت في السنة الآتية ، فلما فرغ من الكلام معه صعد الله عن إبراهيم.

ثم ذكرت قصة نزول الرب مع الملكين ـ لإهلاك أهل سدوم قوم لوط ـ وأنهم وردوا على إبراهيم فضافهم ـ وأكلوا من الطعام الذي عمله لهم من عجل قتله ـ والزبد واللبن اللذين

٢٢٢

قدمهما إليهم ـ ثم بشروه وبشروا سارة بإسحاق ـ وذكروا أمر قوم لوط ـ فجادلهم إبراهيم في هلاكهم فأقنعوه ـ وكان بعده هلاك قوم لوط.

ثم ذكرت أن إبراهيم انتقل إلى أرض « حرار » وتغرب فيها وأظهر لملكه « أبي مالك » أن سارة أخته فأخذها الملك منه ـ فعاتبها الرب في المنام ـ فأحضر إبراهيم وعاتبه على قوله : إنها أختي فاعتذر أنه إنما قال ذلك خوفا من القتل ـ واعترف أنه في الحقيقة أخته من أبيه دون أمه ـ تزوج بها فرد إليه سارة وأعطاهما مالا جزيلا ( نظير ما قص في فرعون ).

قالت التوراة : وافتقد الرب سارة كما قال وفعل الرب لسارة كما تكلم ـ فحبلت سارة وولدت لإبراهيم ابنا في شيخوخته ـ في الوقت الذي تكلم الله عنه ـ ودعا إبراهيم اسم ابنه الذي ولدته له سارة إسحاق ، وختن إبراهيم إسحاق ابنه ـ وهو ابن ثمانية أيام كما أمره الله ، وكان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ابنه ، وقالت سارة : فقد صنع إلي الله ، ضحكا ـ كل من يسمع يضحك لي ، وقالت من قال لإبراهيم : سارة ترضع بنين حتى ولدت ابنا في شيخوخته ـ فكبر الولد وفطم وصنع إبراهيم وليمة عظيمة ـ يوم فطام إسحاق.

ورأت سارة ابن هاجر المصرية ـ الذي ولدته لإبراهيم يمزح ـ فقالت لإبراهيم : اطرد هذه الجارية وابنها ـ لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق ـ فقبح الكلام جدا في عيني إبراهيم لسبب ابنه ـ فقال الله لإبراهيم : لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ـ ومن أجل جاريتك في كل ما تقول لك سارة ـ اسمع لقولها لأنه بإسحاق يدعى لك نسل ـ وابن الجارية أيضا سأجعله أمة لأنه نسلك.

فبكر إبراهيم صباحا وأخذ خبزا وقربة ماء ـ وأعطاهما لهاجر واضعا إياهما على كتفها والولد ـ وصرفها فمضت وتاهت في برية بئر سبع ـ ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار ـ ومضت وجلست مقابله بعيدا نحو رمية قوس ـ لأنها قالت : لا أنظر موت الولد ـ فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت ـ فسمع الله صوت الغلام ونادى ملاك الله هاجر من السماء ، وقال لها : ما لك يا هاجر؟ لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو قومي واحملي الغلام وشدي يدك به ـ لأني سأجعله أمة عظيمة ، وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء ـ فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام ، وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في

٢٢٣

البرية ، وكان ينمو رامي قوس ، وسكن في برية فاران ، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر (١).

قالت التوراة : وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم ـ فقال له : يا إبراهيم فقال : ها أنا ذا ـ فقال : خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق ـ واذهب إلى أرض المريا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك ، فبكر إبراهيم صباحا وشد على حماره ـ وأخذ اثنين من غلمانه معه وإسحاق معه ـ وشقق حطبا لمحرقة وقام ـ وذهب إلى الموضع الذي قال له الله ، وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه ـ وأبصر الموضع من بعيد فقال إبراهيم لغلاميه : اجلسا أنتما هاهنا مع الحمار ، أما أنا والغلام فنذهب إلى هناك ونسجد ونرجع إليكما ، فأخذ إبراهيم حطب المحرقة ـ ووضعه على إسحاق ابنه وأخذ بيده النار والسكين ـ فذهبا كلاهما معا ، وكلم إسحاق أباه إبراهيم ـ وقال له : يا أبي فقال : ها أنا ذا يا ابني ـ فقال : هو ذا النار والحطب ولكن أين الخروف للمحرقة؟ فقال إبراهيم : الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني ـ فذهبا كلاهما معا.

فلما أتيا إلى الموضع الذي قال له الله ـ بنى هنالك إبراهيم المذبح ورتب الحطب ـ وربط إسحاق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب ـ ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين لذبح ابنه فناداه ملاك الرب من السماء وقال : إبراهيم إبراهيم! فقال : ها أنا ذا ، فقال : لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئا ـ لأني الآن علمت أنك خائف الله ـ فلم تمسك ابنك وحيدك عني فرفع إبراهيم عينيه ونظر ـ وإذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه ـ فذهب إبراهيم وأخذ الكبش ـ وأصعده محرقة عوضا عن ابنه ـ فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع « يهوه برأه » حتى أنه يقال اليوم في جبل الرب « برى » ، ونادى ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء وقال : بذاتي أقسمت يقول الرب : إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك ـ أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيرا ـ كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر ـ ويرث نسلك باب أعدائه ـ ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض ـ من أجل أنك سمعت لقولي ـ ثم رجع إبراهيم إلى غلاميه فقاموا ـ وذهبوا معا إلى بئر سبع ـ وسكن إبراهيم في بئر سبع.

__________________

(١) والواقع في روايات المسلمين أنه تزوج من الجرهم وهم من عشائر العرب اليمنيين.

٢٢٤

ثم ذكرت تزويجه إسحاق من عشيرته بكلدان ، ثم موت سارة ـ وهي بنت مائة وسبع وعشرين في حبرون ، ثم ازدواج إبراهيم بعدها بقطورة ـ وإيلادها عدة من البنين ، ثم موت إبراهيم وهو ابن مائة وخمس وسبعين سنة ، ودفن ابنيه إسحاق وإسماعيل إياه في غار « مكفيلة » وهو مشهد الخليل اليوم.

