الميزان في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٩

ومعمول يلبسون محذوف ، وربما استفيد من ذلك العموم والتقدير يلبس الكفار على أنفسهم أعم من لبس البعض على نفسه ، ولبس البعض على البعض الآخر.

أما لبسهم على غيرهم فكما يلبس علماء السوء الحق بالباطل لجهلة مقلديهم وكما يلبس الطواغيت المتبعون لضعفة أتباعهم الحق بالباطل كقول فرعون فيما حكى الله لقومه : « يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ ، فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ » : ( الزخرف : ٥٤ ) وقوله : « ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ » : ( المؤمن : ٢٩ ).

وأما لبسهم على أنفسهم فهو بتخييلهم إلى أنفسهم أن الحق باطل وأن الباطل حق ثم تماديهم على الباطل فإن الإنسان وإن كان يميز الحق من الباطل فطرة الله التي فطر الناس عليها ، وكان تلهم نفسه فجورها وتقواها غير أن تقويته جانب الهوى وتأييده روح الشهوة والغضب من نفسه تولد في نفسه ملكة الاستكبار عن الحق ، والاستعلاء على الحقيقة فتنجذب نفسه إليه ، وتغتر بعمله ، ولا تدعه يلتفت إلى الحق ويسمع دعوته ، وعند ذاك يزين له عمله ، ويلبس الحق بالباطل وهو يعلم كما قال تعالى : « أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً » : ( الجاثية : ٢٣ ) وقال : « قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً » : ( الكهف : ١٠٤ ).

وهذا هو المصحح لتصوير ضلال الإنسان في أمر مع علمه به فلا يرد عليه أن لبس الإنسان على نفسه الحق بالباطل إقدام منه على الضرر المقطوع وهو غير معقول.

على أنا لو تعمقنا في أحوال أنفسنا ثم أخذنا بالنصفة عثرنا على عادات سوء نقضي بمساءتها لكنا لسنا نتركها لرسوخ العادة وليس ذلك إلا من الضلال على علم ، ولبس الحق بالباطل على النفس والتلهي باللذة الخيالية والتوله إليها عن التثبت على الحق والعمل به ، أعاننا الله تعالى على مرضاته.

وعلى أي حال فقوله تعالى : « وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً » إلخ ، الجواب عن

٢١

مسألتهم نزول الملك ليكون نذيرا فيؤمنوا به.

ومحصله أن الدار دار اختيار لا تتم فيها للإنسان سعادته الحقيقية إلا بسلوكه مسلك الاختيار ، واكتسابه لنفسه أو على نفسه ما ينفعه في سعادته أو يضره ، وسلوك أي الطريقين رضي لنفسه أمضى الله سبحانه له ذلك.

قال تعالى : « إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً » : ( الدهر : ٣ ) فإنما هي هداية وإراءة للطريق ليختار ما يختاره لنفسه من التطرق والتمرد من غير أن يضطر إلى شيء من الطريقين ويلجأ إلى سلوكه بل يحرث لنفسه ثم يحصد ما حرث ، قال تعالى : « وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى » : ( النجم : ٤١ ) فليس للإنسان إلا مقتضى سعيه فإن كان خيرا أراه الله ذلك وإن كان شرا أمضاه له ، قال تعالى : « مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ » : ( الشورى : ٢٠ ).

وبالجملة هذه الدعوة الإلهية لا يستقيم أمرها إلا أن توضع على الاختيار الإنساني من غير اضطرار وإلجاء ، فلا محيص عن أن يكون الرسول الحامل لرسالات الله أحدا من الناس يكلمهم بلسانهم فيختاروا لأنفسهم السعادة بالطاعة أو الشقاء بالمخالفة والمعصية من غير أن يضطرهم الله إلى قبول الدعوة بآية سماوية يلجئهم إليه وإن قدر على ذلك كما قال : « لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ، إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ » ( الشعراء : ٤ ).

فلو أنزل الله إليهم ملكا رسولا لكان من واجب الحكمة أن يجعله رجلا مثلهم فيربح الرابحون باكتسابهم ويخسر الخاسرون فيلبسوا الحق بالباطل على أنفسهم وعلى أتباعهم كما يلبسون مع الرسول البشري فيمضي الله ذلك ويلبس عليهم كما لبسوا ، قال تعالى : « فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ » : ( الصف : ٥ ).

فإنزال الملك رسولا لا يترتب عليه من النفع والأثر أكثر مما يترتب على إرسال الرسول البشري ، ويكون حينئذ لغوا فقول الذين كفروا : ( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ) ليس إلا سؤالا لأمر لغو لا يترتب عليه بخصوصه أثر خاص جديد كما رجوا ، فهذا معنى قوله :

٢٢

« وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ».

فظهر مما تقدم من التوجيه أولا أن الملازمة بين جعل الرسول ملكا وجعله رجلا إنما هي من جهة إيجاب الحكمة حفظ الاختيار الإنساني في الدعوة الدينية الإلهية إذ لو أنزل الملك على صورته السماوية وبدل الغيب شهادة كان من الإلجاء الذي لا تستقيم معه الدعوة الاختيارية.

وثانيا : أن الذي تدل عليه الآية هو صيرورة الملك رجلا مع السكوت عن كون ذلك هل هو بقلب ماهية الملكية إلى الماهية الإنسانية ـ الذي ربما يحيله عدة من الباحثين ـ أو بتمثيله مثالا إنسانيا كتمثل الروح لمريم بشرا سويا ، وتمثل الملائكة الكرام لإبراهيم ولوط عليه‌السلام في صورة الضيفين من الآدميين.

وجل الآيات الواردة في مورد الملائكة وإن كان يؤيد الثاني من الوجهين لكن قوله تعالى : « وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ » : ( الزخرف : ٦٠ ) لا يخلو عن دلالة ما على الوجه الأول ، وللبحث ذيل ينبغي أن يطلب من محل آخر.

وثالثا : أن قوله تعالى : « وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ » من قبيل قوله تعالى : « فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ » : ( الصف : ٥ ) فهو إضلال إلهي لهم بعد ما استحبوا الضلال لأنفسهم من غير أن يكون إضلالا ابتدائيا غير لائق بساحة قدسه سبحانه.