فهذه خلاصة قصص إبراهيم عليه‌السلام وتاريخ حياته المورد في التوراة ( سفر التكوين الإصحاح الحادي عشر ـ الإصحاح الخامس والعشرون ) وعلى الباحث الناقد أن يطبق ما ورد منه فيها على ما قصه القرآن الكريم ثم يرى رأيه.

٥ ـ الذي تشتمل عليه من القصة المسرودة على ما فيها من التدافع بين جملها والتناقض بين أطرافها مما يصدق القرآن الكريم فيما ادعاه أن هذا الكتاب المقدس لعبت به أيدي التحريف.

فمن عمدة ما فيها من المغمض أنها أهملت ذكر مجاهداته في أول أمره وحجاجاته قومه وما قاساه منهم من المحن والأذايا ، وهي طلائع بارقة لماعة من تاريخه عليه‌السلام.

ومن ذلك إهمالها ذكر بنائه الكعبة المشرفة وجعله حرما آمنا وتشريعه الحج ، ولا يرتاب أي باحث ديني ولا ناقد اجتماعي أن هذا البيت العتيق الذي لا يزال قائما على قواعده منذ أربعة آلاف سنة من أعظم الآيات الإلهية التي تذكر أهل الدنيا بالله سبحانه وآياته ، وتستحفظ كلمة الحق دهرا طويلا ، وهو أول بيت لله تعالى وضع للناس مباركا وهدى للعالمين.

وليس إهمال ذكره إلا لنزعة إسرائيلية من كتاب التوراة ومؤلفيها دعتهم إلى الصفح عن ذكر الكعبة؟ وإحصاء ما بناه من المذابح ومذبح بناه بأرض شكيم ، وآخر بشرقي بيت إيل ، وآخر بجبل الرب.

ثم الذي وصفوا به النبي الكريم إسماعيل : أنه كان غلاما وحشيا يضاد الناس ويضادونه ، ولم يكن له من الكرامة إلا أنه كان مطرودا من حضرة أبيه نما رامي قوس! يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره.

ومن ذلك : ما نسبته إليه مما لا يلائم مقام النبوة ولا روح التقوى والفتوة

٢٢٥

كقولها : إن ملكي صادق ملك « شاليم » أخرج إليه خبزا وخمرا وكان كاهنا لله العلي وباركه. (١)

ومن ذلك قولها : إن إبراهيم أخبر تارة رؤساء فرعون مصر أن سارة أخته ووصى سارة أن تصدقه في ذلك إذ قال لها : قولي : إنك أختي ليكون لي خير بسببك ، وتحيا نفسي من أجلك ، وأظهر تارة أخرى لأبي مالك ملك حرار أنها أخته ، فأخذها للزوجية فرعون تارة ، وأبو مالك أخرى ، ثم ذكرت التوراة تأول إبراهيم في قوله : « إنها أختي » مرة بأنها أختي في الدين ، وأخرى أنها ابنة أبي من غير أمي فصارت لي زوجة.

وأيسر ما في هذا الكلام أن يكون إبراهيم ( وحاشا مقام الخليل ) يعرض زوجته سارة لأمثال فرعون وأبي مالك مستغلا بها حتى يأخذاها زوجة وهي ذات بعل وينال هو بذلك جزيل العطاء ويستدرهما بما عندهما من الخير!.

على أن كلام التوراة صريح في أن سارة كانت عندئذ وخاصة حينما أخذها أبو مالك عجوزا قد عمرت سبعين أو أكثر ، والعادة تقضي أن المرأة تفتقد في سن العجائز نضارة شبابها ووضاءة جمالها ، والملوك والجبابرة المترفون لا يميلون إلى غير الفتيات البديعة جمالا الطرية حسنا.

وربما وجد ما يشاكل هذا المعنى في بعض الروايات ففي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لم يكذب إبراهيم النبي عليه‌السلام قط إلا ثلاث كذبات

__________________

(١) ربما وجهوا أن ملكي صادق هذا كاهن الرب هو أمرافل » ملك شنعار المذكور في أول القصة وهو « حمورابي » الملك صاحب الشريعة الذي هو أحد السلالة الأولى من ملوك بابل ، وقد اختلف في تاريخ ملكه اختلافا شديدا لا ينطبق أكثر ما قيل فيه زمان حياة إبراهيم وهو (٢٠٠) ق م فقد ذكر في كتاب العرب قبل الإسلام أنه تملك بابل سنة ٢٢٨٧ ـ ٢٢٣٢ ق م وفي شريعة حمورابي نقلا عن كتاب أقدم شرائع العالم للأستاذ ف. إدوارد أن سني ملكه ٢٢٠٥ ـ ٢١٦٧ ق. م ، وفي قاموس أعلام الشرق والغرب أنه تولى سلطنة بابل سنة ١٧٢٨ ـ ١٦٨٦ ق م وفي قاموس الكتاب المقدس أنه تولاها سنة ١٩٧٥ ـ ١٩٢٠ ق م.

وأوضح ما ينافي هذا الحدث أن الذي اكتشفوه من النصب في خرائب بابل وعليها شريعة حمورابي تشتمل على ذكر عدة من آلهة البابليين ، ويدل على كون حمورابي من الوثنيين ، ولا يستقيم عليه أن يكون كاهنا للرب.

٢٢٦

اثنتين في ذات الله : قوله « إِنِّي سَقِيمٌ » وقوله « بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا » وواحدة في شأن سارة ـ فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس ـ فقال لها : إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي ـ يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه ـ أنك أختي فإنك أختي في الإسلام ـ فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيرك وغيري ، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار ـ فأتاه فقال له : لقد قدم أرضك امرأة ـ لا ينبغي لها أن تكون إلا لك ـ فأرسل إليها فأتي بها فقام إبراهيم إلى الصلاة ـ فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها ـ فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها : ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ـ ففعلت فعاد فقبضت أشد من القبضتين (١). الأوليين ـ فقال : ادعي الله أن يطلق يدي فلك الله أن لا أضرك ـ ففعلت فأطلقت يده ـ ودعا الذي جاء بها فقال له ـ إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان ـ فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر.

قال فأقبلت تمشي فلما رآها إبراهيم عليه‌السلام انصرف ـ وقال لها : مهيم فقالت : خيرا كف الله يد الفاجر وأخدم خادما. قال أبو هريرة : فتلك أمكم يا بني ماء السماء.