ورابعا : أن متعلق يلبسون المحذوف أعم يشمل لبسهم على أنفسهم ولبس بعضهم على بعض.

وخامسا : أن محصل الآية احتجاج عليهم بأنه لو أنزل عليهم ملك بالرسالة لم ينفعهم ذلك في رفع حيرتهم فإن الله جاعل الملك عندئذ رجلا يماثل الرسول البشري وهم لابسون على أنفسهم معه متشككون فإنهم لا يريدون بهذه المسألة إلا أن يتخلصوا من الرسول البشري الذي هو في صورة رجل ليبدلوا بذلك شكهم يقينا وإذا صار الملك على هذا النعت ـ ولا محالة ـ فهم لا ينتفعون بذلك شيئا.

وسادسا : أن في التعبير : « لَجَعَلْناهُ رَجُلاً » ولم يقل : لجعلناه بشرا ليشمل الرجل والمرأة جميعا إشعارا ـ كما قيل ـ بأن الرسول لا يكون إلا رجلا كما أن التعبير لا يخلو

٢٣

من إشعار بأن هذا الجعل إنما هو بتمثل الملك في صورة الإنسان دون انقلاب هويته إلى هوية الإنسان كما قيل.

وغالب المفسرين وجهوا الآية بأن المراد : أنهم لما كانوا لا يطيقون رؤية الملك في صورته الأصلية لتوغلهم في عالم المادة فلو أرسل إليهم ملك لم يكن بد من تمثله لهم بشرا سويا ، وحينئذ كان يبدو لهم من اللبس والشبهة ما يبدو مع الرسول من البشر ولم ينتفعوا به شيئا.

وهذا التوجيه لا يفي باستقامة الجواب ، وإن سلمنا أن الإنسان العادي لا تسعه مشاهدة الملائكة في صورهم الأصلية بالاستناد إلى أمثال قوله تعالى : « يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ » : ( الفرقان : ٢٢ ).

وذلك أن شهود الملك في صورته الأصلية لو كان محالا على الإنسان لم يختلف فيه حال الأفراد الإنسانية بالجواز والامتناع ، وقد ورد في روايات الفريقين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى جبرئيل في صورته الأصلية مرتين ، ومن المقدور لله أن يقوي سائر الناس على ما قوى عليه نبيه فيعاينوهم ويؤمنوا بهم ، ولا محذور فيه بحسب الحكمة إلا محذور الإلجاء فهو المحذور الذي يجب أن يدفع بالآية كما تقدم.

وكذا مشاهدة الملك في صورة الآدميين لا تلازم جواز الشك واللبس فإن الله سبحانه يخبر عن إبراهيم ولوط عليه‌السلام أنهما عاينا الملائكة في صورة الآدميين ثم عرفهم ولم يشكا في أمرهم ، وكذا أخبر عن مريم أنها شاهدت الروح ثم عرفته ولم تشك فيه ولا التبس عليها أمره فلم لم يكن من الجائز أن يكون حال سائر الناس حالهم عليه‌السلام في معاينة الملك في صورة الإنسان ثم معرفته واليقين بأمره؟ لو لا أن جعل نفوس الناس جميعا كنفس إبراهيم ولوط ومريم يستلزم إمحاء غرائزهم وفطرهم ، وتبديلها نفوسا طاهرة قادسة ، وفيه محذور الإلجاء ، فالإلجاء هو المحذور الذي لا يبقى معه موضوع الامتحان ، وهو الذي يجب دفعه بالآية كما تقدم.

قوله تعالى : « وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ » إلى آخر الآيتين ، الحيق الحلول والإصابة ، وفي مفردات الراغب : ، قيل وأصله حق فقلب نحو زل وزال ، وقد قرئ : « فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ » فأزالهما ، وعلى هذا ذمه وذامه ، انتهى.

٢٤

وقد كان استهزاؤهم بالرسل بالاستهزاء بالعذاب الذي كانوا ينذرونهم بنزوله وحلوله فحاق بهم عين ما استهزءوا به ، وفي الآية الأولى تطييب لنفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنذار للمشركين ، وفي الآية الثانية أمر بالاعتبار وعظة.

* * *

( قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) )

( بيان )

فريق من الآيات تحتج على المشركين في أمر التوحيد والمعاد فالآيتان الأوليان تتضمنان البرهان على المعاد ، وبقية الآيات وهي خمس مسوقة للتوحيد تقيم البرهان على ذلك من وجهين على ما سيأتي.

قوله تعالى : « قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ » شروع في البرهنة على المعاد ، ومحصله أن الله تعالى مالك ما في السماوات والأرض جميعا له أن يتصرف فيها كيف

٢٥

شاء وأراد ، وقد اتصف سبحانه بصفة الرحمة وهي رفع حاجة كل محتاج وإيصال كل شيء إلى ما يستحقه وإفاضته عليه وعدة من عباده ومنهم الإنسان صالحون لحياة خالدة مستعدون لأن يسعدوا فيها فهو بمقتضى ملكه ورحمته سيتصرف فيهم بحشرهم وإعطائهم ما يستحقونه البتة.

فقوله تعالى : « قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » إلخ ، يتضمن إحدى مقدمات الحجة وقوله : « كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ » يتضمن مقدمة أخرى ، وقوله : « وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ » إلخ ، مقدمة أخرى ثالثة بمنزلة الجزء من الحجة.

فقوله تعالى : « قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » إلخ ، يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يسألهم عمن يملك السماوات والأرض وله التصرف فيها بما شاء من غير مانع يمنعه ، وهو الله سبحانه من غير شك لأن غيره حتى الأصنام وأرباب الأصنام التي يدعوها المشركون هي كسائر الخلقة ينتهي خلقها وأمرها إليه تعالى فهو المالك لما في السماوات والأرض جميعا.

ولكون المسئول عنه معلوما بينا عند السائل والمسئول جميعا والخصم معترف به لم يحتج إلى صدور الجواب عن الخصم واعترافه به بلسانه ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يذكر هو الجواب ويتكفل ذلك لتتم الحجة من غير انتظار ما لجوابهم.

والسؤال عن الخصم ، ومباشرة السائل بنفسه الجواب كلاهما من السلائق البديعة الدائرة في سرد الحجج ، يقول المنعم لمن أنعم عليه فكفر بنعمته : من الذي أطعمك وسقاك وكساك؟ أنا الذي فعل ذلك بك ومن بها عليك وأنت تجازيني بالكفر.

وبالجملة ثبت بهذا السؤال والجواب أن الله سبحانه هو المالك على الإطلاق فله التصرف فيها بما شاء من إحياء ورزق وإماتة وبعث بعد الموت من غير أن يمنعه من ذلك مانع كدقة في العمل وموت وغيبة واختلال وغير ذلك. وبهذا تمت إحدى مقدمات الحجة فألحقها المقدمة الأخرى وهي قوله : ( كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ).

قوله تعالى : « كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ » الكتابة هو الإثبات والقضاء الحتم ، وإذ كانت الرحمة ـ وهي إفاضة النعمة على مستحقها وإيصال الشيء إلى سعادته التي تليق به ـ

٢٦

من صفاته تعالى الفعلية صح أن ينسب إلى كتابته تعالى ، والمعنى : أوجب على نفسه الرحمة وإفاضة النعم وإنزال الخير لمن يستحقه.

ونظيره في نسبة الفعل إلى الكتابة ونحوها قوله تعالى : « كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » : ( المجادلة : ٢١ ) وقوله : « فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ » : ( الذاريات : ٢٣ ) وأما صفات الذات كالحياة والعلم والقدرة فلا تصح نسبتها إلى الكتابة ونحوها البتة لا يقال : كتب على نفسه الحياة والعلم والقدرة.

ولازم كتابة الرحمة على نفسه ـ كما تقدم ـ أن يتم نعمته عليهم بجمعهم ليوم القيامة ليجزيهم بأقوالهم وأعمالهم فيفوز به المؤمنون ويخسر غيرهم.

ولذلك ذيل بقوله وهو كالنتيجة في الحجة : ( لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ) فأكد المعنى بأبلغ التأكيد : لام القسم ونون التأكيد وقوله : ( لا رَيْبَ فِيهِ ).

ثم أشار إلى أن الربح في هذا اليوم للمؤمنين والخسران على غيرهم فقال : « الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ».

والحجة التي أقيمت في هذه الآية على المعاد غير ما أقيمت من الحجتين عليه في قوله تعالى : « وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ » : ( ـ ص : ٢٨ ) فإن الآيتين تقيمان الحجة على المعاد من جهة أن فعله تعالى ليس بباطل بل له غاية ، ومن جهة أن التسوية بين المؤمن والكافر والمتقي والفاجر ظلم لا يليق به تعالى ، وهما في الدنيا لا يتميزان فلا بد من نشأة أخرى يتميزان فيها بالسعادة والشقاوة ، وهذا غير ما في هذه الآية من السلوك إلى المطلوب من طريق الرحمة.

قوله تعالى : « وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » السكون في الليل والنهار هو الوقوع في ظرف هذا العالم الطبيعي الذي يدبر أمره بالليل والنهار ، ويجري نظامه بغشيان النور الساكب من شمس مضيئة ، وعمل التحولات النورية فيه بالقرب والبعد والكثرة والقلة والحضور والغيبة والمسامتة وغيرها.

فالليل والنهار هما المهد العام يربى فيه العناصر الكلية ومواليدها تربية تسوق كل جزء من أجزائها وكل شخص من أشخاصها إلى غايته التي قدرت له ، وتكملها روحا وجسما.

٢٧

وكما أن للمسكن عاما وخاصا دخلا تاما في كينونة الساكن كالإنسان مثلا يسكن أرضا فيطوف بها في طلب الرزق ، ويرتزق مما يخرج منها من حب وفاكهة وما يتربى فيها من حيوان ، ويشرب من مائها ، ويستنشق من هوائها ، ويفعل وينفعل من كيفيات منطقتها ، وينمو جميع أجزاء جسمه على حسب تقديرها كذلك الليل والنهار لهما الدخل التام في تكون عامة ما يتكون فيهما.

والإنسان من الأشياء الساكنة في الليل والنهار تكون بمشية الله من ائتلاف أجزاء بسيطة ومركبة على صورة خاصة يمتاز وجوده حدوثا وبقاء بحياة تقوم على شعور فكري وإرادة يتهيئان له من قوى له باطنية عاطفية تأمره بجذب المنافع ودفع المضار ، وتدعوه إلى إيجاد مجتمع متشكل فيه ما نراه من تفاصيل التفاهم باللغات والتباني على اتباع السنن والقوانين والعادات في المعاشرات والمعاملات ، واحترام الآراء والعقائد العامة في الحسن والقبح والعدل والظلم والطاعة والمعصية والثواب والعقاب والجزاء والعفو.

وإذا كان الله سبحانه هو الخالق لليل والنهار وما سكن فيهما المتفرد بإيجادها فله ما سكن في الليل والنهار ، وهو المالك الحق لجميع الليل والنهار وسكانهما وما يستعقب وجودها من الحوادث والأفعال والأقوال ، وله النظام الجاري فيها على عجيب سعته فهو السميع لأقوالنا من أصوات وإشارات ، والعليم بأعمالنا وأفعالنا بما لها من صفتي الحسن والقبح ، والعدل والظلم والإحسان والإساءة ، وما تكتسبه النفوس من سعادة وشقاء.

وكيف يمكنه الجهل بذلك وقد نشأ الجميع في ملكه وبإذنه؟ ونحو وجود هذا النوع من الأمور أعني الحسن والقبح والعدل والظلم والطاعة والمعصية ، وكذا اللغات الدالة على المعاني الذهنية كل ذلك أمور علمية لا تحقق لها في غير ظرف العلم ، ولذلك نرى أن الفعل لا يقع منا حسنا ولا قبيحا ولا طاعة ولا معصية ، والصوت المؤلف لا يسمى كلاما إلا إذا علمنا به وقصدنا وجهه.