وفي صحيح البخاري ، بطرق كثيرة عن أنس وأبي هريرة ، وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة وحذيفة ، وفي مسند أحمد ، عن أنس وابن عباس وأخرجه الحاكم عن ابن مسعود والطبراني عن عبادة بن الصامت وابن أبي شيبة عن سلمان ، والترمذي عن أبي هريرة ، وأبو عوانة عن حذيفة عن أبي بكر حديث شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة ، وهو حديث طويل فيه : أن أهل الموقف يأتون الأنبياء واحدا بعد واحد ـ يسألونهم الشفاعة عند الله ، وكلما أتوا نبيا وسألوه الشفاعة ـ ردهم إلى من بعده واعتذر بشيء من عثراته ـ حتى ينتهوا إلى خاتم النبيين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فيجيبهم إلى مسألتهم وفي الحديث : أنهم يأتون إبراهيم عليه‌السلام يطلبون منه أن يشفع لهم عند الله ـ فيقول لهم : لست هنأكم إني كذبت ثلاث كذبات : قوله « إِنِّي سَقِيمٌ » وقوله « بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا » وقوله لامرأته « أخبريه أني أخوك ».

والاعتبار الصحيح لا يوافق مضمون الحديثين كما ذكره بعض الباحثين إذ لو كان المراد بهما أن الأقاويل الثلاث التي وصفت فيهما أنها كذبات ليست كذبات حقيقية بل من قبيل التوريات والمعاريض البديعية كما ربما يلوح من بعض ألفاظ الحديث كالذي ورد في

__________________

(١) كذا في الأصل المنقول عنه وكأن فيه سقطا.

٢٢٧

بعض طرقه من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلها في ذات الله » وكذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما منها كذبة إلا ماحل (١) بها عن دين الله » فما بال إبراهيم في حديث القيامة يعدها ذنوبا لنفسه ومانعة عن القيام بأمر الشفاعة ويعتذر بها عنها؟ فإنها على هذا التقدير كانت من محنة في ذات الله وحسناته في الدين لو جاز لنبي من الأنبياء أن يكذب لمصلحة الدين لكنك قد عرفت في ما تقدم من مباحث النبوة في الجزء الثاني من هذا الكتاب أن ذلك مما لا يجوز على الأنبياء عليهم‌السلام قطعا لاستيجابه سلب الوثوق عن إخباراتهم وأحاديثهم من أصلها.

على أن هذا النوع من الإخبار لو جاز عده كذبا ومنعه عن الشفاعة عند الله سبحانه كان قوله عليه‌السلام لما رأى كوكبا والقمر والشمس : هذا ربي وهذا ربي أولى بأن يعد كذبا مانعا عن الشفاعة المنبئة عن القرب من الله تعالى.

على أن قوله عليه‌السلام على ما حكاه الله تعالى بقوله : « فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ » لا يظهر بشيء من قرائن الكلام كونه كذبا غير مطابق للواقع فلعله عليه‌السلام كان سقيما بنوع من السقم لا يحجزه عما هم به من كسر الأصنام.

وكذا قوله عليه‌السلام للقوم إذ سألوه عن أمر الأصنام المكسورة بقولهم : « أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ » فأجابهم وهم يعلمون أن أصنامهم من الجماد الذي لا شعور فيه ولا إرادة له : « بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا » ثم أردفه بقوله : « فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ » لا سبيل إلى عده كذبا فإنه كلام موضوع مكان التبكيت مسوق لإلزام الخصم على الاعتراف ببطلان مذهبه ، ولذا لم يجد القوم بدا دون أن اعترفوا بذلك فقالوا : « لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ » : ( الأنبياء : ٦٧ ).

ولو كان المراد أن الأقاويل الثلاث كذبات حقيقية كان ذلك من المخالفة الصريحة لكتاب الله تعالى ، ونحيل ذلك إلى فهم الباحث الناقد فليراجع ما تقدم في الفصل ٢ من الكلام في منزلة إبراهيم عليه‌السلام عند الله تعالى وموقفه العبودي مما أثنى الله عليه بأجمل الثناء وحمد مقامه أبلغ الحمد.

__________________

(١) أي جادل.

٢٢٨

وليت شعري كيف ترضى نفس باحث ناقد أو تجوز أن ينطبق مثل قوله تعالى : « وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا » : ( مريم : ٤١ ) على رجل كذاب يستريح إلى كذب القول كلما ضاقت عليه المذاهب؟ أو كيف يمدح الله بتلك المدائح الكريمة رجلا لا يراقب الله سبحانه في حق أو صدق ( حاشا ساحة خليل الله عن ذلك ).

وأما الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام فإنها تصدق التوراة في أصل القصة غير أنها تجل إبراهيم عليه‌السلام عما نسب إليه من الكذب وسائر ما لا يلائم قدس ساحته ، ومن أجمع ما يتضمن قصة الخليل (ع) ما في الكافي ، عن علي عن أبيه وعدة من أصحابنا عن سهل جميعا عن ابن محبوب عن إبراهيم بن زيد الكرخي قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إن إبراهيم عليه‌السلام كان مولده بكوثار (١) وكان أبوه من أهلها ، وكانت أم إبراهيم وأم لوط عليه‌السلام وسارة ـ وورقة ـ وفي نسخة رقبة ـ أختين وهما ابنتان للاحج ، وكان لاحج نبيا منذرا ولم يكن رسولا.

وكان إبراهيم عليه‌السلام في شبيبته على الفطرة ـ التي فطر الله عز وجل الخلق عليها حتى هداه الله تبارك وتعالى إلى دينه واجتباه ، وأنه تزوج سارة ابنة لاحج وهي ابنة خالته ـ وكانت سارة صاحبة ماشية كثيرة ـ وأرض واسعة وحال حسنة ، وكانت قد ملكت إبراهيم جميع ما كانت تملكه ـ فقام فيه وأصلحه وكثرت الماشية ـ والزرع ـ حتى لم يكن بأرض كوثاريا رجل أحسن حالا منه.

وإن إبراهيم عليه‌السلام لما كسر أصنام نمرود وأمر به نمرود ـ فأوثق وعمل له حيرا (٢) وجمع له فيه الحطب وألهب فيه النار ـ ثم قذف إبراهيم عليه‌السلام في النار لتحرقه ـ ثم اعتزلوها حتى خمدت النار ـ ثم أشرفوا على الحير فإذا هم بإبراهيم عليه‌السلام سليما ـ مطلقا من وثاقه فأخبر نمرود خبره ـ فأمرهم أن ينفوا إبراهيم عليه‌السلام من بلاده ، وأن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله ـ فحاجهم إبراهيم عليه‌السلام عند ذلك فقال : إن أخذتم ماشيتي ومالي فإن حقي عليكم ـ أن تردوا علي ما ذهب من عمري في بلادكم ، واختصموا إلى قاضي نمرود فقضى على إبراهيم عليه‌السلام ـ أن يسلم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم ، وقضى على أصحاب نمرود أن يردوا على إبراهيم عليه‌السلام ـ ما ذهب من عمره في بلادهم ، وأخبر بذلك نمرود

__________________

(١) كانت قرية من أعمال الكوفة وضبطه الجزري كوثي.

(٢) الحير مخفف الحائر وهو الحائط.

٢٢٩

فأمرهم أن يخلوا سبيله ـ وسبيل ماشيته وماله وأن يخرجوه ، وقال : إنه إن بقي في بلادكم أفسد دينكم وأضر بآلهتكم ـ فأخرجوا إبراهيم ولوطاعليه‌السلام معه من بلادهم إلى الشام.

فخرج إبراهيم ومعه لوط لا يفارقه وسارة ، وقال لهم : ( إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) يعني إلى بيت المقدس ـ فتحمل إبراهيم بماشيته وماله ـ وعمل تابوتا وجعل فيه سارة ـ وشد عليها الأغلاق غيرة منه عليها ـ ومضى حتى خرج من سلطان نمرود ، وسار إلى سلطان رجل من القبط يقال له « عزارة » فمر بعاشر له فاعترضه العاشر ليعشر ما معه ـ فلما انتهى إلى العاشر ومعه التابوت ـ قال العاشر لإبراهيم عليه‌السلام : افتح هذا التابوت لنعشر ما فيه ـ فقال له إبراهيم عليه‌السلام : قل ما شئت فيه من ذهب أو فضة ـ حتى نعطي عشره ولا نفتحه. قال : فأبى العاشر إلا فتحه ـ قال : وغصب (١) إبراهيم عليه‌السلام على فتحه ـ فلما بدت له سارة وكانت موصوفة بالحسن والجمال ـ قال له العاشر : ما هذه المرأة منك؟ قال إبراهيم عليه‌السلام : هي حرمتي وابنة خالتي ، فقال له العاشر : فما دعاك إلى أن خبيتها في هذا التابوت؟ فقال إبراهيم عليه‌السلام : الغيرة عليها أن يراها أحد ـ فقال له العاشر : لست أدعك تبرح حتى أعلم الملك حالها وحالك.

قال : فبعث رسولا إلى الملك فأعلمه ـ فبعث الملك رسولا من قبله ليأتوه بالتابوت فأتوا ليذهبوا به فقال لهم إبراهيم عليه‌السلام : إني لست أفارق التابوت حتى يفارق روحي جسدي ـ فأخبروا الملك بذلك فأرسل الملك أن ـ احملوه والتابوت معه ـ فحملوا إبراهيم عليه‌السلام والتابوت وجميع ما كان معه ـ حتى أدخل على الملك : فقال له الملك ـ افتح التابوت فقال له إبراهيم عليه‌السلام : أيها الملك إن فيه حرمتي وابنة خالتي ـ وأنا مفتد فتحه بجميع ما معي.

قال : فغصب الملك إبراهيم على فتحه ـ فلما رأى سارة لم يملك حلمه سفهه أن مد يده إليها ـ فأعرض إبراهيم عليه‌السلام وجهه عنها وعنه غيرة منه وقال : اللهم احبس يده عن حرمتي وابنة خالتي ـ فلم تصل يده إليها ولم ترجع إليه فقال له الملك: إن إلهك هو الذي فعل بي هذا؟ فقال له: نعم إن إلهي غيور يكره الحرام ، وهو الذي حال بينك وبين ما أردته من الحرام ـ فقال له الملك : فادع إلهك يرد علي يدي ـ فإن أجابك فلم أعرض لها ـ فقال إبراهيم عليه‌السلام : إلهي رد إليه يده ليكف عن حرمتي. قال : فرد الله عز وجل إليه يده ـ فأقبل الملك نحوها ببصره ثم عاد بيده نحوها ـ فأعرض إبراهيم عنه بوجهه غيرة

__________________

(١) بالمعجمة فالمهملة يقال : غصبه على كذا أي قهره.

٢٣٠

منه ، وقال : اللهم احبس يده عنها. قال : فيبست يده ولم تصل إليها.

فقال الملك لإبراهيم عليه‌السلام : إن إلهك لغيور وإنك لغيور ـ فادع إلهك يرد إلي يدي فإنه إن فعل لم أعد ـ فقال إبراهيم عليه‌السلام : أسأله ذلك على أنك إن عدت لم تسألني أن أسأله ـ فقال له الملك : نعم فقال إبراهيم عليه‌السلام : اللهم إن كان صادقا فرد يده عليه فرجعت إليه يده.

فلما رأى ذلك الملك من الغيرة ما رأى ـ ورأى الآية في يده عظم إبراهيم عليه‌السلام ـ وهابه وأكرمه واتقاه ، وقال له : قد أمنت من أن أعرض لها أو لشيء مما معك ـ فانطلق حيث شئت ولكن لي إليك حاجة ـ فقال إبراهيم عليه‌السلام : ما هي؟ فقال له : أحب أن تأذن لي أن أخدمها ـ قبطية عندي جميلة عاقلة تكون لها خادما ـ قال : فأذن إبراهيم عليه‌السلام فدعا بها فوهبها لسارة ـ وهي هاجر أم إسماعيل عليه‌السلام.

فسار إبراهيم عليه‌السلام بجميع ما معه ، وخرج الملك معه يمشي خلف إبراهيم عليه‌السلام إعظاما لإبراهيم وهيبة له ـ فأوحى الله تبارك وتعالى إلى إبراهيم عليه‌السلام ـ أن قف ولا تمش قدام الجبار المتسلط ـ ويمشي وهو خلفك ، ولكن اجعله أمامك وامش خلفه وعظمه وهبه فإنه مسلط ولا بد من إمرة في الأرض برة أو فاجرة ـ فوقف إبراهيم عليه‌السلام وقال للملك : امض فإن إلهي أوحى إلي الساعة أن أعظمك وأهابك ، وأن أقدمك أمامي وأمشي خلفك إجلالا لك ـ فقال له الملك : أوحي إليك بهذا؟ فقال إبراهيم عليه‌السلام : نعم ـ فقال له الملك : أشهد إن إلهك لرفيق حليم كريم ـ وأنك ترغبني في دينك.