وكيف يمكن أن يملك شيء علمي في نفسه من حيث كونه كذلك ثم يجهله مالكه ولا يعلم به؟ ( أجد التأمل فيه ).

والله سبحانه هو الذي أوجد هذا العالم على عجيب سعته في أجزائه البسيطة

٢٨

والعنصرية والمركبة على نظام يدهش اللب ، ثم خلقنا وأسكننا الليل والنهار ثم كثرنا وأجرى بيننا نظام الاجتماع الإنساني ثم هدانا إلى وضع اللغات ، واعتبار السنن ووضع الاعتبارات ، ولم يزل يصاحبنا ويصاحب سائر الأسباب خطوة خطوة ، ويجارينا وإياها في مسير الليل والنهار لحظة لحظة ، وساق حوادث لا نحصيها حادثة بعد حادثة.

حتى تكلم الواحد منا بكلام فوضع المعنى في قلبه بإلهامه ، وأجرى اللفظ في لسانه بتعريفه ، وأسمع الصوت لمخاطبه بإسماعه ، وسار بمعناه إلى ذهنه بحفظه ، وفهم المعنى لمفكرته بتعليمه ، ثم بعثه لموافقة ما ألقاه إليه المتكلم أو صده عن ذلك بإرادة باعثة له إليه أو كراهة دافعة له عنه ، وهو في جميع هذه المراحل التي تعجز عن الانعقاد عليها أنامل العد والإحصاء قائد وسائق وهاد وحفيظ ورقيب! فكيف يسع لقائل إلا أن يقول : إنه تعالى سميع عليم ، وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم.

وكذا إذا عمل الواحد منا بعمل حسنة كان أو سيئة فهو مولود من أب وأم يولدانه تحت مراقبة الاختيار والإرادة ، وقد انتقل إليهما بعد ما قطع طريقا بعيدا وأمدا مديدا في أصلاب أسباب فاعله ، وأرحام علل أخرى منفعلة إلى أن ينتهي بما الله أعلم به ، ولم يزل سبحانه ينقله بإرادته من حجر إلى حجر ، والأرض قبضته والسماوات بيمينه حتى نزل منزل الاختيار فصاحبه منزلا بعد منزل بإذنه حتى طلع من أفق العين ، وأخذ موضعه من مسكن الليل والنهار ثم لا يزال يجري فيما يتأثر منه من أجزاء الكون كأحد الأسباب الجارية ، والله سبحانه عليه شهيد وبه محيط فكيف يمكن أن يغفل سبحانه عما هذا شأنه؟ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.

ومما تقدم يظهر أن قوله تعالى : « وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » بمنزلة النتيجة لقوله : « وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ».

والسمع والعلم وإن كانا معدودين من صفاته تعالى الذاتية التي هي عين الذات المتعالية من غير أن يتفرع على أمر غيرها لكن من العلم وكذا السمع والبصر ما هو صفة فعلية خارجة عن الذات وهي التي يتوقف ثبوتها على تحقق متعلق غير الذات المقدسة

٢٩

كالخلق والرزق والإحياء والإماتة المتوقفة على وجود مخلوق ومرزوق وحي وميت.

والأشياء لما كانت بأنفسها وأعيانها مملوكة محاطة له تعالى فهي إن كانت أصواتا سمع ومسموعة له تعالى ، وإن كانت أنوارا وألوانا بصر ومبصرة له تعالى ، والجميع كائنة ما كانت علم ومعلومة له تعالى ، وهذا النوع من العلم من صفاته الفعلية التي تتحقق عند تحقق الفعل منه تعالى لا قبل ذلك ، ولا يلزم من ثبوتها بعد ما لم تكن تغير في ذاته تعالى وتقدس لأنها لا تعدو مقام الفعل ، ولا يدخل في عالم الذات فالآية في استنتاجها العلم من الملك تريد إثبات العلم الفعلي ، فافهم ذلك.

والآية أعني قوله : « وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ » إلخ ، كإحدى مقدمات الحجة المبينة بالآية السابقة فإن الحجة على المعاد وإن تمت بقوله : « قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ » لكن النظر الابتدائي الساذج ربما غفل عن كون ملكه تعالى للأشياء مستلزما لعلمه بها وسمعه بما يسمع منها كالأصوات والأقوال.

ولذلك نبه عليه بتكرار ملك السماوات والأرض ، وتفريع السمع والعلم عليه فقال : « ( وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ) ـ وهو في معنى قوله : « له ما في السماوات والأرض ـ وهو السميع العليم » فكانت هذه الآية لذلك بمنزلة مقدمة متممة للحجة المسرودة في الآية السابقة.

والآية ـ على أنا لم نستوف حقها ولن يستوفي ـ من أرق الآيات القرآنية معنى وأدقها إشارة وحجة ، وأبلغها منطقا.

قوله تعالى : « قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ » شروع في الاحتجاج على وحدانيته تعالى وأن لا شريك له.

والذي يتحصل من تاريخ الوثنية واتخاذ الأصنام والآلهة أنهم كانوا إنما دانوا بذلك وخضعوا للآلهة لأحد أمرين : إما أنهم وجدوا أنفسهم في حاجة إلى أسباب كثيرة في إبقاء الحياة كالتغذي بالطعام واللباس والمسكن والأزواج والأولاد والعشيرة ونحو ذلك ، وعمدتها الطعام الذي حاجة الإنسان إليه أشد من حاجته إلى غيره بحسب النظر الساذج ، وقد اعتقدوا أن لكل صنف من أصناف هذه الحوائج تعلقا بسبب هو الذي يجود لهم بالتمتع من وسيلة رفع تلك الحاجة كالسبب الذي يمطر السماء فينبت المرعى والكلأ

٣٠

لدوابهم ويمنع بالخصب لأنفسهم ، والسبب الذي يدبر أمر السهل والجبل أو يلقي بالمحبة والألفة أو إليه أمر البحر والسفائن الجارية فيه.