قال : وودعه الملك فسار إبراهيم عليه‌السلام ـ حتى نزل بأعلى الشامات ، وخلف لوطا عليه‌السلام في أدنى الشامات. ثم إن إبراهيم عليه‌السلام لما أبطأ عليه الولد قال لسارة : لو شئت لبعتني هاجر ـ لعل الله أن يرزقنا منها ولدا فيكون لنا خلفا ، فابتاع إبراهيم عليه‌السلام هاجر من سارة ـ فوقع عليها فولدت إسماعيل عليه‌السلام.

ومن ذلك ما ذكرته أعني التوراة في قصة الذبح أن الذبيح هو إسحاق دون إسماعيل عليه‌السلام مع أن قصة إسكانه بأرض تهامة وبنائه الكعبة المشرفة وتشريع عمل الحج الحاكي لما جرى عليه وعلى أمه من المحنة والمشقة في ذات الله ، وقد اشتمل على الطواف والسعي والتضحية كل ذلك تؤيد كون الذبيح هو إسماعيل دون إسحاق عليه‌السلام.

وقد وقع في إنجيل برنابا أن المسيح لام اليهود ووبخهم على قولهم بأن الذبيح هو

٢٣١

إسحاق دون إسماعيل قال في الفصل ٤٤" : فكلم الله إبراهيم قائلا : خذ ابنك بكرك إسماعيل واصعد الجبل لتقدمه ذبيحة ـ فكيف يكون إسحاق البكر ـ وهو لما ولد كان إسماعيل ابن سبع سنين الفصل ٤٤ آية : ١١ ـ ١٢.

وأما القرآن فإن آياته كالصريحة في كون الذبيح هو إسماعيل عليه‌السلام قال تعالى بعد ما ذكر قصة كسر الأصنام وإلقائه في النار وجعلها بردا وسلاما : « فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ » : ( الصافات : ١١٣ ).

والمتدبر في الآيات الكريمة لا يجد مناصا دون أن يعترف أن الذبيح هو الذي ذكر الله سبحانه البشارة به في قوله : « فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ » وأن البشارة الأخرى التي ذكرها أخيرا بقوله « وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ » غير البشارة الأولى ، والذي بشر به في الثانية وهو إسحاق عليه‌السلام غير الذي بشر به في الأولى وأردفها بذكر قصة التضحية به.

وأما الروايات فالتي وردت منها من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام تذكر أن الذبيح هو إسماعيل عليه‌السلام ، والتي رويت من طرق أهل السنة والجماعة مختلفة : فصنف يذكر إسماعيل وصنف يذكر إسحاق عليه‌السلام غير أنك عرفت أن الصنف الأول هو الذي يوافق الكتاب.

قال الطبري في تاريخه ، : اختلف السلف من علماء أمة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في الذي أمر إبراهيم بذبحه من ابنيه فقال بعضهم : هو إسحاق بن إبراهيم ، وقال بعضهم : هو إسماعيل بن إبراهيم. وقد روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كلا القولين لو كان فيهما صحيح لم نعده إلى غيره غير أن الدليل من القرآن على صحة الرواية التي رويت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : هو إسحاق أوضح وأبين منه على صحة الأخرى.

٢٣٢

إلى أن قال : وأما الدلالة من القرآن التي قلنا : إنها على أن ذلك إسحاق أصح فقوله تعالى مخبرا عن دعاء خليله إبراهيم حين فارق قومه مهاجرا إلى ربه إلى الشام مع زوجته سارة قال : « إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ » وذلك قبل أن يعرف هاجر ، وقبل أن تصير له أم إسماعيل ثم أتبع ذلك ربنا عز وجل الخبر عن إجابة دعائه وتبشيره إياه بغلام حليم ثم عن رؤيا إبراهيم أنه يذبح ذلك الغلام حين بلغ معه السعي.

ولا نعلم في كتاب الله عز وجل تبشيرا لإبراهيم بولد ذكر إلا بإسحاق وذلك قوله :

« وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ » وقوله : « فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ».

ثم ذلك كذلك في كل موضع ذكر فيه تبشير إبراهيم بغلام فإنما ذكر تبشير الله إياه به من زوجته سارة فالواجب أن يكون ذلك في قوله : « فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ » نظير ما في سائر سور القرآن من تبشيره إياه من زوجته سارة.

وأما اعتلال من اعتل بأن الله لم يأمر بذبح إسحاق وقد أتته البشارة من الله قبل ولادته بولادته وولادة يعقوب منه من بعده فإنها علة غير موجبة صحة ما قال ، وذلك أن الله تعالى إنما أمر إبراهيم بذبح إسحاق بعد إدراك إسحاق السعي وجائز أن يكون يعقوب ولد له قبل أن يؤمر أبوه بذبحه.

وكذلك لا وجه لاعتلال من اعتل في ذلك بقرن الكبش أنه رآه معلقا بالكعبة وذلك أنه غير مستحيل أن يكون حمل من الشام إلى الكعبة فعلق هنالك ، انتهى كلامه.

وليت شعري كيف خفي عليه أن إبراهيم عليه‌السلام لما سأل ربه الولد عند مهاجرته إلى الشام وعنده سارة ولا خبر عن هاجر يومئذ سأل ذلك بقوله : « رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ » فسأل ربه الولد ، ولم يسأل أن يرزقه ذلك من سارة حتى تحمل البشارة المذكورة عقيبه على البشارة بإسحاق فإنما قال : « رَبِّ هَبْ لِي » ولم يقل : رب هب لي من سارة.

وأما ما ذكره أن المعروف من سائر مواضع كتاب الله هو البشرى بإسحاق فيجب

٢٣٣

أن نحمل البشرى في هذا الموضع عليه أيضا. فمع ما سيجيء من الكلام عليه في سائر الموارد التي أشار إليها هو في نفسه قياس لا دليل عليه بل الدليل على خلافه فإن الله سبحانه في هذه الآيات لما ذكر البشارة بغلام حليم ثم ذكر قصة الذبح استأنف ثانيا ذكر البشارة بإسحاق ولا يرتاب المتدبر في هذا السياق أن المبشر به ثانيا غير المبشر به أولا فقد بشر إبراهيم عليه‌السلام قبل إسحاق بولد له آخر وليس إلا إسماعيل ، وقد اتفق الرواة والنقلة وأهل التاريخ أن إسماعيل ولد لإبراهيم قبل إسحاق عليه‌السلام جميعا.

ومن ذلك التدافع البين فيما تذكره التوراة من أمر إسماعيل فإنها تصرح أن إسماعيل ولد لإبراهيم عليه‌السلام قبل أن يولد له إسحاق بما يقرب من أربعة عشر عاما وأن إبراهيم عليه‌السلام طرده وأمه هاجر بعد تولد إسحاق لما استهزأ بسارة ثم تسرد قصة إسكانهما الوادي ونفاد الماء الذي حملته هاجر وعطش إسماعيل ثم إراءة الملك إياها الماء ، ولا يرتاب الناظر المتدبر في القصة أن إسماعيل كان عندئذ صبيا مرضعا فعليك بالرجوع إليها والتأمل فيها ، وهذا هو الذي يوافق المأثور من أخبارنا.

٦ ـ القرآن الكريم يعتني أبلغ الاعتناء بقصة إبراهيم عليه‌السلام من جهة نفسه ومن جهة ابنيه الكريمين إسماعيل وإسحاق وذريتهما معا بخلاف ما يتعرض له في التوراة فإنها تقصر الخبر عنه بما يتعلق بإسحاق وشعب إسرائيل ، ولا يلتفت إلى إسماعيل إلا ببعض ما يهون أمره ويحقر شأنه ، ومع ذلك لا يخلو يسير ما تخبر عنه عن التدافع فتارة تذكر خطاب الله سبحانه لإبراهيم عليه‌السلام أن نسلك الباقي هو من إسحاق ، وتارة أخرى خطابه أن الله بارك لنسلك من عقب إسماعيل وسيجعله أمة كبيرة ، وتارة تعرفه إنسانا وحشيا يضاد الناس ويضاده الناس قد نشأ رامي قوس مطرودا عن بيت أبيه ، وتارة تذكر أن الله معه.

وبالتأمل فيما تقدم من قصته عليه‌السلام في القرآن يظهر الجواب عن إشكالين أشكل بهما على الكتاب العزيز.

الإشكال الأول ما ذكره بعض المستشرقين (١) أن القرآن في سوره المكية لا

__________________

(١) نقله النجار في قصص الأنبياء عن المستشرق هجرونييه والمستشرق فنسنك. في دائرة المعارف الإسلامية.

٢٣٤

يتعرض لشأن إبراهيم وإسماعيل عليه‌السلام إلا كما يتعرض لشأن سائر الرسل من أنهم كانوا على دين التوحيد ينذرون الناس ويدعونهم إلى الله سبحانه من غير أن يذكر بناءه الكعبة وصلته بإسماعيل وكونهما داعيين للعرب إلى دين الفطرة والملة الحنيفية. لكن السور المدينة كالبقرة والحج وغيرهما تذكر إبراهيم وإسماعيل متصلين اتصال الأبوة والبنوة وأبوين للعرب مشرعين لها دين الإسلام بانيين للكعبة البيت الحرام.

وسر هذا الاختلاف أن محمدا كان قد اعتمد على اليهود في مكة فما لبثوا أن اتخذوا حياله خطة عداء فلم يكن له بد أن التمس غيرهم ناصرا. هناك هداه ذكاء مسدد إلى شأن جديد لأبي العرب إبراهيم وبذلك استطاع أن يخلص من يهودية عصره ليصل حبلة بيهودية إبراهيم فعده أبا للعرب مشيدا لدينهم الإسلام بانيا لبيتهم المقدس الذي في مكة لما أن هذه المدينة كانت تشغل جل تفكيره. انتهى ملخصا.

وقد أزرى المستشكل على نفسه بهذه الفرية التي نسبها إلى الكتاب العزيز الذي له شهرته العالمية التي لا يتحجب معها على شرقي ولا غربي فكل باحث متدبر يشاهد أن القرآن الكريم لم يداهن مشركا ولا يهوديا ولا نصرانيا ولا غيرهم في سورة مكية ولا مدنية ولم يختلف لحن قوله في تخطئة اليهود ولا غيرهم بحسب مكية السور ومدنيتها.

غير أن الآيات القرآنية لما نزلت نجوما بحسب وقوع الحوادث المرتبطة بالدعوة الدينية ، وكان الابتلاء بأمر اليهود بعد الهجرة كان التعرض لشئونهم والإبانة عن التشديد في حقهم لا محالة في الآيات النازلة في تضاعيف السور المدنية كتفاصيل الأحكام المشرعة التي أنزلت فيها حسب مسيس الحاجة بحدوث الحوادث.

وأما ما ذكراه من اختصاص حديث اتصال إسماعيل بإبراهيم عليه‌السلام وبناء الكعبة وتأسيس الدين الحنيف بالسور المدنية فيكذبه قوله تعالى في سورة إبراهيم وهي مكية فيما حكاه من دعاء إبراهيم عليه‌السلام : « وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ـ إلى أن قال ـ رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ـ إلى أن قال ـ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ » : ( إبراهيم : ٣٩ ) وقد مر نظيره في الآيات المنقولة من سورة الصافات آنفا المنبئة عن قصة الذبيح.

٢٣٥

وأما ما ذكراه من يهودية إبراهيم عليه‌السلام فإن القرآن يرده بقوله تعالى : « يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ـ إلى أن قال ـ ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » ( آل عمران : ٦٧ ).

الإشكال الثاني : أن الصابئين وهم عبدة الكواكب الذين يذكر القرآن تعرض إبراهيم عليه‌السلام لآلهتهم بقوله : « فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي » إلى آخر الآيات إنما كانوا بمدينة حران التي هاجر إليها إبراهيم عليه‌السلام من بابل أو من « أور » ولازمه أن يكون حجاجه عبدة الكواكب بعد مدة من حجاجه عبدة الأصنام وكسره الأصنام ودخوله النار ، ولا يلائم ذلك ما هو ظاهر الآيات أن قصة الحجاج مع عبدة الأصنام والكواكب وقعت جميعا في يومين عند أول شخوصه إلى أبيه وقومه كما تقدم بيانه.