ثم وجدوا أن قوتهم لا تفي بالتسلط على تلك الحاجة أو الحوائج الضرورية فاضطروا إلى الخضوع إلى السبب المربوط بحاجتهم واتخاذه إلها ثم عبادته.

وإما لأنهم وجدوا هذا الإنسان الأعزل غرضا لسهام الحوادث محصورا بمكاره وشرور عامة عظيمة لا يقاومها كالسيل والزلزلة والطوفان والقحط والوباء ، وببلايا ومحن أخرى جزئية لا يحصيها كالأمراض والأوجاع والسقوط والفقر والعقم والعدو والحاسد والشانئ وغير ذلك ، ثم وضعوا لها أسبابا قاهرة هي المرسلة لها إليهم ، والقاصمة بها ظهورهم ، والمكدرة لصفوة عيشهم ، وهي مخلوقات علوية كأرباب الأنواع وأرواح الكواكب والأجرام العلوية فاتخذوها آلهة خوفا من سخطهم وعذابهم ، وعبدوها ليستميلوها بالعبادة ويرضوها بالخضوع والاستكانة فيخلصوا بذلك عن المكاره والرزايا ويأمنوا شرورها والمضار النازلة منها إليهم.

والآية أعني قوله : « قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا » إلخ ، والآيات التالية لها تحتج على المشركين بقلب حجتيهم بعينهما إليهم أي تسلم أصل الحجة وتعدها حقة لكن تبين أن لازمها أن يعبد الله سبحانه وحده ، وينفى عنه كل شريك موضوع.

فقوله تعالى : « قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ » إشارة إلى الحجة من المسلك الأول ، وهو مسلك الرجاء أن يعبد الإله لأنه منعم فيكون عبادته شكرا لإنعامه سببا لمزيده.

أمر سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبين لهم في صورة الاستفهام والسؤال أن الله سبحانه وحده هو الولي للنعمة التي يتنعم بها الإنسان وغيره لأنه هو الرازق الذي لا يحتاج إلى أن يرزقه غيره يطعم ولا يطعم ، والدليل عليه أنه تعالى هو الذي فطر السماوات والأرض ، وأخرجها من ظلمة العدم إلى نور الوجود ، وأنعم عليها بنعمة التحقق والثبوت ، ثم أفاض عليها بنعم لا يحصيها إلا هو لإبقاء وجودها ، ومنها الإطعام للإنسان وغيره فإن جميع هذه النعم المعدة لبقاء وجود الإنسان وغيره ، والأسباب التي تسوق تلك النعم إلى محال الاستحقاق كل ذلك ينتهي إلى فطرة وإيجاده الأشياء والأسباب ومسبباتها

٣١

جميعا من صنعه.

فإليه سبحانه يرجع الرزق الذي من أهم مظاهره عند الإنسان الإطعام فيجب أن يعبد الله وحده لأنه هو الذي يطعمنا من غير حاجة إلى إطعام من غيره.

فظهر بما بيناه أولا : أن التعبير عن العبودية والتأله باتخاذ الولي في قوله : « أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا » إنما هو لكون الحجة مسوقة من جهة إنعامه تعالى بالإطعام.

وثانيا : أن التعلق بقوله : « فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » إنما هو لبيان سبب انحصار الإطعام به تعالى كما تقدم تقريره ، وربما استفيد ذلك من التعريض الذي في قوله : « وَلا يُطْعَمُ » فإن فيه تعريضا بكون سائر من اتخذوهم آلهة محتاجين كعيسى وغيره إلى إطعام أو ما يجري مجراه.

ومن الممكن أن يستفاد من ذكره في الحجة أنه إشارة إلى مسلك آخر في إقامة الحجة على توحيده تعالى هو أشرف من المسلكين جميعا ، ومحصله أن الله سبحانه هو الموجد لهذا العالم ، وإلى فطرة ينتهي كل شيء فيجب الخضوع له.

ووجه كون هذا المسلك أشرف : هو أن المسلكين الآخرين وإن كانا أنتجا توحيد الإله من جهة أنه معبود لكنهما لا يخلوان مع ذلك من شيء ، وهو أنهما ينتجان وجوب عبادته طمعا في النعمة أو خوفا من النقمة فالمطلوب بالذات هو جلب النعمة أو الأمن من النقمة دونه تعالى وتقدس ، وأما هذا المسلك فإنه ينتج وجوب عبادة الله لأنه الله سبحانه.

وثالثا : أن اختصاص الإطعام من بين نعمه تعالى على كثرتها بالذكر إنما العناية فيه كون الإطعام بحسب النظر الساذج أوضح حوائج الحيوان العائش ومنه الإنسان.

ثم أمر سبحانه بعد تمام الحجة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يذكر لهم ما يؤيد به هذه الحجة العقلية ، وهو أن الله أمره من طريق الوحي أن يجري في اتخاذ الإله على الطريق الذي يهدي إليه العقل وهو التوحيد ، ونهاه صريحا أن يتخطاه إلى أن يلحق بالمشركين فقال : « قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ » ثم قال : « وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ».

بقي هنا أمران :

٣٢

أحدهما : أن قوله : « أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ » إن كان المراد أول من أسلم من بينكم فهو ظاهر فقد أسلم ص قبل أمته ، وإن كان المراد به أول من أسلم من غير تقييد كما هو ظاهر الإطلاق كانت أوليته في ذلك بحسب الرتبة دون الزمان.

وثانيهما : أن نتيجة الحجة لما كانت هي العبودية وهي نوع خضوع وتسليم كان استعمال لفظة الإسلام في المقام أولى من لفظة الإيمان لما فيه من الدلالة على غرض العبادة ، وهو الخضوع.

قوله تعالى : « قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ » وهذا هو المسلك الثاني من المسلكين اللذين تقدم أن المشركين تعلقوا بهما في اتخاذ الآلهة ، وهو أن عبادة آلهتهم يؤمنهم من شمول سخطها ونزول عذابها.

وقد أخذ سبحانه في الحجة أخوف ما يجب أن يخاف منه من أنواع العذاب وأمره وهو عذاب الساعة التي ثقلت في السماوات والأرض كما أخذ في الحجة الأولى أحوج ما يحتاج إليه الإنسان بحسب بادئ النظر من النعم ، وهو الإطعام.

وقد قيل : « إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي » دون أن يقال : إن أشركت بربي إشارة إلى ما في قوله تعالى في الآية السابقة : « وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » من نهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الشرك فأدت الآية أن من الواجب علي عقلا أن أعبد الله وحده لأومن مما أخاف من عذاب يوم عظيم ، وهذا الذي دل عليه العقل دلني عليه الوحي من ربي.

وبهذا تناظر هذه الآية الآية السابقة من جهة إقامة الحجة العقلية أولا ثم تأييده بالوحي من الله سبحانه فافهم ذلك ، وهذا من لطائف إيجاز القرآن الكريم فقد اكتفى في إفادة هذا المعنى على سعته بمجرد وضع قوله : « عَصَيْتُ » موضع أشركت.

قوله تعالى : « مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ » إلخ ، المعنى ظاهر الآية متممة للحجة المسرودة في الآية السابقة فظاهر الآية السابقة بحسب النظر البسيط إقامة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الحجة في وجوب التوحيد على نفسه بأن الله نهاه عن الشرك فيجب عليه توحيده ليؤمن عذاب الآخرة.

٣٣

فيلوح لنظر المغفل غير المتدبر أن يرد عليه الحجة بأن النهي لما كان مختصا بك كما تدعيه يختص الخوف ثم وجوب التوحيد أيضا بك فلا تقتضي الحجة وجوب التوحيد ونفي الشريك على غيرك ، وتصير الحجة عليك لا على غيرك.

فأفاد بقوله : « مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ » أن عذابه مشرف على الجميع محيط بالكل لا مخلص عنه إلا برحمته فعلى كل إنسان أن يخاف من عذاب يومئذ على نفسه ما يخافه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على نفسه فالحجة عامة قائمة على جميع الناس لا خاصة به صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قوله تعالى : « وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ » إلى آخر الآية ، قد كانت الحجتان المذكورتان في الآيات السابقة أخذتا أنموذجا مما يرجوه الإنسان وهو الإطعام وأنموذجا مما يخافه وهو عذاب يوم القيامة ، وتممتا بهما البيان ، ولم تتعرضا لسائر أنواع الضر وأقسام الخير التي يمس الله سبحانه بهما الإنسان ، والكل من الله عز اسمه.

فالآية توضح بالتصريح أن هناك من الضر ما هو غير عذاب يوم القيامة يمس الله سبحانه به الإنسان يجب أن يتوجه إليه تعالى في كشفه ، وأن من الخير ما يمس الله به الإنسان ولا راد لفضله ولا مانع يمنع من إفاضته لقدرته على كل شيء ، ورجاء الخير يوجب على الإنسان أن يتخذه سبحانه إلها معبودا.

ولما أمكن أن يتوهم أن كونه تعالى يمس الإنسان بضر أو بخير إنما يقتضي أن يتخذ معبودا ، والخصم لا ينكر ذلك (١). وأما قصر الألوهية والمعبودية فيه تعالى فلا لأن ما اتخذوه من الآلهة هي أسباب متوسطة وشفعاء أقوياء لها تأثيرات في الكون من شر أو خير يوجب على الإنسان أن يتقرب إليها خوفا من شرها أو رجاء لخيرها.

دفعه بأن الله سبحانه هو القاهر فوق عباده لا يفوقه منهم أحد ولا يعادله فهم أنفسهم تحت قهره ، وكذا أفعالهم وآثارهم لا يعملون عملا من خير أو شر إلا بإذنه ومشيته غير مستقلين بأمر البتة ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا غير ذلك ، فما

__________________

(١) الخاصة من الوثنية وإن كانوا يجوزون عبادته تعالى استنادا إلى أنه غير محدود الوجود لا يتعلق به التوجه العبادي لكن العامة منهم ربما عبدوه في عرض سائر الآلهة كما يظهر من تلبية مشركي مكة في الحج : لبيك لا شريك لك الله شريكا هو لك تملكه وله ملك.

٣٤

يطلع من أفق ذواتهم من أثر خيرا أو شرا ينتهي إلى أمره ومشيته وإذنه يستند إليه على ما يليق بساحة قدسه وعزته من الاستناد.

فالآيتان جميعا تتممان معنى واحدا ، وهو أن ما يصيب الإنسان من خير أو شر فمن الله على ما يليق بساحته من الانتساب ، فالله سبحانه هو المتوحد بالألوهية ، والمتفرد بالمعبودية لا إله غيره ، ولا معبود سواه.

وقد عبر عن إصابة الضر والخير بالمس الدال على الحقارة في قوله : « إِنْ يَمْسَسْكَ » « وَإِنْ يَمْسَسْكَ » ليدل به على أن ما يصيب الإنسان من ضر أو من خير شيء يسير مما تحمله القدرة غير المتناهية التي لا يقوم لها شيء ، ولا يطيقها ولا يتحملها مخلوق محدود.

وكأن قوله تعالى في جانب الخير : « فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » وضع موضع نحو من قولنا : فلا مانع يمنعه ، ليدل على أنه تعالى قدير على كل خير مفروض كما أنه قدير على كل ضر مفروض ، وتنكشف به علة قوله : ( فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ) إذ لو كشف غيره تعالى شيئا مما مس به من ضر دفع ذلك قدرته عليه ، وكذلك قدرته على كل شيء تقتضي أن لا يقوى شيء على دفع ما يمس به من خير.

وتخصيص ما يمس به من ضر أو خير بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الآية نظير التخصيص الواقع في قوله : « قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ » ويفيد قوله : « وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ » من التعميم نظير ما أفاد قوله : « مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ ».

قوله تعالى : « وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ » القهر هو نوع من الغلبة ، وهو أن يظهر شيء على شيء فيضطره إلى مطاوعة أثر من الغالب يخالف ما للمغلوب من الأثر طبعا أو بنحوه من الافتراض كالماء يظهر على النار فيقهرها على الخمود ، والنار تقهر الماء فتبخره أو تجفف رطوبته. وإذ كانت الأسباب الكونية إنما أظهرها الله سبحانه لتكون وسائط في حدوث الحوادث فتضع آثارها في مسبباتها ، وهي كائنة ما كانت مضطرة إلى مطاوعة ما يريده الله سبحانه فيها وبها ، يصدق عليها عامة أنها مقهورة لله سبحانه فالله قاهر عليها.