أقول : وهذا في الحقيقة إشكال على التفسير الذي تقدم إيراده في بيان الآيات لا على أصل الكتاب.

ومع ذلك ففيه غفلة عما يثبته التاريخ ويعطيه الاعتبار الصحيح أما الاعتبار فإن المملكة التي ينتحل في بعض بلاده العظيمة بدين من الأديان الشائعة المعروفة كالصابئية التي كانت يومئذ من الأديان المعروفة في الدنيا لا يخلو من شيوع في سائر بلادها ووجود جماعة من منتحليه منتشرة في أقطارها.

وأما التاريخ فقد ذكر شيوعه كشيوع الوثنية ببابل ووجود معابد كثيرة فيها بنيت على أسماء الكواكب وأصنام لها منصوبة فيها فقد جاء في تاريخ أرض بابل وما والاها ذكر بناء معبد إله الشمس وإله القمر في حدود سنة ثلاثة آلاف ومائتين قبل المسيح ، وفي نصب شريعة حمورابي ذكر إله الشمس وإله القمر وهو مما يقرب زمن الخليل إبراهيم عليه‌السلام.

وقد تقدم فيما نقلناه من كتاب الآثار الباقية لأبي ريحان البيروني (١) : أن يوذاسف ظهر عند مضي سنة من ملك طهمورث بأرض الهند ، وأتى بالكتابة الفارسية ، ودعا إلى

__________________

(١) في بحث تاريخي في ذيل الآية ٦٢ من سورة البقرة.

٢٣٦

ملة الصابئين فاتبعه خلق كثير ، وكانت الملوك البيشدادية وبعض الكيانية ممن كان يستوطن بلخ يعظمون النيرين والكواكب وكليات العناصر إلى وقت ظهور زراتشت عند مضي ثلاثين سنة من ملك بشتاسف.

وساق الكلام إلى أن قال : وينسبون التدبير إلى الفلك وأجرامه ويقولون بحياتها ونطقها وسمعها وبصرها ، ويعظمون الأنوار ، ومن آثارهم القبة التي فوق المحراب عند المقصورة من جامع دمشق كان مصلاهم ، وكان اليونانيون والروم على دينهم ، ثم صارت في أيدي اليهود فعملوها كنيستهم ، ثم تغلب عليها النصارى فصيروها بيعة إلى أن جاء الإسلام وأهله فاتخذوها مسجدا.

وكانت لهم هياكل وأصنام بأسماء الشمس معلومة الأشكال كما ذكرها أبو معشر البلخي في كتابه في بيوت العبادات مثل هيكل بعلبك كان لصنم الشمس ، وقران فإنها منسوبة إلى القمر وبناؤها على صورته كالطيلسان ، وبقربها قرية تسمى سلمسين واسمها القديم : صنم سين أي صنم القمر : وقرية أخرى تسمى ترع عوز أي باب الزهرة.

ويذكرون أن الكعبة وأصنامها كانت لهم ، وعبدتها كانوا من جملتهم وأن اللات كان باسم زحل ، والعزى باسم الزهرة ، انتهى.

وذكر المسعودي أن مذهب الصابئة كان نوعا من التحول والتكامل في دين الوثنية وأن الصبوة ربما كانت تتحول إلى الوثنية لتقارب مأخذيهما ، وأن الوثنية ربما كانوا يعبدون أصنام الشمس والقمر والزهرة وسائر الكواكب تقربا بها إلى آلهتها ثم إلى إله الآلهة.

قال في مروج الذهب : ، كان كثير من أهل الهند والصين وغيرهم من الطوائف يعتقدون أن الله عز وجل جسم ، وأن الملائكة أجسام لها أقدار وأن الله تعالى وملائكته احتجبوا بالسماء ، فدعاهم ذلك إلى أن اتخذوا تماثيل وأصناما على صورة الباري عز وجل وبعضها على صورة الملائكة مختلفة القدود والأشكال ، ومنها على صورة الإنسان وعلى خلافها من الصور يعبدونها ، وقربوا لها القرابين ، ونذروا لها النذور لشبهها عندهم بالباري تعالى وقربها منه.

فأقاموا على ذلك برهة من الزمان وجملة من الأعصار حتى نبههم بعض حكمائهم على أن الأفلاك والكواكب أقرب الأجسام المرئية إلى الله تعالى وأنها حية ناطقة ، وأن

٢٣٧

الملائكة تختلف فيهما بينها وبين الله ، وأن كل ما يحدث في هذا العالم فإنما هو على قدر ما تجري به الكواكب عن أمر الله فعظموها وقربوا لها القرابين لتنفعهم فمكثوا على ذلك دهرا.

فلما رأوا الكواكب تخفى بالنهار وفي بعض أوقات الليل لما يعرض في الجو من السواتر أمرهم بعض من كان فيهم من حكمائهم أن يجعلوا لها أصناما وتماثيل على صورها وأشكالها فجعلوا لها أصناما وتماثيل بعدد الكواكب الكبار المشهورة ، وكل صنف منهم يعظم كوكبا منها ، ويقرب لها نوعا من القربان خلاف ما للآخر على أنهم إذا عظموا ما صوروا من الأصنام تحركت لهم الأجسام العلوية من السبعة بكل ما يريدون ، وبنوا لكل صنم بيتا وهيكلا مفردا ، وسموا تلك الهياكل بأسماء تلك الكواكب.

وقد ذهب قوم إلى أن البيت الحرام هو بيت زحل ، وإنما طال عندهم بقاء هذا البيت على مرور الدهور معظما في سائر الأعصار لأنه بيت زحل ، وأن زحل تولاه لأن زحل من شأنه البقاء والثبوت ، فما كان له فغير زائل ولا داثر ، وعن التعظيم غير حائل وذكروا أمورا أعرضنا عن ذكرها لشناعة وصفها.

ولما طال عليهم العهد عبدوا الأصنام على أنها تقربهم إلى الله وألغوا عبادة الكواكب فلم يزالوا على ذلك حتى ظهر يوذاسف بأرض الهند وكان هنديا ، وكان يوذاسف خرج من أرض الهند إلى السند ثم سار إلى بلاد سجستان وبلاد زابلستان وهي بلاد فيروز بن كبك ثم دخل السند ثم إلى كرمان.