٣٥

فالقاهر من الأسماء التي تصدق عليه تعالى كما تصدق على غيره ، غير أن بين قهره تعالى وقهر غيره فرقا ، وهو أن غيره تعالى من الأشياء إنما يقهر بعضها بعضا وهما مجتمعان من جهة مرتبة وجودهما ودرجة كونهما بمعنى أن النار تقهر الحطب على الاحتراق والاشتعال ، وهما معا موجودان طبيعيان يقتضي أحدهما بالطبع خلاف ما يقتضيه الآخر لكن النار أقوى في تحميل أثرها على الحطب منه من النار فهي تظهر عليه في تأثيرها بأثرها فيه.

والله سبحانه قاهر لا كقهر النار الحطب ، بل هو قاهر بالتفوق والإحاطة على الإطلاق بمعنى أنا إذا نسبنا إحراق جسم وإشعاله كالحطب مثلا إلى الله سبحانه فهو سبحانه قاهر عليه بالوجود المحدود الذي أوجده به ، قاهر عليه بالخواص والكيفيات التي أعطاها له وعبأه بها بيده ، قاهر عليه بالنار التي أوقدها لإحراقه وإشعاله ، وهو المالك لجميع ما للنار من ذات وأثر ، قاهر عليه بقطع عطية المقاومة للحطب ، ووضع الاحتراق والاشتعال موضعه فلا مقاومة ولا تعصي ولا جموح ولا شبه ذلك قبال إرادته ومشيته لكونها من أفق أعلى.

فهو تعالى قاهر على عباده لكنه فوقهم لا كقهر شيء شيئا وهما متزاملان. وقد صدق القرآن الكريم هذا البحث بنتيجته فذكره اسما له تعالى في موضعين من هذه السورة وهما هذه الآية وآية (٦١).

وقيد الاسم في كلا الموضعين بقوله : « فَوْقَ عِبادِهِ » والغالب في المحفوظ من موارد استعمال القهر هو أن يكون المغلوب من أولي العقل بخلاف الغلبة ، ولذا فسره الراغب بالتذليل ، والذلة في أولي العقل أظهر ، ولا يمنع ذلك من صحة صدقه في غير مورد أولي العقل بحسب الاستعمال أو بعناية.

والله سبحانه قاهر فوق عباده يمسهم بالضر وبالخير ويذللهم لمطاوعته وقاهر فوق عباده فيما يفعلونه ويؤثرون به من أثر لأنه المالك لما ملكهم والقادر على ما عليه أقدرهم.

ولما نسب في الآيتين إليه المس بالضر والخير ، وقد ينسبان إلى غيره ، ميز مقامه من مقام غيره بقوله في ذيل الآية : « وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ » فهو الحكيم لا يفعل ما يفعل جزافا وجهلا ، الخبير لا يخطئ ولا يغلط كغيره.

٣٦

( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) )

( بيان )

احتجاج على الوحدانية من طريق الوحي فإن وحدة الإله وانتفاء الشريك عنه وإن كانت مما يناله العقل بوجوه من النيل فلا مانع من إثباته من طريق الوحي الصريح الذي لا مرية فيه ، فالمطلوب هو اليقين بأنه تعالى إله واحد لا شريك له ، وإذا فرض حصوله من طريق الوحي الذي لا يداخله ريب في كونه وحيا إلهيا كالقرآن المتكئ على التحدي فلا مانع من الاستناد إليه.

قوله تعالى : « قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ » أمر نبيه أن يسألهم عن أكبر الأشياء من حيث الشهادة ، والشهادة هي تحمل الخبر عن نوع من العيان كالإبصار ونحوه ، وأداء ما تحمل كذلك بالإخبار والإنباء ، وإذ كان التحمل والأداء ـ وخاصة التحمل ـ مما يختلف بحسب إدراك المتحملين وبحسب وضوح الخبر الذي تحمله المتحمل ، وبحسب قوة المؤدى بيانا وضعفه اختلافا فاحشا.

فليس المتحمل الذي يغلب على مزاجه السهو والنسيان أو الغفلة كالذي يحفظ ما يعيه سمعه ويقع عليه بصره ، وليس الصاحي كالسكران ولا الخبير الأخصائي بأمر كالأجنبي الأعزل.

وإذا كان الأمر على ذلك فلا يقع ريب في أن الله سبحانه هو أكبر من كل شيء

٣٧

شهادة فإنه هو الذي أوجد كل ما دق وجل من الأشياء ، وإليه ينتهي كل أمر وخلق ، وهو المحيط بكل شيء ومع كل شيء لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر لا يضل ولا ينسى.

ولكون الأمر بينا لا يقع فيه شك لم يحتج إلى إيراد الجواب في اللفظ بأن يقال : قل الله أكبر شهادة ، كما قيل : « قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ » : ( الأنعام ـ ١٢ ) أو يقال : سيقولون الله ، كما قيل : « قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ » : ( المؤمنون : ٨٥ ).

على أن قوله : « قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ » يدل عليه ويسد مسده ، وليس من البعيد أن يكون قوله « شَهِيدٌ » خبرا لمبتدإ ، محذوف هو الضمير العائد إلى الله ، والتقدير : « قل الله هو شهيد بيني وبينكم » فتشتمل الجملة على جواب السؤال وعلى ما استؤنف من الكلام.

وقوله : « قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ » على أنه يشتمل على إخباره صلى‌الله‌عليه‌وآله بشهادة الله تعالى هو بنفسه شهادة لمكان قوله : « قُلْ » إذ أمره بأن يخبرهم بشهادته تعالى بالنبوة لا ينفك عن الشهادة بذلك ، وعلى هذا فلا حاجة إلى التشبث بأنواع ما وقع في القرآن الكريم من شهادة الله تعالى على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى نزول القرآن من عنده كقوله تعالى : « وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ » : ( المنافقون : ١ ) أو قوله : « لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ » : ( النساء : ١٦٦ ) وغير ذلك من الآيات الدالة على ذلك تصريحا أو تلويحا بلفظ الشهادة أو بغيره.

وتقييد شهادته تعالى بقوله « بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ » يدل على توسطه تعالى بين طرفين متخاصمين هما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقومه ، والنبي لم ينعزل عنهم ولم يتميز منهم في جانب إلا في دعوى النبوة والرسالة ودعوى نزول القرآن لكن نزول القرآن بالوحي قد ذكر بعد في قوله : « وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ » فالمراد بشهادته تعالى بينه وبينهم شهادته بنبوته ، ويؤيده أيضا قوله في الآية التالية : « الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ » على ما سيجيء إن شاء الله.

قوله تعالى : « وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ » من مقول القول

٣٨

وهو معطوف على قوله : « اللهُ شَهِيدٌ » إلخ ، وجعل الإنذار غاية لنزول القرآن الكريم أخذ بمسلك الخوف في الدعوة النبوية ، وهو الأوقع في أفهام عامة الناس فإن مسلك الرجاء والوعد وإن كان أحد الطريقين في الدعوة ، وقد استعمله الكتاب العزيز في الجملة لكن رجاء الخير لا يبعث إلى طلبه بعثا إلزاميا وإنما يورث شوقا ورغبة بخلاف الخوف لوجوب دفع الضرر المحتمل عقلا.

ولأن دعوة الإسلام إنما هي إلى دين الفطرة ، وهو مخزون مكنوز في فطرة الناس وإنما حجبهم عنه ما ابتلوا به من الشرك والمعصية مما يوجب عليهم غلبة الشقوة ونزول السخط الإلهي فالأقرب إلى الحكمة والحزم في دعوتهم أن تبدأ بالإنذار ، ولهذا كله ربما حصر شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الإنذار كما في قوله : « إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ » : ( الفاطر ـ ٢٣ ) وقوله : « وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ » : ( العنكبوت : ٥٠ ).

هذا في عامة الناس وأما الخاصة من عباد الله ، وهم الذين يعبدونه حبا له لا خوفا من نار ولا طمعا في جنة فإنهم يتلقون من الدعوة بالخوف والرجاء أمرا آخر فإنهم يتلقون من النار أنها دار بعد وسخط فيخافونها لذلك ، ومن الجنة أنها ساحة قرب ورضوان فيشتاقون إليها لذلك.

وظاهر قوله : « لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ » أنه خطاب لمشركي مكة أو لقريش أو للعرب عامة إلا أن التقابل بين ضمير الخطاب وبين من بلغ ـ والمراد بمن بلغ هو من لم يشافهه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالدعوة في زمن حياته أو بعده ـ يدل على أن المراد بالمخاطبين في قوله : « لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ » هم الذين شافههم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالدعوة ممن تقدم دعاؤه على نزول الآية أو قارنه أو تأخر عنه.

فقوله : « وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ » يدل على عموم رسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرآن لكل من سمعه منه أو سمعه من غيره إلى يوم القيامة ، وإن شئت فقل : تدل الآية على كون القرآن الكريم حجة من الله وكتابا له ينطق بالحق على أهل الدنيا من لدن نزوله إلى يوم القيامة.

وقد قيل : « لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ » ولم يقل : لأنذركم بقراءته فالقرآن حجة على من سمع لفظه وعرف معناه واهتدى إلى مقاصده ، أو فسر له لفظه وقرع سمعه بمضامينه

٣٩

فليس من شرط كتاب مكتوب إلى قوم أن يكون بلسانهم بل أن تقوم عليهم حجته وتشملهم مضامينه ، وقد دعا صلى‌الله‌عليه‌وآله بكتابه إلى مصر والحبشة والروم وإيران ولسانهم غير لسان القرآن ، وقد كان فيمن آمن به في حياته وقبل إيمانهم سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي وعدة من اليهود ولسانهم عبري هذا كله مما لا ريب فيه.

قوله تعالى : « أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ » إلى آخر الآية ، لما ذكر شهادة الله وهو أكبر شهادة على رسالته ولم يرسل إلا ليدعوهم إلى دين التوحيد ، وليس لأحد بعد شهادة الله سبحانه على أن لا شريك له في ألوهيته أن يشهد أن مع الله آلهة أمر نبيه أن يسألهم سؤال متعجب منكر : هل يشهدون بتعدد الآلهة ، وهذا هو الذي يدل عليه تأكيد المسئول عنه بأن واللام ، كأن النفس لا تقبل أن يشهدوا به بعد أن سمعوا شهادة الله تعالى.

ثم أمره أن يخالفهم في الشهادة فينفي عن نفسه الشهادة بما شهدوا به فقال : « قُلْ لا أَشْهَدُ » أي بما شهدتم به بقرينة المقام ، ثم قال : « قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ » وهو شهادة على وحدانيته تعالى ، والبراءة مما يدعون له من شركاء.

قوله تعالى : « الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ » وهذا إخبار عما شهد به الله سبحانه في الكتب المنزلة على أهل الكتاب ، وعلمه علماء أهل الكتاب مما عندهم من كتب الأنبياء من البشارة بعد البشارة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ووصفه بما لا يعتريه شك ولا يطرأ عليه ريب.

فهم بما استحضروا من نعته صلى‌الله‌عليه‌وآله يعرفونه بعينه كما يعرفون أبناءهم ، قال تعالى : « الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ » : ( الأعراف : ١٥٧ ) وقال تعالى : « مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ » ( الفتح : ٢٩ ) ، وقال تعالى : « أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ » : ( الشعراء : ١٩٧ ).

ولما كان بعض علمائهم يكتمون ما عندهم من بشاراته ونعوته صلى‌الله‌عليه‌وآله ويستنكفون عن الإيمان به بين الله تعالى خسرانهم في أمرهم فقال : « الَّذِينَ خَسِرُوا

٤٠