فتنبأ وزعم أنه رسول الله ، وأنه واسطة بين الله وبين خلقه ، وأتى أرض فارس ، وذلك في أوائل ملك طهمورث ملك فارس ، وقيل : ذلك في ملك جم ، وهو أول من أظهر مذاهب الصابئة على حسب ما قدمنا آنفا فيما سلف من هذا الكتاب.

وقد كان يوذاسف أمر الناس بالزهد في هذا العالم ، والاشتغال بما علا من العوالم ، إذ كان من هناك بدء النفوس وإليها يقع الصدر من هذا العالم ، وجدد يوذاسف عند الناس عبادة الأصنام والسجود لها لشبه ذكرها ، وقرب لعقولهم عبادتها بضروب من الحيل والخدع.

وذكر ذوو الخبرة بشأن هذا العالم وأخبار ملوكهم : أن جم الملك أول من عظم

٢٣٨

النار ودعا الناس إلى تعظيمها ، وقال : إنها تشبه ضوء الشمس والكواكب لأن النور عنده أفضل من الظلمة ، وجعل للنور مراتب. ثم تنازع هؤلاء بعده فعظم كل فريق منهم ما يرون تعظيمه من الأشياء تقربا إلى الله بذلك.

ثم ذكر المسعودي البيوت المعظمة عندهم وهي سبعة الكعبة البيت الحرام باسم زحل ، وبيت على جبل مارس بأصفهان ، وبيت مندوسان ببلاد الهند ، وبيت نوبهار بمدينة بلخ على اسم القمر ، وبيت غمدان بمدينة صنعاء من بلاد اليمن على اسم الزهرة ، وبيت كاوسان بمدينة فرغانة على اسم الشمس ، وبيت بأعالي بلاد الصين على اسم العلة الأولى.

واليونان والروم القديم والصقالبة بيوت معظمة بعضهما مبنية على اسم الكواكب كالبيت الذي بتونس للروم الذي على اسم الزهرة.

ثم ذكر المسعودي أن للصابئين من الحرانيين (١) هياكل على أسماء الجواهر العقلية والكواكب فمن ذلك هيكل العلة الأولى ، وهيكل العقل. قال : ومن هياكل الصابئة هيكل السلسلة ، وهيكل الصورة وهيكل النفس وهذه مدورات الشكل ، وهيكل زحل مسدس ، وهيكل المشتري مثلث ، وهيكل المريخ مربع مستطيل ، وهيكل الشمس مربع ، وهيكل عطارد مثلث الشكل ، وهيكل الزهرة مثلث في جوف مربع مستطيل ، وهيكل القمر مثمن الشكل ، وللصابئة فيما ذكرنا رموز وأسرار يخفونها ، انتهى. وقريب منه ما في الملل والنحل ، للشهرستاني.

وقد تبين مما نقلناه أولا : أن الوثنية كما كانت تعبد أصناما للآلهة وأرباب الأنواع كذلك كانت تعبد أصنام الكواكب والشمس والقمر ، وكانت عندهم هياكل على أسمائها ، ومن الممكن أن يكون حجاج إبراهيم عليه‌السلام في أمر الكواكب والقمر والشمس ، مع الوثنية العابدين لها المتقربين بها دون الصابئة كما يمكن أن يكون مع بعض الصابئين في مدينة بابل أو بلدة أور أو كوثاريا على ما في بعض الروايات المنقولة سالفا.

على أن ظاهر ما يقصه القرآن الكريم : أن إبراهيم عليه‌السلام حاج أباه وقومه وتحمل أذاهم في الله حتى اعتزلهم وهجرهم بالمهاجرة من أرضهم إلى الأرض المقدسة من غير أن يتغرب من أرضهم إلى حران أولا ثم من حران إلى الأرض المقدسة ، والذي ضبطه كتب

__________________

(١) يطلق الحرانيون على الصابئين مطلقا لاشتهار حران بهذا الدين.

٢٣٩

التاريخ من مهاجرته إلى حران أولا ثم من حران إلى الأرض المقدسة لا مأخذ له غير التوراة أو أخبار غير سليمة من نفثة إسرائيلية كما هو ظاهر لمن تدبر تاريخ الطبري ، وغيره.

على أن بعضهم ذكروا أن حران المذكور في التوراة كان بلدا قرب بابل بين الفرات وخابور ، وهو غير حران الواقع قرب دمشق الموجود اليوم. (١) نعم ذكر المسعودي أن الذي بقي من هياكلهم ـ الصابئة ـ المعظمة في هذا الوقت ـ وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة ـ بيت لهم بمدينة حران في باب الرقة يعرف « بمغليتيا » وهو هيكل آزر أبي إبراهيم الخليل عليه‌السلام عندهم ، وللقوم في آزر وابنه إبراهيم كلام كثير ، انتهى. ولا حجة في قولهم على شيء.

وثانيا : أنه كما أن الوثنية ربما كانت تعبد الشمس والقمر والكواكب كذلك الصابئة كانت تبني بيوتا وهياكل لعبادة غير الكواكب والقمر والشمس كالعلة الأولى والعقل والنفس وغيرها كالوثنية وتتقرب إليها مثلهم وقد ذكر هيرودوتوس في تاريخه في ما يصف معبد بابل أنه كان مشتملا على ثمانية أبراج بعضها مبنية على بعض وأن آخر الأبراج وهو أعلاها كان مشتملا على قبة وسيعة ما فيها غير عرش عظيم حياله طاولة من ذهب ، وليس في القبة شيء من التماثيل والأصنام ، ولا يبيت فيها أحد إلا امرأة يزعم الناس أن الله هو اختارها للخدمة ووظفها للملازمة. انتهى. (٢) ولعله كان للعلة الأولى المنزهة عن الهيئات والأشكال وإن كانوا ربما يصورونه بما يتوهمونه من الصور كما ذكره المسعودي. وقد ثبت أن فلاسفتهم كانوا ينزهون الله تعالى عن الهيئات الجسمانية والأشكال والأوضاع المادية ويصفونه بما يليق به من الصفات غير أنهم كانوا يتقون العامة أن يظهروا ما يعتقدونه فيه سبحانه إما لعدم استعداد أفهامهم لتلقي ذلك ، أو لمقاصد وأغراض سياسية توجب كتمان الحق.

__________________

(١) ذكره في قاموس الكتاب المقدس في « حران ».

(٢) تاريخ هيرودوتوس اليوناني المؤلف في حدود ٥٠٠ ق. م.

٢٤٠